رابعا: آخر مرحلة
بدأ ظهور شخصية العربي المسلم في الثقافة الشعبية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وبصورة أوضح بعد كل حرب بين العرب وإسرائيل، وذلك حتى بعد الاهتمام الشديد الذي بدأ العربي يحظى به في الحياة الأكاديمية، وفي عالم تخطيط السياسات، ودنيا التجارة والأعمال، وهو ما يرمز إلى تغيُّر كبير في التشكيلات الدولية للقوى؛ إذ لم تَعُد فرنسا وبريطانيا تشغلان الموقع الرئيسي على مسرح السياسة العالمية، بعد أن حلَّت السلطة الأمريكية المهيمنة محلَّهما، وظهرت شبكة شاسعة الأطراف من المصالح التي تربط ما بين جميع مناطق العالم التي كانت مستعمرة وبين الولايات المتحدة، كما أن فروع التخصص الأكاديمي التي انتشرت أصبحت تقوم على تقسيم جميع المباحث اللغوية السابقة التي كانت أوروبا مقرًّا لها، مثل الاستشراق (وتقيم الروابط فيما بينها أيضًا) فلدينا الآن مَن يسمَّى «المتخصص في منطقة ما» وهو الذي يزعم الخبرة بذلك الأقليم، ويضع تلك الخبرة في خدمة الحكومة أو رجال الأعمال أو كليهما. وهكذا فإن المعرفة الهائلة، شبه المادية، المختزنة في حوليات الاستشراق الحديث — على نحو ما سجلها، مثلًا، «جول مول» في التوثيق المحكم الذي أعده عن ذلك المجال في القرن التاسع عشر — قد تعرَّضت «للتذويب» والدفع بها في أشكال جديدة، وأصبحنا نشاهد الآن ضروبًا منوعة من الصور «المهجنة» التي تمثِّل الشرق وهي تنتقل في الثقافة من مكان لمكان. ولقد كانت للصور التي تمثِّل اليابان، والهند الصينية، والصين، والهند، وباكستان، أصداؤها الشاسعة، ولا تزال تحدث هذه الأصداء، كما كانت تتعرض للمناقشة في أماكن كثيرة، لأسباب واضحة. كما كان للعرب وللإسلام صورٌ تمثِّلهما أيضًا، وسوف نناقشها هنا وهي تلح على الأذهان إلحاحًا، بأشكالها الممزقة المتقطعة، على تمتُّعها بالقوة والتماسك الأيديولوجي، وإن لم يتعرض الكثيرون لمناقشة ذلك الإلحاح الذي بذل الاستشراق الأوروبي التقليدي كلَّ ما يملك فيه داخل الولايات المتحدة.
(١) الصور الشعبية والصور التمثيلية في العلوم الاجتماعية
هاك بعض النماذج التي توضح كيف يمثلون صورة العربي اليوم في أمريكا، وسوف تلاحظ السهولة التي يبدو أن «العربي» يقبل التحول بها إلى صورٍ تمثِّله وتختزل حقيقته — وكلها صور مغرضة وحسب — وانظر كيف يفرضونها عليه فرضًا. كان المسئولون قد وضعوا تصميمَ الزيِّ الخاص بالاحتفال بالدفعة العاشرة من خريجي جامعة برنستون عام ١٩٦٧م قبل نشوب حرب يونيو، وكان رمز الزي هو الجو العربي، من حيث الثوب الفضفاض وغطاء الرأس والصندل، وهو رمز وحسب؛ لأنه من الخطأ وصف الملابس بأكثر من كونها مظهرًا موحيًا. وما إن وقعت الحرب، واتضح أن الرمز العربي سوف يسبِّب الحرج للجامعة، حتى قرر المسئولون تغيير خطة الاحتفال، فتقرر الإبقاء على الزيِّ المتفق عليه سلفًا ولكن كان على أفراد الدفعة أن يسيروا في موكب وقد وضعوا أيديَهم فوق رءوسهم رمزًا للهزيمة المنكرة: كان ذلك هو ما آل إليه العربي، أي إنه تحوَّل من الصورة النمطية الباهتة باعتباره من الرُّحل راكبي الجمال إلى صورة كاريكاتورية ساخرة باعتباره تجسيدًا للعجز ويُسْر القهر، ولم يكن النطاق المسموح به للعربي يزيد عن ذلك.
ولكن العربي عاد للظهور بعد عام ١٩٧٣م في كل مكان في صورة تُنذر بخطر أشد، فكثيرًا ما كانت تظهر الرسوم الكاريكاتورية التي تصور شيخًا عربيًّا يقف خلف مضخة للبنزين، ولكن هؤلاء العرب كانوا بوضوح «ساميين»، وكانت أنوفهم المعقوفة بوضوح، والنظرة الشبقة الخبيثة في وجوههم ذات الشوارب، مظاهر بارزة تُذكِّر (السكان الذين لا ينتمي معظمهم إلى الجنس السامي) بأن «الساميِّين» من وراء جميع متاعبنا «نحن»، وكانت أهم المتاعب في هذه الحالة نقص البنزين، وكان نقل العداء الشعبي للسامية من هدف يهودي إلى هدف عربي يجري بسلاسة ويُسْر، ما دام «الشكل» في جوهره واحدًا في الحالين.
وهكذا فإذا شغل العربي موقعًا يستلزم الانتباه له، فإنه يمثل فيه قيمة سلبية؛ إذ يراه الناس في صورة مَن يتهدد وجود إسرائيل ووجود الغرب، أو من وجهة نظر أخرى للأمر نفسه، في صورة عقبة أمكن تخطيها لإنشاء إسرائيل عام ١٩٤٨م. وأما إذا ما كان لهذا العربي أي تاريخ على الإطلاق، فلا بد أن يكون ذلك جزءًا من التاريخ الذي منحَته إياه تقاليد الاستشراق (أو أخذته منه فالفارق طفيف) ومنحَته إياه في وقت لاحق تقاليد الصهيونية. كانت النظرة إلى فلسطين — من جانب «لامارتين» والصهيونيِّين الأوائل — نظرة إلى صحراء خاوية تنتظر مَن يزرعها فتزهر وتُثمر، وتفترض أن سكانها من الرُّحَّل الذين لا قيمة لهم وأنهم لا يتمتعون بحقٍّ فعليٍّ في الأرض، ومن ثَم فليست لهم حقيقة ثقافية أو قومية. وهكذا أصبحت النظرة إلى العربي تصوره في صورة الظل الذي يتبع اليهودي أينما حلَّ وارتحل، ومن الممكن للغربي أن يودع في ذلك الظل أيَّ قدر لديه من الشكوك الكامنة والتقليدية إزاء الشرق؛ لأن العرب واليهود ساميون شرقيون، أي إن صورة اليهودي في أوروبا قبل نشأة النازية قد أصبحت ذات شقَّين، بمعنى أننا أصبحنا نشهد الآن بطلًا يهوديًّا يتركب من «الإجلال» الذي أُعيد تشكيله للمستشرق المغامر الرائد (مثل بيرتون ولين ورينان) ومن ظلِّه الذي يزحف خلفه ويُثير خوفًا غامضًا؛ ألَا وهو الشرقي العربي. وهكذا كانت هذه الصورة تعزل العربي عن كل شيء باستثناء الماضي الذي خلفته له الجدلية الاستشراقية، وتغلُّه بأصفاد مصير يثبته في مكانه ويحكم عليه بسلسلة من ردود الأفعال يعاقبه عليها «سيف إسرائيل الرهيب العاجل» بتعبير «بربارا توكمان»، وهو تعبير «لاهوتي».
ولكن العربي، إلى جانب عدائه للصهيونية، هو الذي يوفر النفط للناس، وهي من خصائصه السلبية الأخرى؛ لأن معظم ما كتب عن النفط العربي يوازي بين المقاطعة البترولية في ١٩٧٣-١٩٧٤م (وهي التي لم يستفد منها أساسًا إلا شركات النفط الغربية ونخبة حاكمة عربية محدودة) وبين غياب أي مؤهلات أخلاقية لامتلاك مثل هذه الاحتياطيات الهائلة من النفط. وأكثر الأسئلة المطروحة شيوعًا يقول، دون التلطف المعتاد في التعبير، لماذا يُمنح أمثال هؤلاء العرب الحق في مواصلة تهديد العالم المتقدم (والحر والديموقراطي وصاحب الأخلاق الحميدة). ومن أمثال هذا السؤال تنبع الفكرة المتواترة والداعية إلى قيام مشاة البحرية بغزو حقول النفط العربية.
وأما في السينما والتلفزيون فترتبط صورة العربي إما بالفسوق أو الخيانة وسفك الدماء، فهو يظهر في صورة صاحب الشهوة الجنسية الطاغية، المنحل المنحط، القادر ولا شك على أن يحيك مؤامرات خبيثة بارعة، لكنه في جوهره يتلذذ بتعذيب غيره، خئون، وضيع. ومن الأدوار التقليدية للعربي في السينما دور تاجر الرقيق، وسائق الجمال، والصراف، والوغد الجذاب، وكثيرًا ما يظهر القائد العربي (لعصابة لصوص أو قراصنة أو جماعة من «الأهالي» المتمردين) في صورة مَن يسخر من البطل الغربي الذي أسروه مع صاحبته الشقراء (وصورتهما تنضح بالخلق السوي) قائلًا «سوف يقتلكما رجالي، ولكنهم يريدون التسلي أولًا.» وهو يرمقهما بنظرات خبيثة موحية أثناء حديثه، وهذه هي الصورة المنحطة الحديثة لشخصية الشيخ التي قام بها «فالنتينو». وأما في النشرات أو الصور الإخبارية فالعربي يظهر دائمًا في حشود كبيرة، وينتفي اعتباره فردًا يتمتع بخصائص أو خبرات شخصية. ومعظم الصور تمثل الغضب الجماهيري الجامح والبؤس، أو الحركات غير العقلانية (التي تبدو شاذةً وميئوسًا منها). وخلف جميع هذه الصور يكمن التهديد بخطر الجهاد، أو الخوف من أن المسلمين (أو العرب) سوف يستولون على العالم.
من الواضح أن ما يتنبأ به «بيرجر» هنا يدعو للأسف إلى حدٍّ كبير، ويزيد من هذا الأسف أن المسئولين لم يكلفوه بوضع هذا التقرير بسبب خبرته فحسب بالشرق الأدنى، بل لأنهم كانوا يتوقعون منه — على نحو ما يتضح في ختام التقرير — أن يكون في موقع يمكِّنه من التنبؤ بمستقبل الإقليم ومستقبل السياسات الخاصة به. وأعتقد أن عجزه عن أن يُدرك أن الشرق الأوسط يتمتع بأهمية سياسية كبرى، وأنه قد يكتسب قوة سياسية كبيرة، لا يعتبر انحرافًا عارضًا في الحكم، فالخطآن الرئيسيان اللذان يرتكبهما «بيرجر» واردان في الفقرتين الأولى والأخيرة، وكلاهما ينحدر تاريخيًّا من سلالة الاستشراق على نحو ما درسناه حتى الآن. فإذا نظرنا إلى ما يقوله «بيرجر» عن عدم وجود إنجاز ثقافي عظيم، وما ينتهي إليه بشأن دراسة الإقليم في المستقبل — أي إن الشرق الأوسط لا يجتذب اهتمام الباحثين بسبب وجوه ضعفه المتأصلة — وجدنا تكرارًا دقيقًا للرأي الاستشراقي المعتمد الذي يقول إن الساميِّين لم يُنشئوا قط ثقافة عظمى، وإن العالم السامي، كما قال «رينان» مرارًا وتكرارًا، أفقر من أن يجتذب الاهتمام العالمي يومًا ما. ومعنى هذا أن «بيرجر» كان يؤكد موقفه الأساسي باعتباره مستشرقًا، فهو يكرر الأحكام التي أصبحت تقليدية راسخة، ويرفض رفضًا قاطعًا أن يدرك ما تشهده عيناه؛ إذ لم يكن «بيرجر» يكتب ما كتب منذ خمسين سنة، بل في الفترة التي كانت الولايات المتحدة تستورد فيها نحو عشرة في المائة من إمدادات نفطها من الشرق، وكانت استثماراتها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة بالغة الضخامة. وما يقوله، في الواقع، هو أنه لولا أشخاص من أمثاله لانتهى مصير الشرق الأوسط إلى التجاهل، وإنه لولا دوره في الوساطة والتفسير لما تمكن أحد من فهم ذلك المكان، لسببين: الأول أن ما يتطلب الفهم فيه محدود وغريب إلى حد بعيد، والثاني هو أن المستشرق وحده هو الذي يستطيع تفسير الشرق، ما دام الشرق يعجز عجزًا متأصلًا عن تفسير ذاته.
