ثالثًا: الاستشراق الأنجلوفرنسي الحديث في أوج ازدهاره
لمَّا كنَّا قد اعتدنا اعتبار الخبير المعاصر في فرع من فروع دراسة الشرق أو في جانب من جوانب حياته متخصِّصًا في «دراسات المناطق»، فقد فقدنا إدراكنا «النابض» للنظرة السالفة إلى المستشرق، وهي النظرة التي استمرت حتى الحرب العالمية الثانية تقريبًا، والتي كانت تعتبره ذا قدرة على التعميم (إلى جانب ما يحيط به من معارف نوعية، بطبيعة الحال)، وترى أنه يتمتع بمهارات بلغَت ذروة نموها تمكِّنه من الإدلاء بأقوال «إجمالية» أو تلخيصية، وأعني بها أنه عندما يقوم بصياغة فكرة بسيطة نسبيًّا، ولنَقُل عن النحو العربي أو الدين الهندي، يقول كلامًا يُفْهم منه (ويَفْهم هو منه) أنه يقول عن الشرق ككل، بحيث تلخصه تلخيصًا. وهكذا فإنَّ كلَّ دراسة مفردة عن «قطعة» من المادة الشرقية تؤدي إلى تأكيد عمق الطابع الشرقي لهذه المادة بصورة موجزة. ولمَّا كان الاعتقاد الشائع هو أن عناصر الشرق كلها يرتبط بعضها بالبعض بصورة عضوية عميقة؛ أصبح من المنطقي تمامًا، من الزاوية التفسيرية، أن ينتهيَ المستشرق من بحثه إلى أن الأدلة المادية التي يعالجها تؤدي في نهاية المطاف إلى تفهُّم أفضل لبعض الظواهر مثل الشخصية الشرقية، أو العقل الشرقي، أو أخلاق الشرق وعاداته أو روح عالمه.
ولقد شُغِلتُ في معظم الفصلين الأولين من هذا الكتاب بتقديم حجج مماثلة بشأن الفترات التي سبقت هذه الفترة في تاريخ الفكر الاستشراقي. وأما التمييز الذي يهمُّنا هنا (ويجب أن نقوم به) في هذه الفترة الأخيرة من تاريخ هذا الفكر فهو التمييز بين الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى مباشرة، والفترة التي تلَتها مباشرة. وفي كلتا الحالتين، شأنهما شأن الفترات الأسبق، كان الشرق يوصف بأنه شرقي وحسب، مهما يكن الموضوع المحدد المطروح، ومهما يكن الأسلوب أو فن الصنعة المستخدم في وصفه، ولكن الفترتين المشار إليهما تختلفان في السبب الذي يقدِّمه المستشرق لرؤية الطابع الشرقي الجوهري للشرق. وسوف نجد مثالًا طيبًا لهذا السبب في الفقرة التالية التي كتبها «سنوك هيرجرويني»، في المراجعة التي كتبها عام ١٨٩٩م لكتاب الكاتب «إدوارد ساخاو» بعنوان: «القانون المحمدي»، ويقول فيه:
أي إن هيرجرويني يسمح لمفهوم تجريدي مثل «القانون الإسلامي» بأن يستسلم أحيانًا لضغوط التاريخ والمجتمع، ولكنه رغم ذلك أقرب إلى الاهتمام بالإبقاء على ذلك التجريد لفائدته الفكرية؛ لأن «القانون الإسلامي»، بخطوطه العريضة، يؤكد التفاوت ما بين الشرق والغرب. لم يكن التمييز بين الشرق والغرب عند «هيروجرويني» مجردَ قالب لفظي أكاديمي أو شعبي، بل على العكس؛ إذ كان يعني له علاقة القوة الجوهرية والتاريخية بين الجانبين، والمعرفة بالشرق قد تُثبت أو تزيد أو تُعمِّق «الفرق» الذي مكَّن السيطرة الأوروبية (وهذه العبارة تنحدر من أصول عريقة في القرن التاسع عشر) من أن تمتدَّ امتدادًا فعالًا في آسيا. وإذن فإن معرفة الشرق بصفة عامة معرفة تقوم على «التكليف» بالحفاظ على الشرق، إن كان صاحب الشأن غربيًّا.
ونجد فقرة مناظرة تقريبًا لما يقوله «هيرجرويني»، وهي الفقرة الختامية في مقال «جيب» عن «الأدب» في كتابه: «تركة الإسلام» المنشور عام ١٩٣١م؛ إذ إنه — وبعد أن يَصِف ثلاثة لقاءات عارضة بين الشرق والغرب حتى القرن الثامن عشر — يَصِل في حديثه إلى القرن التاسع عشر قائلًا:
وعبارة «جيب» «في ذاته ومن أجله» تتناقض تناقضًا صارخًا مع حلقات الأسباب التي يعتبرها «هيرجرويني» ثانويةً بالقياس إلى ما يُعلنه من السيطرة الأوروبية على الشرق. ومع ذلك، فإنه يحافظ على تلك الهوية الشاملة، والتي يبدو أن المساس بها محرم، لشيء يسمَّى «الشرق» وشيء آخر يسمَّى «الغرب». وهذان الكيانان يفيدان بعضهما البعض، والواضح أن مقصد «جيب» وهو مقصد حميد، يتمثل في أنه لا يوجد ما يدعو إلى اعتبار تأثير الأدب الشرقي في الأدب الغربي (من زاوية ثماره) من باب ما أطلق عليه «برونتيير» تعبيرَ «الفضيحة القومية». فهو يقول إن الأحرى بنا أن نُواجه الشرق، باعتبار ذلك ضربًا من التحدي الإنساني للحدود المحلية للمركزية العرقية الغربية.
لقد اختلفت الأسس التي ينطلق منها «جيب» اختلافًا كبيرًا عن الأسس التي كان ينطلق «هيرجرويني» منها، مثلما اختلفَت أولوياتهما؛ إذ لم يَعُد من الممكن لأحد أن يقبل، دون جدل شديد، القول بأن سيطرة أوروبا على الشرق تكاد تكون من حقائق الطبيعة، بل ولم يَعُد أحدٌ يفترض أن الشرق كان في حاجة إلى التنوير الغربي: كانت القضية المهمة في سنوات ما بين الحربين؛ قضيةَ وضعِ تعريف ثقافي للذات يتجاوز النظرة الإقليمية وكراهية الأجانب. فكان «جيب» يرى أن الغرب يحتاج إلى الشرق باعتباره موضوعًا يُدرس؛ لأنه يُحرِّر الروح من قيود التخصص العقيم، ويُخفِّف من آلام التطرف في الأنانية الضيقة النظرة وفي الوطنية، ويزيد من إدراك المرء للقضايا الأساسية الحقيقية في دراسة الثقافة. فإذا زاد اعتبار الشرق شريكًا في هذه الجدلية التي نشأت حديثًا؛ أي جدلية الوعي الثقافي بالذات، فلذلك سببان؛ الأول: أن الشرق قد أصبح أقربَ إلى تمثيلِ لونٍ من التحدي للغرب عمَّا كان عليه من قبل، والثاني هو أن الغرب مقبلٌ على مرحلة جديدة نسبيًّا، وهي مرحلة الأزمة الثقافية، والتي ترجع، إلى حدٍّ ما، إلى تقلص السيطرة الغربية على سائر مناطق العالم.
