ثانيًا: الأسلوب والخبرة والرؤية: الطابع الدنيوي للاستشراق
كانت صورة الرجل الأبيض التي رسمها «كبلنج» في قصائد كثيرة، وفي روايات مثل «كيم»، وفي عدد من العبارات الشائعة التي تَحُول كثرتُها دون اعتبارها ساخرة؛ أي لا تعني ما تقول؛ صورة تمثِّل فكرةً أو قناعًا أو «أسلوبًا للوجود»، ويبدو أنها أفادَت كثيرًا من البريطانيِّين أثناء وجودهم خارج بلادهم؛ إذ كان لونُ بشرتهم يميِّزهم تمييزًا قاطعًا، ويبعث الطمأنينة في النفس، عن «بحر» الأهالي المتلاطم، ولكن البريطاني الذي كان يتنقل بين الهنود أو الأفريقيِّين أو العرب، كان يعلم علم اليقين كذلك مدى انتمائه إلى الذخيرة التجريبية والروحية لتقاليد المسئولية الإدارية الطويلة الأمد عن الأجناس الملونة وإمكان استفادته منها. ولقد قصد «كبلنج» أن يكتب عن هذه التقاليد، وعن أمجادها وصعوباتها، عندما كتب قصيدة احتفاء وتحية «للطريق» الذي سلكه الرجال البِيض في المستعمرات:
أي إن أفضل وسيلة «لتطهير أرض ما» هي أن يتكاتف الرجال البيض تكاتفًا دقيقًا في العمل، وهي إشارة إلى الأخطار الراهنة للمنافسة الأوروبية في المستعمرات، وأما العجز عن تنسيق السياسات فمعناه أن الرجال البيض عند «كبلنج» على استعدادٍ تامٍّ لخوض الحرب؛ إذ يقول إن الغاية هي «الحرية لأنفسنا والحرية لأبنائنا. فإذا لم تتوافر الحرية، خُضْنا الحرب.» ومعنى هذا أن قناع القيادة الودودة الذي يلبسه الرجل الأبيض يكمن خلفه دائمًا استعداده الصريح لاستعمال القوة، لأن يَقتُل ويُقتَل، وأما ما يُضفي الجلال على «رسالته» فهو إحساس ما بأنه وقف نفسه فكريًّا على تحقيقها، فهو رجل أبيض، لكنه لا يسعى لمجرد الربح، فالمفترض أن «نجمه المختار» أعلى مكانة من الكسب الدنيوي. ولا شك أن الكثير من الرجال البيض قد تساءلوا في أحيان كثيرة عن القضية التي يحاربون من أجلها في ذلك «الطريق المبتل والعاصف الرياح»، ولا شك أن عددًا كبيرًا منهم أصابَتهم الحيرة (ولا بد) إزاء السبب الذي جعل لونَ البشرة يؤهلهم لمكانة وجودية أرفع من سائر البشر ويمنحهم تسلطًا كبيرًا على جانب كبير من المعمورة. ومع ذلك فإن بياض البشرة كان يمثِّل في النهاية أمرًا لا يحتاج إلى التأكيد من عوامل أخرى، عند «كبلنج» وعند الذين تأثروا بأفكاره وأقواله. فالفرد يصبح رجلًا أبيض؛ لأن وجوده يقضي بأن يكون رجلًا أبيض، وأهم من ذلك أنه حين «يشرب تلك الكأس» ويحيا الحياة التي قضى بها القدر الذي لا رادَّ له في «زمن الرجل الأبيض»، لن يجد وقتًا يكفي أيَّ تأملات، لا جدوى منها، عن الأصول أو الأسباب أو المنطق التاريخي.
ومن ثَم فإن بياض البشرة كان يمثِّل فكرةً وحقيقة واقعة، ويستتبع اتخاذ موقف عقلاني تجاه العالمَين الأبيض وغير الأبيض، ويعني — في المستعمرات — التحدث بأسلوب خاص، والتصرف وفقًا لمجموعة محددة من القواعد، بل والإحساس بأحاسيس معينة دون غيرها. وكان يعني أحكامًا وتقييمات وحركات معينة؛ إذ كان ضربًا من ضروب السلطة التي تدعو الأجناس غير البيضاء بل والأجناس البيضاء نفسها للخضوع أمامها. وقد أصبح في إطار المؤسسات التي أنشأها (مثل حكومات المستعمرات، والهيئات القنصلية، والشركات التجارية) وسيلةً للتعبير عن سياسات معينة تجاه العالم ونشرها وتنفيذها، وكانت فكرة التمتع ببياض البشرة التي تحوَّلت إلى فكرة جماعية غير شخصية، هي القوة السائدة في هذه الوسيلة، وإن كانت تسمح بدرجة معينة من الحرية الشخصية. وباختصار كان الانتماء إلى جنس الرجل الأبيض منهجًا عمليًّا إلى حدٍّ بعيد من مناهج الانتماء إلى العالم، أو منهجًا من مناهج التحكم في الواقع واللغة والفكر. وهذا المنهج هو الذي أتاح ظهورَ أسلوب محدد.
وأما الظرف الآخر الذي يشترك في رسم صورة الرجل الأبيض فيه مع نشأة الاستشراق فهو «المجال» الذي يتحكم فيه كلٌّ منهما، وهو الزاوية التي نرى منها كيف يستتبع مثل هذا المجال طرائقَ خاصة، بل وشعائر خاصة، للسلوك والتعلم والامتلاك. فالغربي وحده، على سبيل المثال، هو الذي يستطيع أن يتكلم عن «شرقيين»، مثلما كان الرجل الأبيض هو الذي يستطيع أن يُشير إلى «الملونين» أو الأجناس غير البيضاء، ويسميها بأسمائها. وكان كل قول يقوله المستشرقون أو أصحاب البشرة البيضاء (وكان التعبيران يحلَّان محلَّ بعضهما البعض) يشير إلى المسافة التي من المحال تقليلها، والتي تفصل الأبيض عن الملون، أو الغربي عن الشرقي. وإلى جانب ذلك كنت تسمع خلف أمثال هذه الأقوال أصداء تقاليد الخبرة والعلم والتعليم التي تحكم على الملون الشرقي أن يظل في موقعه موضوعًا يدرسه الأبيض الغربي، بدلًا من العكس. فإذا كان المرء في موقع السلطة — كما كان «كرومر»، على سبيل المثال — رأى أن الشرقيَّ ينتمي إلى نظام حكم يقوم على مبدأ محدد، وهو التأكد فحسب من عدم السماح للشرقي بالحصول على استقلاله وحُكْم نفسه في يوم من الأيام. وكانت الحجة تقول إنه ما دام الشرقيون يجهلون الحكم الذاتي، فالأفضل لهم أن يظلوا كذلك، لأن فيه صالحَهم.
ولما كان الرجل الأبيض يعيش مثل المستشرق في موقع يقترب كثيرًا من «خط التوتر» الذي يكفل «استبعاد» الملونين، فقد كان يشعر أن واجبه يقضي بأن يكون دائمًا على استعداد لرسم حدود المنطقة التي يستعرضها وإعادة رسم هذه الحدود. وهكذا يتناوب وقوع الفقرات التي تتضمن سردًا وصفيًّا، بصورة منتظمة، مع الفقرات التي تتضمن إعادةَ الإفصاح عن الحدود المرسومة والأحكام الصادرة عليها، وهي الفقرات التي تعترض مجرى السرد، وهذه من الخصائص التي تُميز أسلوب الكتابة عند خبراء الشرق الذين كانوا يلبسون قناع الرجل الأبيض الذي رسمه «كبلنج». وفيما يلي فقرة من رسالة كتبها «ت. أ. لورنس إلى ف. و. ريتشارد» في عام ١٩١٨م:
ونجد منظورًا مماثلًا، مهما يبلغ اختلاف الموضوع قيد المناقشة في الظاهر، في الملاحظات الآتية التي تُبديها «جرترود بِلْ»:
وعلينا أن نُضيف إلى هذه الكلمات ما يشرحها، ألَا وهي الملاحظات التي تُبديها الكاتبة بعد ذلك، وتتعلق في هذه المرة بالحياة في دمشق:
ونلاحظ فورًا في أمثال هذه الأقوال أن لفظ «العربي» أو «العرب» يتسم بالانفصال، وبطابع محدد، وباتساق ذاتي جماعي كفيل بأن يمحوَ أية آثار لعرب أفراد، لكل منهم قصة حياة تقبل السرد. أما ما اجتذب خيال «لورنس» فكان وضوحَ العربي، باعتباره صورة وباعتباره فلسفة مفترضة (أو موقفًا مفترضًا) تجاه الحياة: ومع ذلك فإن «لورنس» يركز في الحالتين على العربي كأنما تبرز صورته من منظور شخص غير عربي «يطهرها» من بعض عناصرها، ويحدد الطابع البدائي التلقائي للبساطة العربية، وهذا الناظر «غير العربي» هنا هو الرجل الأبيض. ومع ذلك فإن «الصفاء» العربي هنا يتفق في عناصره الجوهرية مع رؤى الشاعر الأيرلندي الكبير و. ب. ييتس: لبيزنطة حيث نرى:
وهو «صفاء» يرتبط بثبات العربي على الدوام، كأنما لم يتعرض العربي ولم يخضع للتحولات التاريخية المعتادة. ومن المفارقات أن يبدوَ هذا العربي لعينَي «لورنس» في صورة من «استهلك» ذاته في صموده الزمني نفسه. وهكذا فإن «لورنس» يقول إن العمر المديد للحضارة العربية أدَّى إلى «تصفية» العربي فأصبح لا يتضمن إلا صفاته الجوهرية، وإلى إنهاكه معنويًّا في غضون ذلك. ولا يتبقَّى لنا من ذلك إلا الصورة التي رسمَتها «بِل» للعربي: صورة قرون من الخبرة بلا حكمة. وهكذا فالكيان الجماعي للعربي يخلو من أيِّ كثافة «وجودية» أو «دلالية»، وهو يظل كما هو، باستثناء «التصفية» المرهقة التي يذكرها «لورنس»، من أقصى «السجلات القديمة للحياة في أعماق الصحراء» إلى أقصاها. ولنا أن نفترض إذن أنه لو شعر شخص عربي بالفرح، أو حَزِن لوفاة طفله أو أحد أبويه، أو إذا خامره أيُّ إحساس بمظالم الطغيان السياسي، فلا بد أن تكون هذه الخبرات ثانوية بالقياس إلى الحقيقة المجردة، وغير المزخرفة، والصامدة، وهي كونه عربيًّا.
