مغامرة القارب
في نهاية كلٍّ من شارع بيل ستريت وشارع مكاي ستريت وشارع مايو ستريت، كان الفيضان. فنهر واواناش يفيض كل ربيع. وفي بعض فصول الربيع — لنقل فصلًا من كل خمسة فصول — كان الفيضان يغطي الطرقات بهذا الجانب من المدينة ويغمر الحقول، مخلفًا بحيرة ضحلة تعلوها الأمواج. كان الضوء المنعكس على صفحة الماء يجعل كل شيء براقًا وباردًا، كما هي الحال في البلدات الواقعة على ضفاف البحيرات، ويوقظ أو يحيي في الناس ترقبًا غامضًا بوقوع كارثة. خلال وقت متأخر من الظهيرة وأول المساء في الغالب، يخرج البعض زرافات للفرجة على البحيرة والجدل حول إن كان منسوبها سيواصل الارتفاع، وإن كانت ستغزو البلدة هذه المرة. بشكل عام، كلُّ مَن تقل أعمارهم عن الخامسة عشرة و/أو تتجاوز الخامسة والستين كانوا متيقنين أشد اليقين من أن هذا هو ما سيحدث.
خرجت إيفا وكارول للتنزه على دراجتيهما. تركتا الطريق في نهاية شارع مايو ستريت حيث لا وجود لأي منزل، واتجهتا إلى أحد الحقول خلف سياج سلكي وقع بأكمله على الأرض من وطأة الثلوج المنهمرة في الشتاء، ثم سارتا بموازاة الساحل قليلًا قبلما يوقفهما العشب الطويل، فنزلتا عن دراجتيهما وتركتاها على الأرض ذاهبتين إلى الماء.
قالت إيفا: «علينا أن نجد جذع شجرة والركوب عليه.»
«يا إلهي، ستتجمد سيقاننا.»
علَّق عليها أحد الصبية الواقفين هناك على حافة المياه، قائلًا: «يا إلهي، ستتجمد سيقاننا!» قالها بذلك الأنين الكريه الذي يصطنعه الأولاد لتقليد الفتيات مع أنه لا يشبه طريقة كلام الفتيات في شيء. كان أولئك الصبية الثلاثة جميعًا في نفس فصل إيفا وكارول بالمدرسة، وكانتا تعرفانهم بالاسم: فرانك، بود، كلايتون؛ ولكن إيفا وكارول، اللتين رأتاهم وعرفتاهم من على الطريق، لم تتحدثا أو حتى تنظرا إليهم، بل لم تصدر عنهما أي إشارة تدل على ملاحظتهما لوجودهم. بدا أن الأولاد يحاولون صنع طوافة من قطع الخشب التي انتشلوها من الماء.
خلعت إيفا وكارول أحذيتهما وجواربهما وخاضتا في المياه، فوجدتا المياه باردة للغاية حتى إنها آلمت سيقانهما، فكانت كشرر كهربائي سرى عبر أوردتهما، ولكنهما واصلتا الخوض في المياه، رافعتين تنورتيهما لأعلى مع شدهما من الأمام مما أدى إلى تجسيم مؤخرتيهما؛ فصاح أحد الصبية:
«انظروا إلى هاتين البطتين ذواتي المؤخرتين السمينتين.»
فضحك أحدهم، مرددًا: «عاهرتان ذواتا مؤخرتين سمينتين.»
وبطبيعة الحال، لم تَصدُر عن إيفا وكارول أي إشارة تدل على سماعهما تلك السخرية، بل أمسكتا جذع شجرة وركبتا عليه، آخذتين معهما لوحين طافيين فوق الماء للتجديف. فدائمًا ما تطفو أشياء على سطح مياه الفيضان؛ من فروع وجذوع الأشجار وقضبان الأسيجة وعلامات الطريق وأخشاب قديمة، وأحيانًا غلايات وأحواض غسيل وأوانٍ ومقالٍ، أو حتى مقعد سيارة أو كرسي محشو، وكأن الفيضان قد مرَّ على مقلب نفايات.
