كيف التقيت زوجي!

كنا وقت الظهيرة حين سمعنا صوتًا صاخبًا لطائرة تحلق في السماء اخترق نشرة الأخبار التي كنا نستمع إليها، وكنا متأكدين من أن الطائرة ستصطدم بالمنزل؛ فركضنا جميعًا إلى الفناء، حيث رأيناها تحلق بالقرب من قمم الأشجار، وكانت مطلية باللونين الأحمر والفضي؛ إنها أول طائرة أراها عن قرب. فصرخت السيدة بيبلز.

وصاح ولدها الصغير جووي: «إنه هبوط اضطراري!»

قال الدكتور بيبلز: «لا بأس، فهو يدرك جيدًا ما يفعله.» كان الدكتور بيبلز طبيبًا بيطريًّا، ولكنه كان يتحدث بتلك النبرة الهادئة التي يتحدث بها جميع الأطباء.

كنت أعمل لدى آل بيبلز، وكانت تلك هي الوظيفة الأولى في حياتي. اشترى آل بيبلز بيتًا قديمًا في جادة فيفث لاين التي تبعد حوالي خمسة أميال عن المدينة؛ وكان هذا عندما جرت العادة أن يشتري أهل المدينة مزارع قديمة، ليس لتشغيلها وإدارتها ولكن ليعيشوا بها.

شاهدنا الطائرة تهبط على الجانب الآخر من الطريق حيث ساحة كانت تقام بها المعارض والأسواق فيما مضى. كانت الساحة مهبطًا ممتازًا للطائرة، ومضمار سباق قديمًا رائعًا ومستويًا؛ وقد أزيلت الحظائر ومخازن العروض لتستخدم أخشابها بحيث لم يكن هناك ما يعيق طريق الطائرة. حتى المدرجات القديمة احترقت.

قالت السيدة بيبلز بسرعة كعادتها عندما تتعصب: «حسنًا! لنعُد إلى المنزل، لا داعي للوقوف هنا والتحديق كالفلاحين البلهاء.»

لم تَقُل ذلك لتجرح مشاعري؛ فهي لم تتعمَّد ذلك قط.

كنت أضع أطباق الحلوى عندما أتت لوريتا بيرد لاهثة أمام الباب السلكي، وصاحت قائلة:

«خِلتُ الطائرة ستصطدم بالمنزل وتقتلكم جميعًا!»

كانت لوريتا بيرد تعيش في الجوار، واعتقد آل بيبلز أنها فلاحة، لكنها على العكس من ذلك لم تكن يومًا هي أو زوجها من المزارعين؛ فزوجها جوَّال في عمله، والتصقت به سمعة سيئة جراء معاقرته الخمر. كان لديهما من الأبناء سبعة، ولم يمتلكوا من المال ما يكفي لشراء حاجاتهم الأساسية من بقالة هاي واي. عندما أتت لوريتا حيَّاها آل بيبلز على أنها فلاحة، كما قلت، وعرضوا عليها الحلوى.

لم تكن الحلوى شيئًا مهمًّا بالنسبة لهذا المنزل، فطبق من الجيلي أو شرائح الموز أو الفاكهة المعلَّبة هو أقصى ما يقدمونه كحلوى. كانت أمي تقول دائمًا: «بيت بدون فطير التوت، مُعاب حتى الموت»، لكن عند آل بيبلز كان الأمر يسير على نحو مختلف.

عندما رأتني لوريتا بيرد أحضر إليها علبة من شرائح الخوخ صاحت:

«أوه، لا داعي لذلك؛ فمعدتي لا تتحمل محتويات تلك العلب، أستطيع فقط تناول الأطعمة المجهزة بالمنزل.»

أراهن أنها لم تَذُق طعم الفاكهة في حياتها، لو كان الأمر بيدي لصفعتها على وجهها!

أضافت لوريتا بيرد: «أعلم لماذا أتى هذا الطيار هنا، فهو يمتلك تصريحًا ليهبط على هذه الأرض ويأخذ الناس في رحلات. الفرد الواحد مقابل دولار. إنه الطيار نفسه الذي كان يحلِّق فوق بالميرستون الأسبوع الماضي، وحلَّق أيضًا فوق البحيرة من قبل. أنا لن أركب هذا الشيء أبدًا ولو أعطوني مالًا.»

قال دكتور بيبلز: «عن نفسي سأقفز على متنها مع أول فرصة تواتيني، لكَمْ أود أن أرى الجوار وأنا محلِّق في السماء.»

وقالت السيدة بيبلز إنها ستقفز بالطائرة حالما تراها. وقال الطفلان جووي وهيذر إنهما يرغبان في الصعود أيضًا؛ كان جووي في التاسعة من عمره وهيذر في السابعة.

سألتني هيذر: «وماذا عنكِ إيدي؟»

أجبتها بأنني لا أعلم؛ فقد كنتُ خائفة ولكني لا أستطيع البوح بذلك، خاصة أمام الطفلين اللذين أتولَّى رعايتهما.

قالت لوريتا بيرد: «يأتي الناس هنا في سياراتهم ويثيرون التراب ويخرِّبون ممتلكاتكم، لو كنتُ مكانكم لتقدَّمت بشكوى.» جلست لوريتا بيرد على الكرسي وشبَّكت رجليها حول رافدة الكرسي، حينها علمتُ أننا بصدد زيارة طويلة. ذهب الدكتور بيبلز إلى مكتبه أو خرج لمكالمة ما، وذهبت السيدة بيبلز لقيلولتها المعتادة، بعدها لم يتبقَّ لي سوى لوريتا بيرد تتسكَّع حولي وأنا أحاول غسل الأطباق. هذه المرأة لا تجد حرجًا أبدًا في انتقاد آل بيبلز هنا في منزلهم.

«لو كان لديها سبعة من الأبناء مثلي، لما استطاعت ترك كل شيء والنوم في منتصف النهار هكذا.»

ثم أخذت تسألني عن أشياء خصوصية مثل: هل يتشاجران؟ وهل يستخدمان وسائل لمنع الحمل؟ وقالت إنهما إذا فعلا ذلك فهما مذنبان. تظاهرتُ أنا بعدم معرفتي عمَّ تتحدث.

كنتُ في الخامسة عشرة من عمري، وكانت تلك أول مرة في حياتي أعيش بعيدًا عن منزلي. بذل والداي جهدًا كبيرًا لكي ألتحق بالمدرسة الثانوية، واستمر ذلك عامًا واحدًا، ولكني لم أحبَّ الدراسة هناك. كنت أخجل من الغرباء، وكانت الدراسة صعبة، ولم يكن المدرسون يشرحون بالطريقة التي يشرحون بها الآن، أو يذلِّلون لك الأمور. في نهاية العام نشرت الجريدة درجات الطلاب، وجاءت درجاتي في ذيل القائمة؛ ٣٧ بالمائة، قال أبي إنه يكفيني هذا القدر، ولم ألُمْه قط؛ فآخر شيء كنت أتمناه هو إكمال دراستي وأن تنتهي بي الحال مدرِّسة بمدرسة. في ذلك اليوم، عندما نشرت الجريدة تلك الفضيحة كان الدكتور بيبلز حاضرًا لدينا للعشاء؛ حيث قد ساعد لتوِّه إحدى البقرات لدينا في ولادة عجليها الصغيرَيْن، وأبدى إعجابه بذكائي، وقال إن زوجته تبحث عن فتاة تساعدها، فهي تشعر بأن الطفلَيْن قيَّدا حركتها منذ انتقالهم من المدينة. حينها وافقتْ أمي متصنِّعة التهذيب، حسبما أعتقد، مع أنني أستطيع الجزم من ملامح وجهها بأنها تتساءل متعجِّبة عما يجعل امرأة ليس لديها سوى طفلين وغير مسئولة عن أي أعمال في الحظيرة تشتكي!