كثيرًا ما أشرتُ في هذا الكتاب إلى الإحساس بالغربة الذي يشعر به المستشرقون الذين يتناولون أو يعيشون في كنف ثقافة تختلف اختلافًا عميقًا عن ثقافتهم. والواقع أن أحد الاختلافات البارزة بين الاستشراق، في صورته الإسلامية، وبين جميع المباحث الإنسانية الأخرى التي تنطبق عليها إلى حدٍّ ما أفكار «أوِرْباخ» عن ضرورة الغربة؛ هو أن المستشرقين الإسلاميِّين لم يكونوا يرَون على الإطلاق أن غربتهم عن الإسلام غربةٌ «صحية» أو موقف يؤدي إلى تفهُّم ثقافتهم فهمًا أفضل. ولكن غربتهم عن الإسلام اقتصرت على تعميق إحساسهم بتفوق الثقافة الأوروبية، حتى مع اتساع نطاق نفورهم ليشمل الشرقَ كلَّه؛ إذ كانوا يرَون أن الإسلام يمثِّل الشرق تمثيلًا متدنيًا (وذا خطر فتاك). وسبق لي أن قلت أيضًا إن أمثال هذه الاتجاهات الفكرية أصبحت من العناصر التي ساهمت في تشكيل تقاليد الدراسات الاستشراقية نفسها على امتداد القرن التاسع عشر كله، وغدَت على مرِّ الزمن عنصرًا ثابتًا من عناصر إعداد معظم المستشرقين علميًّا، ينقله كلُّ جيل إلى الجيل التالي. كما أنني أرجِّح ترجيحًا شديدًا أن الباحثين الأوروبيِّين قد استمروا ينظرون إلى الشرق الأدنى من منظور «أصوله» الواردة في الكتاب المقدس؛ أي باعتباره ذا مكانة دينية رفيعة مؤثرة ولا تتزعزع. ولمَّا كان الإسلام يتميز بعلاقة خاصة مع المسيحية واليهودية، فلقد ظل يمثِّل في نظر المستشرق فكرة (أو نمط) الوقاحة الثقافية الأصيلة، وهي النظرة التي تفاقمت، بطبيعة الحال، بسبب الخوف من أن تكون الحضارة الإسلامية قد استمرت بصورتها الأصلية (بل والمعاصرة أيضًا) في الوقوف موقف المعارضة على نحو ما للغرب المسيحي.
ولهذه الأسباب مجتمعة ظل الاستشراق الإسلامي فيما بين الحربين يشارك في الجو العام للأزمة الثقافية التي ألمح إليها «أورباخ» وغيره ممن تحدَّثت عنهم بإيجاز، دون أن يتطور، في الوقت نفسه، بالأسلوب الذي تطورت به سائر العلوم الإنسانية. ولمَّا كان الاستشراق الإسلامي قد احتفظ أيضًا في داخله بالموقف الديني المثير للجدل بصفة خاصة، وهو الموقف الذي تميز به منذ البداية، فقد ظل لا يحيد عن مسارات منهجية ثابتة، إن صح هذا التعبير. فمن ناحية معينة، كان لا بد من الحفاظ على اغترابه الثقافي عن التاريخ الحديث وعن التنقيحات الضرورية التي تفرضها المعلومات الجديدة على أي «نمط» نظري أو تاريخي. ومن ناحية أخرى كانت النظرة السائدة ترى أن التجريدات التي يُقدمها الاستشراق (أو فرصة طرح التجريدات) في مجال الحضارة الإسلامية قد اكتسبت صحة جديدة؛ أي أصبحت عندئذٍ صحيحة؛ لأنه لما كان من المفترض أن الإسلام «يعمل» بالأسلوب الذي وصفه المستشرقون (دون الرجوع إلى الواقع الفعلي بل استنادًا فحسب إلى مجموعة من المبادئ «الكلاسيكية») فقد كان من المفترض أيضًا أن الإسلام الحديث لن يزيد على كونه صورة أُعيد تأكيدها للإسلام القديم؛ إذ كان من المفترض أيضًا أن الإسلام لم يكن يرى في الحداثة تحدِّيًا بقدر ما يرى فيها سُبَّةً وإهانة (ونقول بالمناسبة إن العدد البالغ الكثرة من الافتراضات في هذا الوصف كان يرمي إلى تصوير المنحنيات الشاذة إلى حدٍّ ما التي كان على الاستشراق أن يسير فيها حتى يحافظ على أسلوبه الخاص الغريب في رؤية الواقع البشري). وأقول أخيرًا إنه إذا كان الطموح الذي يتجلَّى في التجميع والضم في فقه اللغة (على نحو ما كان يتصوره أورباخ أو كورتيوس) قد أدَّى إلى توسيع نطاق وعي الباحث، وإدراكه للأخوة بين أبناء البشر، وللطابع العام العالمي لبعض مبادئ السلوك البشري، فإن هذا التجميع والضم في حالة الاستشراق الإسلامي قد أدَّى إلى زيادة تأكيد الإحساس بالاختلاف بين الشرق والغرب، وهو الذي يبيِّنه الإسلام.
كان الولع بالآثار، والقائم على الجدل، وهو الذي يصفه «كَسْت»، يُعتبر إلى حدٍّ ما صورة «بحثية» أو أكاديمية للعداء الأوروبي للسامية. بل إن إطلاق صفة «السامية الحديثة» على هذا المجال بحيث تشمل المسلمين واليهود معًا (وهي التي ترجع أصولها إلى المجال السامي القديم الذي كان رينان أول مَن ارتاده) يرفع رايته العنصرية بأسلوب قُصد به التظاهر بالتأدب. ويشرح «كَسْت» بعد ذلك بقليل في تقريره كيف أن «الإنسان الآري كان موضوعًا حظيَ بتأملات كبيرة» في ذلك الاجتماع. والواضح أن صفة «الآري» كانت تمثِّل التجريد المضاد «للسامي»، ولكن المستشرقين كانوا يرون، لبعض الأسباب التي أوضحتُها آنفًا، أن أمثال هذه الأوصاف الوراثية العريقة أنسبُ بصفة خاصة للساميِّين، ويزخر تاريخ القرن العشرين بالأدلة التي تُثبت ما جرَّه ذلك من عواقب وخيمة على البشرية جمعاء، وهي عواقب أخلاقية وإنسانية وخيمة. ولكن الذي لم يؤكده التأكيد الكافي مؤرخو معاداة السامية في العصر الحديث هو أن الاستشراق قد أضفى طابع الشرعية على أمثال هذه الأوصاف الوراثية العريقة، وكذلك — وهو الأهم لما أرمي إليه في هذا الكتاب — مدى استمرار إضفاء هذه الشرعية الأكاديمية والفكرية عليها في جميع مراحل مناقشات الإسلام أو العرب أو الشرق الأدنى في العصر الحديث. فإذا لم يَعُد من الممكن لأحد أن يكتب كتاباتٍ علميةً متخصصة (أو حتى شعبية) عن «الذهن الزنجي» أو عن «الشخصية اليهودية»، فمن المتاح بيسر أن يقوم البعض ببحوث في موضوعات مثل «العقل الإسلامي» أو «الشخصية العربية»، لكننا سوف نقول المزيد في هذا الموضوع فيما بعد.
