المقدمة

١

زار صحفي فرنسي مدينة بيروت في أثناء الحرب الأهلية الرهيبة في عامي ١٩٧٥-١٩٧٦م، وعندما شاهد الخراب الذي حلَّ في وسط المدينة كتب يُعرب عن أسفه قائلًا: إن المنطقة «كان مظهرها يُوحي، في يوم من الأيام، بأنها تنتمي إلى الشرق الذي وصفه كلٌّ من شاتوبريان ونيرفال»1 في مطلع القرن التاسع عشر. وكان، بطبيعة الحال، مُصيبًا في وصفه للمكان في حدود النظرة الأوروبية. فلقد كان الشرق شبهَ اختراع أوروبي، وكان منذ الزمن الغابر مكانًا للرومانس؛ أي قصص الحب والمغامرات، والكائنات الغريبة، والذكريات والمشاهد التي لا تُنسى، والخبرات الفريدة الرائعة، وكان الشرق آنذاك في طريقِه للاختفاء، بل ربما كان من زاوية معينة قد اختفى بالفعل وأصبح ينتمي للماضي الذي بادَ وانقضى عهدُه. وربما لم يرَ الصحفي أن الشرقيِّين أنفسهم يُهمهم ما حدث، وأنهم كانوا يقيمون في هذا المكان حتى في زمن «شاتوبريان ونيرفال»، وأنهم هم الذين يتعرضون للمعاناة، فلم يكن يعني الزائر الأوروبي إلا الصورة الأوروبية التي تُمثِّل الشرق وما آلت إليه الآن، وكانت تلك الصورة ومصيرها يتمتعان بدلالة مشتركة ومتميزة في عيون الصحفي وقرَّائه الفرنسيِّين.

أما الأمريكيون فلن يُخامرَهم ذلك الإحساس نفسه إزاء الشرق، بل الأرجح أن يرتبط الشرق في أذهانهم بصور بالغة الاختلاف؛ أي بصور الشرق الأقصى (وخصوصًا صور الصين واليابان). ويختلف البريطانيون والفرنسيون عن الأمريكيِّين، كما يختلف — ولو إلى درجة أقل — الألمانيون والروسيون والإسبانيون والبرتغاليون والإيطاليون والسويسريون، في أن للبريطانيِّين والفرنسيِّين تقاليدَ مديدة فيما سوف أُطلق عليه تعبير «الاستشراق»؛ وأعني به التفاهم مع الشرق بأسلوب قائم على المكانة الخاصة التي يشغلها هذا الشرق في الخبرة الأوروبية الغربية. فليس الشرق وحسب مجاورًا لأوروبا، بل إنه أيضًا موقعُ أعظم وأغنى وأقدم المستعمرات الأوروبية، وهو مصدر حضارتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي، وهو يمثل صورة من أعمق صور الآخر وأكثرها تواترًا لدى الأوروبيِّين. أضِف إلى ذلك أن الشرق قد ساعد في تحديد صورة أوروبا (أو الغرب) باعتباره الصورة المضادة، والفكرة والشخصية والخبرة المضادة. ومع ذلك فلا يعتبر أيُّ جانب من جوانب هذا الشرق محضَ خيال؛ فالشرق جزءٌ لا يتجزَّأ من الحضارة المادية والثقافة الأوروبية. والاستشراق يعبِّر عن هذا الجانب ويمثِّله ثقافيًّا، بل وفكريًّا، باعتبار الاستشراق أسلوبًا «للخطاب»؛ أي للتفكير والكلام، تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور، ومذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية وأساليب استعمارية. ومقابل ذلك يبدو فهمُ الأمريكيِّين للشرق أقلَّ تصلُّبًا إلى حدٍّ كبير، ولا بد أن مغامراتنا الأخيرة في اليابان وكوريا والهند الصينية تعمل حاليًّا على إيجادِ وعيٍ أقرب للتعقل والواقعية «بالشرق». كما أن التوسع في الدور السياسي والاقتصادي الذي تنهض به أمريكا في الشرق الأدنى (الشرق الأوسط) يؤثر تأثيرًا كبيرًا في فهمنا لذلك الشرق.

وسوف يتضح للقارئ (ويزداد الوضوح في الصفحات الكثيرة التالية) أنني أعني بمصطلح «الاستشراق» عدةَ أمور يعتمد بعضُها على بعض، وتبدو — في رأيي — مترابطة. وأما أيسر التعريفات المقبولة للاستشراق فهو أنه مبحث أكاديمي، بل إن هذا المفهوم لا يزال مستخدمًا في عدد من المؤسسات الأكاديمية؛ فالمستشرق كلُّ مَن يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا؛ أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة؛ فالاستشراق إذن وصفٌ لهذا العمل، ومن الصحيح أن الاستشراق مصطلح لم يَعُد يتمتع بالخطوة القديمة، فالمتخصصون يفضِّلون استخدام مصطلح الدراسات الشرقية أو مصطلح دراسات المناطق؛ لسببَين: السبب الأول هو أنه يتسم بقدر أكبر مما ينبغي من الغموض والتعميم، والثاني هو أن من ظلال معانيه الإيحاء بالاستعلاء الذي كان المديرون الأجانب يتسمون به في عهد الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ومع ذلك فما زالت الكتب تكتب وما زالت المؤتمرات تُعقَد حول «الشرق» باعتباره الموضوع الرئيسي، وهي التي تُقيم حججها على ما قاله المستشرقون القدماء أو المحدثون باعتبارهم موضع الثقة. ومعنى هذا أن الاستشراق، حتى ولو لم يُكتب له البقاء بالصورة القديمة، لا يزال حيًّا في الحياة الأكاديمية من خلال ما أرساه من مذاهب وقضايا فكرية بشأن «الشرق» و«الشرقي».

ولكن للاستشراق معنًى أعم وأشمل، يتصل بهذه التقاليد الأكاديمية، وهي التي يرصد هذا الكتاب، إلى حدٍّ ما، أقدارَها وهجراتها وتخصصاتِها وأحوالَ بثِّها؛ فالاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمَّى «الشرق»، وبين ما يسمَّى (في معظم الأحيان) «الغرب». وهكذا فإن عددًا بالغ الكثرة من الكُتَّاب — من بينهم شعراء، وروائيون، وفلاسفة، وأصحاب نظريات سياسية، واقتصاديون، ومديرون إمبرياليون — قد قَبِلوا التمييز الأساسي بين الشرق والغرب باعتباره نقطة انطلاق لوضع نظريات مفصَّلة، وإنشاء ملاحم، وكتابة روايات، وأوصاف اجتماعية، ودراسات سياسية عن الشرق، وعن أهله وعاداته، وعن «عقله»، ومصيره، وهلمَّ جرًّا. وهذا اللون من الاستشراق قد يضم «أيسخولوس»، مثلًا، و«فكتور هوجو، ودانتي وكارل ماركس». وسوف أتناول في مرحلة لاحقة من هذه المقدمة المشكلات المنهجية التي يصادفها الباحث في مثل هذا «المجال» الذي يتسع لشتى التفسيرات.

والتبادل القائم بين المعنى الأكاديمي للاستشراق والمعاني التي تعتبر خياليةً إلى حدٍّ ما، تبادلٌ ثابت، وقد بدأت حركة التبادل الكبيرة والمنتظمة — بل والقائمة أحيانًا على نظم ثابتة — بين هذين المعنيَين منذ أواخر القرن الثامن عشر. وهنا آتي إلى المعنى الثالث للاستشراق، وهو معنى يستند في تعريفه إلى عناصر تاريخية ومادية أكثر مما يستند المعنيان الآخران. فإذا اعتبرنا أواخر القرن الثامن عشر نقطة انطلاق عامة إلى حدٍّ بعيد، استطعنا أن نناقش ونُحلل الاستشراق بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق، والتعامل معه معناه التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه. وقد انتفعتُ هنا بالفكرة التي طرحها «ميشيل فوكوه» عن «الخطاب»، على نحو ما عرضها في كتابه: «علم آثار المعرفة»، وفي كتابه الآخر: «التأديب والعقاب»، في تحديدي لمعنى الاستشراق. والحجة التي أطرحها تقول إننا ما لم نفحص الاستشراق باعتباره لونًا من ألوان «الخطاب» فلن نتمكن مطلقًا من تفهُّم المبحث البالغ الانتظام الذي مكَّن الثقافة الأوروبية من تدبير أمور الشرق — بل وابتداعه — في مجالات السياسة وعلم الاجتماع، وفي المجالات العسكرية، والأيديولوجية، والعلمية، والخيالية، في الفترة التالية لعصر التنوير. ولقد بلغ من توطيد مكانة الاستشراق أن أحدًا لم يكن يُقدِم على الكتابة أو التفكير أو اتخاذ أيِّ إجراء بصدد الشرق دون أن يأخذ في حسبانه القيود التي يفرضها الاستشراق على الفكر والعمل. وموجز القول: إن الشرق لم يكن، بسبب الاستشراق، مجالًا لحرية الفكر أو العمل (وما يزال الأمر كذلك). وليس معنى هذا أن الاستشراق هو الذي يحدد من جانب واحد ما يمكن أن يقال عن الشرق، ولكنه يعني أننا نواجه شبكة كاملة من المصالح التي تتدخل (وهي لذلك تشارك دائمًا) في أي مناسبة تتعلق بذلك الكيان الغريب الذي يسمى «الشرق». وأما الأساليب التي يجري بها ذلك فهي ما يحاول هذا الكتاب أن يعرضه ويشرحه. وهو يحاول أن يبيِّن أيضًا كيف زادت الثقافة الأوروبية من قوتها ودعَّمت هويتها من خلال وضعها لذاتها مقابل الشرق باعتبارها ذاتًا بديلة أو حتى دفينة.

ويختلف الارتباط الفرنسي البريطاني بالشرق اختلافًا كميًّا وكيفيًّا — من الناحيتَين التاريخية والثقافية — عن ارتباط أيِّ دولة أوروبية أو أمريكية، وذلك حتى بزغ نجم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. والحديث عن الاستشراق إذن يعني الحديث أساسًا عن المشروع الثقافي البريطاني والفرنسي، وإن لم يكن ذلك مقصورًا عليه، وهو مشروع ذو أبعاد متفاوتة تضمُّ من الأصقاع ما يتفاوت تفاوتَ الخيال نفسه، ويشمل الهند بأكملها وبلاد الشام، ونصوص الكتاب المقدس وما ورد ذكره فيها من أراضٍ، وتجارة التوابل، والجيوش الاستعمارية والتقاليد المديدة التي أرساها المديرون الاستعماريون، والمناهج والمواد الدراسية، وأعدادًا لا تُحصَى من «خبراء» الشرق و«العاملين» به، وكراسي أساتذة «الشرق»، والمجموعة المنوعة والمركَّبة من الأفكار الخاصة بالشرق (الاستبداد الشرقي، بهاء الشرق وروعته، ونزوعه للقسوة واللذة الحسية) والكثير من الطوائف الشرقية، والفلسفات وألوان الحكمة الشرقية التي طوَّعها الناس لتُلائم الحياة الأوروبية. ولنا أن نسترسل في هذه القائمة حتى ما تبدو لها نهاية. وما أقوله هو أن الاستشراق قد نشأ نتيجة علاقة التقارب الخاص بين فرنسا وبريطانيا من ناحية، وبين الشرق من ناحية أخرى، وكان الشرق ينحصر معناه الفعلي؛ حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، في الهند والأراضي المذكورة في الكتاب المقدس. ومنذ بداية القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت لفرنسا وبريطانيا السيطرة على الشرق والاستشراق، وأما منذ انتهاء هذه الحرب فأمريكا هي التي تسيطر على الشرق وتتبع في ذلك المنهج الذي كانت تتبعه فرنسا وبريطانيا ذات يوم. وهذا التقارب الذي نلمح فيه قوةً مثمرة إلى حدٍّ هائل، ولو تجلَّى فيه التفوق النسبي لقوة الغرب (بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا) الذي أخرج الكمَّ الضخم من النصوص التي أقول إنها استشراقية.

ولا بد لي أن أقول فورًا إنني، على كثرة الكتب والمؤلفين الذين تناولتُهم بالفحص، كان عليَّ أن أستبعد عددًا آخر أكبر بكثير. ولكن حجتي لا تعتمد على قائمة شاملة للنصوص التي تتناول الشرق، ولا على عدد محدد بوضوح من النصوص والمؤلفين والأفكار التي تمثل مذهب الاستشراق، بل إنني اعتمدتُ على بديل منهجي مختلف — عموده الفقري هو، بمعنى معين، مجموعة التعميمات التاريخية التي طرحتها في هذه المقدمة — وأريد الآن أن أناقشَها بالمزيد من التفصيل التحليلي.