أخذتا تجدفان مبتعدتين عن الشاطئ، متوجهتين إلى البحيرة الباردة. كانت المياه صافية تمامًا، حتى إنها تمكنهما من رؤية الحشائش البنية السابحة في القاع. تصورت إيفا أنهما تخوضان بحرًا كذلك الذي غرقت تحته مدن وبلدان مثل جزيرة أطلانطس المفقودة. تصورت أنهما تركبان أحد قوارب الفايكنج — قوارب الفايكنج المبحرة في المحيط الأطلسي كانت أوهن بناءً وأضيق مساحة من جذع الشجرة هذا المبحر في مياه الفيضان — وأسفلهما أميال من مياه البحر الصافية، ثم مدينة غارقة، لا تزال بحالها لم تمسسها يد من قبل كجوهرة لا مثيل لها في قاع المحيط. فعبَّرت إيفا عن أفكارها تلك، قائلة:
«إنه أحد قوارب الفايكنج، وأنا النقش على مقدمته.» نفخت صدرها للأمام واشرأبت بعنقها محاولة الانحناء بجسمها راسمة الجدية على وجهها ومخرجة لسانها من فمها، ثم استدارت، ولأول مرة نظرت إلى الأولاد، صائحة في وجوههم:
«أيها الأوغاد! إنكم تخشون المجيء إلى هنا، فعمق المياه عشرة أقدام!»
أجابوها دونما اهتمام: «كاذبة.» وهي كاذبة فعلًا.
أدارتا جذع الشجرة حول صف من الأشجار، متجنبتين أسلاكًا شائكة عائمة، ودخلتا في خليج صغير نشأ نتيجة تجويف صنعته الطبيعة في الأرض. وحيث يقع الخليج الآن ثمة بركة تمتلئ بالضفادع في وقت لاحق في فصل الربيع، وبحلول منتصف الصيف ستتبخر المياه كلها، مخلفة مساحة متشابكة منخفضة الارتفاع من القصب والشجيرات الخضراء، ويظل الطين الرطب عالقًا حول جذورها، فيما تنمو شجيرات أكبر وأشجار الصفصاف حول الضفة المنحدرة لهذه البركة ويظل جزء منها خارج الماء. كفَّت إيفا وكارول عن التجديف لدى رؤيتهما شيئًا عالقًا على مقربة منهما.
إنه قارب أو جزء من قارب. زورق قديم تحطم الجزء الأكبر من أحد جانبيه، أما سطحه الذي كان يُتخذ مقعدًا فيتدلى خارجه. كان الزورق محشورًا بين فروع الأشجار، ملقى على جانبه المحطم، إن كان لديه جانب من الأساس، فيما ارتفعت مقدمته لأعلى.
خطرت على بالهما الفكرة نفسها في الوقت ذاته دون تشاور بينهما، فصاحتا:
«يا شباب! أنتم أيها الشباب!»
«لقد وجدنا لكم قاربًا!»
«كفُّوا عن صنع طوافتكم الغبية تلك وتعالوا وانظروا إلى القارب!»
ما فاجأهما في المقام الأول هو مجيء الأولاد بالفعل مهرولين برًّا، حيث أخذوا يَعْدُون متعثرين أحيانًا، وأحيانًا أخرى ينزلقون على ضفاف البحيرة من فرط لهفتهم على رؤية القارب الغارق.
«مرحى، أين؟»
«أين هو؟ لا أرى قوارب هنا.»
وما فاجأهما في المقام الثاني هو أنه عندما رأى الأولاد القارب المقصود بالفعل، ذاك الزورق المتهالك الذي جرفه الفيضان فعلق بين فروع الأشجار، لم يفهموا أن الأمر مجرد خدعة وبلعوا الطعم وانطلت عليهم الحيلة؛ إذ لم تبدُ عليهم مظاهر خيبة الأمل ولو للحظة واحدة، بل بدوا سعداء بالاكتشاف كما لو كان القارب سليمًا وجديدًا. كانوا حفاة الأقدام بالفعل؛ نظرًا لأنهم كانوا يخوضون في الماء لجمع الأخشاب، وقد واصلوا الخوض حتى تلك البقعة دون توقف، محيطين بالقارب ومبدين إعجابهم به غير مبالين بإيفا أو كارول — حتى ولو من باب التحقير — اللتين كانتا تتمايلان لأعلى ولأسفل على جذع الشجرة الذي تركبانه، فاضطرتا إلى الصراخ فيهم:
«كيف هيَّأ لكم خيالكم أن بمقدوركم ركوبه؟»
«لن يطفو على أي حال.»
