رابعا: آخر مرحلة

بدأ ظهور شخصية العربي المسلم في الثقافة الشعبية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وبصورة أوضح بعد كل حرب بين العرب وإسرائيل، وذلك حتى بعد الاهتمام الشديد الذي بدأ العربي يحظى به في الحياة الأكاديمية، وفي عالم تخطيط السياسات، ودنيا التجارة والأعمال، وهو ما يرمز إلى تغيُّر كبير في التشكيلات الدولية للقوى؛ إذ لم تَعُد فرنسا وبريطانيا تشغلان الموقع الرئيسي على مسرح السياسة العالمية، بعد أن حلَّت السلطة الأمريكية المهيمنة محلَّهما، وظهرت شبكة شاسعة الأطراف من المصالح التي تربط ما بين جميع مناطق العالم التي كانت مستعمرة وبين الولايات المتحدة، كما أن فروع التخصص الأكاديمي التي انتشرت أصبحت تقوم على تقسيم جميع المباحث اللغوية السابقة التي كانت أوروبا مقرًّا لها، مثل الاستشراق (وتقيم الروابط فيما بينها أيضًا) فلدينا الآن مَن يسمَّى «المتخصص في منطقة ما» وهو الذي يزعم الخبرة بذلك الأقليم، ويضع تلك الخبرة في خدمة الحكومة أو رجال الأعمال أو كليهما. وهكذا فإن المعرفة الهائلة، شبه المادية، المختزنة في حوليات الاستشراق الحديث — على نحو ما سجلها، مثلًا، «جول مول» في التوثيق المحكم الذي أعده عن ذلك المجال في القرن التاسع عشر — قد تعرَّضت «للتذويب» والدفع بها في أشكال جديدة، وأصبحنا نشاهد الآن ضروبًا منوعة من الصور «المهجنة» التي تمثِّل الشرق وهي تنتقل في الثقافة من مكان لمكان. ولقد كانت للصور التي تمثِّل اليابان، والهند الصينية، والصين، والهند، وباكستان، أصداؤها الشاسعة، ولا تزال تحدث هذه الأصداء، كما كانت تتعرض للمناقشة في أماكن كثيرة، لأسباب واضحة. كما كان للعرب وللإسلام صورٌ تمثِّلهما أيضًا، وسوف نناقشها هنا وهي تلح على الأذهان إلحاحًا، بأشكالها الممزقة المتقطعة، على تمتُّعها بالقوة والتماسك الأيديولوجي، وإن لم يتعرض الكثيرون لمناقشة ذلك الإلحاح الذي بذل الاستشراق الأوروبي التقليدي كلَّ ما يملك فيه داخل الولايات المتحدة.

(١) الصور الشعبية والصور التمثيلية في العلوم الاجتماعية

هاك بعض النماذج التي توضح كيف يمثلون صورة العربي اليوم في أمريكا، وسوف تلاحظ السهولة التي يبدو أن «العربي» يقبل التحول بها إلى صورٍ تمثِّله وتختزل حقيقته — وكلها صور مغرضة وحسب — وانظر كيف يفرضونها عليه فرضًا. كان المسئولون قد وضعوا تصميمَ الزيِّ الخاص بالاحتفال بالدفعة العاشرة من خريجي جامعة برنستون عام ١٩٦٧م قبل نشوب حرب يونيو، وكان رمز الزي هو الجو العربي، من حيث الثوب الفضفاض وغطاء الرأس والصندل، وهو رمز وحسب؛ لأنه من الخطأ وصف الملابس بأكثر من كونها مظهرًا موحيًا. وما إن وقعت الحرب، واتضح أن الرمز العربي سوف يسبِّب الحرج للجامعة، حتى قرر المسئولون تغيير خطة الاحتفال، فتقرر الإبقاء على الزيِّ المتفق عليه سلفًا ولكن كان على أفراد الدفعة أن يسيروا في موكب وقد وضعوا أيديَهم فوق رءوسهم رمزًا للهزيمة المنكرة: كان ذلك هو ما آل إليه العربي، أي إنه تحوَّل من الصورة النمطية الباهتة باعتباره من الرُّحل راكبي الجمال إلى صورة كاريكاتورية ساخرة باعتباره تجسيدًا للعجز ويُسْر القهر، ولم يكن النطاق المسموح به للعربي يزيد عن ذلك.

ولكن العربي عاد للظهور بعد عام ١٩٧٣م في كل مكان في صورة تُنذر بخطر أشد، فكثيرًا ما كانت تظهر الرسوم الكاريكاتورية التي تصور شيخًا عربيًّا يقف خلف مضخة للبنزين، ولكن هؤلاء العرب كانوا بوضوح «ساميين»، وكانت أنوفهم المعقوفة بوضوح، والنظرة الشبقة الخبيثة في وجوههم ذات الشوارب، مظاهر بارزة تُذكِّر (السكان الذين لا ينتمي معظمهم إلى الجنس السامي) بأن «الساميِّين» من وراء جميع متاعبنا «نحن»، وكانت أهم المتاعب في هذه الحالة نقص البنزين، وكان نقل العداء الشعبي للسامية من هدف يهودي إلى هدف عربي يجري بسلاسة ويُسْر، ما دام «الشكل» في جوهره واحدًا في الحالين.

وهكذا فإذا شغل العربي موقعًا يستلزم الانتباه له، فإنه يمثل فيه قيمة سلبية؛ إذ يراه الناس في صورة مَن يتهدد وجود إسرائيل ووجود الغرب، أو من وجهة نظر أخرى للأمر نفسه، في صورة عقبة أمكن تخطيها لإنشاء إسرائيل عام ١٩٤٨م. وأما إذا ما كان لهذا العربي أي تاريخ على الإطلاق، فلا بد أن يكون ذلك جزءًا من التاريخ الذي منحَته إياه تقاليد الاستشراق (أو أخذته منه فالفارق طفيف) ومنحَته إياه في وقت لاحق تقاليد الصهيونية. كانت النظرة إلى فلسطين — من جانب «لامارتين» والصهيونيِّين الأوائل — نظرة إلى صحراء خاوية تنتظر مَن يزرعها فتزهر وتُثمر، وتفترض أن سكانها من الرُّحَّل الذين لا قيمة لهم وأنهم لا يتمتعون بحقٍّ فعليٍّ في الأرض، ومن ثَم فليست لهم حقيقة ثقافية أو قومية. وهكذا أصبحت النظرة إلى العربي تصوره في صورة الظل الذي يتبع اليهودي أينما حلَّ وارتحل، ومن الممكن للغربي أن يودع في ذلك الظل أيَّ قدر لديه من الشكوك الكامنة والتقليدية إزاء الشرق؛ لأن العرب واليهود ساميون شرقيون، أي إن صورة اليهودي في أوروبا قبل نشأة النازية قد أصبحت ذات شقَّين، بمعنى أننا أصبحنا نشهد الآن بطلًا يهوديًّا يتركب من «الإجلال» الذي أُعيد تشكيله للمستشرق المغامر الرائد (مثل بيرتون ولين ورينان) ومن ظلِّه الذي يزحف خلفه ويُثير خوفًا غامضًا؛ ألَا وهو الشرقي العربي. وهكذا كانت هذه الصورة تعزل العربي عن كل شيء باستثناء الماضي الذي خلفته له الجدلية الاستشراقية، وتغلُّه بأصفاد مصير يثبته في مكانه ويحكم عليه بسلسلة من ردود الأفعال يعاقبه عليها «سيف إسرائيل الرهيب العاجل» بتعبير «بربارا توكمان»، وهو تعبير «لاهوتي».

ولكن العربي، إلى جانب عدائه للصهيونية، هو الذي يوفر النفط للناس، وهي من خصائصه السلبية الأخرى؛ لأن معظم ما كتب عن النفط العربي يوازي بين المقاطعة البترولية في ١٩٧٣-١٩٧٤م (وهي التي لم يستفد منها أساسًا إلا شركات النفط الغربية ونخبة حاكمة عربية محدودة) وبين غياب أي مؤهلات أخلاقية لامتلاك مثل هذه الاحتياطيات الهائلة من النفط. وأكثر الأسئلة المطروحة شيوعًا يقول، دون التلطف المعتاد في التعبير، لماذا يُمنح أمثال هؤلاء العرب الحق في مواصلة تهديد العالم المتقدم (والحر والديموقراطي وصاحب الأخلاق الحميدة). ومن أمثال هذا السؤال تنبع الفكرة المتواترة والداعية إلى قيام مشاة البحرية بغزو حقول النفط العربية.

وأما في السينما والتلفزيون فترتبط صورة العربي إما بالفسوق أو الخيانة وسفك الدماء، فهو يظهر في صورة صاحب الشهوة الجنسية الطاغية، المنحل المنحط، القادر ولا شك على أن يحيك مؤامرات خبيثة بارعة، لكنه في جوهره يتلذذ بتعذيب غيره، خئون، وضيع. ومن الأدوار التقليدية للعربي في السينما دور تاجر الرقيق، وسائق الجمال، والصراف، والوغد الجذاب، وكثيرًا ما يظهر القائد العربي (لعصابة لصوص أو قراصنة أو جماعة من «الأهالي» المتمردين) في صورة مَن يسخر من البطل الغربي الذي أسروه مع صاحبته الشقراء (وصورتهما تنضح بالخلق السوي) قائلًا «سوف يقتلكما رجالي، ولكنهم يريدون التسلي أولًا.» وهو يرمقهما بنظرات خبيثة موحية أثناء حديثه، وهذه هي الصورة المنحطة الحديثة لشخصية الشيخ التي قام بها «فالنتينو». وأما في النشرات أو الصور الإخبارية فالعربي يظهر دائمًا في حشود كبيرة، وينتفي اعتباره فردًا يتمتع بخصائص أو خبرات شخصية. ومعظم الصور تمثل الغضب الجماهيري الجامح والبؤس، أو الحركات غير العقلانية (التي تبدو شاذةً وميئوسًا منها). وخلف جميع هذه الصور يكمن التهديد بخطر الجهاد، أو الخوف من أن المسلمين (أو العرب) سوف يستولون على العالم.