عندما كنت أعود إلى المنزل، وأحكي لهم ما أؤديه من عمل عند آل بيبلز يضحك الجميع. تمتلك السيدة بيبلز غسالة ومنشفة أوتوماتيكية، وكانت الأولى التي أراها في حياتي؛ أمتلك مثلها في منزلي منذ مدة طويلة لدرجة أنه بات من العسير عليَّ تذكُّر كم كان الأمر كالمعجزة بالنسبة لي؛ حيث إنني لم أكن لأضطر إلى بذل مجهود مضنٍ لتشغيل العصَّارة، وتحريكها إلى أعلى وأسفل، فضلًا عن عدم اضطراري لتسخين الماء. كما لم أكن عادة أخبز في هذا المنزل. تقول السيدة بيبلز إنها لا تعرف كيف تصنع الفطيرة العادية؛ الاعتراف بهذا القول كان أغرب شيء من الممكن أن أسمعه من امرأة؛ فبالطبع أستطيع أنا صُنع تلك الفطيرة كما أستطيع أيضًا صُنع البسكويت والكعك الأبيض وبالشوكولاتة، لكن السيدة بيبلز لم تُرِد منِّي صنع ذلك في منزلهم، وقالت إنهم يحافظون على وزنهم من الزيادة. في الواقع إن الشيء الوحيد الذي لم أكن أحبه في عملي لدى آل بيبلز هو شعوري بشيء من الجوع معظم الوقت؛ فكنت أحضر علبة من الدوناتس المصنوعة بالمنزل وأخفيها تحت سريري، حتى اكتشف الطفلان وجود الدوناتس، ولم أمانع قطُّ في إعطائهما بعضًا منه، ولكني شعرت بعد ذلك أنه يجب إخفاء الأمر عنهما.

في اليوم التالي لهبوط الطائرة أخذت السيدة بيبلز طفلَيْها بالسيارة إلى تشيسلي؛ فقد كانت تريد تصفيف شعرها عند نفس السيدة الماهرة التي اعتادت الذهاب إليها هناك، ومعنى ذلك أنها ستبقى في الخارج فترة لا بأس بها. كان عليها اختيار يوم لن يحتاج الدكتور بيبلز السيارة فيه خارج المدينة؛ فلم تكن اشترت سيارة؛ إذ كان لا يزال هناك نقص في المطروح من السيارات بعد الحرب.

أحببتُ فكرة وجودي وحدي بالمنزل والقيام بأعمالي دون استعجال. كان المطبخ مطليًّا باللونين الأبيض والأصفر البراق، ومُضاء بلمبات الفلورسنت. كان هذا قبل أن يفكِّر آل بيبلز في تغيير ألوان أدوات المطبخ، بل حتى الخزائن جعلوها بلون أسود كالخشب القديم، فحجبت الإضاءة. لقد أحببت الإضاءة كثيرًا، وأحببت الحوض المزدوج، شأني شأن أي شخص لم يعرف سوى الغسيل في طبق كبير سُدَّ ثقب فيه بقطعة قماش بالية وذلك على منضدة مغطاة بمشمَّع، على ضوء مصباح الكيروسين. كنت أجعل كل شيء لامعًا.

أحببت الحمام أيضًا. في الواقع كان مسموحًا لي بالاستحمام هناك مرة في الأسبوع، ولم يكن آل بيبلز ليمانعوا إذا استحممت مرة أخرى من وقت لآخر، لكن بدا الأمر لي كأنني أُكثر من الطلبات، أو ربما سأخاطر بالانتقاص من متعته. كان كل شيء في الحمام بلون وردي؛ الحوض والبانيو والمرحاض، وكانت هناك أبواب زجاجية لغلق البانيو مرسوم عليها طيور البشروش، حتى الإضاءة كانت وردية. وكانت قدمي تغوص في حاشية الأقدام كأنها الثلج، غير أنها كانت تبعث على الدفء. كانت المرآة تغطِّي ثلاثة جدران، وكان البخار يعلو المرايا ويفوح الجو بسحابة معطرة من أشياء سُمح لي باستخدامها؛ فكنت أقف على جانب البانيو معجبة بشكلي عارية بالمرآة، من الاتجاهات الثلاثة. أحيانًا كنت أفكِّر في معيشتي بمنزل أهلي ومعيشتي هنا، وأنه كيف من الصعب جدًّا أن يتخيَّل المرء العيش بطريقة مختلفة تمامًا، لكني كنت لا أزال أعتقد أن من عاش بالطريقة التي كنت أعيش بها في منزلنا سيكون من الأسهل عليه أن يتخيَّل أمورًا مثل الدفء وحاشية الأقدام وطيور البشروش، من أن يكون العكس. تُرى ما السبب؟

أنجزتُ عملي في وقت وجيز، وقشَّرت الخضراوات للعشاء وتركتها جانبًا في ماء بارد. بعدها ذهبت إلى غرفة نوم السيدة بيبلز. كنت قد دخلتها قبل ذلك مرات عديدة لأنظِّفها، وكنت دائمًا أنعم النظر إلى خزانتها، إلى الملابس التي تعلقها فيها. لم أكن لأنظر في أدراجها الخاصة، لكن الخزانة كانت مفتوحة لأي أحدٍ ينظر ما بداخلها. الحقيقة أنا أكذب! كنت أنظر في أدراجها الخاصة، لكني كنت أشعر بعد ذلك بالذنب، وأرتعب من فكرة أنها قد تعلم بما فعلته.

كانت السيدة بيبلز تلبس بعضًا من الملابس المعلقة في خزانتها طيلة الوقت؛ لدرجة أني اعتدت رؤيتها بها، والبعض الآخر لم تلبسه قط وأصبح منسيًّا في خلفية الخزانة. خاب أملي حين لم أجد فستان الزفاف؛ لكن كان هناك فستان طويل، لم أستطِع رؤيته كاملًا، فلم أرَ منه سوى تنورته، وكنت أتوق دائمًا لرؤيته كاملًا. والآن عرفت أين هو معلَّق، فأخرجته من الخزانة؛ كان من الساتان، ذا وزن معقول، ناعم الملمس، لونه أخضر مزرق، ذا طبقة لامعة. وكان وسطه مضبوطًا تمامًا ومفصلًا بدقة، وله تنورة طويلة، وله غطاء يتدلى على الكتفين ليخفي أكمامه القصيرة.

لم أجد صعوبة فيما فعلتُهُ بعد ذلك؛ خلعت ملابسي ثم تركته ينزلق على جسمي. كنت آنذاك وأنا في الخامسة عشرة أنحف مما يتخيَّل مَن يعرفني الآن، وكان الفستان مناسبًا لي على نحو بديع. كان الفستان يحتاج لصدرية بدون حمالات، لكن بالطبع لم أكن أمتلك واحدة؛ لذا أخفيت حمالات صدريتي تحت الفستان. بعدها بدأتُ في تثبيت شعري بدبابيس الشعر، لتبدو الصورة متكاملة. وأخذتْ كل خطوة تجرني إلى أخرى؛ وضعت أحمر الخدود وأحمر الشفاه واستخدمت محدِّد العيون من تسريحتها. وبينما أضع الرتوش الأخيرة شعرت بالعطش؛ فثقل الساتان، وإحساسي بالإثارة لما أفعله جعلني أشعر بالعطش، فذهبت بالفستان إلى المطبخ لأحضر من الثلاجة كأسًا من شراب الزنجبيل مع مكعبات الثلج. طوال اليوم يشرب آل بيبلز ذلك الشراب أو مشروبات الفاكهة مثل الماء، وبطبيعة الحال اعتدت على ذلك أيضًا! كان الثلج موجودًا بكثرة، وكنت أنا مولعة بوضعه على أي شيء حتى كوب الحليب!