وهكذا فإذا أردنا الفهم الصحيح للسلالة الفكرية التي ينحدر منها الاستشراق الإسلامي في فترة ما بين الحربَين العالميَّتَين — بأكملِ وأهمِّ صورِه التي تتجلَّى في الحياة العملية للباحث الفرنسي «ماسينيون» والإنجليزي «جيب» — فعلينا أن نفهم الفرق بين الموقف «التلخيصي» الذي يتخذه المستشرق إزاء مادته وبين موقف آخر يشترك معه في أوجهِ شَبَهٍ ثقافية كثيرة، ألَا وهو الموقف الذي يتجلَّى في عمل بعض فقهاء اللغة مثل «أوِرْباخ» و«كورتيوس». فالواقع أن الأزمة الفكرية في الاستشراق الإسلامي كانت تمثِّل جانبًا آخر من جوانب الأزمة الروحية «للمرحلة المتأخرة من المذهب الإنساني البروجوازي»، ولكن الاستشراق الإسلامي كان في شكله وأسلوبه يرى أن مشكلات البشرية يمكن تقسيمها إلى فئتين تُسمَّيان «الشرقي» و«الغربي». وكان المعتقد إذن أن الشرقي لا ينظر نظرة الغربي إلى قضايا التحرر والتعبير عن الذات والتوسع، وكان المستشرق الإسلامي يعبر عن أفكاره عن الإسلام بصورة تؤكد مقاومته، إلى جانب افتراض مقاومة المسلم، للتغيير وللتفاهم المتبادل بين الشرق والغرب، وللتنمية والتطور الكفيلَين بإخراج الرجال والنساء من حيز المؤسسات العتيقة البدائية إلى رحاب الحداثة. بل لقد بلغ من ضراوة هذه المقاومة للتغيير، وبلغ مما يُنسب إليها من قوة عالمية، أن غدَا مَن يقرأ كلام المستشرقين يتصور أن الانقلاب الذي يُخشى وقوعه لا يتمثل في دمار الحضارة الغربية بل في إزالة العوائق التي تفصل بين الشرق والغرب. وعندما أبدى «جيب» معارضتَه للنزعة القومية في الدول الإسلامية الحديثة، كان دافعه إدراكه أن القومية تؤدي إلى تداعي الأبنية الداخلية التي تحافظ على الطابع الشرقي للإسلام؛ إذ إن النتيجة النهائية للقومية العلمانية هي إزالة الاختلاف بين الشرق والغرب. ويرجع الفضل إلى طاقة «جيب» الفذة على التعاطف الذي يبلغ حدَّ التوحد مع دين أجنبي في أنه استطاع أن يصوغ اعتراضه على النزعة القومية بأسلوب يُوحي في الظاهر بأنه يتحدث باسم المجتمع الإسلامي المؤمن بالعقيدة الصحيحة. وأما السؤال عن مدى ما كان ذلك يمثله من ارتداد إلى العادة الاستشراقية القديمة؛ أي عادة التحدث باسم أهالي الشرق وعن مدى ما كان يمثله من محاولة مخلصة للدعوة إلى ما فيه مصلحة الإسلام، فهو سؤال تقع الإجابة عنه في موقع ما بين هذين البديلين.
إنَّ الاهتمام السياسي الذي يربط إنجلترا بالهند يجعل النشاط البريطاني مقصورًا على الاتصال المستمر بالحقائق العملية، ويحافظ على التماسك بين كلِّ ما يمثِّل الماضي وبين مشهد الحاضر.
وقد يسهل القول بأن هذا التقسيم إلى قطبَين معناه أن أحدهما يؤدي إلى العمل العقلاني المتسم بالكفاءة والطابع العملي وأن الآخر يؤدي إلى عمل ذي طابع عام عالمي، تأملي، نابه، متألق، ومع ذلك فإن هذه القطبية توضِّح لنا طابع الحياة العملية الطويلة والمتميزة إلى حدٍّ بعيد لكلٍّ من «جيب» الإنجليزي و«ماسينيون» الفرنسي، وقد ساد طابعُ عملِ الأول الاستشراق الإسلامي الأنجلوأمريكي مثلما ساد طابعُ عملِ الثاني الاستشراق الإسلامي الفرنسي، وذلك في الحالتين حتى الستينيات من القرن العشرين. وإذا كان ما وصفته «بالسيادة» يدل على شيء ما، فإن السبب هو أنَّ كلَّ باحث منهما كان يستلهم ويعمل في إطار تقاليد واعية تخضع لضوابط (أو لحدود فكرية وسياسية) ينطبق عليها وصفُ «ليفي» الذي أوردتُه آنفًا.
وُلد «جيب» في مصر، ووُلد «ماسينيون» في فرنسا، وقد كُتب لكلٍّ منهما أن يتسم بالتدين العميق، وأن يصبح دارسًا للحياة الدينية في المجتمع أكثر منه دارسًا للمجتمع وحسب، وكان كلاهما أيضًا مشغولًا انشغالًا عميقًا بشئون الدنيا، وكان من أعظم منجزاتهما الانتفاع بالبحث العلمي التقليدي في دنيا السياسة الحديثة. ومع ذلك فقد كان نطاقُ عملِ كلٍّ منهما — بل وأكاد أقول نسيج العمل نفسه — يختلف اختلافًا شاسعًا عن صاحبه، حتى ولو أدخلنا في حسابنا ألوانَ التفاوت الواضحة بين تعليمِ كلٍّ منهما وتربيته الدينية. ولقد وقف «ماسينيون» حياته على دراسة أعمال «الحلاج»، حتى لقد قال عنه «جيب» في النعي الذي كتبه له في عام ١٩٦٢م إنه «لم يتوقف قط عن استشفاف آثاره في الكتابات الأدبية والدينية الإسلامية المتأخرة.» وكان نطاق عمل «ماسينيون» لا يكاد يعرف الحدود، ويكاد يجوب به كل الأصقاع حيثما وجد الشواهد على «روح الإنسان التي تتخطَّى المكان والزمان». وكان عمل «ماسينيون» قد اتسع فأصبح «يشمل كلَّ جانب ومجال في حياة المسلم المعاصر وفكره»، بحيث أصبح وجودُه في مباحث الاستشراق يمثِّل تحدِّيًا دائمًا لزملائه، ولا شك أن «جيب» كان معجبًا بالنهج الذي سار فيه «ماسينيون»، وإن كان قد هجره آخر الأمر، وهو النهج الذي دفعه إلى أن ينشد:
موضوعات تربط، بصورة ما، الحياة الروحية للمسلمين بالكاثوليك [ومكَّنه من أن يجد] عناصر تقريب بينهما في تبجيل «فاطمة الزهراء»، ومن ثَم مجالًا خاصًّا ومهمًّا في دراسة الفكر الشيعي في الكثير من تجلياته، وأيضًا في جماعة ممن يدينون بعقائد ترجع أصولها إلى دين «إبراهيم الخليل»، وبعض الموضوعات الأخرى مثل قصة أهل الكهف. وقد أضفى على كتابته في هذه الموضوعات سماتٍ معينةً جعلَتها تكتسب أهميةً دائمة في الدراسات الإسلامية. ولكن هذه السمات نفسها قد جعلَت كتاباته تنتمي إلى «طبقتَين صوتيَّتَين» مختلفتَين، إن صح هذا المجاز: «الطبقة» الأولى تمثِّل المستوى العادي للبحث العلمي الموضوعي، وهو المستوى الذي يحاول فيه الباحث شرحَ طبيعة ظاهرة من الظواهر من خلال الاستعمال البارع لأدوات البحث العلمي. و«الطبقة الصوتية» الثانية تمثِّل استيعاب وتحويل المعلومات الموضوعية والفهم الموضوعي إلى شيء آخر من خلال التعليم الفردي ذي الأبعاد الروحية. ولم يكن من اليسير في جميع الأحوال رسمُ خطٍّ فاصل يميز بين «الطبقة الصوتية» الأولى وبين التحول الناشئ عن تدفق ما تزخر به شخصيته من ثراء.