وتُنشر بانتظام الكتب والمقالات التي تتناول الإسلام والعرب، والتي لا تمثِّل أيَّ تغيير على الإطلاق في الجدليات الضارية المناهضة للإسلام في العصور الوسطى وعصر النهضة. ولم يحدث أن تعرَّضت طائفة عرقية أو دينية أخرى لثبات كل ما يُكتب أو يقال عنها تقريبًا دون الطعن فيه أو الاعتراض عليه. ويقول مرشد دراسات طلاب مرحلة الليسانس في كلية كولمبيا لعام ١٩٧٥م عن منهج اللغة العربية: إن نصف كلمات تلك اللغة مرتبط بالعنف، وإن العقل العربي، كما «يتجلى» في اللغة، طنان أجوف، ونرى في مقال حديث بقلم «إميت تيريل»، نشرَته مجلة هاربر، قدرًا أكبر من العنصرية والقذف بالباطل؛ إذ يزعم المقال أن العرب سفاكون للدماء بصفة أساسية، وإن العنف والخداع كامنان في الجينات الوراثية العربية.1 وقد صدر مسح بعنوان: «العرب في الكتب الدراسية الأمريكية» يكشف عن أغرب المعلومات الخاطئة وأكثرها إثارة للدهشة، أو قُل عن أشد صور الطوائف العرقية الدينية تعبيرًا عن بلادة الحس. ويزعم أحد الكتب أن «أبناء هذه المنطقة [العربية] يندر أن يعرف أحد منهم وجود أسلوب أفضل للعيش» ثم يقول بنبرة آسرة «ترى ما الذي يربط بين أهل الشرق الأوسط جميعًا؟» ويجيب دون تردد قائلًا: «إن تلك الرابطة هي العداء العربي — والكراهية العربية — لليهود ولأمة إسرائيل» وإلى جانب مثل هذه «المادة» نقرأ ما يلي عن الإسلام، في كتاب آخر: «دين المسلمين، الذي يسمى الإسلام، بدأ في القرن السابع، وكان الذي بدأه تاجر غني في الجزيرة العربية يُدعَى محمدًا، وقد زعم أنه نبي، ووجد أتباعًا له بين سائر العرب، وقال لهم إن الله قد اصطفاهم لحكم العالم». وهذه النبذة من «المعرفة» تتلوها أخرى، تُجاريها في «الدقة» وهي: «وبُعيد وفاة محمد، جُمعت تعاليمه وسُجِّلت في كتاب يسمَّى القرآن، وهو الذي أصبح الكتاب المقدس للإسلام».2
وهذه الأفكار الفظة تلقَى التأييد لا المعارضة من الأكاديمي الذي يتولى دراسة الشرق الأدنى العربي (ومن الجدير بالذكر، بهذه المناسبة، أن حادثة جامعة برنستون التي أشرتُ إليها آنفًا شهدَتها جامعة تعتز بقسم دراسات الشرق الأدنى الذي أُنشئ فيها عام ١٩٢٧م، وهو أقدم قسم من نوعه في البلاد). خُذ مثلًا التقرير الذي أعدَّه «مورو بيرجر» عام ١٩٦٧م، وهو أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون، بناءً على طلب وزارة الصحة والتربية والرعاية الاجتماعية، وكان عندها رئيس رابطة دراسات الشرق الأوسط، وهي الجمعية المهنية التي تضم الباحثين المعنيِّين بجميع جوانب حياة الشرق الأدنى «أساسًا منذ نشأة الإسلام من وجهة نظر علم الاجتماع والعلوم الإنسانية»،3 والتي تأسست في عام ١٩٦٧م، وقد جعل عنوان دراسته «دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: التطورات والاحتياجات»، ونشرها في العدد الثاني من نشرة تلك الجمعية. ويبدأ «بيرجر» باستعراض أهمية هذا الإقليم استراتيجيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا للولايات المتحدة، ثم يُعرب عن تأييده لشتى مشروعات دعم البرامج الدراسية في الجامعات التي اضطلعت بها حكومة الولايات المتحدة والمؤسسات الخاصة — مثل قانون التعليم الخاص بالدفاع الوطني الصادر في عام ١٩٥٨م (والذي يمثل مبادرة مستلهمة مباشرة من نجاح الاتحاد السوفييتي في إطلاق القمر الصناعي الأول «سبوتنيك»)، وإقامة الروابط بين مجلس بحوث العلوم الاجتماعية ودراسات الشرق الأوسط — وينتهي «بيرجر» إلى النتائج الآتية:
لا يعتبر إقليم «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الحديث مركزًا للإنجاز الثقافي العظيم، وليس من المحتمل أن يصبح كذلك في المستقبل القريب. ومن ثَم فإن دراسة الإقليم أو لغاته غير مجزية في ذاتها من زاوية الثقافة الحديثة.
… وليس إقليمنا مركزًا لقوة سياسية كبرى ولا يتمتع بإمكانات اكتساب هذه القوة … وأهمية الشرق الأوسط السياسية المباشرة للولايات المتحدة آخذة في الانحسار (ويصدق ذلك بدرجة أقل على شمال أفريقيا) بالمقارنة بأفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأقصى (حتى من زاوية «احتلال العناوين الرئيسية» أو تسبُّبه في «المتاعب»).
… وهكذا فإن الشرق الأوسط المعاصر لا يتمتع إلا بقدر ضئيل من الخصائص التي تبدو مهمةً في اجتذاب أنظار الباحثين. ولكن هذا لا ينتقص من صحة دراسة المنطقة والقيمة الفكرية لهذه الدراسة، ولا يمس نوعية العمل الذي يقوم به الباحثون فيها، وإن كان يضع حدودًا، وعلينا أن نُدركها، لطاقة المجال على قبول الزيادة في أعداد الباحثين والدارسين فيه.4

من الواضح أن ما يتنبأ به «بيرجر» هنا يدعو للأسف إلى حدٍّ كبير، ويزيد من هذا الأسف أن المسئولين لم يكلفوه بوضع هذا التقرير بسبب خبرته فحسب بالشرق الأدنى، بل لأنهم كانوا يتوقعون منه — على نحو ما يتضح في ختام التقرير — أن يكون في موقع يمكِّنه من التنبؤ بمستقبل الإقليم ومستقبل السياسات الخاصة به. وأعتقد أن عجزه عن أن يُدرك أن الشرق الأوسط يتمتع بأهمية سياسية كبرى، وأنه قد يكتسب قوة سياسية كبيرة، لا يعتبر انحرافًا عارضًا في الحكم، فالخطآن الرئيسيان اللذان يرتكبهما «بيرجر» واردان في الفقرتين الأولى والأخيرة، وكلاهما ينحدر تاريخيًّا من سلالة الاستشراق على نحو ما درسناه حتى الآن. فإذا نظرنا إلى ما يقوله «بيرجر» عن عدم وجود إنجاز ثقافي عظيم، وما ينتهي إليه بشأن دراسة الإقليم في المستقبل — أي إن الشرق الأوسط لا يجتذب اهتمام الباحثين بسبب وجوه ضعفه المتأصلة — وجدنا تكرارًا دقيقًا للرأي الاستشراقي المعتمد الذي يقول إن الساميِّين لم يُنشئوا قط ثقافة عظمى، وإن العالم السامي، كما قال «رينان» مرارًا وتكرارًا، أفقر من أن يجتذب الاهتمام العالمي يومًا ما. ومعنى هذا أن «بيرجر» كان يؤكد موقفه الأساسي باعتباره مستشرقًا، فهو يكرر الأحكام التي أصبحت تقليدية راسخة، ويرفض رفضًا قاطعًا أن يدرك ما تشهده عيناه؛ إذ لم يكن «بيرجر» يكتب ما كتب منذ خمسين سنة، بل في الفترة التي كانت الولايات المتحدة تستورد فيها نحو عشرة في المائة من إمدادات نفطها من الشرق، وكانت استثماراتها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة بالغة الضخامة. وما يقوله، في الواقع، هو أنه لولا أشخاص من أمثاله لانتهى مصير الشرق الأوسط إلى التجاهل، وإنه لولا دوره في الوساطة والتفسير لما تمكن أحد من فهم ذلك المكان، لسببين: الأول أن ما يتطلب الفهم فيه محدود وغريب إلى حد بعيد، والثاني هو أن المستشرق وحده هو الذي يستطيع تفسير الشرق، ما دام الشرق يعجز عجزًا متأصلًا عن تفسير ذاته.

وأما أن «بيرجر» لم يكن مستشرقًا كلاسيكيًّا عندما كتب هذا الكلام (فهو ما لم يكنه وليس كذلك حتى الآن) بقدر ما كان عالم اجتماع محترفًا، فذلك لا يقلل من مدى الدَّين الذي يدين به للاستشراق وأفكاره. ومن بين هذه الأفكار نزعةٌ اكتسبت شرعيةً خاصة، وهي نزعة النفور من المادة التي تمثل القاعدة الرئيسية لدراسته وخفض قيمتها، وكانت نزعة بلغ من قوتها عند «بيرجر» تعتيم الحقائق الفعلية التي تشهدها عيناه، وهي تؤدي إلى ما هو أعجب؛ إذ لا تُلزمه بأن يسأل نفسه: لماذا يوصي أي فرد بتكريس حياته لدراسة ثقافة الشرق الأوسط، على نحو ما فعل هو، ما دام ذلك الإقليم «ليس مركزًا للإنجاز الثقافي العظيم»؟ والباحثون قد يدرسون، أكثر من الأطباء مثلًا، ما يحبونه وما يحظى باهتمامهم، ولا يدفع الباحث إلى دراسة ما لا يُكِنُّ له تقديرًا إلا الإحساس المبالغ فيه بالواجب الثقافي. ولكن هذا الإحساس بالواجب ذاته هو الذي عمل الاستشراق على رعايته وتأكيده؛ لأن الثقافة بصفة عامة قد وضعت المستشرق خلف «المتاريس» فأصبح في عمله المهني يواجه الشرق — بضروب همجيته وغرابته وتمرده — ويحافظ على ابتعاده باسم الغرب.