حينما التفتُّ لإعادة مكعبات الثلج مكانها، رأيت رجلًا يراقبني من خلال الباب السلكي. من حسن حظي أني لم أسكب شراب الزنجبيل من فرط المفاجأة.

«لم أقصد إخافتك، لقد طرقتُ الباب، ولكنك كنتِ تُخرجين مكعبات الثلج ولم تسمعيني.»

لم أستطِع رؤيته جيدًا؛ فكان يبدو كالشبح كهيئة أي شخص يقف أمام الباب ومن خلفه ضوء النهار المبهر. كل ما استطعتُ إدراكه أنه ليس من أهل المنطقة.

«أنا كريس واترز، قادم من تلك الطائرة هناك، وكنت أتساءل إن كان بإمكاني استخدام تلك المضخة.»

اعتاد الناس في ذلك الوقت استخدام المضخات للحصول على الماء، وكانت مضخة المنزل موجودة في الفناء، ولاحظت حينها أنه يحمل دلوًا.

قلت: «على الرحب والسعة! يمكنني أن أملأ لك الدلو من الحنفية، وأوفر عليك عناء الضخ.»

أعتقد أني قلت ذلك فقط لأعلمه أننا نستخدم الحنفية ولا نضخ الماء بأنفسنا.

«لا مانع من ممارسة بعض التمارين.» ومع ذلك لم يتحرك من مكانه، بل أردف في النهاية: «هل أنت ذاهبة لحفل راقص؟»

كنت قد نسيت تمامًا ماذا كنت أرتدي من فرط مفاجأتي برؤية هذا الغريب.

«أم هذه هي الملابس التي تعتاد السيدات في هذه البلدة ارتداءها وقت العصر؟»

لم أستطِع ممازحته؛ فقد كنت محرجة جدًّا.

«هل تقيمين هنا؟ هل أنت سيدة هذا المنزل؟»

«أنا الخادمة.»

تتغير نظرة بعض الناس لي عندما يعرفون ذلك ويتغير أسلوب كلامهم تمامًا، لكنه لم يفعل ذلك.

«حسنًا، فقط أردت أن أقول كم تبدين لطيفة، لقد انبهرت عندما نظرت عبر الباب ورأيتك؛ لأنك بحق لطيفة وجميلة.»

آنذاك لم أكن ناضجة بعد بقدر يجعلني أعي ما معنى أن يقول رجل لامرأة إنها «جميلة»، ولم أكُن ناضجة بعد بقدر يمكنني من الرد عليه، أو في الواقع بقدر يمكنني من أي شيء إلا أن أتمنى في تلك اللحظة أن يتلاشى تمامًا، ليس لأنه لم يعجبني، ولكن بسبب شعوري بالبلاهة وهو ينظر إليَّ وأنا أقف أمامه أفكر في أي كلمة لأقولها.

ويبدو أنه أدرك ذلك؛ فحياني، وشكرني، ثم ذهب ليملأ الدلو من المضخة. وقفت أنا لأراقبه من وراء ستائر حجرة الطعام البندقية. وعندما رحل، عدت إلى غرفة النوم وخلعت الفستان ووضعته مكانه، وارتديت ملابسي، ونزعت الدبابيس من شعري وأعدته كما كان، وغسلت وجهي لإزالة ما عليه، ومسحته جيدًا بمنديل ورقي، ثم ألقيت المنديل في سلة المهملات.

•••

عندما عاد آل بيبلز سألوني عن ذلك الرجل؛ كيف كان شكله؟ شاب أم في منتصف العمر؟ قصير أم طويل؟ ولم أكُن أنبس ببنت شفة.

قال الدكتور بيبلز مغيظًا لي: «هل هو وسيم؟»

لم يستطِع عقلي التفكير في أي شيء إلا أنه من الممكن أن يعود ليملأ دلوه مرة أخرى، وحينها سيتجاذب أطراف الحديث مع الدكتور بيبلز والسيدة بيبلز، ومن الممكن أن تتكوَّن صداقة بينهم، ويذكر لهما أنه رآني بذلك الفستان وقت العصر. لِمَ لا؟ من الممكن أن يعتقد أنها مزحة لطيفة، ولا يعلم ما الذي سأجنيه أنا من مشكلات جراء ذلك.

بعد العشاء ذهب السيد والسيدة بيبلز بالسيارة إلى السينما، حيث أرادت السيدة بيبلز الذهاب لأي مكان لتستمتع بشعرها المصفف اليوم، في حين جلست أنا بالمطبخ المضيء أفكر ماذا أفعل، وأعلم جيدًا أنه لن يغمض لي جفن. إذا علمت السيدة بيبلز بهذا الأمر فقد لا تطردني، ولكنَّ نظرتها لي وطريقة معاملتها لي ستتغير تمامًا؛ فمع أن هذا المكان هو أول مكان أعمل به، لكني استطعت معرفة كيف يشعر الناس حيال مَن يعملون لديهم؛ فهم يحبون ألا يجدوك فضوليًّا، فليس الأمر أن تكون أمينًا وحسب، فهذا لا يكفي، فهم يحبون الشعور بأنك لا تلحظ ما يدور حولك، وألا تفكر أو تسأل في شيء إلا عن رغبة أهل البيت في طعام اليوم، وكيف يريدون الملابس مكوية، وما إلى ذلك. لا أعني بذلك أنهم لم يعاملوني جيدًا؛ بالعكس؛ فقد كنت أتناول طعامي معهم على نفس المائدة، (وللأمانة توقعت ذلك، فلم أكُن أعرف أن ثمة عائلات لا تفعل ذلك)، بل وكانوا في بعض الأحيان يصطحبونني بالسيارة؛ ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئًا.

ذهبت للتأكد من أن الطفلَيْن نائمان، ثم خرجت. يجب أن أفعلها. عبرت الطريق، ودلفت عبر بوابة أرض المعارض القديمة. بدت الطائرة غير مألوفة وهي قابعة هناك وهي تلمع تحت ضوء القمر. وبعيدًا عند الجانب الأقصى من الساحة حيث تكثر الشجيرات رأيت خيمته.

كان يجلس خارجها ويدخن سيجارة. رآني مقدمة عليه.

«مرحبًا، هل تودين الركوب في رحلة بالطائرة الآن؟ أنا لن أبدأ الرحلات قبل الغد.» نظر لي مرة أخرى متفحصًا وقال: «أوه، هذا أنت، لم أعرفك بدون الفستان الطويل.»

كان قلبي ينبض بشدة لدرجة أني شعرت أنه سيقفز خارج صدري. حاولت الحديث، لكن لساني كان متيبسًا، وحلقي مغلقًا تمامًا، فلم أستطِع أن أنبس ببنت شفة.

«هل أردتِ ركوب الطائرة؟ تفضلي بالجلوس، هاكِ سيجارة.»

