رياح الشتاء
من نافذة غرفة نوم جدتي يمكنك أن تطل عبر الطريق السريع على امتداد كبير لنهر واواناش الذي يتلوى بين عيدان القصب. سطحه كله مجمَّد الآن يكسوه الجليد، والثلوج المنتشرة في كل مكان تخفي معالمه. حتى في الأيام العاصفة قد تنقشع الغيوم قبل وقت العشاء، يتبعها غروب الشمس شديدة الاحمرار. قالت جدتي حانقة، وكأننا في سيبيريا: هذا الطقس يجعل المرء يظن أننا نعيش على حافة البرية. كانت كل تلك البقاع تغطيها المزارع، وبطبيعة الحال أشجار يانعة، لم تكن هناك براري على الإطلاق، ولكن الشتاء غطى كل شيء، حتى أعمدة السياج.
بدأت العاصفة قبل الظهيرة، عندما كنا في حصة الكيمياء، وشاهدنا تقدمها مفعمين بالأمل، ونتطلع إلى شيء غير مألوف، شيء يسد الطرق ويؤدي إلى نقص الإمدادات ويستقر في ممرات المدرسة. تخيلت نفسي أنال حريتي بسبب أزمة تسببها موجة الطقس السيئ، ويساعدني على ذلك انقطاع التيار الكهربائي، وعلى ضوء الشموع أستمع للأغاني الصاخبة مصحوبة بهدير الرياح، وأتدثر ببطانية مع السيد هارمر، المدرس المبتدئ الذي كثيرًا ما حاولت لفت نظره في طابور الصباح، يعانقني حتى يشعرني في البداية فقط بالدفء والطمأنينة، ذلك العناق الذي ربما يتحول في ظل هذا الارتباك والظلمة الحالكة — ففي هذا الوقت تنطفئ الشمعة الوحيدة بفعل الرياح — إلى شيء أكثر إلحاحًا وإثارة. بيد أن الأمور لم تَصِل إلى هذا الحد، وجاءت تعليمات بالانصراف في وقت مبكر، فتأهبت حافلات المدرسة في الخارج مشغلة مصابيح الإنارة بينما نحن في منتصف النهار. عادة ما أستقل حافلة «وايتشيرش» إلى الحي الأول غرب المدينة، ومن هناك أمشي سيرًا على الأقدام، ثلاثة أرباع ميل أو نحو ذلك، وصولًا إلى بيتنا عند حافة الغابة. هذه الليلة ذهبت إلى بيت جدتي في المدينة، وهو ما أفعله مرتين أو ثلاثًا كل شتاء.
كان مدخل هذا البيت مكسوًّا كله بالخشب المصقول، المعطر، الأملس، والمريح حتى إنك لتشعر فيه كما لو أنك داخل قشرة ثمرة جوز. كانت غرفة الطعام مضاءة بمصباح أصفر. أديت واجباتي المنزلية — الشيء الذي لم أشغل بالي به كثيرًا في المنزل؛ نظرًا لعدم وجود مكان أو وقت لتأديته من الأساس — على طاولة الطعام، بعدما فردت عليها الخالة مادج جريدة لحماية المفرش. كانت الخالة مادج أخت جدتي، وكلتاهما أرملتان.
كانت الخالة مادج تكوي (كانتا تكويان كل شيء، حتى الملابس الداخلية وفوط المطبخ) فيما كانت جدتي تعد بودنج الجزر للعشاء. انبعثت منه رائحة زكية. قارن هذا بالمشهد في منزلنا؛ حيث المطبخ هو الغرفة الوحيدة الدافئة؛ كان لدينا موقد خشبي، وكان أخي يحضر الحطب اللازم لتشغيله، تاركًا وراءه آثارًا من الثلج القذر على المشمع المفروش على الأرضية، بالرغم من توبيخي له. كانت الأوساخ والفوضى تحيط بنا في كل وقت وحين. أما أمي فهي في أغلب الأحيان مستلقية على الأريكة، تندب حظها العاثر. كنت أجادلها كلما أتيحت لي الفرصة، فترد عليَّ قائلة إن قلبي سينفطر عندما أنجب أطفالًا. كنا نشتغل ببيع البيض في ذلك الحين؛ لذا كنت تجد سلال البيض في كل مكان مع بقايا القش والريش وروث الدجاج العالق بها، في انتظار من ينظفها. أعتقد أن رائحة روث الدجاج تدخل البيت على الأحذية والملابس ولا يمكن التخلص منها بأي حال من الأحوال.
في غرفة الطعام كانت هناك لوحتان زيتيتان معلقتان أعلى الحائط، رسمتهما شقيقة أخرى لجدتي، التي توفيت في سن مبكرة. إحدى اللوحتين تصوِّر كوخًا على جدول ينساب به الماء أمامه، فيما تعبِّر اللوحة الثانية عن كلب يمسك بطائر في فمه، علقت عليها أمي ذات مرة بأن حجم الطائر كبير جدًّا مقارنة بالكلب.
