أولًا: معرفة الشرقي

في ١٣ يونيو ١٩١٠م حذَّر «آرثر جيمز بلفور» مجلس العموم البريطاني من «المشكلات التي علينا أن نُواجهها في مصر»، فقال إنها مشكلات «تنتمي إلى فئة تختلف اختلافًا تامًّا» عن المشكلات «التي تقع في جزيرة «وايت» الإنجليزية أو «الرايدنج» الغربي من مقاطعة يوركشير في شمال إنجلترا». كان يتكلم بسلطة عضو البرلمان الذي تمتَّع بالعضوية زمنًا طويلًا، وسلطة السكرتير الشخصي السابق للورد «سولزبري»، والأمين الأول السابق لشئون أيرلندا، ووزير شئون اسكتلندا السابق، والمخضرم الذي شهد العديد من الأزمات والمنجزات والتغيرات في الخارج. وكان بلفور أثناء اشتغاله بشئون الإمبراطورية قد عمل في خدمة مَلِكَة أُعلن في عام ١٨٧٦م أنها إمبراطورة الهند، كما قُدِّر له أن يشغل مناصبَ ممتازة ذات نفوذ خاص لمتابعة حروب أفغانستان وقبائل الزولو في جنوب أفريقيا والاحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨٢م، ومقتل الجنرال غوردون في السودان، وحادثة فاشودة، ومعركة أم درمان، وحرب البوير في جنوب أفريقيا والحرب بين روسيا واليابان. كان يتمتع بمركز اجتماعي مرموق وباتساع نطاق معارفه وذكائه اللماح؛ إذ كان يستطيع الكتابة في موضوعات شتى من فلسفة «برجسون» إلى موسيقى «هاندل»، إلى مذهب المؤلِّهة، إلى رياضة الجولف، وكان قد تلقَّى تعليمه في مدرسة «إيتون» الراقية الخاصة، ثم كلية «ترينيتي» بجامعة «كيمبريدج»، وقد أدَّى ذلك كله، بالإضافة إلى حذقه الظاهر لشئون الإمبراطورية، إلى أن اكتسب حديثُه في مجلس العموم في يونيو ١٩١٠م سلطةً كبيرة. ولكن خطاب بلفور كانت له جوانبُ أخرى، على الأقل فيما يتعلق باضطراره إلى النبرة التعليمية والأخلاقية العالية في ذلك الخطاب؛ إذ كان بعض أعضاء البرلمان يطعنون في ضرورة وجود «إنجلترا في مصر»، وكان «وجود إنجلترا في مصر» هو موضوع الكتاب الحماسي الذي كتبه «ألفريد ملنر» عام ١٨٩٢م وإن كان يقول فيه إن الاحتلال الذي كان مفيدًا يومًا ما قد أصبح مصدرًا للمتاعب بعد ارتفاعِ مدِّ الوطنية المصرية، ولم يَعُد من السهل الدفاع عن استمرار الوجود البريطاني في مصر. وهكذا هبَّ بلفور لإحاطة المجلس علمًا بالموضوع وشرحه للأعضاء.

بدأ «بلفور» بأن ذكَّر المجلس بالسؤال الذي وجَّهه إليه «ج. م. روبرتسون»، عضو البرلمان عن دائرة «تاينسايد»، فطرح السؤال من جديد وهو «بأيِّ حقٍّ تتخذون مظاهرَ الاستعلاء والتفوق إزاء الشعوب التي اخترتم أن تُسمُّوها شرقية؟» كان اختيار لفظة «شرقية» اختيارًا لا مناص منه، فلقد استخدمها الشاعر «تشوسر»، في القرن الرابع عشر، ومعه «ماندفيل»، كاتب كتب الرحلات، ومن بعدهما الشعراء «شيكسبير ودرايدن وبوب وبايرون». وكانت اللفظة تعني آسيا أو الشرق، جغرافيًّا وأخلاقيًّا وثقافيًّا. وكان المرء يستطيع أن يتكلم في أوروبا عن الشخصية الشرقية، أو الجو الشرقي، أو الحكاية الشرقية، أو الاستبداد الشرقي، أو عن أسلوب الإنتاج الشرقي، فيفهمه السامع. وكان «ماركس» قد استخدم الكلمة، وها هو «بلفور» يستخدمها، وكان اختياره مفهومًا ولا يستلزم أيَّ تعليق على الإطلاق:

أنا لا أتخذ موقف التفوق. ولكنني أسأل [روبرتسون أو أيَّ شخص آخر] … لديه معرفة بالتاريخ مهما تكن سطحية، إن كان قادرًا على المواجهة المباشرة للحقائق التي لا بد للسياسي من التعامل معها حين يوضع في موقع السيادة إزاء أجناس عظيمة مثل سكان مصر وبلدان الشرق. إننا نعرف حضارة مصر خيرًا مما نعرف حضارةَ أيِّ بلد آخر، ونعرف تاريخها السحيق، بل نحيط بها إحاطةً أوثق وأشمل. إنها تتجاوز النطاق المحدود لتاريخ الجنس الذي ننتمي إليه، فهو يضيع في فترة ما قبل التاريخ في الوقت الذي كانت الحضارة المصرية قد تخطَّت عهد الشباب. انظروا إلى جميع البلدان الشرقية. لا تتحدثوا عن تفوق أو عن دونية.

إن ملاحظاته تدور حول محورَين كبيرين — هنا وفيما يتلو هذا الكلام — وهما المعرفة والسلطة، وهما محورَا الفيلسوف «فرانسيس بيكون». وهكذا فعندما يُبرر بلفور ضرورةَ الاحتلال البريطاني لمصر، ترتبط السيادة في تفكيره بمعرفتنا «نحن» لمصر، لا بالقوة العسكرية أو الاقتصادية بالدرجة الأولى. والمعرفة تعني ﻟ «بلفور» استقصاءَ مسار حضارة ما من نشأتها إلى ازدهارها إلى ذبولها. وتعني أيضًا، بطبيعة الحال قدرتنا على ذلك. والمعرفة تعني الارتفاع على اللحظة الحاضرة، وتجاوز الذات إلى الأجنبي والبعيد. وموضوع هذه المعرفة، أي الشرق، معرَّضٌ للفحص الدقيق لضعف في طبيعته، وهذا الموضوع يعتبر «حقيقة» ثابتة، حتى لو تطور وتغيَّر أو حوَّل نفسه بنفسه على نحو ما تفعل الحضارات في أحيان كثيرة، فلا بد أن يظلَّ على ثباته الجوهري بل والوجودي. وامتلاك مثل هذه المعرفة بمثل هذا الشيء معناه السيطرة عليه، أو فرض السلطة عليه. والسلطة هنا تعني لنا «نحن» أن نُنكر استقلال هذا «الشيء» — وهو البلد الشرقي هنا — ما دمنا نعرفه وما دام يوجد، بمعنًى من المعاني، كما نعرفه؛ أي إن المعرفة البريطانية بمصر هي مصر بالنسبة ﻟ «بلفور»، وتبعات هذه المعرفة تجعل أيَّ مسألة سواها، مثل مسألة التفوق والدونية، تبدو تافهة. ولا ينكر «بلفور» إطلاقًا تفوُّق بريطانيا على مصر بل هو يعتبرها مسألةً مسلَّمًا بها في سياق وصفه للآثار المترتبة على المعرفة:

انظروا أولًا إلى حقائق القضية: إن الأمم الغربية ما إن يبدأ ظهورها في التاريخ حتى تظهر بدايات قدرتها على الحكم الذاتي … وهي القدرة الجديرة بالتقدير في ذاتها … ثم انظروا إلى تاريخ الشرقيِّين برمَّته فيما يسمَّى بصفة عامة «الشرق»، ولن تجدوا آثارًا تُنبئ عن الحكم الذاتي إطلاقًا. إذ مرَّت كلُّ قرونهم العظمى — ولقد كانت بالغةَ العظمة — في ظل الحكومات الاستبدادية والحكم المطلق. كما كانت كلُّ إسهاماتهم الحضارية العظمى — ولقد كانت حقًّا عظمى — في ظل ذلك اللون من الحكومة. لقد تلا الفاتحون بعضهم البعض وجاءت سيطرة في إثر سيطرة، لكنك لن تجد في شتى دورات الأقدار والحظوظ مطلقًا أمة من تلك الأمم تُنشئ من تلقاء ذاتها ما نُسميه نحن، من وجهة نظر غربية، «الحكومة الذاتية». هذه هي الحقيقة. ليست المسألة إذن مسألة تفوق أو دونية. وأتصور أن الحكيم الشرقي الصادق سوف يقول إن الحكومة العاملة التي اضطلعنا بها في مصر وغيرها من البلدان لا تمثِّل عملًا جديرًا بالفيلسوف، وإنها العمل الحقير أو العمل الأدنى، اللازم لمواصلة الجهد الضروري.