لم أستطِع حتى أن أهز رأسي لأقول لا؛ فأعطاني واحدة، وأردف قائلًا:

«ضعيها في فمك، أو يمكنني إشعالها لك، من الجيد أني معتاد على التعامل مع السيدات الخجولات.»

وضعتها بفمي، في الواقع لم تكن هذه السيجارة الأولى التي أدخِّنها؛ فلقد اعتدت أنا وصديقتي ماريل لوير التدخين حينما كانت تسرقها من أخيها.

«انظري ليديك، إنهما ترتعشان، هل أتيت لمجرد الحديث أم أن هنالك شيئًا آخر؟»

انفجرتُ دفعة واحدة، قائلة: «أتمنى ألا تقول لأحدٍ إنك رأيتني بذلك الفستان.»

«أي فستان، آه، ذاك الفستان الطويل.»

«إنه يخص السيدة بيبلز.»

«مَن؟ آه، السيدة التي تعملين لديها؟ هكذا إذن! انتهزتِ فرصة عدم وجودها بالمنزل ولبستِ فستانها، صحيح؟ لبستِه ولعبتِ دور الملكة. لا ألومك على هذا أبدًا. أنت لا تدخنين هذه السيجارة بطريقة صحيحة، لا تنفثي الدخان بسرعة، بل اسحبيه ببطء. ألم يعلِّمكِ أحدٌ من قبل كيف تدخنين؟ أنت خائفة من أن أَشِي بك؟ أليس كذلك؟»

كنت خجلى عندما ذهبت لأسأله التستر على ما فعلت، ولم أستطِع حتى هزَّ رأسي بالإيجاب، فقط نظرت إليه وفهم أني أقول نعم.

«حسنًا، لن أفعل ذلك، لن أقول أي شيء من الممكن أن يحرجك لأي سبب من الأسباب، هذه كلمة شرف.»

لم أستطِع حتى قول شكرًا لك، فغيَّر الموضوع تمامًا لمساعدتي في التغلب على إحراجي.

«ما رأيكِ بهذه اللافتة؟»

كانت لافتة خشبية موجودة تحت قدمي ومكتوب عليها:

شاهد العالم من السماء بصحبة طيار ممتاز، التذكرة بدولار للبالغين، وخمسين سنتًا للأطفال.

«تلك اللافتة القديمة أصبحت مملة جدًّا، أعتقد أنه يتعين عليَّ كتابة واحدة جديدة، وهذا ما أمضيت فيه يومي.»

لم تكن اللافتة مخطوطة بطريقة جيدة بالمرة، كنت سأصنع أفضل منها في نصف ساعة.

«لم أكن يومًا خبيرًا بكتابة اللافتات.»

قلت: «إنها جيدة جدًّا.»

«إني لا أحتاجها للدعاية، فالإعلان شفاهة كافٍ عادة؛ لدرجة أني قمت برحلتين اليوم، ولم أَعُد أبذل جهدًا كبيرًا في الدعاية. لكني لم أعلم أن السيدات سيأتين لزيارتي.»

تذكَّرتُ الطفلين، فشعرت بالرعب مرة أخرى خوفًا من أن يستيقظ أحدهما وأنا بالخارج.

«هل أنتِ مضطرة للمغادرة بهذه السرعة؟»

تذكَّرت أن أتحلى ببعض الخلق، فقلت: «شكرًا على السيجارة.»

«لا تنسَي، لقد أعطيتُك كلمة شرف.»

نهبت الطريق نهبًا، وارتعتُ من فكرة أن أرى السيارة متجهة إلى المنزل. واختلط إحساسي بالوقت ولم أعرف كم أمضيت في الخارج. عندما وصلت أدركت أن كل شيء على ما يرام، فلم يتأخَّر الوقت بعدُ، وما زال الأطفال نائمين. استلقيتُ على السرير، وأخذت أفكِّر في أحداث اليوم، وشكرت الله أن اليوم انتهى على ما يرام بعد كل ما حدث، وأهم ما شكرت الله عليه هو أن لوريتا بيرد لم تكن الشخص الذي رآني بالفستان.

•••

في اليوم التالي كان الزحام كثيفًا حول المنزل، بيد أنه لم يصل إلى حد أن يطأ الناس فناء المنزل أو حدوده الخارجية. كانت اللافتة معلقة على بوابة الساحة. أتى أغلب الناس بعد العشاء للذهاب في تلك الرحلة، لكن أتى عدد لا بأس به وقت العصر أيضًا. أتى أبناء آل بيرد دون نقود التذاكر وتعلَّقوا بالبوابة. اعتدنا على إثارة إقلاع الطائرة وهبوطها، فلم يَعُد الأمر مثيرًا كما كان. لم أذهب إلى هناك مجددًا، بعد تلك المرة الأولى، لكني كنت أراه عندما يأتي ليملأ الماء. وقتها أكون جالسة على الدرج وأعمل بما لا يحتاج مني الوقوف، كإعداد الخضراوات، إن تمكنت من ذلك.

«لماذا لا تأتين لركوب الطائرة؟ سآخذك معي في رحلة.»

قلت له: «أنا أدَّخر المال»؛ لأني لم أجد شيئًا آخر أجيبه به.

«لماذا؟ للزواج؟»

هززت رأسي نفيًا.

«سآخذك مجانًا إذا أتيتِ في وقت يقلُّ فيه وجود الركاب، أعتقد أنك ستأتين، ولن تمانعي أخذ سيجارة أخرى؟»

رسمتُ على وجهي تعبيرًا صارمًا لأسكته، فلا يمكنني أن أحزر متى سيتسلل الأطفال هنا خفية من الشرفة، أو أن تسمع السيدة بيبلز ذلك بنفسها؛ حيث تأتي أحيانًا لتتحدث معه قليلًا، وكان يخبرها بأشياء لا يخبرني بها، لكني لم يخطر ببالي أن أسأله عنها؛ فقد قال لها إنه خَبِرَ الحرب وتعلَّم آنذاك قيادة الطائرات، ومن حينها لم يستطِع العيش بطريقة طبيعية؛ فهو يعشق الطيران في الجو. قالت إنها لا تتخيل أن هناك من يحب أن يعيش بهذه الطريقة، مع أنها صرحت له أن شعورها بالملل هنا من الممكن أن يدفعها لتجربة شيء كهذا، فهي لم تولد للعيش في الريف، إنها فكرة زوجها على حد تعبيرها. لم أكن أعرف هذا الأمر من قبل.

قالت له: «ربما عليك أن تعطي دروس الطيران.»

«أتريدين أن أعلمك؟»

اكتفت بالضحك دون الرد.

•••

كان يوم الأحد مليئًا بالرحلات؛ مع أن عظتين بالكنيسة نهتا عن ذلك. كنا جميعًا نجلس بالخارج لنشاهد الطائرة، يقف كلٌّ من هيذر وجووي على السور مع أبناء آل بيرد؛ حيث سمح لهما أبوهما بالذهاب بعدما ظلت أمهما رافضة طوال الأسبوع.

في ذلك الحين جاءت سيارة وتجاوزت السيارات المتوقفة، وتوقفت بالطريق الصغير المؤدي إلى المنزل. ترجلت لوريتا بيرد من السيارة، وعليها تبدو أمارات الأهمية، في حين خرجت من وراء عجلة القيادة سيدة أخرى ترتدي نظارة شمسية. تحركت برزانة عن لوريتا بيرد.

قالت لوريتا: «هذه السيدة تبحث عن قائد الطائرة؛ لقد سمعتها تسأل عنه في مقهى الفندق عندما كنت أشرب زجاجة من شراب الكولا؛ لذا أتيت بها إلى هنا.»