وأما أن «بيرجر» لم يكن مستشرقًا كلاسيكيًّا عندما كتب هذا الكلام (فهو ما لم يكنه وليس كذلك حتى الآن) بقدر ما كان عالم اجتماع محترفًا، فذلك لا يقلل من مدى الدَّين الذي يدين به للاستشراق وأفكاره. ومن بين هذه الأفكار نزعةٌ اكتسبت شرعيةً خاصة، وهي نزعة النفور من المادة التي تمثل القاعدة الرئيسية لدراسته وخفض قيمتها، وكانت نزعة بلغ من قوتها عند «بيرجر» تعتيم الحقائق الفعلية التي تشهدها عيناه، وهي تؤدي إلى ما هو أعجب؛ إذ لا تُلزمه بأن يسأل نفسه: لماذا يوصي أي فرد بتكريس حياته لدراسة ثقافة الشرق الأوسط، على نحو ما فعل هو، ما دام ذلك الإقليم «ليس مركزًا للإنجاز الثقافي العظيم»؟ والباحثون قد يدرسون، أكثر من الأطباء مثلًا، ما يحبونه وما يحظى باهتمامهم، ولا يدفع الباحث إلى دراسة ما لا يُكِنُّ له تقديرًا إلا الإحساس المبالغ فيه بالواجب الثقافي. ولكن هذا الإحساس بالواجب ذاته هو الذي عمل الاستشراق على رعايته وتأكيده؛ لأن الثقافة بصفة عامة قد وضعت المستشرق خلف «المتاريس» فأصبح في عمله المهني يواجه الشرق — بضروب همجيته وغرابته وتمرده — ويحافظ على ابتعاده باسم الغرب.
وأنا أشير إلى «بيرجر» باعتباره مثالًا على الموقف الأكاديمي تجاه الشرق الإسلامي؛ إذ يوضح لنا هذا المثال كيف يدعم المنظورُ العلميُّ الصورَ الكاريكاتورية التي تحظى بالدعاية في الثقافة الشعبية، ولكن «بيرجر» أيضًا يرمز إلى أشد صور التحول في الاستشراق شيوعًا، ألا وهو تحوله من مبحث في فقه اللغة في المقام الأول، وفهم عام وغامض للشرق، إلى تخصص دقيق في علم الاجتماع. لم يَعُد المستشرق يحاول أولًا إجادة اللغات «الباطنة» للشرق، بل يبدأ؛ باعتباره متخصصًا في علم الاجتماع، في «تطبيق» علمه على الشرق أو على أي مكان آخر، وهذه هي المساهمة الأمريكية الخاصة في تاريخ الاستشراق، وقد نشأت، على وجه التقريب، في الفترة التي تلَت الحرب العالمية الثانية مباشرة، حين وجدت الولايات المتحدة أنها تشغل الموقع الذي أخلته بريطانيا وفرنسا، وأما الخبرة الأمريكية بالشرق قبل تلك اللحظة «الاستثنائية» فكانت محدودة: كان بعض الكتَّاب الأمريكيِّين الذين يشعرون بالعزلة الثقافية مثل «هيرمان ملفيل» يُبدون اهتمامًا بالشرق، وبعض الكُتَّاب الساخرين من أمثال «مارك توين» يزورون الشرق ويكتبون عنه، وكان دعاة مذهب «التعالية» يرون الروابط القائمة بين الفكر الهندي وتفكيرهم، وكان بعض رجال اللاهوت المسيحي ودارسي الكتاب المقدس يتعلمون اللغات الشرقية الخاصة بالكتاب المقدس، وكانت تقع بعض اللقاءات مع قراصنة البربر وأمثالهم، دبلوماسيًّا وحربيًّا، وبعض الحملات البحرية المتفرقة في الشرق الأقصى، وكذلك، كما هو معروف، البعثات التبشيرية إلى كل مكان في الشرق، ولكن الولايات المتحدة لم تشهد تقاليدَ استشراقيةً تمثِّل استثمارًا عميق الجذور، وهكذا فإن المعرفة بالشرق لم تتعرض مطلقًا لخطوات التنقيح وإقامة الشبكات وإعادة البناء التي بدأت في دراسة فقه اللغة، وهي التي مرَّت بها في أوروبا. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لم تستثمر الشرق في الإبداع الأدبي مطلقًا، ربما لأن الحدود التي اتجهت الأنظار إلى «استثمارها»، أو التي يُعتد بها، كانت تقع في الغرب الأمريكي. وهكذا أصبح الشرق، في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، قضيةً إدارية أو مسألةً خاصة بالسياسات الأمريكية، لا قضية عامة شاملة على نحو ما كأنه الشرق بالنسبة لأوروبا على امتداد قرون طويلة. وهكذا دخل الساحة عالم الاجتماع والخبير الجديد، وهما اللذان تكفَّلَا بحمل لواء الاستشراق، وإن كانت سواعدهما أضعف قليلًا من سواعد أسلافهم. ولقد قامَا بدورهما، كما سنرى، بإدخال تغييرات فيه حتى اختلفت معالمه اختلافًا شبه كامل. ولكن المستشرق الجديد خلف الأسلاف، على أية حال، في اتخاذ مواقف العداء الثقافي والمحافظة عليها.
ومن الملامح البارزة للاهتمام الأمريكي الجديد بالشرق من منظور علم الاجتماع تجنُّبه الغريب للأدب؛ فقد تقرأ صفحات لا تُحصى مما يكتبه الخبراء عن الشرق الأدنى الحديث دون أن تصادف إشارةً مفردة للأدب؛ إذ يبدو أن «الخبير» بالإقليم يهتم أشد اهتمام بما يعتبره «حقائق»، وربما أدى النص الأدبي إلى «اضطراب» في هذه الحقائق. وحصيلةُ تأثير هذا التجاهل العجيب للوعي الأمريكي الحديث بالشرق العربي أو الإسلامي هو حبس الإقليم وسكان الإقليم في قالب فكري مغلق، بعد اختزال هذا وذاك في «مواقف» و«اتجاهات» وإحصائيات، وباختصار بعد سلبهما الطابع الإنساني. فلما كان الشاعر أو الروائي العربي، وما أكثر أعدادهما، يكتب عن خبراته وعن قيمه وعن إنسانيته (مهما تبلغ غرابتها) فإنه يؤدي في الواقع إلى ارتباك شتى الأنساق (أي الصور، أو القوالب اللفظية أو التجريدات) التي تمثل الشرق. فالنص الأدبي يتكلم مباشرة، إلى حدٍّ ما، عن حقيقة واقعية حية، لا ترجع قوتها إلى كونها عربية أو فرنسية أو إنجليزية، بل تكمن في حيوية الكلمات التي تؤدي — بالاستعارة التي يستخدمها «فلوبير» في إغراء القديس أنطوان — إلى سقوط الأصنام من أيدي المستشرقين وإرغامهم على التخلي عن تلك الأطفال المشلولة العظيمة؛ أي أفكارهم عن الشرق، التي تحاول أن تزعم أنها الشرق.
ويعتبر غياب الأدب، وموقف فقه اللغة الضعيف نسبيًّا في الدراسات الأمريكية المعاصرة للشرق الأدنى نماذجَ توضح الاتجاه الغريب الضعيف نسبيًّا في الاستشراق الأمريكي، والمؤكد أن وصفي إياه بالاستشراق يمثِّل خروجًا عن القاعدة؛ إذ ما أندر أن نجد فيما يفعله الخبراء الأكاديميون بالشرق الأدنى اليوم ما يُشبه الاستشراق التقليدي من النوع الذي بلغ نهايته بالإنجليزي «جيب» والفرنسي «ماسينيون»، فأهم ما يتكرر لديهم، كما قلت، هو عداء ثقافي معين وإدراك لا يعتمد على فقه اللغة بقدر ما يعتمد على ما يسمَّى «الخبرة». ونحن نرى، من زاوية النَّسَب، أن الاستشراق الأمريكي الحديث ينحدر من أصلاب مدارس اللغات التي أنشأها الجيش في أثناء الحرب وبعدها، ومن اهتمام الحكومة والشركات المفاجئ بالعالم غير الغربي، والمنافسة مع الاتحاد السوفييتي في إطار الحرب الباردة، والآثار الباقية للمواقف التبشيرية تجاه الشرقيِّين الذين أصبحوا يعتبرون «جاهزين» للإصلاح وإعادة التعليم. وإذا كانت الدراسة الخارجة عن إطار فقه اللغة للغات الشرقية «الباطنة» مفيدة لأسباب استراتيجية مبدئية، وواضحة، فإنها مفيدة أيضًا في إضفاء سمة السلطة على «الخبير»، إلى درجة تقرب من الإيمان الأعمى به، وهو الذي يستطيع أن يتعامل، فيما يبدو، مع مادة بالغة الغموض ببراعة فائقة.
وهكذا فإن تعلُّم اللغة الأجنبية يتحول إلى جزء من هجوم يدقُّ فهمه على السكان، مثلما تتحول دراسة إقليم أجنبي مثل الشرق إلى برنامج للسيطرة من خلال التكهن.