وأنا أشير إلى «بيرجر» باعتباره مثالًا على الموقف الأكاديمي تجاه الشرق الإسلامي؛ إذ يوضح لنا هذا المثال كيف يدعم المنظورُ العلميُّ الصورَ الكاريكاتورية التي تحظى بالدعاية في الثقافة الشعبية، ولكن «بيرجر» أيضًا يرمز إلى أشد صور التحول في الاستشراق شيوعًا، ألا وهو تحوله من مبحث في فقه اللغة في المقام الأول، وفهم عام وغامض للشرق، إلى تخصص دقيق في علم الاجتماع. لم يَعُد المستشرق يحاول أولًا إجادة اللغات «الباطنة» للشرق، بل يبدأ؛ باعتباره متخصصًا في علم الاجتماع، في «تطبيق» علمه على الشرق أو على أي مكان آخر، وهذه هي المساهمة الأمريكية الخاصة في تاريخ الاستشراق، وقد نشأت، على وجه التقريب، في الفترة التي تلَت الحرب العالمية الثانية مباشرة، حين وجدت الولايات المتحدة أنها تشغل الموقع الذي أخلته بريطانيا وفرنسا، وأما الخبرة الأمريكية بالشرق قبل تلك اللحظة «الاستثنائية» فكانت محدودة: كان بعض الكتَّاب الأمريكيِّين الذين يشعرون بالعزلة الثقافية مثل «هيرمان ملفيل» يُبدون اهتمامًا بالشرق، وبعض الكُتَّاب الساخرين من أمثال «مارك توين» يزورون الشرق ويكتبون عنه، وكان دعاة مذهب «التعالية» يرون الروابط القائمة بين الفكر الهندي وتفكيرهم، وكان بعض رجال اللاهوت المسيحي ودارسي الكتاب المقدس يتعلمون اللغات الشرقية الخاصة بالكتاب المقدس، وكانت تقع بعض اللقاءات مع قراصنة البربر وأمثالهم، دبلوماسيًّا وحربيًّا، وبعض الحملات البحرية المتفرقة في الشرق الأقصى، وكذلك، كما هو معروف، البعثات التبشيرية إلى كل مكان في الشرق، ولكن الولايات المتحدة لم تشهد تقاليدَ استشراقيةً تمثِّل استثمارًا عميق الجذور، وهكذا فإن المعرفة بالشرق لم تتعرض مطلقًا لخطوات التنقيح وإقامة الشبكات وإعادة البناء التي بدأت في دراسة فقه اللغة، وهي التي مرَّت بها في أوروبا. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لم تستثمر الشرق في الإبداع الأدبي مطلقًا، ربما لأن الحدود التي اتجهت الأنظار إلى «استثمارها»، أو التي يُعتد بها، كانت تقع في الغرب الأمريكي. وهكذا أصبح الشرق، في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، قضيةً إدارية أو مسألةً خاصة بالسياسات الأمريكية، لا قضية عامة شاملة على نحو ما كأنه الشرق بالنسبة لأوروبا على امتداد قرون طويلة. وهكذا دخل الساحة عالم الاجتماع والخبير الجديد، وهما اللذان تكفَّلَا بحمل لواء الاستشراق، وإن كانت سواعدهما أضعف قليلًا من سواعد أسلافهم. ولقد قامَا بدورهما، كما سنرى، بإدخال تغييرات فيه حتى اختلفت معالمه اختلافًا شبه كامل. ولكن المستشرق الجديد خلف الأسلاف، على أية حال، في اتخاذ مواقف العداء الثقافي والمحافظة عليها.

ومن الملامح البارزة للاهتمام الأمريكي الجديد بالشرق من منظور علم الاجتماع تجنُّبه الغريب للأدب؛ فقد تقرأ صفحات لا تُحصى مما يكتبه الخبراء عن الشرق الأدنى الحديث دون أن تصادف إشارةً مفردة للأدب؛ إذ يبدو أن «الخبير» بالإقليم يهتم أشد اهتمام بما يعتبره «حقائق»، وربما أدى النص الأدبي إلى «اضطراب» في هذه الحقائق. وحصيلةُ تأثير هذا التجاهل العجيب للوعي الأمريكي الحديث بالشرق العربي أو الإسلامي هو حبس الإقليم وسكان الإقليم في قالب فكري مغلق، بعد اختزال هذا وذاك في «مواقف» و«اتجاهات» وإحصائيات، وباختصار بعد سلبهما الطابع الإنساني. فلما كان الشاعر أو الروائي العربي، وما أكثر أعدادهما، يكتب عن خبراته وعن قيمه وعن إنسانيته (مهما تبلغ غرابتها) فإنه يؤدي في الواقع إلى ارتباك شتى الأنساق (أي الصور، أو القوالب اللفظية أو التجريدات) التي تمثل الشرق. فالنص الأدبي يتكلم مباشرة، إلى حدٍّ ما، عن حقيقة واقعية حية، لا ترجع قوتها إلى كونها عربية أو فرنسية أو إنجليزية، بل تكمن في حيوية الكلمات التي تؤدي — بالاستعارة التي يستخدمها «فلوبير» في إغراء القديس أنطوان — إلى سقوط الأصنام من أيدي المستشرقين وإرغامهم على التخلي عن تلك الأطفال المشلولة العظيمة؛ أي أفكارهم عن الشرق، التي تحاول أن تزعم أنها الشرق.

ويعتبر غياب الأدب، وموقف فقه اللغة الضعيف نسبيًّا في الدراسات الأمريكية المعاصرة للشرق الأدنى نماذجَ توضح الاتجاه الغريب الضعيف نسبيًّا في الاستشراق الأمريكي، والمؤكد أن وصفي إياه بالاستشراق يمثِّل خروجًا عن القاعدة؛ إذ ما أندر أن نجد فيما يفعله الخبراء الأكاديميون بالشرق الأدنى اليوم ما يُشبه الاستشراق التقليدي من النوع الذي بلغ نهايته بالإنجليزي «جيب» والفرنسي «ماسينيون»، فأهم ما يتكرر لديهم، كما قلت، هو عداء ثقافي معين وإدراك لا يعتمد على فقه اللغة بقدر ما يعتمد على ما يسمَّى «الخبرة». ونحن نرى، من زاوية النَّسَب، أن الاستشراق الأمريكي الحديث ينحدر من أصلاب مدارس اللغات التي أنشأها الجيش في أثناء الحرب وبعدها، ومن اهتمام الحكومة والشركات المفاجئ بالعالم غير الغربي، والمنافسة مع الاتحاد السوفييتي في إطار الحرب الباردة، والآثار الباقية للمواقف التبشيرية تجاه الشرقيِّين الذين أصبحوا يعتبرون «جاهزين» للإصلاح وإعادة التعليم. وإذا كانت الدراسة الخارجة عن إطار فقه اللغة للغات الشرقية «الباطنة» مفيدة لأسباب استراتيجية مبدئية، وواضحة، فإنها مفيدة أيضًا في إضفاء سمة السلطة على «الخبير»، إلى درجة تقرب من الإيمان الأعمى به، وهو الذي يستطيع أن يتعامل، فيما يبدو، مع مادة بالغة الغموض ببراعة فائقة.

ولا تشغل دراسة اللغة مكانةً مرموقة على سُلَّم الموضوعات الذي أقامه علم الاجتماع؛ إذ لا تزيد على كونها أداةً لتحقيق غايات أسمى، ولا تعتبر قطعًا وسيلة لقراءة النصوص الأدبية. ففي عام ١٩٥٨م، على سبيل المثال، قام معهد الشرق الأوسط، وهو مؤسسة شبه حكومية أُنشئت لمتابعة ورعاية الاهتمام البحثي بالشرق الأوسط، بإصدار تقرير عن البحوث الجارية، وفيه قسم بعنوان: «الحالة الراهنة للدراسات العربية في الولايات المتحدة» (كتبه — وهذا في ذاته طريف — أستاذ للغة العبرية) وله تصدير موجز يقول: «لم تَعُد معرفة اللغات الأجنبية، مثلًا، مجالًا مقصورًا على الباحثين في العلوم الإنسانية، بل إنها أداة عمل في أيدي المهندس والاقتصادي وعالم الاجتماع وكثير من المتخصصين الآخرين». والتقرير كله يؤكد أهمية اللغة العربية لكبار موظفي شركات النفط، والفنيين، وأفراد الجيش، ولكن موضوع الحديث الرئيسي في التقرير ينحصر في الجمل الثلاث التالية «يتخرج في الجامعات الروسية الآن مَن يتحدثون العربية بطلاقة، وقد تبيَّنَت روسيا أهمية استمالة قلوب الناس من خلال عقولهم، باستخدام لغتهم القومية، ولا حاجة بالولايات المتحدة للتلكؤ في تطوير برنامج دراسة اللغات الأجنبية فيها».5 وهكذا نرى أن اللغات الشرقية تدخل في إطار هدف ما من أهداف السياسات — على نحو ما كانته دائمًا، إلى حدٍّ ما — أو في إطار جهد دعائي متصل قائم. ومن منظور هذين الهدفين تصبح دارسة اللغات الشرقية أداة لتنفيذ أطروحات «هارولد لاسويل» عن الدعاية، وهي التي تقول: ليست العبرة بما يكون الناس عليه أو ما يعتنقونه من أفكار، بل بما يمكن أن نجعلهم عليه ونجعلهم يعتنقونه:
يجمع موقف صاحب الدعاية في الواقع بين احترام الفردية وبين اللامبالاة بالديموقراطية الشكلية؛ فأما احترام الفردية فينشأ من أن العمليات الواسعة النطاق تعتمد على دعم الجمهور والخبرة بالطابع المتغير للأفضليات البشرية … والاحترام المذكور للأفراد في وسط الجمهور لا يستند إلى مذاهب ديموقراطية جامدة تقول بأن الناس أفضل مَن يحكم على مصالحهم، أو الانتقال بسرعة من بديل إلى بديل دون أسباب صلبة، أو التعلق بفزع إلى شذرات صخرة معشبة طال عليها القدم؛ إذ إن حساب إمكانات ضمان تغيير دائم في العادات والقيم يتطلب ما يزيد كثيرًا على تقدير أفضليات الناس بصفة عامة؛ أي إنه يعني أن نأخذ في حسابنا نسيج شبكة العلاقات التي تربط الناس بعضهم بالبعض، والبحث عن دلائل لما يفضلونه، وقد لا يتجلى فيه أيُّ قصد أو عمد، ووضع برنامج موجَّه إلى إيجادِ حلٍّ مناسب في الواقع … وأما فيما يتعلق بإجراءات التكيُّف التي تتطلب فعلًا عملَ الجمهور، فإن مهمة صاحب الدعاية تنصبُّ على ابتداع رموز للأهداف ذات وظيفة مزدوجة تتضمن تيسير الإيمان بها والتكيف معها. ولا بد لهذه الرموز أن تجعل الناس يتقبلونها تلقائيًّا … ومن ثَم فإن المثل الأعلى للإدارة هو التحكم في الموقف لا من خلال فرصة السيطرة بل من خلال التكهن … وصاحب الدعاية يُسلِّم بأن جميع أحداث الدنيا لها أسبابها، وبأنه لا يمكن التنبؤ إلا بجانب منها فحسب …6

وهكذا فإن تعلُّم اللغة الأجنبية يتحول إلى جزء من هجوم يدقُّ فهمه على السكان، مثلما تتحول دراسة إقليم أجنبي مثل الشرق إلى برنامج للسيطرة من خلال التكهن.