٢

كانت نقطة انطلاقي افتراض أن الشرق ليس من الحقائق القاصرة ذاتيًّا في الطبيعة بمعنى أنه لا يقتصر على كونه موجودًا وحسب، مثلما لا يقتصر مفهوم الغرب على أنه موجود وحسب، وعلينا أن نأخذ مأخذ الجد الملاحظة الثاقبة التي أبداها «فيكو» — والتي تقول إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، وإن ما يستطيعون أن يعرفوه محدود بما صنعوه — وأن نطبق هذه الملاحظة على الحقائق الجغرافية، فنُدرك أن البشر هم الذين صنعوا ويصنعون «المحليات» و«المناطق» والقطاعات الجغرافية من أمثال «الشرق» و«الغرب»؛ فكلٌّ منهما كيانٌ جغرافي ثقافي، ناهيك بكونه كيانًا تاريخيًّا. وهكذا فإن الشرق، شأنه في هذا شأن الغرب نفسه، يمثِّل فكرةً لها تاريخ وتقاليد فكرية، وصور بلاغية، ومفردات جعلتها واقعًا له حضوره الخاص في الغرب وأمام الغرب. وهكذا فإن الكيانَين الجغرافيَّين يدعمان بعضهما البعض، كما أنهما — إلى حدٍّ ما — يعكسان صورَ بعضهما البعض.

ولكن قولي هذا ليس مطلقًا، ولا بد أن أذكر عددًا من الشروط المعقولة التي تُحدد معناه، فمن الخطأ، أولًا وقبل كلِّ شيء، أن نستنتج منه أن الشرق كان في جوهره فكرةً أو ابتكارًا لا مقابلَ له في دنيا الواقع. وعندما قال «دزرائيلي» في روايته «تانكريد» إن الشرق «حياة عملية»، كان يعني أن الأذكياء من الشباب في الغرب سوف يجدون أن اهتمامهم بالشرق قد تحوَّل إلى عاطفة مشبوبة تبتلع كلَّ ما عداها، ويجب ألَّا يفهمَ من كلامه أنه يعني أن الشرق لا يمثِّل إلا حياة عملية للغربيِّين. فلقد وُجِدَت (وتوجد) ثقافات وأمم تقع جغرافيًّا في الشرق، وكلٌّ منها له حياة وتاريخ وعادات تتسم بواقع صلب أعظم من كلِّ ما يمكن أن يقال تعبيرًا عنه في الغرب، وهذا واضح، ولا تعتزم هذه الدراسة عن الاستشراق أن تُضيفَ شيئًا يُذكَر إلى هذه الحقيقة، إلا الاعتراف بصدقها ضمنيًّا. ولكن ظاهرة الاستشراق التي أدرسها هنا ليس موضوعها مدى صدق الاستشراق في تصوير الشرق «الحقيقي»، ولكن موضوعي الرئيسي هو الاتساق الداخلي للاستشراق والأفكار التي أتى بها عن الشرق (كالقول بأن الشرق «حياة عملية») بغضِّ النظر عن أيِّ صدق أو كذب في تصوير الشرق «الحقيقي». والذي أرمي إليه هو أن ما يقوله «دزرائيلي» عن الشرق يُشير بصفة أساسية إلى ذلك الاتساق المصطنع؛ أي إلى تلك الكوكبة المنتظمة من الأفكار باعتبارها المعلَم البارز للشرق، لا إلى مجرد وجوده، إذا استخدمنا تعبير الشاعر والناقد «والاس ستيفنز».

ومن هذه الشروط ثانيًا أنه من المحال تفهُّم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها. فمن المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق؛ أي جعله يتخذ الصورة التي رسمها المستشرقون، أو الاعتقاد بإمكان حدوث ذلك على الإطلاق. فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة، وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة «المركَّبة» ويدل عليها بدقة عنوان الكتاب الرائع الذي كتبه «ك. م. بانيكار» وهو: «آسيا والسيطرة الغربية».2 ولم يكن سبب اكتساب الشرق للصورة التي رُسم بها يقتصر على أنَّ مَن رسموه اكتشفوا أنه يمكن أن يصبح «شرقيًّا» بالصورة الشائعة لدى الأوروبيِّين العاديِّين في القرن التاسع عشر، ولكنه يتجاوزه إلى اكتشاف إمكان جعله كذلك؛ أي إخضاعه لتلك الصورة الجديدة للشرق. ولا يكاد أحد يوافق على أن مقابلة الروائي الفرنسي «فلوبير» مع غانية مصرية هو الذي أخرج لنا نموذج المرأة الشرقية الذي امتدَّ تأثيره واتسع نطاقه، ولكن هذه المرأة لم تتحدَّث مطلقًا عن نفسها، ولم تُصور قط مشاعرها أو تُعبِّر عن وجودها أو تاريخها، بل إنه هو الذي تحدَّث باسمها وصوَّرها. وكان هو أجنبيًّا، يتمتع بثراء نسبي، وكان رجلًا، وهذه جميعًا حقائق تاريخية مكَّنَته من فرض سيطرته ومكَّنَته؛ لا من امتلاك «كشك هانم» جسديًّا فقط بل أيضًا من التحدث باسمها، وإِطْلاع قُرَّائه على جوانب «تمثيلها للمرأة الشرقية». والحجة التي أطرحها هنا هي أن موقع القوة الذي كان يحتله «فلوبير» إزاء «كشك هانم» لم يكن يمثِّل حالة فردية، بل إنه يمثل بصدق نسقَ القوى النسبية بين الشرق والغرب، ويمثِّل «الخطاب» الخاص بالشرق الذي نشأ بفضل موقع القوة المذكور.

ويُفضي بنا هذا إلى شرط ثالث وهو أنه من الخطأ افتراض أن هيكل الاستشراق لا يزيد على كونه هيكلًا من الأكاذيب أو الأساطير، وأننا إذا ذكرنا الحقائق لدحض هذه وتلك فسوف ينهار البناء وتذروه الرياح، وأنا أعتقد شخصيًّا أن القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلًا على السيطرة الأوروبية الأمريكية على الشرق أكثر من كونه «خطابًا» صادقًا حول الشرق (وهو ما يزعمه الاستشراق في صورته الأكاديمية أو البحثية)، ومع ذلك فعلينا أن نحترم ونحاول أن نُدركَ ما يتسم به «خطاب» الاستشراق من قوة متماسكة متلاحمة الوشائج، والروابط الوثيقة إلى أبعد حدٍّ بينه وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تمنحه القوة، وقدرته الفائقة على الاستمرار. وعلى كل حال، فإنَّ أيَّ مذهب فكري يستطيع الصمود دون تغيير، واستمرار التمتع بمنزلة العلم الذي يتعلمه الناس (في المعاهد التعليمية والكتب والمؤتمرات والجامعات ومعاهد تخريج العاملين بوزارة الخارجية) منذ عصر «إرنست رينان»، في فرنسا، في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر في الولايات المتحدة، لا بد أن يكون أقوى من مجموعة من الأكاذيب وحسب. وليس الاستشراق إذن خيالًا أوروبيًّا متوهَّمًا عن الشرق، بل إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه مَن أنشأه، واستُثمرت فيه استثماراتٌ مادية كبيرة على مرِّ أجيال عديدة. وقد أدَّى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهبًا معرفيًّا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعيِ الغربيِّين، مثلما أدَّى تكاثر ذلك الاستمرار نفسه، بل وتحوله إلى مصدر حقيقي للإنتاج والكسب، إلى تكاثر الأقوال والأفكار التي تتسرب من الاستشراق إلى الثقافة العامة.

وقد وضع «جرامشي» التمييز التحليلي المفيد بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي؛ فالأول يعني الهيئات الطوعية (أو قُل العقلانية والبريئة من القسر على أقل تقدير) مثل المدارس، والعائلات والنقابات، والثاني يعني مؤسسات الدولة (الجيش والشرطة والبيروقراطية المركزية) والتي تتولَّى السيطرة المباشرة بين أبناء الشعب. وسوف تجد أن الثقافة حية عاملة داخل المجتمع المدني؛ حيث لا يتحقق تأثير الأفكار والمؤسسات والأشخاص الآخرين من خلال السيطرة بل من خلال الرضا وفق تعبير «جرامشي». وهكذا فإننا نرى في أيِّ مجتمع غير شمولي أن أشكالًا ثقافية معينة تتغلب على غيرها، مثلما نرى أن أفكارًا معينة تتمتع بنفوذ أكبر من غيرها، وقد أطلق «جرامشي» على شكل هذه «الزعامة» الثقافية لفظ الهيمنة، وهو مفهوم لا غنى لنا عنه في إدراك حقيقة الحياة الثقافية في البلدان الصناعية في الغرب. ولقد كانت الهيمنة، أو قُل النتيجة العملية المترتبة على الهيمنة الثقافية، هي التي كتبت للاستشراق استمراره مما يسميه «دنيس هاي» «فكرة أوروبا»3 ويعني بها الفكرة الجماعية التي تُحدد هويتنا «نحن» الأوروبيِّين وتفرق بينها وبين جميع «الآخرين» غير الأوروبيِّين، بل إننا نستطيع أن نقول إن العنصر الرئيسي في الثقافة الأوروبية هو على وجه الدقة الذي جعل تلك الثقافة مهيمنة داخل أوروبا وخارجها، أي فكرة الهوية الأوروبية باعتبارها هوية تتفوق على جميع الشعوب والثقافات غير الأوروبية. هذا إلى جانب هيمنة الأفكار الأوروبية عن الشرق، وهي التي تُكرر القول بالتفوق الأوروبي على التخلف الشرقي، وهو القول الذي عادةً ما يتجاهل إمكان وجود مفكر يتمتع بدرجة أكبر من الاستقلال أو التشكك وقد تكون له آراؤه المختلفة في هذا الأمر.
ويعتمد الاستشراق في وضع استراتيجيته، بأسلوب يتسم بالاتساق، على هذا التفوق المرن في الأوضاع، ومعناه وضع الغربي في سلسة كاملة من العلاقات التي يمكن أن تنشأ مع الشرق بحيث تكون له اليد العليا في كل علاقة منها. ولماذا لا يكون الأمر كذلك، خصوصًا في الفترة التي بزغ فيها نجم أوروبا بزوغًا فذًّا منذ أواخر عصر النهضة إلى الوقت الحاضر؟ لقد حضر العلماء أو الباحثون أو المبشرون أو التجار أو الجنود إلى الشرق، أو فكروا في أمر الشرق؛ لأنهم كانوا يستطيعون الحضور إلى الشرق، أو التفكير في الشرق، دون مقاومة تُذكَر من جانب الشرق. ففي الإطار العام لاكتساب المعرفة بالشرق، وتحت مظلة الهيمنة الغربية على الشرق في الفترة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، نشأت صورة مركبة للشرق، وأصبحت ملائمةً للدراسة في المعاهد العليا، وللعرض في المتاحف، ولإعادة الصوغ في وزارة المستعمرات، وللاستشهاد بها نظريًّا في الأطروحات الخاصة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الأحياء (البيولوجيا) وعلم اللغة، ودراسات الأعراق والدراسات التاريخية عن الجنس البشري والكون، إلى جانب الاستشهاد بنماذج منها في النظريات الاقتصادية والاجتماعية للتنمية والثورة والشخصية الثقافية، وسمات الفرد الوطنية والدينية. أضف إلى ذلك أن الفحص الإبداعي للموضوعات الشرقية كان يستند بصورة شبه كلية إلى وعيٍ غربي سائد، وهو الوعي الذي أفرز تلك الصورة المركزية للشرق التي لم يطعن فيها أحد، وكان ذلك أولًا وفق أفكار عامة تُحدد مَن هو الشرقي أو ما هو الشرقي، وبعد ذلك وفق منطق تفصيلي لا يخضع فحسب لحقائق الواقع الفعلي بل تُمليه شتى الرغبات وضروب القمع والاستثمار والتوقعات. فإذا كنَّا نستطيع الإشارة إلى بعض الأعمال الاستشراقية العظيمة القائمة على البحوث الأصيلة؛ مثل المنتخبات العربية التي وضعها «سلفستردي ساسي»، أو كتاب «وصف أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم» الذي كتبه «إدوارد وليم لين»، فعلينا أيضًا أن نذكر أن الأفكار العنصرية لدى رينان وجوبينو قد أملَتها نفس النزعة، مثل عدد كبير من الروايات الإباحية التي كُتبت في العصر الفكتوري، أي في الفترة ١٨٣٧–١٩٠١م (انظر التحليل الذي يقدمه «ستيفنز ماركوس» لما يسميه «التركي الشهواني»).4