ولهذا الطابع البدائي وجودٌ متزامن على مستويَين، على الأقل؛ الأول هو مستوى تعريف العربي، وهو الذي يختزل حقيقته، والثاني هو (وفقًا لما يقوله لورنس وبِلْ) مستوى الواقع الفعلي، ولم يكن هذا التلاقي المطلق (للمستويَين) وليد مصادفة محضة؛ إذ كان من المحال تحقيقه، أولًا، إلا من الخارج بفضل مفردات وأدوات معرفية ترمي إلى غايتين؛ إحداهما النفاذ إلى صلب المسألة، والثانية تجنُّب أي تشويش قد تتسبب فيه أحداث عارضة، أو ظروف طارئة، أو خبرة عابرة. ونرى ثانيًا أن ذلك التلاقي كان حقيقةً تتفرد بأنها جاءت نتيجة تضافر المنهج مع التقاليد والسياسة. وقد قام كلٌّ من هذه العوامل، من زاوية معينة، بطمس الفوارق التي تميِّز بين النمط — الشرقي أو السامي أو العربي أو الشرق — وبين الواقع الإنساني العادي الذي يعيشه جميع أبناء البشر، وهو ما كان الشاعر «ييتس» يشير إليه باسم «اللغز الجامح على الأرضية الحيوانية»، فكان الباحث الأكاديمي يرى أن النمط الذي يحمل عنوان «الشرقي» ينطبق على أيِّ فرد شرقي يصادفه. وأدَّت التقاليد المتناقَلة على مدى سنوات طويلة إلى تكوين «قشرة» من الشرعية النسبية فوق كل إشارة إلى الروح السامية أو الشرقية، وكانت العقلانية السياسية تقول إن «جميع العناصر يتصل بعضها بالبعض» في الشرق، كما جاء في العبارة الرائعة التي قالَتها «بِل». وهكذا فإن الطابع البدائي كان راسخًا في الشرق، بل كان نفسه هو الشرق، وهي الفكرة التي كان كلُّ مَن يتناول الشرق أو يكتب عنه يُضطر للرجوع إليها، كأنما يرجع إلى محك خالد يتجاوز حدودَ الزمن أو الخبرة.
ولدينا مدخلٌ ممتاز لفهمِ انطباقِ ذلك كلِّه على أصحاب البشرة البيضاء من العملاء والخبراء والمستشارين في شئون الشرق؛ إذ لم يكن يهمُّ «لورنس» و«بِلْ» إلا أن تنتميَ إشاراتهما إلى العرب أو الشرقيين إلى أعراف مرجعية ويسهل إدراكها في صوغ القضية، وهي أعراف قادرة على إدراجِ أيِّ تفاصيل فرعية وثانوية تحت رايتها. ولكن فلنسأل، بقدر أكبر من التخصيص، من أين جاءت المفاهيم النمطية «للعربي» أو «السامي» أو «الشرقي»؟
سبق أن ذكرنا كيف كان التعميم عن «الشرق» في القرن التاسع عشر، وعند بعض الكُتَّاب مثل «رينان ولين وفلوبير وكوسان دي بيرسيفال وماركس ولامارتين»، يستمد قوَّته من الصور التي كان من المفترض أنها تمثِّل كلَّ ما هو شرقي، وكان هؤلاء يرون أن كل ذرة من ذرات الشرق تُفصح عن طابعها الشرقي، وقد بلغ ذلك حدًّا جعل صفةَ الشرقي تتغلب على أي مثال أو حادثة تُوازنها: فكان الإنسان الشرقي شرقيًّا في المقام الأول وإنسانًا في المقام الثاني. وكان مثل هذا التنميط الجذري يتلقَّى الدعم الطبيعي من العلوم (أو من ضروب «الخطاب» كما أُحبُّ أن أسمِّيَها) التي تتعقب الأصول والجذور وصولًا إلى مراتب الجنس البشري، أو فئاته التي كان من المفترض أن تُقدِّم تفسيرًا — في ضوء تاريخ تطور الأحياء — لموقع كلِّ مَن ينتمي إلى الجنس البشري. وهكذا نجح البعض في إقامة فوارق أقرب إلى الصحة العلمية داخل بعض الفئات العامة شبه الشائعة على الألسن، مثل فئة «الشرقيين»، وكانت معظم هذه الفوارق تقوم أساسًا على الأنماط اللغوية — مثل اللغات السامية، والدرافيدية، وهي من فروع الهندية الأوروبية في جنوب آسيا، والحامية — ولكنها سرعان ما استطاعت أن تأتيَ بأدلة أنثروبولوجية ونفسية وبيولوجية وثقافية تدعمها. وكان مصطلح «السامية» عند «رينان» مثلًا يعتبر تعميمًا لغويًّا، لكنه استطاع في يدَيه أن يكتسب شتى الأفكار الموازية له من علوم التشريح والتاريخ والأنثروبولوجيا بل والجيولوجيا. وهكذا أصبح من الممكن استعمال مصطلح «السامية» دون اعتباره وصفًا أو تسمية بسيطة؛ إذ إنه بدأ يطبق على أية مجموعة معقَّدة من الأحداث التاريخية والسياسية، بغرض اختزالها والوصول إلى «نواة» داخلها متأصلة فيها وسابقة عليها. وهكذا غدَت فئة «السامية» فئةً تتجاوز الزمن وتتجاوز الفرد، وتهدف إلى التنبؤ بأيِّ سلوكٍ «ساميٍّ» منفصل عن غيره، استنادًا إلى جوهرٍ «ساميٍّ» مفترض، كما تهدف أيضًا إلى تفسير جميع جوانب الحياة الإنسانية والنشاط البشري في ضوءِ عنصرٍ «ساميٍّ» مفترض.
أما الذي علينا أن نؤكده فهو أن هذه الحقيقة الخاصة بالفوارق التي تميز الأجناس والحضارات واللغات بعضها عن البعض كانت تعتبر (أو تتظاهر بأنها) حقيقة جذرية لا يمكن اقتلاعها. وكان المعتقد أنها تضرب بجذورها في الأعماق، فتزعم أنه لا مهربَ من الأصول، ومن الأنماط التي لولا هذه الأصول ما نشأت، وأنها ترسم الحدود الحقيقية فيما بين البشر، وهي الحدود التي تُبنى عليها الأجناس والأمم والحضارات، كما كانت تُحوِّل اتجاه النظر فتصرفه عن الحقائق الإنسانية مثل الفرح والمعاناة والتنظيم السياسي وتُرغم الناظر على الرجوع إلى الأعماق حيث الأصول التي لا تتغير ولا تتبدل. ولا يستطيع العالِمُ أن يهرب في بحثه من هذه الأصول مثلما لا يستطيع الشرقيُّ أن يهرب من «الساميين» أو «العرب» أو«الهنود» الذين ينتمي إليهم انتماءً يُفسره واقعُه الراهن، وهو الواقع المنحط المتخلف الرازح تحت الاستعمار، والذي يُحكم عليه بالاستبعاد (والاختفاء) لولا قيام الباحث ذي البشرة البيضاء بتقديمه في صورة تعليمية.