لكنه لا بد لأمثال هذه البرامج أن تكتسيَ كسوة ليبرالية، وهو العمل المنوط بالباحثين ذوي النوايا الحسنة والمتحمسين. فالفكرة التي تلقى التشجيع هي أننا إذا درسنا الشرقيِّين أو المسلمين أو العرب، فسوف نستطيع «نحن» أن نعرف شعبًا آخر، وأسلوب حياته، وتفكيره وهلمَّ جرًّا. ومن الأفضل دائمًا، تحقيقًا لهذه الغاية، أن ندعهم يتكلمون بألسنتهم، وأن «يمثلوا» ذواتهم (حتى ولو كانت تكمن خلف هذه الخرافة عبارة ماركس — التي يوافق لاسويل عليها — عن لويس نابليون، وهي «لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، لا بد أن يمثلهم غيرهم») ولكن ذلك لا يصدق إلا إلى حدٍّ ما، وبصورة خاصة. ففي عام ١٩٧٣م، وفي أيام القلق أثناء حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل كلفت مجلة نيويورك تايمز اثنين بكتابة مقالتَين تمثلان الجانبَين العربي والإسرائيلي في تلك الحرب. كان الجانب الإسرائيلي يمثله محام إسرائيلي، والجانب العربي يمثله سفير أمريكي سابق في إحدى البلدان العربية دون أن يحمل أي مؤهلات رسمية في الدراسات العربية. وحتى لا نتسرع فننتهي مباشرة إلى استنتاج بسيط يقول إن المجلة رأت أن العرب لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، يحسن بنا أن نتذكر أن العرب واليهود في هذه الحالة ساميون (بالوصف الثقافي العريض الذي ناقشته في هذا الكتاب) وأن المجلة فرضت على الجانبين أن يمثلهم غيرهم أمام جمهور غربي. ويجدر بنا أن نتذكر الفقرة الآتية من إحدى روايات الروائي الفرنسي «مارسيل بروست»، حيث يصف الظهور المفاجئ لأحد اليهود في غرفة استقبال أرستوقراطية على النحو الآتي:

قد يضمر الرومانيون والمصريون والأتراك الكراهية لليهود، ولكن الفوارق بين هؤلاء لا تبدو للعيان في غرفة استقبال فرنسية، والدخول المفاجئ لأحد اليهود كأنما خرج من قلب الصحراء، وقد انحنى جسدُه قابعًا مثل جسد الضبع، وامتدَّت عنقه مائلة إلى الأمام، وأخذ يبسط يدَيه وهو يقدِّم «السلامات» متباهيًا، يمثِّل إشباعًا كاملًا لمن يحب أن يتذوق طعم الشرق.7

(٢) سياسة العلاقات الثقافية

إذا كان من الصحيح القول بأن الولايات المتحدة لم تصبح في الواقع إمبراطورية عالمية حتى القرن العشرين؛ فمن الصحيح أيضًا أنها قد شُغلت في القرن التاسع عشر بالشرق بالصورة التي مهدت لانشغالها الإمبريالي السافر بالشرق فيما بعد. وسوف نُنحي جانبًا الحملات التي قامت بها ضد قراصنة البربر في ١٨٠١ و١٨١٥م، وننظر في تأسيس الجمعية الشرقية الأمريكية في عام ١٨٤٢م؛ إذ تحدَّث رئيس الجمعية في أول اجتماع سنوي تعقده، وكان ذلك في عام ١٨٤٣م، واسمه «جون بيكرينج»، وقال بوضوح وجلاء إن أمريكا تعتزم دراسة الشرق حتى تحذوَ حذوَ الدول الإمبريالية الأوروبية. وكانت رسالة «بيكرينج» تقول إن إطار الدراسات الشرقية — آنذاك وحاليًّا — إطار سياسي لا علمي وحسب. وانظر كيف يقيم الحجة الداعية إلى الاستشراق، في الملخص الآتي، بحيث لا يكاد يكون لدينا شك في القصد منه:

في أول اجتماع سنوي للجمعية الأمريكية عام ١٨٤٣م بدأ رئيسها «بيكرينج» بعرض باهر للحقل الذي اقتُرح عليها أن تقوم بغرسه وتنميته، فأشار إلى الظروف المواتية إلى أقصى حد آنذاك، وإلى السلام الذي يسود في كل مكان، وإلى زيادة حرية دخول البلدان الشرقية، وزيادة سهولة الاتصال؛ إذ كانت الأرض تبدو هادئة في أيام «مترنيخ ولويس فيليب»، وكانت معاهدة «نانكنج» قد فتحت الموانئ الصينية، وبدأت السفن العابرة للمحيطات تستخدم الرفَّاص المروحي، واستكمل مورس جهاز التلغراف الذي ابتكره، واقترح بالفعل مدَّ الكابل الذي يعبر المحيط الأطلسي، وأما أهداف الجمعية فكانت غرسَ وتنمية دراسة اللغات الآسيوية والأفريقية والبولينيزية، وكل ما يتعلق بالشرق، والعمل على تذوق الدراسات الشرقية في هذا البلد، ونشر النصوص والترجمات والرسائل، وتكوين مكتبة وخزانة للمحفوظات. ولقد اكتمل معظم العمل في المجال الآسيوي، وخصوصًا في اللغة السنسكريتية واللغات السامية8
كان «مترنيخ ولويس-فيليب» ومعاهدة نانكنج والرفَّاص المروحي رموزًا تُوحي بالكوكبة الإمبريالية التي سوف تُسهِّل الاختراق اليوروأمريكي للشرق. ولم يتوقف ذلك حتى الآن. بل إن رجال التبشير في الشرق الأدنى الذين اكتسبوا شهرة أسطورية في القرنين التاسع عشر والعشرين لم يضطلعوا بالدور الذي كلَّفهم الله به بل بالدور الذي كلَّفهم به إلههم هم، وثقافتهم هم ومصيرهم هم.9 ولقد كانت المؤسسات التبشيرية الأولى — مثل المطابع والمدارس والجامعات والمستشفيات وما إلى ذلك — تساهم بطبيعة الحال في تقدم المنطقة، ولكن الطابع الإمبريالي المميز لها والتأييد الذي تتمتع به من حكومة الولايات المتحدة، يُزيل أيَّ فرق بينها وبين نظائرها الفرنسية والبريطانية في الشرق. وكان موقف الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى الذي أصبح يمثِّل اهتمامًا رئيسيًّا، في سياسات الولايات المتحدة، بالصهيونية وباستعمار فلسطين، قد لعب دورًا لا يستهان به في دخول الولايات المتحدة الحرب، كما أن المناقشات في بريطانيا قبل إعلان بلفور (نوفمبر ١٩١٧م) وبعده كان يتجلَّى فيها مدى الجدية التي كانت الولايات المتحدة تنظر بها إلى هذا الإعلان.10 وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، تصاعد اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط تصاعدًا كبيرًا، فكانت القاهرة وطهران وشمال أفريقيا ساحاتٍ مهمةً في الحرب، ونظرًا لاستغلال النفط في تلك المنطقة واستغلال مواردها الاستراتيجية والبشرية الذي كانت بريطانيا وفرنسا رائدتَين فيه، تأهبت الولايات المتحدة للاضطلاع بدورها الإمبريالي بعد الحرب.
ولم يكن أقل جوانب هذا الدور شأنًا «سياسة العلاقات الثقافية» وفق التعريف الذي وضعه «مورتيمر جريفز» لها عام ١٩٥٠م، وقال إن هذه السياسة تتضمن محاولة الحصول على «كل المطبوعات ذات الشأن بجميع اللغات المهمة في الشرق الأدنى والمنشورة منذ عام ١٩٠٠م» وهذه محاولة يجب «على الكونجرس في بلدنا الإقرار بها باعتبارها من تدابير أمننا القومي». وجاء في الحجة التي عرضها «جريفز» (وأقول عَرَضًا إنها لقيَت آذانًا صاغية إلى أقصى حد) إن القضية المعروضة تتعلق، بوضوح، بضرورة «الارتقاء كثيرًا بالفهم الأمريكي للقوى التي تناوئ الفكرة الأمريكية بقبول الشرق الأدنى لنا. وأهم هذه القوى، بطبيعة الحال، هي الشيوعية والإسلام»11 وقد أدى هذا القلق إلى نشأة الجهاز الهائل للبحث العلمي في الشرق الأوسط، فكأنما كان هذا الجهاز ملحقًا معاصرًا بالجمعية الشرقية الأمريكية التي كانت أكثرَ اهتمامًا بالماضي. وكان النموذج الصادق لذلك — في استجابته لمقتضيات الأمن العام والسياسات العامة (لا البحث العلمي البحت، على نحو ما يزعمون كثيرًا) — هو معهد الشرق الأوسط الذي أُنشئ في مايو ١٩٤٦م في واشنطن، برعاية الحكومة الفيدرالية، وإن لم يكن تمامًا داخل إطارها12 وإن لم تكن هي التي أسسته. ومن رحم أمثال هذه المنظمات خرجت جمعية دراسات الشرق الأوسط، وجاء الدعم القوي من جانب مؤسسة فورد وغيرها من المؤسسات، ووُلدت شتى برامج الدعم للجامعات، وشتى مشروعات البحوث الفيدرالية، والمشروعات البحثية التي قامت بها هيئات متعددة، مثل وزارة الدفاع، وشركة راند، ومعهد هدسون، والجهود الاستشارية، وجهود اكتساب المؤازرة من المصارف، وشركات النفط، والشركات المتعددة الجنسيات، وما إليها بسبيل. وليس من قبيل الاختزال أن نقول إن هذا كله ما زال يحتفظ في معظم أنشطته العامة والتفصيلية بالنظرة الاستشراقية التقليدية التي نشأت وترعرعت في أوروبا.

والتوازي بين الخطط الإمبريالية في أوروبا وأمريكا بشأن الشرق (الأدنى والأقصى) واضحٌ، وربما لم تكن الأمور التالية لا تتمتع بنفس الوضوح، وهي: (أ) مدى ما تعرضت له تقاليد البحث الاستشراقي الأوروبي من تكييف ومن إضفاء الصبغة الطبيعية والألفة عليها وإشاعتها على المستوى الشعبي، وإن لم يصل ذلك إلى حد الاستيلاء عليها، ثم إدراجها في تيار ازدهار دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة؛ و(ب) مدى ما أدت إليه التقاليد الأوروبية من نشأة موقف متماسك في الولايات المتحدة يشترك فيه معظم الباحثين والمؤسسات، وأساليب «الخطاب»، والتوجهات، على الرغم من مظهر التنقيح المعاصر، إلى جانب استخدام تقنيات علم الاجتماع (من جديد) التي تتخذ مظهر التقدم البالغ. ولقد سبق لي أن ناقشت أفكار «جيب»، لكنني يجب أن أُشير إلى أنه أصبح في منتصف الخمسينيات مديرًا لمركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط، وكان لتفكيره وأسلوبه، بفضل هذا المنصب، نفوذهما المهم. وكان وجود «جيب» في الولايات المتحدة يختلف من حيث ما فعله من أجل هذا المجال عن وجود الأستاذ «فيليب حِتِّي» في جامعة برنستون منذ أواخر العشرينيات؛ إذ تخرَّج في جامعة برنستون عددٌ كبير من أهم الباحثين، وأدَّى النوع الخاص من الدراسات الشرقية فيها إلى إثارة اهتمام كثير من الباحثين بهذا المجال، وأما «جيب» فكان ذا صلة أوثق بجانبِ الاستشراقِ المُعنَى بالسياسات العامة، وكان موقعه في هارفارد يوجه الاستشراق إلى التركيز على منهج دراسات المناطق في زمن الحرب الباردة إلى درجة تفوق كثيرًا تركيز «حِتِّي» عليه في جامعة برنستون.