ومع ذلك فعلينا أن نطرح على أنفسنا مرارًا هذا السؤال: أي الأمرين أهم في الاستشراق؟ الأمر الأول هو مجموعة الأفكار العامة التي تتجاهل كمية المادة العلمية المتاحة — ومَن ذا الذي يُنكر أن هذه المادة تتخللها أفكارُ التفوق الأوروبي، وشتى ألوان العنصرية، والإمبريالية، وأشباه ذلك، وكذلك الأفكار المتصلبة عن «الشرقي» بصفته لونًا من ألوان التجريد المثالي الذي لا يتغير — والأمر الثاني هو الأعمال البالغة التنوع، والتي كتبها عددٌ يكاد لا يُحصى من المؤلفين المتميزين الذين نستطيع أن نعتبرهم نماذجَ فردية للمؤلفين الذين تناولوا الشرق، والواقع، من زاوية معينة، وأن البديلَين، العام منهما والخاص، يمثِّلان منظورين للمادة نفسها؛ ففي كلتا الحالتين علينا أن نتناول الرواد في هذا المجال مثل «وليم جونز»، المستشرق البريطاني ابن القرن الثامن عشر، وكبار الفنانين مثل «نيرفال»؛ الشاعر الفرنسي ابن القرن التاسع عشر، ومعاصره «فلوبير»، الروائي الفرنسي. ولماذا يتعذر استعمال المنظورين معًا، أو أحدهما بعد الآخر؟ أفلا يتجلَّى خطرُ تشويه الحقيقة (من نوع ذلك التشويه نفسه الذي اتسمت به مذاهب الاستشراق الأكاديمية على الدوام) إذا التزمنا بصورة منتظمة بمستوى في الحديث أشد تعميمًا أو تخصيصًا مما ينبغي؟

تنحصر مخاوفي في أمرين: التشويه وعدم الدقة، أو بالأحرى ذلك اللون من عدم الدقة الذي ينتج عن التعميم القائم على الجمود المذهبي المبالغ فيه، أو عن التركيز على حالات فردية استنادًا إلى المنطق الوضعي وحده. ولقد حاولت، عند محاولة التصدي لهذه المشكلة، أن أتناولَ ثلاثة جوانب التي ظهر لي أنها تمثل المخرج من الصعوبات الخاصة بالمنهج وبالمنظور، وهي التي أناقشها هنا، وهي صعوبات قد تُرغم المرء أولًا على كتابة موضوعٍ جدليٍّ فظٍّ يتسم بمستوى من التعميم المفرط وغير المقبول، بحيث يصبح بذلُ الجهد فيه غيرَ مُجْدٍ، وقد تُرغمه ثانيًا على كتابة سلسلة من التحليلات التفصيلية والفردية المبالغ في خصوصيتها إلى الحد الذي يُعمي عينَيه تمامًا عن الخطوط العامة التي تسير فيها القوى المحركة في هذا المجال، وهي التي تمنحه قوته الخاصة. كيف نستطيع إذن إدراكَ الصفات الفردية والتوفيق بينها وبين السياق الفكري العام المهيمن، وهو أبعد ما يكون عن السلبية أو الاستبداد وحسب؟

٣

أشرتُ إلى ثلاثة من جوانب واقعي الشخصي، ولا بد لي من شرحها ومناقشتها مناقشةً موجزة حتى يتضح للقارئ كيف اهتديت إلى هذا المنهج المحدد في البحث والكتابة.

(١) التمييز بين المعرفة البحتة والمعرفة السياسية

من أيسر اليسير القول إن معرفة الشاعرَين «شيكسبير» أو «وردزورث» معرفةٌ غير سياسية، وإن معرفة الصين المعاصرة أو الاتحاد السوفييتي معرفةٌ سياسية. والصفة الرسمية والمهنية التي يتصف بها عملي هي صفة «دارس العلوم الإنسانية»، وهو لقب يعني أن العلوم الإنسانية هي مجال تخصصي، ومن ثَم ينفي وجودَ أيِّ طابع سياسي لعملي في هذا المجال، وبطبيعة الحال فإنني أستعمل هنا جميع هذه العناوين والمصطلحات دون الإيحاء بأيِّ ظلالِ معانٍ لها، ولكنني أعتقد أن عامة الناس يؤمنون بصحة ما أشرت إليه. ومن أسباب القول إن دارس العلوم الإنسانية الذي يكتب عن الشاعر «وردزورث»، أو إن محرر المجلة الأدبية المتخصص في الشاعر «كيتس»، لا شأن له بالسياسة؛ هو أن ما يفعله ليس له تأثير سياسي مباشر في الواقع بالمعنى المعتاد لهذا التعبير. وأما الباحث المتخصص في الاقتصاد السوفييتي فإنه يعمل في مجال مشحون إلى أقصى درجة، والحكومة تُبدي اهتمامًا كبيرًا به، كما أن ما ينتهي إليه من دراسات أو مقترحات قد يستعملها راسمو السياسات، ومسئولو الحكومة، والاقتصاديون العاملون بالمؤسسات، وخبراء الاستخبارات. ولنا أن نُوسع من نطاق التمييز بين «دارسي العلوم الإنسانية» وغيرهم ممن تترتب على عملهم سياسات معينة، أو ممن يتسم عملُهم بأهميته السياسية، إذا قلنا إن اللون الأيديولوجي للفئة الأولى ذو أهمية عارضة للسياسة (وإن كان من الممكن أن يكون بالغ الأهمية لزملائهم العاملين في المجال نفسه، وقد يتعرض البعض على توجُّهٍ ستالينيٍّ أو فاشيٍّ أو مذهب ليبرالي بالغ التحرر عند أحدهم) وإن أيديولوجية الفئة الثانية مبثوثة بصورة مباشرة في نسيج المادة التي تدرسها — بل إن العلوم السياسية وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع في الدراسات الأكاديمية الحديثة علوم أيديولوجية — ومن هنا كان التسليم بأن دراساتهم دراسات «سياسية».

ومع ذلك فإن الشرط الحاسم الذي تصطدم به معظم ألوان المعرفة المنتجة في الغرب المعاصر (وأنا أتحدث هنا بصفة أساسية عن الولايات المتحدة) هو أن تكون منزهة عن السياسة، بمعنى أن تكون علمية أكاديمية محايدة، تعلو على مستوى المعتقدات المذهبية الحزبية أو ضيقة الأفق. وقد يكون من المحال على المرء أن يطعن في هذا الطموح من الناحية النظرية، ولكننا نرى عند التطبيق أن الواقع الفعلي يُثير مشكلات كبرى؛ إذ لم يهتدِ أحدٌ قط إلى وسيلة تمكِّن الباحث من عزل نفسه عن ظروف الحياة من حوله، أو من المشاركة (واعيًا أو دون وعي) في طبقة من الطبقات، أو مجموعة من المعتقدات، أو من الانشغال بمركز اجتماعي أو حتى من مجرد ممارسة حياته باعتباره عضوًا في مجتمع معين. ولا تتوقف هذه الاعتبارات عن التأثير فيما يفعله في مهنته، حتى ولو كانت بحوثه ونتائجها تحاول، بطبيعة الحال، أن تَصِل إلى التحرر النسبي من العوائق النفسية، ومن القيود التي يفرضها واقع الحياة اليومية الذي لا يرحم. ولا شك في وجود معرفة أقل انحيازًا، لا أكثر انحيازًا، من الفرد الذي يُنتجها (وهو الذي يتعثر في شراك ظروف الحياة التي تُشتِّت انتباهه)، ولكن هذا لا يعني أن هذه المعرفة معرفة غير سياسية بصورة تلقائية.

والتساؤل عمَّا إذا كانت مناقشة الآداب أو فقه اللغات القديمة تحمل دلالةً سياسية أو تضمُّ في تضاعيفها دلالة سياسية مباشرة، تساؤل عريض واسع النطاق حاولتُ معالجته ببعض التفصيل في كتاب آخر5، أما ما يهمُّني أن أبيِّنَه الآن فهو كيف يؤدي الاتفاق الليبرالي العام في الآراء على أن المعرفة «الحقيقية» معرفةٌ غير سياسية في جوهرها (أو كيف يؤدي العكس؛ أي القول إن المعرفة السياسية السافرة معرفة «غير حقيقية») إلى تعتيم الظروف السياسية البالغة التنظيم التي أُنتجَت في ظلِّها هذه المعرفة مهما يكن ذلك التنظيم خفيًّا. وقد يستعصي ذلك على الفهم اليوم بسبب إطلاق صفة «السياسي» للحط من قيمةِ أيِّ عمل تجاسر صاحبُه على انتهاك أصول التظاهر بالموضوعية «فوق السياسية». ولنا أن نبدأ بالقول، أولًا، بأن المجتمع المدني يعترف بوجود درجات للأهمية السياسية في شتى مجالات المعرفة. ومصدر الأهمية السياسية التي يحظى بها مجال من المجالات يتمثل، إلى حدٍّ ما، في إمكان ترجمته ترجمة مباشرة إلى لغة الاقتصاد، ولكن الأهمية السياسية ترجع، بدرجة أكبر، إلى مدى اقتراب ذلك المجال من المصادر المؤكدة للسلطة في المجتمع السياسي. وهكذا فمن المحتمل أن تقوم وزارة الدفاع الأمريكية بتكليف البعض بإجراء دراسة اقتصادية لإمكانيات الطاقة الطويلة الأجل في الاتحاد السوفييتي، وآثارها بالنسبة لقدرته العسكرية، ومن ثَم تكتسب هذه الدراسة لونًا من المكانة السياسية التي من المحال أن تحظَى بها دراسة عن القصص الأولى التي كتبها «تولستوي»، الروائي الروسي ابن القرن التاسع عشر، وقد تكون إحدى المؤسسات قد ساهمت في تمويل الدراسة الأخيرة. ومع ذلك فإن كلتا الدراستَين تنتميان إلى ما يعترف المجتمع المدني بأنه مجالٌ مماثل، أي الدراسات الروسية، حتى ولو كان أحد العملين قد أنجزه باحث اقتصادي من المحافظين المتشددين، والآخر قد قام به مؤرخ أدبي راديكاليُّ الميول. والذي أرمي إليه هنا هو أن «روسيا» باعتبارها موضوعًا عامًّا تتمتع بأولوية سياسية تجعلها تتجاوز التمييز الدقيق بين التخصصات المختلفة، مثل «علم الاقتصاد» و«التاريخ الأدبي»؛ لأن المجتمع السياسي بالمعنى الذي وضعه «جرامشي» يمتدُّ تأثيره إلى مجالات أخرى في المجتمع المدني مثل الحياة الأكاديمية ويجعلها تتشبَّع بدلالات ذات أهمية مباشرة له.
لا أريد أن أواصل إقامةَ هذه الحجة على أسس نظرية عامة؛ إذ يبدو لي أنني أستطيع إثباتَ قيمتها ومصداقيتها إذا استشهدت بأمثلة محددة، ولأسلك مثلًا الطريق الذي سلكه «نعوم تشومسكي» في دراسته للرابطة الفعالة بين حرب فيتنام وفكرة البحث العلمي الموضوعي على النحو الذي طُبِّقَت به في تغطية البحوث العسكرية التي ترعاها الدولة.6 ولما كانت بريطانيا وفرنسا — والولايات المتحدة أخيرًا — دولًا إمبريالية، فإن مجتمعاتِها السياسيةَ تبثُّ في مجتمعاتها المدنية إحساسًا بالعجلة أو بأن ثَم مسألةً مُلحَّةً، كأنما هو تشريب سياسي مباشر، إن صح هذا التعبير، حيثما وكلما كان الأمر يتعلق بمصالحها الإمبريالية في الخارج. وأشكُّ في وجودِ أيِّ خلاف، مثلًا، حول القول بأن الإنجليزي الموجود في الهند أو في مصر في أواخر القرن التاسع عشر كان اهتمامه بهذين البلدين لا يبتعد قط عن صورتهما في ذهنه باعتبارهما من المستعمرات البريطانية. وقد يبدو القول بهذا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن القول إن جميع المعارف الأكاديمية عن الهند ومصر تحمل صبغةً ما، أو طابعًا ما، أو قُل انتهاكًا ما من جانب هذه الحقيقة السياسية الجسيمة، ومع ذلك فإن هذا هو الذي أقول به في هذه الدراسة عن الاستشراق. فإذا كان صحيحًا أنه من المحال أن نتجاهل أو نُنكرَ تأثُّرَ مَن يُنتج أيةَ معرفة في مجال العلوم الإنسانية بظروفه الخاصة باعتباره ذاتًا بشرية، فلا بد أن يكون صحيحًا كذلك أنه من المحال إنكارُ تأثُّر الدراس الأوروبي أو الأمريكي للشرق بالظروف الرئيسية لواقعه الراهن: أي إنه يتصدَّى للشرق باعتباره أوروبيًّا أو أمريكيًّا أولًا، وباعتباره فردًا ثانيًا. وكونه أوروبيًّا أو أمريكيًّا في مثل هذا الموقف لا يمكن أن يكون حقيقة «خامدة»؛ إذ كانت هذه الحقيقة تعني، ولا تزال، أنه على وعيٍ ما، مهما يكن هذا الوعيُ غائمًا، بأنه ينتمي إلى دولة ذات مصالح محددة في الشرق، والأهم من ذلك أنه ينتمي إلى بقعة من بقاع الأرض ذات تاريخ محدد في العلاقة بالشرق يكاد يرجع إلى زمن الشاعر «هوميروس» نفسه، قبل الميلاد.