فردت عليها جدتي، قائلة: «حسنًا، لم يكن هذا خطأ تينا؛ فقد نسختها من أحد التقويمات.»
قالت الخالة مادج مؤمِّنة على كلامها: «كانت فنانة موهوبة ولكنها كفَّت عن الرسم بعد زواجها.»
كانت هناك أيضًا في الغرفة صورة لجدتي والخالة مادج، مع والديهما، وأختهما المتوفاة، وشقيقة أخرى تزوجت من كاثوليكي، وهو الأمر الشائن في نظر العائلة لدرجة أنهم اعتبروها في عداد الأموات، وإن كان السلام قد حل بينهم في وقت لاحق. كنت أمر على هذه الصورة مرور الكرام ولا أتوقف عندها كثيرًا، ولكن بعد وفاة جدتي وانتقال الخالة مادج إلى دار لرعاية المسنين (حيث لا تزال حية حتى الآن، حية ولكن لا تعرف أحدًا ولا أحد يعرفها، وقد فقدت عقلها وذاكرتها ولعلها نسيت ماضيها تمامًا بكل منغصاته، تحررت من كل ذلك)، أخذتُ الصورة لأصحبها معي أينما ذهبت.
كان والداها جالسين، حيث كانت الأم متخشبة في جلستها دون أن يرف على شفتيها شبح ابتسامة، مرتدية فستانًا أسود حريريًّا، شعرها خفيف ومفروق من المنتصف، وعيناها جاحظتان ذابلتان. أما الأب فلا يزال وسيمًا، ملتحيًا، ويداه على ركبتيه مجسِّدًا دور السيد المطاع في الأسرة. البصمة الأيرلندية ظاهرة قليلًا هنا، حيث يستمتع الأب بدوره، وربما كانت تلك المتعة نابعة أيضًا من عدم قدرته على الهروب منه الآن. ففي شبابه كان معروفًا بارتياده الحانات؛ وحتى بعد إنجاب أولاده ظل محتفظًا بلقب السكير، العربيد الكبير. لكنه تخلى عن تلك العادات، وأدار ظهره لأصدقائه وجلب عائلته هنا، لاستصلاح قطعة أرض بمشروع هورون تراكت الذي افتُتح مؤخرًا. وكانت هذه الصورة علامةً وسجلًّا لأهم إنجازاته: الاحترام والرخاء المعقول، زوجة حنون ترتدي فستانًا حريريًّا أسود اللون، وبنات حسناوات المظهر طويلات القامة.
ومع ذلك؛ فقد كانت ملابسهم في واقع الأمر تبدو مبالغًا فيها؛ تحفل بالكشكشات والذوق الفلاحي. كلهم ما عدا الخالة مادج؛ فقد كان فستانها ضيقًا، بسيطًا، برقبة طويلة، تزينه قطع لامعة صغيرة، ربما من الكهرمان الأسود. وطريقتها في ارتداء الفستان تنمُّ عن ذوق رفيع، لا سيما مع إمالة رأسها قليلًا إلى الجانب، والابتسام دون حرج للكاميرا. كانت خيَّاطة متميزة، وتفصِّل ملابسها بنفسها، وتفهم ما يناسبها. ولكن من المرجح أنها هي من فصَّلت فساتين شقيقاتها أيضًا، وما الحيلة تجاه ذلك؟ كانت جدتي تلبس فستانًا بأكمام فضفاضة وياقة مخملية واسعة، وما يشبه الصديري المقلم بخطوط مخملية متقاطعة، كان شكله مستغربًا عند الخصر. كانت ترتدي تلك الملابس دون أيٍّ من مظاهر السلطة، بل كانت حمرة الخجل تعلو وجهها، كمن تعتذر بنصف ابتسامة غير واثقة في قبول اعتذارها. تبدو جدتي في الصورة مسترجلة إلى حد بعيد، حيث شعرها الأشعث الملفوف لأعلى وإن كان ممشطًا للأمام، مما يعرضه للسقوط. لكنها ترتدي خاتم الزواج، ففي ذلك الحين كانت قد أنجبت أبي، وكانت الوحيدة المتزوجة من بينهن حينذاك، والبنت البكر للأسرة، وأيضًا أطول شقيقاتها.
على العشاء، سألتني جدتي: «كيف حال أمك؟» وفي لحظتها شعرت بانقباض النفس.
«بخير.»
لم تكن بخير، ولن تكون بخير أبدًا. كانت تعاني من مرض يتطور ببطء وليس له علاج معروف.
علقت الخالة مادج بنبرة المتأثر: «مسكينة.»
أردفت جدتي متنهدة: «لقد وجدت صعوبة في فهمها على الهاتف. أعتقد أنه كلما ازدادت حالة صوتها سوءًا، أصبحت أكثر رغبة في الحديث.»
كانت الحبال الصوتية لأمي تعاني شللًا جزئيًّا، وفي بعض الأحيان كنت أعمل مترجمةً لها، وهي الوظيفة التي جعلتني أشعر بخزي شديد.
قالت الخالة مادج مشفقة: «لا عجب أنها ستشعر بالوحدة هناك. يا لها من مسكينة!»