ولما كانت هذه الحقائق حقائق، يجد بلفور أن عليه أن ينتقل إلى القسم التالي من حجته قائلا:

هل تعود ممارسة هذه الحكومة المطلقة من جانبنا بالخير على هذه الأمم العظيمة، والتي أعترف بعظمتها؟ أعتقد أنها تعود بالخير عليها، وأعتقد أن الخبرة قد أثبتت أنها تمتعت في ظلِّها بحكومات أفضل كثيرًا مما شهدته على امتداد تاريخ العالم كله، وهي ليست مفيدة لها وحدها، لكنها، ولا شك، مفيدة للغرب المتحضر برمته … لسنا في مصر من أجل المصريين فقط، وإن كنَّا هناك من أجلهم، فنحن هناك أيضًا من أجل أوروبا كلها.

ولا يقدم «بلفور» أيَّ أدلة على أن المصريين و«الأجناس التي نتعامل معها» تُقدِّر أو حتى تفهم الخير الذي يعود عليها من الاحتلال الاستعماري، لكنه لا يخطر على بال «بلفور» أن يطلب من المصري أن يتحدث بنفسه، ربما لأن المصري الذي سيتكلم سوف يكون، على الأرجح، «ذلك المشاغب الذي يُثير الصعوبات» لا المواطن الصالح الذي يتجاهل «صعوبات» السيطرة الأجنبية. وهكذا وبعد أن حسم «بلفور» المشكلات الأخلاقية، يبدأ أخيرًا في التصدي للمشكلات العملية، قائلًا: «إذا كانت مهمتنا أن نحكم، سواء لقينا الامتنان أو الجحود، وسواء تذكر الناس حقًّا وصدقًا ما فقدوه فاستراحوا منه بفضلنا أو نسوا ذلك [و«بلفور» لا يُشير ضمنًا إلى فقدان استقلال مصر في إطار ما فقده الناس، أو تأجيل الاستقلال إلى أجل غير مسمى] وسواء أدركوا بوضوح أو لم يُدركوا جميع الفوائد التي عادت عليهم بفضلنا؛ أقول إذا كان ذلك واجبنا فكيف ينبغي أداؤه؟» إن إنجلترا تُصدِّر «أفضل ما لدينا إلى تلك البلدان». وها هم المديرون الذين يُنكرون ذواتهم ويقومون بعملهم «وسط عشرات الآلاف ممن يعتنقون دينًا آخر وينتمون إلى جنس آخر ولهم نظام مختلف وظروف حياة مختلفة». وأما ما يُمكِّنهم من أداء مهمة الحكم فهو إحساسهم بأنهم يتمتعون بتأييد الحكومة في وطنهم، وأنها تُظاهر ما يفعلون، لكنه:

ما إنْ يخامر السكانَ من أبناء البلد ذلك الإحساسُ الغريزي بأن الذين عليهم أن يتعاملوا معهم لا يتمتعون بمساندة قوة البلد الذي أرسلهم إلى هناك وبسلطته وتعاطفه ودعمه الكامل والسخيِّ، حتى يتعذر على أولئك السكان اتِّباع النظام الذي يعتبر حقًّا أساس حضارتهم، مثلما تتعذر على موظفينا ممارسة أيِّ سلطة أو قوة، وهي الأساس الحق لكل ما يفعلونه لمصلحة الذين أُرسلوا للإقامة بينهم.

والمنطق الذي يستخدمه «بلفور» هنا منطقٌ طريف، على الأقل لكونه متسقًا مع المقدمات التي يبني عليها خطابَه كلَّه. فهو يقول إن إنجلترا تعرف مصر، ومصر هي ما تعرفه إنجلترا، وإنجلترا تعرف أن مصر لا تستطيع أن تحكم نفسها، وإنجلترا تؤكد ذلك باحتلال مصر، وأما بالنسبة للمصريين فإن مصر هي البلد الذي احتلَّته إنجلترا وتحكمه الآن؛ ومن ثَم فإن الاحتلال الأجنبي يصبح «الأساس الحق» للحضارة المصرية المعاصرة؛ ومصر تحتاج بل تُصرُّ على طلب الاحتلال البريطاني. لكنه إذا تعرَّضت الصلة الحميمة الخاصة القائمة بين الحاكم والمحكوم لتعكير صفوها بسبب شكوك البرلمان في إنجلترا، فإن «سلطة مَن يعتبرون … الجنس المسيطر — وأعتقد أنهم يجب أن يظلوا الجنس المسيطر — سوف تتقوض». ولا تقتصر النتائج على اهتزاز الهيبة الإنجليزية، «بل سوف يصبح من المحال على حفنة من المسئولين البريطانيِّين — مهما تكن مواهبهم الشخصية وشمائلهم وعبقريتهم — أن يضطلعوا بالمهمة العظمى في مصر، وهي المهمة التي كلفناهم بها وفرضها عليهم العالم المتحضر».1

والأداء البلاغي في خطاب «بلفور» له دلالة خاصة؛ لأن «بلفور» يلعب ويمثل أدوار شخصيات منوعة، أولها، بطبيعة الحال، شخصية «الإنجليزي»، وهو يستخدم في الإشارة إليها ضمير المتكلم الجمع «نحن»، ويجعله يحمل الثقل الكامل لمكانة الرجل القوي المرموق الذي يشعر بأنه يمثِّل خيرَ ما يزين تاريخ أمته. و«بلفور» يستطيع أيضًا أن يتحدث باسم العالَم المتحضر، وباسم الغرب، وباسم الفليق المحدود نسبيًّا من المسئولين الاستعماريِّين في مصر. وإذا لم يكن يتكلم مباشرة باسم الشرقيِّين؛ فذلك لأنهم، على أية حال، يتكلمون لغة أخرى، ومع ذلك فهو يعرف مشاعرهم؛ لأنه يعرف تاريخهم، واعتمادهم على رجال من أمثاله، وتوقعاتهم. ومع ذلك فهو يتكلم قطعًا باسمهم؛ بمعنى أن أيَّ شيء يقولونه لو أنهم سُئلوا وتمكَّنوا من الإجابة، سوف يؤكد ما كان واضحًا من قبل، ومن ثَم فلن تكون لقولهم فائدة تُذكر: ألَا وهو أنهم ينتمون إلى جنس محكوم، ويسودهم جنس يعرفهم ويعرف مصلحتهم خيرًا منهم. أما اللحظات المجيدة في تاريخهم فتنتمي إلى الماضي، ويرجع نفعهم في العالم الحديث إلى أن الإمبراطوريات القوية الحديثة قد أخرجتهم، في الواقع، من بؤس الانحطاط وأعادَت تأهيلهم فجعلتهم سكانًا مؤهلين في مستعمرة منتجة.

ومصر مثالٌ ينطبق عليه ما أقول انطباقًا رائعًا، كما كان «بلفور» يعي تمامًا مدى ما يتمتع به من حقٍّ في أن يتكلم عن مصر الحديثة، بصفته عضوًا في برلمان بلده، باسم إنجلترا، وباسم الغرب، وباسم الحضارة الغربية. فلم تكن مصر مجردَ مستعمرة أخرى، بل كانت نموذجًا يُبرر الإمبريالية الغربية؛ إذ إنها كانت، حتى قامت إنجلترا بضمِّها إليها، لا تكاد تزيد عن نموذج التخلف الشرقي الذي يَرِد ذكره في الدراسات الأكاديمية، وقد كُتب لها أن تصبح نموذجًا لانتصار المعرفة والسلطة الإنجليزية. وفي الفترة من ١٨٨٢م، وهو العام الذي احتلَّت فيه إنجلترا مصر وقمعت الثورة الوطنية التي قادها الزعيم «أحمد عرابي» إلى عام ١٩٠٧م، كان ممثل إنجلترا في مصر، أو سيد مصر، هو «إيفلنج بيرنج» (الذي اشتهر باسم «أوفر بيرنج»؛ أي المتغطرس) أو اللورد «كرومر». وفي يوم ٣٠ يوليو ١٩٠٧م كان «بلفور» هو الذي أعرب في مجلس العموم البريطاني عن تأييده لمشروع منح «كرومر» جائزةَ تقاعد تبلغ خمسين ألف جنيه، مكافأةً له على ما فعله في مصر. وقال «بلفور» إن «كرومر» صنع مصر:

كل شيء لمسه حالفه النجاح فيه … ولقد أدت خدمات اللورد «كرومر» على مدار ربع قرن مضى إلى رفع مصر من أدنى مهاوي الانحطاط الاجتماعي والاقتصادي حتى أصبحت تنفرد اليوم بين الأمم الشرقية انفرادًا مطلقًا، فيما أعتقد، بازدهارها المالي والأخلاقي.2

أما أسلوب قياس ازدهار مصر الأخلاقي فلم يحاول «بلفور» تبيانه؛ إذ كانت الصادرات البريطانية إلى مصر تُعادل الصادرات البريطانية إلى قارة أفريقيا بأسرها؛ ولا شك أن ذلك يُستدل منه على لونٍ من الازدهار المالي لمصر وإنجلترا معًا (ولو بصورة غير متكافئة إلى حدٍّ ما)، وأما المهم حقًّا فكان تلك الوصاية الغربية الشاملة والمتصلة الحلقات على بلد شرقي، ابتداءً بالباحثين والمبشرين ورجال الأعمال والجنود والمعلمين الذين مهَّدوا للاحتلال ثم نفذوه، وانتهاءً بكبار الموظفين، مثل «كرومر وبلفور»، الذين رأوا أنهم يعولون ويوجهون — بل وأحيانًا يفرضون — نهضةَ مصر فينقلونها من مرحلة التجاهل الشرقي إلى مرحلة المكانة البارزة التي تنفرد بها في الحاضر.