كانت مهنة الباحث المتخصص تأتي بمزايا فريدة لصاحبها، ونحن نذكر أن «إدوارد لين» كان يستطيع الظهور بمظهر الشرقي مع الاحتفاظ بحياده العلمي (الموضوعي). وقد أصبح الشرقيون الذين درسهم يمثِّلون في الواقع صورةَ الشرقيين لديه، فلم يكن يرى أنهم أشخاص حقيقيون فحسب بل كان ينظر إليهم أيضًا باعتبارهم موضوعات أثرية يعرضها ويناقشها، وكان ذلك المنظور المزدوج يشجع على تقديم مفارقة مصطنعة من لون ما. فلدينا من ناحية مجموعة من الناس الذين يعيشون في الحاضر، ولدينا من ناحية أخرى صورة هؤلاء الناس — موضوع الدراسة — الذين أصبحوا «المصريين» أو «المسلمين» أو «الشرقيين». ولا يستطيع إلا الباحث أن يرى ويتلاعب بالتفاوت ما بين المستويَين. كان اتجاه المستوى الأول يتميز دائمًا بزيادة التنوع، ومع ذلك فإن هذا التنوع كان يتعرض، بصفة دائمة أيضًا، لقيود وضغوط انتهَت به إلى الرجوع إلى ما هو «أعمق»، من «أصول» و«جذور» اتخذَت صورة التعميم. وهكذا أصبح المستشرقون يُرجعون كلَّ مثال حديث للسلوك من جانب الأهالي (في الشرق) إلى ما يُعتبر «الأصل» الذي ينتهي إليه، وهو الذي كانت قوته تزداد في غضون ذلك. وكان هذا اللون من «الإرجاع» يمثِّل منهج البحث الاستشراقي على وجه الدقة.
كانت قدرة «إدوارد لين» على تناول المصريين باعتبارهم بشرًا لهم حضور راهن، وباعتبارهم، في نفس الوقت، أمثلةً تؤكد صحةَ وجودِ نوعٍ خاصٍّ متفرد من البشر من الدوالِّ الخاصة بمبحث الاستشراق وبالآراء الشائعة عن المسلمين أو الساميِّين من أبناء الشرق الأدنى. كان الساميون الشرقيون خيرَ مَن يُمكِّن المستشرق من مشاهدة الحاضر والأصل معًا؛ إذ أصبح من أيسر اليسير تفهُّم اليهود والمسلمين، باعتبارهم موضوعَ دراسته، بسبب أصولهم «البدائية»، وكان ذلك (ولا يزال إلى حدٍّ ما) حجرَ الزاوية في الاستشراق الحديث. كان «رينان» يعتبر الساميِّين نموذجًا لتوقُّف التطور والنمو، وأصبح ذلك يعني، من زاوية التطبيق العملي، أنه كان من المحال على المستشرق أن يُسلِّم بقدرةِ أيِّ ساميٍّ حديث، مهما يكن إيمانه بأنه حديث، على تخطِّي المسافة التي تفصله عن أصوله، وهي الأصول التي تتحكم في تنظيم حياته. وكانت هذه القاعدة «التطبيقية» تسري على المستويَين الزماني والمكاني معًا، بحيث لم يكن أحد يعتبر أن أيَّ ساميٍّ يستطيع أن يتقدم في الزمن بحيث يتجاوز التطور الذي حققه في الفترة «الكلاسيكية»، أو أن يتحرر يومًا ما من البيئة الرعوية الصحراوية لخيمته وقبيلته. وهكذا كان من الممكن، بل من الواجب، إرجاع كل مظهر من مظاهر حياة «الساميين» الفعلية إلى الفئة البدائية التي تشرح ذلك المظهر، ألَا وهي فئة أو مرتبة «السامية».
كانت دراسة «سميث» للساميين تشمل عدة مجالات مثل اللاهوت والأدب والتاريخ، وقد أبدى فيها وعيَه الكامل بالعمل الذي أنجزه المستشرقون (انظر، على سبيل المثال، الهجوم الضاري الذي شنَّه سميث في عام ١٨٨٧م على كتاب رينان تاريخ شعب إسرائيل). والأهم من ذلك أن دراسته كانت تهدف إلى المساعدة في فهمِ الساميِّين المحدثين. وأعتقد أن «سميث» كان حلقةً أساسية من حلقات السلسلة الفكرية التي تربط «الخبير ذا البشرة البيضاء» بالشرق الحديث. ولم يكن من الممكن لولا «سميث» أن نجد بين أيدينا أيَّ لون من ألوان «الحكمة» الموجزة التي كان «لورنس وهوجارث وبِلْ» وغيرهم يقدِّمونها إلى العالم باعتبارها «خبرة شرقية». بل إن «سميث» نفسه، باعتباره باحثًا أثريًّا، لم يكن ليستطيع أن يتكلم بنصف ما كان يتكلم به من قوة مرجعية لو لم يستعِنْ «بالحقائق العربية» استعانةً مباشرة إلى جانب ما درسه من آثار الماضي. أي إن كتابته كانت تستمدُّ ثقلَها من الجمع بين «فهمه» للفئات البدائية وقدرته على إدراك الحقائق العامة التي تكمن خلف «الشوارد» العملية للسلوك الشرقي المعاصر. زِد على ذلك أن هذا الجمع الخاص كان يبشِّر بأسلوب الخبرة الذي بنَى عليه «لورنس وبِلْ وفيلبي» صيتَهم الذائع.
ولقد قام «سميث»، مثل «ريتشاد بيرتون وتشارلز دواتي» من قبله، برحلات في الحجاز ما بين عامَي ١٨٨٠ و١٨٨١م؛ إذ كانت الجزيرة العربية ولا تزال تشغل موقعًا متميزًا في عين المستشرق، ولم يكن السبب يقتصر على أن المسلمين يعتبرون أن الإسلام يمثِّل المناخ النفسي لذلك المكان، بل كان يتجاوز ذلك إلى مظهر الحجاز الذي يُوحي بالتخلف التاريخي المعادل للتخلف الجغرافي، وهكذا كان المستشرقون يعتبرون الصحراء العربية مكانًا يستطيعون به إصدار الأحكام على ماضيه بالشكل (والمضمون) اللذَين تتخذهما أحكامهم على حاضره. إذ تستطيع في الحجاز أن تتكلم عن المسلمين، وعن الإسلام الحديث، والإسلام البدائي دون أن تحرص على التمييز بين هذه الموضوعات. وقد تمكَّن «سميث» من أن يُضفيَ على هذه المفردات التي تفتقر إلى أيِّ أسس تاريخية قدرًا من المرجعية الإضافية، بفضل دراساته السامية. والصوت الذي نسمعه في تعليقاته يُنبِئ عن موقف باحث يُحكِم معرفته بكل ما سبق الإسلام والعرب وبلاد العرب؛ إذ يقول:
والضمير المتصل في «لنا» في الجملة الأخيرة، في هذه القطعة ذات المنطق العجيب، يحدِّد تحديدًا صريحًا موقعَ الرؤية عند الرجل الأبيض. وهذا يسمح «لنا» أن نقول في الجملة الأولى إن الحياة السياسية والاجتماعية كلها «تكتسي» ثوبًا دينيًّا (ومن ثَم يمكن وصف الإسلام بأنه نظام شمولي)، وأن نقول بعدها في الجملة الثانية إن الدين لا يعدو كونه قناعًا يستخدمه المسلمون (أي إن جميع المسلمين منافقون بصفة أساسية). وتزعم الجملة الثالثة أن الإسلام — وإن كان الإيمان به عميقًا في قلب العربي — لم «يُصلِح» حقًّا تلك النزعة المحافظة الأساسية والجاهلية عند العربي. وليس هذا كلَّ ما في الأمر، بل يمضي الكاتب قائلًا إن نجاح الإسلام دينًا يرجع إلى أنه تهاونَ فسمح لتلك العصبيات العربية «الأصيلة» بأن تدخله. ولا بد لنا أن نعزوَ هذه الخطوة التكتيكية (إذ يتضح من كلامه أنها كانت كذلك) إلى محمد نفسه، الذي كان على أية حال، في رأْي سميث، يسوعيًّا متخفِّيًا لا يعرف الرحمة. ولكن سميث يكاد يمحو كلَّ ما سبق قوله، تقريبًا، في الجملة الأخيرة التي يؤكد «لنا» فيها أن كلَّ ما قاله عن الإسلام غير صحيح، ما دامت جوانب الإسلام الأساسية التي يعرفها الغرب ليست «محمدية» على أية حال.