ويُلمح «جيب» هنا إلى أنه من الأرجح أن يميل الكاثوليك أكثر من البروتستانت إلى دراسة ظاهرة «تبجيل فاطمة الزهراء»، لكنه يقول بوضوح قاطع: إنه لا ينبغي تشويش التمييز بين الدراسة «الموضوعية» وبين الدراسة القائمة على «التعليم الفردي ذي الأبعاد الروحية» (حتى وإن كانت عميقةً مفصلة). ولكن «جيب» كان مصيبًا عندما أقر، في الفقرة الآتية من نعيه «بخصب» الذهن الذي يتمتع به «ماسينيون» في موضوعات شتى مثل «رمزية فنون المسلمين، وبناء منطق المسلمين، والأشكال العويصة للشئون المالية في العصور الوسطى، وتنظيم شركات الحرفيِّين»، كما أصاب أيضًا، فيما يلي ذلك مباشرة، عندما قال إن اهتمام «ماسينيون» المبكر باللغات السامية قد أدَّى إلى وضع «دراسات مقتضبة تكاد تنافس في عيون غير المتخصص أسرار علوم السحر «الهرمسية» القديمة». ومع ذلك فإن «جيب» يُنهي نعيَه نهايةً تنمُّ عن كرم النفس، قائلًا:
كان ذلك، ولا شك، يمثِّل أعظمَ إنجازٍ قدَّمه «ماسينيون»، والصحيح أن علوم الإسلام المعاصرة (أو الإسلاميات، كما تسمَّى أحيانًا) قد نشأَت فيها، وترعرعَت بعض التقاليد التي تقوم على التعاطف أو «التوحد» مع «القوى الحيوية» التي تغذو «الثقافة الشرقية»، ويكفي أن نُشيرَ إلى المنجزات الفذة لبعض الباحثين من أمثال «جاك بيزك، ومكسيم رودنسون، وإيف لاكوست، وروجيه أرلانديه» — على اختلافهم الشاسع في المنهج والمقصد — حتى ندهش لوضوح تأثير «ماسينيون» الفكري فيهم، باعتباره المثال الأول في هذا الصدد.
ومع ذلك فإن اختيار «جيب» تركيز ملاحظاته؛ وإن كانت تكاد تعتمد على «الطرائف» على شتى مناحي قوة «ماسينيون» وضعفه؛ جعلَته يُغفل بعض الملامح الواضحة في حياة «ماسينيون» وهي الملامح التي تجعله يختلف اختلافًا شاسعًا عن «جيب»، ومع ذلك تجعله — بصفة عامة — رمزًا ناضجًا لمثل ذلك التطور البالغ الأهمية في الاستشراق الفرنسي. ومن هذه الملامح «خلفية» «ماسينيون» الشخصية، وهي تُصور تصويرًا بديعًا بساطةَ صدقِ الوصف الذي قدَّمه «ليفي» للاستشراق الفرنسي. إذ إن فكرة «روح الإنسان» في ذاتها كانت غربيةً إلى حدٍّ ما عن الخلفية الفكرية والدينية التي نشأ فيها «جيب»، مثل الكثيرين من المستشرقين البريطانيِّين المحدثين: فنحن نرى أن فكرة «الروح» عند «ماسينيون»، باعتبارها حقيقةً جمالية ودينية وأخلاقية وتاريخية، كانت فكرةً تغذو كيانه منذ الطفولة. وكانت أسرته تتصل حبالُ الودِّ بينها وبين بعض الكُتَّاب الفرنسيِّين مثل «هايسمان»، ويتضح في كلِّ ما كتبه «ماسينيون» تقريبًا تأثير تعليمه المبكر في البيئة الفكرية والأفكار الخاصة بالمرحلة الأخيرة من الحركة الرمزية الفرنسية، بل وحتى ذلك النوع الخاص من الكاثوليكية (والصوفية) الذي كان يُولِيه اهتمامه. ونحن لا نجد آثارَ أيِّ قصد في التعبير أو أي ضيق في البيان في كتابات «ماسينيون»، بل إن أسلوبه من أعظم الأساليب الفرنسية في القرنِ كلِّه، وكانت أفكاره بشأن الخبرة الإنسانية تستقي الكثير من المفكرين والفنانين المعاصرين له، والواقع أن النطاق الثقافي البالغ الاتساع لأسلوبه نفسه هو الذي يضعه في مرتبة تختلف كلَّ الاختلاف عن مرتبة «جيب». وكانت أفكاره الأولى قد نبعَت من الفترة التي تُطلق عليها صفة التدهور الجمالي، ولكنها كانت تدين أيضًا بدَين ما إلى كتابات مثل كتابات «برجسون ودوركهايم وماوس»، وجاء أول اتصال له بالاستشراق من طريق «رينان»، بعد أن استمع إلى محاضراته في شبابه، وكان أيضًا من تلاميذ «سليفان ليفي»، كما أصبحت دائرةُ أصدقائه تضمُّ بعض الكبار؛ مثل «بول كلوديل، وجابرييل بونور، وجاك ماريتان ورايسة ماريتان، وشارل دي فوكوه»، واستطاع في وقت لاحق أن يستوعب كلَّ ما أُنجز من عمل في بعض المجالات الحديثة نسبيًّا مثل علم الاجتماع المدني، واللغويات البنيوية، والتحليل النفسي، والأنثروبولوجيا المعاصرة، والتاريخ الجديد. ويبدو في مقالاته، ناهيك بدراسته الضخمة المهمة عن الحلاج، يُسْرُ انتفاعه بجميع الكتابات الإسلامية، وأحيانًا ما يبدو «ماسينيون» — بسبب تبحُّره العلمي الحافل بالألغاز وشخصيته التي تكاد تتصف بالألفة — باحثًا ابتدعه خيالُ الكاتب الأرجنتيني «خورخي لويس بورجيس»، وكان يتميز بحساسيته الشديدة للموضوعات «الشرقية» في الأدب الأوروبي التي كان يهتمُّ بها «جيب» كذلك، ولكنه كان يختلف عن «جيب» في أنه (أي ماسينيون) لم يجتذبه في المقام الأول الكُتَّاب الأوروبيون الذين قالوا إنهم «يفهمون» الشرق، ولا اجتذبَته النصوص الأوروبية التي كانت تمثِّل تأكيدات فنية مستقلة لما كشف عنه علماء الاستشراق المتأخرون (انظر مثلًا اهتمام جيب بالروائي سكوط كمصدر لدراسته عن صلاح الدين الأيوبي)، فالواقع أن «الشرق» عند «ماسينيون» كان يتفق اتفاقًا كاملًا مع عالم أهل الكهف أو صلوات أتباع ملة «إبراهيم الخليل» (وهما المثلان اللذان أشار إليهما «جيب» ليُدلِّل بهما على خصائص نظرة ماسينيون غير التقليدية للإسلام)، بمعنى أن الشرق لديه كان يدور خارج الفلك المألوف، غريبًا إلى حدٍّ ما، وقادرًا على الاستجابة الكاملة لمواهب «ماسينيون» في التفسير، وهي المواهب الخلابة التي استغلها في «تفسير» الشرق (والتي جعلَته، بمعنًى من المعاني، موضوعًا للدرس). فإذا كان «جيب» يحبُّ صورة «صلاح الدين» عند «سكوط»، فإن «ماسينيون» كان لديه ولعٌ مناظرٌ لهذا الحب بالكاتب «نيرفال»، باعتباره نموذجًا انتحاريًّا، و«شاعرًا ملعونًا»، ومثالًا للغرابة السيكلوجية. وليس معنى هذا أن «ماسينيون» كان أساسًا دارسًا للماضي، فعلى العكس من ذلك كان يتمتع بحضور بارز في العلاقات الإسلامية الفرنسية، في السياسة وفي الثقافة معًا. ومن الواضح أنه كان مشبوبَ العاطفة، يؤمن بإمكان اختراق عالم الإسلام، لا من طريق الدراسة العلمية فحسب، بل بتكريس النفس لجميع أنشطة ذلك العالم، ولم يكن أقلها أهمية عالم المسيحية الشرقية داخل عالم الإسلام، وكان «ماسينيون» يُشجع بحرارة إحدى جماعاتها الفرعية، وهي جمعية البدلية الخيرية الكاثوليكية.