ولكن الصياغة الحالية لتلك «الأحوال» السياسية صياغة غير محددة وتتسم بالتعميم الشديد الذي يسلبها القدرة على إثارة الاهتمام، وقد يوافق عليها أيُّ فرد دون أن يوافق أيضًا وبالضرورة على أنها كانت بالغةَ الأهمية، مثلًا، للروائي «فلوبير» عندما كتب «سلامبو» أو للكاتب «ﻫ. أ. ر. جيب» عندما كتب «الاتجاهات الحديثة في الإسلام». فالمشكلة أن الحقيقة الكبرى المهيمنة، بالصورة التي وصفتها بها، تفصلها مسافةٌ شاسعة عن تفاصيل الحياة اليومية التي تتحكم في النظام الدقيق للرواية أو للكتاب العلمي أثناء كتابته. لكننا إذا استبعدنا من البداية الفكرة التي تقول إن الحقائق «الكبرى»، مثل السيطرة الإمبريالية، يمكن تطبيقها بصورة آلية وحتمية على المسائل المعقدة مثل الثقافة والأفكار، فسوف نبدأ الاقتراب من لون طريف من ألوان الدراسة. والفكرة التي أطرحها هي أن الاهتمام الأوروبي، ثم الاهتمام الأمريكي، بالشرق كان اهتمامًا سياسيًّا وفق بعض الروايات التاريخية الواضحة له التي سبق لي إيضاحها، ولكن الثقافة هي التي أوجدَت ذلك الاهتمام، وجعلَت تمارس تأثيرها جنبًا إلى جنب مع الدوافع العقلانية الأخرى، من سياسية واقتصادية وعسكرية، حتى جعلت الشرق يتخذ صورة المكان المتنوع السمات والمعقد، وهي الصورة التي كان يبدو عليها بكل وضوح في المجال الذي أدعوه الاستشراق.

وهكذا فليس الاستشراق مجردَ موضوع أو مجال سياسي يتجلَّى بصورة سلبية في الثقافة أو البحث العلمي أو المؤسسات؛ وليس أيضًا مجموعةً كبيرة غير مترابطة من النصوص المكتوبة عن الشرق؛ بل وليس تمثيلًا وتعبيرًا عن مؤامرة إمبريالية «غربية» دنيئة تهدف إلى إخضاع العالم «الشرقي». لا، بل إنه الوعي الجغرافي السياسي المبثوث في النصوص العلمية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية واللغوية؛ وهو تطوير تفصيلي؛ ليس فقط للتمييز الجغرافي الأساسي (الذي يقول إن العالم ينقسم إلى نصفين غير متكافئين هما الشرق والغرب) بل أيضًا لسلسلة كاملة من «المصالح» التي يُستعان في تحقيقها والحفاظ عليها بشتى الوسائل؛ مثل نتائج البحوث العلمية، وإعادة البناء اللغوي القديم، والتحليل النفسي، ووصف ظواهر الطبيعة والمجتمعات؛ وهو في ذاته إرادة معينة أو نية معينة؛ أي إنه ليس مجردَ تعبير عن الإرادة والنية، لتفهم ما يبدو بوضوح عالمًا مختلفًا (أو عالمًا بديلًا وجديدًا)، وللسيطرة عليه في بعض الأحيان والتلاعب به وضمِّه إليه؛ وهو، قبل كل شيء، «خطاب» يأتي إلى الوجود ويحيَا في إطار التبادل المتقلب مع شتى أنواع السلطة، فيتشكل إلى حدٍّ كبير من خلال مبادلاته مع السلطة السياسية (مثل المؤسسات الاستعمارية أو الإمبريالية)، والسلطة الفكرية (مثل العلوم السائدة كاللغويات المقارنة أو التشريح، أو أي من العلوم السياسية الحديثة)، والسلطة الثقافية (مثل المناهج «الصحيحة» والمعتمدة للذوق والنصوص والقيم)، والسلطة الأخلاقية (مثل الأفكار الخاصة بما نفعله «نحن» ولا يستطيعون «هم» أن يفعلوه أو يفهموه مثلنا «نحن»). والواقع أن حجتي الحقيقية هي أن الاستشراق بُعدٌ مهمٌّ من أبعاد ثقافتنا السياسية الفكرية الحديثة؛ أي إنه لا يقتصر على «تمثيل» صورة هذا البُعد، وبهذه الصفة نرى أنه يتصل بعالمنا «نحن» أكثر مما يتصل بالشرق.

ولما كان الاستشراق حقيقةً ثقافية وسياسية فإنه ليس مجردَ مادة تشغل مكانًا ما في الأرشيف، فالعكس هو الصحيح، وأعتقد أنه يمكننا إثباتُ أن الأفكار أو الأقوال أو الأفعال الخاصة بالشرق تتبع مساراتٍ متميزة واضحة نستطيع إدراكها فكريًّا (بل وتقع أحيانًا داخل هذه المسارات). ونستطيع أن نرى هنا أيضًا الدور الكبير الذي يقوم به التمييز بين المعاني والتفاصيل الدقيقة، على نحو ما يتبدَّى في الموازنة بين ضغوط البنية الفوقية، وهي ضغوط عامة، وبين تفاصيل التأليف أو الحقائق النصية. وأعتقد أن معظم الباحثين في العلوم الإنسانية مقتنعون كلَّ الاقتناع بأن كلَّ نصٍّ يوجد في سياق معين، وبأن التناصَّ حقيقة قائمة، وبأن ضغوط الأعراف، والأسلاف والأساليب البلاغية تحدُّ مما أطلق عليه «فالتربنيامين» تعبيرَ «إرهاق المبدع بأثقال أكبر من طاقته باسم … مبدأ «الإبداع»» وهو الذي يعني الاعتقاد بأن الشاعر قد أخرج عملَه وحدَه وبنفسه زمن ذهنه الخالص.7 ونلمح مع ذلك معارضةً من جانب مَن لا يقبلون التسليم بأن القيود السياسية والمؤسسية والأيديولوجية تُحدث التأثير نفسه في المؤلف الفرد. ودارس العلوم الإنسانية يعتقد أن أيَّ مفسر لروايات «بلزاك»، الفرنسي ابن القرن التاسع عشر، سوف يجد طرافةً في حقيقة تأثر الكاتب، عندما كتب الكوميديا الإنسانية، بالصراع بين جيفروا سانت-هيلير وبين كوفيير، ولكنه قد يشعر بأن لونًا من الضغوط المماثلة، وهو ضغط المَلَكية الرجعية، بل المغرقة في الرجعية، يحط — بصورة غامضة — من «العبقرية» الأدبية للكاتب ويجعله أقلَّ استحقاقًا للدراسة الجادة. وعلى غرار ذلك — وعلى نحو ما يحاول «هاري براكن» إيضاحَه دون كللٍ أو ملل — نرى الفلاسفة يُجرون مناقشاتهم للفيلسوف «لوك»، ابن القرن السابع عشر، و«هيوم»، ابن القرن الثامن عشر، وللمذهب الإمبيريقي؛ أي التجريبي دون أن يأخذوا في اعتبارهم على الإطلاق وجودَ رابطة سافرة في كتابات هؤلاء الكُتَّاب الكلاسيكيِّين بين مذاهبهم «الفلسفية» والنظرية العنصرية، وتبريرات ممارسة الرق، أو حجج الدفاع عن الاستغلال الاستعماري.8 وليست هذه سوى بعض السبل الشائعة التي تسلكها الدراسات البحثية المعاصرة للحفاظ على نقائها.
وربما يكون من الصحيح أن معظم محاولات «إهانة» الثقافة بالزجِّ بها في حلبة السياسة كانت من قبيل التمرد الفظ والخروج عن المألوف دون تروٍّ، وربما يكون التفسير الاجتماعي للأدب في مجالي الخاص قد عجز عن مسايرة التقدم التقني الهائل في التحليل النصي التفصيلي. ولكنه لا بد من مواجهة الحقيقة، وهي أن القائمين بالدراسات الأدبية بصفة عامة وأصحاب النظريات الماركسية من الأمريكيِّين بصفة خاصة، قد تحاشَوا إلى الآن بذل الجهد اللازم لسدِّ الفجوة جديًّا بين مستوى البناء الفوقي ومستوى القاعدة في البحوث النصية التاريخية؛ بل إنني ذهبتُ في مناسبة أخرى إلى القول بأن المؤسسة الأدبية الثقافية، بصفة عامة، قد أعلنت أن الدراسة الجادة للإمبريالية والثقافة منطقة محظورة؛9 إذ إن الاستشراق يدفعنا إلى المواجهة المباشرة مع هذه المسألة — أي إدراك أن الإمبريالية السياسية تحكم مجالًا كاملًا من الدراسات والإبداع والمؤسسات البحثية — وبحيث يصبح تجنُّبُها محالًا من الناحيتَين الفكرية والتاريخية. ومع ذلك فإن آلية الهروب تظل قائمةً على الدوام، وهي القول بأن الباحث الأدبي والفيلسوف، على سبيل المثال، قد تلقَّيَا تعليمَهما في الأدب والفلسفة على الترتيب، لا في السياسة والتحليل الأيديولوجي. وهكذا، وبتعبير آخر، تستطيع حجة المتخصص أن تُحقق نجاحًا فعليًّا في الحيلولة دون إتاحة المنظور الأشمل، وهو في رأيي أشدُّ خطرًا من الناحية الفكرية.
ويبدو لي هنا وجود إجابة بسيطة تتكون من قسمين، على الأقل فيما يتعلق بدراسة الإمبريالية والثقافة (أو الاستشراق)؛ ففي المقام الأول نرى أن كلَّ كاتب تقريبًا من كُتَّاب القرن التاسع عشر (شأنهم في ذلك شأن مَن سبقوهم) كان على وعيٍ فذٍّ بحقيقة الإمبراطورية، وهذا موضوع لم يحظَ حتى الآن بالدراسة الجيدة، لكن المتخصص الحديث في العصر الفكتوري لن يلبثَ أن يعترف بأن أبطال الثقافة الليبرالية؛ مثل «جون ستيورات مِل»، الفيلسوف، و«ماثيو أرنولد»، الشاعر والناقد، و«توماس كارلايل»، الأديب والمفكر، و«فرانسيس نيومان»، المصلح الديني، و«توماس ماركولي»، المؤرخ، و«جون رسكين»، الناقد الفني، و«جورج إليوت»، الروائية، بل و«تشارلز ديكنز» نفسه، الروائي، كانت لهم آراؤهم المحددة بشأن الامتياز العنصري والإمبريالية، ومن اليسير إدراك تأثيرهما في كتاباتهم. وهكذا فلا بد أن يتصدَّى المتخصص نفسه للحقيقة التي أوضحها «مِل»، مثلًا، في دراسته عن الحرية وعن الحكومة النيابية وهي قوله إن آراءه لا تصلح للتطبيق في الهند (فلقد كان هو نفسه موظفًا في وزارة الشئون الهندية فترة طويلة من حياته)؛ لأن الهنود كانوا أدنى حضاريًّا وإن لم يكونوا أدنى عنصريًّا. ونستطيع أن نعثرَ على هذه المفارقة نفسها في كتابات «كارل ماركس»، على نحو ما أحاول إثباته في هذا الكتاب. ونحن نرى ثانيًا أن الاعتقاد بأن السياسة، في صورة الإمبريالية، تؤثر في إنتاج الأدب والدراسة الأدبية والنظرية الاجتماعية وكتابة التاريخ، لا يعني أن ذلك يحطُّ من قدر الثقافة أو يُهينها. فالعكس هو الصحيح، وكل ما أرمي إليه هو القول بأننا سوف يزداد تفهمنا لظاهرة استمرار ودوام مذاهب الهيمنة التي تتشبع بها النفوس، مثل الثقافة، عندما نُدرك أن القيود الداخلية التي تفرضها على الكُتَّاب والمفكرين كانت مثمرةً ولم تكن في ذاتها تعوقهم عن الإنتاج. وهذه هي الفكرة التي حاول إيضاحها كلٌّ من «جرامشي»، المفكر الإيطالي، و«فوكوه»، الفيلسوف الفرنسي، و«رايموند ويليامز»، المفكر البريطاني، وإن اختلفت سبُلُ إيضاحِ كلٍّ منهم. والواقع أن قراءةَ صفحة أو صفحتين عن «وسائل الانتفاع بالإمبراطورية» في كتاب الثورة الطويلة الذي وضعه «ويليامز» تُفصح لنا عن الثراء الثقافي للقرن التاسع عشر أكثر مما تُفصح عنه مجلدات كثيرة من التحليلات النصية المحكمة.10

ومن ثَم فإنني أدرس الاستشراق باعتباره صورة للتبادل؛ أي التفاعل الدينامي بين المؤلفين الأفراد والمشاغل السياسية الكبرى التي شكَّلتها الإمبراطوريات العظمى الثلاث؛ البريطانية والفرنسية والأمريكية، وهي التي نبتت في تربتها الفكرية والإبداعية كتاباتهم. وأما أشد ما يهمني، باعتباري باحثًا، فلا يكمن في الصدق السياسي الكلي بل في التفاصيل، مثلما نجد أن ما يهمنا في كتابات كاتب؛ مثل «إدوارد لين أو جوستاف فلوبير أو إرنست رينان»، لا يكمن فيما يراه هو من الصدق المطلق لمقولة تفوق الغربيِّين على الشرقيِّين، بل في الشواهد التفصيلية التي يُطوِّعها ويتلاعب بها بحذق شديد في المجال الفسيح الذي أتاحه له إيمانُه بصدق المقولة المذكورة، ويكفي لتفهُّم ما أقوله هنا أن نذكر أن كتاب «أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم» الذي وضعه «إدوارد لين» أصبح عملًا كلاسيكيًّا باهرًا، بما يُسجله من دقة الملاحظات التاريخية والأنثروبولوجية، بسبب أسلوبه، وبسبب تفاصيله الرائعة التي تنمُّ عن ذكاء خارق، لا بسبب ما يتجلَّى فيه من الإحساس بالتفوق العنصري.