إذا كان النجاح البريطاني في مصر فذًّا بالصورة التي صوَّرها «بلفور»، فلم يكن على الإطلاق نجاحًا غير عقلاني أو لا يمكن تعليله. فلقد كانت إدارة الشئون المصرية تخضع لنظرية عامة أعرب عنها «بلفور» في أفكاره عن الحضارة الشرقية مثلما أعرب عنها «كرومر» في إدارته للشئون اليومية في مصر. وأهم ملمح من ملامح هذه النظرية في العقد الأول من القرن العشرين كان نجاحها، بل نجاحها المذهل. كانت الحجة، إذا اختُزلَت فاتخذَت أبسط شكل لها، حجةً واضحة ودقيقة ويسهل فهمها، فهي تقول بوجود جانبَين هما الغربيون والشرقيون. فالجانب الأول يسيطر والثاني لا بد من السيطرة عليه، وهذه تعني في العادة احتلال أراضيه، والتحكم بصرامة في شئونه الداخلية، ووضع دمه وماله تحت تصرف دولة غربية ما. وأما إقدام «بلفور وكرومر» على تجريد الإنسانية بحيث تقتصر، بصورة لا ترحم، على هذه العناصر الجوهرية ثقافيًّا وعنصريًّا، فلم يكن على الإطلاق — على ما سوف يتضح لنا — دليلًا على خبث أو شراسة خاصة بهما، بل كان دليلًا على درجة التبسيط الذي اتخذه المذهب عندما بدآ الانتفاع به في الواقع؛ وأقصد درجة التبسيط ودرجة الفعالية معًا.

ويختلف «كرومر» عن «بلفور» في أن الأخير كانت «أطروحاته» عن الشرقيِّين تزعم لنفسها الاتصاف بالعالمية الموضوعية، وأما «كرومر» فكان يتحدث عن الشرقيِّين بصفة محددة؛ أي عن الذين حكمهم أو اضطُرَّ إلى التعامل معهم، في الهند أولًا، ثم في مصر لمدة خمس وعشرين سنة، سطع فيها نجمُه باعتباره أبرزَ قنصل عام في الإمبراطورية البريطانية. و«الشرقيون» عند «بلفور» هم «الأجناس المحكومة» عند «كرومر»، وهم الذين جعلهم موضوعَ مقال طويل نشره في مجلة «إدنبره ريفيو» في يناير ١٩٠٨م. وهنا نرى من جديد أن المعرفة بالأجناس المحكومة أو بالشرقيِّين هي التي تجعل إدارةَ شئونهم يسيرة ومربحة، فالمعرفة تأتي بالسلطة، وزيادة السلطة تتطلب زيادة المعرفة، وهكذا دواليك في جدلية من المعلومات والتحكم تزداد فائدتها باطراد. ويرى «كرومر» أن إمبراطورية إنجلترا لن تزول إذا وُضعت القيود على النزعة العسكرية والأنانية التجارية في إنجلترا و«المؤسسات الحرة» في المستعمرة (تمييزًا لها عن الحكومة البريطانية «القائمة على قانون الأخلاق المسيحية») ويقول «كرومر» إنه إذا كان الشرقي يحب أن يتجاهل وجود المنطق تمامًا، فإن الأسلوب الصحيح للحكم لا يتمثل في محاولة فرض التدابير العلمية الفائقة عليه أو إرغامه جسديًّا على تقبُّل المنطق، بل في تفهُّم جوانب قصوره و«محاولة العثور في رضا الجنس المحكوم على رابطة أنبل، وأرجو أن تكون هذه الرابطة أقوى وأقدر على التوحيد بين الحكام والمحكومين». وخلف «تطييب خاطر» الجنس المحكوم وترضيته يختبئ جبروت الإمبراطورية، وهو أشد فعالية حين يُبدي التفهم المرهف والمهذب من فعالية اللجوء إلى استخدام الجنود، وجباة الضرائب الغشومين، والقوة المفرطة. وباختصار يجب على الإمبراطورية أن تتحلَّى بالحكمة، وأن تلطف من جشعها بقدر من إنكار الذات، وأن تلطف من لهفتها بقدر من الانضباط المرن.

وبمزيد من الصراحة أقول إن المقصود بما يقال عن ضرورة وضع بعض الضوابط للروح التجارية هو أننا عندما نتعامل مع الهنود أو المصريين أو قبائل الشلوك في السودان أو الزولو في جنوب أفريقيا يجب أن يكون أول سؤال نطرحه على هذه الشعوب — التي لا تزال من زاوية النظر القومية في مرحلة «التلمذة» إلى حدٍّ ما — هو ماذا يظن أبناؤها أنه أفضل ما يخدم مصالحهم، وإن كانت هذه مسألة تستحق البحث الجاد. لكنه لا بد من البت في كل قضية خاصة، بالاستناد أساسًا إلى ما نراه نحن، على ضوء المعرفة والخبرة الغربية وما يلطفهما من الاعتبارات المحلية، وما نعتقد بضمير سليم أنه أفضل ما يناسب الجنس المحكوم دون الرجوع إلى أية مزايا حقيقية أو مفترضة قد تعود على الأمة الإنجليزية بأسرها أو — على نحو ما هو أشد شيوعًا — ما يخدم المصالح الخاصة التي تُمثلها طبقة ذات نفوذ من أبناء إنجلترا أو أكثر من طبقة واحدة. فإذا استمرت الأمة الإنجليزية ككل في مراعاة هذا المبدأ، وأصرَّت على تطبيقه بصرامة، فربما استطعنا — ولو عجزنا عن تحقيق روح وطنية شبيهة بالروح القائمة على علاقة أبناء الجنس الواحد واللغة المشتركة — أن نرعى لونًا من الولاء للمواطنة العالمية يقوم على الاحترام الذي نُضفيه عادةً على المواهب المتفوقة، وعلى سلوك مَن يُؤثر غيره على نفسه، وعلى الامتنان الذي نلقاه مقابل ما أسدينا وما سوف نُسدي من معروف. وسوف نرى عندها، على أية حال، بعض بوارق الأمل في أن يُبديَ المصري ترددًا قبل أن يراهن بمستقبله مع أي «أحمد عرابي» آخر في المستقبل … بل إن المتوحش من سكان أواسط أفريقيا قد ينتهي به الأمر إلى أن يتعلم إنشاد ترنيمة تكريمًا لربة العدالة التي عادت، ممثلةً في المسئول البريطاني الذي قد يُنكر عليه شرب الخمر ولكنه يقدم له العدل. أضف إلى ذلك أن التجارة سوف تكسب.3
أما مدى «البحث الجاد» من جانب الحاكم في مقترحات الجنس المحكوم فتشهد عليه معارضة «كرومر» الكاملة للقومية المصرية. مؤسسات وطنية حرة، إنهاء الاحتلال الأجنبي، وسيادة قومية تعتمد على ذاتها. هذه مطالب لا تدعو للدهشة ولكن «كرومر» كان يرفضها دائمًا، ويقول دون لبس أو غموض إن «مستقبل مصر الحقيقي … لن تصل إليه من طريق الوطنية الضيقة، وهي التي سوف تقتصر على أبناء البلد المصريين … بل من طريق المواطنة العالمية الموسعة»؛4 فالأجناس المحكومة لا تستطيع بطبيعتها أن تعرف ما فيه خيرها، فمعظمها أجناس شرقية، وكان «كرومر» يعرف خصائصها خير المعرفة ما دام قد خَبَرها بنفسه في الهند ومصر. وكان من صفات الشرقيِّين التي أراحت «كرومر» أن إدارة شئونهم كانت واحدةً في كل مكان تقريبًا،5 وإن اختلفَت الظروف اختلافاتٍ طفيفة من مكان لمكان، وكان السبب في هذا، بطبيعة الحال، أن الشرقيين لا يكادون يختلفون من مكان لمكان.

