تصدير

هذه هي الترجمة العربية الكاملة للطبعة الثانية المزيدة الصادرة عام ١٩٩٥م من كتاب «الاستشراق» للمفكرِ العالمي والناقد الفذِّ «إدوارد سعيد»، وهي التي نشرَتها دارُ بنجوين (Penguin) العالمية، وكانت الطبعة الأولى للكتاب قد صدرَت عام ١٩٧٨م عن دار رتلدج وكيجان بول (Paul Routledge & Kegan)، ثم أُعيد إصدارها دون تنقيح أو زيادة عام ١٩٨٥م عن دار بيرجرين (Peregrine)، وبعدها نشرَتها كما هي دار بنجوين عام ١٩٩١م، وإذن فإن الطبعةَ الجديدة المزيدة هي التي تُعتبر الطبعةَ الثانية حقًّا من حيث المضمون، وهكذا رأيتُ مثلما رأى الناشرُ أنَّ من حقِّ القارئ العربي أن يطَّلعَ على آخر صورة للكتاب الذي وضعه هذا العبقري! ولا شك أنه يَهُمُّ كلُّ عربيٍّ في هذه الأيام، بعد أن خُصِّصَت له مئاتُ الدراسات في الغرب وفي الشرق، وهي التي تتفاوت ما بين الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي اتخذَت صورةَ الرسائل العلمية الجامعية، وما بين الدراسات الثقافية العامة في صورة الكتب والدراسات المتفرقة، وقد أمدَّتني الباحثة وفية حمودة، من جامعة طنطا، بعددٍ هائل من هذه وتلك، عكفَت عليها في الشهور الأخيرة أَقْرؤها وأُحاول استيعابها قبل الترجمة وأثناءها وبعدها، ويكفي أن أذكر أن ملخصاتها وحدها تملأ مجلدًا كاملًا. وسوف أُشير عرضًا إلى أن باحثينا الأكاديميِّين في مصر ساهموا بقسط كبير في هذا المجال، فكان من نصيب جامعة القاهرة رسالتان، قُدِّمت الأولى عام ٢٠٠٠م في قسم اللغة الإنجليزية، وقدَّمتها الباحثة منى سامي، عن المدخل الثقافي للسياسة عند «إدوارد سعيد»، والأخرى عام ٢٠٠٥م عن استجابة العالم العربي لفكر «إدوارد سعيد» مع التركيز على كتاب «الاستشراق»، وقدَّمها الباحث «محمود عبد الحميد محمود محمد»، في قسم اللغة الإنجليزية أيضًا، وتتضمن قائمة ببليوغرافية شبه كاملة، وكان من نصيب جامعة جنوب الوادي رسالة قدَّمها في عام ٢٠٠٠م الباحث «سمير أحمد عبد النعيم» في قسم اللغة الإنجليزية كذلك بعنوان: «النظرية النقدية عند إدوارد سعيد» كما أصدرت الجامعة الأمريكية بالقاهرة عددًا خاصًّا من مجلة: «الأدب المقارن» «ألف» (رقم ٢٥) بعنوان «إدوارد سعيد والتفويض النقدي للاستعمار»، وهو عددٌ رائع يتضمن قسمًا بالعربية وآخر بالإنجليزية، شارك فيهما نخبةٌ من كبار المثقفين العرب والأجانب، ويتضمن قائمة ببليوغرافية منتخبة لأعمال «إدوارد سعيد» وترجماته وما كتب عنه. كما أصدرت مجلة «سطور» الشهرية كتبًا مترجمة عنه، ونُشرت لهذا المفكر ولا تزال تنشر دراسات كتبها هو أو كتبت عنه، هذا إلى جانب ما كتبَته عنه كبار المجلات الثقافية في مصر، ولا أظنني بحاجة إلى تعدادها.

وإزاء هذا الكم الهائل من المادة العلمية المتاحة عدلتُ عن محاولة تلخيص ما جاء فيها — كلها أو بعضها — أو حتى عن عرض أهم تياراتها في هذا التصدير، اكتفاءً بما فعله غيري، فليس التصدير المكان المناسب للعرض أو التلخيص، لكنني سوف أتناول فيه مسألتَين مهمَّتَين؛ الأولى هي: من هو «إدوارد سعيد» (لمن لا يعرفه من القراء العرب، ومن الشباب خصوصًا)، والثانية هي: لماذا أُقدِّم الآن ترجمة جديدة وبين أيدينا الترجمة المشهورة التي قدمها كمال أبو ديب منذ ربع قرن؟ وسوف أبدأ بالإجابة عن السؤال الثاني؛ لأنه الأصعب وإن لم يكن الأهم.

قلت في مطلع التصدير إن هذه ترجمة للطبعة الثانية المزيدة الصادرة عام ١٩٩٥م، وفيها يُضيف «إدوارد سعيد» فصلًا كاملًا — أسميتُه تذييلًا — عن وَقْع كتاب: «الاستشراق» في العالم الغربي وغير الغربي معًا، ويُعيد النظر في بعض المسائل التي رأى أنها تحتاج إلى إعادة نظر، ويردُّ فيها على بعض نقَّاده وما تعرض له كتاب «الاستشراق» من قبول أو رفض، في الغرب خصوصًا، بعد انقضاء أكثر من خمسة عشر عامًا على نشر الطبعة الأولى، وهذا في ذاته مبررٌ كافٍ لتقديم الكتاب «الجديد» للقارئ العربي، ولكنه ليس المبرر الوحيد. فالواقع أن اللغة العربية المعاصرة التي نترجم بها الكتب الأجنبية لغةً حية متطورة ما تفتأ تتغير، ولقد شهدَت هذه اللغة من التغيرات في ربع القرن الماضي ما لم تشهده على مدار ما يقرب من قرن كامل، وأكاد أقول منذ «أحمد فارس الشدياق»، صاحب: «الجوائب»؛ المجلة التي كان يُصدرها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ويُقدِّم فيها الترجمات الجديدة للمصطلحات الحديثة التي أصبحت اليوم على أفواه الجميع. ففي الربع الأخير من القرن العشرين اعترف العالم بأن اللغة العربية لغة عالمية وأصبحت من اللغات الأساسية (الست) في الأمم المتحدة، وانتشرَت المصطلحات الجديدة؛ إما عن طريق التعريب أو عن طريق الترجمة، ودأب أرباب اللغة العربية على تنقيحها وتشذيبها وإشاعتها، وساهمت الصحافة في ذلك الجهد حتى وصلنا إلى ما يقرب من ثبات معاني المصطلحات الجديدة في العربية التي تُثبِت يومًا بعد يوم مدى حيويَّتِها وطواعيتها وسلاستها وقدرتها على الإبداع والتجديد. ولا شك أن مولد مصطلح جديد — أي مصطلح جديد — ليس يسيرًا في كل الأحوال؛ فالمتخصصون يجتهدون ويطرحون ما يرونه على الجمهور، فإن قَبِله اللسان، وقَبِلَته الأُذُن، شاع واستقر، ولم يَعُد عليه خلاف، وهذا جهدٌ قد يستغرق سنوات طويلة في كل الأحوال وفي كل لغات العالم، وكذلك في اللغة العربية، بطبيعة الحال، ولكن سرعة التغير في ربع القرن الأخير كانت غيرَ مسبوقة، سواء في أحداث العالم من حولنا أو في فنون الترجمة والتعريب واللغة العربية المعاصرة، ولن أُفيض في هذا الحديث الذي خُصِّصت له كتبًا كاملة في الفترة من ١٩٩٣م (تاريخ صدور الطبعة الأولى لفن الترجمة) إلى ٢٠٠٣م (تاريخ صدور نظريات الترجمة الحديثة) كما تناولتُه تفصيلًا في الفصول الأولى من كتابي: «المصطلحات الأدبية الحديثة» ١٩٩٦م، فكل ما أريد أن أقوله هو أن لدينا الآن، بفضل جهود العلماء العرب على امتداد الوطن العربي، لغة عربية معاصرة تتميز بالوضوح والمرونة وثبات المعاني الجديدة.