ومع ذلك فإن عمل «جيب» الخاص لم يستعمل بصورة سافرة لغة «الخطاب» الثقافي وفقًا للتقاليد التي أرساها «رينان وبيكر وماسينيون»، رغم أن هذا «الخطاب» وجهازه الفكري وعقائده الجامدة كانت قائمةً إلى حدٍّ كبير وبصفة أساسية في عمل «جوستاف فون جرونيباوم» وسلطته الفكرية في جامعة شيكاغو ثم في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجيليس (وإن لم تقتصر عليه) فلقد أتى إلى الولايات المتحدة في إطار الهجرة الفكرية للباحثين الأوروبيِّين الهاربين من وجه الفاشية13 ثم كتب دراساته الاستشراقية الصرفة التي تركز على الإسلام باعتباره ثقافة كلية، واستمر من بداية حياته العملية إلى نهايتها في إصدار الأحكام العامة عليه، وهي التي تتسم في جوهرها بطابع سلبي اختزالي، وكان أسلوبه لا يكاد يُقرأ؛ إذ يَشِي بالعلم الفياض المنوع في التقاليد النمسوية الألمانية، والذي تظهر الأدلة المشتتة عليه في أسلوبه في أحيان كثيرة، ويَشِي كذلك باستيعابه لضروب التحيز التي تكتسي طابعًا علميًّا زائفًا، وهي التي كانت معتمدة في الاستشراق الفرنسي والبريطاني والإيطالي، إلى جانب محاولة شبه مستميتة للظهور بمظهر الحياد في الملاحظة والبحث. وإذا تأملنا صفحة تمثِّل ذلك الأسلوب عن صورة الذات الإسلامية وجدناه يحشر فيها حشرًا بضع إشارات لنصوص إسلامية مستقاة من أكبر عدد ممكن من الفترات التاريخية، وإشارات إلى «هوسيرل» كذلك، وفلاسفة «ما قبل سقراط»، وإشارات إلى «ليفي شتراوس» وشتى علماء الاجتماع الأمريكيِّين. ولكن هذا كله لا يُقلل من وضوح الكراهية شبه الضارية التي يُضمرها «فون جرونيباوم» للإسلام؛ إذ يسهل عليه أن يفترض أن الإسلام ظاهرة وحدوية، بخلاف أي دين آخر أو حضارة أخرى، ثم ينطلق لتبيان أنه دين لا إنساني، عاجز عن التطور، وعن معرفة الذات، أو الموضوعية، وأنه غير خلاق وغير علمي، وسلطوي. وفيما يلي مقتطفان يمثلانه خير تمثيل، وعلينا أن نتذكر أن «فون جرونيباوم» كان يكتب ما يكتب من موقع صاحب السلطة الفريدة التي يتمتع بها الباحث الأوروبي في الولايات المتحدة الذي يتولى مهام التدريس والإدارة ومنح المنح الدراسية لشبكة ضخمة من الباحثين في هذا المجال:

من الضروري أن ندرك أن الحضارة الإسلامية كيان ثقافي لا يشاركنا تطلعاتنا الأولية، فهو لا يهتم اهتمامًا رئيسيًّا بالدراسة المنهجية للثقافات الأخرى، سواء كانت تمثِّل غايةً في ذاتها أو وسيلة للوصول إلى فهم لطابعه الخاص وتاريخه الخاص. ولو كان صدق هذه الملاحظة يقتصر على الإسلام المعاصر وحسب، لربطنا بينها وبين حال الإسلام التي تتسم بالاضطراب العميق، والتي لا تسمح له بالنظر إلى ما وراء ذاته، إلا إذا أُرغم على ذلك إرغامًا، لكنها ما دامت تصدق على الماضي أيضًا، فربما حاولنا أن نربط بينها وبين العداء الأساسي للمذهب الإنساني لهذه الحضارة [الإسلامية]، بمعنى الإصرار على رفض قبول اعتبار الإنسان حَكَمًا أو معيارًا للأمور إلى أي حد من الحدود، وبمعنى الميل إلى الرضا باعتبار الحقيقة أمرًا ينحصر في وصف الأبنية النفسية، أو بتعبير آخر، في الحقيقة النفسية.

إن [القومية العربية أو الإسلامية] تفتقر إلى مفهوم الحق المقدس للأمة، على الرغم من استخدامها عَرَضًا للكلمة الشائعة، وتفتقر إلى شرعة أخلاقية بنيوية، ويبدو أنها تفتقر أيضًا إلى الإيمان بالتقدم الآلي الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر، وتفتقر قبل كل شيء إلى القوة الفكرية لكل ظاهرة أولية. فالسلطة والرغبة في السلطة غايتان في ذواتهما. [لا يبدو أن هذه الجملة تَفِي بأي غرض من أغراض الحجة، ولكنها ولا شك تبعث الثقة في قلب «جرونيباوم»، النابعة من استخدام عبارة تُوحي بالتفلسف دون أن تعنيَ شيئًا، كأنما يريد الاطمئنان إلى أنه لا يحط من قدر الإسلام بل يتكلم عنه كلامًا حكيمًا]. [وما يشعر به الإسلام] من استياء من الاستهانة السياسية به يجعله نافدَ الصبر ويعوق قيامه بالتحليل والتخطيط في المدى الطويل في المجال الفكري.14

قد نتأدب فنُطلق صفةَ «الجدلية» على مثل هذا الكلام في معظم السياقات الأخرى، أما في سياق الاستشراق، بطبيعة الحال، فإنه «معتمد» نسبيًّا، وكان يعتبر في عداد الحكمة المعتمدة في الدراسة الأمريكية للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، أساسًا بسبب الصيت الثقافي الذي يتمتع به الباحثون الأوروبيون. ولكن القضية هي أن العاملين في هذا المجال يقبلون عمل «فون جرونيباوم» دون مناقشة، حتى ولو عجز هذا المجال اليوم عن الإتيان بأشخاص من أمثاله. ومع ذلك فقد تصدَّى باحث واحد لوضع دراسة نقدية جادة لآراء «فون جرونيباوم»، وهو المؤرخ المغربي وصاحب النظريات السياسية «عبد الله العروي».

ويستخدم هذا الباحث ظاهرة التكرار الاختزالي في عمل «فون جرونيباوم» أداةً عملية للقيام بدراسته النقدية المناهضة للاستشراق؛ فيسأل نفسه لماذا لا يتغير طابع الاختزال في عمل «جرونيباوم»، على الرغم مما يزخر به من تفاصيل كثيرة وما يظهر فيه من اتساع النطاق، قائلًا: «إن الصفات التي يُلصقها «جرونيباوم» بالإسلام (قَروَسْطي، كلاسيكي، حديث) صفات محايدة بل وحشو لا لزوم له: فلا فرق بين الإسلام الكلاسيكي والإسلام القروسطي أو الإسلام وحسب … ومن ثَم فلا يوجد [عند فون جرونيباوم] إلا إسلام واحد يتغير داخل ذاته.»15 كما يقول «فون جرونيباوم»: إن الإسلام الحديث قد ابتعد عن الغرب؛ لأنه لا يزال مخلصًا لمعنى ذاته الأصيل؛ وإن لم يكن الإسلام يستطيع تحديثَ نفسه إلا بإعادة تفسير ذاته من وجهة نظر غربية، وهو — بطبيعة الحال — ما يبيِّن «فون جرونيباوم» أنه مستحيل. والباحث المذكور يصف النتائج التي انتهى إليها قائلًا إنها تُصور في مجملها الإسلام في صورة الثقافة العاجزة عن التجديد، لكنه لا يذكر أن فكرة حاجة الإسلام إلى استخدام الأساليب الغربية في تحسين ذاته فكرة أصبحت في عداد البديهيات تقريبًا في دراسات الشرق الأوسط. وأن ذلك قد يُعزى إلى اتساع نطاق تأثير «فون جرونيباوم» (إذ إن دافيد جوردون، على سبيل المثال يحثُّ العرب والأفريقيِّين والآسيويِّين على «النضج» في كتابه تقرير المصير والتاريخ في العالم الثالث،16 قائلًا إن ذلك لا يتحقق إلا بالتعلم من الموضوعية الغربية).
ويبيِّن تحليل الباحث المغربي أيضًا أن «فون جرونيباوم» قد استخدم النظريةَ الثقافية التي وضعها «أ. ك. كروبر» في فهم الإسلام، ويبيِّن أن تطبيق هذا المنهج قد استلزم سلسلةً من إجراءات الاختزال والحذف التي أتاحَت رسم صورة تمثِّل الإسلام باعتباره مذهبًا مغلقًا قائمًا على الاستثناء والاستبعاد، بحيث تمكن من النظر إلى كل جانب من الجوانب الكثيرة المنوعة للثقافة الإسلامية باعتباره تجسيدًا مباشرًا لقالب أصلي ثابت أو نظرية خاصة للإله، تفرض عليهم جميعًا معنًى محددًا ونظامًا خاصًّا، وهو ما يعني ترادف التطور والتاريخ والتقاليد والواقع في الإسلام. وقد أصاب الباحث المغربي عندما قال إن التاريخ باعتباره نظامًا مركَّبًا من الأحداث والأحوال الزمنية والدلالات لا يمكن اختزاله في مثل تلك الفكرة عن الثقافة، مثلما يستحيل اختزال الثقافة في الأيديولوجيا، أو اختزال الأيديولوجيا في اللاهوت. أي إن «فون جرونيباوم» قد وقع فريسةً للعقائد الاستشراقية الجامدة التي ورثها، ولجانب خاص من جوانب الإسلام اختار تفسيره تفسيرًا يجعله نقيصة؛ أي إن الإسلام يتمتع بنظرية دينية بالغة الوضوح والتفصيل لكنه يعاني من النقص الشديد في أوصاف الخبرة الدينية، مثلما يتمتع بنظرية سياسية بالغة الوضوح والتفصيل، ويعاني من قلة الوثائق السياسية الدقيقة، ويتمتع بنظرية عن البناء الاجتماعي ويعاني من النقص الشديد في الإجراءات الفردية المتميزة، ويتمتع بنظرية للتاريخ ويعاني من النقص الشديد في الأحداث ذات التاريخ الثابت، ويتمتع بنظرية اقتصادية ويعاني من النقص الشديد في السلاسل الحسابية الكمية وهلمَّ جرًّا.17 والحصيلة النهائية لذلك رؤية تاريخية للإسلام مكبلة بقيود نظرية للثقافة التي تعجز عن إنصاف حقيقتها الوجودية أو حتى فحصها في الصور التي تتجلى فيها خبرات مَن يعيشون في كنفها، فلقد كان الإسلام عند «فون جرونيباوم»، على أية حال، هو الإسلام الذي صوره أوائل المستشرقين الأوروبيِّين في صورة الصخرة الجامدة، أو العقيدة التي لا تأبه للخبرة البشرية العادية، أو العقيدة الفظة، القائمة على الاختزال، والتي لا تتغير.