لا يستطيع الباحث، ولو كان «ماسينيون» نفسه، أن يقاوم ضغوطَ أمته عليه أو ضغوط التقاليد العلمية التي يعمل في إطارها. وهكذا كان «ماسينيون»، فيما يبدو، يقوم — في جانب كبير مما قاله عن الشرق وعلاقته بالغرب — بتنقيح أفكار غيره من المستشرقين الفرنسيِّين وتكرارها في الوقت نفسه. ومع ذلك فعلينا أن نُسلِّم بأن التنقيحات، والأسلوب الشخصي، والعبقرية الفردية قد تنجح في النهاية في تجاوز القيود السياسية التي تعمل على المستوى غير الشخصي من خلال التقاليد والبيئة الوطنية. ومع ذلك، فعلينا أن نُدرك أن أفكار «ماسينيون» عن الشرق، ظلت، في اتجاه معين، تنتمي انتماءً كاملًا إلى النزعة التقليدية والاستشراقية، على الرغم مما تتميز به من طابع شخصي وغرابة باهرة؛ إذ كان يرى أن الشرق الإسلامي يتميز بالروحانية، وبالسمات السامية والقَبَليَّة، وبالإيمان المتأصل بالتوحيد، وبالاختلاف عن الجنس الآري، وهذه الصفات تُشبه قائمةً للأوصاف الأنثروبولوجية التي شاعَت في أواخر القرن التاسع عشر. وكان يبدو أن الخبرات الدنيوية نسبيًّا — مثل خبرات الحرب، والاستعمار والإمبريالية والظلم الاقتصادي والحب والموت والتبادل الثقافي — تمرُّ في عينَي «ماسينيون» من خلال عدسات ميتافيزيقية، أو من عدسات تسلب الإنسان إنسانيته في آخر المطاف، فهو يَصِف هذه الخبرات بأنها سامية أو أوروبية أو شرقية أو غربية أو آرية، وهلمَّ جرًّا. وكانت هذه الفئات تبني عالمه وتحقِّق ما كان يقول إنه ضرب من الإدراك العميق، في نظره على الأقل. وأما في الاتجاه الآخر فقد نجح «ماسينيون» في الوصول إلى موقع خاص يتميز به في خضمِّ الأفكار المفردة التي تتسم بالتفاصيل البالغة الكثرة التي تزخر بها دنيا العلماء؛ إذ إنه أعاد تشكيل صورة الإسلام ودافع عنه ضد أوروبا وضد ما يزعم البعض أنه صورته الصحيحة أيضًا، وكان هذا التدخل — فلقد كان تدخُّلًا حقًّا — في شئون الشرق، باعتباره محرِّكًا وبطلًا، يرمز إلى قبوله الخاص لاختلاف الشرق، وللجهود التي كان يبذلها في سبيل تغييره حتى يكتسب الصورة التي يريدها له. ونحن نلحظ أن هاتَين النزعتَين معًا — أي إرادة السيطرة على الشرق بالمعرفة وإرادة تحقيق الخير له بالمعرفة أيضًا — ذواتَا قوة بالغة عند «ماسينيون». والصورة التي يرسمها «للحلاج» تمثِّل هذه الإرادة خيرَ تمثيل. إذ إن الأهمية المبالغ فيها — والتي يُوليها «ماسينيون للحلاج» — تعني أولًا أن هذا الباحث قد قرر أن يُعليَ من شأن فرد واحد فيرفعه فوق مستوى الثقافة التي غذته، وتعني ثانيًا أن «الحلاج» قد تحوَّل إلى رمز للتحدي الدائم للمسيحي الغربي، بل ومصدر مضايقة له، وهو الذي لم تكن العقيدة تعني له (وربما من المحال أن تعني له) ما تعنيه للصوفي من التضحية القصوى بالذات. وفي أيٍّ من هاتين الحالتين، كان القصد من تصوير «ماسينيون للحلاج»، دون مبالغة، تجسيد أو تجسيم قِيَم المذهب الرئيسي للعقيدة الإسلامية، وهو المذهب الذي ما وصفه «ماسينيون» أساسًا إلا للتحايل عليه والدوران حوله من خلال «الحلاج».
والصور التي تمثِّل الاستشراق في الثقافة الأوروبية تتصف بما نستطيع أن ندعوه الاتساق المنطقي، وهو اتساق لا يتميز فحسب بما له من تاريخ بل أيضًا بوجود مادي (مؤسسي) وعلى نحو ما ذكرت عن «رينان»، فلقد كان هذا الاتساق شكلًا من أشكال الممارسة الثقافية أو نظامًا من الفرص المتاحة لوضع المقولات عن الشرق. وما أقوله بشأن هذا النظام لا ينحصر في كونه تصويرًا يُسيءَ تمثيل «جوهر» مفترض للشرق — إذ لا أعتقد مطلقًا أن للشرق أي «جوهر» — ولكن مرماي هو أن هذا التصوير «التمثيلي» يعمل في سبيل تحقيق غرض ما، شأنه في ذلك شأن كل تصوير «تمثيلي» عادةً، كما أنه يعمل وفقًا لاتجاه معين، وفي إطار تاريخي وفكري بل واقتصادي محدد. وأقول بتعبير آخر إن الصور التمثيلية ترمي لتحقيق أغراض معينة، وإنها تنجح في ذلك في معظم الأوقات، وإنها تؤدي مهمة واحدة أو عدة مهام معًا. وسواء كانت صورًا تمثيلية أو تشكيلية، على نحو ما يقول «رولان بارت» عن جميع «العمليات» اللغوية، فإنها تُسيء التمثيل إلى حدِّ التشويه. فتشكيل — أو تشويه — الصورة التي تمثل الشرق في أوروبا يرجع إلى حساسية خاصة متزايدة تجاه إقليم جغرافي يسمَّى «الشرق». والمتخصصون في هذا الإقليم يؤدون عملهم بصدده، إن صحَّ هذا التعبير؛ لأن مهنتهم — باعتبارهم مستشرقين — تتطلب منهم على مرِّ الأيام أن يقدِّموا إلى مجتمعاتهم صورًا للشرق، ومعرفة به، وبصيرة نفاذة فيه. والواقع أن المستشرق يحقق درجة كبيرة من النجاح في تزويد مجتمعه بصور تمثيلية للشرق تتسم بأنها (أ) تحمل طابعه المميز، و(ب) تُبيِّن تصوره لما يمكن أو لما ينبغي للشرق أن يكون عليه، و(ج) تطعن واعية في رأي شخص آخر في الشرق، و(د) تقدم إلى «الخطاب» الاستشراقي ما يبدو أنه في مسيس الحاجة إليه في تلك اللحظة، و(ﻫ) تستجيب لبعض متطلبات العصر الثقافية والمهنية والقومية والسياسية والاقتصادية. والواضح أن دور المعرفة الإيجابية أبعد ما يكون عن اتخاذ صورة مطلقة، وإن كان يظل قائمًا إلى حدٍّ ما. بل إن ما تنشره وتُعيد نشره الصفاتُ الخمس المذكورة للصور التمثيلية التي يقدِّمها الاستشراق؛ هو «المعرفة»، وهي التي لا تتخذ مطلقًا صورةً مطلقة أولية مباشرة أو حتى موضوعية.