وها نحن نَصِل أخيرًا إلى جوهر المعرفة الأساسية الذي استغرق وقتًا طويلًا في نموه وتطوره، وهي المعرفة الأكاديمية والعلمية التي ورثها «كرومر وبلفور» من الاستشراق الغربي الحديث على امتداد قرن كامل: معرفة أحوال الشرقيِّين، ومعرفتهم؛ أي معرفة الجنس الذي ينتمون إليه، وشخصيتهم وثقافتهم وتاريخهم وتقاليدهم ومجتمعهم وإمكانياتهم. وكانت هذه المعرفة فعالة، وكان «كرومر» يعتقد أنه استعملها في حكم مصر. يضاف إلى ذلك أنها معرفة مختبرة ولا تتغير، ما دام «الشرقيون» — من الناحية العلمية — جوهرًا أفلاطونيًّا يستطيع أيُّ مستشرق (أو حاكم للشرقيِّين) أن يفحصه ويفهمه ويعرضه أو يقدمه للناس. وهكذا فإن «كرومر» يقدِّم لنا في الفصل الرابع والثلاثين من كتابه «مصر الحديثة»، الذي يقع في مجلدين ويعتبر السجل الجليل لخبرته ومنجزاته ضربًا من الشرعة الشخصية المعتمدة للحكمة الاستشراقية قائلًا:

قال لي السير «ألفريد لَيَال» ذات يوم: «الدقة يبغضها العقل الشرقي، وعلى كل إنجليزي يقيم في الهند أن يذكر ذلك دائمًا». والافتقار إلى الدقة — وهي الصفة التي يسهل انحطاطها فتتحول إلى الكذب — هو في الواقع الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقي.

فالأوروبي يُحكم الاستدلال الدقيق، وذكره للحقائق لا يشوبه أيُّ غموض، فهو منطقيٌّ بالفطرة، حتى ولو لم يكن درس المنطق، وهو بطبيعته شكاكٌ ويطلب البرهان قبل أن يقبل صدقَ أيِّ قول، وذكاؤه المدرب يعمل عملَ الآلة المنضبطة. أما عقل الشرقي فهو يُشبه شوارعَه خلابة المظهر، أي يفتقر إلى أي تناسق، والاستدلال لديه أبعد ما يكون عن الإتقان، وعلى الرغم من أن العرب القدماء ارتقوا درجات عالية من العلوم الجدلية، فإن أحفادهم يفتقرون إلى ملكة المنطق افتقارًا فريدًا، وكثيرًا ما يعجزون عن التوصل إلى أوضح النتائج من أية مقدمات بسيطة قد يعترفون بصدقها. حاول أن تحصل من أيِّ مصري عادي على بيان واضح للحقائق، وسوف تجد أن شرحه سوف يكون مطوَّلًا بصفة عامة ويفتقر إلى الوضوح. ومن المحتمل أن يناقض نفسه عدة مرات قبل أن ينتهيَ من كلامه، وكثيرًا ما ينهار تحت ضغط أخف استجواب.

وهو يبيِّن بعد ذلك أن الشرقيِّين أو العرب يسهل خداعهم، وأنهم «يفتقرون إلى النشاط وروح المبادرة»، مولعون «بالإفراط في المدح والملق»، وبالتآمر، والمكر، والقسوة على الحيوان. ويقول إن الشرقيِّين لا يستطيعون المشيَ في شارع أو على رصيف (لأن أذهانهم الفوضوية تعجز عن فهمِ ما يُدركه الأوروبي الذكي على الفور وهو أن الشوارع والأرصفة قد جُعلت للمشي)؛ ويقول إن الكذب متأصل في الشرقيين، كما أنهم «كسالى ويستريبون بغيرهم» وفي كل شيء يمثلون عكس صفات الوضوح والمباشرة والنبل التي يتحلَّى بها الجنس الأنجلوسكسوني.6
ولا يحاول «كرومر» أن يُخفيَ أن الشرقيين كانوا يمثلون له دائمًا المادة الإنسانية الوحيدة التي كان يحكمها في المستعمرات البريطانية، ويقول «كرومر»: «ما دمت دبلوماسيًّا وإداريًّا فحسب، فإن مجال دراستي الصحيح هو الإنسان أيضًا، وإن كان ذلك من وجهة نظر مَن يتولَّى حكم هذا الإنسان … وأنا أقنع بالإشارة إلى أن الشرقي بصفة عامة، وبأسلوب ما، يعمل ويتكلم ويفكر بطرائق مضادة تمامًا للأوروبي.»7 وأوصاف «كرومر» تستند بطبيعة الحال إلى الملاحظة المباشرة إلى حدٍّ ما، ولكنه أحيانًا ما يشير إلى الثقات من المستشرقين المعتمدين في تأييد آرائه (مثل «إرنست رينان وقنسطنطين دي فولني» بصفة خاصة). وهو يأخذ بآراء هؤلاء الثقات حين يعرض لأسباب اتصاف الشرقيين بهذه الصفات. وهو لا يشك مطلقًا في أن أية معرفة بالشرقي سوف تؤكد آراءه وتنتهي بإدانة الشرقي، إذا استندنا إلى المثال الذي ضربه عن انهيار المصري عند التحقيق معه. وأما جريمة الشرقي فهي أنه شرقي، ومن الأدلة الدقيقة على مدى القبول الذي كان هذا اللون من الحشو اللفظي أو تحصيل الحاصل يتمتع به: أنه كان يُكتب دون استعانة بالمنطق الأوروبي أو «تناسق» العقل الأوروبي. وهكذا فإن أيَّ خروج عمَّا يعتبر معايير السلوك الشرقي كان يُظَن به الشذوذ، ومن ثَم فإن آخر تقرير سنوي أرسله «كرومر» من مصر يُعلن أن القومية المصرية «فكرة جديدة كل الجدة» وأنها «نبتٌ غريب لم ينبت ويترعرع في التربة المصرية».8

وأعتقد أننا نُخطئ إذا لم نقدِّر حقَّ التقدير ذلك المستودع من المعرفة «الموثوق بصحتها» ومن قواعد النظرة «المتعمدة» إلى الشرقيِّين الذي كان «كرومر وبلفور» يرجعان إليه فيما يكتبانه وفي سياساتهما العامة. والاقتصار على القول بأن الاستشراق تبريرٌ منطقي للحكم الاستعماري، معناه أن نتجاهل مدى تبرير الاستشراق للحكم الاستعماري وانطلاقه منذ البداية لا بعد أن حدث. فلقد دأب البشر دوامًا على تقسيم العالم إلى مناطق تتميز عن بعضها البعض بسمات حقيقية أو متخيلة، واستغرقت نشأة التحديد المطلق للشرق والغرب — وهو التحديد الذي يقبله «بلفور وكرومر» بمثل ذلك الرضا عن الذات — سنواتٍ بل قرونًا، شهدَت رحلاتِ استكشاف لا تُحصى، وضروبًا من التلاقي عن طريق التجارة والحرب، ولكننا نرى المزيد؛ إذ برز منذ منتصف القرن الثامن عشر عنصران رئيسيان في العلاقة بين الشرق والغرب، أما الأول فهو نمو المعرفة المنهجية عن الشرق في أوروبا، وهي المعرفة التي دعَّمها التلاقي الاستعماري، إلى جانب انتشار الاهتمام بما هو أجنبي وغير مألوف، وهو الاهتمام الذي استغلَّته العلوم التي كانت تنمو وتتطور؛ مثل علم الأعراق والسلالات، وعلم التشريح المقارن، وفقه اللغة، والتاريخ، كما أُضيف إلى هذه المعارف المنهجية كمٌّ هائل من الآداب التي كتبها الروائيون والشعراء والمترجمون والرحالة الموهوبون. وأما العنصر الآخر في العلاقات بين أوروبا والشرق فكان تمتُّع أوروبا على الدوام بموقع القوة، ولا أقول السيطرة. ولا أجد وسيلةً للتلطف في التعبير عن ذلك. صحيحٌ أنه كان من الممكن إخفاء أو تخفيف صورة علاقة القوي بالضعيف، على نحو ما رأينا حين اعترف «بلفور» «بأمجاد» وعظمة الحضارات الشرقية، ولكن العلاقة الجوهرية على الأسس السياسية والثقافية بل والدينية كان يُنظر إليها — في الغرب، وهو ما يهمُّنا هنا — باعتبارها علاقة بين شريك قوي وشريك ضعيف.

وكان مَن يُشيرون إلى هذه العلاقة يُعبرون عنها بأوصاف كثيرة، وقد استخدم «بلفور وكرومر»، اللذان يمثِّلانهم خيرَ تمثيل، عددًا كبيرًا منها؛ فالشرقي غير عقلاني، وفاسد (ضال) ومثل الطفل، و«مختلف»؛ ومن ثَم فإن الأوروبي عقلاني، وفاضل، وناضج، و«سَوِي». ولكن وسيلة إحياء العلاقة لم تكن تتغير، فكانت دائمًا ما تؤكد أن الشرقي يعيش في عالم خاص به، وقد يكون هذا العالم مختلفًا ولكنه يخضع لتنظيم مُحكم، فله حدودُه القومية والثقافية والمعرفية ومبادئ الاتساق الداخلي. وهكذا فإن عالم أبناء الشرق قد أصبح مفهومًا، أو يمكن فهمه، واكتسب هويته، لا نتيجة لجهود أبنائه بل نتيجة لسلسلة كاملة من الجهود القائمة على العلم والمعرفة، والتي بذلها الغرب لتحديد صورة الشرق، ومن ثَم يلتقي عنصرَا العلاقة الثقافية اللذان أناقشهما. أي إنه لما كانت المعرفة بالشرق قد تولَّدت عن القوة، فإنها تؤدي من زاوية معينة إلى خلق الشرق، والشرقي، وعالمه. فاللغة التي يستخدمها «كرومر وبلفور» تُصوِّر الشرقي في صورةِ شيءٍ يُصدِر المرء عليه الحكم (كما يحدث في المحكمة)، أو شيءٍ يدرسه المرء ويصفه (كما هو الحال في المقرر الدراسي)، أو شيءٍ يؤدبه المرء (كما يحدث في الدراسة أو في السجن) أو شيء يرسم المرء له صورة توضيحية (كما نرى في دليل مصوَّر في علم الحيوان). ومعنى هذا أن الشرقي في كل حالة من هذه الحالات تحتويه وتمثِّله أُطُر مسيطرة. فما مصادر هذه الأُطُر؟