وهكذا، فإذا كان من حقِّ كلِّ عصر أن «يقرأ» فكرَ «الماضي» وآدابه على ضوء مفاهيمه الجديدة المعاصرة، وكان من حقِّ العربي أن «يقرأ» ما آل إليه من «السلف» على ضوء مفاهيمه الجديدة التي يتوسَّل فيها باللغة العربية المعاصرة، فإن من حق العربي أيضًا أن يُعيد ترجمةَ الآثار الفكرية والأدبية المهمة إلى هذه اللغة المعاصرة، وإذا كان ذلك لا يُرى بوضوح في الماضي إلا فيما بين «العصور» المتفاوتة، بسبب «بطء» التغير فيما بين تلك العصور في العالم العربي وفي الوطن العربي، فإنه يُرَى الآن بوضوح ما بين الأجيال التي قد لا يزيد عمرها من الزاوية الزمنية الصرفة عن ربع قرن، بسبب سرعة التحولات التي شهدها العالم الحديث وشهدَتها العربية المعاصرة. وأذكر أنني قلت ذات مرة إنَّ من حقِّ كلِّ جيل أن يُترجم آثار «الماضي» إلى لغةٍ يفهمها أبناء العصر، وكان تعريف «الماضي» ينحصر يومًا ما في الأزمنة السحيقة، ولكنه أصبح يشمل الآن أعمالًا لم يمضِ عليها سوى نصف قرن أو ربع قرن.

أضِف إلى هذا أنني أُومِن بأن المترجم «مفسر»، ومعنى «التفسير»، هو تحويل الفكرة إلى لغة العصر، وهو يقترب اقترابًا كبيرًا إذن، من مفهوم «الشرح» الذي يقدمه بازل ويلي، وإن كان يختلف عنه في أننا نُطلق على «الترجمة» لفظةَ «التفسير» أو «الاجتهاد» (interpretation) بمعنى تقديم «المعنى» بالصورة التي يفهمها أبناء العصر، أو أبناء الجيل في هذه الأيام؛ ولذلك فربما تعدَّدَت «صور» نصٍّ كلاسيكيٍّ من عصر إلى عصر بل ومن جيل إلى جيل، مثلما نتوقع أن تختلف «رؤية» نصوص هذا الجيل في عيون الأجيال اللاحقة. أي إنه مثلما يختلف القُرَّاء والنقَّاد هذه الأيام في «فهمهم» — بمعنى «تفسيرهم» — لآراء «إدوارد سعيد»، والدليل على ذلك قائم في تعدد «المفاهيم» أو «التفاسير» التي قدَّمها القرَّاء والنقاد لكتاب الاستشراق على مدى ربع القرن الأخير، سواء في البلدان «الغربية» أو البلدان «الشرقية»، فإن المترجمين يختلفون في فهمهم لنصوص «إدوارد سعيد» وأساليب تقديم صور هذا الفهم إلى قُرَّاء اللغة المترجَم إليها. فإذا أخذنا في اعتبارنا أن المفكر إدوارد سعيد ذو أسلوب خاص به، بل أصبح علَمًا عليه ولا يكاد يشاركه أحد فيه؛ خصوصًا لأنه باحث أدبي في المقام الأول، ولأنه يُكثِر من الاعتماد على النصوص الأدبية إلى جانب النصوص «الثقافية» وينطلق في دراسته العلمية من مناهج البحث العلمية في النقد الأدبي، وأن هذا الأسلوب الخاص يمثِّل صعوبةً خاصة للقارئ حتى في البلدان الناطقة بالإنجليزية، بسبب كثرة استدراكاته (والاستدراك من صفات الكتابة العلمية في العلوم الإنسانية التي يصعب فيها التعميم وإصدار الأحكام المطلقة) وبسبب كثرة ميله إلى «التحرز» العلمي في القول، وتوسله في الصياغة بكل ما تُتيحه اللغة من مبانٍ متداخلة مركَّبة، وحفوله بظلال المعاني التي تُكسِب معانيه «الرئيسية» ثراءً وجمالًا، أقول إذا أخذنا كل ذلك في اعتبارنا أدركنا سرَّ ما اشتكى منه قُرَّاء العربية (مثل قرَّاء الإنجليزية) من «صعوبة» نصوص «إدوارد سعيد».

بدأتُ اهتمامي بترجمة «إدوارد سعيد»، بعد ترجماتي ﻟ «شيكسبير وميلتون وبايرون» في الأعوام الأربعة الأخيرة، بكتاب يمثِّل الفترة الأسلوبية «الصعبة» عند «إدوارد سعيد»، وهو: «تغطية الإسلام» في عام ٢٠٠٥م، وأردفتُه بكتاب أيسر أسلوبًا، ويمثِّل مرحلةً لاحقة لدى هذا الكاتب الكبير، هو «المثقف والسلطة»، وعندما أقبل القراء العرب على ترجمتي لهما وتقبَّلوهما بقبول حسن، أحسستُ أنني وجدت السبيل الصحيح «لمعالجة» «الاستشراق»، فتوفرتُ على ترجمته بإخلاص ودأب، مؤمنًا بأنني أُخاطب القارئ العربي اليوم، وأن مهمَّتي تنحصر في أمرين: الأول هو النقل الواضح لأفكار «إدوارد سعيد»، مهما كلَّفني ذلك الوضوح من عناء في إعادة صوغ بعض التراكيب الخاصة باللغة الإنجليزية حتى تستسيغَها الأُذُن العربية، والثاني هو الحفاظ — في حدود أعراف الفصحى المعاصرة — على السمات المميزة لأسلوب «إدوارد سعيد»، وهي التي ألمحتُ إليها بإيجاز في الفقرة السابقة؛ حتى يظلَّ أسلوب الكاتب علَمًا عليه بالعربية، مثلما هو علَمٌ عليه بالإنجليزية، وهما أمران متلازمان.

ففي سبيل الوضوح لجأتُ في المخطوط الأول للترجمة إلى وضع «الإضافات» الطفيفة الشارحة لبعض ما قد يجده القارئ العربي غامضًا أو غير مألوف بين أقواس، ثم وجدتُ أن «أقواسي» قد تختلط مع أقواس المؤلف — فعباراته الاعتراضية تنهض بدورٍ أساسيٍّ في المعنى؛ سواء وضعها بين شرطتَين أو بين قوسَين — فعدلتُ عن مقصدي الأول وحذفتُ ما كنت وضعتُه من أقواس، وجعلتُ هذه الإضافات الطفيفة جزءًا لا يتجزَّأ من النص العربي؛ فمثلًا عندما يقرأ القارئ الغربي اسمَ «الجمعية الشرقية» الفرنسية مكتوبًا بالفرنسية لن يحتاج إلى وصفها بأنها فرنسية، وقِس على ذلك أسماءَ بعض المدن التي يعرفها القارئ الأوروبي وقد لا يعرفها العربي متوسط الثقافة، أو أسماء بعض الأدباء الأجانب ودلالاتها، وهكذا دأبتُ على تعديل الصوغ بما يُلائم تعديل «المخاطَب»؛ بحيث يَصِل المعنى المقصود إليه دون غموض، قدرَ الطاقة، وهكذا فإن الأقواس الواردة في نصِّ «إدوارد سعيد» أقواسه هو، وأما علامات الفصل والوصل أو «الترقيم» (punctuation) فهي تتغير، بطبيعة الحال، بتغيُّر اللغة؛ فلكلِّ لغةٍ تقاليدُها في الكتابة، ومن العبث، مثلًا، استخدام شرطة قبل جملة صغيرة أو عبارة طارئة مضافة؛ فالشرطة لا بد لها من شرطة أخرى تضمن اعتبارَ ما بينهما جملة معترضة للسياق. وأما التقاليد «الترقينية» التي ثبتَت في الفصحى المعاصرة، مثل استخدام النقط للدلالة على كلام محذوف، أو ترك مسافة قليلة للدلالة على بداية الفقرة، أو الدخول بالهامش قليلًا عند اقتطافِ قولٍ لكاتب آخر، فقد حافظت عليها بدقة، محافظتي على علامات الجمل الاعتراضية.

وبهذا كلِّه أرمي إلى أن تتمتع هذه الترجمةُ بقدر لا بأس به من الوضوح، على ما أُراعيه فيها من التزام الدقة إلى أقصى حدٍّ ممكن، ولم يكن هذا أو ذاك بإمكاني قبل فترة التدريب على ترجمة أسلوب «إدوارد سعيد» في الكتابَين اللذَين ذكرتهما، وبطبيعة الحال قبل أن تتوافر في اللغة العربية المعاصرة ما تزخر به اليوم من المصطلحات العلمية العربية الجديدة. وأما إذا كانت دقة التعبير عن فكرة معقدة عند الكاتب تقتضي بناءً عربيًّا لا يتمتع بالوضوح الكامل، فقد تحايلتُ على البناء — في سبيل الدقة والوضوح — حتى آتيَ بالمعنى المقصود بأسلوب آخر، وفي هذا ما فيه من عنَتٍ، ولكن الدقة العلمية هدفٌ نبيل، وتحقيقُه مطلوبٌ بأيِّ سبيل وبأيِّ أسلوب، ولو اقتضى ذلك التضحيةَ ببعض خصائص الأسلوب الأصلي. فأنا أرى في الكتاب فائدةً متجددة، خصوصًا في الأيام التي اشتدَّ فيها ساعدُ «العولمة» وكَثُر فيها الحديث عن «صدام الحضارات»، كما يقول «إدوارد سعيد» نفسه في الفصل الذي أضافه في هذا الكتاب.

