ثالثًا: الاستشراق الأنجلوفرنسي الحديث في أوج ازدهاره

لمَّا كنَّا قد اعتدنا اعتبار الخبير المعاصر في فرع من فروع دراسة الشرق أو في جانب من جوانب حياته متخصِّصًا في «دراسات المناطق»، فقد فقدنا إدراكنا «النابض» للنظرة السالفة إلى المستشرق، وهي النظرة التي استمرت حتى الحرب العالمية الثانية تقريبًا، والتي كانت تعتبره ذا قدرة على التعميم (إلى جانب ما يحيط به من معارف نوعية، بطبيعة الحال)، وترى أنه يتمتع بمهارات بلغَت ذروة نموها تمكِّنه من الإدلاء بأقوال «إجمالية» أو تلخيصية، وأعني بها أنه عندما يقوم بصياغة فكرة بسيطة نسبيًّا، ولنَقُل عن النحو العربي أو الدين الهندي، يقول كلامًا يُفْهم منه (ويَفْهم هو منه) أنه يقول عن الشرق ككل، بحيث تلخصه تلخيصًا. وهكذا فإنَّ كلَّ دراسة مفردة عن «قطعة» من المادة الشرقية تؤدي إلى تأكيد عمق الطابع الشرقي لهذه المادة بصورة موجزة. ولمَّا كان الاعتقاد الشائع هو أن عناصر الشرق كلها يرتبط بعضها بالبعض بصورة عضوية عميقة؛ أصبح من المنطقي تمامًا، من الزاوية التفسيرية، أن ينتهيَ المستشرق من بحثه إلى أن الأدلة المادية التي يعالجها تؤدي في نهاية المطاف إلى تفهُّم أفضل لبعض الظواهر مثل الشخصية الشرقية، أو العقل الشرقي، أو أخلاق الشرق وعاداته أو روح عالمه.

ولقد شُغِلتُ في معظم الفصلين الأولين من هذا الكتاب بتقديم حجج مماثلة بشأن الفترات التي سبقت هذه الفترة في تاريخ الفكر الاستشراقي. وأما التمييز الذي يهمُّنا هنا (ويجب أن نقوم به) في هذه الفترة الأخيرة من تاريخ هذا الفكر فهو التمييز بين الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى مباشرة، والفترة التي تلَتها مباشرة. وفي كلتا الحالتين، شأنهما شأن الفترات الأسبق، كان الشرق يوصف بأنه شرقي وحسب، مهما يكن الموضوع المحدد المطروح، ومهما يكن الأسلوب أو فن الصنعة المستخدم في وصفه، ولكن الفترتين المشار إليهما تختلفان في السبب الذي يقدِّمه المستشرق لرؤية الطابع الشرقي الجوهري للشرق. وسوف نجد مثالًا طيبًا لهذا السبب في الفقرة التالية التي كتبها «سنوك هيرجرويني»، في المراجعة التي كتبها عام ١٨٩٩م لكتاب الكاتب «إدوارد ساخاو» بعنوان: «القانون المحمدي»، ويقول فيه:

… على الرغم من أن القانون قد اضطر في الواقع العملي إلى تقديم تنازلات متزايدة لأعراف الشعب وعاداته، وتعسُّف حكامه، فإنه استمر يمارس تأثيره الكبير في الحياة الفكرية للمسلمين. ولذلك فهو لا يزال، حتى بالنسبة إلينا الآن، موضوعَ دراسة مهمًّا، ليس فقط للأسباب التجريدية المتصلة بتاريخ القانون والحضارة والدين، بل أيضًا لما لَه من أغراض عملية. فكلما ازداد توثُّق العلاقات بين أوروبا والشرق الإسلامي، وازداد عددُ البلدان الإسلامية الخاضعة للسيادة الأوروبية؛ ازدادَت أهميةُ إحاطتنا نحن الأوروبيِّين بالحياة الفكرية للإسلام، والقانون الديني، والخلفية النظرية للإسلام.1

أي إن هيرجرويني يسمح لمفهوم تجريدي مثل «القانون الإسلامي» بأن يستسلم أحيانًا لضغوط التاريخ والمجتمع، ولكنه رغم ذلك أقرب إلى الاهتمام بالإبقاء على ذلك التجريد لفائدته الفكرية؛ لأن «القانون الإسلامي»، بخطوطه العريضة، يؤكد التفاوت ما بين الشرق والغرب. لم يكن التمييز بين الشرق والغرب عند «هيروجرويني» مجردَ قالب لفظي أكاديمي أو شعبي، بل على العكس؛ إذ كان يعني له علاقة القوة الجوهرية والتاريخية بين الجانبين، والمعرفة بالشرق قد تُثبت أو تزيد أو تُعمِّق «الفرق» الذي مكَّن السيطرة الأوروبية (وهذه العبارة تنحدر من أصول عريقة في القرن التاسع عشر) من أن تمتدَّ امتدادًا فعالًا في آسيا. وإذن فإن معرفة الشرق بصفة عامة معرفة تقوم على «التكليف» بالحفاظ على الشرق، إن كان صاحب الشأن غربيًّا.

ونجد فقرة مناظرة تقريبًا لما يقوله «هيرجرويني»، وهي الفقرة الختامية في مقال «جيب» عن «الأدب» في كتابه: «تركة الإسلام» المنشور عام ١٩٣١م؛ إذ إنه — وبعد أن يَصِف ثلاثة لقاءات عارضة بين الشرق والغرب حتى القرن الثامن عشر — يَصِل في حديثه إلى القرن التاسع عشر قائلًا:

وبعد هذه اللحظات الثلاث من التلاقي العارض، عاد الرومانسيون الألمان إلى الاهتمام بالشرق من جديد، وكان الهدف الذي قصدوا إلى تحقيقه لأول مرة أن يفتحوا الطريق أمام التراث الحقيقي للشعر الشرقي حتى يدخل شعر أوروبا. ولكن الشعور الجديد بالقوة والسيطرة في القرن التاسع عشر كان، فيما يبدو، يُغلق الباب في وجه مطلبهم إغلاقًا حاسمًا. وأما اليوم فتبدو لنا بعض دلائل التغيير. إذ بدأت من جديد دراسة الأدب الشرقي في ذاته ومن أجله، وبدأنا نفهم الشرق فهمًا جديدًا. وبانتشار هذه المعرفة واستعادة الشرق للمكانة الحقيقة به في حياة الإنسانية، فربما عاد الأدب الشرقي إلى أداء وظيفته التاريخية، ومساعدتنا في التحرر من المفاهيم الضيقة الخانقة التي من شأنها قصرُ كلِّ ما هو مهم في الأدب والفكر والتاريخ على المساحة التي نشغلها على الكرة الأرضية.2

وعبارة «جيب» «في ذاته ومن أجله» تتناقض تناقضًا صارخًا مع حلقات الأسباب التي يعتبرها «هيرجرويني» ثانويةً بالقياس إلى ما يُعلنه من السيطرة الأوروبية على الشرق. ومع ذلك، فإنه يحافظ على تلك الهوية الشاملة، والتي يبدو أن المساس بها محرم، لشيء يسمَّى «الشرق» وشيء آخر يسمَّى «الغرب». وهذان الكيانان يفيدان بعضهما البعض، والواضح أن مقصد «جيب» وهو مقصد حميد، يتمثل في أنه لا يوجد ما يدعو إلى اعتبار تأثير الأدب الشرقي في الأدب الغربي (من زاوية ثماره) من باب ما أطلق عليه «برونتيير» تعبيرَ «الفضيحة القومية». فهو يقول إن الأحرى بنا أن نُواجه الشرق، باعتبار ذلك ضربًا من التحدي الإنساني للحدود المحلية للمركزية العرقية الغربية.

وعلى الرغم من استدعاء «جيب»، قبل ذلك، لفكرة الشاعر الألماني «جيته» عن «الأدب العالمي»، فإن دعوة «جيب» إلى التفاعل الحيوي، على المستوى الإنساني، بين الشرق والغرب، يتجلَّى فيها تغيُّر حقائق الواقع السياسي والثقافي في فترة ما بعد الحرب. كانت السيطرة الأوروبية على الشرق لا تزال قائمة، ولكنها تطورت، وأقصد في مصر تحت الاحتلال البريطاني؛ فبعد أن كان الأهالي يكادون يَقْبلون وجودها دون معارضة، أصبحت قضيةً سياسية يشتدُّ الخلاف حولها يومًا بعد يوم، وتزيد من تعقيدها مطالب الاستقلال الوطنية المناوئة لتلك السيطرة، فلقد كابدت بريطانيا سنوات الكفاح الذي قاده «سعد زغلول» وحزب الوفد وما إلى ذلك بسبيل.3 أضِف إلى ذلك ما شهده العالم منذ عام ١٩٢٥م من كساد اقتصادي عام، وهو الذي أدَّى إلى زيادة التوتر الذي يتجلَّى في نثر «جيب». ولكن أشد جوانب ما يقوله «جيب» إقناعًا؛ يتمثل في الرسالة الثقافية الخاصة التي يُرسلها؛ إذ يبدو أنه يقول لقارئه: انتبه إلى الشرق، من أجل فائدته للعقل الغربي في نضاله في سبيل قهر ضيق الأفق، والتخصص الخانق، والمنظورات المحدودة.

لقد اختلفت الأسس التي ينطلق منها «جيب» اختلافًا كبيرًا عن الأسس التي كان ينطلق «هيرجرويني» منها، مثلما اختلفَت أولوياتهما؛ إذ لم يَعُد من الممكن لأحد أن يقبل، دون جدل شديد، القول بأن سيطرة أوروبا على الشرق تكاد تكون من حقائق الطبيعة، بل ولم يَعُد أحدٌ يفترض أن الشرق كان في حاجة إلى التنوير الغربي: كانت القضية المهمة في سنوات ما بين الحربين؛ قضيةَ وضعِ تعريف ثقافي للذات يتجاوز النظرة الإقليمية وكراهية الأجانب. فكان «جيب» يرى أن الغرب يحتاج إلى الشرق باعتباره موضوعًا يُدرس؛ لأنه يُحرِّر الروح من قيود التخصص العقيم، ويُخفِّف من آلام التطرف في الأنانية الضيقة النظرة وفي الوطنية، ويزيد من إدراك المرء للقضايا الأساسية الحقيقية في دراسة الثقافة. فإذا زاد اعتبار الشرق شريكًا في هذه الجدلية التي نشأت حديثًا؛ أي جدلية الوعي الثقافي بالذات، فلذلك سببان؛ الأول: أن الشرق قد أصبح أقربَ إلى تمثيلِ لونٍ من التحدي للغرب عمَّا كان عليه من قبل، والثاني هو أن الغرب مقبلٌ على مرحلة جديدة نسبيًّا، وهي مرحلة الأزمة الثقافية، والتي ترجع، إلى حدٍّ ما، إلى تقلص السيطرة الغربية على سائر مناطق العالم.