ليست القوة الثقافية أمرًا نستطيع مناقشته بسهولة بالغة، ومن أغراض هذا الكتاب توضيح الاستشراق وتحليله وتأمله باعتباره صورة من صور ممارسة القوة الثقافية. وأقول بعبارة أخرى إنه من الأفضل عدم المخاطرة بتعميمات حول هذه الفكرة البالغة الأهمية؛ أي القوة الثقافية، حتى ننتهيَ من تحليل قدر كبير من المادة، ولكننا نستطيع أن نقول في البداية إن الغرب قد افترض في القرنين التاسع عشر والعشرين أن الشرق، وكل ما فيه، يحتاج إلى دراسة تصحيحية من جانب الغرب، وإن لم يكن الشرق وكل ما فيه في موقع أدنى بصورة واضحة من موقع الغرب. وكان تصوير الشرق يُظهره في صورة يحُدُّها إطار قاعة الدرس، أو المحكمة الجنائية، أو السجن، أو الدليل المصور. والاستشراق إذن هو معرفة الشرق التي تضع كلَّ ما هو شرقي في قاعة الدرس، أو في المحكمة، أو في السجن أو في الدليل المصور، بهدف الفحص الدقيق، أو الدرس، أو إصدار الأحكام، أو التأديب أو تولِّي الحكم فيه.

ولم يكن أحد مثل «بلفور وكرومر» يستطيع أن يقول ما قالاه وبالأسلوب الذي قالاه به في السنوات الأولى من القرن العشرين، لو لم تكن قد سبقتهما تقاليد استشراق أقدم من تقاليد استشراق القرن التاسع عشر، فهيأت لهما المفردات والصور الشعرية، والأساليب البلاغية والتشبيهات التي توسَّلَا بها. ومع ذلك فلقد دعم الاستشراقُ المعرفةَ المؤكدة بأن أوروبا، أو الغرب، تسيطر على القسم الأكبر، إلى حدٍّ كبير، من سطح الأرض، مثلما دعمت الاستشراقَ هذه المعرفةُ. فلقد تزامنت فترة التقدم الهائل في مؤسسات الاستشراق ومضمونه تزامنًا دقيقًا مع فترة التوسع الأوروبي الذي لا نظير له؛ ففي الفترة من ١٨١٥ إلى ١٩١٤م اتسع نطاق السيطرة الاستعمارية الأوروبية المباشر من نحو ٣٥ في المائة من سطح الأرض إلى نحو ٨٥ في المائة منه.9 وامتدَّت السيطرة إلى جميع القارات، ولكن نصيب آسيا وأفريقيا كان النصيبَ الأوفى. وكانت الإمبراطوريتان؛ البريطانية والفرنسية، أكبرَ الإمبراطوريات، وكان الجانبان حليفَين وشريكَين في بعض الأمور، لكنهما كانَا يتنافسان تنافسَ الأعداء في أمور أخرى. كان نطاق الإمبراطوريَّتَين يمتد في الشرق من سواحل البحر المتوسط إلى الهند الصينية والملايو وكانت أملاكهما الاستعمارية ومجالات نفوذهما متجاورة؛ كثيرًا ما تتداخل، وكثيرًا ما يدور القتال بينهما عليها. ولكن الشرق الأدنى — أو قُل أراضي الشرق الأدنى العربي — حيث يُفترض أن الإسلام هو الذي يحدِّد الخصائص الثقافية والعرقية، كان المكان الذي التقى فيه البريطانيون والفرنسيون، مثلما واجهوا فيه «الشرق» بأكبر قدر من الحدة والألفة والتعقيد. وكانت نظرتهما المشتركة للشرق — على مدار معظم سنوات القرن التاسع عشر، على نحو ما قال به لورد «سولزبري» عام ١٨٨١م — تتضمن مشكلات بالغة التعقيد؛ إذ قال «إذا كان لديك … حليف مخلص يُصِر على التدخل في بلد يهمُّك أمرُه إلى حدٍّ بعيد، فلك أن تختار طريقًا تسلكه من بين ثلاثة؛ لك أن تتخلَّى (عن ذلك البلد)، أو أن تحتكره، أو أن تُشارك (حليفك) فيه. لو اخترنا التخلِّي لأصبح الفرنسيون يقطعون طريقنا إلى الهند. ولو اخترنا الاحتكار كنَّا نقترب كلَّ الاقتراب من المخاطرة بحرب. وهكذا قررنا المشاركة.»10
ولقد تقاسماه فعلًا، وبأشكال سوف نبحثها بعد قليل، وأما ما اشتركا فيه فلم يقتصر على الأرض أو الربح أو الحكم، لكنه كان نوع السلطة الفكرية التي أطلقتُ عليها فيما سبق تعبيرَ الاستشراق. كان الاستشراق، من زاوية معينة، معلومات مختزنة في مكتبة أو في قاعة محفوظات، أو أرشيف، يشارك فيها الجميع، وتحظَى بعض جوانب هذه المعلومات بالإجماع على صحتها. وأما العامل الذي كان يربط المواد الأرشيفية بعضها إلى بعض فكان «أسرة من الأفكار»11 ومجموعة من القيم التي ثبتَت فعاليتها بشتى الأشكال، فكفلت الوحدة لهذه المعلومات. وكانت هذه الأفكار تشرح سلوك الشرقيِّين وتنسب إلى الشرقيِّين «عقلية» خاصة ونسبًا ينحدرون منه، وجوًّا خاصًّا بهم، والأهم من ذلك كله أنها سمحت للأوروبيِّين بأن يعاملوا الشرقيِّين بل وأن ينظروا إليهم باعتبارهم ظاهرة ذات خصائص منتظمة. ولكن هذه الأفكار الاستشراقية، شأنها في ذلك شأن أي مجموعة من الأفكار، كان لها تأثيرها فيمن يسمَّون شرقيِّين أو غربيِّين أو أوروبيِّين. وبإيجاز، من الأفضل لنا أن نفهم الاستشراق باعتباره مجموعة من القيود والحدود المفروضة على الفكر أكثر من كونه مجردَ مذهب إيجابي. وإذا كان جوهر الاستشراق هو التمييز المتأصل بين التفوق الغربي والدونية الشرقية، فلا بد أن نستعدَّ لملاحظة أن تطور الاستشراق ومراحله التاريخية اللاحقة عمَّقت ذلك التمييز وزادته صلابة. وعندما أصبح المعمول به أثناء القرن التاسع عشر أن تُحيل بريطانيا الإداريين البريطانيين في الهند وغيرها إلى التقاعد إذا بلغوا سنَّ الخامسة والخمسين، كان ذلك إيذانًا بأن الاستشراق قد شهد تشذيبًا وتنميقًا جديدًا؛ إذ لم يكن يُسمح قط لأحد من أبناء الشرق بأن يرى الغربي إذا تقدم في السنِّ وتدهورت أحواله، مثلما لم يكن أيُّ غربي مضطرًّا لرؤية ذاته منعكسة صورتها في عيون الجنس المحكوم، أو أن يرى شيئًا يخالف صورته باعتباره إداريًّا شديد البأس، عقلانيًّا، لا تغفل عينه عن شيءٍ أبدًا، كأنه أمير هندي.12
واتخذت الأفكار الاستشراقية عددًا من الأشكال المختلفة أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين؛ إذ كانت أوروبا حافلة؛ أولًا بكتابات بالغة الكثرة عن الشرق ورثتها من الماضي الأوروبي، وكانت فترة أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر؛ وهي الفترة التي تفترض هذه الدراسة أن الاستشراق الحديث قد بدأ فيها، تتميز بقيام «نهضة شرقية» على نحو ما وصفه «إدجار كينيه».13 فقد بدا فجأةً لشتى ألوان المفكرين والسياسيِّين والفنانين أنَّ وعيًا جديدًا بالشرق الذي يمتدُّ من الصين إلى البحر المتوسط قد نشأ، وكان هذا الوعي، إلى حدٍّ ما، من ثمار اكتشاف وترجمة النصوص الشرقية القديمة المكتوبة باللغات السنسكريتية، والزندية، والعربية؛ كما كان أيضًا نتيجة الرؤية الجديدة للعلاقة ما بين الشرق والغرب. وفي حدود ما ترمي إليه دراستي الحالية، كان محور العلاقة قد حدده غزو «نابليون» لمصر في عام ١٧٩٨م فيما يتعلق بالشرق الأدنى وأوروبا، وهو الغزو الذي كان يمثل، من عدة زوايا، النموذج الصادق للاستيلاء العلمي الحقيقي على ثقافة ما، من جانب ثقافة أخرى أقوى منها فيما يظهر؛ إذ إنَّ احتلالَ «نابليون» لمصر آذنٌ بدوران عجلة الروابط بين الشرق والغرب، وهي التي لا تزال سائدة في منظوراتنا الثقافية والسياسية المعاصرة، كما أن حملة «نابليون»، بما أفرزته من ثمار القرائح العلمية الجماعية العظيمة، والتي يحفظها لنا كتاب «وصف مصر»، قد أعدت المشهد أو الإطار الذي ازدهر فيه الاستشراق؛ إذ أصبح يُنظر إلى مصر، ومن بعدها البلدان الإسلامية الأخرى بصفتها المجال أو المختبر أو المسرح الحي للمعرفة الغربية عن الشرق. وسوف أعود إلى المغامرة النابليونية بعد قليل.