قالت السيدة: «آسفة على الإزعاج، أنا أليس كيلينج، خطيبة السيد واترز.»

كانت تلك المدعوة أليس ترتدي بنطلونًا واسعًا منقوشًا بمربعات بيضاء وبنية، وبلوزة صفراء. بدا صدرها لي متهدلًا يتقافز مع حركتها. ترك القلق آثاره على وجهها، وشعرها مموج، إلا أن أثر التموج بدأ يزول، وكانت تضع عصابة صفراء لتبقي ما تدلى منه بعيدًا عن وجهها. لا شيء مطلقًا يبدو جميلًا بها أو حتى يجعلها تبدو صغيرة السن، لكن يستطيع المرء — من خلال أسلوبها في الحديث — إدراك أنها من المدينة، أو متعلمة، أو كلاهما.

وقف الدكتور بيبلز، وقدم نفسه وزوجته وعرفها بي، ثم دعاها إلى الجلوس، وقال:

«إنه الآن يحلق في الهواء، لكن بإمكانك الجلوس وانتظاره، فهو يأتي ليضخ الماء الذي يحتاجه من هنا، وهو لم يأتِ بعدُ؛ وعادةً ما يأخذ استراحته في الساعة الخامسة.»

قطَّبت أليس كيلينج جبينها بينما تنعم النظر إلى السماء، ثم قالت: «هذا هو إذن؟»

قال الدكتور بيبلز ضاحكًا: «هو لم يعتَدِ الهرب منك مستعيرًا اسمًا جديدًا؟» كان الدكتور بيبلز مَن قام بضيافتها — وليس زوجته — وعرض عليها شرب الشاي المثلج، أما السيدة بيبلز فقد أمرتني بإعداد الشاي المثلج مكتفية بابتسامة. كانت تضع نظارة شمسية هي الأخرى.

قالت: «لم يذكر السيد واترز أن له خطيبة.»

من الجدير بالذكر أن الدكتور بيبلز كان لا يقرب الخمر، على الأقل هنا في المنزل؛ وإلا لما سُمح لي بالعمل هنا طيلة هذه الفترة. كنت أحب تجهيز الشاي المثلج وأضع له الكثير من الثلج مع شرائح الليمون في الأكواب الطويلة، وكان يتعيَّن عليَّ تحضير كوب آخر للوريتا بيرد مع أن ذلك عكَّر صفوي، عندما أتيتُ بالشاي وجدتها قد جلست على كرسيَّ، تاركة درجات السلم لي للجلوس عليها.

«لقد علمتُ من أول نظرة لك في المقهى أنك ممرضة.»

«كيف عرفتِ شيئًا كهذا؟»

«أستطيع معرفة الناس بالحاسة السادسة، هل قابلتِ السيد واترز من خلال عملك، أثناء تمريضه؟»

«كريس؟ نعم، نعم، إنه كذلك.»

قالت السيدة بيبلز: «أوه، أكان هذا وأنتم خارج البلاد؟»

«كلا؛ فقد كان ذلك قبل أن يسافر، كنا لا نزال في زمن الحرب، وكان هو مرابطًا في سنتريليا عندما انفجرت زائدته الدودية؛ حينها كنت أنا من أمرِّضه. تقدَّم لخطبتي في ذلك الحين، وسافر بعد ذلك خارج البلاد. يا إلهي، كم هو منعش ذلك المشروب بعد قيادة تلك المسافة الطويلة.»

قال الدكتور بيبلز: «سيُسَرُّ بالطبع لوجودك، لكنها حياة صاخبة تلك؛ أن يتنقَّل المرء من مكان لآخر دون الاستقرار في مكان وتكوين صداقات.»

سألتها لوريتا بيرد: «هل أنتما مخطوبان منذ فترة طويلة؟»

أكملت أليس كيلينج حديثها كأن لم تسمعها، قائلة: «كنت أنوي المكوث في الفندق، لكن عندما قادني البحث عن كريس إلى هنا أتيت مباشرة، هل لي أن أحادثهم بالهاتف؟»

أجاب الدكتور بيبلز: «لا داعي لذلك، ستكونين على بعد خمسة أميال عن السيد واترز إن مكثتِ بذلك الفندق، أما هنا فما عليك إلا قطع الطريق. بإمكانك المكوث معنا، البيت كبير ويسع الجميع.»

بالقطع إن دعوة الناس للمكوث بهذه الطريقة هي عادة أهل القرى، ويبدو أنها أصبحت مألوفة للدكتور بيبلز الآن، لكن ليس للسيدة بيبلز؛ إذ بدا ذلك جليًّا من الطريقة التي قالت بها: «نعم، لدينا العديد من الغرف.» ويبدو أنه لم يكن مألوفًا لأليس كيلينج أيضًا التي لم تنفك تعترض، وفي النهاية أعياها الاعتراض. انتابني شعور أن ذلك كان إغراء لها، لتكون بذلك القرب من كريس. وبينما كانوا يتحدثون، كنت أحاول أنا اختلاس النظر إلى خاتم الخطبة بيدها، كانت تضع طلاء أحمر على أظافرها، وكانت أصابعها مجعدة وبها نمش، وكان حجر الخاتم صغيرًا جدًّا. لقد رأيت خاتم ابنة عم صديقتي موريل لو، وكان يكبره بمرتين.

أتى كريس آخر النهار ليملأ الماء، في نفس الوقت الذي توقَّعه الدكتور بيبلز بالضبط، ولا بد أنه علم بوجودها حين رأى سيارتها بالخارج فأقبل مبتسمًا.

قالت له أليس كيلينج: «ها أنا أقوم بملاحقتك لأرى ماذا ستفعل!» نهضت من جلستها وأقبلت عليه لتقبِّله قبلة خاطفة أمامنا جميعًا.

قال لها كريس: «بهذه الطريقة ستنفقين كل ما لديك على البنزين.»

دعاه الدكتور بيبلز إلى العشاء، بعد أن علَّق كريس اللافتة المكتوب عليها «لا رحلات حتى الساعة السابعة.» وطلبت مني السيدة بيبلز أن أقدم العشاء في الفناء، بالرغم من وجود حشرات هناك. كان تناول الطعام بالخارج أمرًا لم يألفه أهل الريف. كنت قد أعددت سلطة البطاطس مسبقًا، وأعدَّت السيدة بيبلز سلطة الجيلي، أحد الأطعمة التي تستطيع إعدادها؛ لذا لم نقدِّم سوى هذين الصنفين مع شرائح اللحم والخيار وأوراق الخس الطازجة. أخذت لوريتا بيرد تتسكَّع قليلًا قائلة: «حسنًا، أعتقد أنني يجب أن أعود أدراجي إلى هؤلاء البؤساء، مع أن الجلسة معكم لطيفة ولا أريد القيام من مجلسي.» ومع ذلك لم يدعُها أحدٌ للمكوث، وهو ما سرَّني، وأخيرًا اضطرت إلى الرحيل.