مذهبي في الترجمة إذن أقربُ إلى «التقريب» منه إلى «التغريب»؛ فليس الهدف هو تقديم صورة «مقلوبة» للنص الأصلي بحيث تقرأ من اليمين إلى اليسار بدلًا من العكس، ولكن صورة صادقة للأفكار التي يُوردها الكتاب وقد اكتسَت أسلوبًا عربيًّا بمعنى أنها أصبحت تمثِّل ما يفهمه قارئ اليوم في هذا الكتاب معبَّرًا عنه بكلمات عربية واضحة؛ ولهذا لم أقرأ ما سبق من ترجمات ﻟ «إدوارد سعيد»؛ لأنها، حتى لو كانت حسنة، تمثِّل ما فَهِمه غيري، وفي غير هذه اللحظة، من الكتاب، أو ما عبَّر عنه غيري بألفاظٍ أو بأساليبَ قد لا تحمل المعنى نفسه لقارئ اليوم. فكل ترجمة تحمل طابع صاحبها، وهو قول لا يقتصر صدقُه على الترجمات الأدبية التي «تمثل» إلى حدٍّ بعيد مفهومَ المترجم الخاص للنص وطرائقه في التعبير عمَّا فَهِمه وقدرته على البيان، مثلما «تمثل» استجابةَ الجيل الذي ينتمي إليه، أو العصر الذي نبت فيه، لكل نص من النصوص الأدبية التي تتغير صورُها بتغير المترجمين وتغيُّر الأجيال. وأما ما أعنيه تحديدًا «بالتقريب» فهو أقرب ما يكون إلى ما يعنيه المترجم والباحث المعاصر «لورنس فينوتي» بمصطلح (domestication)؛ أي إضفاء طابع الألفة على الأفكار والصور حتى يتقبَّلَها قارئُ الترجمة في إطار مفاهيم لغته وأساليبها البيانية، وهو يختلف عن «التغريب» (foreignization) عند فينوتي الذي يعني الاحتفاظ بالمذاق الأجنبي للنص الأدبي حتى يظلَّ «أجنبيًّا» بمعنى عدم الانتماء إلى أدب اللغة المنقول إليها وخروجه عن إطارها. والسبب الذي يجعلني أرفض دعوة «فينوتي» إلى التغريب هو أنه منهج قد يصلح للترجمة فيما بين اللغات الأوروبية التي تنتمي بصفة عامة إلى ثقافة متجانسة، إن لم تكن واحدة، وتتميز بالقدرة على تبادل المصطلحات بسرعة عجيبة، فما إن أتى فوكوه الفرنسي بمصطلح «الخطاب» حتى تلقَّفَته اللغات الأوروبية الأخرى كما هو، وما إن أتى دريدا الفرنسي بمصطلح «الاختلاف والإرجاء» حتى شاع في أوروبا، بل إن أبنية العبارات أنفسها تُصوِّر مدى التوافق في البناء الفكري فيما بين هذه اللغات؛ فالثقافة المتجانسة تُيسِّر «التقارب» بصورة طبيعية فيما بينها، كما بيَّن «كاتفورد» في تحليله اللغوي للترجمة ما بين الفرنسية والإنجليزية، وكثيرًا ما كنت أُترجم العبارة الفرنسية التي أُقابلها — حتى في نص «إدوارد سعيد» نفسه — إلى الإنجليزية قبل أن أُترجمها إلى العربية، عن غير قصد، فيظهر معناها عندي بوضوح وجلاء. ولكن هذا المذهب لا يصلح فيما بين اللغات التي لا تنتمي لثقافات متجانسة، ولا شك في الاختلافات القائمة بين اللغات الأوروبية الحديثة وبين اللغة العربية التي تتمتع بتاريخ ثقافي طويل، وهو التاريخ الذي أورث ألفاظَها معانيَ متعددة، يرتبط بعضُها بالعصور التي شاعَت فيها بعض هذه الألفاظ، والتي لا يستطيع المترجم العربي أن يتجاهلَها حتى ولو كان يُحمِّلها معانيَ حديثة أو جديدة، وحتى لو كان واثقًا من أن الكثيرين من النَّشْء لا يُحيطون بها. كما أن للعربية طرائقَها الخاصة في التعبير أو في البيان، وهي التي إذا لم يلتزم بها المترجم نفَّرَ منه القارئ أو أرهقه على أقل تقدير.
أقول إنَّ صدْقَ مذهب «التقريب» الذي آخذُ به لا يقتصر على ترجمة النصوص الأدبية، بل يتعدَّاها إلى النصوص الفكرية المتخصصة، بل هو أشد ما نحتاج إليه عند ترجمة هذه النصوص التي قد تحمل أفكارًا فلسفيةً عويصة يصعب على القارئ متوسط الثقافة استيعابُها فور قراءتها، وقد تتطلب منه إعادةَ القراءة. فالانتماء الصادق إلى التراث العربي هو الذي يمكِّن المترجم من النطق بلسان عربي مبين، وكنتُ أهتدي في مسلكي بكبار أساتذة جيلنا الذين قدَّموا لنا أعوصَ الأفكار بأسلوب سلس واضح، من أحمد أمين ولويس عوض إلى محمد فريد أبو حديد وزكي نجيب محمود، بل وصاحب الأسلوب «التلغرافي» البالغ الوضوح والتأثير سلامة موسى؛ فلقد بيَّن لنا هؤلاء أن الترجمة مثل الكتابة تقتضي بذلَ الجهد في التقريب والإيضاح لا التغريب والتعمية، وهو الجهد الذي ألقيتُ عليه الضوء في كتابي بالإنجليزية (On Translating Arabic: A Cultural Approach, 2000).

وأما لماذا أكلف نفسي هذا الجهد في ترجمة كتب «إدوارد سعيد» فالواقع أنني أرى أنه جدير به بل بالمزيد؛ لأنه من القلائل، إن لم يكن الكاتب الوحيد الذي خاطب الغرب بلغته ومنهجه العلمي الحديث، فكشف الغطاء عمَّا يتخفَّى بقناع الثقافة والدراسة العلمية من مواقف سياسية لا ترمي إلا إلى تحقيقِ مطامعَ أو مصالحَ ماديةٍ صرفة، وبهذا ساهم في توطيد الهيكل الحالي لما يسمَّى ﺑ «النقد الثقافي» أو المدخل الثقافي في النقد الأدبي، وهو الذي يربط بين الأدب والكتابة والدرس بصفة عامة، وبين النزعات البشرية المنحطة التي يدينها الغربيون بألسنتهم ويؤيدونها في قلوبهم وأفعالهم حتى العصر الحالي بل حتى هذه اللحظة؛ مثل النزعة العنصرية، والتعصُّب العِرقي تحديدًا، ومثل الأطماع المادية الاستعمارية القائمة على الجشع المحض، ومثل نشدان التسلُّط والسلطان لذاته، وهو ما يتجلَّى في بناء الإمبراطوريات؛ أي الإمبريالية، وما إلى ذلك بسبيل.