«ما الذي يجعلكم تظنون أنه سيطفو على سطح الماء؟»
«سوف يغرق بكم والماء يبقبق فيه.»
بيد أن الأولاد لم يجيبوهما؛ نظرًا لانشغالهم الشديد بمعاينة القارب، مقتربين منه على نحو استكشافي ليروا كيف يمكن سحبه وتعويمه دون إلحاق ضرر به. فرانك — أفضل الثلاثة قراءة وكتابة وأكثرهم حديثًا وأقلهم كفاءة — أخذ يشير إلى القارب بصيغة المؤنث، وهو تصنُّع قابلته إيفا وكارول بزمِّ شفاههما كأفواه الأسماك تعبيرًا عن ازدرائهما لما يقول:
«إنها محشورة في موقعين، عليكم بتوخي الحذر لكيلا تُحدثوا ثقبًا في قاعها؛ فهي أثقل مما تظنون.»
اعتلى كلايتون ظهر القارب وحرره، أما بود، ذاك الفتى الطويل البدين؛ فقد حمل ثقل القارب على ظهره ليعيده إلى الماء بحيث يستطيعون تعويمه قليلًا وحمله قليلًا إلى الشاطئ. كل ذلك استغرق بعض الوقت. في تلك الأثناء كانت كلٌّ من إيفا وكارول قد نزلتا عن جذعهما وخاضتا خارجتين من الماء. سارتا على البر للبس جواربهما وانتعال حذاءيهما وركوب دراجتيهما. لم تكونا بحاجة إلى العودة من هذا الطريق، ولكنهما جاءتا منه. وقفتا أعلى التلة متكئتين على دراجتيهما. لم تعودا إلى المنزل، لكنهما أيضًا لم تجلسا جلسة تنمُّ بوضوح عن رغبتهما في المشاهدة. كانتا تقفان ووجهاهما متقابلان مع اختلاس النظر إلى أسفل نحو الماء والأولاد الذين يعانون مع القارب، كما لو أنهما توقفتا لحظة واحدة فقط من باب الفضول، فبقيتا فترة أطول مما كانتا تنويان، بغرض رؤية ما سيسفر عنه هذا المشروع غير الواعد.
في حوالي الساعة التاسعة مساءً عندما خيَّم الظلام تقريبًا — خيم على من في بيوتهم، ولكنه لم يخيِّم تمامًا على من هم في الخارج — عادوا جميعًا إلى البلدة، يسيرون جنبًا إلى جنب بشارع مايو ستريت فيما يشبه الموكب. سار كلٌّ من فرانك وبود وكلايتون وهم يحملون القارب مقلوبًا رأسًا على عقب، فيما سارت إيفا وكارول من ورائهم مشيًا على الأقدام ممسكتين بدراجتيهما. اختفت رءوس الأولاد تقريبًا أسفل القارب المقلوب الذي تفوح منه رائحة الخشب المشبع بالمياه في مستنقعات المياه الباردة. كان بمقدور الفتاتين النظر إلى الأمام ورؤية أضواء الشوارع في عاكسات الضوء بدراجتيهما، عقد من الأنوار يمتد بطول شارع مايو ستريت، وصولًا إلى الصنبور، ثم انعطفوا إلى شارع بيرنز ستريت متجهين إلى منزل كلايتون، أقرب منزل ولد فيهم. لم يكن هذا الطريق يصل إلى بيت إيفا ولا كارول، ولكنهما واصلتا السير مع الأولاد، ربما كان الأولاد مشغولين في حمل القارب لدرجة أنهم نسوا أن يقولوا لهما هيا اذهبوا بعيدًا. كان بعض الأطفال الصغار لا يزالون في الخارج يلعبون، يلعبون الحجلة على الرصيف بالرغم من صعوبة الرؤية؛ ففي هذا الوقت من السنة كان الرصيف المكشوف لا يزال شيئًا بديعًا يدخل السرور على الأطفال. أفسح هؤلاء الأطفال الطريق وشاهدوا القارب يمر من أمامهم مشيعيه بنظرة تنمُّ عن الإكبار؛ ثم صاحوا مرددين الأسئلة في إثره، رغبة منهم في معرفة من أين جاءوا به وما سيفعلونه به. لم يجِبهم أحدٌ. رفض أيٌّ من إيفا أو كارول أو الأولاد إجابتهم أو حتى النظر إليهم.