فعلقت جدتي، قائلة: «إن مكوثها في أي مكان لا يصنع فارقًا ما دام الناس لا يفهمونها.»
بعدها طلبت جدتي تقريرًا عن أعمالنا المنزلية. هل غسلنا الملابس والمفروشات؟ هل جففنا الغسيل؟ هل كوينا الغسيل بعد جفافه؟ ماذا عن الخبيز؟ هل خيطنا جوارب أبي؟ كانت تقدم يد العون لنا. كانت تخبز البسكويت والكعك، والفطيرة (هل لدينا فطيرة؟) ما علينا إلا إحضار المكونات وتتولى هي خبزها، وكانت تتولى كذلك أعمال الكي. دأبت على المجيء إلينا يومًا واحدًا للمساعدة بمجرد توقف الأمطار عن الهطول. كانت فكرة احتياجنا إلى المساعدة تصيبني بالإحراج، وقد حاولت جهدي درء تلك الزيارات. قبل مجيء جدتي كنت أضطر إلى تنظيف المنزل، وإعادة تنظيم الخزائن قدر الإمكان، وإخفاء كل ما من شأنه أن يخزيني، كإناء تحميص لم أقربه قطُّ بالغسيل والدعك، أو سلة بها ملابس ممزقة سبق أن أخبرت جدتي بأنني قد أصلحتها، كل ذلك كنت أخفيه تحت الحوض أو الأسرَّة. ولكني لم أكُن أؤدي أعمال النظافة بالقدر الكافي قط؛ إذ كانت عمليات إعادة التنظيم التي أقوم بها عشوائية، وكانت مسببات الخزي تنكشف بجلاء، ويتضح مدى فشلنا، وعدم ارتقائنا إلى المستوى النموذجي من النظام والنظافة والآداب المنزلية، التي كنت أُومن بها كأي شخص آخر، ولكن الإيمان وحده ليس كافيًا. لم أكُن أشعر بالخزي من أجلي فقط، بل من أجل أمي أيضًا.
«أمك ليست على ما يرام ولا تستطيع مباشرة الأمور بنفسها.» قالتها جدتي بنبرة تشي بالشك بما سأقوم بإنجازه.
حاولت تقديم تقارير جيدة قدر الإمكان. في الأيام الخوالي حينما كانت تلك الأشياء وأمثالها صحيحة أحيانًا، كنت أقول إن والدتي قد خللت بعض البنجر، أو إنها مشغولة في قص الحواف المهترئة للملاءات وخياطة الحواف السليمة لجعلها تستمر فترة أطول. فكانت جدتي تنظر إلى كم الجهد المطلوب لفعل ذلك، وتدرك الزيف الواضح لتلك الصورة (زائفة، حتى لو كانت تفاصيلها صحيحة)؛ ثم تعقب قائلة: حسنًا، هل فعلت هذا حقًّا؟
قلت لها ذات مرة: «إنها تدهن خزائن المطبخ.» لم تكن تلك كذبة من نسج خيالي؛ إذ دأبت أمي على دهان خزائننا باللون الأصفر ورسم بعض الزخارف على كلٍّ من الأدراج والأبواب: زخارف كزهور أو أسماك أو مراكب شراعية أو حتى أعلام. وبالرغم من ارتعاش يديها وذراعيها، فإنه كان بمقدورها السيطرة على الفرشاة بما فيه الكفاية فترة قصيرة، لذلك لم تكن هذه التصاميم بالغة السوء، بيد أنه كان بها شيء من الفظاظة والفجاجة التي تعكس قسوة وشدة المرحلة المرضية التي تمر بها أمي الآن. لم آتِ على ذكر تلك المسألة على الإطلاق أمام جدتي، لعلمي أنها كانت ستجدها غريبة ومستهجنة. فجدتي والخالة مادج تعتقدان، شأنهما شأن الكثيرين، أن المنازل ينبغي أن تبدو مثل بيوت الآخرين قدر الإمكان. كذلك فإن بعض الأفكار التي تصوَّرتها ونفَّذتها أمي لم تؤدِّ إلا إلى زيادة اقتناعي بضرورة هذا التماثل.
كانت أمي أيضًا تترك الطلاء والفرش وزيت التربنتين لي لأتولى تنظيفها؛ حيث إنها اعتادت العمل حتى تصاب بالإنهاك التام، ثم تتمدد على الأريكة وهي تئن.
وعقبت جدتي على حكاية الدهان تلك، قائلة بنبرة تنمُّ عن الانزعاج وعدم الرضا: «سوف تورط نفسها في شيء كهذا، كان يجدر بها أن تعرف أنه سينهكها، ومن ثم لن تستطيع القيام بأيٍّ من واجباتها التي يتعيَّن عليها القيام بها. إنها ستدهن الخزائن في وقت يجدر بها أن تجهِّز عشاء أبيكِ فيه.»
كلام في محله تمامًا.