ومن ثَم فسوف نجد في أفضل الأعمال الاستشراقية التي شهدتها فترة ما بين الحربين — والتي تمثلها الحياة العملية الباهرة للباحث الفرنسي «ماسينيون» وللإنجليزي «جيب» نفسه — بعض العناصر التي تتميز بها أفضل الدراسات الإنسانية في تلك الفترة. وهكذا فإن لنا أن نعتبر أن الاتجاه إلى التلخيص أو الإجمال الذي سبق لي الحديث عنه، هو المعادل الاستشراقي للمحاولات التي بُذلت في مجال العلوم الإنسانية الغربية البحتة لتفهم الثقافة باعتبارها كيانًا كليًّا، بأسلوبٍ حَدْسيٍّ متعاطف مضادٍّ للمنطق الوضعي. فالمستشرق وغير المستشرق ينطلقان من إدراكهما أن الثقافة الغربية تمر بمرحلة مهمة، وأن سمتها الأساسية هي الأزمة التي فرضَتها عليها بعض الأخطار، مثل خطر الهمجية، والاهتمامات التقنية الضيقة، والجدب الأخلاقي، والنزعة القومية العالية النبرة، وما إلى ذلك بسبيل. كما نرى أن فكرة استخدام نصوص محددة، على سبيل المثال، للانطلاق من الخاص إلى العام (ابتغاء فهْم الحياة الكاملة لفترة ما، ومن ثَم تفهُّم ثقافة ما) فكرة يشترك فيها الباحثون الغربيون في العلوم الإنسانية الذين يستلهمون عمل «فيلهلم دلثي»، وكذلك عمالقة المستشرقين مثل «ماسينيون وجيب». ولذلك نجد أن مشروعَ بثِّ حياة جديدة في فقه اللغة — على نحو ما نجده في أعمال «كورتيوس، وفوسلر، وأورباخ، وسبتسر، وجندولف، وهوفمانشتال»4 — يقابله مشروعٌ مناظر له في محاولات التجديدِ وبثِّ الروح في دراسات المستشرقين المتسمة بالتقنية الصارمة لفقه اللغة، وهي المحاولات التي نجدها في دراسات «ماسينيون» لما كان يسميه «المعجم الصرفي»، ومفردات العبادات الإسلامية وما إلى ذلك.
ولكننا نلمح رابطة أخرى، أهم من هذه، بين الاستشراق في هذه المرحلة من تاريخه وبين علوم الإنسان الأوروبية (ما يسميه الفرنسيون علوم الإنسان، والألمانيون العلوم الإنسانية) المعاصرة لها. وعلينا أن نُشير أولًا إلى أن الدراسات الثقافية غير الاستشراقية كانت بالضرورة تفوق الدراسات الاستشراقية في تصدِّيها للأخطار التي تتهدد الثقافة الإنسانية ذات التخصص التقني الذي يُضخم صورة الذات ويستبعد دور الأخلاق، وهي الأخطار التي كانت تتمثل، إلى حدٍّ ما على الأقل، في ارتفاع مد الفاشية في أوروبا. وأدَّى هذا التصدي إلى امتداد شواغل فترة ما بين الحربين واستمرارها في الفترة التي تلَت الحرب العالمية الثانية أيضًا. وكان من الشواهد العلمية والشخصية البليغة على هذا التصدِّي ذلك الكتاب العظيم الذي كتبه «إريك أورباخ» بعنوان: «المحاكاة»، وتأملاته المنهجية الأخيرة باعتباره من فقهاء اللغة.5 وهو يقول لنا إنه كتب «المحاكاة» وهو في منفاه في تركيا، وكان القصد منه، إلى حد كبير، أن يكون بمثابة محاولة لرؤية تطور الثقافة الغربية فيما يكاد يكون آخر لحظة اكتملت فيها نزاهتها وتمتعت فيها بتماسكها الحضاري، ومن ثَم فقد حدد لنفسه مهمة وضع كتاب عام يقوم على تحليلات لنصوص معينة بأسلوب يعرض فيه مبادئ الإنتاج الأدبي الغربي بكل تنوعه وثرائه وخصبه. وكان الهدف هو رسم صورة مركَّبة للثقافة الغربية، تضاهي في أهميتها جهْدَ رسمها نفسه، ويقول «أورباخ» إنه استطاع بذل هذا الجهد بفضل ما يسميه «المذهب الإنساني البورجوازي المتأخر».6 وهكذا فإن العناصر الدقيقة المتفرقة التي يرصدها تتحول إلى رمز بالغ الدلالة لمسار تاريخ العالم.
وكان «أورباخ» يرى أهمية لا تقل عن ذلك — وهذه حقيقة تتصل اتصالًا مباشرًا بالاستشراق — لتقاليد المذهب الإنساني التي تدفع الباحث إلى دراسة ثقافة بلد آخر أو آدابه. وكان النموذج الذي يحتذيه «أورباخ» هو «كورتيوس» الذي يشهد إنتاجه العظيم بأنه، وهو الألماني، عمد إلى تكريس حياته المهنية لدراسة آداب اللغات الرومانية الأصل؛ أي المنبثقة عن اللاتينية كالفرنسية، والإيطالية والإسبانية. وكان ذلك من الأسباب التي دعَت «أورباخ» إلى أن يختتم تأملاته في خريف العمر بشاهد ذي دلالة مقتطف من «فكتور هوجو»، وهو الحكمة المنسوبة إلى القديس «فكتور»، وتقول «إن الرجل الذي يجد وطنَه عَذْبَ المنهلِ رجلٌ لا يزال مبتدِئًا، ليِّنَ العود، وأما الذي يجد في كل تربة مثيلًا لوطنه فقد اكتسب بعض القوة، وأما الكامل فهو الذي يرى العالَم كلَّه بلدًا أجنبيًّا.»7 فكلما ازدادت قدرة المرء على ترك وطنه الثقافي، ازدادت سهولة حكمه عليه وعلى العالم كله كذلك، وذلك بما تقتضيه الرؤية الحقة من انفصال روحي، وكذلك من كرم نفس، كما تزداد كذلك سهولة قيام المرء بتقييم ذاته وتقييم الثقافات الأجنبية بذلك المزيج نفسه من الارتباط والانفصال.
كما نشأت أيضًا قوة ثقافية أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، ولا تقل قدرتها على التشكيل المنهجي، ألَا وهي استخدام العلوم الاجتماعية «للأنماط» باعتبارها وسيلة للتحليل وأسلوبًا لرؤية الأشياء المألوفة بطرائق جديدة. ولقد اهتم عددٌ كبير من الدارسين بدراسة التاريخ المحدد «للنمط» على نحو ما نجد عند مفكري مطلع القرن العشرين مثل «فيبر، ودوركهايم، ولوكاتش، ومانهايم»، وغيرهم من المتخصصين في «علم اجتماع المعرفة»،8 ولكنني لا أعتقد أن أحدًا قد أشار إلى أن دراسات «فيبر» للبروتستانتية واليهودية والبوذية قد جرفَته (ربما عن غير قصد) إلى نفس الأرض التي رسم المستشرقون حدودها أصلًا وزعموا ملكيتها لأنفسهم. ولقد وجد فيها التشجيع من جانب جميع مفكري القرن التاسع عشر الذين كانوا يؤمنون بوجود ضرب من الاختلاف الوجودي بين «العقليات» الاقتصادية (والدينية) الشرقية والغربية. وعلى الرغم من أن «فيبر» لم يدرس الإسلام دراسة متخصصة قط، فلقد كان تأثيره في هذا المجال كبيرًا، لسبب رئيسي وهو أن أفكاره عن «النمط» كانت بمثابة تأكيد «خارجي»؛ أي من خارج مجال الاستشراق، لكثير من الأطروحات المعتمدة التي كان يعتقنها المستشرقون، وهم الذين لم تكن أفكارهم الاقتصادية تتجاوز ما يزعمونه عن عجز الشرقي عجزًا أساسيًّا عن التبادل والتجارة والعقلانية الاقتصادية. ولقد ظلت هذه القوالب الفكرية تحظى بالقبول في مجال الدراسات الإسلامية على امتداد مئات السنين دون مبالغة، وذلك حتى ظهرت الدراسة المهمة التي وضعها «مكسيم رودنسون» بعنوان: «الإسلام والرأسمالية» عام ١٩٦٦م. ومع ذلك فما تزال فكرة «النمط» — شرقيًّا كان أو إسلاميًّا أو عربيًّا أو سوى ذلك — فكرة صامدة، وتُغذيها ألوان مماثلة من التجديدات أو النماذج أو الأنماط التي تأتي بها العلوم الاجتماعية الحديثة.

كثيرًا ما أشرتُ في هذا الكتاب إلى الإحساس بالغربة الذي يشعر به المستشرقون الذين يتناولون أو يعيشون في كنف ثقافة تختلف اختلافًا عميقًا عن ثقافتهم. والواقع أن أحد الاختلافات البارزة بين الاستشراق، في صورته الإسلامية، وبين جميع المباحث الإنسانية الأخرى التي تنطبق عليها إلى حدٍّ ما أفكار «أوِرْباخ» عن ضرورة الغربة؛ هو أن المستشرقين الإسلاميِّين لم يكونوا يرَون على الإطلاق أن غربتهم عن الإسلام غربةٌ «صحية» أو موقف يؤدي إلى تفهُّم ثقافتهم فهمًا أفضل. ولكن غربتهم عن الإسلام اقتصرت على تعميق إحساسهم بتفوق الثقافة الأوروبية، حتى مع اتساع نطاق نفورهم ليشمل الشرقَ كلَّه؛ إذ كانوا يرَون أن الإسلام يمثِّل الشرق تمثيلًا متدنيًا (وذا خطر فتاك). وسبق لي أن قلت أيضًا إن أمثال هذه الاتجاهات الفكرية أصبحت من العناصر التي ساهمت في تشكيل تقاليد الدراسات الاستشراقية نفسها على امتداد القرن التاسع عشر كله، وغدَت على مرِّ الزمن عنصرًا ثابتًا من عناصر إعداد معظم المستشرقين علميًّا، ينقله كلُّ جيل إلى الجيل التالي. كما أنني أرجِّح ترجيحًا شديدًا أن الباحثين الأوروبيِّين قد استمروا ينظرون إلى الشرق الأدنى من منظور «أصوله» الواردة في الكتاب المقدس؛ أي باعتباره ذا مكانة دينية رفيعة مؤثرة ولا تتزعزع. ولمَّا كان الإسلام يتميز بعلاقة خاصة مع المسيحية واليهودية، فلقد ظل يمثِّل في نظر المستشرق فكرة (أو نمط) الوقاحة الثقافية الأصيلة، وهي النظرة التي تفاقمت، بطبيعة الحال، بسبب الخوف من أن تكون الحضارة الإسلامية قد استمرت بصورتها الأصلية (بل والمعاصرة أيضًا) في الوقوف موقف المعارضة على نحو ما للغرب المسيحي.

ولهذه الأسباب مجتمعة ظل الاستشراق الإسلامي فيما بين الحربين يشارك في الجو العام للأزمة الثقافية التي ألمح إليها «أورباخ» وغيره ممن تحدَّثت عنهم بإيجاز، دون أن يتطور، في الوقت نفسه، بالأسلوب الذي تطورت به سائر العلوم الإنسانية. ولمَّا كان الاستشراق الإسلامي قد احتفظ أيضًا في داخله بالموقف الديني المثير للجدل بصفة خاصة، وهو الموقف الذي تميز به منذ البداية، فقد ظل لا يحيد عن مسارات منهجية ثابتة، إن صح هذا التعبير. فمن ناحية معينة، كان لا بد من الحفاظ على اغترابه الثقافي عن التاريخ الحديث وعن التنقيحات الضرورية التي تفرضها المعلومات الجديدة على أي «نمط» نظري أو تاريخي. ومن ناحية أخرى كانت النظرة السائدة ترى أن التجريدات التي يُقدمها الاستشراق (أو فرصة طرح التجريدات) في مجال الحضارة الإسلامية قد اكتسبت صحة جديدة؛ أي أصبحت عندئذٍ صحيحة؛ لأنه لما كان من المفترض أن الإسلام «يعمل» بالأسلوب الذي وصفه المستشرقون (دون الرجوع إلى الواقع الفعلي بل استنادًا فحسب إلى مجموعة من المبادئ «الكلاسيكية») فقد كان من المفترض أيضًا أن الإسلام الحديث لن يزيد على كونه صورة أُعيد تأكيدها للإسلام القديم؛ إذ كان من المفترض أيضًا أن الإسلام لم يكن يرى في الحداثة تحدِّيًا بقدر ما يرى فيها سُبَّةً وإهانة (ونقول بالمناسبة إن العدد البالغ الكثرة من الافتراضات في هذا الوصف كان يرمي إلى تصوير المنحنيات الشاذة إلى حدٍّ ما التي كان على الاستشراق أن يسير فيها حتى يحافظ على أسلوبه الخاص الغريب في رؤية الواقع البشري). وأقول أخيرًا إنه إذا كان الطموح الذي يتجلَّى في التجميع والضم في فقه اللغة (على نحو ما كان يتصوره أورباخ أو كورتيوس) قد أدَّى إلى توسيع نطاق وعي الباحث، وإدراكه للأخوة بين أبناء البشر، وللطابع العام العالمي لبعض مبادئ السلوك البشري، فإن هذا التجميع والضم في حالة الاستشراق الإسلامي قد أدَّى إلى زيادة تأكيد الإحساس بالاختلاف بين الشرق والغرب، وهو الذي يبيِّنه الإسلام.

وهكذا فإن ما أتحدَّث عنه هو الصبغة التي اصطبغ بها الاستشراق الإسلامي حتى الوقت الحاضر؛ أي موقفه الذي يتسم بالتراجع والتقهقر إنْ قورن بالعلوم الإنسانية الأخرى (بل حتى بفروع الاستشراق الأخرى) وتخلُّفه المنهجي والأيديولوجي العام، وعُزْلته النسبية عن التطورات الجارية من حوله، سواء كان ذلك في العلوم الإنسانية الأخرى أو في العالم الحقيقي الذي تتغير فيه الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.9 وقد برزت درجة ما من درجات الوعي بهذا التخلف في الاستشراق الإسلامي (أو السامي) في أواخر القرن التاسع عشر، وربما كان ذلك لأن بعض المراقبين بدءوا يُدركون مدى إخفاق الاستشراق السامي أو الإسلامي في التحرر من الخلفية الدينية التي نبع منها أصلًا. وقد نُظِّم أول مؤتمر استشراقي في باريس، وعُقد فيها عام ١٨٧٣م، واتضح فيه، منذ بدايته تقريبًا، لسائر العلماء المشاركين فيه مدى تخلُّف المتخصصين في الدراسات السامية والإسلامية فكريًّا عن الجميع بصفة عامة. وقد كتب الباحث الإنجليزي «ر. ن. كَسْت» تقريرًا يستعرض فيه جميع المؤتمرات التي عُقدت ما بين عامَي ١٨٧٣ و١٨٩٧م، ويقول فيه ما يلي عن المجال الفرعي للدراسات السامية الإسلامية:
إن أمثال هذه الاجتماعات [أي التي تُعقد في مجال الدراسات السامية القديمة] تعمل حقًّا على تقدُّم المعارف الشرقية.
لكننا لا نستطيع أن نقول ذلك عن مجال الدراسات السامية الحديثة؛ فلقد كان المجال مزدحمًا، ولكن الموضوعات التي نوقشت لم تكن تتسم إلا بأهمية بالغة الضآلة، مثل الموضوعات التي كانت تشغل الباحثين الهواة من أبناء المدرسة القديمة، لا الطبقة العظمى من «أساتذة» القرن التاسع عشر. وأنا مضطر إلى أن أستعين بالمؤرخ الروماني «بليني» بحثًا عن وصف لها. كان هذا المجال يفتقر إلى الروح الحديثة في فقه اللغة وعلم الآثار، وكان التقرير يُشبه تقريرًا أصدره مؤتمر لأساتذة الجامعات في القرن الماضي الذين اجتمعوا لمناقشة مفهوم فقرة من فقرات مسرحية يونانية، أو الضغط في النطق على حرف من حروف العلة، قبل أن يبزغ فجر فقه اللغة المقارن فيزيل بيوت العناكب التي بناها كُتَّاب الحواشي على المتون. ترى أي جدوى أتَت من مناقشة قدرة محمد من الإمساك بالقلم أو الكتابة؟10

كان الولع بالآثار، والقائم على الجدل، وهو الذي يصفه «كَسْت»، يُعتبر إلى حدٍّ ما صورة «بحثية» أو أكاديمية للعداء الأوروبي للسامية. بل إن إطلاق صفة «السامية الحديثة» على هذا المجال بحيث تشمل المسلمين واليهود معًا (وهي التي ترجع أصولها إلى المجال السامي القديم الذي كان رينان أول مَن ارتاده) يرفع رايته العنصرية بأسلوب قُصد به التظاهر بالتأدب. ويشرح «كَسْت» بعد ذلك بقليل في تقريره كيف أن «الإنسان الآري كان موضوعًا حظيَ بتأملات كبيرة» في ذلك الاجتماع. والواضح أن صفة «الآري» كانت تمثِّل التجريد المضاد «للسامي»، ولكن المستشرقين كانوا يرون، لبعض الأسباب التي أوضحتُها آنفًا، أن أمثال هذه الأوصاف الوراثية العريقة أنسبُ بصفة خاصة للساميِّين، ويزخر تاريخ القرن العشرين بالأدلة التي تُثبت ما جرَّه ذلك من عواقب وخيمة على البشرية جمعاء، وهي عواقب أخلاقية وإنسانية وخيمة. ولكن الذي لم يؤكده التأكيد الكافي مؤرخو معاداة السامية في العصر الحديث هو أن الاستشراق قد أضفى طابع الشرعية على أمثال هذه الأوصاف الوراثية العريقة، وكذلك — وهو الأهم لما أرمي إليه في هذا الكتاب — مدى استمرار إضفاء هذه الشرعية الأكاديمية والفكرية عليها في جميع مراحل مناقشات الإسلام أو العرب أو الشرق الأدنى في العصر الحديث. فإذا لم يَعُد من الممكن لأحد أن يكتب كتاباتٍ علميةً متخصصة (أو حتى شعبية) عن «الذهن الزنجي» أو عن «الشخصية اليهودية»، فمن المتاح بيسر أن يقوم البعض ببحوث في موضوعات مثل «العقل الإسلامي» أو «الشخصية العربية»، لكننا سوف نقول المزيد في هذا الموضوع فيما بعد.