لكنه لا بد لأمثال هذه البرامج أن تكتسيَ كسوة ليبرالية، وهو العمل المنوط بالباحثين ذوي النوايا الحسنة والمتحمسين. فالفكرة التي تلقى التشجيع هي أننا إذا درسنا الشرقيِّين أو المسلمين أو العرب، فسوف نستطيع «نحن» أن نعرف شعبًا آخر، وأسلوب حياته، وتفكيره وهلمَّ جرًّا. ومن الأفضل دائمًا، تحقيقًا لهذه الغاية، أن ندعهم يتكلمون بألسنتهم، وأن «يمثلوا» ذواتهم (حتى ولو كانت تكمن خلف هذه الخرافة عبارة ماركس — التي يوافق لاسويل عليها — عن لويس نابليون، وهي «لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، لا بد أن يمثلهم غيرهم») ولكن ذلك لا يصدق إلا إلى حدٍّ ما، وبصورة خاصة. ففي عام ١٩٧٣م، وفي أيام القلق أثناء حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل كلفت مجلة نيويورك تايمز اثنين بكتابة مقالتَين تمثلان الجانبَين العربي والإسرائيلي في تلك الحرب. كان الجانب الإسرائيلي يمثله محام إسرائيلي، والجانب العربي يمثله سفير أمريكي سابق في إحدى البلدان العربية دون أن يحمل أي مؤهلات رسمية في الدراسات العربية. وحتى لا نتسرع فننتهي مباشرة إلى استنتاج بسيط يقول إن المجلة رأت أن العرب لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، يحسن بنا أن نتذكر أن العرب واليهود في هذه الحالة ساميون (بالوصف الثقافي العريض الذي ناقشته في هذا الكتاب) وأن المجلة فرضت على الجانبين أن يمثلهم غيرهم أمام جمهور غربي. ويجدر بنا أن نتذكر الفقرة الآتية من إحدى روايات الروائي الفرنسي «مارسيل بروست»، حيث يصف الظهور المفاجئ لأحد اليهود في غرفة استقبال أرستوقراطية على النحو الآتي:
(٢) سياسة العلاقات الثقافية
إذا كان من الصحيح القول بأن الولايات المتحدة لم تصبح في الواقع إمبراطورية عالمية حتى القرن العشرين؛ فمن الصحيح أيضًا أنها قد شُغلت في القرن التاسع عشر بالشرق بالصورة التي مهدت لانشغالها الإمبريالي السافر بالشرق فيما بعد. وسوف نُنحي جانبًا الحملات التي قامت بها ضد قراصنة البربر في ١٨٠١ و١٨١٥م، وننظر في تأسيس الجمعية الشرقية الأمريكية في عام ١٨٤٢م؛ إذ تحدَّث رئيس الجمعية في أول اجتماع سنوي تعقده، وكان ذلك في عام ١٨٤٣م، واسمه «جون بيكرينج»، وقال بوضوح وجلاء إن أمريكا تعتزم دراسة الشرق حتى تحذوَ حذوَ الدول الإمبريالية الأوروبية. وكانت رسالة «بيكرينج» تقول إن إطار الدراسات الشرقية — آنذاك وحاليًّا — إطار سياسي لا علمي وحسب. وانظر كيف يقيم الحجة الداعية إلى الاستشراق، في الملخص الآتي، بحيث لا يكاد يكون لدينا شك في القصد منه:
والتوازي بين الخطط الإمبريالية في أوروبا وأمريكا بشأن الشرق (الأدنى والأقصى) واضحٌ، وربما لم تكن الأمور التالية لا تتمتع بنفس الوضوح، وهي: (أ) مدى ما تعرضت له تقاليد البحث الاستشراقي الأوروبي من تكييف ومن إضفاء الصبغة الطبيعية والألفة عليها وإشاعتها على المستوى الشعبي، وإن لم يصل ذلك إلى حد الاستيلاء عليها، ثم إدراجها في تيار ازدهار دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة؛ و(ب) مدى ما أدت إليه التقاليد الأوروبية من نشأة موقف متماسك في الولايات المتحدة يشترك فيه معظم الباحثين والمؤسسات، وأساليب «الخطاب»، والتوجهات، على الرغم من مظهر التنقيح المعاصر، إلى جانب استخدام تقنيات علم الاجتماع (من جديد) التي تتخذ مظهر التقدم البالغ. ولقد سبق لي أن ناقشت أفكار «جيب»، لكنني يجب أن أُشير إلى أنه أصبح في منتصف الخمسينيات مديرًا لمركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط، وكان لتفكيره وأسلوبه، بفضل هذا المنصب، نفوذهما المهم. وكان وجود «جيب» في الولايات المتحدة يختلف من حيث ما فعله من أجل هذا المجال عن وجود الأستاذ «فيليب حِتِّي» في جامعة برنستون منذ أواخر العشرينيات؛ إذ تخرَّج في جامعة برنستون عددٌ كبير من أهم الباحثين، وأدَّى النوع الخاص من الدراسات الشرقية فيها إلى إثارة اهتمام كثير من الباحثين بهذا المجال، وأما «جيب» فكان ذا صلة أوثق بجانبِ الاستشراقِ المُعنَى بالسياسات العامة، وكان موقعه في هارفارد يوجه الاستشراق إلى التركيز على منهج دراسات المناطق في زمن الحرب الباردة إلى درجة تفوق كثيرًا تركيز «حِتِّي» عليه في جامعة برنستون.
من الضروري أن ندرك أن الحضارة الإسلامية كيان ثقافي لا يشاركنا تطلعاتنا الأولية، فهو لا يهتم اهتمامًا رئيسيًّا بالدراسة المنهجية للثقافات الأخرى، سواء كانت تمثِّل غايةً في ذاتها أو وسيلة للوصول إلى فهم لطابعه الخاص وتاريخه الخاص. ولو كان صدق هذه الملاحظة يقتصر على الإسلام المعاصر وحسب، لربطنا بينها وبين حال الإسلام التي تتسم بالاضطراب العميق، والتي لا تسمح له بالنظر إلى ما وراء ذاته، إلا إذا أُرغم على ذلك إرغامًا، لكنها ما دامت تصدق على الماضي أيضًا، فربما حاولنا أن نربط بينها وبين العداء الأساسي للمذهب الإنساني لهذه الحضارة [الإسلامية]، بمعنى الإصرار على رفض قبول اعتبار الإنسان حَكَمًا أو معيارًا للأمور إلى أي حد من الحدود، وبمعنى الميل إلى الرضا باعتبار الحقيقة أمرًا ينحصر في وصف الأبنية النفسية، أو بتعبير آخر، في الحقيقة النفسية.
قد نتأدب فنُطلق صفةَ «الجدلية» على مثل هذا الكلام في معظم السياقات الأخرى، أما في سياق الاستشراق، بطبيعة الحال، فإنه «معتمد» نسبيًّا، وكان يعتبر في عداد الحكمة المعتمدة في الدراسة الأمريكية للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، أساسًا بسبب الصيت الثقافي الذي يتمتع به الباحثون الأوروبيون. ولكن القضية هي أن العاملين في هذا المجال يقبلون عمل «فون جرونيباوم» دون مناقشة، حتى ولو عجز هذا المجال اليوم عن الإتيان بأشخاص من أمثاله. ومع ذلك فقد تصدَّى باحث واحد لوضع دراسة نقدية جادة لآراء «فون جرونيباوم»، وهو المؤرخ المغربي وصاحب النظريات السياسية «عبد الله العروي».
وهذه النظرة للإسلام سياسية في جوهرها، وغير مُنصفة، مهما تلطفنا في التعبير عنها. وأما قوة سيطرتها على المستشرق الجديد (أي الأصغر سنًّا من فون جرونيباوم) فكانت ترجع في أحد جوانبها إلى سلطتها التقليدية، وترجع من جانب آخر إلى قيمة الانتفاع بها باعتبارها وسيلة لتفهم إقليم شاسع من أقاليم العالم والزعم بأنه يمثل ظاهرة متماسكة المعنى إلى أقصى حد. ولما كان الغرب قد عجز عن «احتواء» الإسلام سياسيًّا بسهولة على مر التاريخ — ولا شك أن القومية العربية كانت، وما زالت، منذ الحرب العالمية الثانية، حركة تُعلن صراحةً معاداتها للإمبريالية الغربية — فإن الرغبة في ترديد أفكار تشبع النهم عن الإسلام قد ازدادت، ردًّا على ذلك. ولقد قال أحد الثقات عن الإسلام (دون تحديد أي إسلام أو أي جانب من جوانب الإسلام يعنيه): إنه «أحد النماذج الأولية للمجتمعات التقليدية المغلقة». ولاحظ هنا أنه يستخدم كلمة «الإسلام» في الإشارة، في الوقت نفسه، إلى دين وإلى مجتمع، وإلى نموذج أوَّلي، وإلى واقع فعلي، وهو الاستخدام الذي يعلمنا درسًا مفيدًا! ولكن هذا الباحث نفسه سوف يُولى ذلك كلَّه مكانةً ثانوية بعد الفكرة التي تقول إن مجتمعات الإسلام والشرق الأوسط تختلف عن المجتمعات السوية (لدينا «نحن») في أنها ذات طابع «سياسي» كامل، والمقصود بهذه الصفة لوم الإسلام لكونه غير «ليبرالي»؛ أي غير قادر (مثلنا «نحن») على فصل السياسة عن الثقافة. والنتيجة رسم صورة أيديولوجية خبيثة لنا «نحن» ولهم «هم»:
لا بأس، ولكن كيف يعرف المرء «ما هو موجود في الواقع» وإلى أيِّ حدٍّ يشارك مَن يعرف «ما هو موجود في الواقع» في تشكيله؟ الكاتب يترك القضية دون حسم، بحيث أصبح الفهم الجديد للشرق، غير المقيد بأحكام القيمة؛ أي باعتبار الشرق كيانًا موجودًا وحسب، فهمًا راسخًا في برامج دراسات المناطق. والواقع أنه تندر دراسة الإسلام، ويندر البحث فيه، وتندر معرفته دون نظريات مغرضة: وسذاجة هذا التصور تكاد لا تُخفي ما يعنيه من الزاوية الأيديولوجية؛ أي الأطروحات السخيفة التي تفترض أن الإنسان لا ينهض بدورٍ ما في تكوين المادة والإجراءات المعرفية، وتزعم أن الواقع الشرقي ساكن خامد؛ أي «يوجد» فحسب، ولا يستطيع إلا الثوري «المسياني»؛ أي الذي يرجو الخلاص في المستقبل (بتعبير الدكتور كيسنجر) أن يُنكر الفرق بين الحقيقة القائمة في الواقع والحقيقة القائمة في ذهنه.
بيد أن بعض الصور المخففة للاستشراق القديم قد ازدهرت، وهي تقع موقعًا يتوسط مدرسة التطرف ومدرسة الاعتدال، وتتجلى في الرطانة الأكاديمية الجديدة في بعض الحالات، وفي الرطانة القديمة في حالات أخرى، وإن كانت العقائد الجامدة الرئيسية للاستشراق تظهر في أنقى أشكالها اليوم في الدراسات الخاصة بالعرب وبالإسلام. ولنحاول هنا تلخيصها؛ إذ تتمثل إحداها في الاختلاف المطلق والمنتظم بين الغرب العقلاني المتقدم الشفوق الفائق، وبين الشرق المنحرف المتخلف الأقل شأنًا، وتتمثل أخرى في اعتبار أن التجريدات الخاصة بالشرق، وخصوصًا تلك التجريدات القائمة على نصوص تمثل الحضارة الشرقية «الكلاسيكية» أفضل دائمًا من الأدلة المستمدة من حقائق الواقع الشرقي الحديث. وتقول عقيدة جامدة ثالثة إن الشرق سرمدي، موحَّدُ الصورة، وعاجز عن تعريف ذاته، ومن ثم يُفترض أنه لا بد من وضع مفردات تتسم بشدة التعميم والانتظام لوصف الشرق من وجهة نظر غربية، وأنها ستكون أيضًا «موضوعية» من الزاوية العلمية. وتقول عقيدة جامدة رابعة إن الشرق كيان علينا إما أن نخشى بأسه (الخطر الأصفر، جحافل المغول، المستعمرات السمراء) أو أن نسيطر عليه (بالتهدئة، أو بالبحوث والتنمية، أو بالاحتلال المباشر كلما أمكن ذلك).
