الفصل الأول
في القصر
المشهد الأول
(فرنان وحده)
وَيلَاهُ من حُكمِ القضاءِ فسهمه
أصمى الفؤادَ ومزَّق الأحشاءَ
لم يبقَ لي عضدًا يفرِّجُ كربتي
ويذودُ عنِّي الضُّرَّ والبلواءَ
يا ليتني ذُقتُ المنونَ ولَم أُصَبْ
فيما يُذيبُ الصَّخرَةَ الصَّمَّاءَ
لقد صرفتُ ستين عامًا عاملًا مُجتهدًا، فجمعت ثروةً وافرة وشيَّدتُ هذا القصر
الشَّاهق، ولم أتنعَّم به بضع سنين حتَّى فَجَعَنِي الدَّهرُ بفقد ولديَّ الحبيبين، ولم
أكد أهم بخلع ثوب الحداد حتَّى أَعَادَت الأيَّامُ الكَرَّةَ، فأصابت سهامها من
أُمِّهِمَا مَقتلًا.
لقد غرقا في ريعان الشباب وشَرْخ الصبا، ولَحِقَت بهما أُمُّهُما تاركةً لي صغيرًا
لا
أدري ما يكونُ حظه من الدهر، فيا لله ما أتعس حظي!
المشهد الثاني
(فرنان – إميل)
إميل
(يدخل)
:
أبي ما بالك تبكي وما هذه الدموع؟ أكلَّمَا غبتُ عنك يعلو نُوَاحُكَ
ونحيبك؟
فرنان
:
أبكي يا ولدي أخويك الحبيبين، فتذكارهما يجرَحُ قلبي، ففي مثل هذا اليوم
غرقا، ثمَّ لحقت بهما والدتك، فما أَمَرَّ فراقهما! وسعدًا لك لأنك لم تعرفهم؛
لتذوبَ مثلي حُزنًا وحسرةً.
إميل
:
إنَّ بكاءك يا أبي يؤثِّرُ بي، فاعدل عنه إذا كنت تُحبني.
فرنان
:
إنَّ عواطف الآباء كالمرجل، لا يهمدها إذا جاشت غير قطرات الدُّموعِ، فدعني
في نحيبي فهو من الحياة نصيبي (يتأوَّهُ).
إميل
:
أبي بحقِّكَ لا تجرح فؤادي.
فرنان
:
أنت عزائي في بلائي يا مَن أبْقَتْه لي الأيَّام (يُقَبِّلهُ)، أحمدك اللهم لأنك أبقيت لي هذا الحمَل الوديع،
فاكْلأه يا ربي بعين رحمتك، واشفق على أبٍ مسكينٍ في هذه الدنيا وحيدًا! … أين
غبتَ يا ولدي في هذا الصباح؟ فقد أطلْتَ عليَّ غيابك، وأنا عاجزٌ لا أستطيعُ
النُّزُولَ والصعود على سُلَّمِ القصر العالي لأذهبَ مُفتِّشًا عنك، فلا تُطِلْ
غيابك فيما بَعْد فبُعْدُكَ يُوحِشُنِي.
إميل
:
كنت في الحديقة أسقي أزهاري، وقد أهدى إلىَّ رفيقٌ لي وردةً بنفسجيَّة
فغرسْتُها.
فرنان
:
إنَّ الورد رمز حبِّي لك، والبنفسج رمز حشمتك، فاعتنِ بهما ينميا
ويُزْهِرَا.
(إرمان يَطَأُ الأرض ليُسمع وقْع أقدام.)
إميل
:
أسمعُ وقْع أقدام.
فرنان
:
انظر يا حبيبي من القادم.
(إميل يُطِلُّ مِنَ النَّافذة.)
فرنان
:
أمُصِيبَةٌ جديدةٌ يا الله؟! فلتكن مشيئتك!
إميل
:
رجلٌ غريبٌ يا أبي هالني منظره!
المشهد الثالث
(المذكوران – إرمان)
(إرمان يدخل.)
(إميل يقفُ وَرَاءَ كرسي أبيه.)