ولقد أقام «إدوارد سعيد» الحجةَ على هذا كلِّه متَّبعًا ما أسميتُه بالمنهج العلمي الحديث؛ فلم يَسَع الغرب إلا أن «يقرأَه» وأن يُقرَّ له بصواب المنهج، ولو اختلف البعض معه في بعض ما انتهى إليه الكتاب. وإذن فإن هذا كتاب في المنهج: إنه بحث نقدي يقوم على أسس فكرية صلبة، من دعائمها تبيانُ خداع بعض ما يكتسي المظهر العلمي وهو في حقيقته عنصري، مثل إطلاق صفة «الشرقي» على كلِّ ما يرى فيه أبناء الغرب اختلافًا عن الحضارة الغريبة، والتذرُّع بهذه «الصفة»، أو التسمية، للقول بما يُجافي الحقيقة والواقع من نسبة خصائص جوهرية أو عناصر إنسانية تمثِّل «جوهر» الشرق باعتبارها نقيضًا للغرب، وهو ما يسمَّى بالنظرة «الجوهرية»، أو المذهب «الجوهري» (essentialism)، و«إدوارد سعيد» يأتي بالأدلة القاطعة على أن هذه النظرة لا تقوم على أسس علمية؛ لأنها لا تعمل حسابًا للتاريخ والتطور وغيرهما من العوامل التي تتحكم في حياة الإنسان، كما يُثبت أن من ورائِها — إلى جانب الطمع الاستعماري والنظرة العنصرية وطلب السلطان — خوفًا دفينًا مما يُطلق «الغرب» عليه صفةَ الشرقي أو يسمِّيه «الشرق» وحسب، وهو خوفٌ مركَّب — وفكرة «التركيب» أساسية في منهج «إدوارد سعيد» — إذ يضمُّ بقايا إحساسِ أبناءِ أوروبا بالجهل، وكل مجهول ذو خشية ورهبة، ويضم بقايا خوف أوروبا من تهديد «الشرق» الذي كان يتمثَّل يومًا ما في الدولة العثمانية، والغرب يحاول القضاء على هذا الخوف الدفين (أي غير المعلن) أساسًا بتزييف صورة ما يعتبره مناقضًا له، على نحو ما فعله حين اعتبر الإسلام ممثلًا للشرق، وما فعله حين اعتبر العرب ممثلين للشرق؛ لأنهم يعيشون في الشرق الأدنى، ويُعتبر الارتكان إلى التقسيم الجغرافي وحده، دون أيِّ اعتبارات إنسانية صادقة، جزءًا من هذا التزييف. وقد عاد «إدوارد سعيد» إلى هذا الموضوع نفسه في كتابه الذي ترجمته له: «تغطية الإسلام» الذي يعتبره الكاتب استمرارًا لعرض القضية نفسها.

وأما مَن هو «إدوارد سعيد» لمن لا يعرفه؛ فهو مفكر وناقد أدبي «أمريكي» من أصل عربي، وُلد في القدس، في فلسطين عام ١٩٣٥م، وتُوفي في أمريكا عام ٢٠٠٣م، والتحق في مطلع حياته بالمدارس الابتدائية والثانوية في القدس وفي القاهرة، ثم تخصَّص في الأدب الإنجليزي في جامعة برنستون الأمريكية عام ١٩٥٧م، وحصل على الماجستير من جامعة هارفارد في عام ١٩٦٠م، وعلى الدكتوراه من الجامعة نفسها عام ١٩٦٤م؛ حيث فاز بجائزة أفضل ناقد فلفتَ الأنظار إليه، وبدأ حياته العملية أستاذًا يتنقل بين الجامعات الأمريكية الكبرى حتى استقر به المقام في جامعة كولمبيا أستاذًا للغة الإنجليزية وآدابها وللأدب المقارن. وعندما نشر كتابه الأول عن الروائي «جوزيف كونراد» — الذي كان صورةً معدَّلة لرسالة الدكتوراه التي قدَّمها للجامعة — كان يضع قدمه على درَجِ المجد، وكان ذلك في عام ١٩٦٦م؛ إذ أدرك «المجتمع الأكاديمي» في أمريكا وأوروبا أن ناقدًا «أصيلًا» قد ظهر، واستجاب له ذلك المجتمع؛ فبدأ يمارس الكتابة التي تُخاطب غيرَ الأكاديميِّين أيضًا إلى جانب الأكاديميِّين، وبدأ يحظَى بالإعجاب، وبدأَت كُتُبه تفوز بالجوائز، وهو ما أكسب آراءَه مصداقيةً وحقَّق لها الذيوع وانتشار التأثير، وخصوصًا بعدما عَمِل واعيًا في مطلع السبعينيات على تدعيم ركائز المذهب الذي أصبح يرتبط باسمه وهو «النقد الثقافي».

كان «إدوارد سعيد» يرهص في كتابه الأول عن «كونراد» بالاتجاه الذي سار فيه بعد ذلك، وكان عنوان الكتاب هو: «جوزيف كونراد وخرافة السيرة الذاتية» (انظر مقدمتي لترجمة «تغطية الإسلام»، القاهرة، ٢٠٠٥م، ص١٢-١٣)، وهو يقارن فيه بين الصورة التي يرسمها «كونراد» لنفسه في خطاباته، معتبرًا إياها ضربًا من ضروب السيرة الذاتية، وبين الروايات أو القصص التي كتبها، قائلًا إن الكاتب كان يحاول فيها تحقيقَ ما عجز عن تحقيقه في سيرته الذاتية «غير المباشرة»؛ أي في خطاباته. و«إدوارد سعيد» هنا يستخدم التوريةَ في اللفظة الإنجليزية التي ترجمتها بالخرافة (fiction) فهي تعني أيضًا التخيُّل أو الوهم بالمعنى العام، وقد تعني فنَّ الرواية الخيالية أو القصة الخيالية طالَت أم قصرَت. وهكذا فإنه يقول، من خلال هذه التورية، وخصوصًا في الفصلين الثاني والثالث، إن صورة الذات التي يرسمها الكاتب واعيًا أو غير واعٍ لا تبرز ولا تتضح معالمها إلا من خلال المقابلة بينها وبين ما يختلف عنها، بل وما يبدو «معارضًا» لها، مستفيدًا في ذلك بما قالت به «سيمون دي بوفوار» عن التعارض «الثنائي» بين الذات والآخر، وبما أتى به البنيويون عن الثنائيات المتعارضة.

ولكن «إدوارد سعيد» لا يركز هنا على النظرية البنيوية بل يستفيد منها وحسب في وضع منهج خاص به، تأثر فيه (باعترافه) بالفيلسوف «جامباتستا فيكو»، فهو يبني منهجه على أساس التعارض والتكامل معًا بين ما أصبح يسمَّى بالوعي و«الوعي الغاضب»؛ بمعنى أن وعيَ الفرد بذاته لا يتحقق إلا من خلال التعارض بين الذات والآخر، لكنه لا يتخذ صورته الكاملة إلا عن طريق «التكامل» مع هذا الآخر الذي يفرض نفسه عليه (إلى حدِّ «اغتصابه») وقد يكون ذلك «باحتواء» الآخر؛ أي بضمِّه إلى وَعْيه، أو بنبذه ومعاداته حتى يصبح الاثنان قطبَين متعارضَين وإن كانَا يُكملان بعضهما البعض كما تكتمل الدائرة الكهربائية عند اتصال القطب الموجب بالقطب السالب. وتركيز «سعيد» في هذا الكتاب على الوعي يربطه بمذهب «الظاهرية» أو الفينومينولوجيا الذي أرسى أُسُسَه الفيلسوف «إدموند هوسيرل»، وطوَّره الفيلسوف «مارتن هايديجر» فيما بعد. فمذهب «الظاهراتية» يُصِر على أن القصد أو العمد أساسُ كلِّ وعي إنساني، وأن الوعي لا يتحقق إلا بوجود هذا القصد أو العمد، و«إدوارد سعيد» يتوسل بهذه الفكرة في الاستشراق عندما يعرض لمواجهة الوعي الغربي مع الآخر؛ أي الشرق الذي يمثِّل وعيًا غاضبًا، فالمستشرق قد يحاول «احتواء» هذا الآخر باعتباره فرعًا منه، مثلما اعتبر بعض المستشرقين أن الإسلام صورة «منحرفة» من صور المسيحية، وبهذا «ضمُّوه» إلى الوعي الغربي، وقد يحاول نبذه ومعاداته بحيث يصبح القطب السالب الذي تكتمل به دائرة البشر «الكهربائية»!

وهكذا نرى منذ البداية أن اهتمام «إدوارد سعيد» بالفلسفة كان من وراء نظريته «التكاملية» إلى الأدب، وهي التي سوف تؤدي إلى ترسيخ مذهبه في النقد الثقافي الذي يربط ما بين الأدب باعتباره ظاهرة إنسانية تقوم على الإبداع (والتخيل) وبين حقائق الواقع والتاريخ والمجتمع والفكر الإنساني. وهو مذهب تكامليٌّ وديناميٌّ معًا، بمعنى أنه — إلى جانب الجمع بين الظواهر المختلفة في المجتمع التي يُكمل بعضها بعضًا — يُصِر على أن هذه الظواهر غيرُ ثابتة، وأنها تتحرك وتتغير وتتلون، وهي تتأثر بمسار التاريخ وفكر الإنسان مثلما تؤثِّر فيهما، ومن ثَم فإن الأدب، ما دام ظاهرةً إنسانية يرتبط بكل شيء عداه في حياة الإنسان المادية والنفسية والروحية، وهذا هو ما يجعل «البداية» عسيرةً في أيِّ منهج علمي، وهي قضية بالغة الأهمية عند «سعيد»، طرحها في كتابه الثاني «البدايات: المقصد والمنهج» الذي أصدره عام ١٩٧٥م، وعاد إليها هنا في مقدمة الاستشراق التي تعتبر استكمالًا لما جاء في ذلك الكتاب.