ومن العجب العجاب أن يستمر شيوع هذه الأفكار في الدراسة الأكاديمية والحكومية للشرق الأدنى الحديث دون أن يُثيرَ أحد شكوكًا يُعتدُّ بها في صحتها، كما يدعو للأسف أيضًا عجزُ العمل الذي أنجزه الباحثون الإسلاميون أو العرب الذين طعنوا في عقائد الاستشراق الجامدة عن إحداث تأثير يُذكر، على ندرة هذه الطعون؛ إذ إن المقالات المتفرقة التي تُكتب من حين لآخر، مهما تكن أهميتها في الوقت والمكان اللذَين تكتب فيهما؛ لا تستطيع على الإطلاق التأثير في مجرى البحوث القائمة على اتفاق الآراء من جانب شتى الهيئات والمؤسسات والتقاليد؛ فهو اتفاق مهيب. ومعنى هذا أن الاستشراق الإسلامي قد عاش حياة معاصرة تختلف اختلافًا كاملًا عن فروع البحث الاستشراقي الأخرى؛ إذ قامت لجنة من الباحثين (ومعظمهم من الأمريكيين) وتسمِّي نفسها لجنة الباحثين في شئون آسيا الذين يساورهم القلق، بقيادة ثورة في الستينيات في صفوف المتخصصين في شرقي آسيا، كما تعرض خبراء الدراسات الأفريقية لمواجهة مماثلة من جانب دعاة المراجعة والتنقيح، على نحو ما تعرض له المتخصصون في مناطق العالم الثالث الأخرى، ولم يسلم من المراجعة والتنقيح في عمله الآن إلا المتخصصون في الدراسات العربية والإسلامية؛ إذ لا يزالون يؤمنون بوجود ما يسمى المجتمع الإسلامي، والعقل العربي، والنفسية الشرقية، بل إن المتخصصين في العالم الإسلامي الحديث يطبقون نصوصًا لا تنطبق عليه تمامًا مثل القرآن، ويحاولون من خلال هذه النصوص تفسيرَ كلِّ جانب من جوانب المجتمع المصري أو الجزائري المعاصر. فالمستشرق يرسم صورًا مثالية للإسلام على نحو ما شهدها القرن السابع الميلادي ثم يفترض أنها قائمة في هذا العصر، غير عابئ بمؤثرات أخرى أحدث وأهم مثل تأثير الاستعمار والإمبريالية بل والسياسة العادية. ويتطارح المستشرقون القوالب اللفظية التي تصف سلوك المسلمين (أو المحمديِّين، كما لا يزال البعض يدعونهم أحيانًا) بدرجة من اللامبالاة التي لا يخاطر بها أحد في الحديث عن السود أو اليهود، والمسلم في أفضل صوره «مصدر معلومات محلي» للمستشرق، وإن كان المستشرق لا يزال يحتقره سرًّا باعتباره مارقًا، كما كُتب على المسلم، عقابًا على «خطاياه»، أن يتحمل أيضًا الإشارة إليه بتعبير «عدو الصهيونية»، وهو تعبير سلبي يضعه في موقع «الجاحد الكنود»!
وإذا كنَّا بنهاية المجلد الأول قد غمرتنا الحيرة والبلبلة، بسبب عدد من التناقضات والصعوبات، بشأن حقيقة الإسلام، فالمجلد الثاني لا يعيننا بأي شكل؛ فنصفه مخصص لتغطية الفترة من القرن العاشر إلى القرن العشرين في الهند وباكستان وإندونيسيا وإسبانيا وشمال أفريقيا وصقلية، وإن كانت التركيبة نفسها من الرطانة الاستشراقية «المهنية» تسوده إلى حدٍّ كبير، إلى جانب التفاصيل التاريخية التي يوردها على غير هدى. وحتى هذه اللحظة لا يبدو «الإسلام» في صورة «تركيبة» ثقافية بقدر ما يظهر في صورة استعراض، مثل أي استعراض آخر للملوك، والمعارك والأسر الحاكمة. ولكن «التركيبة» الكبرى تستكمل نفسها في النصف الأخير من المجلد الثاني بمقالات عن: «الإطار الجغرافي»، و«مصادر الحضارة الإسلامية»، و«الدين والثقافة» و«الحرب».
وهنا يبدو أن أسئلتنا واعتراضاتنا المشروعة تجد المزيد من المبررات، فلماذا يخصص المؤلفون فصلًا عن فنون الحرب في الإسلام وموضوع المناقشة الحقيقي ينحصر في دراسة بعض الجيوش الإسلامية (وأقول عَرَضًا إنه موضوع طريف)؟ هل لنا أن نفترض وجود أسلوب إسلامي للحرب يختلف، مثلًا، عن أساليب الحرب المسيحية؟ ومن الموضوعات المناظرة المناسبة التي تطرح نفسها موضوع فنون الحرب الشيوعية في مقابل فنون الحرب الرأسمالية. وكيف تؤدي إلى زيادة تفهم الإسلام تلك المقتطفات الغامضة التي يوردها «جوستاف فون جرونيباوم» من كتابات «ليوبولد فون رانكه»، إلى جانب غيرها من «المعلومات» التي توازيها في ثقل الظل وانعدام صلتها بالموضوع، والتي تغصُّ بها صفحاته عن الحضارة الإسلامية، إلا إذا اعتبرناها استعراضًا لاجتهاد الكاتب الذي لا يفرق بين الغث والسمين؟ أليس من قبيل الكذب، إذن، إخفاء قضية «جرونيباوم» الحقيقية، وهي الزعم بأن الحضارة الإسلامية تقوم على ما نقله المسلمون، دون مراعاة للمبادئ، من الحضارات اليهودية المسيحية، واليونانية، والنمسوية الجرمانية؟ ولك أن تقارن هذه الفكرة — أي إن الإسلام، تعريفًا، ثقافةٌ تقوم على السرقة — بالفكرة الواردة في المجلد الأول، والتي تقول إن «ما يسمى الأدب العربي» أدب كتبه الفارسيون (دون تقديم براهين أو الاستشهاد بأسماء). وعندما يعالج «لويس جارديه» موضوع «الدين والثقافة» يقول لنا بإيجاز إن المناقشة سوف تقتصر على القرون الخمسة الأولى للإسلام، فهل يعني هذا أن الدين والثقافة «في العصور الحديثة» لا يمكن «الجمع بينهما» أم يعني أن الإسلام وصل إلى صورته النهائية في القرن الثاني عشر؟ وهل يوجد حقًّا ما يسمى «الجغرافيا الإسلامية» — والتي تتضمن فيما يبدو «الفوضى المقصودة» في المدن الإسلامية — أم تراه فحسب موضوعًا مخترعًا يرمي إلى إثبات صحة النظرية الجامدة التي تقول بالحتمية الجغرافية العنصرية؟ وهو يلمح إلى هذا بتذكيرنا «بالصوم في رمضان والنشاط الذي تشهده ليالي ذلك الشهر» ويتوقع منَّا أن نستخلص من ذلك أن الإسلام دين «موجَّه لسكان المدن». إنه شرح يحتاج إلى الشرح.
وأما الأقسام الخاصة بالمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وبالقانون، والعدالة، والتصوف، والفن والعمارة، والعلوم، وشتى الآداب الإسلامية، فمستواها أعلى كثيرًا من سائر أقسام التاريخ. ولكننا لا نجد أدلة في أي مكان فيها على أن مؤلفيها يشتركون في الكثير مع أصحاب النزعة الإنسانية أو علماء الاجتماع في مجالات البحث الأخرى؛ إذ تفتقر هذه الأقسام بوضوح إلى مناهج التاريخ التقليدي للأفكار، وإلى مناهج التحليل الماركسي والتاريخ الجديد. وباختصار يرى مؤرخو الإسلام أن أفضل ما يلائمه هو التحيز الأفلاطوني والانحياز للولع بالقديم إلى حد ما. فالإسلام في نظر بعض مؤلفي كتاب تاريخ الإسلام سياسة ودين، وفي نظر البعض الآخر أسلوب وجود، وفي نظر فريق ثالث «لا يمكن التمييز بينه وبين المجتمع المسلم» وفي نظر آخرين أيضًا جوهرٌ معروف بصورة غامضة، وأما في نظر جميع المؤلفين فالإسلام شيء بعيد لا قوة له، ولا يستطيع تعليمنا الكثير من العناصر المتداخلة التي تتركب منها حياة المسلمين اليوم، وتجثم فوق العمل الممزق الأوصال — أي تاريخ كيمبريدج للإسلام — تلك البديهية الاستشراقية القديمة التي تقول إن الإسلام أمر يتعلق بالنصوص لا بالبشر.
والسؤال الأساسي الذي يُثيره تاريخ كيمبريدج للإسلام وأمثاله من النصوص الاستشراقية المعاصرة هو إذا ما كانت الأصول العرقية والدين تمثل أفضل تعريفات للخبرة الإنسانية، أو تمثل أفضل التعريفات النافعة والأساسية والواضحة: هل الأهم لنا إن أردنا فهم السياسة المعاصرة أن نعرف إذا ما كان «س» أو «ص» من الناس يعاني الحرمان بأشكال مادية محددة أم أن نعرف إن كان مسلمًا أو يهوديًّا؟ هذا سؤال خلافي بطبيعة الحال، ومن الأرجح، إن شئنا المدخل العقلاني، أن نُصرَّ على التوصيف الديني العِرقي والتوصيف الاجتماعي الاقتصادي معًا، ولكن الاستشراق، كما هو واضح، يضع الانتماء إلى الإسلام في المرتبة المهيمنة، وهذا هو أهم عنصر من عناصر خططه الفكرية المتخلفة.
(٣) مجرد الإسلام
بلغ من عمق ورسوخ نظرية السذاجة السامية في الصورة التي نراها عليها في الاستشراق الحديث أن أصبح الكتَّاب يطبقونها بلا تمييز يُذكر في بعض الأعمال الأوروبية الشهيرة المعادية للسامية مثل بروتوكولات حكماء صهيون، وفي بعض الملاحظات الأخرى مثل التي وجَّهها «حاييم فايتسمان» (وايزمان) إلى «آرثر بلفور» في ٣٠ مايو ١٩١٨م:
والعامل المشترك بين «فايتسمان» والأوروبي المعادي للسامية هو المنظور الاستشراقي، أي اعتبار أن الساميين (أو أية أقسام فرعية منهم) يفتقرون بطبيعتهم إلى الشمائل المستحبة في الغربيين. ولكن الفرق بين «رينان وفايتسمان» هو أن الأخير كان قد حشد وراء ألفاظه المنمقة صلابة المؤسسات القائمة بالفعل، ولم يكن يتسنى ذلك للأول. ترى هل اختفى من استشراق القرن العشرين ما كان «رينان» يراه في نمط الوجود الذي لا يتغير قط للساميين؛ أي نفس «الطفولة الكريمة» التي لا تبلغ أبدًا مبلغ الكبر، والتي تتحالف بلا اكتراث حينًا مع البحث العلمي، وحينًا آخر مع الدولة وجميع مؤسساتها؟
والاستشراق لا يستطيع التطور التلقائي ولا الذاتي باعتباره مجموعة من العقائد ومنهجًا للتحليل، بل إنه النقيض «المذهبي» للتطور، وحجته الرئيسية تنحصر في أسطورة توقف نمو الساميِّين وتطورهم، ومن رحم هذه الأسطورة تخرج بل تتدفق أساطير أخرى وكلٌّ منها يقول إن الساميَّ نقيض الغربي، وإن الساميَّ ضحية وجوه ضعفه. وقد أدَّت بعض الأحداث والظروف المتصلة إلى أن تفرعت الأسطورة السامية فرعين في الحركة الصهيونية، فأصبح أحد الفرعين الساميَّين ينتهج منهج الاستشراق، وأصبح الفرع الآخر، وهو العربي، مرغمًا على انتهاج نهج «الشرقي»، وكلما وجدنا صورة الخيمة والقبيلة وجدنا من ورائها تلك الأسطورة، وكلما أُشير إلى مفهوم الشخصية العربية الوطنية وجدنا من ورائها الأسطورة نفسها، وتزداد سيطرة هذه الوسائل على العقل بفضل المؤسسات التي بُنيت في أطرها؛ فكل مستشرق يتمتع، دون مبالغة، بجهازٍ يدعمه ذي سلطة وقوة مذهلة، بسبب سرعة زوال الأساطير التي يدعو لها الاستشراق، وقد بلغ هذا الجهاز اليوم ذروته في مؤسسات الدولة نفسها، بحيث أصبح مَن يكتب عن عالم العرب الشرقي يتمتع بسلطة أمة كاملة وقوتها؛ أي إنه لا يكتب «مزاعم» تقوم على أيديولوجية عالية النبرة بل «حقائق» مؤكدة تقوم على الصدق المطلق الذي تدعمه القوة المطلقة.