الواضح أن المستشرق غير ملتزم بمبادئ الهوية وعدم التناقض، إذ تسيطر عليه الخبرة الاستشراقية القائمة على الحقيقة الجماعية الدامغة التي تقع في نطاق الفهم الفلسفي والبلاغي لدى المستشرق، ويستطيع «سميث» أن يتكلم دون أدنى قلق عن «عادات العقل العربي، غير الدينية بطبعها … ذات الميول العلمية العقيمة»، وعن الإسلام باعتباره نظامًا يقوم على «النفاق المنظم»، وعن استحالة «الشعور بأيِّ احترامٍ لأسلوب العبادة عند المسلم، وهو الذي يتخذ منهجًا مختزلًا من الشكلية والتكرار الذي لا يُجدي». وضروبُ هجومِه على الإسلام لا تتسم بالنسبية؛ إذ يرى بوضوح أن تفوُّقَ أوروبا وتفوُّقَ المسيحية تفوُّقٌ فعليٌّ لا متخيَّل. وتتميز رؤية «سميث» للعالم بأنها رؤية ثنائية، على نحو ما يتبدَّى في أمثال الفقرة التالية:
نحن إذن «هذا» وهُم «ذلك». وأما أي عربي يقصده، وأي إسلام، ومتى وكيف، ووفقًا لأية اختبارات، فتلك فوارق لا تتصل فيما يبدو بالفحص الذي يقوم به «سميث» للحجاز والخبرات التي تعرَّض لها فيه. والمسألة الجوهرية هي أن كلَّ ما يستطيع المرء أن يعرفه أو يعلمه عن «الساميِّين» و«الشرقيِّين» يجد التأكيد الفوري له، لا في أضابير الأرشيف فحسب بل من الملاحظة الميدانية المباشرة.
وقد نشأت من هذا المشروع جدلية جديدة، فلم يَعُد المطلوب من الخبير الشرقي أن يقتصر على «الفهم» فحسب، بل كان ينبغي عليه أن يدفع الشرق إلى أداء دور ما، وينبغي عليه تجنيد قوته للعمل في صفوف ما لدينا «نحن» من قِيَم وحضارة ومصالح. وهكذا تتحول المعرفة بالشرق أو تُترجم ترجمة مباشرة إلى نشاط معين، تؤدي نتائجه أو تُنشئ تيارات جديدة في الفكر والعمل في الشرق. ولكن هذه النتائج بدورها تفرض على الرجل الأبيض تأكيدًا جديدًا للسيطرة، لا باعتباره هذه المرة مؤلفَ كتابٍ علمي عن الشرق بل باعتباره بانيًا من بُناة التاريخ المعاصر، ومن بناة الشرق باعتباره حالة واقعية عاجلة (لا يستطيع فهمها الفهم الكافي إلا الخبير؛ لأنه هو الذي بدأها). وهكذا تبرز شخصية المستشرق في تاريخ الشرق وتصبح جزءًا منه، بل يتعذَّر التمييز بينهما، ويصبح في عيون الغرب العلامةَ المميزة للشرق، والتي تتميز بوضوح أدق. وفيما يلي موجز لهذه الجدلية:
هذا هو الملخص الذي وضعه «لورنس» بنفسه للفصل الأول من كتابه: «أعمدة الحكمة السبعة»، وهو يتحدث فيه عن «معرفة» «بعض الإنجليز» من أصحاب حركة في الشرق أنجبت «شئونُها» ذريةً مختلطة، ومعنى ذلك أن سمات الغموض، والنتائج التي تجمع بين الحقيقة والخيال، وبين المحزن والمضحك، والتي نجمَت عن هذا الوضع الجديد للشرق الذي دبَّت فيه الحيوية، أصبحت موضوعًا يكتب فيه الخبراء، أو شكلًا جديدًا من «الخطاب» الاستشراقي الذي يقدِّم رؤية للشرق المعاصر، لا باعتبارها سردًا قصصيًّا بل باعتبارها جماع التعقيدات والإشكاليات والآمال المحطمة، وباعتبار أن صاحبها المستشرق الأبيض هو الذي تنبَّأ أو بشَّر بها وحدَّد معالمها أو تفاصيلها بوضوح.
ولقد سبق لنا أن صادفنا انتصار الرؤية على السرد القصصي في كتاب «إدوارد لين» عن المصريين المحدثين، وهو ما يصدق حتى على كتاب يتخذ صورة القصة الصريحة مثل «أعمدة الحكمة السبعة». والصراعُ بين النظرة الكلية إلى الشرق (على نحو ما يتبدَّى في الوصف والتسجيل الأثري) وبين السرد القصصي لأحداث وقعَت في الشرق؛ صراعٌ يجري على عدة مستويات ويتعلق بعدة قضايا مختلفة. ولمَّا كان هذا الصراع يتجدَّد كثيرًا في «خطاب» الاستشراق، فهو جدير بتحليل موجز في هذا السياق. فالمستشرق يستعرض الشرقَ من عَلٍ، وهدفه إدراك جميع تفاصيل الصورة التي تمتد وتتسع أمام عينَيه من الثقافة إلى الدين والذهن والتاريخ والمجتمع. وتحقيق ذلك يتطلب منه أن يرى جميع التفاصيل من خلال مجموعة الفئات «المختزلة» (مثل الساميِّين، والعقل العربي، والشرق، وهلمَّ جرًّا). ولما كانت هذه الفئات أساسًا فئات «تخطيطية» تتميز بالكفاءة، ولما كان من المفترض، تقريبًا، أننا لن نجد شرقيًّا يستطيع أن يعرف نفسه معرفة تُوازي معرفةَ المستشرق له، فإن أيَّ رؤية للشرق لا بد أن يعتمد تحقيقُ معناها واكتساب قوتها، آخر الأمر، على الشخص أو المؤسسة أو «الخطاب» الذي تنتمي إليه. وأية رؤية شاملة تتميز في جوهرها بأنها رؤية «محافظة»، ولقد شهدنا في غمار عرضنا لتاريخ الأفكار الخاصة بالشرق الأدنى في الغرب كيف حافظت هذه الأفكار على نفسها بغض النظر عن أي أدلة تنقضها (بل إننا نستطيع القول إن هذه الأفكار تأتي بالأدلة التي تُثبت صحتها).
ويعتبر المستشرق، أساسًا، أداةً من لون ما من أدوات هذه الرؤى الشاملة، وحالة «إدوارد لين» تمثِّل تمثيلًا صادقًا حالةَ كلِّ فرد يعتقد أنه يخصص مرتبةً ثانوية لأفكاره، أو حتى لما يشاهده، بحيث تسبقها مقتضيات رؤية «علمية» من نوع ما للظاهرة الكلية المعروفة في مجموعها باسم الشرق، أو الأمة الشرقية. وكل رؤية من هذه الرؤى إذن تتسم بالجمود، مثلما كانت الفئات العلمية التي يسترشد بها الاستشراق في القرن التاسع عشر جامدة ثابتة، ولم يكن المستشرق يتخطَّى حدود بعض المفاهيم مثل «الساميين» أو «العقل الشرقي»، فلقد كانت هذه محطات نهائية يجتمع فيها كلُّ ضرب من ضروب السلوك الشرقي في إطار النظرة العامة إلى المجال كله. وكان الاستشراق، باعتباره مبحثًا أو مهنةً أو لغة متخصصة أو ضربًا من «الخطاب»، يرهن وجوده باستمرار صورة الشرق الكلية؛ فلولا وجود هذا «الشرق» لامتنعَ وجود المعرفة المتسقة المفهومة والتفصيلية التي تسمَّى «الاستشراق». وهكذا فإن الشرق ينتمي للاستشراق، مثلما يُفترض عدم وجود أية معلومات تتصل بالشرق وتنتمي إليه في ذاته (أو تدور حوله).
أضِف إلى ذلك أن السرد القصصي هو الشكل المحدد الذي يتخذه التاريخ المكتوب لمعارضة فكرة الدوام الكامنة في «الرؤية». ولقد أحس «إدوارد لين» بأخطار السرد القصصي عندما رفض وضع نفسه وما يسجله من معلومات في شكل الخط المستقيم، وفضَّل على ذلك الشكلَ الهائلَ للرؤية الموسوعية أو المعجمية. فالسرد القصصي يؤكد قوة الإنسان وقدرته على أن يولد وينمو ويموت، ويؤكد ميل المؤسسات وحقائق الواقع القائمة إلى التغيير، ويُرجح أن مظاهر الحداثة والمعاصرة سوف تَحُلُّ في النهاية محلَّ الحضارات «الكلاسيكية»، وهو ما يؤكد قبل كلِّ شيء أن سيطرة «الرؤية» على حقائق الواقع لا تزيد على كونها تعبيرًا عن إرادة السلطة وعن إرادة الصدق والتفسير، لكنها لا تمثِّل أحوال التاريخ الموضوعية؛ أي إن السرد القصصي يقدِّم وجهةَ نظر أو منظورًا أو وعيًا معارضًا «لشبكة» «الرؤية» التي لا تسمح بالتعدد، وهو ينتهك الأوهام الرصينة المنتظمة التي تزعمها «الرؤية».