وهكذا فإن أنواع الأسئلة السياسية التي يطرحها الاستشراق هي: ما أنواع الطاقات الأخرى، الفكرية والجمالية والعلمية والثقافية التي شاركت في تشكيل التقاليد الإمبريالية، مثل تقاليد الاستشراق؟ كيف شارك فقه اللغة، ووضع المعاجم، والتاريخ، والبيولوجيا، والنظرية السياسية والاقتصادية، وكتابة الروايات والشعر الغنائي في خدمة رؤية الاستشراق للعالم؛ وهي الرؤية التي تعتبر إمبريالية بصفة عامة؟ ما التغيرات والتحويرات والتشذيبات بل والثورات التي حدثت داخل الاستشراق؟ وما معنى الأصالة والاستمرار والنزعة الفردية في هذا السياق؟ وكيف ينقل الاستشراق نفسه أو يتوالد من حقبة إلى حقبة؟ وفي النهاية، كيف نعالج ظاهرة الاستشراق، وهي ظاهرة ثقافية وتاريخية، باعتبارها ضربًا من الجهد البشري المتعمد — لا من التسلسل المنطقي وغير المشروط للأحداث — وبكل تعقيدها التاريخي وتفاصيلها وأهميتها دون أن تغفل عيوننا، في الوقت نفسه، عن التحالف القائم بين العمل الثقافي، والاتجاهات السياسية، والدولة، وحقائق السيطرة المحددة؟ وما دامت الدراسة تجري في العلوم الإنسانية وتحكمها هذه الشواغل، فإن لها أن تتصدَّى، بروح المسئولية، للسياسة والثقافة معًا. ولكن هذا لا يعني أن مثل هذه الدراسة تضع قواعدَ ملزمةً عن العلاقة بين المعرفة والسياسة، ولكن حجتي تقول إن على كلِّ بحث في العلوم الإنسانية أن يصوغ الطابع الخاص لهذه الرابطة في غضون السياق المحدد للدراسة، وموضوعها وظروفها التاريخية.

(٢) المسألة المنهجية

بذلت في كتاب سابق قدرًا كبيرًا من التفكير وقدرًا كبيرًا من التحليل للأهمية المنهجية لإيجاد وتحديد الخطوة الأولى للعمل في العلوم الإنسانية، أو نقطة الانطلاق، أو المبدأ الذي يُهتدى به عند الشروع في العمل11 ولقد كان من الدروس الكبرى التي تعلَّمتُها وحاولتُ تقديمها للناس أنه لا يوجد ما يسمَّى نقطةَ انطلاق جاهزة أو متاحة للجميع، بل لا بد من إعداد البدايات اللازمة لكل مشروع بحيث تُتيح التوصل إلى ما يترتب عليها وما يتبعها. ولم أُخبَر واعيًا صعوبةَ هذه المسألة في كل ما مررت به من خبرات (ولا أستطيع أن أحكم حقًّا على مدى نجاحي أو فشلي في هذا) مثلما خبرت هذه الصعوبة في دراستي الحالية للاستشراق؛ إذ إن فكرة البداية، بل والابتداء نفسه يتضمن بالضرورة بذلَ جهدٍ معين لوضع الحدود، ومعنى هذا اقتطاع جزء من كمٍّ هائل من المادة، وفصله عنها، واعتباره يمثِّل البداية وأنه هو البداية كذلك. ومن أمثال هذا التحديد الافتتاحي عند دارسي النصوص فكرة الإشكالية التي وضعها «لويس ألتوسير»، الفيلسوف الفرنسي، وكان يعني بها وحدةً محددة ومقدرة من أحد النصوص أو من مجموعة من النصوص، وتمثِّل أحد نواتج التحليل لها.12 لكنه في حالة الاستشراق (بخلاف نصوص «ماركس»، وهي التي يدرسها «ألتوسير») لا تقتصر المشكلة على صعوبة العثور على نقطة انطلاق، أو على إشكالية، ولكنها تتضمن أيضًا مشكلة تحديد النصوص والمؤلفين والفترات التي تصلح أكثر من غيرها للدراسة.
وقد بدا لي من الحمق أن أحاول سردَ تاريخ موسوعي للاستشراق؛ أولًا لأنه لو كان المبدأ الذي أهتدي به هو «الفكرة الأوروبية عن الشرق» فلن يكون للمادة التي ألتزم بتناولها حدود، تقريبًا، وثانيًا لأن النموذج السردي نفسه لم يكن مناسبًا لاهتماماتي الوصفية والسياسية؛ وثالثًا لأن لدينا بعضَ الكتب الكافية في هذا الباب؛ مثل كتاب «ريمون شواب» بالفرنسية عن النهضة الشرقية، وكتاب «يوهان فوك» بالألمانية عن الدراسات العربية في أوروبا حتى مستهل القرن العشرين، وأخيرًا كتاب «دوروثي ميتليتسكي» بالإنجليزية عن موضوع بلاد العرب في إنجلترا في العصور الوسطى13 وهي جميعًا أعمال موسوعية تتناول جوانبَ معينة من تاريخ التلاقي بين أوروبا والشرق، وكلُّها تُحدد للناقد مهمةً مختلفة في السياق السياسي والفكري العام الذي سبق لي وضعُ خطوطه العامة.

ومع ذلك فقد ظلت أمامي مشكلة تخفيض حجم المادة المتاحة والبالغة الضخامة إلى حجمٍ تسهل معالجته، والأهم من ذلك وضع الخطوط العريضة لما يُشبه الترتيب الفكري لمجموعة النصوص المختارة لا الالتزام بالتسلسل الزمني دون خطة فكرية. ومن ثَم كانت نقطة البداية عندي تتمثل في الخبرة البريطانية والفرنسية والأمريكية بالشرق، باعتبارها وحدة متماسكة، إلى جانب الخلفية التاريخية والفكرية التي أتاحت تكوين هذه الخبرة، وكذلك نوع وطابع هذه الخبرة. وللأسباب التي سوف أناقشها بعد قليل خفضت مجموعة المسائل المذكورة، بعد تخفيضها السابق (وإن كانت لا تزال بالغة الضخامة) وقصرتها على الخبرة الأنجلوفرنسية والأمريكية بالعرب والإسلام، وهما الموضوعان اللذان ظلَّا يمثلان الشرق معًا على ما يقرب من ألف عام. وما إن فعلت ذلك حتى وجدت أنني استبعدت، فيما يبدو، جانبًا كبيرًا من الشرق — الهند واليابان والصين وغيرها من بلدان الشرق الأقصى — لا لأن هذه الأقاليم لم تكن مهمة (فلقد كانت مهمةً بكل وضوح)، ولكن لأننا نستطيع أن نناقش خبرةَ أوروبا بالشرق الأدنى، أو بالإسلام، بمعزل عن خبرتها بالشرق الأقصى، ومع ذلك ففي لحظات معينة من التاريخ العام لاهتمام أوروبا بالشرق تتعذر مناقشة مناطق معينة منه؛ مثل مصر وسوريا وشبه الجزيرة العربية، دون دراسة انشغال أوروبا وارتباطها بالمناطق القصوى أيضًا، وأهمها بلاد فارس والهند، وأشهر الحالات في هذا الصدد حالة الربط بين مصر والهند بالنسبة لبريطانيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعلى غرار ذلك فقد شهدنا الدور الفرنسي البارز في فك رموز «زند-أفستا»؛ أي الكتاب المقدس للمذهب الزرادشتي باللغة الفارسية القديمة، وسطوع نجم باريس باعتبارها مركزًا للدراسات السنسكريتية؛ أي اللغة الهندية القديمة، في العقد الأول من القرن التاسع عشر، ورأينا أن اهتمام «نابليون بونابرت» بالشرق كان مرتبطًا بإدراكه للدور البريطاني في الهند، وكلها من أمور الشرق الأقصى التي أثَّرت تأثيرًا مباشرًا في اهتمام فرنسا بالشرق الأدنى والإسلام والعرب.

وقد فرضت بريطانيا وفرنسا سيادتهما على منطقة شرق البحر المتوسط منذ نهاية القرن السابع عشر تقريبًا، ولكن مناقشتي لهذه السيادة وهذا الاهتمام قاصرة في أمرين: (أ) فهي لا تنصف المساهمات المهمة في الاستشراق التي قدَّمتها ألمانيا وإيطاليا وروسيا وإسبانيا والبرتغال. (ب) وهي تقصِّر في تناول الحقيقة التي تقول إن من أهم الدوافع على دراسة الشرق في القرن الثامن عشر ثورةً في دراسات الكتاب المقدس، كان من ورائها روادٌ أثاروا الاهتمام لأسباب منوعة مثل الأسقف «لووث»، ومثل «أيخهورن، وهيردر ومايكليس». فلقد كان عليَّ في المقام الأول أن أحصرَ تركيزي حصرًا صارمًا في المادة البريطانية-الفرنسية، ومن بعدها المادة الأمريكية، بعد أن بدَت لي حتمية صدق القول بأن بريطانيا وفرنسا كانتا الدولتَين الرائدتَين في الشرق والدراسات الشرقية، وإلى جانب ذلك نجد أن هذه المواقع الرائدة قد تحققت لهما بفضل أعظم شبكتَين استعماريَّتَين في تاريخ ما قبل القرن العشرين؛ وأما الموقع الأمريكي في الشرق منذ الحرب العالمية الثانية فقد نشأ — وأعتقد أنه اتسم بارتباك مؤكد — في المناطق التي اكتشفَتها الدولتان الأوروبيَّتان اللتان سبقتَا إليها. أضِف إلى هذا أيضًا أن جودة الكتابات البريطانية والفرنسية والأمريكية عن الشرق، واتساقها وضخامة حجمها يجعلها في اعتقادي تتفوق على العمل الذي أنجزَته ألمانيا وإيطاليا وروسيا وغيرها، رغم أنه عملٌ بالغ الأهمية، وإن كنت أظنُّ أيضًا أنه من الصحيح القول إن الخطوات الكبرى في الدراسات الشرقية قد اتُّخذَت أول ما اتُّخذَت إما في بريطانيا أو في فرنسا، ثم زاد عليها وطورها الألمان. لقد كان «سلفستر دي ساسي»، على سبيل المثال، أول مستشرق أوروبي حديث ينتمي لمؤسسة محددة، ولقد بحث الإسلام والأدب العربي وديانة الدروز، وبلاد الفرس في عصر الأسرة الساسانية، وكان إلى جانب ذلك معلِّمًا ﻟ «شامبوليون وفرانتس بوب»، ومؤسسًا لعلم اللغة المقارن في الألمانية. ولنا أن نُقر بالأولوية التي يتمتع بها أيضًا «وليم جونز وإدوارد وليم لين» وسطوع نجمهما بعد ذلك.