إرمان
:
أأنت الكونت فرنان؟
فرنان
:
نعم أنا هو، فما تريد؟
إرمان
:
أتيتُ لأُريكَ سَنَدًا بيدي عَلَى ولدك الأكبر يُوسف الذي قُضِي غرقًا
(يُريه السند).
فرنان
(ينظر إلى السند ويُظهِرُ الحيرة والارتباك قائلًا)
:
خمسمائة ليرة؟ لقد وفَّيتُ كل ديون ولديَّ، وتتبَّعتُ قيود دفاترهما
الخصوصيَّة، فرأيتها مُنطبقة أتمَّ الانطباق على كلِّ مَا طَلَبَهُ النَّاسُ
منِّي، ولم أعثر على ذِكْر هذا المبلغ في أوراقهما، فما هذا الطلب
الجديد؟
إرمان
:
نحن يا حضرة الكونت لا نطلُبُ إِلَّا ما لنا، فإذا كُنتَ مِن رجال المروءة
دفعْتَ لنا القيمة، وكُنَّا لَكَ من الشَّاكرين.
فرنان
:
يعلمُ الله أنني لم أهضِمْ حق أحد، والناس أجمع يعلمون أنَّنِي رجلٌ غير
متمسِّكٍ بحطام الدنيا، وأعلمُ علم اليقين أنَّ من يأكل أموال النَّاس يُغْضِب
الله، ويعز عليَّ كثيرًا أن أُرجِعَ إليكَ سَنَدَكَ وأرفض دفْع قيمته؛ لأنَّنِي
لا أعتقدُ صِحَّتَهُ.
إرمان
:
أأنا مُزوِّرٌ أيها الشيخ الخرف؟! نعم أنا مذنب؛ لأنني لم أَدَعْ ولديك
يموتان جوعًا في غربتهما، لقد دفعتُ لهما ما طلباه منِّي؛ لاعتقادي أنك رجل
فاضل تُقابل الجميل بالعرفان، فيا خيبة الأمل!
فرنان
:
لا تَجْرَحْني بكلامك القارص.
إرمان
:
ادفع لي إذن قيمة السند، فأنصرِفُ حامدًا لَكَ شاكرًا همَّتك.
فرنان
:
لو اعتقدتُ بصحَّة دعواك، دفعتُ لك بدون تعليل.
إرمان
:
أنا أَصْدَق منك وفي غنًى عن الاحتيال، فادفع مالي وأنت الرَّابح.
فرنان
(إلى إميل)
:
اذهب يا بني إلى الحديقة، واعْتَنِ بأزهارك ولا تَعُدْ حتى أدعوك.
(إميل يخرج.)
فرنان
:
هذا مُحالٌ؛ فتوقيعُ السَّنَدِ مُزوَّرٌ ولَم يُكتَب بيدِ ابني.
إرمان
:
يا لَكَ شيخًا وقحًا، أتظنُّ أنَّ هذا الادعاء الكاذب يُقنعني؟! ادفع لي
القيمة الآن وإلَّا …
فرنان
:
وإلَّا … ماذا تصنع؟! افعل ما بدا لك، فأنا لا أخاف بروقك ورعودك.
إرمان
:
نعم، إنَّ مَن كان لئيمًا مثلك يعدُّ الإهانة أمرًا هيِّنًا.
فرنان
:
إن اللؤم مجسَّمٌ في كلامك البذيء، ومن لا يحترم الشيخ العاجز لهو اللئيم
الساقط.
إرمان
:
لَعَنَ اللهُ مشيبًا لا يَفُوه إلَّا بالسفالة، ادفع لي المبلغ فقد سئِمتُ
مُجادلتك، ادفع وإلَّا قتلتك …
المشهد الرابع
(المذكوران – القهرمان)
لويس
(يدخل)
:
ما هذا الصياح؟ وماذا تريدُ يا رَجُل؟
إرمان
:
أتيتُ أتقاضى مولاك دَيْنًا لي عَلَى ولده يُوسف فأبى دَفْعه لي، وهذا هو
السند.