ونحن نلاحظ أن التعبيرات الاستعارية الواردة في هذه الفقرة (وقد بيَّنتها بالبنط الأسود) مستقاة من شتى مجالات النشاط الإنساني، بعضها تجاري، وبعضها ديني، وبعضها بيطري، وبعضها تاريخي. ولكن العلاقة بين الشرق الأوسط والغرب في كل حالة تتخذ طابعًا جنسيًّا في الواقع، فكما سبق لي أن أشرتُ في معرض حديثي عن «فلوبير»، نرى أن ارتباط الشرق بالجنس ما يفتأ يظهر بوضوح غريب، فالشرق يقاوم مقاومة أية عذراء ولكن الباحث الذكر يفوز بالمكافأة حين يدخل بها، ويخترق العقدة العويصة على الرغم من «صعوبة المهمة». و«التوافق» هو نتيجة الانتصار على الدلال العذري، ولا يمثل بأي حال من الأحوال تعايشًا بين أنداد. وعلاقة السلطة المضمرة هنا بين الباحث ومادة موضوعه لا تتغير أبدًا، فإنها ترجح دائمًا كفة المستشرق. فالدراسة والفهم والمعرفة والتقييم تتستر جميعًا بقناع الملاطفة لتحقيق «التوافق» ولكنها أدوات غزو.
ربما كانت دلالة هذا الأسلوب تزيد عمَّا قصدَت إليه الكاتبة، فالفعل المتعدي «يُظهر» ومشتقاته يستخدم دون إشارة لمفعول به غير مباشر: من الذي يُظهر له العرب تلك الصفات المذكورة؟ إنهم لا يُظهرونها لشخص معين، كما هو واضح، بل للجميع بصفة عامة، وتلك طريقة أخرى للتعبير عن أن هذه «الحقائق» بديهيات لا تحتاج إلى براهين في عين المراقب المتمرس أو ذي المزايا الخاصة، ما دامت الكتابة لا تسوق في أي موقع آخر أدلةً متاحة للجميع على ما تقوله، وإذا ما نظرنا في تفاهة هذه الملاحظات حُقَّ لنا أن نتساءل ماذا يمكن أن تكون هذه الأدلة؟ وهي تزداد ثقة كلما خطت في كتابتها خطوة أخرى حتى تقول إن «أي عمل جماعي … غريب عليهم». فالفئات هنا يزداد تحديدها صلابة، والأقوال القاطعة تزداد صفة القطع فيها، والعرب يتحولون عندها تحولًا كاملًا من بشر إلى ما لا يزيد على موضوع مفترض لأسلوبها، ويقتصر وجود العرب على أن يغدو مناسبة للمراقب المستبد الذي يقول لسان حاله «ما العالم إلا الفكرة التي في ذهني أنا».
وهكذا فإن ما لا يستطيع العربي أن يُنجزَه بنفسه يوجد فيما يكتب عنه، وأما المستشرق فهو يثق ثقةً فائقة بإمكاناته هو، وليس متشائمًا، وهو قادر على تحديد موقفه وموقف العربي معًا، والصورة التي تبرز صورة سلبية قطعًا، ومع ذلك فنحن نسأل: ما سرُّ هذه السلسلة من المؤلفات التي لا تنتهي عنه؟ ماذا يحفز المستشرق إذا لم يكن حافزه — وهو ليس قطعًا حافزه — حب العلوم العربية، أو العقل العربي، أو المجتمع العربي أو الإنجاز العربي؟ وبعبارة أخرى ما طبيعة الحضور العربي في «الخطاب» الأسطوري عنه؟
وترجع صعوبة هذه النظرة إلى أنها تؤدي إلى تعقيد صفة السلبية التي يفترضها في العرب المستشرقون من أمثال باتاي، بل وحمادي والآخرين، ولكن منطق الأساطير، مثل منطق الأحلام، يقبل — على وجه الدقة — التناقضات الجوهرية؛ فالأسطورة لا تقوم بتحليل المشكلات أو حلها، بل هي تمثِّلها في صورٍ سبق تحليلُها وحلُّها، بمعنى أنها تُقدمها في هيئة صور سبق تجميعُها وبناؤها مثل الناطور الذي يُبنى من تجميع أشياء شتى ثم يُجعل رمزًا للإنسان، ولما كانت الصورة تستخدم كل المواد المتاحة لتحقيق غايتها، ولما كانت الأسطورة — تقريبًا — تحلُّ محلَّ الحياة، فإن التناقض بين العربي ذي الخصوبة الفياضة والدمية السلبية لا أهمية له، «فالخطاب» يكسو التناقض ويُخفيه، بحيث يصبح الشرقي العربي ذلك الكائن المحال الذي تدفعه طاقة شهوته الجنسية إلى نوبات من الإثارة المتطرفة، ومع ذلك فهو يشبه الدمية في نظر العالم؛ إذ يحدق خاوي الذهن في مشهد حديث لا يستطيع أن يفهمه أو يتمشَّى معه.
… إن الأيديولوجيا الثورية كلها تتناقض مباشرة (بل وتمثِّل هجومًا مباشرًا) على التكوين العقلاني والبيولوجي والنفسي للإنسان.
ومهما كانت المرامي الأخرى لهذه الفقرة، التي كتبها الكاتب بأسلوب بالغ في تنميقه، والتي تنضح بالحماس المناهض للثورة، فإن مرماها الأول هو أن الثورة نوع سيِّئ من ممارسة الجنس (ما دام خلقًا شبه رباني)، وأنها أيضًا مرض سرطاني. و«الإنسان» الحق عند «فاتيكيوتيس» لا يقوم إلا بالأعمال العقلانية، الصحيحة، الدقيقة، المحددة، العملية، وكل ما يدعو إليه الثوري وحشيٌّ، غير عقلاني، مخدِّر، سرطاني. فالإنجاب والتغيير والاستمرار لا تقترن فقط بالحياة الجنسية والجنون بل تقترن أيضًا، على ما في هذا من بعض المفارقة، بالتجريدات.
ويُضفي «فاتيكيوتيس» ثقلًا على أفكاره ويُكسبها لونًا عاطفيًّا بالاستشهاد (اليميني) بالإنسانية والحشمة، والاستشهاد (ضد اليسار) بضرورة حماية الإنسانية من النزعة الجنسية والسرطان والجنون والعنف غير العقلاني، والثورة. ولما كانت القضية المطروحة قضية الثورة العربية، فعلينا أن نقرأ الفقرة على النحو التالي: هذا هو حال الثورة، وإذا كان العرب يريدونها، فذلك دليل يُفصح إلى حدٍّ كبير عن حالهم وعن الجنس الأدنى الذي ينتمون إليه. إنهم غير قادرين إلا على الإثارة الجنسية لا على العقل الأوليمبي (أي الغربي الحديث). وأما المفارقة التي أشرتُ إليها آنفًا فتظهر الآن على خشبة المسرح؛ إذ إننا «نكتشف» بعد عدة صفحات أن العرب قد بلغوا من الحمق درجةً تجعلهم عاجزين عن الطموح إلى ما تطمح إليه الثورة، ناهيك بتحقيق هذه الطموحات، والمعنى المضمر هو أن النزعة الجنسية العربية لا تُخشى لذاتها بل بسبب فشلها؛ أي إن «فاتيكيوتيس» يطلب من قارئه أن يصدق أن الثورة في الشرق الأوسط تمثِّل تهديدًا لسبب آخر هو، على وجه الدقة، أن الثورة يستحيل تحقيقها:
أي إن العرب مدانون سواء قاموا بالثورة أو لم يقوموا بها، وفي إطار هذه السلسلة من التعريفات الممزقة المفتتة، تظهر الثورات في صورة تهويمات أذهان تُعاني من الخبل الجنسي، ولكن التحليل الدقيق يبيِّن أن هذه الأذهان عاجزة حتى عن الخبل الذي يحترمه «فاتيكيوتيس» حقًّا … فهو إنساني لا عربي، وهو مجسد لا مجرد، وهو بريء من الجنس ولا جنسي.
وأما واسطة العقد «العلمية» في مجموعة «فاتيكيوتيس» فهي المقال الذي ساهم به «برنارد لويس» بعنوان «المفهومات الإسلامية للثورة». وتبدو استراتيجية الكاتب هنا مشذبة، وكثير من القراء يعرفون معنى كلمة «ثورة» العربية حين تكتب بحروف لاتينية، هي ومشتقاتها المباشرة، و«فاتيكيوتيس» يشرحها أيضًا في مقدمته، ولكن «لويس» لا يشرح معنى كلمة «ثورة» العربية إلا في نهاية مقاله بعد أن يناقش مفهوم الكلمات العربية؛ «دولة وفتنة وبغاث» في سياقها التاريخي وسياقها الديني الدقيق. والمعنى الذي يرمي إليه أساسًا هو أن «المذهب العربي الذي يقضي بالحق في معارضة الحكومة الظالمة مذهب غريب على الفكر الإسلامي» الذي يؤدي إلى «الانهزامية» وإلى «السلبية» في المواقف السياسية. ولا نفهم من المقال على وجه اليقين أين يفترض وجود هذه المصطلحات إلا في موقع ما من تاريخ هذه الألفاظ، وعندما يقترب المقال من نهايته نقرأ ما يلي:
والفقرة كلها غاصة بنبرات التعالي وسوء القصد، فلماذا يزجُّ الكاتب بفكرة نهوض الجمل باعتبارها دليلًا على الأصل الاشتقاقي للكلمة الخاصة بالثورة العربية الحديثة إلا لتشويه سمعة الثورة الحديثة؟ وأما السبب الواضح الذي دفع «لويس» إلى هذا فهو الحطُّ من المكانة الرفيعة التي تتمتع بها الثورة المعاصرة بحيث لا تزيد شرفًا (ولا جمالًا) عن جمل يوشك أن ينهض من مناخه. وهو يقرن الثورة بالهياج والفتنة وإقامة سلطة تافهة، لا أكثر، وأما أفضل نصيحة (والمفترض أنه لا يستطيع تقديمها إلا السيد الغربي والسيد المهذب) فهي «انتظر حتى تسكن هذه الثورة». ولا يستطيع المرء أن يعرف — حتى من هذا الوصف الذي يرمي إلى تحقير الثورة — أن أعدادًا لا تُحصى من الناس تلتزم بها التزامًا فعالًا، وبصور أعوص من أن يفهمَها «البحث العلمي» المتهكم عند «برنارد لويس». ولكن هذا اللون من الحديث الذي ينسب صفات جوهرية للشرقي هو الطبيعي عند دارسي الشرق الأوسط وواضعي السياسات الخاصة به؛ أي إن الحركات الثورية عند «العرب» لا تزيد أهميتها عن نهوض جمل، ولا تستحق اكتراثًا أكثر من تخاريف البلهاء، والواقع أن كلَّ أدبيات الاستشراق المعتمدة سوف يثبت عجزها، لهذا السبب الأيديولوجي نفسه، عن تفسير المد الثوري الإيجابي في القرن العشرين في العالم العربي أو إعداد القراء له.