في تلك الليلة خرج كريس وأليس معًا بالسيارة إلى مكان ما بعد انتهائه من الرحلات الجوية. أما أنا فاستلقيت على السرير دون أن يغمض لي جفن حتى عادَا. عندما رأيت أنوار السيارة تضيء سقف غرفتي، قمت لأشاهدهما من النافذة مختبئة وراء الستار، لا أعلم تحديدًا ما الذي دفعني فضولي لرؤيته. عندما كنت أذهب إلى موريل لو ببيتها اعتدنا معًا النوم بشرفة المنزل الأمامية لنتمكن من رؤية أختها وصديقها وهو يودعها. بعدها لا نستطيع النوم، بل نجلس معًا وكلٌّ منا مشتاقة لشخص يقبِّلها ويداعبها، ونسترسل في الحديث سارحَيْن بخيالنا أن الواحدة منا على قارب مع صبي ولن يعيدها إلى الشاطئ حتى تمارس الحب معه، أو أن أحدهم يوقع بها في الحظيرة، وحينها لن يكون خطأها، بل ستكون مضطرة. وكانت تحكي موريل لي أن إحدى بنات عمها تمثل دور الصبي بينما تمثل الأخرى دور محبوبته. بالطبع لن نفعل شيئًا كهذا؛ فأقصى ما نفعله هو الاستلقاء وترك العنان لخيالنا يسرح بعيدًا.

كل ما حدث عندما نظرتُ من الشباك أن كليهما خرجا من السيارة باتجاه مختلف، حيث اتجه كريس ناحية الساحة، في حين اتجهت هي إلى المنزل. عدت إلى السرير وتخيلتُني أعود معه من مكان ما، وبالطبع لم نفترق هكذا.

في صباح اليوم التالي استيقظت أليس كيلينج متأخرة، وذهبتُ أنا لتحضير كوب من الجريب فروت لها كما علَّمتني السيدة بيبلز، التي كانت بدورها تجلس لضيافة أليس واحتساء كوب آخر من القهوة. كانت السيدة بيبلز تبدو سعيدة بوجود رفقة معها. قالت أليس كيلينج إنها تعتقد أنه من الأفضل أن يفعلا شيئًا آخر غير الجلوس فقط والفرجة على كريس يهبط بالطائرة ويعلو بها، وأجابتها السيدة بيبلز أنها لم تقترح شيئًا لأنها لا تملك السيارة الآن والبحيرة تبعد قرابة خمسة وعشرين ميلًا، وكان اليوم مناسبًا جدًّا للنزهة.

أعجبت أليس كيلينج تلك الفكرة، وعندما دقَّت الساعة الحادية عشرة كانتا بالسيارة، مصطحبَيْن جووي وهيذر، وكنت قد صنعت لهم بعض الفطائر للغداء. لكن لم يكن كريس قد هبط بالطائرة بعدُ لتبلغه إلى أين هم ذاهبون.

فقالت السيدة بيبلز: «ستذهب إيدي له وتخبره. لا مشكلة.»

قطَّبت أليس كيلينج جبينها قليلًا، ثم وافقت قائلة لي:

«تأكدي من إبلاغه، سنعود قبل الساعة الخامسة!»

لم أعتقد أن شيئًا كهذا من الممكن أن يكون مهمًّا له أن يعرفه، فقط شرعتُ أفكر أنه ربما الآن يأكل شيئًا يطبخه لنفسه على الموقد الصغير، وحيدًا؛ لذا قررت أن أصنع له كعكة مخبوزة، أثناء إنجازي لباقي الأعمال المطلوبة. عندما بردت الكعكة قليلًا غطيتها بمنشفة. لم أفعل شيئًا بنفسي إلا أني خلعت مريلة المطبخ ومشطت شعري. كنت أحب أن أضع بعضًا من مساحيق التجميل، ولكني تراجعت، خوفًا من أن يتذكَّر أول مرة رآني بها، الأمر الذي سيحطُّ منِّي مرة أخرى.

عندما عاد تلك المرة وضع لافتة مختلفة مكتوب عليها: «معذرة، لا رحلات هذا المساء.» شعرت بالقلق من أن يكون متعبًا؛ لم يكن هناك أثر له، وكان غطاء الخيمة مسدلًا، فطرقت عمود الخيمة.

«تفضَّل بالدخول.» قالها بطريقة كمن يقول «ابقَ بالخارج».

رفعت الغطاء.

«أوه، إنه أنتِ، آسف، لم أكن أعرف.» لم يكن يفعل شيئًا سوى الجلوس بجانب السرير والتدخين. لماذا لا يخرج ليدخِّن في الهواء الطلق؟

قلت له: «لقد أعددتُ لك كعكة، وآمل ألا تكون مريضًا.»

«مريض! لماذا؟ آه، إنها اللافتة بالخارج. لا عليكِ، فقط أعياني الحديث مع الناس، لا أقصدكِ أنت، تفضلي بالجلوس.» ثم رفع غطاء الخيمة قائلًا: «لندَعْ بعض الهواء النقي يدخل ها هنا.»

جلستُ على حافة السرير، فلم يكن هناك مكان آخر غيره، كان من نوعية السرائر الخفيفة النقَّالة، ثم تذكَّرت، وأخبرته برسالة خطيبته.

أكل بعضًا من الكعكة وقال: «إنها لذيذة.»

«احتفظ بالباقي لتأكله عندما تجوع ثانية.»

«سأخبرك بسِرٍّ، أنا لن أبقى هنا طويلًا.»

«ستتزوج؟»

«ها ها. متى قلتِ إنهم سيعودون؟»

«الساعة الخامسة.»

«حسنًا، عندما تحين تلك الساعة سأكون قد غادرت، فالطائرة أسرع من السيارة.» أكل قطعة أخرى من الكعكة وهو شارد الذهن.

«لا بد أنك الآن عطشان.»

«هناك بعض الماء في الدلو.»

«لن يكون باردًا، أستطيع أن أحضر لك بعضًا آخر، وأُحضر مكعبات الثلج معه.»

فقال: «كلا، لا أريدك أن تذهبي، أريد أن أقضي معك وقتًا لطيفًا طويلًا لأودِّعك.»

أعاد الكعكة مكانها بحرص ثم جلس بجواري وشرع في تلك القبلات الصغيرة الرقيقة للغاية، لا يمكنني مطلقًا أن أنساها، كانت الرقة بادية على وجهه، وفي قبلاته الحلوة التي تنصبُّ على رموشي وعنقي وأذنيَّ، كلها، ثم بادلتُهُ أنا أيضًا التقبيل قدر استطاعتي (لم يسبق لي أن قبَّلت صبيًّا من قبل سوى مرة واحدة لأثبت أني قادرة على ذلك؛ وقبَّلت يدي مرة من أجل التمرين). بعدها رقدنا على السرير وتضاغطنا معًا، ولكن برفق، وفعل هو أشياء أخرى، ليست سيئة ولا بطريقة سيئة. كان الأمر رائعًا بالخيمة ونحن نشتمُّ رائحة العشب ورائحة قماش الخيمة التي تلفحها شمس النهار بلهيبها، ثم قال بحنان: «ما كنتُ لأُلحِق بك ضررًا من أي نوع.» وما إن اعتلاني وصرنا نهتز معًا فوق السرير، حتى قال برقة: «أوه، كلا.» وحرَّر نفسه وقفز مبتعدًا نحو دلو الماء، رشَّ بعضه على رقبته ووجهه، ورش الباقي عليَّ وأنا راقدة هناك.

«هذا لكي نهدأ قليلًا يا آنستي.»

عندما حانت لحظة الوداع لم أكن حزينة؛ حيث أمسك وجهي بين يديه قائلًا: «سأكتب لك خطابًا لأعلمك مكاني، ويمكنك أن تأتي لتريني، ألا تحبين ذلك؟ حسنًا، انتظري الخطاب.» كنت جد سعيدة حتى في لحظة الوداع، كان الأمر كأنه يغمرني بهدايا لن أشعر بسعادتي بها إلا وحدي.