•••
بعد العشاء خرجتُ، بالرغم من الطقس السيئ، حيث هبَّت على المدينة عاصفة ثلجية، ولكنها لم تبدُ عاصفة ثلجية قوية بالنسبة لي، حيث حجبت المنازل والمباني قدرًا كبيرًا من شدتها. التقيتُ صديقتي بيتي جوسلي؛ فتاة ريفية أخرى مع شقيقتها المتزوجة. كنا سعيدات ومتحمسات لكوننا في المدينة، حيث كنا قادرات على الخروج وتجربة الحياة المسائية، بدلًا من اقتصار الأمر على معايشة العواصف والظلام والبرد الذي تُعاني منه منازلنا في الريف. في المدينة تجد الشوارع التي يؤدي بعضها إلى بعض، والأضواء المنتشرة على مسافات متساوية، ويمكن أيضًا أن تجد ما صنعه البشر من تصميمات وقد أثبتت وجودها ونجحت. تجد الناس هنا يمارسون لعبة الكيرلنج ويتزلجون على الجليد في الساحة، ويشاهدون العرض في مسرح الليسيوم، ويلعبون البلياردو في نادي البلياردو، ويجلسون على المقاهي. كنا محرومات من معظم هذه الأنشطة بسبب سننا أو نوعنا أو افتقارنا إلى المال، لكننا تمكنا من التجول، وشربنا كوكا الليمون — وهي أرخص مشروب في مقهى بلو أول كافيه — وأخذنا نراقب من يحضرون إلى المكان، ونحن نتحدث مع فتاة تَعرَّفنا بها ممن كانوا يعملون هناك. لم أكُن أنا وبيتي في موضع قوة، وقضينا الكثير من الوقت، مثل التفهاء في بلاط الملك نتحدث في شئون من هم أكثر حظًّا وقوة، ونثرثر بشأن ما تمر به حياتهم العملية من صروف وتقلبات، وكنا نحكم بقسوة على أخلاقهم. قالت كلٌّ منا للأخرى إنها لن تخرج مع فتيان بعينهم ولو مقابل مليون دولار، والحقيقة هي أننا سنكون في منتهى السعادة إذا دعانا هؤلاء الأولاد باسمينا فقط. تحدثنا عن الفتيات اللائي قد يكن حملن (في الشتاء التالي حملت بيتي جوسلي من مُزارع في جوارنا يعاني من صعوبة في التحدث ويمتلك قطيعًا من الماشية ينتج الألبان، لم تحدِّثني عنه قط. بعد ذلك استغرقتها حياة النسوة المتزوجات شاعرة بالخجل والفخر، ولم تَعُد تتحدث عن أي شيء سوى أعمال المطبخ، وغسيل المفروشات وملابس الأطفال، وغثيان الصباح؛ مما جعلني أشعر بالحسد والفزع في الوقت ذاته).
مشينا بجوار المنزل الذي يعيش فيه السيد هارمر. كان يسكن في الطابق العلوي، وكانت الأضواء منيرة. ماذا كان يفعل في أمسياته؟ لم يستمتع بوسائل الترفيه المتاحة في المدينة، ولم يكن من مرتادي السينما أو مباريات الهوكي. لم يكن معروفًا للجميع، وكان هذا سبب اختياري له. أحببت أن أظن أن لي ذوقًا خاصًّا. كان شعره خفيفًا باهت اللون، وله شارب ناعم، لم يبدُ عريض المنكبين في سترته من الصوف الخشن المرقعة بالجلد، وكان يعتمد على الكلمات اللاذعة في الصف الدراسي بدلًا من استخدام القوة الجسدية. تحدثت إليه ذات مرة — وكانت تلك المرة الوحيدة التي تحدثت إليه فيها — وذلك في مكتبة المدينة، حيث رشح لي رواية عن عمال مناجم الفحم في ويلز، ولكنها لم تعجبني. لم تكن رواية عن الجنس، كانت تدور فقط حول الإضرابات والنقابات والرجال.
كنت أمشي مع بيتي جوسلي بجوار منزله، نتسكع تحت النوافذ. لم أكن أظهر اهتمامي بصورة مباشرة، ولكن بدلًا من ذلك حكيت لها نكات ساخرة عنه، فقلت عنه إنه جبان ومعتزل للنساء، ورميته بالممارسات المشينة الخاصة التي تبقيه في الأمسيات بالمنزل دائمًا. انضمت بيتي إلى هذه الثرثرة، ولكنها لم تفهم حقًّا لماذا كان يجب عليها أن تكون قاسية على هذا النحو وطويلة على هذا الشكل. ولكي أبقيها على مهاجمته تظاهرت بأنني أعتقد أنها كانت في علاقة معه، وقلت إنني كنت قد رأيته ينظر إلى تنورتها عند صعودها للسلم، وإنني سأرمي كرة ثلج على نافذة منزله، وأدعوه للنزول للقائها. كانت مستمتعة في البداية بهذه التخيلات، ولكن بعد فترة شعرت بالبرودة وسئمت الحديث وتعكر مزاجها، وتوجهت نحو الشارع الرئيسي فاضطرتني للحاق بها.