هذا الكتاب الثاني يعتبر «الصورة التجريدية» لمذهب سعيد الفكري، فهو كتاب يستكشف فيه «سعيد»، أو يحاول استجلاءَ بعض القضايا الخاصة بالمنهج، مستفيدًا من «النظرية الحديثة» وناقضًا لبعض جوانبها التي تتسم بالتطرف أو الغلو، فهو يصوغ نظريةً كاملة تقوم على العاملَين اللذَين ذكرتهما من قبل، وهما التكامل والدينامية، وتتضمن تطوير «التعارض الثنائي» الذي سبق أن ألمحنا إلى احتمال تأثُّره فيه بالبنيوية بحيث لا يقتصر على مفهوم التعارض الثنائي بين الذات والآخر (أو حتى بين الذات والموضوع، وهو ما يقوله الناقد الإنجليزي كولريدج إن الأديب يلغيه في لحظة الإبداع بمعنى صهر الطرفين معًا في العمل الأدبي)، بل يتعداه إلى التعارض بين كلِّ مُنشِئ أو مبدِع وبين ما سبقه، وهو ما لا بد منه حتى يستطيع المبدع أن يبدأ: إنه يشعر بانتمائه إلى الإنسان وإلى ما أبدعه الإنسان من آداب وفنون وما اختطَّه من دروب وشعاب فكرية، فيعارض هذا الانتماء بداية، وإن كان في الحقيقة يؤكد وجوده بمعارضته إياه، «فالعمد» القائم في المعارضة المبدئية يُهيئ له الوعي بالاختلاف، مهما تكن صورة ذلك الوعي، ولكن ممارسة «الاختلاف» تجعله، رغم أنفه، امتدادًا لما سبقه، فهو يُضيف إلى ما «فعله» غيره، ويعدل من صورته في الوقت نفسه في عيون أبناء جيله، حين يتكامل عملُه مع عملهم، وهو ما قال به «ت. س. إليوت» ذات يوم عن فردية الأديب وأصالته في إطار علاقته بتراث الماضي، والأديب إذن «يقلق» لتأثره بمن سبقه، وهو تأثر محتوم، فيحاول «عامدًا» أن يختلف بعد «البدايات»، ولكنه يبدأ على أي حال، ولا بد من بداية ما، مهما تكن.

ويخصص «إدوارد سعيد» في هذا الكتاب فصلًا كاملًا يُنكر فيه القول بأن عوامل «الاختلاف» و«البداية» ترجع إلى الجوانب الفنية وحدها، على نحو ما يقول «هارولد بلوم» في كتابه الذي كتبه في الوقت نفسه تقريبًا عن قلق التأثير.

Harold Bloom, The Anxiety of Influence: A Theory of Poetry, N.Y., OUP, 1973.

وكما قال به «بلوم» عام ١٩٨٢م في كتابه عن «تنقيح» الأديب لما سبقه، بل يُرجع «إدوارد سعيد» عواملَ الاختلاف في المقام الأول إلى الجوانب الثقافية، فيخصص الفصل الذي يستعرض فيه النظرية النقدية الحديثة، ناقدًا وناقضًا ومستفيدًا، للحديث عمَّا يسمِّيه الأولويات الثقافية، وعنوان الفصل: «أوليات ثقافية: الغياب، الكتابة، البيان، الخطاب، علم الآثار، البنيوية». وهو هنا يستدرك على النظرية المذكورة بعض المسائل، ويؤكد في كلِّ محور من محاور الفصل أن الأديب يدور في فلك ثقافي أولًا ولا فكاكَ له منه، فثقافته الشخصية تؤكد أن له كيانًا مستقلًّا يُتيح له إثبات أصالته. ويبتعد «إدوارد سعيد» في هذا الفصل عن إنكار وجود «الذات» أو ما يسمَّى «بالشخصية»، وهو ما نادَت به بأعلى صوتٍ نظريةُ «ما بعد الحداثة»، ويقترب اقترابًا شديدًا من موقف «إليوت» المشار إليه، ومن موقفه الذي أصبح علَمًا عليه ويتجلَّى في الاستشراق بأنصعِ صورِه، مثلما يتجلَّى في «تغطية الإسلام» و«المثقف والسلطة» (القاهرة، ٢٠٠٥م).

وكأنما أحسَّ «إدوارد سعيد» بضرورة إيضاح موقفه وتمييزه عن مواقف معاصريه وأسلافه؛ فكتب مقدمة جديدة للطبعة الثانية من كتاب «البدايات: المقصد والمنهج»، الصادرة عام ١٩٨٥م يفرِّق فيها بين ما يسمِّيه البُنُوَّة (filiation) وبين ما يسمِّيه الاتِّباع أو الانتساب (affiliation). فالبنوة عنده تعني الانتماء في خصائص معينة للتراث الأدبي والفكري بدايةً، وهو انتماء حتمي مثل انتماء الأبناء إلى الآباء؛ فالابن لا يملك إلا أن ينتميَ إلى أبوَيه، فهو ينحدر من نسلهما ويَرِث منهما صفاتٍ بيولوجيةً ونفسية معينة، شاء ذلك أم أبى، ولكن الاتِّباع أو الانتساب عنده يقوم على الاختيار؛ أي على القصد والعمد، والتعارض بين هذَين الطرفين (الذي يسمِّيه تعارضًا بين قطبَين أو تعارضًا ثنائيًّا) يفسر عنده الخطأ الذي وقعَت فيه بعض الاتجاهات في النظرية الحديثة التي تزعم أن كلَّ إنتاج أدبي ينتمي إلى ما سبق إنتاجه من أدب وفقًا لقانون الحتمية (أي حتمية البنوة)؛ فكأنما لا يملك الأديب ذاتًا تُمكِّنه من إيجاد بداية جديدة لنفسه، وكأنما لا يمكن أن توجد بداية جديدة لأي شيء؛ فحتى لو كانت «للبدايات» جذورٌ أو أصول فيما سبق من كتابات أو أقوال، فلا شك أن الكاتب أو الشاعر أو المفكر قادرٌ على أن يأتيَ بالجديد الذي يكون «أصيلًا» وعلمًا عليه في هذه الحال، ولا بد أن يعتبر هذا الجديد بدايةً من لون ما، كما سبق أن قلت.

ويطبِّق «إدوارد سعيد» نظريتَه المذكورة في تحليله للمستشرقين وتقسيمهم إلى فئات وفقًا لمدى «بنوتهم» لتقاليد الاستشراق ومدى اتخاذهم بداية أصيلة، حتى لو عادت بهم إلى الانتماء من زاوية أخرى. فهو لا يُدين المستشرقين جميعًا، ولكنه يُدين تقاليد الاستشراق باعتباره الإطار الفكري والثقافي العام الذي يندر أن يخرج عنه حتى ذوو الأصالة من الأدباء والمفكرين. فقد يتمتع أحد الأدباء بخيال خصب يدفعه دفعًا إلى التحليق في أجواء غير واقعية، استلهامًا لصور جديدة أو لأفكار مثيرة وما إلى ذلك، فيجد في صورة «الشرق» التي قدَّمها غيرُه من الأدباء والباحثين «الزاد» الذي يبحث عنه، فينتفع بهذا الزاد ويُضفي عليه المزيد مما يسمِّيه «كولريدج» «التلوين الخيالي»؛ فإذا قرأ غيرُه ما كتب ظن أن هذه الكتابة، بسبب «أصالتها» الظاهرة — من الزاوية الأدبية الصرفة — وقوة تأثيرها الفني تُقدِّم صورة صادقة وأمينة؛ فإذا تكاثرت أمثال هذه الكتابات أنشأت جوًّا أو مناخًا نفسيًّا أو فكريًّا معينًا لا يملك الباحث العلمي أن ينجوَ من تأثيره فيه، وإذن فنحن نرى هنا كيف «عمد» الكاتب الأول عمدًا إلى نشدان الغرابة، فتوافر في حالته «الوعي» (القائم على العمد) وتحقَّق بذلك جانب الاختيار، بمعنى أنه اختار ما يراه غريبًا وعجيبًا دون أن يلزمه شيء، فانتسب واعيًا إلى ذلك الجو أو المناخ، ونرى في حالة الباحث العلمي — الذي ينشأ في الجو أو المناخ النفسي أو الفكري الذي أوجده غيرُه — تحقيقَ جانب الانتماء (ما يسميه «سعيد» عنصر البنوة) فهو — مهما يُخلص في عمله «العلمي» — «وليد» هذا الجو، وهو يتنفس هواءه، ويشعر، شاء أم أبى، بانتمائه إليه، وهو الانتماء الذي يكاد يكون محتومًا، وهكذا دواليك؛ فالصورة الأولى أو الصور الأولى التي تمثِّل الشرق — وهي التي رسمها أوائل المستشرقين لما رأوا فيه اختلافًا صارخًا عن حياتهم، وأطلقوا عليه صفة «الشرق» العامة — كانت تقوم على مباحث فقه اللغات «الشرقية» (السامية والهندية القديمة)، وكانت تركز على الغريب والعجيب، وتلحُّ إلحاحًا شديدًا على القِدَم وبُعْد المسافة الزمنية التي تفصل أوروبا في مطلع القرن التاسع عشر عن ذلك «الشرق» (وهي التي يؤكدها بُعد المسافة الجغرافية) وقد تكون في ذاتها ذات قيمة علمية مؤكدة، ولكنها أوجدت المناخ الذي دعا المبدعين إلى اعتبارها الصورة الحقيقية الوحيدة والحاضرة أبدًا؛ أي التي تظل على قِدَمها وغرابتها وثباتها وجمودها أبدَ الدهر، وبتكاثر من تأثَّر بها من المبدعين والرحالة و«الحجاج» إلى الشرق، نشأ الجو الذي أصبح لا مفر من التأثر به بعد ذلك، حتى من بين العلماء.