وفي المقام الثاني — وهنا أجد الكثير الذي يعوضني عن القصور الذي ذكرته في دراستي للاستشراق — أُجريَت منذ عهد قريب دراسات مهمة عن دراسات الكتاب المقدس باعتبارها الخلفية التي نشأ فيها ما أسميته بالاستشراق الحديث. وأفضل هذه الدراسات وأوثقها صلةً بالموضوع وإيضاحًا له هي الدراسة التي كتبها «أ. س. شافر» في كتابه الرائع «قبلاي خان وسقوط أورشليم»14 وهي دراسة لا غنى عنها لمن يريد أن يفهم أصول الرومانسية والنشاط الفكري الذي يدعم الكثير مما نجده في شعر «كولريدج وبراوننج» وروايات «إليوت» ويعتبر عمل «شافر»، إلى حدٍّ ما، صورة أنقى تهتدي بالخطوط العريضة التي رسمها «ريمون شواب»، بإقامة الروابط بين أجزاء المادة ذات الصلة بالموضوع والموجودة في كتابات علماء الكتاب المقدس الألمان، وباستخدام هذه المادة لتقديم قراءة تتسم بالفطنة والطرافة لأعمال ثلاثة من كبار الكُتَّاب البريطانيِّين، ومع ذلك فإنَّ هذا الكتاب يفتقر إلى درجة من درجات اللون السياسي والأيديولوجي الذي أضفاه الكُتَّاب البريطانيون والفرنسيون، وهم مدار اهتمامي الرئيسي، على المادة الشرقية. أضِف إلى ذلك أنني أحاول، خلافًا ﻟ «شافر»، إيضاح التطورات اللاحقة في الاستشراق الأكاديمي والاستشراق الأدبي، وهي التي ترتبط بصلة ما بين الاستشراق البريطاني والفرنسي من ناحية، وبين نشأة إمبريالية استعمارية التفكير بصورة سافرة من ناحية أخرى. كما أنني أيضًا أرغب في تبيان الأسلوب الذي عادت به هذه الأمور المبكرة إلى الظهور — وكما هي تقريبًا — في الاستشراق الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكنَّ لدراستي جانبًا قد يكون خادعًا؛ إذ إنني لا أُشير إلا إشارات عابرة إلى التطورات الألمانية بعد الفترة الافتتاحية التي سادها «ساسي» ولا أناقش تلك التطورات مناقشة مستفيضة، وكل عمل يسعى لتقديم شرح للاستشراق الأكاديمي ويكاد يغفل بعض كبار الباحثين؛ مثل «شتاينتال، ومولر، وبيكر، وجولدتسيهر، وبروكلمان، ونولدكه» — إذا اقتصرتُ على حفنة منهم وحسب — لا بد من مؤاخذته، وأنا أؤاخذ نفسي دون تحفُّظ، وأُعرب عن أسفي بصفة خاصة؛ لأنني لم أخصص مساحةً أكبر للحديث عن الصيت العلمي المدوِّي الذي اكتسبَته البحوث الألمانية في نحو منتصف القرن التاسع عشر، وقد رأت الروائية «جورج إليوت» في تجاهل هذا الصيت إدانةً لانغلاق الباحثين البريطانيِّين على أنفسهم، وأرى الآن بعين خيالي الصورة التي رسمَتها في رواية «ميدلمارش» للمستر «كازوبون»، وهي صورة لا تنسى؛ إذ يقول ابن عمه الصغير «ول لاديسلو» إن من أسباب عجز «كازوبون» عن الانتهاء من وضع دراسته «مفتاح جميع الأساطير» أنه غيرُ مُلمٍّ بالبحوث الألمانية. فالأمر لا يقتصر على أن «كازوبون» قد اختار موضوعًا «دائم التغير مثل الكيمياء، حيث تؤدي المكتشفات الجديدة المتوالية إلى تقديم وجهات نظر جديدة» بل إنه يضطلع بعمل شبيه بإثبات خطأ العلامة «باراسيلساس»؛ لأنه «ليس مستشرقًا، كما تعلم».15

ولم تُخطئ «إليوت» في إلماحها بأن البحوث الألمانية كانت قد احتلَّت الصدارة الكاملة في أوروبا بحلول عام ١٨٣٠م تقريبًا، وهو الوقت الذي تدور فيه أحداث روايتها المذكورة. ولكنه كان من المحال، في أيِّ مرحلة من مراحل البحوث الألمانية في الثلثين الأولين من القرن التاسع عشر، قيام مشاركة وثيقة بين المستشرقين وبين الاهتمام القومي المديد والطويل الأجل بالشرق، فلم يكن لألمانيا حضورٌ في الشرق يماثل الحضور الأنجلوفرنسي في الهند وفي بلاد الشام وشمال أفريقيا. كما أن الشرق كان وجوده في ألمانيا يكاد يقتصر على البحوث العلمية أو قُل إنه كان شرقًا كلاسيكيًّا، فلقد استوحاه المبدعون في الشعر الغنائي، والتهويمات الخيالية، بل وفي الروايات، لكنه لم يكن قط شرقًا فعليًّا بالصورة التي كانت مصر وسوريا تبدوان عليها لعيون «شاتوبريان، أو لين، أو لامارتين، أو بيرتون، أو دزرائيلي، أو نيرفال». ولننظر إلى اثنين من أشهر الأعمال الألمانية التي كُتبت عن الشرق؛ الأول كتبه «جوته» بعنوان: «ديوان الشرق والغرب»، والثاني كتبه «فريدريش شليجيل»: «عن لغة الهند وحكمتها»، نجد أن الأول كان يقوم على رحلة في نهر الراين والثاني على ساعات قضاها المؤلف في مكتبات باريس، ولهذا ما له من دلالة. وكانت ثمار بحوث الاستشراق الألمانية تتمثل في إحكام وتطوير تقنيات البحث العلمي وتطبيقها على النصوص والأساطير والأفكار واللغات التي جمعها رجال الإمبراطوريَّتَين؛ البريطانية والفرنسية، دون مبالغة، من الشرق.

أما الصفة التي يشترك فيها الاستشراق الألماني مع الاستشراق الأنجلوفرنسي، ومن بعده الاستشراق الأمريكي، فهي تمتُّعه بضرب من السلطة الفكرية على الشرق داخل الثقافة الغربية؛ بمعنى أنه كان الثقة والمرجع، ولا بد أن تكون هذه السلطة، إلى حدٍّ كبير، الموضوع الذي تتناوله أي دراسة للاستشراق، وهي كذلك في هذه الدراسة. بل إن اسم الاستشراق نفسه يُوحي بأسلوب جاد من أساليب الخبرة، وقد يكون ثقيل الوطأة أيضًا، وعندما أستعمل ذلك الاسم في الإشارة إلى علماء الاجتماع الأمريكيِّين المحدثين (واستعمالي للاسم غريب؛ لأنهم لا يُطلقون على أنفسهم لقب المستشرقين)، فإنني أريد أن ألفت الأنظار إلى أن خبراء الشرق الأوسط لا يزالون قادرين على الانتفاع بآثار الموقع الفكري الذي كان الاستشراق يشغله في القرن التاسع عشر في أوروبا.

لا تتسم السلطة بسمات غامضة أو سمات طبيعية، فهي تتشكل، فيبدأ إشعاعها ونشرها، كما يستخدمها صاحبها لغاية ما، وفي إقناع غيره، كما أنها تتمتع بمكانة خاصة، فهي تُرسي معايير الذوق والقيم، وهي لا تكاد تتميز عن بعض الأفكار التي ترفعها إلى منزلة الحقيقة، ولا عن التقاليد والآراء والأحكام التي تُشكِّلها وتَبُثُّها وتُولِّدها. والأهم من هذا كلِّه أن السلطة تقبل التحليل بل لا بد من تحليلها. وجميع الصفات المذكورة للسلطة تنطبق على الاستشراق، ويتمثل جانبٌ كبير مما أفعله في هذه الدراسة في وصف السلطة التاريخية في الاستشراق، وسلطة الاستشراق الشخصية.

أما وسائلي المنهجية الرئيسية لدراسة السلطة هنا فتنحصر في اثنتين؛ يمكن أن نُطلق على الأولى تعبيرَ الموقع الاستراتيجي، وأعني به طريقةَ وصفِ موقع المؤلف في أحد النصوص إزاء المادة الشرقية التي يكتب عنها، والثانية هي التشكيل الاستراتيجي، وأعني به طريقةَ تحليل العلاقة فيما بين النصوص، والوسيلة التي تتمكن بها مجموعة من النصوص، أو أنماط النصوص، بل وأجناس النصوص، من اكتساب الصلابة والكثافة والقوة المرجعية فيما بينها أولًا، ثم في الثقافة بصفة عامة بعد ذلك. وأنا لا أستعمل فكرة الاستراتيجية إلا لتحديد المشكلة التي يواجهها كلُّ كاتب عن الشرق: كيف يحيط بالشرق، وكيف يكون مدخله إليه، وكيف يحول دون انهزامه الشخصي أو اندحاره نفسيًّا أمام سمو الشرق الروحي، ونطاقه الشاسع، وأبعاده الرهيبة. ولا بد لكلِّ مَن يكتب عن الشرق أن يضعَ نفسه في موقع مواجهة مع الشرق، وهذا الموقع حين يترجمه الكاتب في نصِّه يتضمن الصوت السردي الذي يتخذه، ونمط البناء الذي يبنيه، وأنواع الصور، والموضوعات والأفكار الأساسية التي تدور في ثنايا النص، وتصبح في مجموعها طرائق متعمدة لمخاطبة القارئ، و«احتواء» الشرق، ثم تمثيله في نهاية الأمر أو التحدث باسمه. ولكن أيًّا من هذا لا يحدث في فراغ، فكل كاتب عن الشرق (ويصدق هذا على الجميع، حتى على «هوميروس») يتخذ لنفسه «سابقة» شرقية؛ أي معرفة سابقة بالشرق من لون ما، يرجع إليها ويعتمد عليها. أضف إلى ذلك أن كلَّ عمل يتناول الشرق يربط نفسه بالأعمال الأخرى، وبجماهير القراء، وبالمؤسسات، وبالشرق نفسه. وهكذا فإن مجموع العلاقات فيما بين هذه المؤلفات والجماهير وبعض جوانب الشرق المحددة يعتبر تشكيلا قابلًا للتحليل — مثل التشكيل الذي يضمُّ دراسات فقه اللغة، والمنتخبات من نصوص الآداب الشرقية، وكتب الرحلات، والقصص الخيالية الشرقية — إذ إن وجود هذا التشكيل على مر الزمن، وفي كلام الناس وتفكيرهم، وفي المؤسسات (المدارس والمكتبات ووزارات الخارجية) يَهَبه القوة والسلطة.

وأرجو أن يكون واضحًا أن اهتمامي بالسلطة لا يستلزم تحليلَ ما هو خبيءٌ وخفيٌّ في النص الاستشراقي، بل تحليل ما يسمَّى بسطح النص؛ أي موقعه خارج ما يتحدث عنه. ولا أعتقد أن تأكيد هذه الفكرة فيه إطناب؛ فالاستشراق يفترض الموقع الخارجي للمستشرق شاعرًا كان أو باحثًا، فهو يجعل الشرق يتكلم، ويصف الشرق، ويشرح أسراره الغامضة للغرب ومن أجل الغرب. والشرق لا يعنيه إلا باعتباره السبب الأول لما يقوله، فالقصد مما يقوله وما يكتبه؛ لأنه قد قيل أو كتب، أن يدل على المستشرق خارج الشرق، باعتباره حقيقة وجودية ومعنوية. وأما الثمرة الرئيسية لهذا الوجود الخارجي فهي تمثيل الشرق؛ فمنذ عهد بعيد، من أيام مسرحية «الفرس» التي كتبها الشاعر اليوناني «أيسخولوس»، قبل الميلاد، والشرق يتحول من شخصية الآخر الذي يبعد إلى أقصى حدٍّ عن الغرب، وكثيرًا ما يمثِّل خطرًا يتهدده، إلى شخصيات مألوفة نسبيًّا (ويتخذ في حالة «أيسخولوس» صورة النساء الآسيويات النادبات). والحضورية الدرامية للتمثيل التصويري لمسرحية «الفرس» تؤدي إلى تعتيم حقيقة مهمة وهي أن الجمهور يشاهد تمثيلًا مصطنعًا إلى حدٍّ بعيد لشخصيات جعلها رجل غير شرقي ترمز للشرق كله. وهكذا فإن تحليلي للنص الاستشراقي يؤكد الأدلة، وهي أبعد ما تكون عن الخفاء، على هذه الصور التمثيلية باعتبارها صورًا تمثيلية لا باعتبارها صورًا «طبيعية» للشرق. ونستطيع الاطلاع على هذه الأدلة، وبنفس القدر من السطوع، في النصوص التي تزعم تقديم الحقائق وحدها (كتب التاريخ والتحليل اللغوي والدراسات السياسية) مثلما نجده في النصوص الفنية الصريحة (أي الإبداعية السافرة). وأما ما هو جدير بالنظر فهو الأسلوب، والصور البلاغية، ووصف المكان، والوسائل السردية، والظروف التاريخية والاجتماعية، لا صحة أو صدق التمثيل ومطابقته للأصل العظيم مهما يكن ذلك الأصل. وأما كون التمثيل خارجيًّا فيخضع دائمًا لصورة البديهية التي تقول إنه لو كان الشرق يستطيع تمثيل نفسه لفعل، لكنه ما دام لا يستطيع ذلك، فليقم هذا التمثيل بالمهمة، من أجل الغرب، وكذلك — ما دمنا لا نجد ما هو أفضل — من أجل الشرق المسكين نفسه. وقد كتب «كارل ماركس» في كتاب «شهر برومير الثامن عشر ولويس بونابرت» يقول:

«إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يمثلهم أحد.»