دخل خمستهم فناء بيت كلايتون، وتوقف الأولاد وكأنهم يهمُّون بإنزال القارب عن أكتافهم؛ فسارعت كارول قائلة:
«يستحسن أن تحملوه إلى الخلف بحيث لا يراه أحدٌ.» وكان هذا أول ما قاله أحدهم منذ أن دخلوا البلدة.
لم يَقُل الأولاد شيئًا ولكنهم واصلوا المسير متخذين ممرًّا موحلًا بين بيت كلايتون وسور خشبي مائل، وتركوا القارب في الحديقة الخلفية.
قالت لهم إيفا في محاولة منها لتشتيت انتباههم: «تعلمون أنه قارب مسروق. لا بد أنه ملكٌ لأحدهم، وأنتم سرقتموه.»
فرد عليها بود لاهثًا: «أنتما إذن من سرقه؛ فأنتما من رآه أولًا.»
«ولكن أنتم من أخذه.»
«نحن جميعًا متورطون إذن. إذا وقع أحدنا في مشكلة فهذا يعني أننا كلنا واقعون في نفس المشكلة.»
تساءلت كارول: «فهل ستخبرون أحدًا بما حدث؟» فيما كانت هي وإيفا تهمان بركوب دراجتيهما للعودة إلى المنزل عبر الشوارع الغارقة في الظلام بين الأضواء والحفر التي خلَّفها الشتاء.
«الأمر يرجع إليكما. أنا لن أخبر أحدًا إن لم تفعلا أنتما.»
«وأنا لن أخبر أحدًا إن لم تفعلوا أنتم.»
ركبتا دراجتيهما في هدوء وهما تشعران أنهما تخليتا عن شيء ما، ولكن دون سخط.
•••
بفناء بيت كلايتون الخلفي كان هناك الكثير من القوائم لدعم السور الخشبي، أو لمحاولة دعمه، وعلى تلك القوائم أمضت إيفا وكارول عدة أمسيات جلوسًا، بمرح ولكن ليس بشكل مريح للغاية، أو تكتفيان بالاتكاء على السور في حين يعمل الأولاد على إصلاح القارب. خلال أول أمسيتين كان أطفال الحي ينجذبون لأصوات الدق محاولين الوصول إلى الفناء لمعرفة ما يجري، ولكن إيفا وكارول كانتا تسدان عليهم الطريق.
«من قال لكم أن تأتوا إلى هنا؟»
«نحن جئنا بأنفسنا وحسب.»
غدا المساء أكثر طولًا، وصار الهواء أكثر اعتدالًا. بدأ الأطفال يلعبون نط الحبل على الأرصفة. كذلك على طول الشارع كان هناك صف من شجر القيقب الصلب الذي كان هدفًا للأطفال؛ حيث يشربون سوائله بمجرد سقوطها في الدلاء. أما الرجل والمرأة العجوزان اللذان يمتلكان الأشجار، واللذان يعتزمان صنع شراب القيقب، فكانا يهرولان من المنزل محدِثَيْن ضجة كما لو كانا يحاولان إخافة الغربان. وأخيرًا، وفي كل ربيع، يقف الرجل العجوز في شرفة منزله ويطلق النار من بندقيته في الهواء، ومن ثم يتوقف الأطفال عن سرقتهما.
لم يكلِّف أحدٌ ممن يعملون على إصلاح القارب نفسه عناءَ سرقة الشراب، مع أن هذا كان ديدنهم الموسم الماضي.