وهذه الفكرة المستعارة بصفة عامة من «توماس كون»، تتصل بعمل «جيب» اتصالًا مباشرًا ويجدر النظر فيها؛ إذ إن «جيب»، كما يذكِّرنا حوراني، كان شخصية تضرب جذورها العميقة في مؤسسات العصر، ومن عدة زوايا معًا، وإذا فحصنا كلَّ ما قاله «جيب» أو فعله منذ بواكير حياته العملية في لندن إلى سنوات عمره الوسطى في جامعة أوكسفورد وحتى السنوات التي امتدَّ نفوذه فيها عندما أصبح مديرًا لمركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط — وجدنا الطابع الواضح لذهن يعمل بسهولة بالغة داخل المؤسسات الراسخة. فإذا كان «ماسينيون» يمثِّل اللامنتمي بلا أمل في الانتماء، فقد كان «جيب» يمثِّل المنتمي. وعلى أي حال فقد وصل الرجلان إلى أعلى ذُرَا الصيت الداوي والنفوذ في الاستشراق الفرنسي والاستشراق الأنجلوأمريكي على الترتيب. إذ لم يكن الشرق عند «جيب» مكانًا يقابله الفرد مباشرة، بل كان شيئًا يقرأ عنه ويدرسه ويكتب عنه داخل الحدود الضيقة للجمعيات العلمية، والجامعات، والمؤتمرات البحثية. وكان «جيب» يتفاخر مثل «ماسينيون» بصداقته لبعض المسلمين، ولكن هذه الصداقة كانت، فيما يبدو، مثل صداقة إدوارد لين؛ صداقة نافعة وحسب، لا صداقة تحدد المسار. ومن ثَم فإن «جيب» أصبح شخصية «حاكمة» في الإطار الأكاديمي للاستشراق البريطاني (ومن بعده الاستشراق الأمريكي)، وباحثًا يثبت عمله عن وعي الاتجاهات القومية في هذا اللون من تقاليد الأكاديمية، القائمة في الجامعات والحكومات ومؤسسات البحوث.
ويتمثل أحد المؤشرات على ذلك في أننا كثيرًا ما نلاقي «جيب» في سنوات نضجه وهو يتحدث ويكتب إلى المنظمات التي تتحكم في السياسات. ففي عام ١٩٥١م، على سبيل المثال، شارك بمقال في كتاب عنوانه: الشرق الأدنى والدول العظمى، وهو عنوان له مغزاه، وهو يحاول في هذا المقال إيضاح ضرورة التوسع في البرامج الأنجلوأمريكية للدراسات الشرقية قائلًا:
وأما إطار هذه العلاقة الجديدة فهو يفصح عنه في مقال لاحق بعنوان «إعادة النظر في دراسات المناطق»، ويقول فيه إنه لا ينبغي اعتبار الدراسات الشرقية أنشطة علمية بقدر ما تعتبر أدوات في أيدي السياسات القومية تجاه الأمم التي حصلت حديثًا على استقلالها، وربما يصعب التعامل معها في عالم ما بعد الاستعمار، ويقول إن على المستشرق أن يتسلح بوعي يعيد تركيزه على أهمية ائتلاف دول المحيط الأطلسي حتى يصبح مرشدًا لراسمي السياسات ورجال الأعمال، ولجيل جديد من الباحثين.
لم يكن أهم عنصر من عناصر المرحلة الأخيرة من رؤية «جيب» يتمثل في العمل الإيجابي الذي يضطلع به المستشرق في البحث العلمي (على نحو ما فعل في شبابه مثلًا عندما درس الغزوات الإسلامية لآسيا الوسطى) بل يتمثل في إمكان تطويعه للانتفاع به في الحياة العامة. ويجيد حوراني التعبير عن ذلك قائلًا:
ومع ذلك فلقد كان من المحال أن تتسنَّى ﻟ «جيب» هذه الرؤية في مرحلته الأخيرة دون قدرٍ كبير من الاستعداد الصارم لها في أعماله المبكرة، وعلينا أن نرجع إلى هذه الأعمال حتى نفهم أولًا أفكاره: كان من بين العوامل الأولى التي أثَّرت في «جيب» عمل «دنكان ماكدونالد»، وهو الذي استقى «جيب» منه المفهوم الذي يقول إن الإسلام نظام حياة متماسك، وإن هذا النظام لا يستمد تماسكه من الناس الذين يحيَون هذه الحياة بقدر ما يستمده من هيكلٍ عقائديٍّ ما، أو منهج للممارسة الدينية، أو من فكرة النظام التي يشارك فيها جميع المسلمين، والواضح أن علاقة الناس «بالإسلام» تقوم على تفاعل دينامي من لون ما، ولكن الدارس الغربي لا يهتم إلا بالقوة النابعة من الإسلام والقادرة على جلاء معنى خبرات المسلمين، لا العكس.