ومن الأسباب الأخرى لإصراري على تأكيد «الموقع الخارجي» اعتقادي بضرورة إيضاح أن الذي يجري تداوله بين الناس في «الخطاب» الثقافي وفي المبادلات داخل ثقافة من الثقافات ليس «الحقيقة» بل صور تمثيلية، وأظن أننا لسنا بحاجة إلى أن نبين من جديد أن اللغة نفسها نظام بالغ التنظيم والتشفير، أو أنها تستخدم وسائل كثيرة للتعبير والإشارة وتبادل الرسائل والمعلومات، والصور التمثيلية وما إلى ذلك. وعلى أية حال، فلا يوجد — في حالة اللغة المكتوبة على الأقل — ما يمكن تسميته بالحضور أو الوجود الحقيقي بل الرمز لما هو موجود أو تقديم ما يمثله. ومن ثَم فلا نستطيع إرجاع قيمة وفعالية وقوة شيء مكتوب عن الشرق، مهما بدا من صدقه، إلى الشرق، بل ولا يمكن أن يعتمد أيٌّ من هذه السمات على تحقق الصدق فيه، بل نرى، على العكس من ذلك، أن تلك الكتابة تعتبر ذات وجود للقارئ بفضل قدرتها على استبعاد وإزاحة الكيان الحقيقي «للشرق» وجعله من النوافل. وهكذا فإن الاستشراق برمته يقع خارج الشرق وبعيدًا عنه، وأما قدرة الاستشراق على أن تكون له دلالة على الإطلاق فأمرٌ يعتمد على الغرب أكثر مما يعتمد على الشرق، وهذه الدلالة تَدين بدَين مباشر إلى شتى تقنيات التمثيل الغربية، وهي التي تَهَب الشرقَ صورًا مرئية واضحة و «بعيدة»؛ أي خارجية، في أي حديث عنه. وهذه الصور التمثيلية تعتمد على المؤسسات والتقاليد والأعراف وشفرات الفهم المتفق عليها في إحداث تأثيرها، لا على شرق بعيد لا شكل له.

والفارق بين الصور التي كانت تمثل الشرق قبل الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، والتي أصبحت تمثِّله بعد تلك الفترة (أي تلك التي تنتمي إلى ما أسميته الاستشراق الحديث) هو أن نطاق التمثيل قد اتسع اتساعًا هائلًا في الفترة الأخيرة. صحيح أن أوروبا، بعد «وليم جونز وأنكتيل-ديبرون» وبعد حملة «نابليون» على مصر، أصبحت تعرف الشرق معرفة أقرب إلى المعرفة العلمية، وأصبحت أقدر على الحياة فيه بسلطة أعظم ونظام أدق مما كانت تتمتع به في يوم من الأيام، لكن الذي كان يهمُّ أوروبا هو توسيع نطاق تقنيات «تقبل» أو «استقبال» الشرق وتنقية أدوات البحث فيه. وعندما كشف الشرق بصورة قاطعة عن العمر الطويل للغاته، في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر، ومن ثَم سلب اللغة العبرية مركزها العريق المقدس، كانت مجموعة من الأوروبيِّين هي التي قامت بهذا الكشف، ونقلت نتائجه إلى الباحثين الآخرين، مع الاحتفاظ بذلك الاكتشاف في العلم الجديد المسمَّى فقه اللغات الهندية الأوروبية. وهكذا وُلد علمٌ جديد قوي مكَّن الدارسين من رؤية «الشرق اللغوي»، ورأوا معه، على نحو ما بيَّن «فوكوه» في كتابه: «نظام الأشياء»، شبكة كاملة من الاهتمامات العلمية ذات الصلة به. وعلى غرار ذلك قام «وليم بيكفورد، واللورد بايرون، وجوته، وهوجو» بإعادة بناء صورة الشرق في فنونهم ومكَّنوا القراء من مشاهدة ألوانه وأضوائه وشعوبه في صورهم الشعرية وإيقاعات نظمهم وخيوط أفكارهم. ونستطيع أن نقول إن الشرق «الحقيقي» كان، على أقصى تقدير، يحفز الكاتب على إبداع رؤية ما، لكن هذه الرؤية نادرًا ما كانت تسترشد بذلك الشرق «الحقيقي».

كان الاستشراق يمثِّل استجابةً للثقافة التي أوجدته أكثر من استجابته لموضوعه المفترض، وهو الذي أنتجه الغرب أيضًا. وهكذا فإن تاريخ الاستشراق يتسم باتساق داخلي وبمجموعة بالغة الوضوح والتفصيل من العلاقات مع الثقافة السائدة المحيطة به. ومن ثَم، فإن تحليلاتي تحاول رسمَ صورة هذا المجال وتُبيِّن تنظيمه الداخلي، ورواده، و«الثقات» الذين يعتبرون السلطة الأبوية فيه، والنصوص المعتمدة فيه، والأفكار التي تلهج بحمده، وشخصياته المثالية، وأتباعه، والذين طوروه، والثقات الجدد فيه. كما أنني أحاول أن أشرح كيف استعار الاستشراق بعض الأفكار والمذاهب والاتجاهات «المتطرفة» التي تسود الثقافة من وقت لآخر وكانت هذه تغذوه في أحيان كثيرة، وهكذا رأينا (وما زلنا نرى) صورةً لغوية للشرق، وصورة فرويدية، وصورة شبنجلرية، وصورة داروينية، وصورة عنصرية، وهلمَّ جرًّا، ومع ذلك فلم يحدث قط أن وُجِد شرق نقي غير مشروط، وعلى غرار ذلك لم توجد قط صورة غير مادية للاستشراق، ناهيك بما هو أكثر براءة مثل «فكرة» الشرق. وأنا أختلف اختلافًا مؤكدًا في هذه العقيدة الكامنة والآثار المنهجية المترتبة عليها عن الباحثين الذين يدرسون تاريخ الأفكار. فلقد تمكَّن «الخطاب» الاستشراقي من قول ما يقوله، وتأكيد ما يؤكده، وتحديد الصور الفعلية التي اتخذها، وقبل هذا وذاك تحقيق فعاليته المادية بطرائق يكاد يتجاهلها تمامًا أي تاريخ للأفكار يتسم بإحكامه ودقته. ولو سلبنا الاستشراق هذه «التأكيدات» والفعالية المادية فسوف يصبح الاستشراق فكرةً أخرى وحسب، لكنه كان وما يزال أكثر من ذلك بكثير. ومن ثَم فإنني أعتزم ألَّا أقتصرَ في دراستي على بحوث العلماء، بل أن أفحص أيضًا أعمالًا أدبية، وكتاباتٍ سياسية، ونصوصًا صحفية، وكتبَ رحلات، ودراسات دينية ولغوية. وهكذا فإن منظوري الهجين يمكن أن يُوصف، بتعبير آخر، بأنه تاريخي و«أنثروبولوجي» بصورة عامة، ما دمت أعتقدُ أن جميع النصوص نصوص دنيوية وتتأثر بالظروف المحيطة بها، وإن اختلفت أشكال ذلك من نوعٍ نصيٍّ إلى نوع آخر، ومن فترة تاريخية إلى سواها.

ومع ذلك فإنني أختلف مع «ميشيل فوكوه»، وأنا أدين لعمله بدين كبير، في أنني أعتقد اعتقادًا راسخًا أنَّ كلَّ مؤلف فرد يُكسِب عمله طابعه الذي يُحدد طابعَ النص، ولولا ذلك لأصبحت لدينا مجموعة «جماعية» مجهولة المؤلف من النصوص التي تمثِّل الاستشراق، أو غيره من «التشكيلات» الحافلة بالاستطرادات. وترجع الوحدة التي تتميز بها مجموعة النصوص الكثيرة التي أقوم بتحليلها، من زاوية معينة، إلى أنها كثيرًا ما تُشير إلى بعضها البعض، فما الاستشراق، في نهاية الأمر، إلا نظامٌ للاستشهاد بالكتابات والمؤلفين. وكتاب «إدوارد وليم لين»: «أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم» قرأه واستشهد به كُتَّاب شتى مثل «نيرفال وفلوبير وريتشارد بيرتون»، فلقد كان «لين» حجةً في بابه، ولا مناص من أن يرجع إليه كلُّ مَن يكتب عن الشرق أو يفكر فيه، لا مَن يكتب عن مصر فحسب أو يفكر فيها، فكان «نيرفال» يستعير فقرات كاملة وحرفية من «المصريين المحدثين» حتى يستعين بحُجيَّة «لين» في وصف مشاهد القرى في سوريا لا في مصر. وقد نشأت حجية «لين» والفرص المتاحة للاستشهاد به، بفطنة وتمييز أو دون تمييز؛ لأن الاستشراق قد هيَّأ للنص الذي كتبه ما اكتسبه من شيوع وتداول. لكنه من المحال تَفَهُّم شيوع وذيوع صيت «لين» دون تفهُّم السمات الخاصة التي يتسم بها نصُّ هذا الرجل، ويصدق هذا أيضًا على «رينان، وساسي، ولامارتين، وشليجيل»، ومجموعة من الكُتَّاب الآخرين ذوي النفوذ. ويعتقد «فوكوه» أنه ليست هناك قيمة تُذكر، بصفة عامة، للنص المفرد أو المؤلف الفرد، لكنني وجدت أن الواقع العملي، في حالة الاستشراق (وربما ليس في حالات أخرى) يقول بغير ذلك، ومن ثَم فإن تحليلاتي قراءات نصية دقيقة ترمي إلى إماطة اللثام عن الجدلية الدائرة بين النص أو المؤلف الفرد من ناحية وبين التشكيل الجماعي المركَّب الذي يشارك فيه عمل المؤلف.

ولكن هذا الكتاب — على الرغم مما يتضمنه من المختارات الكثيرة من كتابات الكُتَّاب — أبعد ما يكون عن تقديم تاريخ كامل أو سردٍ عام للاستشراق، وأنا شديد الوعي بهذا القصور. فالواقع أن نسيج خطاب الاستشراق نسيجٌ سميك كثيف الخيوط، وهذا الثراء هو الذي مكَّنه من البقاء وأداء وظيفته في المجتمع الغربي، وقد اقتصرت في عملي على وصفِ بعض أجزاء ذلك النسيج في لحظات معينة، وعلى مجرد الإشارة إلى وجودِ كيانٍ كليٍّ أكبر وأكثر تفصيلًا وطرافة، وينتشر في جنباته ما يُبهر العين من صور الأشخاص، ومن النصوص والأحداث. وكان عزائي لنفسي أن قلت إن هذا الكتاب حلقة من حلقات، وآملُ أن يُبديَ غيري من الباحثين والنقاد الرغبةَ في كتابة حلقات أخرى. فلا يزال موضوع الثقافة والإمبريالية ينتظر دراسة عامة، وقد تتعمق دراسات أخرى أكثر مما تعمقت في رصد العلاقة ما بين الاستشراق والتعليم، أو في دراسة الاستشراق الإيطالي والهولندي والألماني والسويسري، أو القوى المحركة في العلاقة ما بين البحث العلمي والكتابة الإبداعية، أو في العلاقة ما بين الأفكار الإدارية والانضباط الفكري. وقد يكون أهم عمل على الإطلاق هو القيام بدراسات في البدائل المعاصرة للاستشراق، أو التساؤل عن كيفية دراسة الثقافات والشعوب الأخرى من منظور تحرري أو بريء من القمع والتلاعب. ولكن على المرء عندها أن يُعيدَ التفكير في مشكلة المعرفة والسلطة برمَّتها، وهي مشكلة مركَّبة. وهذه جميعًا من المهام التي لا تزال ناقصةً في هذه الدراسة، وبصورة تدعو إلى الحرج.