كانوا يجمعون الأخشاب اللازمة لإصلاح القارب من هنا وهناك من الممرات الخلفية. ففي هذا الوقت من العام تتوافر الأشياء في شتى الأرجاء؛ من ألواح خشبية وفروع أشجار وقفازات مشبعة بالماء وملاعق جرفتها مياه غسل الصحون وأغطية علب الحلوى، وكل الحطام الذي يمكن أن يسلم وينجو من فصل الشتاء. هذا وقد استعانوا بأدوات من قبو كلايتون — التي يفترض أنها كانت ملك والده قبل وفاته — ومع أنه لم يكن هناك من يقدم لهم المشورة، إلا أن الأولاد بدوا على معرفة بكيفية بناء القوارب، أو إعادة بنائها. كان فرانك يستعين بالرسومات من الكتب ومجلة بوبيولار ميكانيكس. كان كلايتون ينظر في تلك الرسومات ويستمع لفرانك وهو يقرأ التعليمات؛ ومن ثم ينطلق مقررًا تنفيذ ما يجب فعله بطريقته الخاصة. أما بود فكان أبرعهم في نشر الخشب. فيما اكتفت إيفا وكارول بالفرجة من عند السور موجهتين النقد ومفكرتين في أسماء للقارب، مثل: زنبق الماء، حصان البحر، ملكة الفيضانات، وأخيرًا كارو-إيف على اسميهما؛ لأنهما هما من عثرتا عليه. ولم يُبدِ الأولاد رأيهم في أي الأسماء نال إعجابهم من بين تلك الأسماء، إن كان أيٌّ منها نال إعجابهم من الأساس.
كان يجب طلاء القارب بالقطران. أخذ كلايتون يسخِّن وعاء القطران على موقد المطبخ، ثم أحضره خارجًا وأخذ يدهن القارب ببطء، متوخيًا الدقة، وجالسًا منفرج الساقين فوق القارب المقلوب، فيما كان الولدان الآخران ينشران لوحًا من الخشب لصنع مقعد جديد. فقد القطران حرارته واكتسب ثخانة، حتى إن كلايتون لم يستطِع تحريك الفرشاة به أكثر من ذلك، فالتفت إلى إيفا وناولها الوعاء، قائلًا: «ادخلي المنزل لتسخين هذا الوعاء على الموقد.»
أخذت إيفا الوعاء وصعدت السلم الخلفي. بدا لها المطبخ حالك السواد بعد مجيئها من الخارج، ولكن لا بد أنه كان مضيئًا بما يكفي لأن يرى المرء بداخله؛ نظرًا لأن أم كلايتون كانت تقف على طاولة الكي وتكوي. كانت تفعل ذلك من أجل لقمة العيش، حيث تقوم بالغسيل والكي.
«رجاء سيدتي، هل يمكنني وضع وعاء القطران على الموقد؟» قالتها إيفا بأدب جم، ولا عجب فقد تربت على احترام الكبير، حتى المشتغلات في الغسيل والكي، فلسبب ما أرادت ترك انطباع إيجابي لدى والدة كلايتون.
أجابتها والدة كلايتون، قائلة: «عليك إذن أن تكبسي الموقد حتى تشعلي النار.» وكأنها تشك في أن إيفا تعرف كيف تفعل ذلك، إلا أن إيفا فهمت المراد، وأمسكت غطاء الموقد وأخذت المكبس وظلت تكبس حتى أوقدت اللهب، ثم شرعت تقلب القطران حتى خف قوامه؛ مما جعلها تشعر بالسعادة عندئذٍ وفيما بعد. قبل أن تخلد إلى النوم طاف في خيالها صورة كلايتون؛ رأته يجلس منفرج الساقين فوق القارب، يدهنه بالقطران بهذا التركيز، والدقة، والاستغراق. فكرت فيه وهو يتحدث معها، من منعزله، بتلك النبرة الآمرة ولكن بشكل عفوي مسالم لا تملك إلا أن تستجيب له.