وهكذا فإذا أردنا الفهم الصحيح للسلالة الفكرية التي ينحدر منها الاستشراق الإسلامي في فترة ما بين الحربَين العالميَّتَين — بأكملِ وأهمِّ صورِه التي تتجلَّى في الحياة العملية للباحث الفرنسي «ماسينيون» والإنجليزي «جيب» — فعلينا أن نفهم الفرق بين الموقف «التلخيصي» الذي يتخذه المستشرق إزاء مادته وبين موقف آخر يشترك معه في أوجهِ شَبَهٍ ثقافية كثيرة، ألَا وهو الموقف الذي يتجلَّى في عمل بعض فقهاء اللغة مثل «أوِرْباخ» و«كورتيوس». فالواقع أن الأزمة الفكرية في الاستشراق الإسلامي كانت تمثِّل جانبًا آخر من جوانب الأزمة الروحية «للمرحلة المتأخرة من المذهب الإنساني البروجوازي»، ولكن الاستشراق الإسلامي كان في شكله وأسلوبه يرى أن مشكلات البشرية يمكن تقسيمها إلى فئتين تُسمَّيان «الشرقي» و«الغربي». وكان المعتقد إذن أن الشرقي لا ينظر نظرة الغربي إلى قضايا التحرر والتعبير عن الذات والتوسع، وكان المستشرق الإسلامي يعبر عن أفكاره عن الإسلام بصورة تؤكد مقاومته، إلى جانب افتراض مقاومة المسلم، للتغيير وللتفاهم المتبادل بين الشرق والغرب، وللتنمية والتطور الكفيلَين بإخراج الرجال والنساء من حيز المؤسسات العتيقة البدائية إلى رحاب الحداثة. بل لقد بلغ من ضراوة هذه المقاومة للتغيير، وبلغ مما يُنسب إليها من قوة عالمية، أن غدَا مَن يقرأ كلام المستشرقين يتصور أن الانقلاب الذي يُخشى وقوعه لا يتمثل في دمار الحضارة الغربية بل في إزالة العوائق التي تفصل بين الشرق والغرب. وعندما أبدى «جيب» معارضتَه للنزعة القومية في الدول الإسلامية الحديثة، كان دافعه إدراكه أن القومية تؤدي إلى تداعي الأبنية الداخلية التي تحافظ على الطابع الشرقي للإسلام؛ إذ إن النتيجة النهائية للقومية العلمانية هي إزالة الاختلاف بين الشرق والغرب. ويرجع الفضل إلى طاقة «جيب» الفذة على التعاطف الذي يبلغ حدَّ التوحد مع دين أجنبي في أنه استطاع أن يصوغ اعتراضه على النزعة القومية بأسلوب يُوحي في الظاهر بأنه يتحدث باسم المجتمع الإسلامي المؤمن بالعقيدة الصحيحة. وأما السؤال عن مدى ما كان ذلك يمثله من ارتداد إلى العادة الاستشراقية القديمة؛ أي عادة التحدث باسم أهالي الشرق وعن مدى ما كان يمثله من محاولة مخلصة للدعوة إلى ما فيه مصلحة الإسلام، فهو سؤال تقع الإجابة عنه في موقع ما بين هذين البديلين.

ولن نجد بطبيعة الحال باحثًا أو كاتبًا يمثِّل تمثيلًا كاملًا نمطًا مثاليًّا من لونٍ ما، أو مدرسة فكرية ما يشارك فيها بفضل أصله الوطني أو لأسباب تتعلق بأحداث التاريخ، لكننا سوف نجد في مجال الاستشراق الذي تتسم تقاليده بالتخصص والانعزال النسبي، أن كلَّ باحث يُدرك إلى حدٍّ ما، إدراكًا واعيًا من جانب وغير واعٍ من جانب آخر، وجودَ تقاليد قومية، إن لم يكن وجود أيديولوجية قومية، ويصدق هذا بصفة خاصة في حالة الاستشراق، إلى جانب عامل إضافي يزيد من صدق ذلك وهو الانغماس السياسي المباشر من جانب الأمم الأوروبية في شئون بلدان الشرق، والمثال الحاضر في الأذهان هو حالة «سنوك هيرجرويني»، إنْ أردنا مثالًا غير بريطاني وغير فرنسي، لإحساس الباحث إحساسًا بسيطًا وواضحًا بهويته القومية.11 لكنه حتى إذا انتهينا من رصدِ جميع الجوانب اللازمة لتحديد الفرق بين الفرد وبين النمط (أو بين الفرد وبين تقاليد أمة ما) فسوف نُدهش حين نلاحظ إلى أيِّ مدًى كان «جيب وماسينيون» في الواقع نمطَين يمثِّل كلٌّ منها موقفًا ما. وربما يكون من الأفضل أن نقول إن «جيب وماسينيون» قد أوفيَا بكل التوقعات التي أوجدَتها لهما تقاليدهما القومية، واللون السياسي لأُمَّتَيهما، والتاريخ الداخلي «لمدرسة» الاستشراق القومية التي ينتمي إليها كلٌّ منهما. ويميز «سيلفان ليفي» بين هاتين المدرستين تمييزًا واضحًا قاطعًا؛ إذ يقول:

إنَّ الاهتمام السياسي الذي يربط إنجلترا بالهند يجعل النشاط البريطاني مقصورًا على الاتصال المستمر بالحقائق العملية، ويحافظ على التماسك بين كلِّ ما يمثِّل الماضي وبين مشهد الحاضر.

وأما فرنسا التي تغذوها التقاليد الكلاسيكية فإنها تنشد تجليات عقل الإنسان في الهند، وبالصورة التي تُبدي بها اهتمامها بالصين12

وقد يسهل القول بأن هذا التقسيم إلى قطبَين معناه أن أحدهما يؤدي إلى العمل العقلاني المتسم بالكفاءة والطابع العملي وأن الآخر يؤدي إلى عمل ذي طابع عام عالمي، تأملي، نابه، متألق، ومع ذلك فإن هذه القطبية توضِّح لنا طابع الحياة العملية الطويلة والمتميزة إلى حدٍّ بعيد لكلٍّ من «جيب» الإنجليزي و«ماسينيون» الفرنسي، وقد ساد طابعُ عملِ الأول الاستشراق الإسلامي الأنجلوأمريكي مثلما ساد طابعُ عملِ الثاني الاستشراق الإسلامي الفرنسي، وذلك في الحالتين حتى الستينيات من القرن العشرين. وإذا كان ما وصفته «بالسيادة» يدل على شيء ما، فإن السبب هو أنَّ كلَّ باحث منهما كان يستلهم ويعمل في إطار تقاليد واعية تخضع لضوابط (أو لحدود فكرية وسياسية) ينطبق عليها وصفُ «ليفي» الذي أوردتُه آنفًا.

وُلد «جيب» في مصر، ووُلد «ماسينيون» في فرنسا، وقد كُتب لكلٍّ منهما أن يتسم بالتدين العميق، وأن يصبح دارسًا للحياة الدينية في المجتمع أكثر منه دارسًا للمجتمع وحسب، وكان كلاهما أيضًا مشغولًا انشغالًا عميقًا بشئون الدنيا، وكان من أعظم منجزاتهما الانتفاع بالبحث العلمي التقليدي في دنيا السياسة الحديثة. ومع ذلك فقد كان نطاقُ عملِ كلٍّ منهما — بل وأكاد أقول نسيج العمل نفسه — يختلف اختلافًا شاسعًا عن صاحبه، حتى ولو أدخلنا في حسابنا ألوانَ التفاوت الواضحة بين تعليمِ كلٍّ منهما وتربيته الدينية. ولقد وقف «ماسينيون» حياته على دراسة أعمال «الحلاج»، حتى لقد قال عنه «جيب» في النعي الذي كتبه له في عام ١٩٦٢م إنه «لم يتوقف قط عن استشفاف آثاره في الكتابات الأدبية والدينية الإسلامية المتأخرة.» وكان نطاق عمل «ماسينيون» لا يكاد يعرف الحدود، ويكاد يجوب به كل الأصقاع حيثما وجد الشواهد على «روح الإنسان التي تتخطَّى المكان والزمان». وكان عمل «ماسينيون» قد اتسع فأصبح «يشمل كلَّ جانب ومجال في حياة المسلم المعاصر وفكره»، بحيث أصبح وجودُه في مباحث الاستشراق يمثِّل تحدِّيًا دائمًا لزملائه، ولا شك أن «جيب» كان معجبًا بالنهج الذي سار فيه «ماسينيون»، وإن كان قد هجره آخر الأمر، وهو النهج الذي دفعه إلى أن ينشد:

موضوعات تربط، بصورة ما، الحياة الروحية للمسلمين بالكاثوليك [ومكَّنه من أن يجد] عناصر تقريب بينهما في تبجيل «فاطمة الزهراء»، ومن ثَم مجالًا خاصًّا ومهمًّا في دراسة الفكر الشيعي في الكثير من تجلياته، وأيضًا في جماعة ممن يدينون بعقائد ترجع أصولها إلى دين «إبراهيم الخليل»، وبعض الموضوعات الأخرى مثل قصة أهل الكهف. وقد أضفى على كتابته في هذه الموضوعات سماتٍ معينةً جعلَتها تكتسب أهميةً دائمة في الدراسات الإسلامية. ولكن هذه السمات نفسها قد جعلَت كتاباته تنتمي إلى «طبقتَين صوتيَّتَين» مختلفتَين، إن صح هذا المجاز: «الطبقة» الأولى تمثِّل المستوى العادي للبحث العلمي الموضوعي، وهو المستوى الذي يحاول فيه الباحث شرحَ طبيعة ظاهرة من الظواهر من خلال الاستعمال البارع لأدوات البحث العلمي. و«الطبقة الصوتية» الثانية تمثِّل استيعاب وتحويل المعلومات الموضوعية والفهم الموضوعي إلى شيء آخر من خلال التعليم الفردي ذي الأبعاد الروحية. ولم يكن من اليسير في جميع الأحوال رسمُ خطٍّ فاصل يميز بين «الطبقة الصوتية» الأولى وبين التحول الناشئ عن تدفق ما تزخر به شخصيته من ثراء.

ويُلمح «جيب» هنا إلى أنه من الأرجح أن يميل الكاثوليك أكثر من البروتستانت إلى دراسة ظاهرة «تبجيل فاطمة الزهراء»، لكنه يقول بوضوح قاطع: إنه لا ينبغي تشويش التمييز بين الدراسة «الموضوعية» وبين الدراسة القائمة على «التعليم الفردي ذي الأبعاد الروحية» (حتى وإن كانت عميقةً مفصلة). ولكن «جيب» كان مصيبًا عندما أقر، في الفقرة الآتية من نعيه «بخصب» الذهن الذي يتمتع به «ماسينيون» في موضوعات شتى مثل «رمزية فنون المسلمين، وبناء منطق المسلمين، والأشكال العويصة للشئون المالية في العصور الوسطى، وتنظيم شركات الحرفيِّين»، كما أصاب أيضًا، فيما يلي ذلك مباشرة، عندما قال إن اهتمام «ماسينيون» المبكر باللغات السامية قد أدَّى إلى وضع «دراسات مقتضبة تكاد تنافس في عيون غير المتخصص أسرار علوم السحر «الهرمسية» القديمة». ومع ذلك فإن «جيب» يُنهي نعيَه نهايةً تنمُّ عن كرم النفس، قائلًا:

إننا نرى أن المثل الذي ضربه عمله كان درسًا يقول للمستشرقين من أبناء جيله إن الاستشراق الكلاسيكي نفسه لم يَعُد يكفي ما لم تصحبه درجةٌ ما من الالتزام بالقوى الحيوية التي تُضفي المعنى والقيمة على الجوانب المنوعة للثقافات الشرقية.13

كان ذلك، ولا شك، يمثِّل أعظمَ إنجازٍ قدَّمه «ماسينيون»، والصحيح أن علوم الإسلام المعاصرة (أو الإسلاميات، كما تسمَّى أحيانًا) قد نشأَت فيها، وترعرعَت بعض التقاليد التي تقوم على التعاطف أو «التوحد» مع «القوى الحيوية» التي تغذو «الثقافة الشرقية»، ويكفي أن نُشيرَ إلى المنجزات الفذة لبعض الباحثين من أمثال «جاك بيزك، ومكسيم رودنسون، وإيف لاكوست، وروجيه أرلانديه» — على اختلافهم الشاسع في المنهج والمقصد — حتى ندهش لوضوح تأثير «ماسينيون» الفكري فيهم، باعتباره المثال الأول في هذا الصدد.