وترجع الإثارة الدرامية الكبيرة في عمل «لورنس» إلى أنه يرمز للكفاح أولًا من أجل حفز الشرق (الخامد الخالد الذي لا حول له) على الحركة؛ وللكفاح ثانيًا من أجل فرض شكل غربي في جوهره على تلك الحركة؛ والكفاح ثالثًا من أجل إدراج الشرق الجديد الذي أُوقظ من سُباتِه في رؤية شخصية، ذات نظرة إلى الماضي تتضمن إحساسًا عارمًا بالفشل والخيانة؛ إذ يقول:
وسواء كان هذا يمثِّل مقصدًا فحسب أو إنجازًا فعليًّا أو مشروعًا فاشلًا، فلقد كان من المُحال أن يقال دون التعبير في البداية عن منظور المستشرق الأبيض:
انظر إلى اليهودي في ملاهي مدينة برايتون الساحلية، وإلى البخيل، وإلى عابد جمال الغلمان، وإلى العاهر في بيوت الدعارة في دمشق، وسوف ترى أن هذه جميعًا دلائل على قدرة الساميين على التمتع، وتعبير عن العزم نفسه الذي قدم لنا ما يناقضه من إنكار الذات لدى الزهَّاد اليهود الأوائل، أو المسيحين الأوائل، أو أوائل خلفاء المسلمين الذين كانوا يرون أن أجمل الطرق المؤدية إلى الجنة مفتوحة أمام غير الطامحين. والساميُّ يتأرجح ما بين الشهوة وإنكار الذات.
وتؤيد «لورنس» في أمثال هذه الأقوال تقاليد «محترمة» تمتدُّ مثل شعاع المنار عبر القرن التاسع عشر كله، وفي المركز الذي ينبثق منه الضوء يوجد «الشرق»، بطبيعة الحال، وكانت قوة إضاءته كافية لإيضاح كلِّ ما يمر به من أماكن، الفظ الغليظ منها والمهذب الرقيق، فلنقل إن اليهودي، وعابد جمال الغلمان، والعاهر في دمشق، ليسوا دلائل على الإنسانية بل ينتمون إلى مجال دلالي أو سيميائي يسمَّى «السامية»، وهم يكتسبون هذه الدلالة من انتمائهم إلى الفرع «السامي» من الاستشراق، ولنا أن نرى في ذلك المجال أمورًا معينة:
من الممكن أن يتأرجح العرب إذا تعلقوا بفكرة ما كالمتأرجح من حبل يتدلَّى، فلقد أصبحوا خدَمًا مطيعين بفضل ولاء عقولهم غير المعلن، ولا يستطيع أحدهم أن يتحرر من ذلك القيد حتى يأتيَ النجاح ويجيءَ معه بالمسئولية والواجب والالتزام. وبعدها تختفي الفكرة وينتهي العمل بالخراب. ويمكن اصطحابهم، دون عقيدة إلى كل أطراف الأرض (لا إلى السماء) إذا اطلعوا على كنوز الأرض وملذاتها، لكنهم إذا قابلوا … في الطريق نبيًّا يدعو لفكرة ما، دون أن يكون له مكان يأوي إليه ولا طعام يأكله إلا الصدقات أو ما تُلقي به الطير إليه، فقد يتخلَّون عن ثروتهم كلها في سبيل وحيِه وإلهامه … كانوا يتَّسمون بالتقلب مثل الماء، وربما كُتبت لهم السيادة مثل الماء آخر الأمر. لقد دأبوا منذ فجر الحياة على الاندفاع في موجات متلاحقة على سواحل الجسد. ولقد تكسرت كل موجة … ولقد قمت بنفسي بإثارة إحدى هذه الموجات (ولم تكن أقلها شأنًا) وجعلتها تعلو حين هبَّت عليها ريحُ فكرة معينة، حتى وصلت إلى ذروتها ثم سقطت وانكسرت في دمشق. وسوف يتجمع الماء المنساب في أعقاب تلك الموجة، وهو الذي ارتد إلى البحر بسبب مقاومة المصالح المكتسبة، فيشكل مادة الموجة التالية عندما يحين الوقت لإثارة موج البحر من جديد.
ولا تكتسب الثورة العربية معناها إلا حين يتولَّى «لورنس» «تدبير» معنى لها، والمعنى الذي يُضفيه على آسيا، على هذا النحو، كان يتمثل في الانتصار؛ «في الإحساس بزيادة الأبعاد … ما دمنا نشعر بأننا قد تمثَّلنا آلام شخص آخر أو خبرته، أو قُل شخصيته». وهنا يصبح المستشرق الصوتَ الذي يمثِّل الشرقي وينوب عنه، بخلاف المراقبين «المشاركين» في حياة الشرق من قبله، مثل «إدوارد لين»، وهم الذين كانوا يحرصون على المسافة التي تفصلهم عن الشرق. ولكننا نجد عند «لورنس» صراعًا لا يقبل الحل بين الرجل الأبيض والرجل الشرقي، وهو الصراع الذي يعيد تقديم الصراع التاريخي بين الشرق والغرب على مسرح ذهنه وإن لم يُعرب عن ذلك بصراحة. إذ إن «لورنس» يدرك سلطانه على الشرق، ويدرك أيضًا مدى خداعه، لكنه على غير وعي بوجود أيِّ شيء في الشرق مما قد ينبهه إلى أن التاريخ ليس في النهاية سوى تاريخ، وأن العرب سوف يلتفتون آخر الأمر، حتى دون تدخله، إلى معركتهم مع الأتراك، ولذلك فهو يختزل قصة الثورة كلها (نجاحاتها المؤقتة وفشلها المرير) في رؤيته الشخصية لنفسه باعتباره رمزًا «لحرب أهلية دائمة» لم تُحسَم بعد:
لكننا كنَّا في الواقع قد حملنا لواء «النائب» من أجلنا نحن، أو على الأقل؛ لأنه كان يبشر بفائدة لنا، ولم نكن نستطيع الهرب من هذه المعرفة إلا بخداع النفس، من حيث المعنى ومن حيث الدافع معًا …
وقد أضاف «لورنس» إلى هذا الشعور الحميم بالهزيمة، فيما بعد، «نظرية» تتعلق «بالشيوخ» الذين سرقوا النصر منه، وعلى أية حال فإن «لورنس» لا يهمه إلا أنه استطاع، باعتباره خبيرًا أبيض ورث حصاد سنوات طويلة من الحكمة الأكاديمية والشعبية بشأن الشرق، أن يضع أسلوب «وجوده» في المرتبة الثانوية بعد أسلوبهم، وأن يتخذ بعد ذلك دور النبي الشرقي الذي يُشكِّل حركة ما في «آسيا الجديدة». وأما حين تفشل الحركة، مهما تكن الأسباب (فيتولَّى أمرَها آخرون، وتتعرض أهدافها للخيانة، ويثبت خطأ حلم الاستقلال الذي راودها) فلا أهمية إلا لما يشعر به «لورنس» نفسه من خيبة الأمل، وهكذا فإن موقف «لورنس» أبعد ما يكون عن موقف الرجل الذي تاه في زحام الأحداث السريعة المتلاحقة والمثيرة للبلبلة؛ إذ إنه يوازي نفسه موازاة كاملة بكفاح آسيا الجديدة في سبيل ميلادها.
وإذا كان «أيسخولوس» قد قدَّم آسيا في صورة القارة التي تندب خسائرها، وإذا كان نيرفال قد عبَّر عن إحساسه بخيبة الأمل حين زار الشرق فلم يجده باهرًا بالصورة التي أرادها؛ فإن «لورنس» يصبح هو نفسه القارة الباكية النادبة، والوعي الذاتي الذي يعبِّر عمَّا يكاد يكون إحساسًا كونيًّا أو عالميًّا بانقشاع الوهم. وفي نهاية المطاف أصبح «لورنس» وأصبحت رؤيته الرمز الصادق لمتاعب الشرق، دون أن يقتصر الفضل في ذلك على «لويل توماس وروبرت جريفز»، أي إن «لورنس»، باختصار، قد تحمَّل المسئولية عن الشرق بأن نثر خبرته «العلمية» في ثنايا نصِّه حتى يقرأ القارئُ التاريخَ من خلالها. والواقع أن ما يقدِّمه «لورنس» للقارئ ينحصر في سلطة الخبرة المباشرة، وهي القوة التي تمكِّنه من أن يصبح الشرق نفسه ولو لفترة موجزة. وهكذا نرى أن جميع الأحداث التي يُفترض أنها تنتمي إلى الثورة العربية قد اختُزلَت آخر الأمر فأصبحت تقتصر على ما عرفه «لورنس» عنها وأصبح يتحدث باسمها.