و«إدوارد سعيد» يخصص خاتمة كتابه: «البدايات: المقصد والمنهج» للحديث عن تأثير الفيلسوف «فيكو» في ذلك الكتاب، ولنا أن نقول، في الواقع، إنه يشرح تأثير «فيكو» في منهجه الخاص الذي لا يقتصر على كتاب دون كتاب، بل هو المنهج العلمي الذي لا يتخلَّى عنه في أيِّ شيء مما كتب. ونستطيع أن نُلمح أولى بوادر هذا التأثير في اهتمام «إدوارد سعيد» اهتمامًا بالغًا بقضية التصوير التمثيلي (representation) في العلوم الإنسانية، وتبيان ما يشوب الاعتماد على هذا التصوير أو التمثيل من عيوب منهجية؛ فالصورة التي تمثِّل شيئًا ما تُقدم بالضرورة أحد جوانبه أو تقتصر على بعض جوانبه فقط (كما يبيِّن «رولان بارت» في حديثه عن الصورة والأيقونة والشفرة) وهي إذن ليست الشيء في ذاته، بل وحتى لو زعمت أنها تمثِّل «جوهره» فهي مجردُ تمثيل لهذا الجوهر، و«فيكو» يقول إن على الباحث أن يُحيط بجميع جوانب الشيء إذا أراد أن يضع له تعريفًا جامعًا مانعًا، وهذا شبهُ محال في العلوم الإنسانية، فالإنسان متعدد الجوانب، ويعيش في ظروف متعددة متغيرة، ويخضع لعوامل التاريخ التي تؤثر فيه مثلما يؤثر فيها، وإذن فإن واجب الباحث الأول هو الإلمام بشتى العوامل ورسم أكبر قدر يستطيعه من خطوط الصورة ودرجات ألوانها، وتحديد النسب الخاصة به والنسب بينه وبين غيره، وهذا هو ما يقول به «إدوارد سعيد»، بل ما يعتمد عليه في نقده للاستشراق؛ إذ أتاح له «اكتشافه» (أو إعادة اكتشافه) للفيلسوف «فيكو» أن يتخذ المنهج الذي أسميته المنهج التكاملي، أو ما يسميه «فيكو» «المنهج السياقي»، وأن يطبقَه في تبيان خروج التقاليد الاستشراقية عنه، واعتمادها على صورة تمثيلية لجانب واحد من جوانب الشرق، واعتبارها «جوهر» الشرق أو حقيقته.
وقد عاد «إدوارد سعيد» إلى الفيلسوف «فيكو» في الفصل الأخير من كتابه: «تغطية الإسلام»، والذي يناقش المعرفة والسلطة، ولكنه يشير إليه فيه فحسب باعتباره تلميذ «فرانسيس بيكون»، كما عاد إليه ١٩٩٤م عندما كتب «المثقف والسلطة»، وقال إنه كان يعتبره مثله الأعلى يومًا ما، وأما في الاستشراق فإن «سعيد» لا يشير إليه إلا إشارةً عابرة (ربما بسبب تخصيص فصل كامل له في البدايات) ومع ذلك فهو يطبق المنهج الذي يقول إنه تعلَّمه منه. ونحن نعرف أن الفيلسوف الإيطالي «جيوفاني جامباتستا فيكو» (١٦٦٨–١٧٤٤م) فيلسوف ما يسمَّى بالتاريخ الثقافي؛ أي دراسة التأثير والتأثر ما بين التاريخ والثقافة، لا تاريخ الثقافة في ذاتها، فهو يرصد في كتبه الأولى مظاهر التفاعل المحتوم بين «المناخ» الثقافي والتاريخ، ويؤكد في أهم كتبه، وهو «العلم الجديد» (scienza nuova) ضرورة النظر في العوامل التاريخية عند دراسة ثقافة من الثقافات، وكان قد أصدر كتيِّبات تضمُّ الخطوط العريضة لهذا الكتاب عامَي ١٧٢٠-١٧٢١م قبل الانتهاء من كتابته، ولكن رجال الكنيسة الذين كانوا يرعونه (وينشرون كتبه) لم يكونوا راضين عن أحد كُتُبه الأولى التي تدعو إلى الدراسة العقلانية لجميع الظواهر بلا استثناء، وغضبوا منه حين نشر هذه الكتيبات، فلم يأبَه لهم ونشر الكتاب المذكور المهم على حسابه الخاص عام ١٧٢٥م، ووضع فيه ما يسمَّى بالمذهب التاريخي (القديم)، وهو أقرب المذاهب إلى ما نسمِّيه الآن بالمذهب التاريخي الجديد، أو التاريخية الجديدة التي تُعارض «عزل العوامل» أو الفصل بين العوامل، وتضع على رأسها العوامل الاقتصادية التي تتحكم في الثقافة، ويتوسل بها الكُتَّاب في أمريكا (مثلما يتوسَّل الكتَّاب بالمادية الثقافية في بريطانيا) في تحليل النصوص باعتبارها دلائل غير مباشرة على تفاعل الكتاب مع ثقافة عصرهم، ومن ثَم على التناص المحتوم في كتابات العصور المتوالية. ومع أن المذهب التاريخي القديم، أو المذهب التكاملي الدينامي عند «فيكو» كان يرتبط بدراسات أخرى أتَت فيما بعد ببعض فروع علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا وبعلم الأعراق أو الإثنولوجيا، فإن الاهتمام الرئيسي ﻟ «إدوارد سعيد» بهذا المفكر يكاد يقتصر على المنهج «المجرد» في كتاب البدايات، وإن كنَّا نلمح تطبيقات هذا المنهج واضحة جلية، كما ذكرت، في «الاستشراق».