وقد أدَّت أمثال هذه الخبرات التي أتاحها «نابليون» إلى تحديث المعرفة بالشرق لدى الغرب، وكان ذلك هو الشكل الثاني الذي اتخذه الاستشراق في القرنين التاسع عشر والعشرين. فمنذ مستهل الفترة التي أتناولها بالدراسة شاع بين المستشرقين الطموح إلى صياغة مكتشفاتهم وخبراتهم ونظراتهم الثاقبة صياغةً مناسبة بالمصطلح الحديث، وأن يُقرِّبوا تقريبًا شديدًا بين الأفكار الخاصة بالشرق وبين حقائق الواقع الحديث. فكانت البحوث اللغوية التي أجراها «رينان»، على سبيل المثال، للغات السامية في عام ١٨٤٨م مكتوبة بأسلوب يستعين استعانة كبيرة، طلبًا للثقة والحجية، بنظريات النحو المقارن المعاصرة، ونظريات علم التشريح المقارن، والنظريات العنصرية، وهي التي حققت لمذهبه في الاستشراق مكانةً رفيعة، ولكنها — وهذا هو الوجه الآخر للعملة — كانت تُعرِّض الاستشراق للتأثر بتيارات الفكر الحديثة الطراز وذات النفوذ الخطير في الغرب، وهو ما لم يتوقف حتى هذه اللحظة. فلقد تلوَّن الاستشراق بألوان الإمبريالية، والفلسفة الوضعية، والطوباوية، والتاريخية، والداروينية، والعنصرية، والفرويدية، والماركسية، والشبنجلرية. ولكن الاستشراق، شأنه في ذلك شأن الكثير من العلوم الطبيعية والاجتماعية كانت ولا تزال له «نماذج» بحثية، إلى جانب الجمعيات العلمية الخاصة به ومؤسسته الخاصة. وقد ارتفعت مكانة هذا المجال ارتفاعًا هائلًا في القرن التاسع عشر، مثلما ذاع صيت ونفوذ بعض المؤسسات مثل الجمعية الآسيوية الفرنسية، والجمعية الآسيوية الملكية الإنجليزية والجمعية الشرقية الألمانية، والجمعية الشرقية الأمريكية. وقد ازداد بازدياد ونمو هذه الجمعيات عدد كراسي الأستاذية في الدراسات الشرقية، في طول أوروبا وعرضها، ومن ثَم ازدادت الوسائل المتاحة لنشر الاستشراق، وأدى نشر مجلات الاستشراق الدورية، ابتداء بمجلة «استكشاف الشرق» الألمانية عام ١٨٠٩م، إلى مضاعفة كمية المعرفة، وكذلك عدد التخصصات الفرعية.

ولكن القدر الأكبر من هذا النشاط، والعدد الأكبر من هذه المؤسسات لم يكن يتمتع بالحرية لا في وجوده أو في ازدهاره؛ إذ إن الاستشراق، في الشكل الثالث الذي اتخذه، كان يفرض حدودًا على التفكير في الشرق. بل إن أخصب الكُتَّاب مخيلة، مثل «فلوبير أو نيرفال أو سكوط»، كانوا يشعرون بالقيود في خبراتهم بالشرق أو فيما يقولونه عنه؛ إذ كان الاستشراق في نهاية الأمر رؤية سياسية للواقع، وكان بناء هذه الرؤية هو الذي يعزز الفرق بين المألوف (أوروبا أو الغرب أو «نحن») وبين الغريب (الشرق، أو «هم»)، ومن زاوية معينة أدت هذه الرؤية إلى خلق هذين العالمين بهذه الصورة، ثم عملت على ترسيخها. فكان الشرقيون يعيشون في عالمهم، و«نحن» نعيش في عالمنا. وكانت الرؤية والحقيقة المادية يساندان بعضهما البعض، وكانت كلٌّ منهما تكفل الاستمرار لصاحبتها. ولكن ابن الغرب كان دائمًا ما يتمتع بقدر معين من الحرية في «الخطاب»، أي في التفكير والكلام، فما دامت ثقافته هي الأقوى، فهو يستطيع أن ينفذ إلى اللغز الآسيوي الأعظم، كما أسماه «دزرائيلي» ذات يوم، وأن يصارعه وأن يضع له شكلًا ومعنًى. لكنني أعتقد أن مَن سبقوني قد أغفلوا القيود التي تحدُّ من المفردات التي يستخدمها صاحب مثل هذه المزية، كما أغفلوا الحدود النسبية لمثل هذه الرؤية. وحجتي تقول إن واقعَ الاستشراق معادٍ للإنسانية ومستمرٌّ بإلحاح، وإن نطاقه، مثل مؤسساته، وتأثيره النفاذ الشامل لا يزال قائمًا حتى وقتنا الحاضر.

ولكن ما أسلوب عمل الاستشراق في الماضي والحاضر؟ كيف نستطيع أن نصفه بأنه ظاهرة تاريخية، وطريقة تفكير، ومشكلة معاصرة، وواقع مادي في الوقت نفسه؟ انظر من جديد إلى «كرومر»، فهو خبير فني ماهر من خبراء الإمبراطورية، وهو كذلك من المنتفعين بالاستشراق، وهو قادر على أن يقدم لنا إجابة أولية. إنه يعالج في مقاله «حكم الأجناس المحكومة» مشكلةً محددة وهي كيف تستطيع بريطانيا، وهي أمة من الأفراد، إدارة إمبراطورية شاسعة الأرجاء وفقَ عددٍ من المبادئ الأساسية، فيُقيم التضاد بين «المندوب المحلي» الذي يتمتع بمعرفة الخبير بأبناء البلد وبنزعته الفردية الأنجلوسكسونية، وبين السلطة المركزية في بلده؛ أي لندن. فالأول قد يُقدم على «معالجة موضوعات ذات أهمية محلية بطريقة تهدف إلى الإضرار بمصالح الإمبراطورية أو إلى تعريضها للخطر. وتشغل السلطة المركزية الموقع الذي يمكِّنها من إزاحة أيِّ خطر قد ينشأ عن ذلك». لماذا؟ لأن هذه السلطة تستطيع أن «تكفل التشغيل المتناغم لشتى أجزاء الآلة»، «وعليها أن تحاول، قدر الطاقة، إدراك الظروف المحيطة بحكومة البلد التابعة لها».14 اللغة غامضة ومنفِّرة، وإن كان من اليسير إدراك مرمى «كرومر»؛ إذ إنه يتصور وجود مقر سلطة في الغرب، تخرج منه تجاه الشرق آلة ضخمة شاملة تغذي السلطة المركزية ولو أنها تأتمر بأمرها. وما تنقله فروع الآلة في الشرق إليها — سواء كان ذلك مادة إنسانية، أو ثروة مادية أو معرفة — تتولى الآلة معالجته وتصنيعه ثم تحويله إلى مزيد من السلطة. والمتخصص يقوم بالترجمة المباشرة للمادة الشرقية العاطلة إلى مادة مفيدة: فالشرقي يتحول، مثلًا، إلى جنس محكوم، أو إلى نموذج للعقلية «الشرقية»، وكل ذلك في سبيل تدعيم «السلطة» في الوطن. «فالاهتمامات المحلية» هي اهتمامات المستشرق الخاصة، وأما «السلطة المركزية» فتمثل المصلحة العامة لمجتمع الإمبراطورية ككل. و«كرومر» يُدرك بدقة مسألة «إدارة المجتمع للمعرفة»؛ أي حقيقة أن المعرفة — مهما تكن خاصة — تخضع أولًا للتنظيم من خلال الاهتمامات المحلية للمتخصص، وبعدها وفقًا لجهاز السلطة الاجتماعي، والتفاعل بين الاهتمامات المحلية والمركزية معقد، ولكنه ليس جزافيًّا على الإطلاق.