وهذه النظرة للإسلام سياسية في جوهرها، وغير مُنصفة، مهما تلطفنا في التعبير عنها. وأما قوة سيطرتها على المستشرق الجديد (أي الأصغر سنًّا من فون جرونيباوم) فكانت ترجع في أحد جوانبها إلى سلطتها التقليدية، وترجع من جانب آخر إلى قيمة الانتفاع بها باعتبارها وسيلة لتفهم إقليم شاسع من أقاليم العالم والزعم بأنه يمثل ظاهرة متماسكة المعنى إلى أقصى حد. ولما كان الغرب قد عجز عن «احتواء» الإسلام سياسيًّا بسهولة على مر التاريخ — ولا شك أن القومية العربية كانت، وما زالت، منذ الحرب العالمية الثانية، حركة تُعلن صراحةً معاداتها للإمبريالية الغربية — فإن الرغبة في ترديد أفكار تشبع النهم عن الإسلام قد ازدادت، ردًّا على ذلك. ولقد قال أحد الثقات عن الإسلام (دون تحديد أي إسلام أو أي جانب من جوانب الإسلام يعنيه): إنه «أحد النماذج الأولية للمجتمعات التقليدية المغلقة». ولاحظ هنا أنه يستخدم كلمة «الإسلام» في الإشارة، في الوقت نفسه، إلى دين وإلى مجتمع، وإلى نموذج أوَّلي، وإلى واقع فعلي، وهو الاستخدام الذي يعلمنا درسًا مفيدًا! ولكن هذا الباحث نفسه سوف يُولى ذلك كلَّه مكانةً ثانوية بعد الفكرة التي تقول إن مجتمعات الإسلام والشرق الأوسط تختلف عن المجتمعات السوية (لدينا «نحن») في أنها ذات طابع «سياسي» كامل، والمقصود بهذه الصفة لوم الإسلام لكونه غير «ليبرالي»؛ أي غير قادر (مثلنا «نحن») على فصل السياسة عن الثقافة. والنتيجة رسم صورة أيديولوجية خبيثة لنا «نحن» ولهم «هم»:

لا بد أن يظل تفهمُ مجتمع الشرق الأوسط هدفَنا الأسمى. ولا يملك أي مجتمع أن ينظر إلى السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة باعتبارها مجالات وجود مستقلة حقًّا لا مجرد تقسيمات لازمة لراحة الدارس، إلا إذا كان قد سبق له تحقيق الاستقرار الدينامي [مثل مجتمعنا «نحن»]. وأما في المجتمع التقليدي الذي لا يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولا يفصل بينهما، أو الذي يمر بحالة تغيُّر وتقلُّب متواصل، فإن الصلة بين السياسة مثلًا وجميع الجوانب الأخرى للحياة هي لبُّ القضية. وإذا نظرنا إلى الشرق الأوسط اليوم وجدنا أن قضية تزوج أربع زوجات أو الاقتصار على واحدة، وقضية الصوم والإفطار وقضية اكتساب الأراضي أو فقدانها، وقضية الاستناد إلى التنزيل أو العقل، قد أصبحت قضايا سياسية … ولا تقل حاجة المستشرق الجديد عن حاجة المسلم نفسه إلى البحث من جديد في حقيقة الأبنية والعلاقات المهمة في المجتمع الإسلامي.18
وهو يقصد بتفاهة معظم هذه الأمثلة (الزواج من أربع زوجات والصوم أو الإفطار وهلمَّ جرًّا) أن يُدلل على شمولية الإسلام الكاملة واستبداده، وهو لا يقول لنا أين يفترض حدوث ذلك، لكنه يذكرنا بالحقيقة غير السياسية، ولا شك، والتي تقول إن المستشرقين «مسئولون إلى حدٍّ كبير عن جعل الشرقيين أنفسهم يُقدِّرون ماضيَهم تقديرًا دقيقًا»19 ذلك أننا قد ننسى أن المستشرقين بحكم عملهم يحيطون بما يستحيل على الشرقيِّين أن يحيطوا به وحدهم.
وإذا كان هذا يلخِّص موقف مدرسة التطرف (أو «التشدد») في الاستشراق الأمريكي الجديد، فإن مدرسة الاعتدال (أو «الليونة») تؤكد أن المستشرقين التقليديِّين قد قدموا لنا الخطوط العريضة الأساسية للتاريخ الإسلامي والدين والمجتمع الإسلامي وإن كانوا «في أحيان بالغة الكثرة يقنعون بتلخيص معنى حضارة ما استنادًا إلى بضعة مخطوطات»20 والمتخصص الجديد في دراسات المناطق إذن يختلف عن المستشرق التقليدي في سَوق الحُجَج الفلسفية:
لا ينبغي السماح للمنهجية البحثية والنماذج المطبقة في البحث العلمي بتحديد موضوع الدراسة المختار أو بالحدِّ من نطاق الملاحظة. ومن هذا المنظور تعتقد دراسات المناطق أن المعرفة الحقيقية لا تتوافر إلا عمَّا هو موجود في الواقع، وأما المناهج والنظريات فهي تجريدات تُنظِّم الملاحظات وتقدِّم شروحًا لها طبقًا لمعايير غير تجريبية.21

لا بأس، ولكن كيف يعرف المرء «ما هو موجود في الواقع» وإلى أيِّ حدٍّ يشارك مَن يعرف «ما هو موجود في الواقع» في تشكيله؟ الكاتب يترك القضية دون حسم، بحيث أصبح الفهم الجديد للشرق، غير المقيد بأحكام القيمة؛ أي باعتبار الشرق كيانًا موجودًا وحسب، فهمًا راسخًا في برامج دراسات المناطق. والواقع أنه تندر دراسة الإسلام، ويندر البحث فيه، وتندر معرفته دون نظريات مغرضة: وسذاجة هذا التصور تكاد لا تُخفي ما يعنيه من الزاوية الأيديولوجية؛ أي الأطروحات السخيفة التي تفترض أن الإنسان لا ينهض بدورٍ ما في تكوين المادة والإجراءات المعرفية، وتزعم أن الواقع الشرقي ساكن خامد؛ أي «يوجد» فحسب، ولا يستطيع إلا الثوري «المسياني»؛ أي الذي يرجو الخلاص في المستقبل (بتعبير الدكتور كيسنجر) أن يُنكر الفرق بين الحقيقة القائمة في الواقع والحقيقة القائمة في ذهنه.

بيد أن بعض الصور المخففة للاستشراق القديم قد ازدهرت، وهي تقع موقعًا يتوسط مدرسة التطرف ومدرسة الاعتدال، وتتجلى في الرطانة الأكاديمية الجديدة في بعض الحالات، وفي الرطانة القديمة في حالات أخرى، وإن كانت العقائد الجامدة الرئيسية للاستشراق تظهر في أنقى أشكالها اليوم في الدراسات الخاصة بالعرب وبالإسلام. ولنحاول هنا تلخيصها؛ إذ تتمثل إحداها في الاختلاف المطلق والمنتظم بين الغرب العقلاني المتقدم الشفوق الفائق، وبين الشرق المنحرف المتخلف الأقل شأنًا، وتتمثل أخرى في اعتبار أن التجريدات الخاصة بالشرق، وخصوصًا تلك التجريدات القائمة على نصوص تمثل الحضارة الشرقية «الكلاسيكية» أفضل دائمًا من الأدلة المستمدة من حقائق الواقع الشرقي الحديث. وتقول عقيدة جامدة ثالثة إن الشرق سرمدي، موحَّدُ الصورة، وعاجز عن تعريف ذاته، ومن ثم يُفترض أنه لا بد من وضع مفردات تتسم بشدة التعميم والانتظام لوصف الشرق من وجهة نظر غربية، وأنها ستكون أيضًا «موضوعية» من الزاوية العلمية. وتقول عقيدة جامدة رابعة إن الشرق كيان علينا إما أن نخشى بأسه (الخطر الأصفر، جحافل المغول، المستعمرات السمراء) أو أن نسيطر عليه (بالتهدئة، أو بالبحوث والتنمية، أو بالاحتلال المباشر كلما أمكن ذلك).

ومن العجب العجاب أن يستمر شيوع هذه الأفكار في الدراسة الأكاديمية والحكومية للشرق الأدنى الحديث دون أن يُثيرَ أحد شكوكًا يُعتدُّ بها في صحتها، كما يدعو للأسف أيضًا عجزُ العمل الذي أنجزه الباحثون الإسلاميون أو العرب الذين طعنوا في عقائد الاستشراق الجامدة عن إحداث تأثير يُذكر، على ندرة هذه الطعون؛ إذ إن المقالات المتفرقة التي تُكتب من حين لآخر، مهما تكن أهميتها في الوقت والمكان اللذَين تكتب فيهما؛ لا تستطيع على الإطلاق التأثير في مجرى البحوث القائمة على اتفاق الآراء من جانب شتى الهيئات والمؤسسات والتقاليد؛ فهو اتفاق مهيب. ومعنى هذا أن الاستشراق الإسلامي قد عاش حياة معاصرة تختلف اختلافًا كاملًا عن فروع البحث الاستشراقي الأخرى؛ إذ قامت لجنة من الباحثين (ومعظمهم من الأمريكيين) وتسمِّي نفسها لجنة الباحثين في شئون آسيا الذين يساورهم القلق، بقيادة ثورة في الستينيات في صفوف المتخصصين في شرقي آسيا، كما تعرض خبراء الدراسات الأفريقية لمواجهة مماثلة من جانب دعاة المراجعة والتنقيح، على نحو ما تعرض له المتخصصون في مناطق العالم الثالث الأخرى، ولم يسلم من المراجعة والتنقيح في عمله الآن إلا المتخصصون في الدراسات العربية والإسلامية؛ إذ لا يزالون يؤمنون بوجود ما يسمى المجتمع الإسلامي، والعقل العربي، والنفسية الشرقية، بل إن المتخصصين في العالم الإسلامي الحديث يطبقون نصوصًا لا تنطبق عليه تمامًا مثل القرآن، ويحاولون من خلال هذه النصوص تفسيرَ كلِّ جانب من جوانب المجتمع المصري أو الجزائري المعاصر. فالمستشرق يرسم صورًا مثالية للإسلام على نحو ما شهدها القرن السابع الميلادي ثم يفترض أنها قائمة في هذا العصر، غير عابئ بمؤثرات أخرى أحدث وأهم مثل تأثير الاستعمار والإمبريالية بل والسياسة العادية. ويتطارح المستشرقون القوالب اللفظية التي تصف سلوك المسلمين (أو المحمديِّين، كما لا يزال البعض يدعونهم أحيانًا) بدرجة من اللامبالاة التي لا يخاطر بها أحد في الحديث عن السود أو اليهود، والمسلم في أفضل صوره «مصدر معلومات محلي» للمستشرق، وإن كان المستشرق لا يزال يحتقره سرًّا باعتباره مارقًا، كما كُتب على المسلم، عقابًا على «خطاياه»، أن يتحمل أيضًا الإشارة إليه بتعبير «عدو الصهيونية»، وهو تعبير سلبي يضعه في موقع «الجاحد الكنود»!