ومن ثَم فإن الأسلوب لا يقتصر في مثل هذه الحالة على قدرته على أن يرمز للتعميمات الهائلة، مثل آسيا أو الشرق أو العرب، بل إنه يعتبر شكلًا من أشكال «الإزاحة» و«الإدماج»؛ بمعنى أنه يجعل من صوت واحد تاريخًا كاملًا، ويقدم الصورة الوحيدة التي يمكن للغربي الأبيض، قارئًا كان أو كاتبًا، أن يعرفها للشرق. ومثلما وضع «رينان» خريطة الإمكانات المتاحة للساميين في الثقافة والفكر واللغة، وضع «لورنس» خريطة المكان والزمان المتاح لآسيا الحديثة (بل إنه يخصص ملكية كل جزء من أجزاء ذلك المكان). ويتمثل تأثير هذا الأسلوب في أنه يقرِّب آسيا من الغرب بصورة مغرية ولو للحظة قصيرة؛ إذ إن انطباعنا الأخير هو الإحساس بتلك المسافة الشاسعة التي لا تزال تفصلنا «نحن» عن الشرق الذي كُتب عليه أن يكتسيَ بطابعه الأجنبي، باعتباره طابعَ اغتراب وجفوة دائمة مع الغرب. وهذه هي النتيجة المخيِّبة للآمال، وهي التي تؤكدها النهاية التي وضعها «أ. م. فورستر» لروايته رحلة إلى الهند (وهي معاصرة لكتاب لورنس) حيث يحاول عزيز وفيلدنج المصالحة ويفشلان في تحقيقها:
قال الآخر وهو يُمسكه في وُدٍّ «ولماذا لا نصبح الآن أصدقاء؟ فهذا ما أريده وهذا ما تريده.»
إن هذا الأسلوب، وهذا التحديد الدقيق الموجز، هو ما سوف يصطدم الشرق دائمًا به.
وعلى الرغم مما يشوب هذا الأسلوب من تشاؤم فإن وراء عباراته رسالة سياسية إيجابية. وهي أن الغرب يستطيع — بما يتمتع به من معرفة وسلطة فائقتَين — أن يتحكم في الهوَّة التي تفصل الشرق عن الغرب، كما كان «كرومر وبلفور» يعرفان خير المعرفة. وأما رؤية «لورنس» فيستكملها في فرنسا الكتاب الذي كتبه «موريس باريه» بعنوان «البحث في بلدان الشام» وهو الذي يسجل فيه أحداث رحلة قام بها في الشرق الأدنى عام ١٩١٤م. وكان هذا «البحث»، مثل أعمال كثيرة سبقته يمثِّل تلخيصًا عامًّا؛ إذ لم يقتصر مؤلفه على «البحث» في مصادر وأصول الثقافة الغربية في الشرق، بل يكرر ما فعله «نيرفال وفلوبير ولامارتين» أثناء رحلاتهم في الشرق. ولكن رحلة «باريه» كان لها بُعدٌ سياسي إضافي؛ إذ إنه كان يسعى لإقامة البرهان وتقديم الحجج الدامغة على ضرورة اضطلاع فرنسا بدور بنَّاء في الشرق. ومع ذلك فإن الفرق بين الخبرة الفرنسية والخبرة البريطانية يظل قائمًا؛ فالأولى تنجح في إقامة روابط فعلية بين الشعوب والأراضي، والثانية تعالج مجالًا من مجالات القدرة الروحية. ويرى «باريه» أن أفضل ما يدل على الوجود الفرنسي هو المدارس الفرنسية، وهو يقول عن إحدى تلك المدارس التي أنشئت في الإسكندرية: «مما يخلب اللب أن نشهد ترحيب الفتيات الصغيرات ومحاكاتهن الرائعة [في الفرنسية التي يتكلمنها] لأخيلة وإيقاعات منطقة إيل دي فرانس»، ويقصد بها المنطقة المحيطة بباريس. فإذا لم يكن لفرنسا في الواقع أية مستعمرات هناك فليست محرومة من بعض «الممتلكات»:
إننا نجد هناك في الشرق شعورًا تجاه فرنسا بلغ من قوته وروحانيته أن استطاع استيعاب جميع مطامحنا البالغة التنوع والتوفيق بينها. إننا نمثل في الشرق الروحانية والعدالة ومرتبة المثالية. إن إنجلترا تتمتع بالسلطة هناك، وألمانيا ذات قوة جبارة، ولكننا «نمتلك» النفوس الشرقية.
وهذا الطبيب الأوروبي الذائع الصيت يردِّد مع «جوريه»، بنبرة عالية، ما يقترحه من «تطعيم» آسيا و«تحصينها» ضد أمراضها الخاصة بها، ومن إضفاء الطابع الغربي على الشرقيِّين، وإقامة صلات «صحية» بينهم وبين فرنسا. ولكن رؤية «باريه»، حتى في هذه «المشروعات»، لا تزال تحتفظ بالنص على الفوارق نفسها بين الشرق والغرب، وهي التي يزعم أنه يخفف من حدتها:
وإذا كنت قد ركزت كثيرًا في هذا القسم على العملاء الإمبرياليِّين وراسمي السياسات بدلًا من الباحثين الأكاديميِّين، فالسبب هو رغبتي في تأكيد التحوُّل الكبير في مسار الاستشراق، ومسار المعرفة بالشرق والتعامل معه، من مرحلة الدراسة الأكاديمية إلى مرحلة الاستعانة به كأداة في الواقع العملي. فلقد صاحب هذا التحول تغيُّر في الموقف وفي المستشرق الفرد ذاته؛ إذ لم يَعُد يحتاج إلى الإحساس بأنه ينتمي — مثل «لين وساسي ورينان وكوسان ومولر» وغيرهم — إلى جماعة مهنية ذات تقاليد داخلية وشعائر خاصة، بل أصبح المستشرق الآن رجلًا يمثِّل ثقافته الغربية، وهو رجل يجمع في أطواء عمله ثنائية كبرى، في صورة مضغوطة، وكان عمله نفسه (مهما يكن شكله المحدد) تعبيرًا رمزيًّا عن هذه الثنائية: ألَا وهي سيطرة الوعي والمعرفة والعلوم الغربية على أقصى أقاصي الشرق، وكذلك على أدق خصوصيات الشرق المفردة. وكان المستشرق يرى صوريًّا أنه يحقق الوحدة بين الشرق والغرب، وإن كان ذلك يتوسل أساسًا بإعادة تأكيد التفوق التكنولوجي والسياسي والثقافي للغرب، وهكذا يتعرض التاريخ، في مثل هذه الوحدة، إلى ما يُضعفه ضعفًا شديدًا إن لم يؤدِّ إلى إلغائه. فإذا نظرنا إلى التاريخ الإنساني باعتباره تيارًا من التطور، أو خيطًا قصصيًّا، أو قوة دينامية تتجلَّى بانتظام وفي صور مادية في الزمان والمكان؛ وجدنا أن هذه النظرة الاستشراقية تضع التاريخ الإنساني للشرق أو الغرب في مرتبة ثانوية بالنسبة للتصور المثالي للشرق والغرب، أي تصور وجود جوهر ثابت لكلٍّ منهما. وإحساس المستشرق بأنه يقف على حافة الأخدود الذي يفصل بين الشرق والغرب يجعله لا يقتصر على الحديث بلغة التعميمات الفضفاضة، بل إنه يحاول أيضًا تحويلَ كلِّ جانب من جوانب الحياة الشرقية أو الحياة الغربية إلى سمة مباشرة من سمات هذا النصف الجغرافي أو ذاك.
والتناوب بين «الذات الخبيرة» في كتابات المستشرق والشهادة التي يُدلي بها — وهو الذي يبين أن تلك الذات تمثل الغرب — يتخذ بوضوح شديد صورًا بصرية. وفيما يلي فقرة تمثِّل ذلك خيرَ تمثيل (ويستشهد بها جيب) من الكتاب المهم الذي وضعه «دنكان ماكدونالد» بعنوان: «الموقف الديني والحياة في الإسلام» (١٩٠٩م):
والفعل «الحاكم» في هذه الفقرة هو «يُظهر»، وهو الذي نفهم منه هنا أن العرب يعرضون أنفسهم (طواعيةً أو كرهًا) على الخبير الذي يتولى الفحص. وعدد الصفات المنسوبة إليهم — وهي التي تزدحم فيها كلمات تكرر معاني بعضها البعض — تجعل «العرب» يكتسبون لونًا من انعدام الوزن الوجودي، وهكذا تُعيد الفقرة ضمَّ «العرب» إلى فئة «البدائي الطفولي»، وهي فئة بالغة الاتساع، ويشيع ورودُها في الفكر الاستشراقي الحديث. و«ماكدونالد» يُوحي ضمنًا كذلك بأن المستشرق الغربي يتمتع بموقع متميز بشكل خاص يستطيع منه إيراد أمثال هذه الأوصاف، فما الوظيفة التي «يمثلها» المستشرق الغربي إلا إظهار ما ينبغي مشاهدته. وهكذا يصبح من الممكن الإطلال على كلِّ حدثٍ معين من أحداث التاريخ عند الذروة، أو قُل عند الحدود الحساسة للشرق والغرب معًا، وتنعدم أهمية القوى المعقدة التي تحرك الحياة البشرية — وهي التي دأبتُ على اعتبارها الصورة القصصية للتاريخ — أو تغدو تافهةً إذا قورنت بالرؤية «الدائرية» التي تقتصر فيها قيمةُ تفاصيل الحياة الشرقية على إعادة تأكيد الطابع الغربي للمراقب والطابع الشرقي لمن ولما يخضع للمراقبة.