والرابطة التي يقيمها «لويس» بين الثورة ونهوض الجمل، وعمومًا بينها وبين الهياج (لا بالكفاح في سبيل القيم) يُلمح بصورة أشد صراحة مما اعتدناه في كتابته إلى تصويره العربي في صورة لا تزيد على صوة كائن جنسي عُصابي، فكل كلمة أو عبارة يستعملها لوصف الثورة ملونة بلون جنسي، مثل الإثارة والهياج والوقوف، ولكن اللون الجنسي الذي ينسبه للعربي في معظمه «سيئ»، ففي النهاية ما دام العرب غيرَ مهيَّئين حقًّا للعمل الجاد فإن الإثارة الجنسية لديهم لا تزيد شرفًا عن نهوض الجمل، وبدلًا من الثورة نرى الفتنة، وإقامة سلطة تافهة، والمزيد من الهياج، وهو بمثابة القول بأن العربي لا يمارس الجماع بل لا يستطيع إلا المداعبات الجنسية، والاستمناء، والعزل عند الجماع. وأعتقد أن هذه هي المعاني التي يُوحي بها «لويس»، مهما تكن براءة مظهر علمه، أو مهما تبلغ درجة تهذيب حديثه، فما دام يُبدي هذه الحساسية لظلال معاني الألفاظ، فلا بد أنه يدرك أن كلماته هو أيضًا لها ظلالُ معانٍ.
ويعتبر «برنارد لويس» من الحالات الجديرة بزيادة الفحص؛ لأنه يتمتع بمكانة بارزة في المجال السياسي «للمؤسسة» الأنجلوأمريكية المختصة بالشرق الأوسط، ويعتبر فيها مستشرقًا علامة، وكل ما يكتبه ينضح «بالسلطة» التي يتمتع بها ذلك المجال. ولكن عمله على امتداد عقد ونصف على الأقل كان يتميز أساسًا بنزعة أيديولوجية عدوانية، على الرغم من محاولاته المتعددة لإخفاء ذلك بالحِذْق والسخرية. وأنا أشير إلى كتاباته الحديثة التي تمثِّل خير تمثيل موقف الأكاديمي الذي يزعم عمله أنه بحث علمي موضوعي ليبرالي وهو يقترب إلى حدٍّ كبير، في الواقع، من موقف الداعية الذي يهاجم مادة موضوعه، ولكن ذلك لن يُدهش أي قارئ يحيط بتاريخ الاستشراق؛ وليست حالة «لويس» إلا أحدث فضائح «البحث العلمي» المزعوم، وأقلها تعرضًا للنقد في الغرب.
بل لقد بلغ من حرص «لويس» على تنفيذ مشروعه «لتعرية» ما يتصور أنه حقيقة العرب والإسلام، والحط من شأنهما وتشويه سُمْعتهما أن خذلَته طاقاته كباحث وكمؤرخ، فتراه مثلًا ينشر فصلًا بعنوان «ثورة الإسلام» في كتاب عام ١٩٦٤م، ثم يُعيد نشرَ جانب كبير من المادة نفسها بعد اثنتَي عشرة سنة، بعد إدخال تغييرات طفيفة عليها لتُناسب مكان النشر الجديد (وهو في هذه الحالة مجلة كومنتاري) وبعنوان جديد هو «عودة الإسلام». والتغيير في المادة من «الثورة» إلى «العودة» تغيير إلى الأسوأ، بطبيعة الحال، وهو تغيير يقصد به «لويس» أن يشرح لجمهوره الأخير سببَ رفض المسلمين (أو العرب) للكف عن المقاومة ولقبول هيمنة إسرائيل في الشرق الأدنى.
فلنُنعم النظر الآن في أسلوب تنفيذه لهذا التغيير: إنه يشير في الدراستين إلى أحداث شغب وقعَت في القاهرة عام ١٩٤٥م احتجاجًا على الإمبريالية، ويَصِفها في الحالتين بأنها مناهضة لليهود، لكنه لا يقول لنا في أيٍّ منهما كيف كانت مناهضةً لليهود، وإن كان يستند، في الواقع، في إثبات العداء لليهود إلى أدلة مادية تُدهشنا بعض الشيء، ألَا وهي معلومات «استخبارية» تقول: «إن عدة كنائس كاثوليكية وأرمينية وأرثوذكسية يونانية تعرَّضت للهجوم عليها وإحداث أضرار بها.» انظر صياغة الصورة الأولى عام ١٩٦٤م:
ولننظر الآن في الصورة التي نشرها في مجلة كومنتاري عام ١٩٧٦م:
والغرض الجدلي، لا العلمي، عند «لويس» هو أن يبين هنا وفي نصوص أخرى أن الإسلام عقيدة معادية للسامية لا مجرد دين. وهو لا يواجه صعوبة منطقية تُذكر في محاولة القول بأن الإسلام ظاهرة جماهيرية مخيفة وإن كانت في الوقت نفسه «ليست ذات طابع شعبي حقيقي»، ولكن هذه المشكلة لا تعوقه طويلًا، فكما نرى في الصورة الثانية للقصة المغرضة التي يرويها، يواصل «لويس» حديثه حتى يُعلن أن الإسلام ظاهرة غير عقلانية تستلهم منطق «القطيع» أو الجماهير وتسيطر على المسلمين بالانفعالات والغرائز وضروب الكراهية الخالية من الفكر. وكل ما يرمي إليه هذا «العرض» الذي يقدمه هو تخويف قرائه، ودفعهم إلى عدم التنازل للإسلام عن سنتيمتر واحد. ويقول «لويس» إن الإسلام لا يتطور، مثلما لا يتطور المسلمون، فهم موجودون وحسب، وعلينا أن نحذرَهم بسبب جوهرهم الخالص الذي يتضمن (طبقًا لما يقوله لويس) كراهية طال عليها الأمد للمسيحيِّين واليهود. ويلجأ «لويس» في كل ما يكتبه إلى ضبط النفس حتى لا تصدر عنه تصريحات «ملتهبة» بصورة مباشرة، وإنما يحرص على أن يقول إن المسلمين لا يعادون السامية، بطبيعة الحال، عداء النازيِّين للسامية، ولكن دين المسلمين يسمح بسهولة أكبر مما ينبغي بالعداء للسامية، بل وسمح في الواقع بهذا العداء. وينطبق ذلك على الإسلام والعنصرية والرق والشرور «الغربية» الأخرى، وأما جوهر أيديولوجيا «لويس» بشأن الإسلام فهو أنه لا يتغير أبدًا، وقد أصبحت رسالته تنحصر الآن في إخبار القطاعات المحافظة من جمهور القراء اليهود، وأي شخص آخر يرغب في الإصغاء؛ أنَّ أيَّ وصفٍ سياسي وتاريخي وعلمي للمسلمين يجب أن يبدأ وينتهي بأن المسلمين مسلمون:
وقد يقل استنكارنا لهذا الضرب من بناء الحجج إذا اقتصرنا على اعتباره دعاية سياسية — وهو كذلك بطبيعة الحال — لولا ما يصحبه من المواعظ عمَّا يتصف به المؤرخ الحقيقي من موضوعية وإنصاف ونزاهة، والمعنى المضمر دائمًا هو أن المسلمين والعرب يعجزون عن الموضوعية، وأما المستشرقون الذين يكتبون عن المسلمين والعرب، مثل «لويس»، فهم موضوعيون، تعريفًا، وتعليمًا، ولمجرد كونهم غربيِّين. وهذه هي ذروة الاستشراق في التحجر المذهبي الذي لا يقف عند حدود الحط من مادة موضوعه بل يتجاوزها إلى كفِّ بصر ممارسيه. ولكن دعونا نسمع أخيرًا ما يقوله «لويس» عن أسلوب السلوك الأمثل للمؤرخ، ولنا أن نتساءل إن كان التعصب الذي يهاجمه مقصورًا على الشرقيِّين دون غيرهم:
لا شك في احتمال تأثُّر موضوع البحث بنوازع الولاء [عند المؤرخ] ولكن هذه النوازع لا ينبغي أن تؤثر في معالجته له. فإذا وجد في أثناء بحوثه أن الجماعة التي يحس بانتمائه إليها على صواب دائمًا، وأن الجماعات الأخرى المتنازعة معها مخطئة دائمًا، فالأفضل له أن يتشكك في النتائج التي انتهى إليها، وأن يُعيد فحص الفرضية التي انتقى على أساسها أدلته وفسَّر هذه الأدلة، فليس من طبيعة الجماعات البشرية [ولنفترض أنها تتضمن جماعة المستشرقين كذلك] أن تكون على صواب دائمًا.
وسوف تبحث عبثًا عن الوعي والإنصاف والصراحة في الأحكام التي يُصدرها «لويس» عن الإسلام، بسبب الأسلوب الذي يتبعه في معالجته، فهو يفضِّل أن يعمل، كما رأينا، عن طريق الإيحاء والتلميح، ومع ذلك فقد نشعر أنه غيرُ واعٍ بما فعله (ربما باستثناء الشئون «السياسية»، مثل مناصرته للصهيونية وعدائه للقومية العربية، ونبرته العالية في محاور الحرب الباردة)؛ إذ إنه من المؤكد أن يقول إن تاريخ الاستشراق كله، وهو الذي انتفع به «لويس»، قد أحال تلك التلميحات والفرضيات إلى حقائق قاطعة أو لا جدال فيها.
وتقوم لغة الاستشراق بالدور المسيطر في كل شيء ناقشته، فهي تجمع بين الأضداد بحيث يبدو ذلك أمرًا «طبيعيًّا»، وتقدِّم أنماطًا بشرية بمصطلحات ومنهجيات علمية، وتنسب الحقيقة والمرجعية إلى أشياء (أي كلمات أخرى) من ابتكارها. ونحن نعتبر اللغة الأسطورية «خطابًا» بمعنى أنها لا يمكن إلا أن تتصف بالمنهجية، ولا يستطيع أحد في الواقع أن يُنشئ «الخطاب» الذي يريده، أو أن يقول ما يقول في إطاره دون أن ينتميَ أولًا إلى الأيديولوجيا والمؤسسات التي تضمن وجوده، وقد يكون هذا الانتماء عن غير وعي في بعض الحالات، لكنه انتماء غير طوعي على كل حال. وهذه المؤسسات دائمًا ما تكون مؤسسات مجتمع متقدم يتناول مجتمعًا أقل تقدُّمًا، أو مؤسسات ثقافة قوية تُلاقي ثقافة ضعيفة. والسمة الأساسية «للخطاب» الأسطوري هي أنه يُخفي مصادره وأصوله، مثلما يُخفي مصادر ما يصفه وأصوله. وهو يقدم «العرب» في صورة الأنماط الثابتة المجردة تقريبًا؛ لا باعتبارهم كائنات تتمتع بإمكانات تمر بمرحلة التحقيق ولا باعتبارهم تاريخًا يتشكَّل ويتكوَّن. والقيمة المبالغ فيها التي تُنسب إلى اللغة العربية، من حيث كونها لغة، تسمح للمستشرق بأن يجعل اللغة مرادفة للعقل وللمجتمع وللتاريخ وللثقافة. فالمستشرق لا يرى أن الشرق يتكلم لغته ويُفصح بها، بل إن اللغة هي التي تُفصح عنه.