لا شك في وجود منظومة راسخة لدراسات الشرق الأوسط، تمثِّل مجمع مصالح المنتفعين، وشبكات من «الشركاء المهنيِّين» أو «الخبراء» التي تربط ما بين نشاط الشركات التجارية، والمؤسسات، وشركات النفط، والإرساليات، والعسكريين، ووزارة الخارجية، والاستخبارات، وبين العالم الأكاديمي. وفي إطار المنظومة المذكورة نجد المنح والجوائز والمنظمات والمراتب المتصاعدة والمؤسسات والمراكز والكليات الجامعية والأقسام العلمية، وكلها مكرس لإضفاء الشرعية والحفاظ على سلطة وسيطرة حفنة من الأفكار الأساسية التي لا تتغير في جوهرها عن الإسلام والشرق والعرب. ويدل أحد التحليلات النقدية الحديثة لنشاط دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة لا على أن المجال ذو «وحدة صلبة» بل على أنه مركَّب من عدة عناصر؛ إذ يضم النمط القديم من المستشرقين، ومتخصصين مهمَّشين عمدًا، ومتخصصين في مناهضة التمرد، وراسمي السياسات، إلى جانب «أقلية صغيرة … من سماسرة السلطة الأكاديمية».22 وعلى أية حال فإن جوهر العقيدة الاستشراقية الجامدة لا يزال قائمًا.
ولننظر الآن بإيجاز إلى نموذج لما يُثمره هذا الحقل الآن بأرفع أشكال هذا الثمر وأشدها تمتعًا بسمو المنزلة الفكرية، وهو «تاريخ كيمبريدج للإسلام» الذي نُشر في إنجلترا عام ١٩٧٠م للمرة الأولى ويعتبر المصنَّف الجامع لأفكار المستشرقين «المعتمدة». ونحن حين نصف هذا العمل الذي شاركَت في وضعه عدةُ شخصيات لامعة بأنه يعتبر إخفاقًا فكريًّا بأية معايير أخرى سوى معايير الاستشراق فإنما نقول إنه كان من الممكن أن يصبح تاريخًا مختلفًا وتاريخًا أفضل للإسلام. والواقع، كما ذكر بضعة من الباحثين الأشد حرصًا،23 أن هذا النوع من التاريخ كان محكومًا عليه بالفشل عند وضع خطته الأولى، وكان من المحال أن يتحسن حاله أو يختلف موقفه عند التنفيذ؛ إذ إن محرريه قد قبلوا، دون نقاش، عددًا أكبر مما ينبغي من الأفكار دون تمحيص، وكان يعتمد اعتمادًا أشد مما ينبغي على مفاهيم غامضة، ولم يركز المؤلفون، إلا فيما ندر، على القضايا المنهجية (بل تركوها قائمة بالشكل الذي كانت تتخذه في «الخطاب» الاستشراقي على مدار ما يقرب من قرنين)، ولم يبذلوا أية جهود لإثارة الاهتمام بفكرة الإسلام، كما أن تاريخ كيمبريدج للإسلام لم يقتصر على سوء فهم الإسلام وسوء تصويره باعتباره دينًا، بل يُبدي جهلًا بالمعنى الجامع لذاته باعتباره تاريخًا، ويندر أن نجد بين العديد من أمثال هذه الأعمال الضخمة ما يصدق على هذا العمل مما يكاد يكون افتقارًا كاملًا إلى الأفكار والذكاء المنهجي.
يبدأ التاريخ بفصل كتبه «عرفان شهيد» عن جزيرة العرب قبل الإسلام، وهو فصل يرسم الصورة العامة بذكاء للتناغم المثمر بين الطبيعة الجغرافية والاقتصاد البشري، وهو الإطار الذي ظهر فيه الإسلام في القرن السابع. ولكن ما عسى أن يقول المرء إن شاء الإنصاف عن تاريخ للإسلام يُعرِّفه «ب. م. هولت» في مقدمته، بنبرة استخفاف إلى حدٍّ ما، بأنه «توليفة ثقافية»،24 وهو ينطلق في السرد من تاريخ العرب في الجاهلية إلى فصل عن بعثة النبي محمد ، ثم يأتي بفصل آخر عن الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية، دون أن يتوقف ولو لحظة ليصف الإسلام باعتباره شِرْعةً للعقيدة أو الإيمان أو المذهب. والقارئ يقرأ مئات الصفحات في المجلد الأول فلا يفهم منها إلا أن الإسلام لا يعني إلا تسلسلًا زمنيًّا متصلًا للمعارك، وتوالي الحكام، وللوفيات، وأيام النصر والازدهار، وسردًا لمن يجيئون ومن يذهبون، بأسلوب تغلب عليه نبرةٌ واحدة مملة كئيبة.
خذ العصر العباسي مثلًا، من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر: إن كلَّ مَن لديه ولو إلمامًا طفيفًا بالتاريخ العربي أو الإسلامي يعرف أنه كان يمثِّل إحدى ذُرا الحضارة الإسلامية، وفترة رائعة في التاريخ الثقافي مثل فترة ازدهار النهضة الأوروبية في إيطاليا، ولكن القارئ يقرأ الصفحات الأربعين المخصصة للعصر العباسي فلا يصادف لمحة واحدة عن هذا الثراء، بل يقرأ عبارات؛ مثل هذه: «ما إن تولَّى [المأمون] الخلافة حتى ابتعد فيما يبدو عن الاتصال بمجتمع بغداد، واستمر يقيم في مرو، بعد أن فوَّض شئون الحكم في العراق إلى أحد خلصائه وهو الحسن بن سهل، أخو الفضل، والذي وُوجِهَ على الفور تقريبًا بثورة شيعية قام بها أبو السرايا، الذي أرسل في جمادى الآخرة عام ١٩٩ﻫ/يناير ٨١٥م دعوة من الكوفة لحمل السلاح لمناصرة ابن طباطبا الحسَنِي».25 ولن يعرف غير المتخصص في الدراسات الإسلامية في هذه اللحظة ما الشيعيُّ وما الحسنيُّ، ولن يدرك إطلاقًا ما جمادى الآخرة؛ إلا أنه يشير بوضوح إلى تاريخ من لون ما، كما سوف يعتقد، بطبيعة الحال، أن العباسيِّين، حتى «هارون الرشيد» نفسه، كانوا قومًا يتسمون بما لا شفاء منه من البلادة وسفك الدماء، وهم مُنْزَوون في امتعاض في مرو.
وأما تعريف البلدان الإسلامية الرئيسية فيستبعد شمال أفريقيا والأندلس، وتاريخ هذه البلدان يمثل مسيرة منتظمة من العصور القديمة إلى العصور الحديثة. وهكذا نرى في المجلد الأول أن الإسلام صفة جغرافية يُطلقها الخبراء على ما يناسبهم وفق التسلسل الزمني وبصورة انتقائية، ولكنهم لا يقومون في الفصول الخاصة بالإسلام الكلاسيكي بتهيئتنا التهيئة اللازمة لخيبة الأمل التي تصادفنا عندما نصل إلى «العصور الأخيرة» كما يسمونها؛ فكتابة الفصل الخاص بالبلدان العربية الحديثة لا تُفصح عن أدنى فهم للتطورات الثورية في المنطقة، ومؤلف هذا الفصل يتخذ موقف معلمة التلاميذ، المتحذلقة الرجعية، تجاه العرب («ولا بد أن نذكر أن الشباب من المتعلمين وغير المتعلمين في البلدان العربية أصبحوا، في هذه الفترة، تربة خصبة للاستغلال السياسي، بسبب حماسهم ومثاليتهم، كما أصبحوا أحيانًا، وربما دون أن يدركوا ذلك، أدوات في أيدي المتطرفين ومثيري القلاقل الذين لا ضمير لهم»)26 ولو أن المؤلف يخفف أحيانًا من هذه النبرة بامتداح القومية اللبنانية (وإن كان لا يذكر لنا قط أن جاذبية الفاشية لعدد صغير من العرب خلال الثلاثينيات امتدَّت عدواها إلى المارونيِّين اللبنانيِّين الذين أسسوا في عام ١٩٣٦م حزب الكتائب اللبناني على غرار حزب القمصان السود الذي أنشأه موسوليني). والمؤلف يصف عام ١٩٣٦م بأنه شهد «البلبلة والقلاقل» دون إشارة إلى الصهيونية، كما أنه لا يسمح قط بأي إشارة إلى فكرتَي العداء للاستعمار ومناهضة الإمبريالية حتى لا «تفسدا» رصانة سرده التاريخي. وأما الفصلان اللذان يتناولان «التأثير السياسي للغرب» و«التغير الاقتصادي والاجتماعي» — وهما الفكرتان اللتان لا تتميزان بمزيد من التخصص أو التحديد — فهما مضافان كأنما يمثلان التسليم على مضض بأن للإسلام علاقةً من لون ما بعالمنا «نحن» بصفة عامة، والمؤلف يوازي بين التغيير والتحديث وحده، حتى وإن لم يوضح لنا، في أي مكان، سبب تجاهله لضروب التغيير الأخرى. ولما كان يفترض أن الإسلام لم يُقم علاقات جديرة بالنظر فيها إلا مع الغرب، فإنه يتجاهل عمومًا أهمية باندونج أو أفريقيا أو العالم الثالث، وهذه اللامبالاة الهانئة بثلاثة أرباع الواقع القائم على الأقل تفسِّر لنا إلى حدٍّ ما قوله بسرور يدعو للدهشة بأن «الأرض قد أصبحت معبَّدة [من عَبَّدها ولماذا وكيف؟] لعلاقة جديدة بين الغرب والإسلام … تقوم على المساواة والتعاون».27

وإذا كنَّا بنهاية المجلد الأول قد غمرتنا الحيرة والبلبلة، بسبب عدد من التناقضات والصعوبات، بشأن حقيقة الإسلام، فالمجلد الثاني لا يعيننا بأي شكل؛ فنصفه مخصص لتغطية الفترة من القرن العاشر إلى القرن العشرين في الهند وباكستان وإندونيسيا وإسبانيا وشمال أفريقيا وصقلية، وإن كانت التركيبة نفسها من الرطانة الاستشراقية «المهنية» تسوده إلى حدٍّ كبير، إلى جانب التفاصيل التاريخية التي يوردها على غير هدى. وحتى هذه اللحظة لا يبدو «الإسلام» في صورة «تركيبة» ثقافية بقدر ما يظهر في صورة استعراض، مثل أي استعراض آخر للملوك، والمعارك والأسر الحاكمة. ولكن «التركيبة» الكبرى تستكمل نفسها في النصف الأخير من المجلد الثاني بمقالات عن: «الإطار الجغرافي»، و«مصادر الحضارة الإسلامية»، و«الدين والثقافة» و«الحرب».