كان كل هذا الجموح، والفظاظة، والمرح جزءًا من أحلامي الخاصة إلى أقصى حد ممكن، التي كانت في معظمها حول اللقاءات العاطفية والأحضان العفيفة، والذوبان في العاطفة المقدسة، والوئام قبل الفراق الذي لا مفر منه، والحب بالغ الرومانسية.
•••
كان زواج الخالة مادج سعيدًا، وكان الجميع يتذكر سعادة زواجها ويحكي عنها، وحتى في هذا المجتمع حيث عادة ما يعتقد الناس أنه من الأفضل عدم الحديث حول مثل هذه الأمور (وحتى اليوم، إذا سألت عن حال شخص ما، فإن الإجابة سوف تكون في كثير من الأحيان أنه يبلي بلاءً حسنًا، وأنه اشترى سيارتين وغسالة صحون، وهذه الطريقة في الرد مبنية في جزء منها على مادية بسيطة وطبيعية موروثة عن الفقر، وفي جزء آخر على التطير من التحدث بكلمات مثل: «سعيد»، «خائف»، «حزين»).
كان زوج الخالة مادج من نوع المزارعين الذين يحبون التروِّي في كل شيء، وكان يهتم بالشئون السياسية، وصاحب رؤية، وعنيدًا، ومسليًا. لم ينجبا أطفالًا ومن ثم لم يُنتقص شيءٌ من مشاعرها تجاهه. كانت تشعر بالسعادة في صحبته، وما كانت لترفض أي دعوة للذهاب معه إلى المدينة، أو أن تذهب معه في نزهة بسيارته، مع أنها أمضت حياتها تشعر بالقلق كلما ركبت معه السيارة؛ فقد كان أسلوب قيادته مخيفًا، علاوة على أنه في السنوات الأخيرة من حياته عانى من ضعف الإبصار، ولكنها لم تشعره بذلك فلم تحاول تعلُّم القيادة بنفسها، كان دعمها له دائمًا، وبذلك يمكن وصفها نموذجًا للزوجة المثالية، إلا أنها لم تعطِ قطُّ انطباعًا بالتضحية، أو الصبر، أو القيام بواجباتها، مثل تلك الصفات التي يبحث عنها المرء في المثل العليا. تجدها مرحة، ولكن وقحة أحيانًا؛ لذا فإن الناس لم تكن تحترمها بسبب حبها، بل كانوا يرونها محظوظة أو حتى خفيفة العقل. وبعد وفاته لم تَعُد تهتم بحياتها، وكانت تنظر لها باعتبارها فترة انتظار، حيث كانت تؤمن إيمانًا راسخًا بالنعيم واليوم الآخر، وقد حالت نشأتها دون وقوعها فريسة للاكتئاب.
أما زواج جدتي فكان قصة مختلفة؛ فقد تزوجت جدي في حين كانت لا تزال في حالة حب مع رجل آخر. كانت والدتي قد أخبرتني بهذا؛ فقد كانت تحب القصص، خاصة القصص التراجيدية المليئة بالمآسي وما يفعله القدر من صروف وتقلبات. وبطبيعة الحال، لم تذكر الخالة مادج وجدتي أي شيء حول هذا الموضوع. ولكن عندما كبرت وجدت أن الجميع على علم بهذا الأمر. ظل الرجل الآخر في الحي، كما فعل معظم الناس؛ فقد كان مزارعًا وتزوج ثلاث مرات. وكان ابن عم كلٍّ من جدي وجدتي؛ ولذلك كان يزورهما في كثير من الأحيان بمنزلهما، كما يفعلان أيضًا معه. وقبل أن يتقدم لزوجته الثالثة جاء لرؤية جدتي، وكان هذا ما قالته لي والدتي. خرجت من المطبخ وركبت معه عربة تجرها الأحصنة وكان من السهل أن يراهما الجميع. فهل طلب نصيحتها، أو استأذنها؟ تعتقد أمي اعتقادًا قويًّا أنه طلب منها أن تهرب معه. تعجبت؛ فقد كانا يبلغان من العمر نحو خمسين سنة في ذلك الوقت، أين يمكنهما الهروب؟ إلى جانب ذلك؛ فقد كانا ملتزمَيْن دينيًّا، ولم يتهمهما أحدٌ بسوء السلوك. التقارب، والاستحالة، والتخلي، تلك التركيبة تجعل الحب دائمًا ومستمرًّا. وأعتقد أن هذا كان خيار جدتي؛ تلك العاطفة الخطرة المنكرة للذات والممجدة لها في ذات الوقت، تلك العاطفة التي لم تشبعها قطُّ، لتستمر مدى الحياة. لم نتحدث قطُّ في هذا الأمر في حياتنا ربما باستثناء مرة واحدة أو مرتين، لظروف معينة.