•••

لم يلحظ أحدٌ اختفاء الطائرة من الوهلة الأولى؛ فقد ظنوا أنه ربما يكون محلقًا بشخص ما، وبدوري لم أَقُل شيئًا. اتصل الدكتور بيبلز وأخبرنا أن هناك بعض الأمور التي تُحتِّم ذهابه للقرية؛ لذا لن يتبقى سوانا للعشاء، ثم أتت لوريتا بيرد وأقحمت رأسها بالباب قائلة: «أعتقد أنه رحل.»

صاحت أليس كيلينج وهي تدفع كرسيها للخلف: «ماذا؟»

«قال لي الأولاد إنهم رأوه آخر النهار وهو يحل خيمته، أتعتقدين أنه سيذهب إلى العمل في الأنحاء المجاورة؟ إنه لن يرحل دون إخبارك، أليس كذلك؟»

قالت أليس كيلينج بنبرة متوترة: «سيرسل لي لإخباري، من المحتمل أن يتصل الليلة، إنه غير مستقر أبدًا منذ تلك الحرب.»

سألتني السيدة بيبلز: «إيدي، ألم يَقُل لكِ ذلك، هل قال؟ عندما أبلغك الرسالة؟»

أجبتها محاولة اصطناع الصراحة إلى أقصى حد: «نعم.»

تحولت الأنظار جميعها نحوي وسألتني السيدة بيبلز: «لماذا لم تذكري هذا من قبل؟ أقال إلى أين هو ذاهب؟»

«قال إنه من الممكن أن يجرب حظه في بايفيلد.» لا أعلم ما الذي جعلني أحيك تلك الكذبة؛ فلم أكُن أنتوي ذلك.

قالت أليس كيلينج: «بايفيلد، كم تبعد عن هنا؟»

أجابت السيدة بيبلز: «حوالي ثلاثين أو خمسة وثلاثين ميلًا.»

«إنها ليست بعيدة، أوه، حسنًا، إنها ليست بعيدة على الإطلاق، تقع عند البحيرة، أليس كذلك؟»

قد تعتقدون أنني سأخجل من نفسي لأنني ضللتها، لكني فعلت ذلك لأمنحه مزيدًا من الوقت. لقد كذبت لأغطي عليه، ويجب أن أعترف أنني كذبت لأغطي على نفسي أيضًا. أدركت الآن أن المرأة يجب أن تقف بجوار المرأة، ولا تفعل مثلما فعلت، ولكني لم أدرك ذلك حينها. لم أكن لأتخيل نفسي في هذا الموقف مثلها، أو أن أقع يومًا ما في مأزق من هذا النوع.

لم ترفع أليس كيلينج عينها من عليَّ، أعتقد أنها تشك بأني أكذب.

فسألتني: «متى ذكر لك ذلك؟»

«صباحًا.»

«هل كنتما على متن الطائرة؟»

«نعم.»

اتجهت نحوي مبتسمة، ولكن ليست ابتسامة لطيفة، قائلة: «بالتأكيد تجاذبتما أطراف الحديث، وجلستِ معه بعض الوقت.»

قلت لها: «لقد أخذت له كعكة.» اعتقادًا مني أني بذكري بعض الحقيقة لن أُضطر لسرد باقي الحقيقة.

قالت السيدة بيبلز بحدة: «لم تكن لدينا كعكة.»

«لقد خبزت واحدة.»

قالت أليس كيلينج: «لقد كان هذا سخاءً منك.»

وقالت لوريتا بيرد: «هل سمح لك أحدٌ بذلك؟ هؤلاء الخادمات، لا نعرف ماذا من الممكن أن تفعل الواحدة منهن بعد ذلك! إنهن لا يقصدن إيقاع تلك الأضرار، بل هن جاهلات.»

تدخلت السيدة بيبلز، قائلة: «ليس موضوعنا الآن عن الكعك. إيدي، لم أكن أعلم أنك على معرفة جيدة بكريس.»

لم أعرف ماذا أقول.

قالت أليس كيلينج بصوت عالٍ: «أنا لست مندهشة؛ فقد عرفت أنها من تلك النوعية بمجرد أن رأيتها للمرة الأولى؛ إني أرى أمثالها الكثير بالمستشفى طوال الوقت.» نظرت لي بعنف وبتلك الابتسامة المصطنعة، واستطردت قائلة: «يأتي أولئك النسوة بأطفالهن، ونضطر إلى وضعهن في قسم خاص بالمستشفى بسبب الأمراض اللائي يحملنها، لسن إلا حثالة الأرياف، لا تتعدى الواحدة منهن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها. لا بد أن تروا الأطفال الذين يحملنهن.»

تدخلت لوريتا بيرد قائلة: «يوجد واحدة من هؤلاء النسوة سيئات السمعة هنا في القرية، لديها طفل مرضه يجعل عينيه تنزَّان صديدًا.»

قالت السيدة بيبلز: «لحظة من فضلكم، ما هذا الحديث يا إيدي؟ ما الذي حدث بينك وبين السيد واترز؟ هل أقمت معه علاقة حميمية؟»

قلت: «نعم.» قلتها وأنا أتذكَّر ما حدث عندما استلقينا على السرير وتبادلنا القبل، أليست تلك حميمية؟ أنا لن أنكر ما حدث.

سكت الجميع دقيقة وكأن على رءوسهم الطير، حتى لوريتا بيرد.

ثم قالت السيدة بيبلز بهدوء محدِّثة أليس كيلينج: «حسنًا، أنا مندهشة، أعتقد أني بحاجة إلى سيجارة الآن، إنها المرة الأولى التي أرى منها مثل هذه الأفعال.»

قالت أليس كيلينج وهي تحدِّق فيَّ ودموعها منهمرة: «أيتها العاهرة الصغيرة، عاهرة صغيرة، ألستِ كذلك؟ لقد عرفتُ ذلك بمجرد أن رأيتك. الرجال يحتقرون أمثالك. نال مبتغاه منك ومن ثم ألقى بكِ، ألا تعرفين ذلك؟ البنات أمثالك لا شيء، أنت لا شيء سوى متاع عام، أيتها القذرة الصغيرة!»

قالت السيدة بيبلز: «يا إلهي!»

قالت أليس كيلينج وهي تجهش بالبكاء: «قذرة، أيتها القذرة الصغيرة!»

ازدردت لوريتا بيرد لعابها بسعادة لوجودها بذلك الموقف، وقالت لأليس كيلينج: «لا تحزني، كل الرجال صنف واحد.»

قالت السيدة: «إيدي، أنا لا أزال مندهشة بشدة، لقد اعتقدت أن أبويك صارمان، أنت لا تودين إنجاب أطفال بهذه الطريقة، أليس كذلك؟»

ما زلت خجلة مما تلا ذلك؛ حيث فقدت سيطرتي على نفسي وبدأت في النحيب كطفلة في السادسة من عمرها قائلة: «لن أنجب أطفالًا من فعل ذلك!»

فقالت لوريتا بيرد: «أرأيتِ، بعضهن على هذه الدرجة من الجهل.»

لكن السيدة بيبلز هبَّت من مكانها، وأمسكتني من ذراعي، وهزتني قائلة:

«اهدئي، لا تفقدي عقلك هكذا، فقط اهدئي، وكُفِّي عن البكاء، دعيني أسألك؛ هل تعرفين معنى الحميمية؟ أجيبيني، ماذا تعتقدين المقصود بتلك الكلمة؟»

صرخت قائلة: «التقبيل!»