•••
في الرابع والعشرين من مايو، وهو يوم عطلة من المدرسة في منتصف الأسبوع، حمل الأولاد القارب خارج البلدة، قاطعين الآن شوطًا طويلًا عبر الحقول والأسوار التي تم إصلاحها، إلى حيث تدفق النهر بين ضفافه الطبيعية. تناوب كلٌّ من إيفا وكارول، وكذلك الأولاد، حمل القارب، الذي انطلق في الماء من بقعة قاحلة داستها الأبقار بين شجيرات الصفصاف التي أنبتت وريقاتها حديثًا. ذهب الأولاد أولًا، وصاحوا صيحة النصر عندما طفا القارب، وجرى مع تيار النهر على نحو مثير للدهشة. كانوا قد دهنوه باللون الأسود من الخارج، وباللون الأخضر من الداخل، مع دهان مقاعده باللون الأصفر، فيما أحاطوه بخط أصفر على طول محيطه من الخارج. لم يكن عليه أي اسم على كل حال؛ إذ رأى الأولاد أنهم ليسوا بحاجة لتسميته لتمييزه عن القوارب الأخرى في العالم.
ركضت إيفا وكارول على طول الضفة، حاملتين حقائب مليئة بشطائر زبدة الفول السوداني والمربى والمخللات والموز وكعك الشوكولاتة ورقائق البطاطس ومقرمشات جراهام، إضافة إلى شراب الذرة وخمس زجاجات كولا لتبريدها في مياه النهر. كانت الزجاجات تصطدم بأرجلهما. صاحتا إنه دورهم، وصرخت كارول حانقة:
«إن لم يعطونا دورنا فما هم إلا أوباش.» ثم صاحتا معًا: «نحن من وجدتاه! نحن من وجدتاه!»
لم يَرُدَّ عليهما الأولاد، ولكن بعد فترة من الزمن جاءوا بالقارب ليجدوا كارول وإيفا تهرولان إليهم وتسألانهم:
«هل تسرَّب إليه الماء؟»
«كلا، لم يتسرَّب إليه الماء حتى الآن.»
فصرخت كارول: «لقد نسينا علبة نزح الماء.» إلا أنها قفزت في القارب مع إيفا، ودفعهما فرانك، صائحًا: «مرحبًا بكما في القبر المائي!»
مشكلة الركوب في قارب ليست أنه يتمايل بقوة، مثل جذوع الأشجار، ولكن مشكلته أنه مقعر، ومن ثم فإن ركوبه لا يعني أنك فوق شيء في الماء، بل يعني أنك في الماء نفسه. سرعان ما تناوبوا ركوب القارب في أدوار مختلفة: صبيَّان وفتاة، فتاتان وصبي، فتاة وصبي، حتى اختلط عليهم الأمر وبات من المستحيل معرفة من عليه الدور ليركب. وعلى أي حال لم يُلقِ أحدٌ بالًا لتلك المسألة. دخلوا في أعماق النهر فيما أخذ هؤلاء الذين لم يركبوا يركضون على طول الضفة حتى لا يبعدوا عنهم. مروا تحت جسرين أحدهما حديدي والآخر أسمنتي. ذات مرة رأوا سمكة شبوط كبيرة مسترخية — بدت وكأنها تبتسم لهم — في المياه التي ينعكس عليها ظل الجسر. لم يعرفوا كم أبحروا في النهر، ولكن التضاريس تغيرت؛ إذ أمست المياه أكثر ضحالة، فيما أخذ القاع شكلًا مسطحًا. وعبر حقل خالٍ رأوا مبنًى بدا وكأنه منزل مهجور. فما كان منهم إلا أن سحبوا القارب خارج الماء وربطوه على الضفة وانطلقوا عبر الحقل.
قال فرانك: «تلك هي المحطة القديمة، إنها محطة بيدر ستيشن.» كان الآخرون قد سمعوا بهذا الاسم من قبل ولكنه كان يعرفه؛ لأن والده كان وكيل المحطة في البلدة. وقال إن هذه المحطة كانت على خط فرعي تم إلغاؤه، وأنه كان يوجد مصنع لتقطيع ونشر الخشب هنا، ولكن منذ فترة بعيدة.