كان جدي رجلًا لا يحب الشكوى، وكان يفضل العزلة. كان قد تزوج في وقت متأخر من حياته، واختار حبيبة رجل آخر لأسباب لم يفصح لأحدٍ عنها. في فصل الشتاء كان ينهي أعماله في وقت مبكر، ويقوم بكل شيء بدقة ومهارة، ثم يبدأ في قراءة كتب في الاقتصاد والتاريخ. درس لغة الإسبرانتو، قرأ رفوفًا من روايات العصر الفيكتوري عدة مرات. كان لا يناقش ما يقرؤه ويحتفظ بآرائه لنفسه، على عكس صهره. مطالبه من الحياة، وتوقعاته من الآخرين كانت منخفضة للغاية، لذلك لم تكن هناك أي إمكانية لتعرضه لخيبة الأمل. ولا أحد يعرف إن كانت جدتي قد أصابته بخيبة الأمل في حياتهما الخاصة، وإن كان قد توقف عن محاولات التقرب منها، لا أحد يعرف.
وأنى لأي شخص أن يعرف؟ كيف لي أنا أن أعرف ما أدعي معرفته؟ لقد استغللتُ هؤلاء الأشخاص، ليس جميعهم ولكن البعض منهم، من قبل. لقد غررت بهم وغيرتهم وشكلتهم بأي شكل من الأشكال أريده ليتناسب مع أهدافي. أنا لا أفعل ذلك الآن، وأحرص قدر ما أستطيع، ولكني أتوقف وأتعجب، وأشعر بوخز الضمير مع أنني لا أفعل على نحو علني إلا ما فعلته دائمًا، ما فعلته أمي، وما فعله الآخرون، الذين حكوا لي قصة جدتي. حتى في هذا المكان الذي حُكيت لي القصة فيه، يجري اختلاق العديد من القصص. كان الناس يتبادلون قصصهم فيما بينهم. جدتي كانت تحتفظ بقصتها، ولم يتحدث أحدٌ حول هذه القصة في وجهها.
لكن حديثي هذا يقتصر فقط على الحقائق. لقد قلت أشياء أخرى، لقد قلت إن جدتي اختارت نوعًا معينًا من الحب، لقد أشرت إلى أنها كانت مدمرة عاطفيًّا ولكنها كانت تخفي ذلك داخلها بعناد. لم تحدثني عن أي شيء، ولم أسمعها تحدِّث أحدًا غيري، حول هذا الأمر. ولكنني لم أخترع ذلك، وأنا حقًّا أصدقه، دون أي دليل أصدقه، ولذا أصدق أنه كانت تصلنا رسائل بطريقة أخرى تفيد بأن هناك صلات بيننا لا يمكننا أن نلمسها، ولكن يجب الاعتماد عليها.
•••
تحولت العاصفة بعد ذلك لعاصفة عاتية شديدة استمرت أسبوعًا. ولكن بعد ظهيرة اليوم الثالث، أثناء مكوثي بالمدرسة، نظرت من النافذة ورأيت أن الرياح قد هدأت على ما يبدو، لم تكن هناك ثلوج تتساقط، وكانت السحب متقطعة. فكرت أنه بعد انتهاء العاصفة سأكون قادرة على العودة إلى بيتنا تلك الليلة. دائمًا ما يكون البيت أفضل بعد قضاء بضع ليالٍ في منزل جدتي، حيث لم أكن مضطرة للانتباه لما أقول وأفعل دائمًا. كانت والدتي تعترض على بعض الأشياء، ولكن كان لي اليد العليا عليها. ومع ذلك، كنت أنا من يقوم بتسخين المياه على الموقد ونقل الغسالة من الشرفة وكذلك الغسيل، مرة واحدة كل أسبوع، إضافة إلى تنظيف الأرضية البالية، وكنت أعد لها على مضض أكواب الشاي التي لا نهاية لها. لذلك كنت أقول: «يا له من شيء مقرف!» عندما أنظف الموقد ويعلق بي بعض التراب. يمكنني القول إنني اعتزمت تكوين علاقات واستخدام وسائل منع الحمل وعدم إنجاب أطفال. كنت أتوق إلى زواج يثير غيرة الآخرين، يكتنفه الأمان ومليء بالعاطفة على حد سواء، وتخيلت قميص النوم الذي أود ارتداءه عندما أكون مع زوجي حبيبي للمرة الأولى. أستطيع أن أقول إنه ليس ثمة خطأ في الكتابة عن الجنس في الكتب وكذلك لا يوجد ما يُعرف بالكلمات القبيحة. لم تكن شخصيتي صاحبة الصوت العالي الفاضح التي كنت عليها في منزلي شبيهة بشخصيتي الكتومة الحصيفة في بيت جدتي، ولكن إذا حكمنا على ظروف كل شخصية باعتبارها أدوارًا أؤديها يمكن رؤية أن للشخصية الأولى بُعدًا أعمق. أنا لم أتعب من ذلك بسهولة، في الحقيقة أنا لم أتعب من ذلك على الإطلاق.
الأغطية، والملاءات المكوية، واللحاف الجميل، وصابون الياسمين؛ أنا مستعدة للتخلي عن كل ذلك الآن لكي أتمكن من إلقاء معطفي حيثما أختار، وترك الغرفة دون الحاجة إلى قول أين سأذهب، بل والقراءة وقدمي في الفرن، إن أحببت.