ولكن «ماكدونالد» ومن بعده «جيب» لا يتناولان مطلقًا الصعوبات المعرفية والمنهجية «للإسلام» باعتباره موضوعًا (يستطيع الدارس أن يصدر عنه مقولات شاملة وبالغة التعميم). وكان «ماكدونالد» من جانبه يعتقد أن المرء يستطيع أن يدرك في الإسلام مظاهرَ لشيء تجريدي أشد غرابة، وهو العقلية الشرقية، وهو يخصص الفصلَ الأول كلَّه من كتابه: الموقف الديني والحياة في الإسلام، وهو أشدُّ كُتُبِه تأثيرًا (ولا يمكن التقليل من أهميته ﻟ «جيب») لمجموعة من المقولات عن العقل الشرقي. وهو يبدأ بأن يقول «من الواضح في نظري والمعترف به أن الشرقيِّين يزيدون كثيرًا عن الغربيِّين في تصور التصاق الغيب مباشرة بحياتهم، وفي تصور طابعه الحقيقي.» ويقول: «إن العناصر الكبيرة التي تُعدِّل من تفكيرنا وتكاد تخرق القانون العام، فيما يبدو، من وقت لآخر» لا تخرقه في نظر الشرقيِّين، لا، بل ولا تتناقض مع القوانين العامة الشاملة التي تحكم العقل الشرقي بنفس القدر. ويقول: «إن الفرق الجوهري في العقل الشرقي لا يكمن في تصديق الغيبيات بل في العجز عن بناء نظام خاص بما هو مشهود وحاضر.» ويتمثل مظهر آخر من مظاهر هذه الصعوبة — وهو الذي اعتبره «جيب» في وقتٍ لاحقٍ مسئولًا عن غياب الشكل في الشعر العربي وعن نظرة المسلم إلى الواقع نظرة «ذرِّيَّة» في جوهرها؛ أي باعتباره أجزاءً غير مترابطة — في «أن الشرقي مختلف، واختلافه لا يرجع بصفة أساسية إلى تديُّنه بل إلى افتقاره إلى إدراك معنى القانون، فهو لا يؤمن بوجود نظام ثابت في الطبيعة». وإذا كانت هذه «الحقيقة» المزعومة تعجز عن تفسير المنجزات الفذة للعلوم الطبيعية الإسلامية التي يستند إليها جانبٌ كبير من العلوم الغربية الحديثة؛ فإن «ماكدونالد» يلتزم الصمت. وهو يواصلُ سردَ محتويات قائمته قائلًا: «الواضح أن الشرقي يرى أنَّ كلَّ شيء ممكن. فالخوارق قريبة حتى إنها تستطيع أن تمسَّه في أي لحظة.» وانظر كيف أن مناسبة معينة — وهي مولد دين التوحيد تاريخيًّا وجغرافيًّا في الشرق — قد تحوَّلت في الحجة التي يسوقها «ماكدونالد» إلى نظرية كاملة عن الفرق بين الشرق والغرب، تُدرك مدى عمق الالتزام الذي فرضه الاستشراق على «ماكدونالد»، وهاك الملخص الذي يأتي به:
وليس في أيٍّ من هذا ما يتسم بجدة خاصة، بطبيعة الحال، فهذه الأفكار تتكرر، وتَرِد المرة بعد المرة في كتابات الكُتَّاب من «شليجيل إلى رينان» ومن «روبرتسون سميث إلى ت. أ. لورنس»، وهي تمثِّل قرارًا متَّخذًا بشأن الشرق لا حقيقة من حقائق الطبيعة على الإطلاق. فكلُّ مَن يلتحق واعيًا بمهنة الاستشراق؛ مثل «ماكدونالد وجيب»، يلتحق بها بناءً على قرار اتخذه؛ ألَا وهو أن الشرق هو الشرق، وأنه مختلف، وهلمَّ جرًّا، ومن ثَم فإن الأقوال المفصلة والمنقحة وما يأتي في أعقابها من البيان والتبيين في هذا المجال يعمل على مساندة القرار المتخذ بوضع الحدود التي يُحبس فيها الشرق. ولا يُوحي «ماكدونالد» (أو «جيب») بأيِّ مفارقة في قوله إن الشرقي عرضة لسيطرة فكرة واحدة عليه؛ إذ إنَّ أيًّا منهما لا يستطيع، فيما يبدو، أن يُدرك درجةَ تعرُّض الاستشراق لسيطرة فكرة واحدة عن الاختلاف الشرقي. ولا يُقلق أي الرجلين استخدام تعبيرات عامة؛ مثل «الإسلام» أو «الشرق»، بصفتها أسماء أعلام، فيضيف كلٌّ منهما صفاتٍ إليها ويجعلها فواعل لأفعال كأنما كانت تُشير إلى أشخاص لا إلى مُثُل أفلاطونية.
ولكن جوهر ما يقول به «جيب» هو أن الإسلام، لسبب قد يرجع إلى أنه يمثل في النهاية اهتمام الشرقي الخالص بالغيب لا بالطبيعة؛ يتمتع بأسبقية مطلقة وسيطرة مطلقة على حياة الشرق الإسلامي برمَّتها. والإسلام عند «جيب» هو المذهب الإسلامي الصحيح، وهو كذلك جماعة المؤمنين، وهو الحياة، وهو الوحدة، وهو القدرة على الفهم، وهو القيم. وهو عين القانون والنظام، على الرغم من قلاقل دعاة الفتنة من «المجاهدين» والشيوعيِّين. ونحن نقرأ في الصفحات المتوالية من كتاب «إلى أين يتجه الإسلام؟» أن البنوك التجارية الجديدة في مصر وسوريا من حقائق الإسلام أو المبادرة الإسلامية، وأن المدارس وزيادة تعلُّم القراءة والكتابة حقائق إسلامية أيضًا، مثل الصحافة، ومظاهر الحياة الغربية، والجمعيات الثقافية. ولا يشير «جيب» على الإطلاق إلى الاستعمار الأوروبي عندما يناقش نشأة النزعة القومية و«سمومها». ولا يخطر ببال «جيب» مطلقًا أن تاريخ الإسلام الحديث قد يصبح أيسرَ فهمًا بسبب مقاومته السياسية وغير السياسية للاستعمار، وهو لا يهمُّه، في النهاية، أن يُشير إلى كون نظم الحكم «الإسلامية» التي يناقشها جمهورية أو إقطاعية أو ملكية باعتبار أن هذه مسائل لا علاقة لها بالموضوع.
كان «جيب» يرى أن «الإسلام» بناءٌ فوقي من لون ما؛ تتهدَّده الأخطار السياسية (كالنزعة القومية، والقلقلة الشيوعية، ومظاهر الحياة الغربية) ومحاولات المسلمين الخطرة للعبث بسيادته الفكرية. ولنلاحظ في الفقرة الآتية كيف يجعل كلمة الدين ومشتقاتها تصبغ نغمة النثر بصبغتها إلى الحد الذي نشعر معه بضرب من الضيق «المهذب» بالضغوط الدنيوية الموجَّهة إلى «الإسلام»:
الإسلام دينٌ حيٌّ وحيوي، يخاطب ويجتذب القلوب والعقول والضمائر لعشرات ومئات الملايين؛ إذ يحدد لهم معايير حياة تعمرها الأمانة ويحكمها العقل وتهديها تقوى الله. وليس الإسلام هو الذي تحجر، بل ما يسمَّى بالصيغ «الصحيحة» له، أي لاهوته المذهبي وعلم الدفاع الاجتماعي عنه. وهذا هو موقع «الانفصال»، ومصدر الاستياء الذي تشعر به نسبة كبيرة من أكثر المؤمنين به تعليمًا وذكاءً، ومكمن الخطر الذي يتهدد المستقبل بأقصى درجة من الوضوح. ولن يستطيع أيُّ دين أن يقاوم التمزق آخر الأمر إذا استمرت الهوَّة قائمةً بين ما يفرضه على الإرادة وبين جاذبيته لأذهان أتباعه. وعدم ظهور مشكلة «الانفصال» عند غالبية المسلمين حتى الآن يبرر موقف علماء المسلمين من رفض الاندفاع إلى اتخاذ التدابير المتسرعة التي يُوصي بها الحداثيون، ولكن انتشار الحداثة نذير بأن قضية إعادة الصياغة لا يمكن إهمالها إلى أجل غير مسمى.
والجزء الأخير من الفقرة مألوف إلى حدٍّ بعيد؛ إذ إنه يوحي بقدرة المستشرق، وهي التي أصبحت طابعًا تقليديًّا، على إعادة بناء وإعادة صياغة الشرق، ما دام الشرق عاجزًا عن فعل ذلك بنفسه. وهكذا نرى أن الإسلام عند «جيب» يسبق إلى حدٍّ ما الإسلامَ الذي يمارسه الناس في الشرق أو يدرسونه أو يدعون إليه. ولكن إسلام المستقبل المشار إليه، ليس مجردَ وهمٍ من أوهام مستشرق نسجه من خيوط أفكاره، لكنه يقوم على «إسلام» قادر على اجتذاب جماعة المؤمنين كلهم، ما دام من المحال له أن يوجد في الواقع الفعلي. وأما السبب الذي يجعل «الإسلام» قادرًا على أن يوجد في صيغة استشراقية مستقبلية من نوع ما فهو أن الإسلام في الشرق يتعرض للاغتصاب والانتهاك في اللغة التي يستخدمها رجال الدين وهي اللغة التي تُفرض فرضًا على أذهان المجتمع. وما دام الإسلام صامتًا في جاذبيته ظل آمنًا، لكنه ما إن يبدأ رجال الدين المصلحون في تولِّي مهمتهم (المشروعة) لإعادة صياغة الإسلام كيما يستطيع دخول العصر الحديث، حتى تبدأ المتاعب. وتنحصر هذه المتاعب، بطبيعة الحال، فيما يسميه «الانفصال».