كان الدخول إلى هذا المكان الواسع المظلم الفارغ أمرًا يبعث على الشعور بالإثارة، لا سيما مع الضوضاء العالية لصوت تكسير الزجاج وصدى صوتهم أسفل السطح. قلبوا زجاجات البيرة القديمة على أفواهها، وهو ما ذكَّرهم بأنهم يعانون من الجوع والعطش، فقاموا بتطهير مكان في وسط الأرض وجلسوا وراحوا يأكلون وجبة الغداء. شربوا الكولا كما هي فاترة؛ أكلوا كل ما معهم ولعقوا بقايا زبدة الفول السوداني والمربى من على الورق الذي لُفَّت فيه الشطائر.
لعبوا لعبة الجرأة أو الصراحة.
«أتحداك أن تكتب على الحائط: أنا غبي أحمق، وتوقِّع باسمك.»
«قل الحقيقة، ما أسوأ كذبة نسجتها في حياتك؟»
«هل بللت فراشك من قبل؟»
«هل سبق لك أن حلمت بأنك تسير بقارعة الطريق عاريًا؟»
«أتحداك أن تخرج وتتبول على إشارة السكة الحديدية.»
فرانك هو من كان عليه أن يفعل ذلك. لم يستطيعوا رؤيته ولا حتى رؤية ظهره لكنهم تيقنوا من أنه فعلها؛ فقد سمعوا صوت بوله. جلسوا جميعًا يخيم عليهم الصمت تعلو وجوههم الحيرة وغير قادرين على التفكير في التحدي التالي.
فقال لهم فرانك من عند المدخل: «أتحداكم جميعًا، أتحداكم … جميعًا.»
«فيمَ؟»
«أن تخلعوا ملابسكم.»
صرخت إيفا وكارول.
«كلُّ مَن لا يفعل ذلك عليه أن يمشي، بل ويزحف على الأرض على يديه ورجليه.»
خيم الصمت عليهم جميعًا، حتى قالت له إيفا بنبرة تنمُّ عن الرضا تقريبًا: «ما الذي نخلعه أولًا؟»
«الأحذية والجوارب.»
«إذن، يتعين علينا الخروج أولًا؛ فهناك الكثير من الزجاج هنا.»
خلعوا أحذيتهم وجواربهم في المدخل في ضوء الشمس المبهر الذي أصابهم بالعمى المؤقت. كان الحقل أمامهم براقًا كالماء تمامًا، فأخذوا يركضون على الممرات عبره.
قالت كارول: «هذا يكفي، هذا يكفي! احذروا الأشواك!»
«قمصانكم! اخلعوا قمصانكم جميعًا!»
«لن أفعل، نحن لن نفعلها، أليس كذلك يا إيفا؟»
لكن إيفا أخذت تستدير يمينًا ويسارًا في الشمس على الممر، قائلة: «لا يهمني، لا يهمني! الجرأة أو الصراحة! الجرأة أو الصراحة!»
فكت أزرار قميصها وهي تستدير ذات اليمين وذات الشمال كأنها لم تكن تعرف ما تفعله يداها، حتى خلعته.
«السراويل!»
لم ينبس أحدٌ ببنت شفة هذه المرة، بل انحنوا جميعًا وجردوا أنفسهم من سراويلهم، وكانت إيفا أول من تعرى، ثم ركضوا في الحقل، ركضوا هم الخمسة عراة بين العشب الدافئ الواصل حتى ركبهم، ثم ركضوا نحو النهر. لم يبالوا حينئذٍ بأن يضبطهم أحدٌ وهم في هذه الوضعية، بل قفزوا وأخذوا يتصايحون للفت الانتباه إليهم، إن كان هناك من يسمعهم أو يراهم. شعروا كأنهم سيقفزون من قمة جبل ويطيرون في السماء. شعروا بأن ثمة شيئًا يحدث لهم مختلفًا عن أي شيء حدث لهم من قبل، شيئًا له علاقة بالقارب والماء وضوء الشمس والمحطة المتهالكة الغارقة في الظلام الدامس وبتفاعلهم بعضهم مع بعض. لم ينظر بعضهم إلى بعض الآن كأجسام أو بشر، بل كصرخات مدوية، وكانعكاسات؛ اتسمت جميعها بالجرأة والصخب، واكتست بالبياض، وكانت سريعة كالسهام. أخذوا يركضون دون توقف في الماء البارد، وعندما وصل إلى أعلى أرجلهم تقريبًا سقطوا فيه وأخذوا يسبحون، مما أوقف ضوضاءهم، فاعتلاهم الصمت والمتعة سريعًا؛ وأخذوا يغطسون ويطفون وينفصلون في خفة ورشاقة.