بعد المدرسة عرجت على بيت جدتي لأقول لهم إنني ذاهبة إلى منزلنا. عندئذٍ كانت الرياح قد بدأت تهب مرة أخرى، وأي شخص يسير على الطريق معرض لأن تطيره الرياح، والعاصفة لم تنتهِ بعد، ولكنني أردت العودة إلى بيتنا أكثر من أي وقت مضى. عندما فتحت الباب شممت رائحة فطير يخبز، فطير تفاح الشتاء، وسمعت صوت السيدتين العجوزين تحييانني (دائمًا ما كانت الخالة مادج تصيح قائلة: «ومن عساه يكون الزائر؟» تمامًا كما كانت تفعل عندما كنت فتاة صغيرة)، اعتقدت أنني لا أستطيع التحمل أكثر من ذلك؛ التنظيف، والمجاملات، والانتظار. كل أوقاتهم أوقات انتظار. انتظار البريد، انتظار العشاء، انتظار النوم. قد تتصور أن أوقات أمي كانت أوقات انتظار أيضًا، لكن لم يكن الأمر كذلك؛ فبالرغم من استلقائها على الأريكة وبالرغم من مرضها وعجزها، إلا أنها كانت لا تزال محتفظة بخطط وخيالات وطلبات غير تقليدية لا يمكن تلبيتها، بل وتفتعل شجارات في بعض الأحيان؛ باختصار كانت تشغل نفسها. في بيتنا كان الارتباك والضرورة حاضرَيْن على الدوام، حيث البيض وضرورة تنظيفه، الخشب وضرورة جلبه، والنار وضرورة إبقائها مشتعلة، والطعام وضرورة إعداده، والفوضى وضرورة التخلص منها. دائمًا ما كنت أهرول وأتذكر وأنسى، ثم أجلس بعد العشاء وسط كل شيء، في انتظار ماء غسيل الأطباق حتى يسخن على الموقد، وأغوص في كتاب من مكتبتي.
ثمة اختلاف أيضًا بين الكتب التي أقرؤها في بيتنا وتلك التي في منزل جدتي؛ حيث لا يسعك إخراج الكتب من موضعها، تحس أن جو المكان نفسه يدفعها إلى الوراء، يكبحها، يطفئ بريقها. لم يكن هناك متسع. أما في بيتنا، وبالرغم من كل ما كان يجري؛ فقد كان هناك متسع لكل شيء.
قلت لهما: «لن أكون هنا على العشاء. سأعود إلى بيتنا.»
حزمت أغراضي وجلست لاحتساء الشاي الذي كانت تعده جدتي.
قالت بثقة: «لا يمكنك الذهاب في هذا الجو. هل أنت قلقة حيال العمل؟ هل تخشين ألا يستطيعوا المضي قدمًا من دونك؟»
«كلا ولكني أفضل العودة إلى البيت. والرياح لا تهب بشدة، حتى إن المحاريث تعمل بالخارج.»
فردت جدتي محاولة إقناعي: «ربما على الطريق السريع، فلم أسمع بعدُ صوت محراث على طريقك.»
كان المكان الذي نعيش فيه، شأنه شأن الكثير من الأشياء الأخرى، خطأ في خطأ.
وهنا صاحت الخالة مادج بنبرة حزينة مكسوة بالسخرية: «إنها خائفة من فطيرتي، كل ما هنالك أنها تحاول الهروب من فطيرتي.»
فقلت بلامبالاة: «ربما كان الأمر كذلك.»
«عليكِ أن تأكلي منها قطعة قبل أن تغادري. فلن تستغرق الكثير من الوقت حتى تبرد.»
فقالت جدتي برفق: «لن تخرج. لن تخطو خارج عتبة هذا الباب في هذه العاصفة.»
فرددت عليها: «ليست عاصفة.» ونظرت إلى النافذة بحثًا عما يدعم كلامي فوجدت شبورة كثيفة.
وضعت جدتي كوبها بقوة على صحنه محدثة صوتًا عاليًا وقالت: «حسنًا، اذهبي إذن. اذهبي إن أردتِ، اذهبي وتجمدي حتى الموت.»
لم أرَ جدتي تفقد السيطرة على أعصابها من قبل، ولم أتصوَّر قطُّ أنها يمكن أن تفقد السيطرة على أعصابها. يبدو لي هذا غريبًا الآن، ولكن الحقيقة هي أنني لم أسمع قطُّ ألمًا أو غضبًا في نبرة صوتها، أو أراهما على وجهها. كانت أحكامها تدل على الانعزال ولم تكن شخصية، وإن كانت تصدرها بسلطة تقليدية. كان تراجعها هنا هو ما أذهلني. كانت هناك دموع في لهجتها، وعندما نظرت في وجهها وجدت دموعًا في عينيها ثم سالت على وجهها. كانت تبكي. كانت غاضبة وتبكي.
«لا عليكِ، إذن، اذهبي وتجمدي حتى الموت مثلما حدث للمسكينة سوزي هيفرمان.»