ويرى «كرومر» باعتباره إداريًّا إمبرياليًّا أن «مجال الدراسة الصحيح هو الإنسان أيضًا»، حسبما يقول. وعندما أعلن الشاعر «ألكسندر بوب» أن الدراسة الصحيحة للجنس البشري هي نفس الإنسان، كان يعني جميع الناس، بمن فيهم «الفقير الهندي»، ولكن استخدام «كرومر» لكلمة «أيضًا» يذكرنا أن بعض الناس، مثل الشرقيِّين يمكننا أن نختصَّهم بالدراسة «الصحيحة». والدراسة الصحيحة، بهذا المعنى، للشرقي هي الاستشراق، ومن الصحيح أن تكون منفصلة عن الأشكال الأخرى للمعرفة، ولكنها في النهاية مفيدة (لأنها محددة) للواقع المادي والاجتماعي الذي يحيط بكل معرفة في أي لحظة، فيدعمها ويفتح أبواب الانتفاع بها. وهكذا يقوم نظام للسيادة يمتد من الشرق إلى الغرب، ويمثل سلسلة وجود وهمية؛ أي مراتب وهمية للموجودات عبر عنها الروائي والشاعر رديارد كبلنج ذات يوم أوضح تعبير قائلًا:

سواء كان بغلًا أو حصانًا أو فيلًا أو ثورًا فهو يطيع سائقه، مثلما يطيع السائقُ الرقيب (الجاويش) ويطيع الرقيبُ الملازم، ويطيع الملازمُ النقيب، ويطيع النقيبُ الرائد، ويطيع الرائدُ العقيد، ويطيع العقيدُ العميد الذي يتمتع بقيادة ثلاثة أفواج (آلايات)، ويطيع العقيدُ اللواء الذي يطيع نائب الملك الذي هو خادم الملكة.15

ويستطيع الاستشراق أيضًا أن يعبر عن قوة الغرب وضعف الشرق، من وجهة نظر الغرب، بصورة توازي هذه الصورة البالغة التزييف لسلسلة القيادة البشعة، وتوازي الإدارة القوية لما أسماه «كرومر» «التشغيل المتناغم». ومثل هذه القوة وهذا الضعف يكمنان في صلب النظرة الاستشراقية مثلما يكمنان في صلبِ أيِّ نظرة تقسم العالم إلى أقسام أو كيانات عامة كبيرة تعيش مع بعضها البعض في جوٍّ من التوتر الذي يُعتقد أنه وليد اختلاف جذري.

وتلك هي القضية الفكرية الرئيسية التي يُثيرها الاستشراق. هل يستطيع المرء تقسيم واقع الإنسانية، ما دام هذا الواقع يبدو حقًّا منقسمًا على نفسه، إلى ثقافات وتواريخ وتقاليد ومجتمعات بل وأجناس تختلف اختلافًا بيِّنًا ثم ينجو من العواقب بصورة إنسانية؟ وبالنجاة من العواقب بصورة إنسانية، أقصد أن أسأل إن كان لدينا سبيلٌ لتجنُّب العداء الذي يعبِّر عنه التقسيم، وليكن تقسيم الناس إلى فريقنا «نحن» (الغربيين) وفريقهم «هم» (الشرقيين). فالواقع أن أمثال هذه التقسيمات كان القصد من استعمالها تاريخيًّا وفعليًّا تأكيدَ أهمية التمييز بين بعض الناس وبعضهم الآخر لغايات لم تكن تدعو في العادة إلى الإعجاب بصورة خاصة. وعندما يلجأ المرء إلى استخدام التقسيم إلى فئات مثل الشرقي والغربي باعتباره نقطة الانطلاق والغاية من التحليل والبحث ووضع السياسات العامة (على نحو ما استخدم «بلفور وكرومر» هاتين الفئتين)؛ فالنتيجة عادةً ما تكون استقطاب التمييز — أي زيادة «شرقية» الشرقي و«غربية» الغربي — والحد من التلاقي الإنساني بين الثقافات والتقاليد والمجتمعات المختلفة. وبإيجاز نجد أن الاستشراق — وذلك منذ أولى مراحل تاريخه الحديث حتى الوقت الحاضر، وباعتباره منهاجًا فكريًّا للتعامل مع كل ما هو أجنبي — قد اتضحت فيه سمة مميزة وهي سمة الجنوح المؤسف لأيِّ معرفة قائمة على ضروب التمييز القاطعة مثل تمييز «الشرق» عن «الغرب»: أي تقديم الفكر في قناة غربية أو قناة شرقية. ولما كان هذا الجنوح يكمن في مركز النظرية والممارسة والقيم الاستشراقية لدى الغرب، أصبح مفهوم سلطة الغرب على الشرق مسلَّمًا به باعتباره يتمتع بمكانة الحقيقة العلمية.

ولا بد أن تتضح هذه الملاحظة تمامًا إذا ضربنا مثلًا معاصرًا أو مثلَين. فمن الطبيعي لأصحاب السلطة أن يستعرضوا، من وقت لآخر، أحوال العالم الذي عليهم أن يتعاملوا معه. وكثيرًا ما فعل «بلفور» ذلك، مثلما يفعله معاصرنا «هنري كيسنجر»، ويندر أن يكون ذلك بصراحة ووضوح أكبر مما جاء في مقالته «البناء الداخلي والسياسات الخارجية». والدراما التي يصورها حقيقية، وفيها ينبغي على الولايات المتحدة أن تُوازن في كلِّ ما تفعله في العالم بين ضغوط القوى الداخلية وبين حقائق الواقع في الخارج؛ ولهذا السبب وحده لا بد أن يقيم كلامُ «كيسنجر» استقطابًا بين الولايات المتحدة والعالم، ويضاف إلى ذلك، بطبيعة الحال، أنه يتكلم واعيًا باعتباره الصوت الرسمي للدولة الغربية الكبرى، وهي التي أدَّى تاريخها الحديث وواقعها الحاضر إلى الموقف الذي تقفه أمام عالم لا يقبل بسهولة سلطانها وسيادتها. ويشعر «كيسنجر» أن الولايات المتحدة تستطيع أن تتعامل مع الغرب الصناعي المتقدم دون أن تصادف المشكلات التي تصادفها مع العالم النامي. وهنا أيضًا نرى أن الواقع المعاصر للعلاقات بين الولايات المتحدة وما يسمَّى بالعالم الثالث (وهو الذي يضم الصين، والهند الصينية، والشرق الأدنى، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية) يتكون، بوضوح، من مجموعة شائكة من المشاكل، وهو ما لا يستطيع أن يُخفيَه أحد حتى «كيسنجر» نفسه.

أما منهاج «كيسنجر» في مقاله فينطلق مما يسميه اللغويون التعارض الثنائي: أي إنه يبيِّن وجودَ أسلوبَين من أساليب السياسة الخارجية (النبوئي والسياسي) ونمطَين من فن الصنعة، وفترتين، وهلمَّ جرًّا. وعندما يَصِل إلى نهاية القسم التاريخي من حجته ويجد أنه يواجه العالم المعاصر — يقسمه وفق منهاجه إلى نصفين هما البلدان المتقدمة والبلدان النامية. فأما القسم الأول، وهو الغرب، فيقول إنه «يلتزم التزامًا عميقًا بأن العالم الحقيقي يوجد خارج الناظر إليه، وبأن المعرفة تتكون من تسجيل وتصنيف البيانات — وكلما زادت دقتُها كانت أفضل». وبرهان «كيسنجر» على ذلك هو الثورة التي أحدثها «إسحاق نيوتن»، عالِم الفيزياء، والتي لم تحدث في العالم النامي، وهكذا «فإن الثقافات التي لم تُصبها الآثار المبكرة للتفكير النيوتوني لا تزال تحتفظ بالنظرة التي ترجع في جوهرها إلى ما قبل عهد «نيوتن» وهي التي تقول إن العالم الحقيقي يوجد بصورة كاملة تقريبًا داخل الناظر إليه». ويضيف قائلًا إن ذلك قد أدَّى إلى أن أصبحت «للحقيقة الإمبريقية أو التجريبية دلالة تختلف اختلافًا كبيرًا لدى الكثير من البلدان الجديدة عنها لدى الغرب؛ وذلك لأن هذه البلدان، بمعنًى من المعاني، لم تمرَّ يومًا ما بمراحل اكتشاف هذه الحقيقة».16