(٤) الشرقيون الشرقيون الشرقيون
ومع ذلك فإن الاستشراق، رغم أوجه الفشل المذكورة، ورطانته المؤسفة، ونزعته العنصرية التي لا تكاد تخفى، وجهازه الفكري الهزيل يزدهر اليوم بالأشكال التي حاولت وصفها، بل إني أرى ما يدعو إلى الانزعاج في انتشار تأثيره إلى «الشرق» نفسه؛ إذ تحفل صفحات الكتب والمجلات المنشورة بالعربية (وبلا شك باليابانية وشتى اللهجات الهندية وغيرها من اللغات الشرقية) بتحليلات من الدرجة الثانية يكتبها العرب عن «العقل العربي» وعن «الإسلام»، وغير ذلك من أقوال في عداد الأساطير، كما انتشر الاستشراق أيضًا في الولايات المتحدة بعد أن أضافت الأموال والموارد العربية بُعدًا جديدًا يتمثل في الجاذبية الكبيرة «للاهتمام» التقليدي بالشرق ذي الأهمية الاستراتيجية. والواقع هو أن الإمبريالية الجديدة قد نجحت في تكييف الاستشراق واستيعابه؛ إذ أصبحت نماذجه الفكرية الحاكمة لا تتعارض، بل وتؤكد المخطط الإمبريالي المستمر للهيمنة على آسيا.
ويحقُّ لنا أن نعتبر أن التكيُّف بين الطبقة المثقفة وبين الإمبريالية الجديدة يُعَد انتصارًا من انتصارات الاستشراق الخاصة، في تلك البقعة من بقاع الشرق التي أستطيع أن أتحدث عنها بشيء من المعرفة المباشرة. فالعالم العربي اليوم تابعٌ فكريٌّ وسياسي وثقافي يدور في فلك الولايات المتحدة، وليس هذا في ذاته ظاهرة يُؤسَف لها، لكن ما يؤسف له هو شكل علاقة التبعية المذكورة. انظر أولًا إلى الجامعات في العالم العربي التي تُدار بصفة عامة وفقًا لنسق موروث من دولة استعمارية سابقة أو فرضَته تلك الدولة بصورة مباشرة. ولقد تغيَّرت الظروف حتى أصبحت المحتويات الفعلية للمقررات الدراسة غريبة غرابة تكاد تكون شائهة، فالقاعات تغصُّ بمئات الطلاب، والمعلمون لم يتلقَّوا التدريب الجيد، ويعملون أكثر مما ينبغي ويتقاضَون رواتبَ أقل مما ينبغي، كما يحدث أن يُعَيَّن أحدُهم في منصب جامعي لأسباب سياسية، هذا إلى جانب الافتقار شبه التام إلى البحوث العلمية المتقدمة والتجهيزات اللازمة لها، وأهم من ذلك كله الافتقار إلى مكتبة «محترمة» واحدة في المنطقة العربية كلها. وإذا كانت بريطانيا وفرنسا قد سيطرتَا يومًا ما على الآفاق الفكرية للشرق بفضلِ علوِّ كعبهما وثرائهما، فلقد غدَت الولايات المتحدة تشغل هذا المكان، والنتيجة هي أن القلة من الطلاب الواعدين الذين يستطيعون النجاح من خلال النظام التعليمي في بلادهم يُحفزون على القدوم إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراساتهم العليا، وإذا كان من الصحيح، دون شك، أن بعض طلاب العالم العربي لا يزالون يقصدون أوروبا للدراسة، فإن الأغلبية تأتي للولايات المتحدة، ويصدق هذا على طلاب البلدان التي تُوصف بالراديكالية مثلما يصدق على البلدان المحافظة مثل المملكة العربية السعودية والكويت. أضِف إلى هذا أن نظام الرعاية في الدراسة والنشاط التجاري والبحث العلمي قد أتاح للولايات المتحدة أن تُمسك بزمام الأمور وتتمتع بسيطرة شبه كاملة؛ إذ يسود الاعتقاد بأن «المصدر» هو الولايات المتحدة مهما ابتعدت في الواقع عن أن تكون «المصدر» الحقيقي.
وقد ساهم عاملان في جعل هذه الحال تمثِّل انتصارًا أوضح للاستشراق؛ فإذا استطعنا إصدارَ أحكام عامة شاملة قلنا إن التيارات البارزة للثقافة المعاصرة في الشرق الأدنى تسترشد بالنماذج الأوروبية والأمريكية. وعندما قال طه حسين عن الثقافة العربية الحديثة عام ١٩٣٦م إنها أوروبية لا شرقية، كان يسجل هوية الصفوة أو النخبة المصرية المثقفة التي كان هو من أفرادها البارزين، ويصدق ذلك نفسه على النخبة الثقافية العربية اليوم، وإن كان التيار العارم للأفكار المناهضة للإمبريالية في العالم الثالث الذي ساد المنطقة منذ الخمسينيات؛ قد خفف من الطابع الغربي للثقافة السائدة. وبالإضافة إلى ذلك فإن العالم العربي والإسلامي لا يزال يمثِّل قوةً من الدرجة الثانية من حيث إنتاج الثقافة والمعرفة والبحث العلمي. وعلينا هنا أن نتسلح بالواقعية الكاملة في وصف الأوضاع الناجمة؛ إذ لا يملك باحث عربي أو إسلامي أن يتجاهل ما يُنشَر في الدوريات العلمية ولا ما يحدث في المعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، والعكس ليس صحيحًا. فعلى سبيل المثال، لا توجد دورية علمية كبرى للدراسات العربية تُنشر في العالم العربي اليوم، كما لا توجد مؤسسة تعليمية عربية قادرة على تحدِّي جامعات مثل أوكسفورد وهارفارد وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس في دراسة العالم العربي، وتقل قدرة المؤسسات التعليمية العربية على ذلك في مجال الدراسات غير الشرقية. والنتيجة المتوقعة لهذا كلِّه هي أن الطلابَ الشرقيِّين (والأساتذة الشرقيِّين) لا يزالون يريدون أن يأتوا ليتعلموا من المستشرقين الأمريكيِّين، حتى يعودوا ليُكرروا على مستمعيهم المحليِّين نفسَ القوالب الفكرية واللفظية التي وصفتُها بأنها عقائد استشراقية جامدة. ومثل هذا النظام من التكاثر أو الاستنساخ يدفع الباحث الشرقي حتمًا إلى استخدام تعليمه الأمريكي في الإحساس بالتفوق على أبناء وطنه بسبب قدرته على «الإحاطة» بالنظام الاستشراقي وتطبيقه، لكنه يظل مجرد «مصدر معلومات وطني» في علاقاته برؤسائه من المستشرقين الأوروبيِّين أو الأمريكيِّين. والواقع أن دوره في الغرب سوف يقتصر على ذلك إذا أسعده الحظ بالمكوث في الغرب بعد تعليمه العالي. والمعروف أن معظم المناهج الدراسية الأولية في اللغات الشرقية يقوم بتدريسها هؤلاء «الشرقيون» في جامعات الولايات المتحدة اليوم، ولكن السلطة في هذا النظام (في الجامعات والمؤسسات وما شابهها) تكاد تكون محصورةً في أيدي غير الشرقيِّين، وإن كانت أعداد غير الشرقيِّين من الأستاذة المقيمين لا تزيد بصورة صارخة عن أعداد نظرائهم الشرقيِّين.
وأمامنا شتى أنواع الدلائل الأخرى التي تبيِّن كيف يتسنَّى الحفاظ على الهيمنة الثقافية، وهو الذي يساهم فيه قبول الشرقيِّين له والضغط الاقتصادي المباشر والفظ من جانب الولايات المتحدة. فمما يلفت الانتباه مثلًا أن عشرات المنظمات قد تخصصت في الولايات المتحدة في دراسة الشرق العربي والإسلامي، ولم تتخصَّص منظمة واحدة في الشرق نفسه في دراسة الولايات المتحدة؛ الدولة التي تتمتع بأقوى نفوذ اقتصادي وسياسي في المنطقة، والأدهى من ذلك أننا لا نكاد نجد معهدًا واحدًا في الشرق، ولو تواضَعَ مستواه، يتخصص في دراسة الشرق. ولكن هذا كله يتضاءل في ظني أمام العامل الثاني الذي يساهم في انتصار الاستشراق؛ ألَا وهو النزعة الاستهلاكية في الشرق. فلقد ارتبط العالم العربي والإسلامي بصفة عامة بنظام السوق الغربي، ولا يحتاج أحد إلى مَن يُذكِّره بأن النفط، أعظم موارد المنطقة، يستوعبه الاقتصاد الأمريكي استيعابًا تامًّا، ولا أعني بذلك فقط أن النظام الاقتصادي الأمريكي يتحكم في شركات النفط الكبرى بل أعني أيضًا أن عائدات النفط العربي — ناهيك بالتسويق والبحوث وإدارة الصناعة — تتخذ الولايات المتحدة مقرًّا لها، وهو الذي أدَّى فعليًّا إلى أن أصبح العرب — أصحاب الثورة النفطية — من كبار المستهلكين للصادرات الأمريكية، ويصدق هذا على دول الخليج العربي مثلما يصدق على ليبيا والعراق والجزائر، والأخيرة من الدول الراديكالية. وما أرمي إليه هو أن هذه العلاقة علاقة من جانب واحد، ونرى فيها أن الولايات المتحدة مستهلكٌ انتقائيٌّ لمنتجات بالغة القلة (النفط والأيدي العاملة الرخيصة أساسًا) وأن العرب مستهلكون بالغو التنوع لشتى ضروب المنتجات الأمريكية، المادية والأيديولوجية.
وقد كانت لذلك عواقبه الكثيرة؛ إذ ساد توحيد الأذواق على نطاق هائل في المنطقة، ولا تقتصر رموزه على الترانزستور وسراويل البلوجينز والكوكاكولا بل تتجاوز ذلك إلى الصور الثقافية للشرق التي تُقدمها أجهزة الإعلام الجماهيرية الأمريكية و«تستهلكها» دون تفكير جماهير التليفزيون في المنطقة. ومفارقة العربي الذي يعتبر نفسه «عربيًّا» بالصورة التي تقدِّمها هوليود ليست سوى أبسط النتائج التي أشير إليها، فمن النتائج الأخرى نجاح اقتصاد السوق الغربي وتوجُّهه الاستهلاكي في إنتاج طبقة (يزداد إنتاجها بمعدل سريع) من المتعلمين الذين يتجه تكوينهم الفكري إلى إشباع احتياجات السوق. فالتركيز الشديد على الهندسة وإدارة الأعمال والاقتصاد لا يكاد يحتاج إلى إيضاح، ولكن طبقة المثقفين نفسها تساعد ما ترى أنه التيارات الأساسية التي تتعرض للقمع في الغرب، فقد وجدت أن الدورَ الموصوفَ لها، بل والمُعَدَّ لها، هو دور «التحديث»، وهو ما يعني إضفاء الشرعية والسلطة على الأفكار الخاصة بالتحديث والتقدم والثقافة التي تتلقاها من الولايات المتحدة في معظمها ولدينا أدلة باهرة على ذلك في العلوم الاجتماعية، بل — وهو ما يُثير الدهشة — بين المثقفين الراديكاليِّين الذين اقتبسوا نظرتهم الماركسية كلها من نظرة ماركس التي تصور العالم الثالث في صورة موحدة متجانسة، على نحو ما سبقت لي مناقشته في هذا الكتاب. وهكذا فإذا كانت الحالة العامة تدل على قبول فكري للصور والعقائد التي وضعها الاستشراق، فإن هذا الاتجاه يلقَى التدعيم الشديد من التبادل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهكذا، وبإيجاز، نرى أن الشرق الحديث يساهم في صبغ نفسه بصبغة «الشرق» الاستشراقية.