قالت الخالة مادج مؤمِّنة على كلامها: «أوه يا عزيزتي، هذا صحيح، هذا صحيح.»
قالت جدتي مخاطبة إياي كما لو كان ذلك ذنبي أنا: «المسكينة سوزان كانت تعيش وحيدة.»
قالت الخالة مادج معزية: «كانت بالخارج في حيِّنا القديم، يا عزيزتي. لن تعرفي من نقصد. سوزي هيفرمان التي كانت متزوجة من جرشوم بيل. السيدة بيل أو سوزي هيفرمان كما نعرفها نحن، كانت تذهب معنا إلى المدرسة.»
مسحت جدتي عينيها وأنفها بكمها، مستجمعة شتات نفسها إلى حد ما، ولكن من دون التوقف عن النظر إليَّ بغضب، قائلة: «وتوفي زوجها جرشوم العام الماضي وتزوجت ابنتاها وتركتاها وحيدة. المسكينة سوزان كان عليها الخروج بنفسها لحلب الأبقار. لقد احتفظت بأبقارها وتولت رعايتها بنفسها. خرجت الليلة الماضية وكان ينبغي لها أن تربط حبل الغسيل بالباب ولكنها لم تفعل، وفي طريق العودة ضلت طريقها، ووجدوها ظهر اليوم.»
أردفت الخالة مادج، قائلة: «اتصل بنا أليكس بيتيه ليخبرنا، فهو أحد مَن وجدوها.»
قلت بحماقة: «هل كانت ميتة؟»
ردت جدتي وقد كفت عن البكاء: «لا يمكنهم إذابة الجليد وإعادتك إلى الحياة بعدما قضيت ليلة كاملة مطمورة تحت الجليد في هذا الطقس.»
وأضافت الخالة مادج متأثرة: «تخيلي أن كل هذا حصل لسوزي وهي تحاول الوصول من الإسطبل إلى البيت فقط. ما كان ينبغي لها أن تذهب إلى أبقارها، ولكنها ظنت أنها تستطيع تدبر الأمر، ومما زاد الطين بلة أن إحدى ساقيها كانت مصابة. أراهن أن هذا هو ما قضى عليها.»
فقلت خائفة: «هذا فظيع. لن أرجع إلى البيت.»
فقالت جدتي دفعة واحدة: «يمكنك الذهاب إن أردت.»
«كلا، سأبقى هنا.»
استأنفت الخالة مادج: «لا يعلم الواحد منا ما سيحدث له.» وراحت تنتحب هي الأخرى، ولكن كان بكاؤها طبيعيًّا أكثر من جدتي. بالنسبة لها لم تكن دموعها سوى بعض الارتشاح حول العينين، ويبدو أن دموعها أراحتها شيئًا ما، ثم استأنفت: «من كان يفكر في تلك النهاية المأساوية لسوزي، كانت صديقة عمري، كانت صديقتي أكثر من جدتك، ويا لها من فتاة في الرقص! دائمًا ما كانت تقول إنها على استعداد لأن تسافر عشرين ميلًا في عربة مكشوفة تجرها الخيل من أجل رقصة جيدة. وقد تبادلنا الفساتين ذات مرة على سبيل المزاح. آه لو كنا نعرف حينذاك ما سيحدث!»
قالت جدتي في أسى: «ليس بمقدور أحدٍ أن يعرف، لا طائل من وراء ذلك!»
•••
تناولت عشائي بنهم وأكلت كثيرًا، فيما لم يعاود أحدٌ ذكر حكاية سوزي هيفرمان.
أفهم الآن العديد من الأشياء، مع أن فهمي لها لا يفيد أحدًا في شيء. أفهم أن الخالة مادج تشعر بالتعاطف مع أمي؛ لأن الخالة مادج رأت أمي بكل تأكيد كامرأة بائسة، حتى قبل مرضها. وأي شيء استثنائي كانت تنظر إليه ببساطة على أنه بؤس. أما جدتي فيجب أن ترى مثالًا. لقد علمت جدتي نفسها؛ راقبت نفسها، تعلمت ما ينبغي فعله وقوله؛ فهمت أهمية القبول، حنت إليه، حققته، وعرفت أن هناك احتمالية لعدم تحقيقه. فيما لم تعرف الخالة مادج أيًّا من ذلك. شعرت جدتي بالخطر من أمي، ولعلها فهمت — عند مستوى معين دائمًا ما تضطر إلى الإنكار — تلك الجهود من جانب أمي، فكانت تسخر منها كثيرًا وتوجه إليها اللوم بطريق غير مباشر.
أفهم الآن أن جدتي بكت غضبًا على سوزي هيفرمان وعلى نفسها أيضًا، وأنها عرفت كم أشتاق إلى بيتنا، ولماذا أشتاق إليه. عرفت ولم تفهم كيف حدث ذلك أو كيف كان يمكن أن يكون مختلفًا أو كيف أنها هي نفسها، ما إن تحيرت وعانت بشدة، قد أصبحت امرأة عجوزًا أخرى يخدعها الناس ويسترضونها ويحرصون على الابتعاد عنها.