(لويس يراه.)
فرنان
:
إنَّه مُزوَّرٌ يا لويس، ألم تَرَ كذلك؟
لويس
:
نعم مولاي، نعم.
إرمان
:
وأنت تزعم أيضًا زعْم مولاك؟ قبَّحَكُما الله.
لويس
:
ويْحك يا وغد، أفي بيتنا تمسُّ كرامتنا بلواسع كلامك؟! اخرج يا نذل (يصفعه ويُخرجه بالقوَّةِ).
فرنان
(يرفع يده إلى السماء)
:
شكرًا لك يا الله، يا من لا تترك عبدك في أحرج الأزم.
لويس
:
لقد طردْتُه طرْد الكلاب، وهذا عقابُ السَّفَلَةِ الرعاع.
فرنان
:
آه يا لويس، كم لك من الأيادي البيضاء!
لويس
:
لقد استرحنا من ثقالته.
فرنان
:
هل لنا شيء جديد في صندوق بريد اليوم؟
لويس
:
نعم، لدي لك رسالة أَشْغَلَنِي عن تقديمها لك ما جرى لنا، فتفضَّل.
فرنان
(يفض الكتاب ويقرأه ثم يصرخ)
:
ويلاه. ما هذا المصاب الجديد؟ لقد مات أخي، أخي القائد الباسل قُضِيَ في
الحرب.
فيا عينُ سحِّي الدَّمع وابكي على فتًى
فَقَدْتُ بفقداني له السيد السندْ
قضى فقَضَتْ آمالنا اليوم بعده
فيا موتُ زُرْني فالفِراقُ إلى الأبدْ
لويس
:
مولاي تصبَّر وتجلَّد، وأشفق على ولدك الصغير، فهو يذوبُ حُزنًا إذا رآك
باكيًا.
فرنان
:
اذهب يا لويس، وعُد بِهِ إليَّ، علَّ لي به بعض العزاء.
(لويس يخرج.)
المشهد الخامس
(فرنان وحده)
ويْح الزمان فقد أَطَلْتَ جفاكا
وقضى ترجِّينا ليوم لقاكا
يا أَوحَدَ القوَّاد غير مُدافع
من ذا يُدَافِعُ عن أخيكَ سِوَاكا
في خِدمة الأوطان أجر مُجاهدٍ
قد حزت واحترمَ العدوُّ لواكا
يا ليت هذا الدهر كَانَ مُحقِّقًا
أملي وكنتُ أخي الحبيبَ فداكا
أبقى لتعذيبي على شيخوختي
دهري وفجَّعَني بفقد صباكا
ويلاهُ مِن هذا الزَّمَان وجوره
أتراهُ يسعفني بحمل جفاكا
أأخي ويا أسفي على فقدي أخي
نَصَبَ المنون لصيده الأشراكا
إنِّي أنوحُ عليك عمري باكيًا
وتلذ لي في خلوتي ذكراكا
لا زالت الرحمات فوقك هتنًا
ومدامعي أبدًا تبلُّ ثراكا
المشهد السادس
(فرنان – لويس)
لويس
(يدخل)
:
ما هذه المصيبة الجلَّى، فإميل غير موجود، ومسقاته مُلقاةٌ على جانب النَّهر،
وقد فتَّشتُ عنه في الحديقةِ فلم أَجِدْهُ.
فرنان
:
ربَّاهُ رحمتك! عُد يا لويس وفتِّش عنه، عجِّل وعُد إِليَّ ببُشرَى تُفَرِّجُ
كُربتي.
(لويس يهمُّ بالخروج فيلتقي بأحد الفتيان داخلًا
فيرجِعُ.)
المشهد السابع
(المذكوران – الرَّاعي)
الرَّاعي
:
مولاي الكونت، قد وجدتُ هذه القُبَّعَةَ طَافِيَةً على مياه النَّهر
فالتقطتُها، وقد عرفتُ أنها قبعة سيدي إميل.
فرنان
:
ربَّاه! لقد مات … (يُغمَى عليه).
(يرخَّى السِّتَار.)