ومع ذلك فإن اختيار «جيب» تركيز ملاحظاته؛ وإن كانت تكاد تعتمد على «الطرائف» على شتى مناحي قوة «ماسينيون» وضعفه؛ جعلَته يُغفل بعض الملامح الواضحة في حياة «ماسينيون» وهي الملامح التي تجعله يختلف اختلافًا شاسعًا عن «جيب»، ومع ذلك تجعله — بصفة عامة — رمزًا ناضجًا لمثل ذلك التطور البالغ الأهمية في الاستشراق الفرنسي. ومن هذه الملامح «خلفية» «ماسينيون» الشخصية، وهي تُصور تصويرًا بديعًا بساطةَ صدقِ الوصف الذي قدَّمه «ليفي» للاستشراق الفرنسي. إذ إن فكرة «روح الإنسان» في ذاتها كانت غربيةً إلى حدٍّ ما عن الخلفية الفكرية والدينية التي نشأ فيها «جيب»، مثل الكثيرين من المستشرقين البريطانيِّين المحدثين: فنحن نرى أن فكرة «الروح» عند «ماسينيون»، باعتبارها حقيقةً جمالية ودينية وأخلاقية وتاريخية، كانت فكرةً تغذو كيانه منذ الطفولة. وكانت أسرته تتصل حبالُ الودِّ بينها وبين بعض الكُتَّاب الفرنسيِّين مثل «هايسمان»، ويتضح في كلِّ ما كتبه «ماسينيون» تقريبًا تأثير تعليمه المبكر في البيئة الفكرية والأفكار الخاصة بالمرحلة الأخيرة من الحركة الرمزية الفرنسية، بل وحتى ذلك النوع الخاص من الكاثوليكية (والصوفية) الذي كان يُولِيه اهتمامه. ونحن لا نجد آثارَ أيِّ قصد في التعبير أو أي ضيق في البيان في كتابات «ماسينيون»، بل إن أسلوبه من أعظم الأساليب الفرنسية في القرنِ كلِّه، وكانت أفكاره بشأن الخبرة الإنسانية تستقي الكثير من المفكرين والفنانين المعاصرين له، والواقع أن النطاق الثقافي البالغ الاتساع لأسلوبه نفسه هو الذي يضعه في مرتبة تختلف كلَّ الاختلاف عن مرتبة «جيب». وكانت أفكاره الأولى قد نبعَت من الفترة التي تُطلق عليها صفة التدهور الجمالي، ولكنها كانت تدين أيضًا بدَين ما إلى كتابات مثل كتابات «برجسون ودوركهايم وماوس»، وجاء أول اتصال له بالاستشراق من طريق «رينان»، بعد أن استمع إلى محاضراته في شبابه، وكان أيضًا من تلاميذ «سليفان ليفي»، كما أصبحت دائرةُ أصدقائه تضمُّ بعض الكبار؛ مثل «بول كلوديل، وجابرييل بونور، وجاك ماريتان ورايسة ماريتان، وشارل دي فوكوه»، واستطاع في وقت لاحق أن يستوعب كلَّ ما أُنجز من عمل في بعض المجالات الحديثة نسبيًّا مثل علم الاجتماع المدني، واللغويات البنيوية، والتحليل النفسي، والأنثروبولوجيا المعاصرة، والتاريخ الجديد. ويبدو في مقالاته، ناهيك بدراسته الضخمة المهمة عن الحلاج، يُسْرُ انتفاعه بجميع الكتابات الإسلامية، وأحيانًا ما يبدو «ماسينيون» — بسبب تبحُّره العلمي الحافل بالألغاز وشخصيته التي تكاد تتصف بالألفة — باحثًا ابتدعه خيالُ الكاتب الأرجنتيني «خورخي لويس بورجيس»، وكان يتميز بحساسيته الشديدة للموضوعات «الشرقية» في الأدب الأوروبي التي كان يهتمُّ بها «جيب» كذلك، ولكنه كان يختلف عن «جيب» في أنه (أي ماسينيون) لم يجتذبه في المقام الأول الكُتَّاب الأوروبيون الذين قالوا إنهم «يفهمون» الشرق، ولا اجتذبَته النصوص الأوروبية التي كانت تمثِّل تأكيدات فنية مستقلة لما كشف عنه علماء الاستشراق المتأخرون (انظر مثلًا اهتمام جيب بالروائي سكوط كمصدر لدراسته عن صلاح الدين الأيوبي)، فالواقع أن «الشرق» عند «ماسينيون» كان يتفق اتفاقًا كاملًا مع عالم أهل الكهف أو صلوات أتباع ملة «إبراهيم الخليل» (وهما المثلان اللذان أشار إليهما «جيب» ليُدلِّل بهما على خصائص نظرة ماسينيون غير التقليدية للإسلام)، بمعنى أن الشرق لديه كان يدور خارج الفلك المألوف، غريبًا إلى حدٍّ ما، وقادرًا على الاستجابة الكاملة لمواهب «ماسينيون» في التفسير، وهي المواهب الخلابة التي استغلها في «تفسير» الشرق (والتي جعلَته، بمعنًى من المعاني، موضوعًا للدرس). فإذا كان «جيب» يحبُّ صورة «صلاح الدين» عند «سكوط»، فإن «ماسينيون» كان لديه ولعٌ مناظرٌ لهذا الحب بالكاتب «نيرفال»، باعتباره نموذجًا انتحاريًّا، و«شاعرًا ملعونًا»، ومثالًا للغرابة السيكلوجية. وليس معنى هذا أن «ماسينيون» كان أساسًا دارسًا للماضي، فعلى العكس من ذلك كان يتمتع بحضور بارز في العلاقات الإسلامية الفرنسية، في السياسة وفي الثقافة معًا. ومن الواضح أنه كان مشبوبَ العاطفة، يؤمن بإمكان اختراق عالم الإسلام، لا من طريق الدراسة العلمية فحسب، بل بتكريس النفس لجميع أنشطة ذلك العالم، ولم يكن أقلها أهمية عالم المسيحية الشرقية داخل عالم الإسلام، وكان «ماسينيون» يُشجع بحرارة إحدى جماعاتها الفرعية، وهي جمعية البدلية الخيرية الكاثوليكية.

وقد تؤدي المواهب الأدبية الكبيرة التي كان «ماسينيون» يتمتع بها إلى إكساب عمله الأكاديمي مظهرَ التأملات النابعة من مزاج شخصي متقلب، والمسرفة في التحرر من الانتماء لبلد بعينه، بل والخاصة في أحيان كثيرة، ولكن هذا المظهر خادع، والواقع أنه غالبًا ما يقصر عن وصف كتاباته وصفًا صادقًا؛ فلقد كان يحاول عامدًا أن يتجنب ما كان يسميه «التشريح التحليلي المتسم بالجمود الذي يمارسه الاستشراق»14 ويقصد به ضربًا من معالجة نص إسلامي مفترض أو مشكلة إسلامية مفترضة بتجميع «بارد» خامد للمصادر والأصول والبراهين والأدلة وما شابه ذلك، بل كان يحاول في كل ما يكتبه أن يُدرج أكبرَ قدر ممكن من السياق الخاص بنص من النصوص أو مشكلة من المشكلات، وأن يبعث فيه الحياة، حتى ليكاد يفاجئ القارئ بلمحات البصيرة الثاقبة لكلِّ مَن يُبدي استعداده، مثل «ماسينيون»، لعبور حدود التخصصات الدقيقة والحدود التقليدية حتى يستطيع النفاذ إلى «القلب الإنساني» الذي ينبض داخلَ كلِّ نصٍّ. لم يكن في طوقِ أيِّ مستشرق حديث آخر — ولم يكن قطعًا في طوق «جيب»، أقرب أقران «ماسينيون» إليه إنجازًا وتأثيرًا — أن يُشير بالسهولة (وبالدقة) اللتين يُشير بهما في مقال واحد إلى لفيف من متصوفة المسلمين، وإلى «يونج، وهايزنبرج، ومالارميه، وكيركجارد». وقطعًا لم تكن تتمتع إلا قلة قليلة من المستشرقين بذلك النطاق المعرفي الواسع، إلى جانب الخبرة السياسية العملية التي تحدَّث عنها في مقاله المنشور عام ١٩٢٥م بعنوان «الغرب في مواجهة الشرق: أولوية الحل الثقافي».15 ومع ذلك فقد كان عالمه الفكري يتميز بالتحديد الواضح، فكان له بناؤه المحدد الذي استمر على كماله من بداية حياته العملية إلى نهايتها، كما كان يتميز — على ما يتمتع به من ثراء في النطاق، وفي المراجع لا يكاد يوازيه ثراء — بالترابط الداخلي بفضل مجموعة من الأفكار التي لا تتغير في جوهرها. ولنحاول الآن بإيجاز وصف ذلك البناء وتعديد تلك الأفكار.
كانت نقطة انطلاق «ماسينيون» وجود ثلاثة أديان «إبراهيمية» من بينها الإسلام دين إسماعيل، وهو دين التوحيد لشعب لم يشمله الوعد الإلهي الذي قُدِّم إلى إسحاق. وهو يقول إن الإسلام، من ثَم، دينُ مقاومة (للإله «الأب» وللمسيح باعتباره التجسيد البشري له) ومع ذلك فهو يحافظ في داخله على الحزن الذي بدأ بدموع هاجر. ونتيجة ذلك أن اللغة العربية في ذاتها لغة الدموع، على نحو ما كانت فكرة الجهاد برمَّتها في الإسلام (وهي التي يقول «ماسينيون» صراحة إنها الصورة الملحمية في الإسلام التي لم يستطع «رينان» رؤيتها أو فهمها) تتسم ببُعد فكري مهم، ورسالتها هي محاربة المسيحية واليهودية باعتبارهما من الأعداء «الخارجين»، ومحاربة الزندقة باعتبارها العدو «الداخلي». ومع ذلك فإن «ماسينيون» كان يعتقد أنه استطاع أن يتبيَّن داخل الإسلام نمطًا من التيار المضاد، والذي يتمثل في التصوف وهو الطريق إلى غفران الله ورحمته، ومن ثَم فقد جعل «ماسينيون» دراسة هذا التيار رسالته الفكرية الرئيسية. وبطبيعة الحال كانت السمةُ الأساسية للتصوف طابعَه الذاتي، وكانت اتجاهاته غير العقلانية، بل والتي تستعصي على الشرح، تستهدف الوصول إلى لحظة المشاركة في الكيان الرباني، وهي خبرة فريدة وفردية ومؤقتة. وهكذا كانت كل جهود «ماسينيون» الفذة في دراسة التصوف تمثِّل محاولةً لوصف رحلة الأرواح خارج حدود الإجماع الذي تفرضه السُّنَّة أو جماعة التفسير الإسلامي الصحيح. ويقول «ماسينيون» إن المتصوف الآري يستشعر الخشية من الله أكثر مما يستشعرها العربي، لسبب يرجع في جانب منه إلى انتمائه للجنس «الآري» وفي جانب آخر إلى أنه رجل يُنشد الكمال أو المثل الكامل، وأما المتصوف العربي في نظر «ماسينيون» فهو يميل إلى قبول ما يسميه «فاردنبورج» بالتوحيد القائم على الشهادة (ونلاحظ هنا إلحاح «ماسينيون» على التقسيم القديم إلى «آري» و«سامي»، وهو الذي ورثه من القرن التاسع عشر، مثلما يلحُّ على شرعية التعارض الثنائي الذي أقامه «شليجيل» بين الأسرتين اللغويَّتَين.)16 وكان «ماسينيون» يرى أن الشخص المثالي في هذا الصدد هو «الحلاج»، الذي حاول تحرير ذاته والخروج على الجماعة «ذات المذهب الصحيح»، بسعيه ووصوله آخر الأمر إلى الموت على الصليب، وهو «الصلب» نفسه الذي يرفضه الإسلام بصفة عامة، ويقول «ماسينيون» إن محمدًا رفض عمدًا الفرصةَ التي أُتيحت له بسد الفجوة التي تفصله عن الله، ومن ثَم فإن إنجاز «الحلاج» يتمثَّل في تمكُّنه من تحقيق الوحدة الصوفية مع الإله، وهي التي يعارضها الإسلام.
ويقول «ماسينيون» إن سائر جماعة «التفسير الصحيح» تعيش فيما يسميه «العطش الوجودي»؛ فالإله يقدم ذاته إلى الإنسان باعتباره نوعًا من «الغياب»، أو رفض «الحضور»، ومع ذلك فإن وعيَ المؤمن الصادق «بتسليم» الأمر أو إسلامه إلى الله يؤدي إلى إحساسه العميق بتعالي الله وبعدم قبول أي ضرب من ضروب الوثنية. ويقول «ماسينيون» إن مقرَّ هذه الأفكار هو «القلب الختين» الذي يستطيع، حتى وهو في قبضة حمية الشهادة عند المسلم، على نحو ما نرى عند «الحلاج»، أن يلتهب بعاطفة ربانية أو بالحب الإلهي. ويمكن للمسلم الصادق في أي الحالين أن يصل إلى وحدانية الله المتعالية (وهو معنى التوحيد) وأن يفهم معنى الوحدانية المرة بعد المرة؛ إما من خلال الشهادة بها أو من خلال الحب الإلهي، وذلك، على نحو ما يبيِّن «ماسينيون» في مقال معقد، هو الذي يحدد «مقصد» الإسلام.17 والواضح أن «ماسينيون» كان يتعاطف تعاطفًا كاملًا مع الرسالة الصوفية في الإسلام لسببَين متكافئَين وهما: تماثلها مع طبعه الشخصي باعتباره كاثوليكيًّا صادقًا، وقدرتها على الانشقاق داخل مجموعة العقائد الصحيحة. والصورة التي رسمها «ماسينيون» للإسلام صورة دين لا يتوقف عن التعبير عن الرفض، ويتميز بنزوله متأخرًا (بالمقارنة بالعقائد الإبراهيمية الأخرى)، وتصويره العقيم نسبيًّا للواقع الدنيوي، وهياكل دفاعه الهائلة ضد «الاضطرابات النفسية» من النوع الذي كان يمارسه «الحلاج» وغيره من المتصوفة، وعزلته باعتباره الدين «الشرقي» الوحيد الذي ظل «شرقيًّا» بين أديان التوحيد الثلاثة.18
ولكن هذه النظرة للإسلام، على صرامتها الواضحة، ورغم ما تتضمنه من «ثوابت مبسطة»19 (خصوصًا إن قورنت بالخصب الشديد الذي يتمتع به فكر ماسينيون) لم يترتب عليها أيُّ عداء عميق من جانبه للإسلام. فمَن يقرأ «ماسينيون» يروعه إصرارُه في كلِّ آنٍ على ضرورة القراءة المركَّبة، وهي أوامر من المحال التشكيك في صدقها المطلق. وقد كتب في عام ١٩٥١م يقول إن هذا اللون من الاستشراق «لا يمثِّل ولعًا بالغرائب ولا تبرُّؤًا من أوروبا، ولكنه محاولة للمساواة بين مناهج بحوثنا والتقاليد الحية للحضارات القديمة».20 وحينما يبدأ تطبيق هذا اللون من الاستشراق في قراءةِ نصٍّ عربي أو إسلامي، فلا بد أن يؤديَ إلى تفاسير تتسم بذكاء يكاد يكون قاهرًا، ومن الحُمق ألَّا يُبديَ المرء احترامَه لعبقريةِ ذهنِ «ماسينيون» وجدَّةِ تفكيره. ولكن لا بد أن يشدَّ انتباهَنا في تعريف «ماسينيون» للون الاستشراق الخاص به؛ عبارتان، هما: «مناهج بحوثنا»، و«التقاليد الحية للحضارات القديمة»؛ أي إن «ماسينيون» كان يرى أن ما يفعله يمثِّل مركَّبًا أو تركيبًا من شيئين متعارضين إلى حدٍّ ما، ومع ذلك فإن ما يُقلق القارئ هو «اللاتماثل» الغريب بينهما، لا مجرد التعارض بين أوروبا والشرق؛ إذ يُوحي «ماسينيون» بأن جوهر الاختلاف بين الشرق والغرب هو الاختلاف بين الحداثة والتقاليد العريقة. والواقع أن التعارض بين الشرق والغرب يظهر في صورة بالغة الغرابة في كتابات «ماسينيون» عن المشكلات السياسية والمعاصرة؛ حيث تبدو جوانب قصور منهج «ماسينيون» بأشد صورها المباشرة وضوحًا.
وتتجلَّى رؤية «ماسينيون» للتلاقي بين الشرق والغرب في أفضل صورها حين يهاجمُ الغرب ويُحمِّلُه المسئولية الكبرى عن غزو الشرق واستعماره، وعن هجماته الضارية على الإسلام؛ فلقد كان «ماسينيون» مدافعًا لا يكلُّ ولا يملُّ عن الحضارة الإسلامية، على نحوِ ما تشهد به مقالاته ورسائله الكثيرة التي كتبها بعد عام ١٩٤٨م، تأييدًا للاجئين الفلسطينيِّين، ودفاعًا عن حقوق العرب المسلمين والمسيحيِّين في فلسطين وضد الصهيونية، وضد ما أطلق عليه عبارته اللاذعة؛ أي «الاستعمار البورجوازي»، التي كان يُشير فيها إلى شيء ذكره أباإيبان.21 ومع ذلك فإن الإطار الذي لم تخرج عنه رؤية «ماسينيون» كان يخصص، بصفة أساسية، الماضي السحيق للشرق الإسلامي ويخصص الحداثة للغرب. وكان «ماسينيون»، مثل «روبرتسون سميث»، لا يعتبر الشرقي إنسانًا حديثًا بل إنسانًا ساميًا، وهي الفئة «الاختزالية» التي كانت تسيطر سيطرةً محكمة على تفكيره. وعلى سبيل المثال، عندما اشترك في عام ١٩٦٠م مع «جاك بيرك»، زميله في كلية كوليج دي فرانس، في الحوار حول «العرب»، والمنشور في مجلة «اسبري» (الروح) قضى جانبًا كبيرًا من الوقت في الجدال حول ما إذا كانت أفضل زاوية للنظر إلى مشكلات العرب المعاصرين تتمثل في القول ببساطة، وفي المقام الأول، بأن الصراع العربي الإسرائيلي يعتبر في حقيقته مشكلة سامية. وحاول «بيرك» أن يعترض برقَّة وأن يُقنع «ماسينيون» بأن العرب مثل سائر أهل الأرض قد أصبحوا يختلفون «اختلافًا أنثروبولوجيًّا» عمَّا كانوا عليه، ولكن «ماسينيون» رفض هذه الفكرة دون مناقشة.22 ولم تكن جهوده المتكررة لفهم الصراع الفلسطيني والكتابة عنه، على الرغم من نزعتها الإنسانية العميقة قادرةً في الواقع على تجاوز النزاع بين إسحاق وإسماعيل، أو التوتر بين اليهودية والمسيحية فيما يتعلق بنزاعه مع إسرائيل. وعندما كان الصهيونيون يستولون على المدن والقرى العربية، لم يكن ذلك يُسيءَ إلا إلى حساسية «ماسينيون» الدينية.
كان «ماسينيون» يرى أن أوروبا وفرنسا بصفة خاصة تمثِّلان حقائق الواقع المعاصر، وقد أدَّى صدامُه السياسي المبدئي مع البريطانيِّين في إبَّان الحرب العالمية الأولى، إلى حدٍّ ما، إلى احتفاظه بنفور صريح من إنجلترا والسياسات الإنجليزية، وكان يرى أن «لورنس» وأضرابه يمثلون سياسات بالغة التعقيد، وهو ما دعا «ماسينيون» إلى معارضتها في تعامله مع «فيصل»، قائلًا «سوف أبحث مع فيصل … في مسألة الاختراق بنفس معنى التقاليد التي لديه» إذا بدَا له أن البريطانيِّين يمثِّلون «التوسع» في الشرق، وسياسات اقتصادية لا علاقة لها بالأخلاق، وفلسفة نفوذ سياسي عفَّى عليها الزمن.23 وكان يعتقد أن الفرنسي إنسان أكثر حداثة، وعليه أن يجد في الشرق ما فقده من الروحانية، والقِيَم التقليدية، وما شابه ذلك. وأعتقد أن «استثمار» «ماسينيون» لهذه النظرة يرجع إلى تقاليد القرن التاسع عشر برمَّته التي كانت ترى في الشرق «علاجًا» للغرب؛ وهي التقاليد التي نجد أولى إشاراتها في «كينيه». وقد جمع «ماسينيون» بينهما وبين لون من التراحم المسيحي، فهو يقول:
فيما يتعلق بالشرقيِّين، علينا أن نلجأ إلى علم التراحم المذكور، إلى هذه «المشاركة» حتى في بناء لغتهم وهيكلهم العقلي، وعلينا حقًّا أن نشارك في ذلك؛ إذ إن هذا العلم في نهاية الأمر يشهد إما على الحقائق التي تنتمي إلينا أيضًا، وإما على الحقائق التي فقدناها وعلينا استردادها. وأخيرًا لأن كل ما هو موجود يعتبر خيرًا من جانب معين، وتلك الشعوب المستعمرة المسكينة لا توجد فقط لتحقيق أغراضنا، بل إن لها وجودًا في ذاتها ولأنفسها.24
ومع ذلك فهو يقول إن الشرقي في ذاته لا يستطيع تقدير نفسه أو فهمها؛ فلقد فقد دينه وفلسفته، وهو ما يرجع في جانب منه إلى ما فعلَته أوروبا به، وأصبح المسلمون يعانون من «فراغ شاسع» داخلهم، فاقتربوا من الفوضى والانتحار. ومن ثَم فقد غدَت فرنسا ملتزمةً بالمشاركة في رغبة المسلمين في الدفاع عن ثقافتهم التقليدية، ونظام حياتهم في ظل الأُسَر الحاكمة، وتراث المؤمنين.25