وربما لم أكن أُغالي حين وصفتُ كتاب «الاستشراق» بأنه بحث في المنهج، وكنت أقصد بقولي هذا أن الكتاب يمثِّل أسلوبَ استقراء كتابات المستشرقين للكشف عمَّا يكمن فيها من مواقف ثقافية قد تتفاوت من كاتب إلى كاتب ومن عصر إلى عصر ولكنها تتميز بموقف أساسي يرجع إلى ارتباط المعرفة بالسلطة، واعتماد كلٍّ منهما على صاحبتها؛ فالسلطة بشتى أشكالها — السياسية والعسكرية والمالية بل والعلمية — تُحدِّد نوع «المعرفة» واتجاهاتها، كما أن المعرفة لازمة لقيام السلطة واستمرارها، وهو الموضوع الذي يخصِّص «إدوارد سعيد» فصلًا كاملًا له في «تغطية الإسلام» (١٩٨١م)، بعد أن اتخذه أساسًا للتمييز بين ما يسمِّيه «الاستشراق السافر» وبين «الاستشراق الكامن» في كتاب «الاستشراق»، وبعد أن عاد له في الفصل الرابع من كتابه التالي، وهو المسألة الفلسطينية (١٩٧٩م) وهكذا نجد أن «الاستشراق» الذي نُشر عام ١٩٧٨م يمثِّل واسطةَ العقد في أعمال «إدوارد سعيد»؛ لأنه يمثِّل التطبيق الكامل، والعلمي الدقيق، للمذهب التكاملي الدينامي الذي اكتشفه عند «فيكو» حين يُثبت علاقة الثقافة أو الإطار الثقافي العام بكل ما يُنتجه من أفكار وآداب إنسانية في بلد ما وفي عصر ما، فما يسمِّيه «الاستشراق الكامن» أو المستتر يشير إلى الموقف الثقافي لكلِّ مَن تعرَّض للتفكير في الشرق أو للكتابة عنه أو لاستلهامه في الأعمال الأدبية في الغرب، وهو الموقف الذي قد لا تُدركه العين للوهلة الأولى، ولكنه يحدِّد مسار الكتابة (الأدبية أو الفكرية) رغم أنف الكاتب؛ ولذلك أعتبرُه نقطةَ التحول الرئيسية لا في فكر «سعيد» أو عمله فحسب بل في مسار نظرية النقد الأدبي الحديثة، بعد أن «حرر» هذه النظرية من «المركزية الأوروبية» ومن التجريد الذي مارسه أصحابها، وخصوصًا من الفلاسفة الفرنسيِّين وأتباعهم الأمريكيِّين، ففتح الباب أمام خبرات أبناء ما يسمَّى ببلدان العالم الثالث، وبخاصة تلك التي تحرَّرت من الاستعمار، حتى يُعيدوا النظر فيما وَرِثوه من العهود الاستعمارية من «صور تمثيلية» (للعالم ولأنفسهم) وهي التي فُرضَت عليهم فرضًا وأصبحَت تمثِّل لهم طرائقَ تفكير «علمية» وليست سوى صور زائفة لأنفسهم وللعالم، وقد أعاد بعضُهم النظرَ فعلًا؛ فبدأ التشكك في عددٍ من الأفكار التي خلَّفها الاستعمار، حتى بين أفراد النخبة أو الصفوة المتعلمة، ومن بين هذه الأفكار القول بأن الاستعمار كان لازمًا «للنهوض» بهذه البلدان و«تحديثها» بمعنى مساعدتها على الأخذ بأساليب الحياة «الحديثة» سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، حتى تلحق برَكْب الحضارة، والمقصود هو الحضارة الغريبة الحديثة — بطبيعة الحال — كأنما كانت الحضارة الإنسانية مقصورةً على نسق الحياة في مجتمعات الغرب الرأسمالية وحدها، ومن بينها أيضًا ما يكمن خلف أيِّ علاقة بين أبناء أوروبا (والغرب عمومًا في وقت لاحق) وبين أبناء الشرق (على اتساعه وتنوُّعِه) من تفوُّق «جوهري» أوروبي، أي تصوُّر وجود عناصر «جوهرية» في ابن الغرب تكفل تفوقَه دومًا، حتى في المجالات الإنسانية التي لا يُقاس فيها التقدم بالقوة العسكرية أو الصناعية وحدها، مثل الأدب، ومن توابع هذه النظرة الإيحاء «بتخلف» الآداب الشرقية عمومًا عن الآداب الغربية، وهو ما يفترض تأثير ما هو «متفوق» على ما هو «مختلف» في مناهج دراسة الأدب المقارن، وما تلا ذلك من مغالطات ومبالغات في تصور هذا التأثير، بل وفي تقديم الأدب العربي نفسه إلى القرَّاء الغربيِّين، فمن وراء ذلك كلِّه يكمن الاستشراق المستتر الذي يتمثل في موقف ثقافي عام أو فلك ثقافي كبير يدور الجميع فيه.

وهكذا نرى كيف ساهم «إدوارد سعيد» في تدعيم أسس ما يسمَّى بالنقد الثقافي، وكيف مهَّد كتابه «الاستشراق» لما أصبح يسمَّى نقد الاستعمار (colonial critique) أو ما يسمِّيه «إدوارد سعيد» نقدَ ما بعد الاستعمار (postcolonial criticism)، ومن أهم ظواهره ما ذكرتُه في الفقرة السابقة من قيام أبناء البلدان التي تحرَّرت من الاستعمار بإعادة النظر في التركة الاستعمارية، وهو ما يتجلَّى في آدابهم وما أتى به من مجالات جديدة للدراسات النقدية؛ إذ انتشرت في بلدان العالم الثالث الدراسات التي تناقش المواقف الثقافية الكامنة في نظرة أبناء هذه البلدان إلى ذواتهم، وهي نظرة دونية، ترجع إلى ما وَرِثه هؤلاء من التركة الاستعمارية التي ساهم فيها المستشرقون، كما شجع النقد الثقافي — الذي يمثله الاستشراق — على ازدهار نظريات النقد النسوي التي تقوم على ضرورة إعادة النظر في صورة المرأة، لا في المجتمع فحسب على نحو ما ينادي به دعاة المساواة بين الجنسين، بل في مختلف مجالات النشاط الإنساني؛ إذ إن الاستعمار — ومن ورائه الاستشراق «الكامن» — قد رسخ أو عَمِل على ترسيخ الصورة القديمة للمرأة؛ وذلك بربطها دائمًا بصورتها في العهود السحيقة، ورفض إمكان التغيير والتطور؛ فالمستشرقون ينطلقون، مهما اختلفت مذاهبهم، من الإيمان بوجود صورة ثابتة جامدة لما أسمَّوه الشرق، وفيها تظل المرأة، كما هي إلى الأبد، كائنًا مسلوبَ الإرادة والفكر؛ أي إنهم بإنكارهم عوامل التاريخ ينكرون التطور، بل — كما يقول «إدوارد سعيد» — يسلبون الإنسانَ إنسانيَّتَه. وهذا فرعٌ مهمٌّ من فروع النقد الثقافي؛ لأنه يُعيد وصْلَ ما انقطع من وشائج بين الكاتب الفرد وبين ثقافة عصره، وهي الثقافة التي يَرِثها من الأسلاف مثلما يتشرَّبها من المناخ الذي يحيط به؛ فصورة المرأة التي نراها في الأعمال الأدبية القديمة ليست مطلقةً مجردة بل هي من ثمار عصر معين، ومن نتاج ثقافة معينة، ولا مدخل لتفهُّمها بالأسلوب الصحيح إلا بدراسة هذه الثقافة.

وهكذا، وحتى لا أُرهق القارئ بالمزيد عن «إدوارد سعيد» ومنهجه — وهو الذي خصَّصتُ له النصف الثاني من هذا التصدير — أختتمُ حديثي بتبرير اقتصاري على الحديث عن المنهج؛ إن كان الأمر في حاجة إلى التبرير، فأقول إنني لن أستطيع — مهما حاولت — تلخيصَ أفكار هذا الكاتب العملاق؛ فهو يستند في كل فكرة إلى قراءات واسعة متبحرة في الفلسفة والأدب والتاريخ وغيرها من العلوم الإنسانية، وهو يقتطف من أقوال الثقات الكثير والكثير، ولا سبيل إلى إدراك مجمل أفكاره إلا بالإبحار فيها بتأنٍّ وتؤدة، فهي تمتدُّ شاسعةً كالبحر الذي لا حدود له، وأما إن شئت تلخيص المنهج في كلمة أو كلمتين، قلت إنه موقف يقوم على الإيمان المطلق بإنسانية الإنسان وقدرته على تخطِّي حدود الزمان والمكان، فهو — في كل مكان على وجه هذه الأرض — ينبض دائمًا بنبض الحرية؛ ولذلك ﻓ «إدوارد سعيد» يعجب بل ويدهش دهشةَ الشاعر (فهو في أعماقه شاعر فنان) عندما يتبيَّن خداعَ الغرب لذاته، وتنكُّرَه لما دأب على الدعوة إليه والتغنِّي به على مرِّ القرون منذ عصر النهضة الأوروبية من تمجيد لحرية الإنسان وعقله وطاقاته الإبداعية، وهو يدهش دهشةَ الشاعر أيضًا حين يلمح ما وقع فيه كبار المبدعين من تزييف لحقائق الواقع بسبب غلبة الإطار الفكري الذي أقامه كبار المستشرقين بدعوى العلم والمعرفة فأوقعوا فيه قلوبًا وعقولًا كثيرة، وهو يُعرب عن حيرته حين يجد مفكِّرًا أصيلًا مثل «كارل ماركس» يقول ما يقوله عن معاناة المستضعفين ثم ينزلق في الهوَّة الاستشراقية التي تُبارك الاستعمار. و«إدوارد سعيد» يتسم في هذا المنهج بالاتساق العلمي؛ فإذا أحسَّ أنه يوشك غضَبًا أن يقع فيما وقع فيه البعض من الشطط أو المبالغة سارع بالاستدراك؛ ولذلك يشيع في كتابته أسلوب الاستدراك، ويشيع التحرز في القول، ولن يخفَى على قارئ النص العربي ولع الكاتب بأدوات التحرز المعروفة؛ مثل «يكاد»، و«تقريبًا»، و«أظنُّ ظنًّا»، وما إلى ذلك، وأدوات الاستدراك؛ مثل «لكن»، و«لو أنه»، و«إن كان»، وما إليها، إلى جانب أسلوب المقارنة بدلًا من التعابير المطلقة. ولجوءُه إلى النسبية من دلائل التحرُّز في القول أيضًا، ومن دلائل الحرص على الحفاظ على المنهج العلمي لكتاب تدفُّ بين جوانحه روحُ إنسان أولًا، وعربي أو شرقي ثانيًا، وباحث «إنساني» في آخر المطاف.