أفلتتني السيدة بيبلز من يديها قائلة: «أوه، إيدي، كُفِّي عن ذلك، لا تكوني حمقاء، لا بأس، هذا سوء تفاهم، الحميمية تعني أكثر من ذلك. أوه، كم كنتُ «مندهشة»!»

قالت أليس كيلينج سريعًا:

«إنها تحاول التمويه على فضيحتها الآن، نعم، إنها ليست غبية، لقد أدركت أنها في مأزق حقيقي.»

فقالت السيدة بيبلز: «أنا أصدِّقها، يا له من مشهد مروع!»

قامت أليس كيلينج قائلة: «حسنًا، هناك طريقة واحدة لمعرفة الحقيقة، فأنا بعد كل شيء ممرضة!»

تنفست السيدة بيبلز بعمق وقالت: «كلا، كلا، اذهبي إلى غرفتك يا إيدي، أوقفوا هذه المهزلة، هذا مثير للاشمئزاز.»

اتجهتُ إلى غرفتي، وبعد قليل، سمعت صوت السيارة، حاولت الكف عن البكاء، ممسكة نفسي في كل مرة تبدأ فيها نوبة بكاء. أخيرًا نجحت في السيطرة على نفسي واستلقيت على السرير مهدئة من روعي.

أتت السيدة بيبلز ووقفت عند الباب.

وقالت: «لقد رحلت، وتلك المرأة لوريتا أيضًا، بالطبع أصبحتِ تدركين أنه لم يكن مسموحًا لكِ بالاقتراب من هذا الرجل، وهذا هو سبب تلك المشكلة. أشعر بالصداع الآن. في أقرب فرصة تقوين فيها على النهوض؛ اغسلي وجهك بماء بارد، ومن ثم اتجهي مباشرة لغسيل الصحون، لن نتحدث في هذا الموضوع ثانية.»

•••

وهذا ما حدث بالفعل. لم أكن أتصور حتى سنوات لاحقة فداحة المأزق الذي نجوت منه. لم تَعُد السيدة بيبلز لطيفة وودودة معي بعد ذلك، ولكنها لم تظلمني في شيء. إن قولي «إنها لم تَعُد لطيفة وودودة معي» وصفٌ غير دقيق لها؛ فهي لم تكن قط لطيفة وودودة. كل ما في الأمر أنها أصبحت مضطرة لأن تراني أمامها طوال الوقت، وكان هذا في حد ذاته يزعجها، قليلًا.

وبالنسبة لي؛ فقد صرفت كل هذا من عقلي كأنه كابوس، وانصبَّت حياتي على انتظار الخِطاب. كان البريد يصل يوميًّا عدا يوم الأحد، في حدود الساعة الواحدة والنصف والثانية ظهرًا؛ وكان هذا الوقت مناسبًا جدًّا لي؛ حيث إنه ميعاد القيلولة للسيدة بيبلز. فأذهب لتنظيف المطبخ، ثم أذهب لأجلس على العشب بجوار صندوق البريد، كنت في قمة سعادتي، وأنا منتظرة، وتناسيت كل ما حدث: أليس كيلينج وبؤسها وكلامها الجارح، برود السيدة بيبلز معي، وإحراجي من احتمال إطلاع الدكتور بيبلز على ما حدث، وجه لوريتا بيرد وهي تثرثر بالحديث عن مشكلات الآخرين؛ تناسيتُ كل ذلك. كنت أبتسم دائمًا عندما يصل ساعي البريد، وأظل مبتسمة حتى بعدما أتحقق من البريد وأجد أن الخِطاب الذي أنتظره لم يَصِل اليوم. كان ساعي البريد من كارميكال، عرفت من وجهه؛ فكثير منهم كانوا يقطنون بجوارنا، ويتميز عدد كبير منهم بشفة عليا بارزة قليلًا (كان شابًّا خجولًا لكنه بشوش، يمكن لأي شخص سؤاله عن أي شيء)، فسألته عن اسمه وقلت له: «عرفتك من وجهك.» سُرَّ عندما سمع مني ذلك، ودائمًا ما كان يُسَرُّ عندما يراني، وبدأ في التخلص من خجله شيئًا فشيئًا، وكان دائمًا ما يصيح من شباك سيارته قائلًا لي: «ابتسامتك هي كل ما أنتظره طوال اليوم.»

لم يخطر بذهني لحظة أن الخِطاب لن يصل، ولو حتى بعد طول انتظار؛ فقد كنت أوقن بأنه حتمًا سيصل، تمامًا كما أوقن بإشراق الشمس كل صباح. كنت أنام بنفس اليقين، وأستيقظ وكلِّي أمل بحدوث مرادي اليوم التالي، حتى بدأت نباتات الذهب في النمو حول صندوق البريد، وعاد الأطفال إلى المدرسة، وبدأت أوراق الشجر في التساقط، وكان عليَّ ارتداء كنزة وأنا أنتظر البريد. ذات يوم لم يصل إلى البريد سوى فاتورة الماء، قبضت عليها يدي وأنا أنظر باتجاه تلك الساحة، بدت نباتات الصقلاب والدبساسية في أوج تفتُّحها، معلنة حلول الخريف، حينما خطر على ذهني فكرة أن «الخطاب لن يصل أبدًا». كانت فكرة من المستحيل تصديقها. كلا، ليست مستحيلة. كلما تذكَّرت وجه كريس وهو يَعِدني بأنه سيراسلني، لم تكن فكرة مستحيلة، لكن عندما أنسى ذلك وأنظر لصندوق البريد، فارغًا، تبدو الفكرة حقيقة واضحة. مع ذلك واصلتُ انتظار البريد، لكن قلبي كان ممتلئًا بحزن وهمٍّ ثقيل، كنت أبتسم فقط لأجل ساعي البريد، فابتسامتي هي ما يهوِّن عليه يوم عمل شاقٍّ مع قدوم فصل الشتاء.

حتى طرأ لي ذات يوم أن هناك نساء مثلي يفعلن ذلك بحياتهن؛ يُضِعن حياتهن رهن الانتظار. هناك نساء ما برحن ينتظرن وينتظرن بجانب صناديق البريد من أجل خطاب أو خطاب آخر. تخيلت نفسي مثل واحدة منهن، أنتظر وأنتظر، يومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة، حتى بدأ الشيب يدق رأسي. وهنا بدأت أفكر أنني يجب ألا أصير مثلهن؛ لذا توقفت عن انتظار البريد؛ إذا كانت هناك من النساء من ينتظرن كل ذلك، وهناك من لا وقت لديهن للانتظار، فأنا أعلم جيدًا مَن أود أن أكون. ومع أن النساء من النوع الثاني قد يفوتهن أشياء، لكن ذلك أفضل من انتظار السراب.

فوجئت عندما اتصل ساعي البريد بمنزل آل بيبلز، وسأل عني، قال إنه افتقدني، وطلب مني الذهاب معه إلى جودريتش حيث يُعرَض هناك فيلم مشهور، نسيت اسمه الآن، فوافقت. ظللت أخرج معه عامين إلى أن طلبني للزواج، وتمت خطبتنا عامًا آخر أجهز فيه أشيائي، ثم تزوجنا. ودائمًا ما يحكي لأطفالنا كيف كنتُ أطارده بالجلوس بجانب صندوق البريد كل يوم، وكنت أكتفي أنا بالضحك وأدعه يكمل حكايته؛ لأنني أحب أن يعتقد الناس فيما يحبونه ويجعلهم سعداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