لا يستطيع الباحث، ولو كان «ماسينيون» نفسه، أن يقاوم ضغوطَ أمته عليه أو ضغوط التقاليد العلمية التي يعمل في إطارها. وهكذا كان «ماسينيون»، فيما يبدو، يقوم — في جانب كبير مما قاله عن الشرق وعلاقته بالغرب — بتنقيح أفكار غيره من المستشرقين الفرنسيِّين وتكرارها في الوقت نفسه. ومع ذلك فعلينا أن نُسلِّم بأن التنقيحات، والأسلوب الشخصي، والعبقرية الفردية قد تنجح في النهاية في تجاوز القيود السياسية التي تعمل على المستوى غير الشخصي من خلال التقاليد والبيئة الوطنية. ومع ذلك، فعلينا أن نُدرك أن أفكار «ماسينيون» عن الشرق، ظلت، في اتجاه معين، تنتمي انتماءً كاملًا إلى النزعة التقليدية والاستشراقية، على الرغم مما تتميز به من طابع شخصي وغرابة باهرة؛ إذ كان يرى أن الشرق الإسلامي يتميز بالروحانية، وبالسمات السامية والقَبَليَّة، وبالإيمان المتأصل بالتوحيد، وبالاختلاف عن الجنس الآري، وهذه الصفات تُشبه قائمةً للأوصاف الأنثروبولوجية التي شاعَت في أواخر القرن التاسع عشر. وكان يبدو أن الخبرات الدنيوية نسبيًّا — مثل خبرات الحرب، والاستعمار والإمبريالية والظلم الاقتصادي والحب والموت والتبادل الثقافي — تمرُّ في عينَي «ماسينيون» من خلال عدسات ميتافيزيقية، أو من عدسات تسلب الإنسان إنسانيته في آخر المطاف، فهو يَصِف هذه الخبرات بأنها سامية أو أوروبية أو شرقية أو غربية أو آرية، وهلمَّ جرًّا. وكانت هذه الفئات تبني عالمه وتحقِّق ما كان يقول إنه ضرب من الإدراك العميق، في نظره على الأقل. وأما في الاتجاه الآخر فقد نجح «ماسينيون» في الوصول إلى موقع خاص يتميز به في خضمِّ الأفكار المفردة التي تتسم بالتفاصيل البالغة الكثرة التي تزخر بها دنيا العلماء؛ إذ إنه أعاد تشكيل صورة الإسلام ودافع عنه ضد أوروبا وضد ما يزعم البعض أنه صورته الصحيحة أيضًا، وكان هذا التدخل — فلقد كان تدخُّلًا حقًّا — في شئون الشرق، باعتباره محرِّكًا وبطلًا، يرمز إلى قبوله الخاص لاختلاف الشرق، وللجهود التي كان يبذلها في سبيل تغييره حتى يكتسب الصورة التي يريدها له. ونحن نلحظ أن هاتَين النزعتَين معًا — أي إرادة السيطرة على الشرق بالمعرفة وإرادة تحقيق الخير له بالمعرفة أيضًا — ذواتَا قوة بالغة عند «ماسينيون». والصورة التي يرسمها «للحلاج» تمثِّل هذه الإرادة خيرَ تمثيل. إذ إن الأهمية المبالغ فيها — والتي يُوليها «ماسينيون للحلاج» — تعني أولًا أن هذا الباحث قد قرر أن يُعليَ من شأن فرد واحد فيرفعه فوق مستوى الثقافة التي غذته، وتعني ثانيًا أن «الحلاج» قد تحوَّل إلى رمز للتحدي الدائم للمسيحي الغربي، بل ومصدر مضايقة له، وهو الذي لم تكن العقيدة تعني له (وربما من المحال أن تعني له) ما تعنيه للصوفي من التضحية القصوى بالذات. وفي أيٍّ من هاتين الحالتين، كان القصد من تصوير «ماسينيون للحلاج»، دون مبالغة، تجسيد أو تجسيم قِيَم المذهب الرئيسي للعقيدة الإسلامية، وهو المذهب الذي ما وصفه «ماسينيون» أساسًا إلا للتحايل عليه والدوران حوله من خلال «الحلاج».

ومع ذلك فلا حاجة بنا إلى أن نسارع بالحكم بالانحراف على عمل «ماسينيون» أو بأن أعظم مظاهر ضعفه هو سوء تمثيله للإسلام على نحو ما يتجلَّى في استمساك المسلم «المتوسط» أو «العادي» بدينه وإيمانه، وكان أحد علماء الإسلام المبرزين قد ساق الحجة على اتخاذ «ماسينيون» هذا الموقف، على وجه الدقة، وإن لم يكن قد ذكر صراحةً اسم «ماسينيون» باعتباره صاحبَ الإساءة إلى الإسلام.26 ومهما يبلغ ميلنا إلى الموافقة على هذه القضايا — ما دام الإسلام قد أُسيءَ تصويره حقًّا بصفة جوهرية في الغرب، على نحو ما يحاول هذا الكتاب أن يبين — فإن القضية الحقيقية هي ما إذا كان من الممكن فعلًا تقديم صورة تعتبر تمثيلًا صادقًا لأي شيء، أو إذا ما كانت أي صورة بل وجميع الصور التمثيلية تكمن، بحكم كونها صورًا تمثيلية، في اللغة أولًا، وبعد ذلك في الثقافة والمؤسسات والبيئة السياسية لمن يتولى رسم الصورة التمثيلية. فإذا كان البديل الأخير هو البديل الصائب (وهو ما أعتقده) فإن علينا أن نكون على استعداد لقبول القول بأن كلَّ صورة تمثيلية بطبيعتها تتداخل وتشتبك وتكمن وتمتزج بالكثير من الأمور الأخرى إلى جانب «الحقيقة»، وهي التي تعتبر في ذاتها صورةً تمثيلية. ولا بد أن يؤديَ ذلك بنا منهجيًّا إلى اعتبار التصوير التمثيلي (أو سوء التصوير التمثيلي؛ فالفرق ينحصر في الدرجة، في أفضل الحالات) قائمًا في مجال مشترك من مجالات النشاط الإنساني لا تقتصر العوامل التي تُحدده على مادة الموضوع المشتركة وحدها بل تتضمن أيضًا بعض عوامل التاريخ المشترك، والتقاليد، وما يسمَّى بعالَم «الخطاب»؛ أي عالَم الأفكار والصور اللغوية التي تعبر عنها. ولا يستطيع عالمٌ أو باحث فرد أن يخلق هذا المجال ولكنه يتلقاه من غيره ثم يجد لنفسه مكانًا فيه بعد ذلك ويقدم في إطاره مساهمته الفردية. وأمثال هذه المساهمات، حتى من جانب عبقرية فذة، لا تزيد على كونها استراتيجيات لإعادة تقديم المادة داخل حدود ذلك المجال، بل إن الباحث إذا اكتشف مخطوطًا كان مفقودًا يومًا ما؛ قام بتقديم ذلك النص «المكتشف» في سياقٍ سبق إعداده له سلفًا، فذلك هو المعنى الحقيقي للعثور على نص جديد. وهكذا فإن كلَّ مساهمة فردية تؤدي أولًا إلى تغييرات داخل المجال ثم تُنشئ استقرارًا جديدًا على نحو ما نرى عند وضع بوصلة جديدة على سطحٍ مغطًّى بعشرين بوصلة، فالبوصلة الجديدة تؤدي أولًا إلى تذبذب إِبَر البوصلات جميعًا، ولكن البوصلات الواحدة والعشرين سرعان ما تستقر في تشكيل جديد يضم هذه وتلك كلها.