ويشير تعبير «الانفصال» في عمل «جيب» إلى أمر يزيد مغزاه كثيرًا عن افتراض وجود صعوبة فكرية في داخل الإسلام، وأعتقد أنه يشير تحديدًا إلى المزية الخاصة أو إلى الموقع الذي يضع المستشرق نفسه فيه حتى يكتب عن الإسلام ويُشرِّع له ويعيد صياغته. وفكرة «الانفصال» أبعد ما تكون عن الأمر الذي لمحه «جيب» مصادفة بل إنها المدخل المعرفي إلى موضوعه، وهي بعد ذلك برجُ المراقبة الذي يستطيع منه مشاهدة الإسلام في كل ما كتب وفي جميع المناصب ذات النفوذ التي شغلها. أي إن «جيب» كان يقف ويكتب ويُعيد الصياغة من موقع ما بين «الجاذبية الصامتة» للإسلام، وهي التي تستجيب لها جماعة من المؤمنين بالمذهب «الصحيح» لا يتميز أفرادها عن بعضهم البعض، وبين صورة الإسلام اللفظية، والتي لا تزيد على كونها لفظية، والتي يقدمها فريقٌ ضالٌّ من الدعاة السياسيِّين والكتبة اليائسين والمصلحين الانتهازيِّين، وكان يقول فيما يكتبه إمَّا ما لا يستطيع الإسلام أن يقوله أو ما لا يريد رجال الدين الإسلامي أن يقولوه. وكان ما يكتبه «جيب»، من ناحية معينة، يتقدم الإسلام زمنيًّا، بمعنى أنه كان يسمح بأن تأتيَ لحظة ما في المستقبل يستطيع الإسلام فيها أن يقول ما لا يستطيع الآن قولَه، ولكن كتابات «جيب» كانت، من زاوية أخرى مهمة، سابقة على دين الإسلام زمنيًّا باعتباره مجموعة متماسكة من العقائد «الحية»، ما دامت هذه الكتابات قد استطاعت إدراك «الإسلام» في صورة الجاذبية الصامتة للمسلمين قبل أن يصبح دينهم مثارًا للمجادلات أو الممارسات أو المناظرات الدنيوية.
وأنا أرى دلالة كبيرة لمظهر الصفحة التي يكتبها المستشرق باعتبارها شيئًا مطبوعًا، وأرى دلالة كبيرة للنموذج الذي ترمي إلى تقديمه. ولقد سبق لي الحديث في هذا الكتاب عن موسوعة «ديربيلو» المرتَّبة وفق الحروف الأبجدية، وعن الأوراق الهائلة العدد لكتاب «وصف مصر» وعن مذكرة «رينان» التي تجمع بين المختبر والمتحف، وعمَّا يحذفه «إدوارد لين» وما يقصُّه من قصص قصيرة في كتابه عن المصريين المحدثين، وعن المقتطفات التي أدرجها «ساسي» في منتخباته، وما إلى ذلك بسبيل. فهذه الصفحات علامات على صورة ما للشرق، وعلى صورة ما للمستشرق، مقدمة إلى القارئ. وتتمتع هذه الصفحات بنظام أو بمنطق يُتيح للقارئ أن يفهم «الشرق» بل وأن يفهم المستشرق أيضًا، بصفته مفسرًا، وعارضًا، وشخصية، ووسيطًا، وخبيرًا نموذجيًّا (ويمثل الخبرة). وهكذا استطاع «جيب وماسينيون» ببراعة تسويد صفحات تُلخص تاريخ الكتابة الاستشراقية في الغرب، بالصورة التي يتجسد فيها هذا التاريخ في أسلوب يختلف في تعميمه وفي تناوله للأماكن المختلفة، بعد أن تحول آخر الأمر إلى اتخاذ صورة موحدة في البحث العلمي الذي ينحصر في الكتابة عن فكرة واحدة؛ إذ نصادف عند «جيب وماسينيون» ما يسمَّى بالعيِّنة الشرقية، والتطرف الشرقي، والوحدة المعجمية الشرقية، والسلسلة الشرقية المتوالية الحلقات، والنموذج الشرقي، وهما يُخضعان ذلك كله لسلطة التحليل العقلاني التي تتمتع باليد الطولى وبأسلوب النثر الذي يسير في خط واحد لا يحيد عنه، والذي نراه في المقالات القصيرة والطويلة والكتب العلمية. وعلى امتداد الفترة التي شهدت إنتاجهما؛ أي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى أوائل الستينيات، تعرَّضت ثلاثة من الأشكال الرئيسية للكتابة الاستشراقية لتحول جذري، وهي شكل الموسوعة، وكتاب المنتخبات، والانطباعات الشخصية، بمعنى أن سلطة هذه الأشكال قد أُعيد توزيعها أو نشرها فيما بين أشكال أخرى، أو قُل إنها فقدت شكلها الأصلي تمامًا؛ إذ كان العمل فيها يحال إلى لجنة من الخبراء (كاللجنة التي وضعت دائرة المعارف الإسلامية، وتاريخ كيمبريدج للإسلام) أو يتحول إلى مستوى أدنى من مستويات «الخدمة» (مثل تعليم مبادئ اللغة الذي لا يُهيئ المتعلم للعمل في السلك الدبلوماسي، على نحو ما شهدناه في حالة منتخبات «ساسي»، ولكن لدراسة علم الاجتماع أو الاقتصاد أو التاريخ) أو يتحول إلى مجال الكشف المثير (وهو ما يتصل بالشخصيات أو بالحكومات لا بالمعرفة، و«لورنس» هو المثال الواضح على ذلك). لقد شهدنا كيف كان «جيب» يكتب بأسلوب ينمُّ بهدوء عن عدم اكتراث، وإن كان في حقيقته يعتمد على التتابع المنطقي العميق، ورأينا كيف كان «ماسينيون» يتمتع بملكة الفنان الفطرية، ولا يرى مغالاة في أي إشارة يأتي بها ما دامت تخضع لموهبته التفسيرية الفذة، ولقد تمكن هذان الباحثان من الدفع بما يتمتع به الاستشراق الأوروبي من سلطة، وهي التي تقوم في جوهرها على توحيد مذاهبها، إلى أقصى مدى تستطيع بلوغه. أما الواقع الجديد الذي ظهر في أعقابهما — وهو الأسلوب المتخصص الجديد — فكان، بصفة عامة، أنجلوأمريكيًّا، وكان، بصفة خاصة، يتمثل في لغة العلوم الاجتماعية الأمريكية. وفي هذا الواقع الجديد انقسم الاستشراق القديم إلى أجزاء كثيرة، لكنها ظلت جميعًا «تخدم» العقائد الاستشراقية التقليدية.