وآخر ملاحظة أُبديها على المنهج، وقد يكون فيها اغتباطٌ بالنفس، هي أنني حين كتبت هذه الدراسة كنت أتوجَّه بها إلى عدة فئات من القراء؛ فالاستشراق يقدِّم لدارسي الأدب والنقد نموذجًا رائعًا للعلاقات المتداخلة ما بين المجتمع والتاريخ والنصوص، كما أن الدور الثقافي الذي قام به الشرق في بلدان الغرب يربط الاستشراق بالأيديولوجيا، والسياسة، ومنطق السلطة، وهي في اعتقادي أمورٌ تهمُّ المجتمع الأدبي. وقد توجهتُ إلى دارسي الشرق المعاصرين، من الباحثين الجامعيِّين إلى راسمي السياسات، بهذه الدراسة لتحقيق غايتَين: الأولى هي تقديم صورة أنسابهم الفكرية بطريقة غير مسبوقة، والثانية هي نقد الافتراضات التي يعتمد عليها معظمُ عملهم، وهي التي كثيرًا ما لا يتساءل عن صحتها أحد، على أمل أن يؤدي هذا النقد إلى إثارة المناقشة حولها، وأما بالنسبة للقارئ العام فإن هذه الدراسة تتناول أمورًا دائمًا ما تفرض الانتباه لها، وهي تتصل جميعًا لا بتصورات الغرب عن الآخر ومعاملاته معه فقط بل أيضًا بالدور ذي الأهمية الفريدة الذي تقوم به الثقافة الغربية فيما أسماه «فيكو»: «عالم الأمم». وأخيرًا فإن هذه الدراسة تقدِّم نفسها إلى القرَّاء فيما يسمَّى العالم الثالث لا باعتبارها خطوة في سبيل تفهُّم السياسة الغربية والموقع الذي يشغله العالم غير الغربي في هذه السياسة، بقدر ما هي خطوة في سبيل تفهُّم قوة «الخطاب» الثقافي الغربي، وهي القوة التي كثيرًا ما يتصور البعض خطأً أنها للزخرفة فحسب أو أنها تنتمي لما يسمَّى «البنية الفوقية». وأرجو أن أضرب الأمثلة التي تبيِّن حقيقة الهيكل الهائل للسيطرة الثقافية، وضروب الخطر والإغراء، التي تواجهها الشعوب التي تخلَّصت من ربقة الاستعمار بصفة خاصة، والتي قد تجعل أبناءها يستخدمون هذا الهيكل للسيطرة على أنفسهم أو على غيرهم.

وتقسيم هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول طويلة واثنتَي عشرة وحدة قصيرة يهدف إلى تسهيل العرض إلى أقصى حدٍّ ممكن. فالفصل الأول «نطاق الاستشراق» يرسم دائرةً كبيرة حول جميع أبعاد الموضوع، من حيث الزمن التاريخي والخبرات التاريخية، ومن حيث المحاور الفلسفية والسياسية. والفصل الثاني «أبنية الاستشراق وإعادة بنائها» يحاول متابعة تطور الاستشراق الحديث عن طريق الوصف الذي يتبع التسلسل الزمني بصفة عامة، وكذلك بوصفِ عددٍ من الوسائل التي يشترك في استعمالها كبار الشعراء والفنانين والباحثين، والفصل الثالث «الاستشراق اليوم» يبدأ حيث انتهى سابقه، في نحو عام ١٨٧٠م. وكانت هذه فترة التوسع الاستعماري الكبير في الشرق، وهي التي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية. والقسم الأخير من الفصل الثالث يحدِّد ملامح التحول من الهيمنة البريطانية والفرنسية إلى الهيمنة الأمريكية، وفيه أحاول أخيرًا رسم صورة الواقع الفكري والاجتماعي الحالي للاستشراق في الولايات المتحدة.

(٣) البُعد الشخصي

يقول «جرامشي» في مذكرات السجن: «إن نقطة الانطلاق عند الشروع في نقد تفصيلي تتمثل في الوعي بالذات وفي «معرفة النفس» بصفتها نتيجةً لعملية تاريخية جارية حتى تلك اللحظة، وهي «العملية» التي أودعَت في النفس آثارًا لا يُحصى عددها دون أن تصحبها قائمةُ جرد لها.» والترجمة الإنجليزية الوحيدة المتاحة تتوقف، دون إيضاح، عند هذا الحد من تعليق «جرامشي»، أما النص الإيطالي الأصلي الذي كتبه «جرامشي» فينتهي بالعبارة الآتية «وإذن فلا مناص في البداية من إعداد قائمة الجرد المذكورة».16

ومعظم رصيدي الشخصي الذي أستثمره في هذه الدراسة مستمدٌّ من وَعْيِي بأنني «شرقي» باعتبار أنني نشأت طفلًا في مستعمرتَين بريطانيَّتَين، أما تعليمي، في هاتين المستعمرتين (فلسطين ومصر) وفي الولايات المتحدة، فقد كان كلُّه غربيًّا، ومع ذلك فإن ذلك الوعيَ المبكر العميق ظل قائمًا. ولقد كانت دراستي للاستشراق، من عدة زوايا، محاولةً لإعداد قائمة بالآثار التي خلَّفتها في نفسي، باعتباري ذاتًا شرقية، تلك الثقافة التي كانت سيطرتها عاملًا قويًّا في حياة جميع الشرقيِّين. وهذا هو السبب الذي دفعني إلى أن أجعل الشرق الإسلامي محورَ الاهتمام. أما إذا كان الذي أنجزته هو قائمة الجرد التي أوصى بها «جرامشي» فأمرٌ لا أستطيع الحكم بصوابه أو خطئه، على الرغم مما أحسستُه من أهمية الوعي بمحاولة إعداد تلك القائمة. ولقد حاولت في جميع مراحل عملي الحفاظَ على الوعي النقدي، بأقصى ما أستطيعه من صرامة وعقلانية، إلى جانب وسائل البحث التاريخي والثقافي والإنساني التي أسعدني الحظُّ فاكتسبتُها في تعليمي، لكنني لم أفقد في هذا أو ذاك، على الإطلاق، الوعيَ بالواقع الثقافي وهو أنني «شرقي»؛ أي بانغماسي الشخصي في القضية ما دام «تكويني» شرقيًّا.

وأما الظروف التاريخية التي مكَّنَتني من إجراء هذه الدراسة فهي معقدة إلى حدٍّ ما، وكل ما أستطيعه هنا هو أن أضعَ رسمًا تخطيطيًّا لها. فلقد شهد مَن أقام في الغرب منذ الخمسينيات، خصوصًا في الولايات المتحدة، حقبة الاضطراب البالغ في العلاقات بين الشرق والغرب، ومن المحال أن يغفلَ أحدٌ عن إدراك أن «الشرق» كان دائمًا ما يمثِّل الخطرَ والتهديد للغرب خلال تلك الفترة، حتى ولو كان الشرق يعني الشرق التقليدي وروسيا في الوقت نفسه. ونشأَت وترعرعَت في الجامعات برامجُ ومعاهد «لدراسة المناطق» على نحوٍ أصبحَت فيه الدراسة الأكاديمية للشرق فرعًا من فروع السياسات القومية. و«الشئون العامة» في الولايات المتحدة تتضمن اهتمامًا مفيدًا، بالشرق، بسبب أهميته الاستراتيجية والاقتصادية، وكذلك بسبب غرابته التقليدية. فإذا كان العالم قد أصبح في متناول أيدي المواطن الغربي الذي يعيش في العصر الإلكتروني، فلقد اقترب الشرق منه كذلك، وربما تكون صورته الأسطورية قد تضاءلت بالقياس إلى كونه مكانًا تتقاطع فيه المصالح الغربية، والمصالح الأمريكية بوجهٍ خاص.

ومن السمات التي أصبح العالم الإلكتروني يتسم بها في فترة ما بعد الحداثة؛ تدعيمُ القوالب النمطية التي يُنظَر إلى الشرق من خلالها. ويعمل التليفزيون، مثلما تعمل الأفلام وجميع موارد أجهزة الإعلام على تشكيل المعلومات قسرًا حتى تُلائم القوالب التي تتخذ أشكالًا موحدة يومًا بعد يوم. وفيما يتعلق بالشرق، أدَّى استخدام الأشكال الموحدة والقوالب النمطية الثقافية إلى تدعيم سيادة النظرة إلى «الشرق الغامض» باعتباره شيطانًا، وهي التي كانت قائمةً في القرن التاسع عشر، سواء كان ذلك في البحوث الأكاديمية أو الأعمال الإبداعية. ولا يصدق هذا على شيء مثلما يصدق على أساليب تفهُّم الشرق الأدنى. وأمامنا ثلاثة عوامل جعلَت من تفهُّم العرب والإسلام، حتى في أبسط الصور الممكنة، مسألةً مشبعة بالدلالات السياسية العالية النبرة. أما العامل الأول فهو تاريخ التعصب الشائع في الغرب ضد العرب والإسلام، وهو الذي يتجلَّى مباشرة في تاريخ الاستشراق، والعامل الثاني هو الصراع بين العرب والصهيونية الإسرائيلية، وتأثير ذلك الصراع في اليهود الأمريكيِّين وفي الثقافة المتحررة وفي السكان بصفة عامة، والعامل الثالث هو الانعدام شبه التام لأي موقف ثقافي يُتيح للفرد التعاطف مع العرب أو الإسلام، أو مناقشة أيهما مناقشة غير انفعالية. ولا أظنني، أيضًا، بحاجة إلى القول بأنه لما كان الشرق الأوسط قد أصبح مرتبطًا بسياسات الدول العظمى، واقتصاديات البترول، والتقسيم أو التمييز الساذج بين إسرائيل الديموقراطية والمحبة للحرية وبين العرب الأشرار، ذوي الأنظمة الشمولية، والإرهابيِّين، فقد تضاءلت، إلى حدٍّ يدعو إلى الاكتئاب، فرصُ وضوح الموضوع في عيون الذين يتحدثون عن الشرق الأدنى.

وقد كانت خبراتي الخاصة بهذه الأمور من الدوافع التي دفعتني إلى كتابة هذا الكتاب. فحياة الفلسطيني العربي في الغرب، خصوصًا في أمريكا، مثبطة للعزم؛ إذ يشيع هنا اتفاق في الرأي، ويكاد يكون إجماعيًّا، على أنه غير موجود سياسيًّا؛ فإذا سمح البعض له بالوجود اعتبروه إما مصدرَ إزعاج أو شخصًا شرقيًّا وحسب؛ فشبكة العنصرية والقوالب النمطية الثقافية والإمبريالية السياسية والأيديولوجيا السالبة لإنسانية الإنسان، وهي الشبكة التي تحيط بالعربي أو بالمسلم، شبكة بالغة القوة، وهذه هي الشبكة التي يشعر الآن كلُّ فلسطيني أنها أصبحَت مصيرَه الذي يمثِّل له عقابًا فريدًا. ومما يزيد الأمر سوءًا له أن يلاحظ عدم إقدام أيِّ شخص له اهتمامات أكاديمية بالشرق الأدنى — أي عدم إقدام أي مستشرق قط — في الولايات المتحدة على التعاطف الكامل والصادق، ثقافيًّا وسياسيًّا، مع العرب، ولا شك أن بعض حالات التعاطف قد وُجدت على مستوًى من المستويات، لكن أيًّا منها لم يتخذ في يوم من الأيام الصورة «المقبولة» التي اتخذها التعاطف الأمريكي «الليبرالي» مع الصهيونية، وكثيرًا ما رأينا مَن يرمي حالات التعاطف مع العرب بمثالب جوهرية؛ إما بأن يربط بينها وبين المصالح السياسية والاقتصادية الذميمة (في حالة خبراء الشئون العربية في شركات النفط أو وزارة الخارجية مثلًا) أو يربط بينها وبين الدين.

وهكذا فإن الرابطة ما بين المعرفة والسلطة، وهي التي أوجدَت صورة «الشرقي» وطمسَت، من زاوية ما، وجودَه باعتباره إنسانًا؛ ليست مسألةً أكاديمية محضة في نظري، ومع ذلك فهي مسألة فكرية ذات أهمية واضحة إلى حدٍّ بعيد. ولقد تمكنت من استخدام مشاغلي الإنسانية والسياسية في تحليلِ ووصفِ موضوعٍ دنيويٍّ إلى حدٍّ كبير، وهو نشأةُ وتطور وتدعيم الاستشراق. وما أكثر ما يفترض الناس براءةَ الأدب والثقافة من السياسة بل ومن التاريخ، ولكنني كنت دومًا أرى الأمر على خلاف ذلك، وأؤكد أن دراستي للاستشراق قد أقنعتني (وأرجو أن تُقنع زملائي المشتغلين بالأدب) بأنه من المحال الفصل بين تفهُّم ودراسة المجتمع وتفهُّم ودراسة الثقافة الأدبية. أضِف إلى ذلك أنني، ومن واقع منطقٍ يكاد يكون محتومًا، وجدتني أكتب تاريخ المشاركة السرية الغربية في العداء الغربي للسامية. فالواقع أن العداء للسامية، على نحو ما تظهر مناقشتي له، وهما يتشابهان تشابهًا وثيقًا إلى حدٍّ بعيدٍ ويمثِّلان معًا حقيقةً تاريخية وثقافية وسياسية، ولن يُدرك ما في هذه الحقيقة من مفارقة إدراكًا كاملًا إلا الفلسطيني العربي. لكنني أودُّ أيضًا أن أكون قد أضفتُ تفهُّمًا أفضل للأسلوب الذي عملَت وتعمل به السيطرة الثقافية. فإذا أدَّى هذا العمل إلى لون آخر من التعامل مع الشرق، بل قُل لو أنه محَا تمامًا تقسيمَ العالم إلى «شرق» و«غرب»، فسوف نكون قد تقدمنا قليلًا على طريق ما أسماه «رايموند ويليامز» «محاولة نسيان» … «طرائق التسلط الراسخة».17

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