وعلى عكس من «كرومر»، لا يحتاج «كيسنجر» إلى الاستشهاد بأقوال السير «ألفريد ليال» لإثبات عجز الشرقي عن توخِّي الدقة؛ إذ يرى أن قضيته لا خلاف عليها، ومن ثَم فهي لا تحتاج إلى أسانيد خاصة: فلقد كانت لنا ثورتنا النيوتونية ولم يكن لديهم ما يماثلها، ونحن أقدر منهم على التفكير. لا بأس، إذن فقد رُسمَت الخطوط أخيرًا بشكل يقترب اقترابًا كبيرًا من خطوط «بلفور وكرومر». ومع ذلك فإن الفترة التي تفصل «كيسنجر» عن الإمبرياليِّين البريطانيِّين تبلغ ستين عامًا أو أكثر، ولقد أثبت العديد من الحروب والثورات فيها، وبصورة قاطعة، أن الأسلوب «النبوئي» الذي ينسبه «كيسنجر» إلى البلدان النامية «غير الدقيقة» وإلى أوروبا قبل مؤتمر فيينا، لم يعجز عن تحقيق بعض النجاحات، ومن ثَم يرى «كيسنجر»، على عكس «بلفور وكرومر»، أنه مضطرٌّ إلى احترام هذا المنظور السابق ﻟ «نيوتن»؛ «لأنه يُهيِّئ المزيد من المرونة فيما يتعلق بالقلاقل الثورية المعاصرة»، وهكذا فإن واجب الناس في عالم ما بعد «نيوتن» (وهو العالم الحقيقي) أن «يبنوا نظامًا دوليًّا قبل أن تفرضه إحدى الأزمات بالضرورة»، وبعبارة أخرى لا يزال علينا «نحن» أن نعثر على أسلوب لاحتواء العالم النامي. ألَا يُشبه ذلك رؤية «كرومر» لآلة متناغمة التشغيل، هدفها النهائي تحقيق فائدة ما، لسلطة مركزية ما، في معارضة العالم النامي؟

وربما لم يكن «كيسنجر» يعرف أيَّ نسب عريق يتمتع به «الرصيد» المعرفي الذي «يسحب» منه حين قسَّم العالم إلى قسمين؛ أحدهما سابق ﻟ «نيوتن» والآخر لاحق عليه، ولكن تمييزه بينهما مطابق للتمييز «المعتمد» لدى المستشرقين الذين يفصلون بين أبناء الشرق وأبناء الغرب. وتمييز كيسنجر، مثل تمييز المستشرقين، ليس بريئًا من أحكام القيمة، على الرغم من نغمة الحياد الظاهرة. وهكذا فإن كلمات معينة؛ مثل «نبوئي»، و«الدقة»، و«داخلي»، و«الحقيقة الإمبريقية»، و«النظام» تنتشر في شتى أرجاء وصفه، وهي التي تتميز بها؛ إما بعض الفضائل «الجذابة» والمألوفة والمستحبة، وإما بعض المثالب الشاذة والفوضوية التي تُنذر بالخطر. ويشترك المستشرق التقليدي مع «كيسنجر»، كما سوف نرى، في القول بأن الاختلاف بين الثقافات يُنشئ، أولًا، جبهة قتال تفصل بينهما، ويدعو الغرب، ثانيًا، إلى أن يتحكم في «الآخر» ويحتويه أو يحكمه (من خلال التفوق في المعرفة والسلطة اللازمة لتطويعه). ولا يحتاج أحد في الوقت الحاضر إلى مَن يُذكِّره بالآثار المترتبة على الحفاظ على أمثال هذه التقسيمات «القتالية» ومدى تكاليفها الباهظة.

وهاك مثالًا آخر يرتبط بيسرٍ — وربما بيسرٍ أكبر مما ينبغي — بالتحليل الذي يقدمه «كيسنجر». فلقد نشرت المجلة الأمريكية للطب النفسي، في عددها الصادر في فبراير ١٩٧٢م مقالًا كتبه «هارولد و. جليدن»، قالت المجلة إنه كان قبل تقاعده عضوًا في مكتب الاستخبارات والبحوث التابع لوزارة الخارجية الأمريكية. ويتضح من عنوان المقال (وهو «العالم العربي») ومن نغمته ومن مضمونه أنه يمثِّل توجُّهًا فكريًّا من أشد خصائص التفكير الاستشراقي. وهكذا يقدم «جليدن» في مقاله الذي يقع في أربع صفحات؛ كلٌّ منهما من عمودين، صورة سيكلوجية لما يزيد على مائة مليون شخص، وهو يبحث هذه الصورة في فترة تزيد على ١٣٠٠ سنة، ولا يعتمد في آرائه إلا على أربعة مصادر، هي: كتاب صدر قبل فترة قصيرة عن «طرابلس»، وعدد واحد من صحيفة الأهرام المصرية، ودورية عنوانها: أورينتي مودرنو، وكتاب كتبه مستشرق مشهور يُدعَى «ماجد قدوري». أما المقالة نفسها فتقول إنها تعتزم الكشف عن «العوامل الداخلية للسلوك العربي»، وهو سلوك نراه من وجهة نظرنا «نحن» «منحرفًا» ولكن العرب يعتبرونه «طبيعيًّا». وبعد هذه المقدمة التي تبشر بالخير، يقول لنا الكاتب إن العرب يؤكدون أهمية الاتفاق مع كل ما هو سائد، وإن العرب يعيشون في كنف ثقافة «العار» أو «الخزي»، وأن لهذه الثقافة «جهاز صيت وهيبة» يتضمن القدرة على اجتذاب الأتباع والعملاء (ثم يقول لنا في لفتة جانبية إن «المجتمع العربي يقوم حاليًّا، كما كان شأنه دائمًا، على نظام المشاركة بين الراعي والعميل»)، وإن العرب لا يستطيعون العمل إلا في مواقف الصراع؛ وإن الهيبة لا تقوم إلا على أساس قدرة السيطرة على الآخرين؛ وإن ثقافة «العار» — والإسلام نفسه من ثَم — يعتبر الثأرَ فضيلة (وهنا يستشهد «جليدان» استشهاد المنتصر بما نشرته صحيفة الأهرام في عددها الصادر ٢٩ يونيو ١٩٧٠م، حين يبين أنه «في حالات القتل العمد التي قُبض فيها على الجناة — وكانت تبلغ ١٠٧٠ حالة عام ١٩٦٩م [في مصر] — اتضح أن ٢٠ في المائة من جرائم القتل كانت بسبب الرغبة في غسل العار، و٣٠ في المائة بسبب الرغبة في الانتقام من مظالم حقيقية أو متوهمة، و٣١ في المائة بسبب الرغبة في الأخذ بالثأر للأقارب»)؛ ثم يقول إنه إذا كانت وجهة النظر الغربية تقول «إن الطريق العقلاني الوحيد أمام العرب هو طريق السلام … فالعرب لا يرون أن الحالة الراهنة تخضع لهذا المنطق؛ لأن الموضوعية ليست من الفضائل في نسق القيم العربية».

ويواصل «جليدن» حديثه، بحماس أكبر هذه المرة، قائلًا «من الحقائق البارزة أنه إذا كان نسق القيم العربي يتطلب التضامن داخل المجموعة، فإنه يشجع أفرادها في الوقت نفسه على نوع من المناقشة يؤدي إلى تدمير ذلك التضامن نفسه.» ويضيف أنه «لا عبرة إلا بالنجاح» في عالم «يتميز بالقلق الذي يعبر عنه الشك والريبة العامة، وهي التي أُطلق عليها تعبير العدوانية الطليقة»؛ «وإن فنَّ التحايل والتملُّص فنٌّ بالغ التقدم في الحياة العربية وفي الإسلام نفسه كذلك.» ويقول إن حاجة العربي إلى الثأر تتجاوز كلَّ شيء آخر، وإن لم يأخذ العربيُّ بثأره شعر بالعار الذي «يدمر ذاته». وهكذا فإذا كان «الغربيون يعتبرون أن السلام يشغل مكانة رفيعة على سُلَّم القيم»، وإذا «كان لدينا فعلًا وعيٌ بالغ الحدة بقيمة الزمن»، فإن ذلك لا يصدق على العرب. ويضيف قائلًا: «في واقع الأمر كانت الحرب لا السلم هي ما يمثل الوضع الطبيعي في المجتمع القَبَلي العربي (وهو المصدر الذي خرجت منه القيم العربية)؛ لأن الغزو كان إحدى الدعامتَين الرئيستَين للاقتصاد.» وأما الغرض من هذا البحث «العلمي» المسهب فهو أن يبيِّن وحسب كيف «تختلف المواقع النسبية للعناصر اختلافًا بيِّنًا» بين سُلَّم القيم الغربية وسُلَّم القيم الشرقية. وهذا هو المطلوب إثباته.17

هذا هو أَوْج الثقة الاستشراقية؛ فالكاتب لا يُنكر على أيِّ تعميم مزعوم وحسب أن يكتسب شرف الحقيقة، ولا يجد قائمة نظرية للصفات الشرقية دون تطبيقها على سلوك الشرقيِّين في العالم الواقعي. فمن ناحية يوجد الغربيون، وفي مقابلهم يوجد الشرقيون العرب، وأفراد الجانب الأول يتصفون بأنهم (دون ترتيب معين للصفات) عقلانيون، مسالمون، متحررون، منطقيون، قادرون على الاستمساك بقيم حقيقية، بريئون من الريبة الطبيعية، وأفراد الجانب الآخر لا يتصفون بأيٍّ منها. تُرى من أيِّ نظرة جماعية للشرق، على حُفُولها بالتفاصيل الخاصة، خرجت هذه الأقوال؟ تُرى أية مهارات متخصصة، وضغوط خيالية، وأية مؤسسات وتقاليد، وأية قوى ثقافية أدَّت إلى هذا التماثل في أوصاف الشرق بين «كرومر وبلفور» ورجال السياسة المعاصرين لنا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