والاتساق العلمي في المنهج يرتبط بالاتساق الفكري، كما يبيِّن «سيد البحراوي» في دراسته الشهيرة للمنهج؛ أي إن «إدوارد سعيد» يدين — إلى حدٍّ ما — في اتساق منهجه العلمي إلى الاتساق في موقفه الفكري، وهو الموقف الذي أجاد التعبير عنه في «المثقف والسلطة» (١٩٩٤م)، وسبقت لي ترجمته (القاهرة، ٢٠٠٥م)، بل إننا نلمح هذا الاتساق على درب النقد الثقافي في كتاب لا أظن أنه اجتذب قراءً كثيرين في الوطن العربي؛ لأنه يعالج الموسيقى البوليفونية، وعنوانه: «تنويعات موسيقية» (١٩٩١م)، ويعتمد فيه «سعيد» على خبرته الخاصة في العزف على البيانو فهو من المشهود لهم بالبراعة في هذا المجال، ويُعيد فيه تأكيد مذهبه الذي يقول فيه بوجود الإطار الاجتماعي المحتوم حتى لعازف البيانو الذي يتجاوز المجتمع ظاهريًّا في عزفه لكنه محكوم في الواقع بهذا المجتمع، وإن لم يكن واعيًا كلَّ الوعي بذلك. و«سعيد» يُدلِّل على صدق قضيته بأمثلة من حياة عازف البيانو الشهير والمفكر اللامع «جيرالد جولد» وغيره، وقد وصف بعضُ النقاد في الغرب هذا الكتاب بأنه يمثِّل خروجًا على مذهب «إدوارد سعيد» أو منهجه، وليس ذلك بصحيح؛ فالكتاب يلتزم بالمذهب التكاملي وإن كان يتحدث عن الموسيقى، فأنا أعرف من خبرتي الخاصة بالموسيقى — كما ذكرت في تصديري لترجمة «تغطية الإسلام» — مدى ارتباط ذلك الفن بالمجتمع وبالثقافة بصفة عامة، وذهن «إدوارد سعيد» الوقَّاد يأتي بتحليلات تجريدية مذهلة للحدود التي يتقيد بها فن الصنعة أو التقنية الخالصة، وهو يذكرنا في هذه التجريدات بطاقته على التفكير الفلسفي الذي يشيع في جوانب الاستشراق.

وفيما بين كتاب «إدوارد سعيد» عن «جوزيف كونراد» (١٩٦٦م) وبين الطبعة الثانية ﻟ «الاستشراق» ١٩٩٥م أصدر «سعيد» عدةَ كتُب عرضتُ لبعضها ولم أعرض للبعض الآخر. ومن أهم هذه الكتب كتابه الذي وطَّد بلا جدال مكانته في عالم النقد الأدبي وهو «العالم والنص والناقد» (١٩٨٣م) وهو يضم مقالات نقدية متخصصة بالغة الأهمية، ثم تأتي كتبه عن القضية الفلسطينية لا في المرتبة الثانية بل في نطاق آخر، أو قُل في الإطار الآخر الذي يطبق فيه المنهج الإنساني الذي وصفته على دراسة بعض المسائل التي كانت تعتبر سياسيةً محضة فأحالها «سعيد» إلى قضايا ثقافية سياسية؛ مثل كتاب «المسألة الفلسطينية» (١٩٧٩م)، وكتاب «سياسات السلب والتجريد: كفاح الفلسطينيين في سبيل تقرير المصير ١٩٦٩–١٩٩٤م» (١٩٩٤م)، وكتاب «القلم والسيف» (١٩٩٤م). لكنني لا أستطيع أن أخوض في الحديث عن أيٍّ من هذه الكتب في تصديري لكتاب «الاستشراق»، ولمن يريد الإلمام بمنهج هذا المفكر العظيم فيها جميعًا أن يطَّلع عليه فيما كتبه عن «المثقف والسلطة» في الكتاب الذي ترجمتُه له بهذا العنوان، بل سوف يجد المبادئ الأساسية لهذا المنهج في مقدمة المؤلف للكتاب الحالي.

سبق لي أن تحدَّثتُ عن التزامي بعلامات الوقف والوصل (الترقين) المعترف بها في العربية المعاصرة، والتزامي بالأقواس التي يستخدمها «إدوارد سعيد»، إلى جانب الشرطتَين، في فصل الجمل أو الكلمات الاعتراضية عن السياق الرئيسي للجملة، فهذه من وسائل التفاوت في النغمة أو في النبرة، كما التزمت إلى جانب ذلك بعلامات التنصيص الواردة عنده كلها إذا كانت مزدوجة، واستخدمت علامات تنصيص مفردةً لما أردت تبيانه من المصطلحات العربية التي قد تبدو غير مألوفة للقارئ العربي في السياق الذي يستخدمها فيه المؤلف، وأما كتابة الأسماء الأجنبية فقد حاولت فيها قدر الطاقة مراعاة الرسم العربي للاسم للنطق الشائع عنه في لغته، باستثناء بعض الأسماء التي شاعت في العربية دون أن تتفق تمامًا مع النطق الأصلي؛ مثل لويس التي قد تكون (Lewis) أو لوي (Louis) فنحن نُشير إلى ملوك فرنسا من حملة الاسم الأخير باسم لويس، حتى لا يظنَّ القارئ أنني أُشير إلى اسم شخص آخر.

ويتبقى لي في هذا التصدير أن أُعرب عن شكري وتقديري لكل مَن مدَّ لي يدَ العون في العمل بالترجمة والمراجعة وتصحيح التجارب الطباعية، وأبدأ بالمترجم القدير «محسن زيدان» الذي رافقني في هذا العمل في النصف الأول كله من عام ٢٠٠٦م، فكان يقرأ بانتظام كلَّ جزء أنتهي من ترجمته، وقد يقترح اقتراحًا آخذ به في الصياغة أيضًا، وكذلك الكاتب والمترجم الفذ «أحمد صليحة» الذي يعمل حاليًّا في الأمم المتحدة، في نيويورك، الذي أعانني في بعض الترجمات عن الفرنسية، والأستاذة الدكتورة «منى إبراهيم»؛ الأستاذة في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، التي قرأت المخطوط كلَّه قبل الطباعة ولفتت نظري إلى ما قد يحتاج إلى تعديل، فلهم مني جزيل الشكر والتقدير.

وأود أن أُعرب عن امتناني الخاص للصديقة العزيزة الأستاذة الدكتورة «أمينة رشيد»، الناقدة الجليلة ورئيسة قسم اللغة الفرنسية سابقًا بجامعة القاهرة، لتفضُّلها بمراجعة جميع الترجمات الواردة في الكتاب عن اللغة الفرنسية، وهي كثيرة، وكذلك للصديقة العزيزة الأستاذة الدكتورة «منى أبو سنة»، المفكرة والباحثة الجادة، والأستاذة في جامعة عين شمس، لتفضُّلها بمراجعة جميع الترجمات عن الألمانية.

وأخيرًا وليس آخرًا قطعًا لا بد أن أُسجل بالعرفان شكري لصديق العمر، العلامة والناقد والأديب الدكتور «ماهر شفيق فريد»، الأستاذ في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، فهو حجةُ هذا الجيل في الدراسات الأدبية والنقدية، ولم يَبْخل عليَّ يومًا بمراجعة ما أطلب إليه مراجعته من تأليف أو ترجمة، فلقد تفضَّل بقراءة المخطوط، وأشار إلى ما يحتاجه من تدارك أو تعديل أو تصويب، فله مني صادق الشكر والامتنان، وخصوصًا لتشجيعه لي على المضيِّ في الترجمة وتحمُّل مشاق هذا النص العسير.

وبعد فأرجو أن أكون قد حققتُ ما أصبو إليه من إخراجِ نصٍّ عربي يجمع بين الدقة والوضوح في نقلِ فكرِ هذا المفكر العربي العالمي، وفاءً بحق القارئ العربي في هذا الجيل، في كل مكان، في أن يطَّلع على ثمار قريحته في هذا الكتاب «العمدة»، وما دفعني إليه إلا إحساسي بحق القارئ العربي وحق «إدوارد سعيد» في أن يقرأ كتابه بيسر وسهولة.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠٠٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