أرجو أن تكون بعض إجاباتي على هذه الأسئلة مضمرة فيما سبق لي قوله، وربما استطعت أن أزيد قليلًا من الإفصاح عنها هنا. سبق لي في وصفي لطابع الاستشراق أن قلت إنه يُثير الشكوك ليس فقط في إمكان إجراء بحوث علمية بريئة من السياسة بل أيضًا في حكمة وجود علاقة أوثق مما ينبغي بين الباحث والدولة. وأعتقد أنه من الواضح أيضًا أن الظروف التي تجعل الاستشراق نمطًا فكريًّا ذا قدرة دائمة على الإقناع سوف تستمر، وهو أمر يدعو إلى الانقباض بصفة عامة. ومع ذلك فإنني أتوقع، وعلى أسس عقلانية، عدمَ استمرار ما يدعو إلى أن يظلَّ الاستشراق دائمًا بمنجى من الطعن فيه فكريًّا وأيديولوجيًّا وسياسيًّا، على نحو ما شهدناه حتى الآن.
ولم أكن لأكتب مثل هذا الكتاب لو لم أكن أومنُ أيضًا بوجود بحوث علمية لا تتسم بما تتسم به البحوث التي ركَّزتُ عليها في عرضي من فساد أو، على الأقل، من عمًى عن الحقيقة الإنسانية؛ إذ يوجد اليوم كثيرٌ من الباحثين الأفراد الذين يعملون في بعض المجالات؛ مثل التاريخ الإسلامي، والدين الإسلامي، والحضارة الإسلامية، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والذين يتميز إنتاجهم العلمي بقيمته العميقة. ولا تبدأ المتاعب إلا عندما تزحف التقاليد «المهنية» للاستشراق فتستولي على الباحث غير اليقظ، والذي لا يأخذ وعْيُه الفردي في البحث العلمي حذرَه من الأفكار التقليدية التي يتوارثها أبناء المهنة بسهولة من أسلافهم. وهكذا فالأرجح أن ينجز الأبحاثَ الجيدةَ الباحثون الذين يدينون بالولاء لمبحث علمي ذي حدود فكرية لا «لمجال» مثل الاستشراق؛ حدودُه هي الأصول المرعية في «المهنة» أو التقاليد الإمبريالية أو الحدود الجغرافية. ومن الأمثلة الحديثة الممتازة تلك الدراسة الأنثروبولوجية التي قدَّمها «كليفورد جيرتز»؛ فاهتمامه بالإسلام يتميز بدرجة كبيرة من الاستقلال والطابع العملي، وهو ما يمكنه من استلهام روح المجتمعات والمشكلات المحددة التي يدرسها، بدلًا من الارتكان إلى طقوس الاستشراق وتصوراته المسبقة وعقائده الراسخة.
ونرى، من ناحية أخرى، أن الباحثين والنقاد الذين تلقَّوا دراساتهم في إطار المباحث الاستشراقية التقليدية يستطيعون بسهولة أن يتحرروا من القيود الأيديولوجية القديمة. والدراسة التي تلقَّاها «جاك بيرك ومكسيم رودنسون» تعتبر من أشد الدراسات التي نعرفها صرامة، ولكن بحوثهما تمتاز بحيوية خاصة حتى حين يدرسان المشكلات التقليدية، بسبب الوعي الذاتي المنهجي لدى كلٍّ منهما؛ فإذا كان الاستشراق على مرِّ التاريخ يتميز بالزهو المبالغ فيه بنفسه، والانعزال الشديد، والثقة الزائدة — المستمدة من المنطقية الوضعية — بأساليب عمله ومنطلقاته، فإن أحد وسائل انفتاح الباحث على ما يدرسه في الشرق أو عن الشرق هو أن يقوم بفحص منهجه الخاص فحصًا نقديًّا. وهذا هو ما يميز «بيرك ورودنسون»، كلٌّ بأسلوبه الخاص. ونحن نجد في عملِ كلٍّ منهما، أولًا، حساسية مباشرة للمادة التي يواجهانِها، وبعدها يأتي الفحص الذاتي المتواصل للمنهجية والتطبيق، والمحاولة الدائمة لإخضاع عملهما للمادة لا لتصور عقائدي مسبق. ويتميز كلٌّ من «بيرك ورودنسون» — شأنهما في ذلك شأن «عبد الملك وروجر أووين» — بإدراك أن أفضل سبيل إلى دراسة الإنسان والمجتمع — شرقيًّا كان أم غير شرقي — هو المجال الواسع لجميع العلوم الإنسانية، ومن ثَم فإن هؤلاء الباحثين قرَّاءٌ ناقدون ودارسون لما يجري في المجالات الأخرى. وهكذا فإن انتباه «بيرك» إلى المكتشفات الحديثة في الأنثروبولوجيا البنيوية، واهتمام «رودنسون» بعلم الاجتماع والنظرية السياسية، وإلمام «أووين» بالتاريخ الاقتصادي، كلها تعتبر «تصويبات» مفيدة، استُعيرت من العلوم الإنسانية المعاصرة لتطبيقها في دراسة ما يسمَّى بالمشكلات الشرقية.
غير أنه لا سبيل إلى تجنُّب الواقع الذي يقول إننا — حتى لو تغاضينا عن التفرقة الاستشراقية بينهم «هم» وبيننا «نحن» — نجد أن سلسلة ذات قوة ونفوذ من الحقائق السياسية، والتي تعتبر أيديولوجية آخر الأمر، تغذو البحث العلمي اليوم. أي إنَّ أحدًا لا يملك تجنُّب ضروب أخرى من التفرقة، إن لم تكن بين الشرق والغرب، فبين الشمال والجنوب، أو بين الأغنياء وبين الفقراء، أو بين الإمبرياليِّين وبين مناهضي الإمبريالية، أو بين الأجناس البيضاء وبين الأجناس الملونة، ولا نستطيع الالتفاف حولها جميعًا متظاهرين بأنها غير موجودة، بل على العكس من ذلك نجد أن الاستشراق المعاصر يُعلمنا الكثير من التزييف الفكري الكامن في الخداع بشأن هذه القضية؛ إذ يؤدي ذلك إلى تعميق التقسيمات وجعْلها خبيئةً ودائمة معًا. ومع ذلك فما أسرع ما يمكن أن يتدهور البحث العلمي «التقدمي» القائم على جدلية صريحة ونظرة عقلية صائبة، فيصبح بمثابة غفوة من غفوات الجمود المذهبي، وهو احتمال لا تُرجَى منه فائدة علمية هو الآخر.
وأما تصوري الخاص للمشكلة فتُفصح عنه أنواع الأسئلة التي طرحتُها آنفًا؛ فلقد اكتسبنا من الفكر الحديث والخبرة الحديثة الحساسية لما يعنيه تقديم صورة تمثِّل شيئًا ما، ودراسة الآخر، والتفكير العنصري، والقبول دون تفكير ودون انتقاد للسلطة وللأفكار «المعتمدة»، والدور السياسي الاجتماعي الذي ينهض به المثقفون، والقيمة الكبرى للوعي النقدي القائم على الشك. وربما لو تذكَّرنا أن دراسة الخبرة الإنسانية عادةً ما تكون لها عواقب أخلاقية، ناهيك بالعواقب السياسية، بأفضل معنًى لهذه الكلمات أو أسوئه، فسوف نكُفُّ عن اللامبالاة في البحث العلمي. وهل ثَم معيارٌ للباحث العلمي يفضُلُ الحرية الإنسانية والمعرفة؟ وربما يكون علينا أن نتذكَّر أيضًا أن دراسة الإنسان في المجتمع دراسة تقوم على وقائع تاريخ البشر وخبراتهم، لا على تجريدات الأساتذة أو على القوانين الغامضة أو على النظم التعسفية. والمشكلة إذن هي تطويع الدراسة وفقًا للخبرة، بحيث يتحدد شكل الدراسة في ضوء الخبرة بصورة ما، وعندها تستطيع الدراسة إيضاح الخبرة وربما تغييرها أيضًا والواجب أن نتجنب، مهما يكن الثمن، إضفاء صورة شرقية مسبقة على الشرق في كلِّ خطوة نخطوها، وسوف يترتب على هذا قطعًا تنقيح المعرفة والتقليل من غرور الباحث. ولو غابت صورة «الشرق» المسبقة لجاء من الباحثين والنقاد والمفكرين والبشر مَن لا يولون لضروب التمييز العنصري والعِرقي والقومي الأهمية التي يُولونها للجهد المشترك في سبيل تعزيز التواصل والترابط البشري.
إنني أومنُ إيمانًا قاطعًا — على نحو ما حاولت إيضاحه في أعمالي الأخرى — بأن المنجزات الجارية اليوم في العلوم الإنسانية تكفي لتزويد الباحث المعاصر بالأفكار والمناهج والنظرات الثاقبة القادرة على إقصاء الأنماط العنصرية والأيديولوجية والإمبريالية، وهي الأنماط الثابتة التي أنشأها الاستشراق أثناء صعود نجمه وسطوعه على مرِّ التاريخ. وأنا أرى أن فشل الاستشراق فشلٌ إنساني بقدر ما هو فشل فكري؛ إذا إنه حين دُفع دفعًا إلى اتخاذ موقع معارضة لا يمكن اختزاله إزاء منطقة من مناطق العالم يعتبرها أجنبية غريبة عنه، قد عجز عن التعاطف أو التوحد مع الخبرة البشرية بل وعجز عن إدراك أنها خبرة بشرية. ومن الممكن الآن تحدِّي السيطرة العالمية للاستشراق وكل ما يرمز له، إذا استطعنا أن نستفيد استفادةً صحيحة مما شهده القرن العشرون بوجه عام من ارتفاع مستوى الوعي السياسي والتاريخي لعدد كبير من شعوب العالم. وإذا كُتب لهذا الكتاب أن يعود بفائدة ما في المستقبل، فسوف تنحصر هذه الفائدة في كونه مساهمة متواضعة في ذلك التحدي، وفي كونه تحذيرًا يقول: ما أسهل إنشاء بعض النظم الفكرية مثل الاستشراق وضروب «خطاب» السلطة والخرافات الأيديولوجية — وهي أصفاد يصنعها العقل — وما أسهل تطبيقها والحفاظ عليها. وأرجو، قبل كل شيء، أن أكون قد أوضحتُ لقارئي أن الرد على الاستشراق ليس «الاستغراب»، ولن يجد مَن كان «شرقيًّا» يومًا ما أيَّ تسرية في القول بأنه ما دام شرقيًّا هو نفسه فمن المحتمل، بل من الأرجح، أن يدرس «شرقيِّين» جُدَدًا — أو «غربيِّين» — من ابتكاره الخاص. وإذا كان لمعرفة الاستشراق أيُّ معنًى، فإنه يكمن في كونه تذكيرًا بالتدهور المُغْوِي للمعرفة، أية معرفة، في أي مكان، وفي أي زمان. وربما يصدق هذا على العصر الحاضر أكثر مما يصدق على الماضي.