وإذا ذكَّرَتنا هذه الرؤية، من بعض وجوهها، برؤية «دانتي»، فلا يجب بأي حال من الأحوال أن نُغفل الفرق الهائل بين هذه الصورة للشرق، والصورة التي رسمها «دانتي». فالمقصود أن تكون الأدلة القائمة هنا علمية (وربما كانت تعتبر علمية)؛ وترجع أصالتها، من زاوية النسب والسُّلالة، إلى انتمائها إلى العلوم الفكرية والإنسانية الأوروبية في القرن التاسع عشر؛ أضِف إلى ذلك أن الشرق ليس أعجوبةً وحسب، أو عدوًّا، أو فرعًا من فروع الغرائب، بل إنه واقعٌ فعليٌّ سياسيٌّ يتميز بثقل وزنه وأهميته الكبرى. ولا يستطيع «ماكدونالد»، شأنه في ذلك شأن «لورنس»، أن يفصل بين الخصائص التي تمثِّله باعتباره عربيًّا وبين دوره باعتباره عالمًا باحثًا. وهكذا فإن رؤيته للإسلام، مثل رؤية «لورنس» للعرب، تمزج بين تعريف الشيء أو الشخص الموصوف وهوية الشخص الذي يتولى التعريف والوصف. أي إنه لا بد من تطويع صورة جميع الشرقيين العرب حتى تتفق مع رؤية النمط الشرقي أو صورته التي رسمها الباحث الغربي، وكذلك مع التلاقي المحدد مع الشرق الذي يعيد الغربي فيه تفهم جوهر الشرق تفهمًا ناجمًا عن إحساسه بالجفوة الشديدة بينهما، وهذا هو الإحساس الذي يجعل «لورنس»، مثل «فورستر»، يشعر بالقنوط وكذلك بالفشل على المستوى الشخصي. وأما بالنسبة لبعض الباحثين من أمثال «ماكدونالد»، فهو يدعم «الخطاب» الاستشراقي نفسه.
كما أنه يعمل على نشر ذلك «الخطاب» في عالم الثقافة والسياسة والواقع. ففي فترة ما بين الحربين العالميَّتين، كانت قضية العلاقات بين الشرق والغرب تتسم بالشيوع على نطاق واسع وبالقلق الذي يشوبها، وهو ما يَسهُل علينا أن نخرج به من نصوص كاتب روائي مثل «مالرو». كانت دلائل المطالب الشرقية بالاستقلال السياسي ترى في كل مكان؛ ولا شك أن الحلفاء كانوا يشجعونها في أقاليم الدولة العثمانية الممزقة، وسرعان ما أصبحت هذه المطالب تمثِّل مشكلة، على نحو ما نرى بوضوح وجلاء في حالة الثورة العربية وما تلاها؛ إذ ظهر الشرق الآن في صورة القوة التي تُشكل تحدِّيًا لا للغرب بصفة عامة فقط بل أيضًا لروح الغرب والمعرفة الغربية وسلطة الغرب المهيمنة. وهكذا فبعد قرن من التدخل في الشرق (ودراسته) بدَا أن دور الغرب في الشرق قد أصبح يتسم بدقة وحساسية أكبر، بعد أن بدأ الشرق نفسه يتصدَّى لأزمات الحداثة. كان الغرب يواجه قضية الاحتلال المباشر، وقضية الأقاليم الخاضعة للانتداب، وقضية المنافسة الأوروبية في الشرق، وقضية التعامل مع «النُّخَب» المحلية، والحركات الشعبية المحلية، والمطالب القومية بالحكم الذاتي والاستقلال، وقضية الصلات الحضارية بين الشرق والغرب، وهي القضايا التي فرضَت إعادة النظر في المعرفة الغربية بالشرق. وها نحن نرى شخصية مهيبة مثل «سيلفان ليفي» رئيس الجمعية الآسيوية الفرنسية من عام ١٩٢٨ إلى ١٩٣٥م، وأستاذ اللغة السنسكريتية في كوليج دي فرانس، يطرح أفكاره الجادة بشأن ضرورة التعجيل بالتصدي للمشكلة القائمة بين الشرق والغرب؛ إذ قال في عام ١٩٢٥م:
يفرض الواجب علينا أن نفهم الحضارة الشرقية. ونواجه نحن الفرنسيِّين بصفة خاصة [وإن كان من الممكن للإنجليز أن يقولوا ما يقول ليفي فالمشكلة كانت أوروبية] مشكلة إنسانية تتمثل على المستوى الفكري في بذل جهد متعاطف وذكي لتفهُّم الحضارات الأجنبية في الصور التي اتخذتها في الماضي وتتخذها في المستقبل، بأسلوب عملي فيما يتعلق بمستعمراتنا الآسيوية العظيمة …
لقد ورثت تلك الشعوب تقاليد مديدة في التاريخ وفي الفن وفي الدين، ولم تفقد الإحساس بها فقدانًا تامًّا ومن المحتمل أنها تحرص على إطالة أمدها. وحَمَلْنا نحن مسئولية التدخل في تطورها، وكان ذلك أحيانًا دون استشارتها، وأحيانًا استجابة لطلبها … ونحن نزعم، أصبنا في ذلك أم أخطأنا، أننا نمثِّل حضارة متفوقة، واكتسبنا بهذا التفوق حقًّا نؤكده بصورة منتظمة، بل بدرجة من التوكيد تجعله يبدو غيرَ قابل للطعن من وجهة نظر الأهالي، واستنادًا إلى هذا «الحق» عمدنا نحن إلى الطعن في جميع تقاليدهم الوطنية …
وهكذا، وبصفة عامة، كان الأوروبي حيثما يتدخل يدفع ابن البلد إلى أن ينظر إلى ذاته بلونٍ من اليأس العام الذي يُثير الأسى في الواقع؛ لأنه كان يشعر بأن جماع أحواله قد ساءت بدلًا من أن تتحسن، في المجال المعنوي أكثر منها في المجال المادي الصرف. وقد أدَّى ذلك كله إلى أن أصبحت أسس حياته الاجتماعية تبدو هشةً وتنهار تحته وإلى أن أصبحت الأعمدة التي كان يريد أن يُعيد بناء حياته على أسسها تبدو هزيلةً كأنها من الورق المقوَّى المزخرف.
وقد تُرجم هذا الإحساس بخيبة الأمل إلى حقد وضغينة من أقصى الشرق إلى أقصاه، كما يقترب هذا الحقد الآن اقترابًا شديدًا من التحول إلى كراهية، ولا تنتظر الكراهية إلا اللحظة المناسبة حتى تتحول إلى عمل مادي. أما إذا أدَّى الكسل أو سوء الفهم بأوروبا إلى التقاعس عن بذل الجهد الذي تتطلبه مصالحها وحدها، فلسوف تقترب الدراما الآسيوية من نقطة الأزمة.
إن ليفي لا يواجه مشكلة في ربط الاستشراق بالسياسة، فمن المحال إنكار التدخل الغربي الطويل، أو الذي أُطيل أمده، في الشرق، سواء من حيث عواقبه بالنسبة للمعرفة أو من حيث تأثيره في ابن البلد سيِّئ الحظ؛ فالجانبان قد يؤديان مجتمعَين إلى مستقبل يتهدد أهله. وعلى الرغم مما يعبر عنه ليفي من نزعة إنسانية وما يُبديه من حرص على غيره من البشر، فإنه يرسم في ذهنه صورة للحاضر تتميز بضيق وتحديد بغيض، فهو يتصور أن الشرقي يشعر بأن عالمه يتعرض للتهديد من جانب حضارة فائقة، ولكن دوافعه لا تصدر عن رغبة إيجابية في الحرية أو الاستقلال السياسي أو الإنجاز الثقافي من حيث هي غايات مطلوبة في ذاتها، بل تصدر عن حقد أو عن ضغينة الحسود. والعلاج الشامل الذي يقدمه لما آلَت إليه الأحوال من سوء وقبح هو تسويق الشرق للمستهلك الغربي، وعرضه عليه مثلما تُعرض عليه بضائع عديدة تدعوه إلى الالتفات إليها. وهكذا تستطيع بخطوة واحدة أن تنتزع فتيل الاشتعال من الشرق (بجعله يظن نفسه كمية «مساوية» لغيرها في السوق الغربية للأفكار) وأن تزيل المخاوف الغربية من ارتفاع أمواج المد الشرقي. وجوهر الأمر، بطبيعة الحال، أو حجة «ليفي» الرئيسية — التي تعتبر اعترافًا بالغ الدلالة — تقول إن علينا أن نتخذ إجراءً ما بصدد الشرق وإلَّا «فلسوف تقترب الدراما الآسيوية من نقطة الأزمة».