وقفت إيفا في النهر يقطر الماء من شعرها وينحدر على وجهها. كان الماء يصل إلى خصرها، فيما تقف على حجارة ملساء وقدماها متباعدتان إلى حدٍّ ما، ينساب الماء بين ساقيها. على بعد ياردة تقريبًا منها وقف كلايتون أيضًا، وكانا ينثران الماء عن عيونهما، وينظر أحدهما إلى الآخر. لم تستدِر إيفا أو تحاول الاختباء؛ كانت ترتعش من برودة الماء، ولكن أيضًا في كبرياء وخزي وجرأة وابتهاج.
هز كلايتون رأسه بقوة، كما لو أنه يريد أن يخرج منها شيئًا، ثم انحنى وملأ فمه من ماء النهر، ثم اعتدل واقفًا ووجنتاه منتفختان عن آخرهما، ثم نفث الماء عليها كما لو أنه يخرج من خرطوم، فأصابها مباشرة في أحد ثدييها ثم في الآخر. انحدر الماء من فمه على جسدها، وعندئذٍ صاح ساخرًا لرؤيته، كان صوته عاليًا بشكل غير متوقع منه؛ فنظر الآخرون من أماكنهم في المياه ثم اقتربوا للفرجة.
انحنت إيفا وانزلقت في الماء حتى غطى رأسها، ثم سبحت في اتجاه التيار، وعندما أخرجت رأسها، كانت كارول قادمة بعدها مباشرة، فيما كان الصبية على ضفة النهر بالفعل يركضون على العشب، وتظهر ظهورهم النحيلة ومؤخراتهم البيضاء المسطحة. كانوا يضحكون ويقولون أشياء بعضهم لبعض ولكنها لم تستطِع سماعهم، بسبب وجود الماء في أذنيها.
فسألتها كارول: «ماذا فعل؟»
«لا شيء.»
تسللتا إلى الشاطئ، واقترحت عليها إيفا، قائلة: «دعينا نَبْقَ خلف الأجمات حتى يذهبوا؛ فأنا أكرههم على أي حال. أكرههم حقًّا. ألا تكرهينهم أنت؟»
قالت كارول: «بلى، بالتأكيد.» ثم انتظرتا، ليس طويلًا، حتى سمعتا الأولاد ولا تزال أصواتهم صاخبة ومنتشية تبتعد رويدًا رويدًا عكس مجرى النهر حيث كانوا قد تركوا القارب. سمعتاهم يقفزون فيه وشرعوا في التجديف.
قالت إيفا، وهي تحيط جسدها بذراعيها وترتجف بشدة: «سيجدون صعوبة كبيرة في العودة عكس التيار. من يهتم؟ على أي حال فهو لم يكن يومًا زورقنا.»
علقت كارول: «وماذا لو أفشوا سرنا؟»
«سنقول إن الأمر كله كذب في كذب.»
لم تفكر إيفا في هذا الحل حتى نطقت به، ولكن ما إن فعلت حتى شعرت برعونته مرة أخرى. كما أن سهولته وسخافته جعلتهما تنفجران في الضحك، وتصفع كلاهما الأخرى وتتبادلان رش المياه مستغرقتين في نوبات من الضحك، وما إن تُرهَق إحداهما من كثرة الضحك تنفجر الأخرى ضاحكة وتبدآن نوبة الضحك من جديد. لم تستطيعا السيطرة على نفسيهما، لم تستطيعا ذلك بحق. كانتا متواجهتين وكلٌّ منهما متشبثة بالأخرى كما لو كان الفراق سيؤلمهما أشد الإيلام.