والصور التي تمثِّل الاستشراق في الثقافة الأوروبية تتصف بما نستطيع أن ندعوه الاتساق المنطقي، وهو اتساق لا يتميز فحسب بما له من تاريخ بل أيضًا بوجود مادي (مؤسسي) وعلى نحو ما ذكرت عن «رينان»، فلقد كان هذا الاتساق شكلًا من أشكال الممارسة الثقافية أو نظامًا من الفرص المتاحة لوضع المقولات عن الشرق. وما أقوله بشأن هذا النظام لا ينحصر في كونه تصويرًا يُسيءَ تمثيل «جوهر» مفترض للشرق — إذ لا أعتقد مطلقًا أن للشرق أي «جوهر» — ولكن مرماي هو أن هذا التصوير «التمثيلي» يعمل في سبيل تحقيق غرض ما، شأنه في ذلك شأن كل تصوير «تمثيلي» عادةً، كما أنه يعمل وفقًا لاتجاه معين، وفي إطار تاريخي وفكري بل واقتصادي محدد. وأقول بتعبير آخر إن الصور التمثيلية ترمي لتحقيق أغراض معينة، وإنها تنجح في ذلك في معظم الأوقات، وإنها تؤدي مهمة واحدة أو عدة مهام معًا. وسواء كانت صورًا تمثيلية أو تشكيلية، على نحو ما يقول «رولان بارت» عن جميع «العمليات» اللغوية، فإنها تُسيء التمثيل إلى حدِّ التشويه. فتشكيل — أو تشويه — الصورة التي تمثل الشرق في أوروبا يرجع إلى حساسية خاصة متزايدة تجاه إقليم جغرافي يسمَّى «الشرق». والمتخصصون في هذا الإقليم يؤدون عملهم بصدده، إن صحَّ هذا التعبير؛ لأن مهنتهم — باعتبارهم مستشرقين — تتطلب منهم على مرِّ الأيام أن يقدِّموا إلى مجتمعاتهم صورًا للشرق، ومعرفة به، وبصيرة نفاذة فيه. والواقع أن المستشرق يحقق درجة كبيرة من النجاح في تزويد مجتمعه بصور تمثيلية للشرق تتسم بأنها (أ) تحمل طابعه المميز، و(ب) تُبيِّن تصوره لما يمكن أو لما ينبغي للشرق أن يكون عليه، و(ج) تطعن واعية في رأي شخص آخر في الشرق، و(د) تقدم إلى «الخطاب» الاستشراقي ما يبدو أنه في مسيس الحاجة إليه في تلك اللحظة، و(ﻫ) تستجيب لبعض متطلبات العصر الثقافية والمهنية والقومية والسياسية والاقتصادية. والواضح أن دور المعرفة الإيجابية أبعد ما يكون عن اتخاذ صورة مطلقة، وإن كان يظل قائمًا إلى حدٍّ ما. بل إن ما تنشره وتُعيد نشره الصفاتُ الخمس المذكورة للصور التمثيلية التي يقدِّمها الاستشراق؛ هو «المعرفة»، وهي التي لا تتخذ مطلقًا صورةً مطلقة أولية مباشرة أو حتى موضوعية.

وإذا نظرنا إلى «ماسينيون» من هذه الزاوية، وجدنا أنه ليس «عبقرية» أسطورية بقدر ما يعتبر «نظامًا» أو «جهازًا» من نوع ما لوضع ضروب معينة من المقولات المبثوثة في كتلة هائلة من التشكيلات المنطقية التي تشترك معًا في بناء «أرشيف» عصره أو مادته الثقافية. ولا أظن أننا نسلب «ماسينيون» إنسانيته حين نُدرك ذلك، لا بل ولا نختزل عمله فنصفه بالخضوع للحتمية السوقية. بل، على العكس، سوف ترى كيف استطاع ذلك الإنسان الحقيقي أن يتمتع، بمعنًى من المعاني، بطاقة إنتاجية وثقافية معينة وأن يكتسب المزيد من هذه الطاقة التي تتميز ببُعد مؤسسي أو «فوق إنساني» وهذا، حقًّا، هو ما ينبغي لابن البشر المحدود الوجود أن يطمح إليه إذا لم يكن يريد أن يقنع بوجوده الفاني وحسب في الزمان والمكان. وعندما قال «ماسينيون» «كلنا ساميون» كان يشير إلى نطاق أفكاره الذي يتجاوز مجتمعه، ويبيِّن مدى قدرة أفكاره عن الشرق على تخطِّي الظروف المحلية والشخصية للرجل الفرنسي والمجتمع الفرنسي. وفئة «السامي» يغذوها مذهب «ماسينيون» الاستشراقي، ولكن قوتها تنبع من نزوعها إلى الامتداد خارج الحدود الخاصة بهذا المبحث، ودخول مجال أرحب يضم التاريخ والأنثروبولوجيا، وهو المجال الذي يبدو أنها تتمتع فيه بدرجة من درجات الصحة العلمية والقوة.27
ولا شك أن المقولات التي وضعها «ماسينيون»، والصور التمثيلية للشرق لديه، كان لها تأثيرها المباشر، على مستوى واحد على الأقل، في العاملين «بمهنة» الاستشراق، وإن لم تنجُ «صحتها» العلمية من الطعن فيها. فعلى نحو ما ذكرت آنفًا، نرى أن إقرار «جيب» بما أنجزه «ماسينيون» يمثِّل إدراكه بأنه يعرض ما فعله ماسينيون باعتباره بديلًا عمَّا فعله هو (ضمنًا لا صراحة). وأنا أنسب إلى النعي الذي كتبه «جيب» أفكارًا لا تَرِد إلا في صورة لمحات طفيفة، بطبيعة الحال، لا في صورة مقولات فعلية، ولكن أهميتها سوف تتضح إذا نظرنا الآن إلى حياة «جيب» العملية باعتبارها مناظرة لحياة «ماسينيون» العملية. والمقال التذكاري الذي كتبه «ألبرت حوراني» عن «جيب» وقدَّمه للأكاديمية البريطانية (وهو الذي أشرتُ إليه عدة مرات) يُلخص تلخيصًا بارعًا حياةَ الرجل العملية، وأفكاره الرئيسية، وأهمية عمله. وأنا لا أختلف مع تقييم حوراني في خطوطه العريضة، لكنه ينقصه شيء ما، وإن كان هذا النقص يعوضه، إلى حدٍّ ما، ما جاء في مقال قصير عن «جيب» كتبه «وليم بولك» بعنوان «السير هاميلتون جيب بين الاستشراق والتاريخ»28 إذ إن «ألبرت حوراني» يميل إلى اعتبار «جيب» ثمرة من ثمار اللقاءات الشخصية، والمؤثرات الشخصية وما إلى ذلك بسبيل، ولكن «بولك» — رغم افتقاره إلى دقة حوراني في فهم «جيب» — يرى أن «جيب» يمثِّل ذروة تقاليد أكاديمية معينة يمكن أن نَصِفَها بأنها تمثِّل اتفاق الرأي في البحث الأكاديمي، أو النموذج المطبق في البحث الأكاديمي، وهما تعبيران لا يردان في نثر «بولك».

وهذه الفكرة المستعارة بصفة عامة من «توماس كون»، تتصل بعمل «جيب» اتصالًا مباشرًا ويجدر النظر فيها؛ إذ إن «جيب»، كما يذكِّرنا حوراني، كان شخصية تضرب جذورها العميقة في مؤسسات العصر، ومن عدة زوايا معًا، وإذا فحصنا كلَّ ما قاله «جيب» أو فعله منذ بواكير حياته العملية في لندن إلى سنوات عمره الوسطى في جامعة أوكسفورد وحتى السنوات التي امتدَّ نفوذه فيها عندما أصبح مديرًا لمركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط — وجدنا الطابع الواضح لذهن يعمل بسهولة بالغة داخل المؤسسات الراسخة. فإذا كان «ماسينيون» يمثِّل اللامنتمي بلا أمل في الانتماء، فقد كان «جيب» يمثِّل المنتمي. وعلى أي حال فقد وصل الرجلان إلى أعلى ذُرَا الصيت الداوي والنفوذ في الاستشراق الفرنسي والاستشراق الأنجلوأمريكي على الترتيب. إذ لم يكن الشرق عند «جيب» مكانًا يقابله الفرد مباشرة، بل كان شيئًا يقرأ عنه ويدرسه ويكتب عنه داخل الحدود الضيقة للجمعيات العلمية، والجامعات، والمؤتمرات البحثية. وكان «جيب» يتفاخر مثل «ماسينيون» بصداقته لبعض المسلمين، ولكن هذه الصداقة كانت، فيما يبدو، مثل صداقة إدوارد لين؛ صداقة نافعة وحسب، لا صداقة تحدد المسار. ومن ثَم فإن «جيب» أصبح شخصية «حاكمة» في الإطار الأكاديمي للاستشراق البريطاني (ومن بعده الاستشراق الأمريكي)، وباحثًا يثبت عمله عن وعي الاتجاهات القومية في هذا اللون من تقاليد الأكاديمية، القائمة في الجامعات والحكومات ومؤسسات البحوث.

ويتمثل أحد المؤشرات على ذلك في أننا كثيرًا ما نلاقي «جيب» في سنوات نضجه وهو يتحدث ويكتب إلى المنظمات التي تتحكم في السياسات. ففي عام ١٩٥١م، على سبيل المثال، شارك بمقال في كتاب عنوانه: الشرق الأدنى والدول العظمى، وهو عنوان له مغزاه، وهو يحاول في هذا المقال إيضاح ضرورة التوسع في البرامج الأنجلوأمريكية للدراسات الشرقية قائلًا:

… لقد تغير موقف البلدان الغربية كله إزاء بلدان آسيا وأفريقيا، إذ لم يَعُد في طوقنا الاعتماد على عامل الهيبة، وهو العامل الذي نهض بدور كبير فيما يبدو في التفكير قبل الحرب، بل ولم نَعُد نستطيع أن نتوقع من شعوب آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا أن تأتيَ إلينا وتتعلم منَّا ونحن مكتوفو الأيدي، ولكن يجب علينا أن نكتسب العلم بهم حتى نتعلم أن نعمل معهم في علاقة أقرب إلى إطار التبادل.29

وأما إطار هذه العلاقة الجديدة فهو يفصح عنه في مقال لاحق بعنوان «إعادة النظر في دراسات المناطق»، ويقول فيه إنه لا ينبغي اعتبار الدراسات الشرقية أنشطة علمية بقدر ما تعتبر أدوات في أيدي السياسات القومية تجاه الأمم التي حصلت حديثًا على استقلالها، وربما يصعب التعامل معها في عالم ما بعد الاستعمار، ويقول إن على المستشرق أن يتسلح بوعي يعيد تركيزه على أهمية ائتلاف دول المحيط الأطلسي حتى يصبح مرشدًا لراسمي السياسات ورجال الأعمال، ولجيل جديد من الباحثين.

لم يكن أهم عنصر من عناصر المرحلة الأخيرة من رؤية «جيب» يتمثل في العمل الإيجابي الذي يضطلع به المستشرق في البحث العلمي (على نحو ما فعل في شبابه مثلًا عندما درس الغزوات الإسلامية لآسيا الوسطى) بل يتمثل في إمكان تطويعه للانتفاع به في الحياة العامة. ويجيد حوراني التعبير عن ذلك قائلًا:

… اتضح له (أي لجيب) أن العمل الذي تقوم به الحكومات الحديثة والنُّخَب الحديثة ينمُّ عن جهلها أو رفضها لتقاليدها الخاصة بالحياة الاجتماعية والأخلاق، وأن مظاهر فشلها تنبع من ذلك. وهكذا قصر جهوده الرئيسية بعد ذلك على تقديم شرح يعتمد على الدراسة الدقيقة للماضي للطابع الخاص لمجتمع المسلمين، وما يكمن في جوهره من عقائد وثقافة، بل إنه كان يميل إلى النظر إلى هذه المشكلة نفسها أولًا من الزاوية السياسية.30

ومع ذلك فلقد كان من المحال أن تتسنَّى ﻟ «جيب» هذه الرؤية في مرحلته الأخيرة دون قدرٍ كبير من الاستعداد الصارم لها في أعماله المبكرة، وعلينا أن نرجع إلى هذه الأعمال حتى نفهم أولًا أفكاره: كان من بين العوامل الأولى التي أثَّرت في «جيب» عمل «دنكان ماكدونالد»، وهو الذي استقى «جيب» منه المفهوم الذي يقول إن الإسلام نظام حياة متماسك، وإن هذا النظام لا يستمد تماسكه من الناس الذين يحيَون هذه الحياة بقدر ما يستمده من هيكلٍ عقائديٍّ ما، أو منهج للممارسة الدينية، أو من فكرة النظام التي يشارك فيها جميع المسلمين، والواضح أن علاقة الناس «بالإسلام» تقوم على تفاعل دينامي من لون ما، ولكن الدارس الغربي لا يهتم إلا بالقوة النابعة من الإسلام والقادرة على جلاء معنى خبرات المسلمين، لا العكس.

ولكن «ماكدونالد» ومن بعده «جيب» لا يتناولان مطلقًا الصعوبات المعرفية والمنهجية «للإسلام» باعتباره موضوعًا (يستطيع الدارس أن يصدر عنه مقولات شاملة وبالغة التعميم). وكان «ماكدونالد» من جانبه يعتقد أن المرء يستطيع أن يدرك في الإسلام مظاهرَ لشيء تجريدي أشد غرابة، وهو العقلية الشرقية، وهو يخصص الفصلَ الأول كلَّه من كتابه: الموقف الديني والحياة في الإسلام، وهو أشدُّ كُتُبِه تأثيرًا (ولا يمكن التقليل من أهميته ﻟ «جيب») لمجموعة من المقولات عن العقل الشرقي. وهو يبدأ بأن يقول «من الواضح في نظري والمعترف به أن الشرقيِّين يزيدون كثيرًا عن الغربيِّين في تصور التصاق الغيب مباشرة بحياتهم، وفي تصور طابعه الحقيقي.» ويقول: «إن العناصر الكبيرة التي تُعدِّل من تفكيرنا وتكاد تخرق القانون العام، فيما يبدو، من وقت لآخر» لا تخرقه في نظر الشرقيِّين، لا، بل ولا تتناقض مع القوانين العامة الشاملة التي تحكم العقل الشرقي بنفس القدر. ويقول: «إن الفرق الجوهري في العقل الشرقي لا يكمن في تصديق الغيبيات بل في العجز عن بناء نظام خاص بما هو مشهود وحاضر.» ويتمثل مظهر آخر من مظاهر هذه الصعوبة — وهو الذي اعتبره «جيب» في وقتٍ لاحقٍ مسئولًا عن غياب الشكل في الشعر العربي وعن نظرة المسلم إلى الواقع نظرة «ذرِّيَّة» في جوهرها؛ أي باعتباره أجزاءً غير مترابطة — في «أن الشرقي مختلف، واختلافه لا يرجع بصفة أساسية إلى تديُّنه بل إلى افتقاره إلى إدراك معنى القانون، فهو لا يؤمن بوجود نظام ثابت في الطبيعة». وإذا كانت هذه «الحقيقة» المزعومة تعجز عن تفسير المنجزات الفذة للعلوم الطبيعية الإسلامية التي يستند إليها جانبٌ كبير من العلوم الغربية الحديثة؛ فإن «ماكدونالد» يلتزم الصمت. وهو يواصلُ سردَ محتويات قائمته قائلًا: «الواضح أن الشرقي يرى أنَّ كلَّ شيء ممكن. فالخوارق قريبة حتى إنها تستطيع أن تمسَّه في أي لحظة.» وانظر كيف أن مناسبة معينة — وهي مولد دين التوحيد تاريخيًّا وجغرافيًّا في الشرق — قد تحوَّلت في الحجة التي يسوقها «ماكدونالد» إلى نظرية كاملة عن الفرق بين الشرق والغرب، تُدرك مدى عمق الالتزام الذي فرضه الاستشراق على «ماكدونالد»، وهاك الملخص الذي يأتي به:

أعتقد أن الفرق بين الشرق والغرب يكمن في العجز عن النظر بثبات إلى الحياة، ورؤية صورتها الكلية، وتفهُّم أن أيَّ نظرية للحياة لا بد أن تشمل جميع الحقائق، كما يكمن في التعرض لسيطرة فكرة واحدة وغلبتها وعدم رؤية أي شيء آخر.31

وليس في أيٍّ من هذا ما يتسم بجدة خاصة، بطبيعة الحال، فهذه الأفكار تتكرر، وتَرِد المرة بعد المرة في كتابات الكُتَّاب من «شليجيل إلى رينان» ومن «روبرتسون سميث إلى ت. أ. لورنس»، وهي تمثِّل قرارًا متَّخذًا بشأن الشرق لا حقيقة من حقائق الطبيعة على الإطلاق. فكلُّ مَن يلتحق واعيًا بمهنة الاستشراق؛ مثل «ماكدونالد وجيب»، يلتحق بها بناءً على قرار اتخذه؛ ألَا وهو أن الشرق هو الشرق، وأنه مختلف، وهلمَّ جرًّا، ومن ثَم فإن الأقوال المفصلة والمنقحة وما يأتي في أعقابها من البيان والتبيين في هذا المجال يعمل على مساندة القرار المتخذ بوضع الحدود التي يُحبس فيها الشرق. ولا يُوحي «ماكدونالد» (أو «جيب») بأيِّ مفارقة في قوله إن الشرقي عرضة لسيطرة فكرة واحدة عليه؛ إذ إنَّ أيًّا منهما لا يستطيع، فيما يبدو، أن يُدرك درجةَ تعرُّض الاستشراق لسيطرة فكرة واحدة عن الاختلاف الشرقي. ولا يُقلق أي الرجلين استخدام تعبيرات عامة؛ مثل «الإسلام» أو «الشرق»، بصفتها أسماء أعلام، فيضيف كلٌّ منهما صفاتٍ إليها ويجعلها فواعل لأفعال كأنما كانت تُشير إلى أشخاص لا إلى مُثُل أفلاطونية.

وليس من قبيل المصادفة إذن أن يكون المحور الرئيسي الذي يدور حوله كلُّ ما كتبه «جيب» تقريبًا عن الإسلام والعرب؛ هو التوتر، بمعنى عدم الاتساق، بين «الإسلام» باعتباره حقيقة شرقية متعالية قاهرة، وبين حقائق واقع الخبرة الإنسانية اليومية. وقد استثمر جهوده في البحث العلمي وباعتباره مسيحيًّا صادقًا في «الإسلام»، لا فيما كان يمثِّل (في نظره) تعقيداتٍ تافهةً نسبيًّا كالتي أدخلَتها في الإسلام النزعةُ القومية، والصراع الطبقي، والخبرات التي تؤكد الطابع الفردي لكل شخص مثل الحب أو الغضب أو العمل الإنساني. ويتجلَّى مدى «فقر» هذا الاستثمار بأوضح صوره في كتاب: «إلى أين يتجه الإسلام؟» وهو مجلد تولَّى تحريره «جيب» في عام ١٩٣٢م ونشر فيه المقال الذي يحمل عنوان الكتاب (ويتضمن أيضًا مقالًا رائعًا كتبَه ماسينيون عن الإسلام في شمال أفريقيا). وأما مهمة «جيب» في نظره فكانت تنحصر في تقييم الإسلام، وتقدير موقفه الراهن والمسار الذي يمكن أن يتخذه في المستقبل. وفي إطار هذه المهمة كان يعتزم أن يعتبر أن أقاليم العالم الإسلامي التي يتميز كلٌّ منها بطابعه الخاص واختلافه الواضح عن غيره ليست نافيةً للقول بوحدة الإسلام بل أمثلة على هذه الوحدة. وقد وضع «جيب» بنفسه تعريفًا تمهيديًّا للإسلام في المقدمة، ثم حاول في المقال الختامي أن يصدر حكمه على واقعه الراهن ومستقبله الحقيقي. وكان «جيب»، مثل «ماكدونالد»، مطمئنًا كل الاطمئنان لفكرة وحدة الشرق الصلدة المتحجرة، ويرى أن ظروفه الوجودية يصعب اختزالها، بمعنى النظر إليها من الزاوية العنصرية أو في إطار النظرية العنصرية، والواقع أن رفضه الصارم لقيمة التعميم العنصري يرفعه فوق أقبح سمة اتسمت بها الأجيال السابقة من المستشرقين، كما كان «جيب» يتمتع برؤية موازية في كرم النفس والتعاطف لعالمية الإسلام وتسامحه الذي يتجلى في قبول تعايش جماعات عِرقية ودينية شتى في سلام وديموقراطية داخل دولته. ونلمح لمحة نبوءة كئيبة في إشارة «جيب» إلى أن الصهيونيِّين والمسيحيِّين المارونيِّين وحدهم، من بين الجماعات العرقية في العالم الإسلامي، عاجزون عن قبول التعايش.32

ولكن جوهر ما يقول به «جيب» هو أن الإسلام، لسبب قد يرجع إلى أنه يمثل في النهاية اهتمام الشرقي الخالص بالغيب لا بالطبيعة؛ يتمتع بأسبقية مطلقة وسيطرة مطلقة على حياة الشرق الإسلامي برمَّتها. والإسلام عند «جيب» هو المذهب الإسلامي الصحيح، وهو كذلك جماعة المؤمنين، وهو الحياة، وهو الوحدة، وهو القدرة على الفهم، وهو القيم. وهو عين القانون والنظام، على الرغم من قلاقل دعاة الفتنة من «المجاهدين» والشيوعيِّين. ونحن نقرأ في الصفحات المتوالية من كتاب «إلى أين يتجه الإسلام؟» أن البنوك التجارية الجديدة في مصر وسوريا من حقائق الإسلام أو المبادرة الإسلامية، وأن المدارس وزيادة تعلُّم القراءة والكتابة حقائق إسلامية أيضًا، مثل الصحافة، ومظاهر الحياة الغربية، والجمعيات الثقافية. ولا يشير «جيب» على الإطلاق إلى الاستعمار الأوروبي عندما يناقش نشأة النزعة القومية و«سمومها». ولا يخطر ببال «جيب» مطلقًا أن تاريخ الإسلام الحديث قد يصبح أيسرَ فهمًا بسبب مقاومته السياسية وغير السياسية للاستعمار، وهو لا يهمُّه، في النهاية، أن يُشير إلى كون نظم الحكم «الإسلامية» التي يناقشها جمهورية أو إقطاعية أو ملكية باعتبار أن هذه مسائل لا علاقة لها بالموضوع.

كان «جيب» يرى أن «الإسلام» بناءٌ فوقي من لون ما؛ تتهدَّده الأخطار السياسية (كالنزعة القومية، والقلقلة الشيوعية، ومظاهر الحياة الغربية) ومحاولات المسلمين الخطرة للعبث بسيادته الفكرية. ولنلاحظ في الفقرة الآتية كيف يجعل كلمة الدين ومشتقاتها تصبغ نغمة النثر بصبغتها إلى الحد الذي نشعر معه بضرب من الضيق «المهذب» بالضغوط الدنيوية الموجَّهة إلى «الإسلام»:

لم يفقد الإسلام؛ بصفته دينًا، شيئًا يُذكَر من قوَّته، ولكن الإسلام باعتباره الحَكَم في الحياة الاجتماعية (في العالم الحديث) قد بدأ يفقد عرشه؛ إذ غدَت قوى جديدة تمارس إلى جانبه أو من فوقه سلطة تتناقض أحيانًا مع تقاليده وأحكامه الاجتماعية، وإن كانت تشقُّ طريقها عَنْوة على الرغم منها. وإذا أردنا أشد تبسيط للموقف قلنا إن ما حدث هو ما يلي: كان المواطن أو المزارع المسلم العادي حتى عهد قريب لا يُبدي اهتمامات سياسية ولا يقوم بوظائف سياسية، ولم يكن في متناول يده ما يقرؤه سوى الكتابات الدينية، ولم يكن يقيم احتفالات أو يمارس الحياة الاجتماعية إلا في إطار الدين، ولم يكن يرى شيئًا يذكر، أو أي شيء على الإطلاق إلا من خلال نظارات دينية. ومن ثَم فقد كان الدين يعني كلَّ شيء له. أما الآن فقد اتسع نطاق اهتماماته ولم تَعُد أنشطته محدودة بحدود الدين، ويصدق ذلك بدرجة أكبر عليه في جميع البلدان المتقدمة، فلقد فُرضت بعض المسائل السياسية فرضًا على إدراكه، فهو يقرأ، أو يقرأ غيره له، أعدادًا هائلة من المقالات في شتى الموضوعات التي لا شأن لها بالدين، والتي قد لا تُناقش فيها وجهة النظر الدينية على الإطلاق، ويعتمد الفصل فيها على مبادئ تختلف اختلافًا كاملًا … (التأكيد مضاف)33
الصورة، والحق يقال، تصعب رؤيتها بعض الشيء، ما دام الإسلام يختلف عن أي دين آخر في أنه يمثِّل كلَّ شيء أو يعني كل شيء. وأعتقد أن هذه المبالغة في وصف ظاهرة بشرية مبالغةٌ يتفرد الاستشراق بها. فالحياة نفسها — من السياسة إلى الأدب إلى الطاقة إلى النشاط إلى النمو — تعتبر دخيلة (في عين الغربي) على الصورة الكلية للشرق التي لا يتخيلها العقل. ومع ذلك فهو يرى أن الإسلام باعتباره «استكمالًا وثِقَلًا مقابلًا للحضارة الغربية»؛ شيء مفيد في شكله الحديث، وهذا هو لبُّ ما يقوله «جيب» عن الإسلام الحديث. فهو يقول «إن ما يحدث الآن بين أوروبا والإسلام، من أوسع زاوية تاريخية، هو عودة التكامل للحضارة الغربية التي تعرَّضت لتمزُّق مصطنع في عصر النهضة، ثم أصبحت تُعيد تأكيد وحدتها بقوة جبارة.»34
وعلى عكس «ماسينيون» الذي لم يحاول إخفاء تأملاته الميتافيزيقية، يقدم «جيب» أمثال هذه الملاحظات كما لو كانت معلومات موضوعية (وهي الفئة التي وجد أن «ماسينيون» يفتقر إليها)، لكننا نجد، مهما تكن المعايير التي نطبقها، أن معظم أعمال «جيب» العامة عن الإسلام أعمال ميتافيزيقية في الواقع، ولا يرجع ذلك فحسب إلى أنه يستخدم بعض المجردات مثل «الإسلام» استخدامًا يوحي بأن لها معنًى واضحًا ومتميزًا بل أيضًا إلى أنه لا يشير مطلقًا بوضوح إلى الزمان والمكان الحقيقيَّين اللذَين «يقع» فيهما «الإسلام» الذي يتحدث عنه. فإذا كان «يضع» الإسلام — مقتفيًا خُطا «ماكدونالد» — في «موقع» خارج الغرب قطعًا، فإنه، من ناحية أخرى، «يعيد التكامل» بين الإسلام والغرب. وقد صاغ مسألة التلاقي أو التبادل بين «الداخل والخارج» صياغة أوضح قليلًا في عام ١٩٥٥م حين قال إن الغرب لم يأخذ من الإسلام إلا تلك العناصر غير العملية التي كان الإسلام قد استقاها أصلًا من الغرب، وأما استعارة الغرب لقدر كبير من العلوم الطبيعية الإسلامية، فقد كان الغرب لا يتجاوز فيها تطبيق القانون الذي يقول «إن العلوم الطبيعية والتكنولوجيا … تقبل النقل دونما حدود.»35 والنتيجة النهائية التي يصل إليها هي الحكم بأن الإسلام ظاهرة تشغل المرتبة الثانية في مجال «الفن وعلم الجمال والفلسفة والفكر الديني» (ما دامت هذه مستقاة من الغرب)، وأما في مجال العلوم الطبيعية والتكنولوجيا، فلم يكن الإسلام في رأيه سوى قناة توصيل لعناصر لا يتفرد فيها الإسلام.
ويرى «جيب» أن أي إيضاح لماهية الإسلام تُحدِّده دائمًا هذه القيود الميتافيزيقية، والواقع أنه يُفصِّل القول في هذه المسائل إلى حدٍّ كبير في كتابَيه المهمَّين اللذَين أصدرهما في الأربعينيات، وهما: «التيارات الحديثة في الإسلام»، وكتاب: «الديانة المحمدية: استقصاء تاريخي». ففي كليهما يبذل «جيب» جهدًا كبيرًا في مناقشة الأزمة الحالية في الإسلام وفي تبيان مدى التعارض بين الكيان الأساسي الراسخ للإسلام وبين المحاولات الحديثة لتعديله. ولقد سبقت لي الإشارة إلى معاداة «جيب» لتيارات التحديث في الإسلام والتزامه الصارم بما يسمَّى المذهب الصحيح للإسلام، وحان لي أن أذكر تفضيل كلمة المحمدية على كلمة الإسلام (ما دام يقول إن الإسلام يقوم في الواقع على فكرة الخلافة النبوية التي وصلت إلى ذروتها في محمد) وأن أذكر تأكيده بأن العلم الرئيسي الإسلامي هو القانون، وهو الذي حلَّ في وقت مبكر محلَّ اللاهوت أو علم التوحيد الإسلامي. والغريب في هذه الأقوال هو أنها مقولات عن الإسلام لا تستند إلى أدلة داخلية في الإسلام بل إلى منطق تعمَّد صاحبُه أن يأتيَ به من خارج الإسلام، فلن تجد مسلمًا يدعو نفسه محمديًّا، ولن تجد مسلمًا، في حدود ما هو معروف، يرى بالضرورة أن القانون أهم من التوحيد، ولكن ما يفعله «جيب» هو أنه يُوقع نفسه كباحث علمي في تناقضات يصرح بها هو نفسه عندما يَصِل إلى موقف في «الإسلام» يرى فيه «انفصالًا مضمرًا بين الحركة الشكلية الخارجية وبين الحقائق الداخلية».36
والمستشرق إذن يرى أن مهمته تكمن في الإفصاح عن هذا الانفصال، ومن ثَم قول الحق عن الإسلام أو التعبير عن حقيقته التي لا يستطيع التعبير عنها، ما دامت تناقضاتُه تحدُّ من طاقته على معرفة نفسه. ومعظم الأقوال العامة التي يقولها «جيب» عن الإسلام تزجُّ في الإسلام بمفاهيم لا يستطيع الدين أو الثقافة، وفقًا لتعريفه الخاص، إدراكها؛ فيقول مثلًا: «إن الفلسفة الشرقية لم تقدِّر الفكرة الأساسية للعدالة في الفلسفة اليونانية في يوم ما.» وأما الجمعيات الشرقية فيقول إنها: «على عكس معظم الجمعيات الغربية، لم تكرِّس [نفسها] بصفة عامة لبناء منظمات اجتماعية ثابتة [أكثر من] بناء نظم مثالية للفكر الفلسفي.» ويقول إن الضعف الداخلي الرئيسي في الإسلام هو «انقطاع الارتباط بين المذاهب الدينية والطبقتَين العليا والمتوسطة في المجتمع الإسلامي».37 ولكن «جيب» يُدرك كذلك أن الإسلام لم يكن منعزلًا يومًا ما عن سائر العالم، وهكذا فإنه تعرض لسلسلة من حالات الانفصال الخارجي، والنقص، وقطع الارتباط بينه وبين العالم، وينتهي من ذلك إلى القول بأن الإسلام الحديث ثمرة من ثمار اتصال «غير متزامن» بين دين كلاسيكي وأفكار رومانسية غربية. وأن رد فعل الإسلام إزاء ذلك «الهجوم» كان يتمثل في إعداد «مدرسة» من المحدَثين أو الحداثيِّين الذين تكشف أفكارهم عن اليأس، وهي أفكار لا تناسب العالم الحديث، مثل المهدية، والقومية، وإحياء الخلافة. ومع ذلك فهو يقول إن ردَّ فعل «المحافظين» إزاء الحداثة لا يقلُّ تناقضًا مع الحداثة؛ إذ أدى إلى ظهور ضرب من العداء الشديد للتكنولوجيا. ولنا أن نسأل إذن «ما هو الإسلام» آخر الأمر، إذا كان يعجز عن قهر مظاهر الانفصال الداخلي فيه ويعجز أيضًا عن التعامل الصائب أو الناجع مع العوامل الخارجية المحيطة به؟ ولسوف نجد الإجابة في هذه الفقرة الأساسية من كتاب: «التيارات الحديثة»:

الإسلام دينٌ حيٌّ وحيوي، يخاطب ويجتذب القلوب والعقول والضمائر لعشرات ومئات الملايين؛ إذ يحدد لهم معايير حياة تعمرها الأمانة ويحكمها العقل وتهديها تقوى الله. وليس الإسلام هو الذي تحجر، بل ما يسمَّى بالصيغ «الصحيحة» له، أي لاهوته المذهبي وعلم الدفاع الاجتماعي عنه. وهذا هو موقع «الانفصال»، ومصدر الاستياء الذي تشعر به نسبة كبيرة من أكثر المؤمنين به تعليمًا وذكاءً، ومكمن الخطر الذي يتهدد المستقبل بأقصى درجة من الوضوح. ولن يستطيع أيُّ دين أن يقاوم التمزق آخر الأمر إذا استمرت الهوَّة قائمةً بين ما يفرضه على الإرادة وبين جاذبيته لأذهان أتباعه. وعدم ظهور مشكلة «الانفصال» عند غالبية المسلمين حتى الآن يبرر موقف علماء المسلمين من رفض الاندفاع إلى اتخاذ التدابير المتسرعة التي يُوصي بها الحداثيون، ولكن انتشار الحداثة نذير بأن قضية إعادة الصياغة لا يمكن إهمالها إلى أجل غير مسمى.

وفي إطار محاولة تحديد أصول وأسباب التحجر المذكور للصيغ الخاصة بالإسلام، ربما نستطيع أيضًا أن نجد مفتاح إجابة السؤال الذي يطرحه الحداثيون، وإن كانوا قد عجزوا حتى الآن عن إجابته، ألَا وهو كيف يمكن إعادة صياغة المبادئ الأساسية للإسلام دون المساس بعناصره الجوهرية.38

والجزء الأخير من الفقرة مألوف إلى حدٍّ بعيد؛ إذ إنه يوحي بقدرة المستشرق، وهي التي أصبحت طابعًا تقليديًّا، على إعادة بناء وإعادة صياغة الشرق، ما دام الشرق عاجزًا عن فعل ذلك بنفسه. وهكذا نرى أن الإسلام عند «جيب» يسبق إلى حدٍّ ما الإسلامَ الذي يمارسه الناس في الشرق أو يدرسونه أو يدعون إليه. ولكن إسلام المستقبل المشار إليه، ليس مجردَ وهمٍ من أوهام مستشرق نسجه من خيوط أفكاره، لكنه يقوم على «إسلام» قادر على اجتذاب جماعة المؤمنين كلهم، ما دام من المحال له أن يوجد في الواقع الفعلي. وأما السبب الذي يجعل «الإسلام» قادرًا على أن يوجد في صيغة استشراقية مستقبلية من نوع ما فهو أن الإسلام في الشرق يتعرض للاغتصاب والانتهاك في اللغة التي يستخدمها رجال الدين وهي اللغة التي تُفرض فرضًا على أذهان المجتمع. وما دام الإسلام صامتًا في جاذبيته ظل آمنًا، لكنه ما إن يبدأ رجال الدين المصلحون في تولِّي مهمتهم (المشروعة) لإعادة صياغة الإسلام كيما يستطيع دخول العصر الحديث، حتى تبدأ المتاعب. وتنحصر هذه المتاعب، بطبيعة الحال، فيما يسميه «الانفصال».

ويشير تعبير «الانفصال» في عمل «جيب» إلى أمر يزيد مغزاه كثيرًا عن افتراض وجود صعوبة فكرية في داخل الإسلام، وأعتقد أنه يشير تحديدًا إلى المزية الخاصة أو إلى الموقع الذي يضع المستشرق نفسه فيه حتى يكتب عن الإسلام ويُشرِّع له ويعيد صياغته. وفكرة «الانفصال» أبعد ما تكون عن الأمر الذي لمحه «جيب» مصادفة بل إنها المدخل المعرفي إلى موضوعه، وهي بعد ذلك برجُ المراقبة الذي يستطيع منه مشاهدة الإسلام في كل ما كتب وفي جميع المناصب ذات النفوذ التي شغلها. أي إن «جيب» كان يقف ويكتب ويُعيد الصياغة من موقع ما بين «الجاذبية الصامتة» للإسلام، وهي التي تستجيب لها جماعة من المؤمنين بالمذهب «الصحيح» لا يتميز أفرادها عن بعضهم البعض، وبين صورة الإسلام اللفظية، والتي لا تزيد على كونها لفظية، والتي يقدمها فريقٌ ضالٌّ من الدعاة السياسيِّين والكتبة اليائسين والمصلحين الانتهازيِّين، وكان يقول فيما يكتبه إمَّا ما لا يستطيع الإسلام أن يقوله أو ما لا يريد رجال الدين الإسلامي أن يقولوه. وكان ما يكتبه «جيب»، من ناحية معينة، يتقدم الإسلام زمنيًّا، بمعنى أنه كان يسمح بأن تأتيَ لحظة ما في المستقبل يستطيع الإسلام فيها أن يقول ما لا يستطيع الآن قولَه، ولكن كتابات «جيب» كانت، من زاوية أخرى مهمة، سابقة على دين الإسلام زمنيًّا باعتباره مجموعة متماسكة من العقائد «الحية»، ما دامت هذه الكتابات قد استطاعت إدراك «الإسلام» في صورة الجاذبية الصامتة للمسلمين قبل أن يصبح دينهم مثارًا للمجادلات أو الممارسات أو المناظرات الدنيوية.

يتميز عمل «جيب» إذن بالتناقض؛ فمن التناقض أن يتحدث المرء عن «الإسلام» لا بالصورة التي يتحدث بها عنه رجال الدين المؤمنون به ولا بالصورة التي كان يمكن أن يتحدَّث بها أتباعه من غير رجال الدين لو استطاعوا، ولكن هذا التناقض يطمسه إلى حدٍّ ما ذلك الموقف الميتافيزيقي الذي يسود عمله بل ويسود تاريخ الاستشراق الحديث كله، وهو الذي ورثه من أساتذته، مثل «ماكدونالد». إذ يتخذ الإسلام والشرق مكانة «خارج الواقع الفعلي»، ومكانةً مختزلة من الناحية «الظاهراتية»؛ أي من ناحية وجودها في الوعي، وهي التي لا يستطيع إدراكها إلا الخبير الغربي وحده. فمنذ بداية التأملات الغربية في الشرق والشرق لا يعجز إلا عن تمثيل ذاته. فالأدلة الخاصة بالشرق لا تقبل التصديق إلا إذا صهرَتها نيرانُ عملِ المستشرق وطهَّرَتها من الشوائب فأكسبَتها الصلابة. والأعمال الكاملة ﻟ «جيب» تزعم أنها تقدم الإسلام (أو المحمدية) كما هي الآن وأيضًا في الصورة التي قد تتخذها. وبالتعبير الميتافيزيقي يتحد الجوهر مع المحتمل، ولو لم يكن «جيب» يتخذ موقفًا ميتافيزيقيًّا ما كتب مقالَيه الشهيرَين «بناء الفكر الديني في الإسلام» و«تفسير للتاريخ الإسلامي» دون أن يكترث للتمييز بين المعرفة الموضوعية والمعرفة الذاتية في غضون نقده ﻟ «ماسينيون».39 وأقوال «جيب» عن «الإسلام» ذات نبرات ثقة واطمئنان تُوحي بالمهابة التي يُوحي بها أرباب اليونان. وهو لا يرى أي انفصال بين الصفحة التي يُسوِّدها والظاهرة التي تصفها هذه الصفحة، ولا يرى بينهما تفاوتًا؛ إذ يقول بنفسه إن كلًّا منهما يمكن اختزاله في الآخر. وعلى هذا النحو يتمتع «الإسلام» ووصف «جيب» له معًا بوضوح عقلاني هادئ، ويشتركان في عنصر واحد هو الصفحة المنمقة التي يُسوِّدها الباحث الإنجليزي.

وأنا أرى دلالة كبيرة لمظهر الصفحة التي يكتبها المستشرق باعتبارها شيئًا مطبوعًا، وأرى دلالة كبيرة للنموذج الذي ترمي إلى تقديمه. ولقد سبق لي الحديث في هذا الكتاب عن موسوعة «ديربيلو» المرتَّبة وفق الحروف الأبجدية، وعن الأوراق الهائلة العدد لكتاب «وصف مصر» وعن مذكرة «رينان» التي تجمع بين المختبر والمتحف، وعمَّا يحذفه «إدوارد لين» وما يقصُّه من قصص قصيرة في كتابه عن المصريين المحدثين، وعن المقتطفات التي أدرجها «ساسي» في منتخباته، وما إلى ذلك بسبيل. فهذه الصفحات علامات على صورة ما للشرق، وعلى صورة ما للمستشرق، مقدمة إلى القارئ. وتتمتع هذه الصفحات بنظام أو بمنطق يُتيح للقارئ أن يفهم «الشرق» بل وأن يفهم المستشرق أيضًا، بصفته مفسرًا، وعارضًا، وشخصية، ووسيطًا، وخبيرًا نموذجيًّا (ويمثل الخبرة). وهكذا استطاع «جيب وماسينيون» ببراعة تسويد صفحات تُلخص تاريخ الكتابة الاستشراقية في الغرب، بالصورة التي يتجسد فيها هذا التاريخ في أسلوب يختلف في تعميمه وفي تناوله للأماكن المختلفة، بعد أن تحول آخر الأمر إلى اتخاذ صورة موحدة في البحث العلمي الذي ينحصر في الكتابة عن فكرة واحدة؛ إذ نصادف عند «جيب وماسينيون» ما يسمَّى بالعيِّنة الشرقية، والتطرف الشرقي، والوحدة المعجمية الشرقية، والسلسلة الشرقية المتوالية الحلقات، والنموذج الشرقي، وهما يُخضعان ذلك كله لسلطة التحليل العقلاني التي تتمتع باليد الطولى وبأسلوب النثر الذي يسير في خط واحد لا يحيد عنه، والذي نراه في المقالات القصيرة والطويلة والكتب العلمية. وعلى امتداد الفترة التي شهدت إنتاجهما؛ أي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى أوائل الستينيات، تعرَّضت ثلاثة من الأشكال الرئيسية للكتابة الاستشراقية لتحول جذري، وهي شكل الموسوعة، وكتاب المنتخبات، والانطباعات الشخصية، بمعنى أن سلطة هذه الأشكال قد أُعيد توزيعها أو نشرها فيما بين أشكال أخرى، أو قُل إنها فقدت شكلها الأصلي تمامًا؛ إذ كان العمل فيها يحال إلى لجنة من الخبراء (كاللجنة التي وضعت دائرة المعارف الإسلامية، وتاريخ كيمبريدج للإسلام) أو يتحول إلى مستوى أدنى من مستويات «الخدمة» (مثل تعليم مبادئ اللغة الذي لا يُهيئ المتعلم للعمل في السلك الدبلوماسي، على نحو ما شهدناه في حالة منتخبات «ساسي»، ولكن لدراسة علم الاجتماع أو الاقتصاد أو التاريخ) أو يتحول إلى مجال الكشف المثير (وهو ما يتصل بالشخصيات أو بالحكومات لا بالمعرفة، و«لورنس» هو المثال الواضح على ذلك). لقد شهدنا كيف كان «جيب» يكتب بأسلوب ينمُّ بهدوء عن عدم اكتراث، وإن كان في حقيقته يعتمد على التتابع المنطقي العميق، ورأينا كيف كان «ماسينيون» يتمتع بملكة الفنان الفطرية، ولا يرى مغالاة في أي إشارة يأتي بها ما دامت تخضع لموهبته التفسيرية الفذة، ولقد تمكن هذان الباحثان من الدفع بما يتمتع به الاستشراق الأوروبي من سلطة، وهي التي تقوم في جوهرها على توحيد مذاهبها، إلى أقصى مدى تستطيع بلوغه. أما الواقع الجديد الذي ظهر في أعقابهما — وهو الأسلوب المتخصص الجديد — فكان، بصفة عامة، أنجلوأمريكيًّا، وكان، بصفة خاصة، يتمثل في لغة العلوم الاجتماعية الأمريكية. وفي هذا الواقع الجديد انقسم الاستشراق القديم إلى أجزاء كثيرة، لكنها ظلت جميعًا «تخدم» العقائد الاستشراقية التقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