إن آسيا تعاني، ولكنها في معاناتها تُهدد أوروبا؛ فالحدود المشحونة بالأخطار بين الشرق والغرب لا تزال قائمة، ولم تكد تتغير على الإطلاق منذ العصور الكلاسيكية الموغلة في القِدَم، وما يقوله «ليفي» — باعتباره أعظم المستشرقين المحدثين شأنًا — يجد أصداء له، وإن تكن أقلَّ دهاء، عند دعاة المذهب الإنساني الثقافي. ففي عام ١٩٢٥م أجرت مجلة دورية فرنسية تسمَّى «ليه كاييه دي موا» استقصاءً لآراء بعض كبار المفكرين، وكان من بين الكُتَّاب الذين أجابوا عن أسئلتها بعض المستشرقين (مثل ليفي، وإميل سينار) إلى جانب بعض الأدباء، مثل «أندريه جيد، وبول فاليري، وإدموند جالو». وكانت الأسئلة تدور حول العلاقات بين الشرق والغرب بالصورة التي تناسب اللحظة التي طُرحت فيها، إن لم تتصف كذلك بالاستفزاز الصفيق، وهذا يدلُّنا في ذاته على ما كانت عليه البيئة الثقافية آنذاك. ولسوف نُدرك على الفور أن الأفكار التي كانت الدراسات الاستشراقية تطرحها قد بلغت الآن مستوى الحقائق المقبولة؛ إذ كان أحد الأسئلة يستفسر عمَّا إذا كان من المحال على الشرق والغرب أن يخترق أحدهما الآخر أم لا (وكانت هذه الفكرة قد طرحها ميترلنك، الكاتب البلجيكي)، ويستفسر سؤال آخر عمَّا إذا كان النفوذ أو التأثير الشرقي يمثِّل «خطرًا داهمًا» — وهذا تعبير «هنري ماسي» — على الفكر الفرنسي؛ ويسأل ثالث عن تلك القيم في الثقافة الغربية التي يمكن أن يُعزى إليها تفوق هذه الثقافة على الشرق. ويبدو لي أن إجابة الشاعر الفرنسي «فاليري» جديرة باقتطاف جزء منها، بسبب الطابع المباشر لأسس حجته، وشيوع هذه الحجة و«احترامها»، على الأقل في مطلع القرن العشرين:
لا أعتقد أننا ينبغي أن نخشى كثيرًا، من وجهة النظر الثقافية، ذلك التأثير الشرقي الآن. فنحن لا نجهله. ونحن ندين للشرق بجميع بدايات فنوننا وبشطرٍ كبيرٍ من معارفنا. بل إنَّ لنا حقًّا أن نرحِّب بما يخرج الآن من الشرق، إن كان سيخرج منه أيُّ جديد، وهو ما أشك كثيرًا في حدوثه. وهذا الشك يمثِّل على وجه الدقة الضمانَ لنا وسلاحَنا الأوروبي.
وإذن فإن آسيا كانت تمثِّل احتمالًا بغيضًا لانفجار مفاجئ قد يدمِّر عالمنا «نحن» على نحو ما قاله «جون بوكان» في عام ١٩٢٢م:
وإلى جانب ما كان يقدمه صغار الكُتَّاب (من أمثال بيير لوتي ومارماديوك بيكتول وأضرابهما) إلى القارئ الأوروبي من شخصيات جذابة المظهر في قصصهم الحافلة بالغرائب، كانت صورة غير الأوروبي المعروفة للأوروبيِّين ينطبق عليها ما يقوله «أورويل» عنهم انطباقًا كاملًا، فقد كانت إما صورةً يُتفكَّه بها، أو صورةَ ذرَّةٍ في خضمِّ مادة جماعية شاسعة، يشار إليها في أحاديث العامة أو المتخصصين باسم الشرقي أو الأفريقي أو الأصفر أو الأسمر أو المسلم. وقد بثَّ الاستشراق في هذه التجريدات قوة التعميم، فأحال النماذج الحضارية الفردية إلى رموز «مثالية» لقِيَمه وأفكاره ومواقفه، وهي التي كان المستشرقون قد وجدوها في «الشرق» وحوَّلوها إلى «عُمْلة» ثقافية شائعة التداول.
ولما كانت هذه الأقوال المألوفة (فهي تمثِّل حقًّا أفكارًا مقبولة شائعة) صادرةً من أعماق الثقافة الأوروبية، ولما كان قائلوها كُتَّابًا يعتقدون أنهم يتحدَّثون باسم تلك الثقافة، فإننا لا نستطيع تفسيرها بأنها مجردُ أمثلة للتعصب القومي المحلي؛ إذ إنها ليست كذلك، بل وتعتبر مفارقات لعدم كونها كذلك، على نحو ما يتضح لكلِّ مَن يحيط بأيِّ قدر من الكتابات الأخرى لهذين الكاتبَين. وأما خلفية هذه الأقوال فنجدها في التحول الذي طرأ على الاستشراق الذي كان علمًا مهنيًّا دقيقًا يقوم بوظيفة محددة في ثقافة القرن التاسع عشر، ألَا وهي مساعدة أوروبا على استعادة الشطر الذي فقدَته من البشرية، ثم أصبح في القرن العشرين أداةً من الأدوات السياسية، بل وما هو أهم، أي إنه اكتسب وظيفةَ الشفرة التي تستطيع أوروبا بها أن تفهم ذاتها وأن تفهم الشرق معًا. وكان الاستشراق الحديث — للأسباب التي سبقَت مناقشتها في هذا الكتاب — يحمل في ثناياه طابعَ الخوف الكبير من الإسلام، وقد أدَّت التحديات السياسية في سنوات ما بين الحربين إلى تفاقم هذا الخوف. وما أرمي إليه هو أن التحول الذي يُشبه المسخ، الذي أصاب فرع التخصص العلمي، البريء نسبيًّا، في فقه اللغة؛ قد جعل منه طاقةً على تدبير حركات سياسية، وإدارة المستعمرات، وإصدار مقولات تكاد تتسم بطابع الرؤى الغيبية بشأن صعوبة المهمة الحضارية الموكولة إلى الرجل الأبيض، والملاحظ أن ذلك كله يدور في إطار ثقافة تزعم أنها ليبرالية، وتُبدي اهتمامًا بالغًا وحرصًا شديدًا على ما تتباهَى به من معايير التعددية والتسامح والقدرة على قبول الاختلاف. وأما ما حدث في الواقع فكان النقيض الكامل لليبيرالية؛ إذ تحجر المذهب والمعنى اللذان أضفاهما «العلم» على «الحقيقة». فإذا كان مثل هذه «الحقيقة» تحتفظ لنفسها بالحق في الحكم على الشرق بأن يظلَّ شرقيًّا بالصور التي أشرتُ إليها، فلن تزيد الليبرالية عن كونها شكلًا من أشكال القمع والتحفيز الذهني.
وكان من النادر — ولا يزال نادرًا — أن يُدركَ أو يُقِرَّ أحدٌ من أبناء الثقافة الغربية بمدى ضيق الأفق المذكور؛ وذلك للأسباب التي يحاول هذا الكتاب استكشافها. ومع ذلك فإنه لممَّا يدعو للتفاؤل أن أمثال هذا الضيق في الأفق قد وجد أحيانًا مَن يطعن فيه. وهاك مثالًا من التصدير الذي كتبه «أ. أ. ريتشاردز» لكتابه: «حديث منشيوس عن العقل» (١٩٣٢م) ولنا أن نستبدل كلمة «الشرقي» بكلمة «الصيني» بيسرٍ وسهولة في الفقرة التالية:
والحجة التي يسوقها «ريتشارد» تُطالب بممارسة ما يسميه «التعريف المتعدد»، وهو ضربٌ أصيل من التعددية، بريء من ميل نُظُم التعريف إلى مقاومة بعضها البعض. وسواء قَبِلنا أو لم نقبل هذا الرد على النزعة الإقليمية عند «جلسون»، فنحن نستطيع قبول القول إن المذهب الإنساني الليبرالي — الذي كان الاستشراق يمثِّل تاريخيًّا قسمًا من أقسامه — يعمل على تأخير خطوات توسيع المعنى، أو المعنى الموسع الذي يُمكِّننا من الفهم الحقيقي. وأما ما حلَّ محلَّ هذا المعنى الموسع في الاستشراق في القرن العشرين — وأقصد في المجال التقني تحديدًا — فهو الموضوع الذي سوف نعرض له الآن.