وهنا يبدو أن أسئلتنا واعتراضاتنا المشروعة تجد المزيد من المبررات، فلماذا يخصص المؤلفون فصلًا عن فنون الحرب في الإسلام وموضوع المناقشة الحقيقي ينحصر في دراسة بعض الجيوش الإسلامية (وأقول عَرَضًا إنه موضوع طريف)؟ هل لنا أن نفترض وجود أسلوب إسلامي للحرب يختلف، مثلًا، عن أساليب الحرب المسيحية؟ ومن الموضوعات المناظرة المناسبة التي تطرح نفسها موضوع فنون الحرب الشيوعية في مقابل فنون الحرب الرأسمالية. وكيف تؤدي إلى زيادة تفهم الإسلام تلك المقتطفات الغامضة التي يوردها «جوستاف فون جرونيباوم» من كتابات «ليوبولد فون رانكه»، إلى جانب غيرها من «المعلومات» التي توازيها في ثقل الظل وانعدام صلتها بالموضوع، والتي تغصُّ بها صفحاته عن الحضارة الإسلامية، إلا إذا اعتبرناها استعراضًا لاجتهاد الكاتب الذي لا يفرق بين الغث والسمين؟ أليس من قبيل الكذب، إذن، إخفاء قضية «جرونيباوم» الحقيقية، وهي الزعم بأن الحضارة الإسلامية تقوم على ما نقله المسلمون، دون مراعاة للمبادئ، من الحضارات اليهودية المسيحية، واليونانية، والنمسوية الجرمانية؟ ولك أن تقارن هذه الفكرة — أي إن الإسلام، تعريفًا، ثقافةٌ تقوم على السرقة — بالفكرة الواردة في المجلد الأول، والتي تقول إن «ما يسمى الأدب العربي» أدب كتبه الفارسيون (دون تقديم براهين أو الاستشهاد بأسماء). وعندما يعالج «لويس جارديه» موضوع «الدين والثقافة» يقول لنا بإيجاز إن المناقشة سوف تقتصر على القرون الخمسة الأولى للإسلام، فهل يعني هذا أن الدين والثقافة «في العصور الحديثة» لا يمكن «الجمع بينهما» أم يعني أن الإسلام وصل إلى صورته النهائية في القرن الثاني عشر؟ وهل يوجد حقًّا ما يسمى «الجغرافيا الإسلامية» — والتي تتضمن فيما يبدو «الفوضى المقصودة» في المدن الإسلامية — أم تراه فحسب موضوعًا مخترعًا يرمي إلى إثبات صحة النظرية الجامدة التي تقول بالحتمية الجغرافية العنصرية؟ وهو يلمح إلى هذا بتذكيرنا «بالصوم في رمضان والنشاط الذي تشهده ليالي ذلك الشهر» ويتوقع منَّا أن نستخلص من ذلك أن الإسلام دين «موجَّه لسكان المدن». إنه شرح يحتاج إلى الشرح.

وأما الأقسام الخاصة بالمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وبالقانون، والعدالة، والتصوف، والفن والعمارة، والعلوم، وشتى الآداب الإسلامية، فمستواها أعلى كثيرًا من سائر أقسام التاريخ. ولكننا لا نجد أدلة في أي مكان فيها على أن مؤلفيها يشتركون في الكثير مع أصحاب النزعة الإنسانية أو علماء الاجتماع في مجالات البحث الأخرى؛ إذ تفتقر هذه الأقسام بوضوح إلى مناهج التاريخ التقليدي للأفكار، وإلى مناهج التحليل الماركسي والتاريخ الجديد. وباختصار يرى مؤرخو الإسلام أن أفضل ما يلائمه هو التحيز الأفلاطوني والانحياز للولع بالقديم إلى حد ما. فالإسلام في نظر بعض مؤلفي كتاب تاريخ الإسلام سياسة ودين، وفي نظر البعض الآخر أسلوب وجود، وفي نظر فريق ثالث «لا يمكن التمييز بينه وبين المجتمع المسلم» وفي نظر آخرين أيضًا جوهرٌ معروف بصورة غامضة، وأما في نظر جميع المؤلفين فالإسلام شيء بعيد لا قوة له، ولا يستطيع تعليمنا الكثير من العناصر المتداخلة التي تتركب منها حياة المسلمين اليوم، وتجثم فوق العمل الممزق الأوصال — أي تاريخ كيمبريدج للإسلام — تلك البديهية الاستشراقية القديمة التي تقول إن الإسلام أمر يتعلق بالنصوص لا بالبشر.

والسؤال الأساسي الذي يُثيره تاريخ كيمبريدج للإسلام وأمثاله من النصوص الاستشراقية المعاصرة هو إذا ما كانت الأصول العرقية والدين تمثل أفضل تعريفات للخبرة الإنسانية، أو تمثل أفضل التعريفات النافعة والأساسية والواضحة: هل الأهم لنا إن أردنا فهم السياسة المعاصرة أن نعرف إذا ما كان «س» أو «ص» من الناس يعاني الحرمان بأشكال مادية محددة أم أن نعرف إن كان مسلمًا أو يهوديًّا؟ هذا سؤال خلافي بطبيعة الحال، ومن الأرجح، إن شئنا المدخل العقلاني، أن نُصرَّ على التوصيف الديني العِرقي والتوصيف الاجتماعي الاقتصادي معًا، ولكن الاستشراق، كما هو واضح، يضع الانتماء إلى الإسلام في المرتبة المهيمنة، وهذا هو أهم عنصر من عناصر خططه الفكرية المتخلفة.

(٣) مجرد الإسلام

بلغ من عمق ورسوخ نظرية السذاجة السامية في الصورة التي نراها عليها في الاستشراق الحديث أن أصبح الكتَّاب يطبقونها بلا تمييز يُذكر في بعض الأعمال الأوروبية الشهيرة المعادية للسامية مثل بروتوكولات حكماء صهيون، وفي بعض الملاحظات الأخرى مثل التي وجَّهها «حاييم فايتسمان» (وايزمان) إلى «آرثر بلفور» في ٣٠ مايو ١٩١٨م:

إن العرب الذين يتسمون بالذكاء السطحي واللماحية السطحية، يعبدون شيئًا واحدًا، وشيئًا واحدًا فحسب، ألَا وهو السلطة والنجاح … وعلى السلطات البريطانية التي … تعرف طبيعة الخيانة عند العرب … أن تلتزم الحرص واليقظة دائمًا … وكلما زادت محاولة النظام الإنجليزي لاتباع العدل والإنصاف ازداد صلف العربي … ومن شأن الوضع الراهن أن يؤدي بالضرورة إلى إنشاء دولة فلسطينية عربية، لو كان في أرض فلسطين شعب عربي. ولكن الوضع الراهن لن يؤديَ في الحقيقة إلى هذه النتيجة؛ لأن الفلاح متأخر عن هذا العصر بما لا يقل عن أربعة قرون، والأفندي … كذاب غشاش، غير متعلم، وطماع، ولا يتصف بالوطنية مثلما لا يتصف بالكفاءة.28

والعامل المشترك بين «فايتسمان» والأوروبي المعادي للسامية هو المنظور الاستشراقي، أي اعتبار أن الساميين (أو أية أقسام فرعية منهم) يفتقرون بطبيعتهم إلى الشمائل المستحبة في الغربيين. ولكن الفرق بين «رينان وفايتسمان» هو أن الأخير كان قد حشد وراء ألفاظه المنمقة صلابة المؤسسات القائمة بالفعل، ولم يكن يتسنى ذلك للأول. ترى هل اختفى من استشراق القرن العشرين ما كان «رينان» يراه في نمط الوجود الذي لا يتغير قط للساميين؛ أي نفس «الطفولة الكريمة» التي لا تبلغ أبدًا مبلغ الكبر، والتي تتحالف بلا اكتراث حينًا مع البحث العلمي، وحينًا آخر مع الدولة وجميع مؤسساتها؟

ولكن ما أعظم الضرر الناجم عن الحفاظ على شكل من أشكال هذه الأسطورة في القرن العشرين! لقد أدى إلى ظهور صورة معينة للعرب في عيون مجتمع «متقدم» شبه غربي، فكان الفلسطيني يبدو، في مقاومته للمستعمرين الأجانب، إما متوحشًا غبيًّا أو كمًّا مهملًا معنويًّا بل وجوديًّا. فالقانون الإسرائيلي يقضي بأن يتمتع اليهودي وحده بالحقوق المدنية الكاملة ومزايا الاستيطان غير المشروطة. وأما العرب فعلى الرغم من كونهم سكان الأرض فهم لا يُمنحون إلا حقوقًا أقل وأبسط: فهم لا يستطيعون الاستيطان من خلال الهجرة، وإذا كانوا لا يتمتعون بالحقوق نفسها، فيما يبدو؛ فذلك لأنهم «أقل تقدمًا». فالاستشراق يحكم السياسات الإسرائيلية تجاه العرب في جميع الأحوال، على نحو ما يُثبته إثباتًا قاطعًا تقرير «كونيج» الذي نُشر أخيرًا، ونفهم منه أن العرب إما أخيار (وهم الذين يفعلون ما يؤمرون) أو أشرار (وهم مَن يعصون الأوامر ولذلك فهم إرهابيون). ومعظم الموجودين هم أولئك العرب الذين نتوقع منهم — ما داموا قد هُزموا — أن يجلسوا طائعين خلف خط محصَّن تحصينًا محكمًا، يحرسه أقلُّ عدد ممكن من الرجال، وفق النظرية التي تقول إنه كان على العرب أن يقبلوا أسطورة التفوق الإسرائيلي ومن المحال أن يجرءوا على شن الهجوم. ويكفي أن نُلقيَ نظرة واحدة على صفحات ما كتبه الجنرال «يهوشافات هاركابي» بعنوان: «المواقف العربية تجاه إسرائيل» حتى ندرك مدى تصوير العقل العربي في صورة العقل المنحرف، المعادي للسامية إلى النخاع، النزَّاع للعنف، المختلف، والعاجز عن كل شيء تقريبًا ما عدا الألفاظ الطنانة، على نحو ما أشار إليه «روبرت أولتر» في عرضه في مجلة كومنتاري لما كتبه الجنرال المذكور، مبديًا إعجابه به.29 والأساطير تدعم وتولِّد بعضها البعض، وهي تتجاوب مع بعضها البعض، تحقيقًا للتناظر وللأنساق التي تنتمي إلى النوع الذي نتوقعه مع العرب باعتبارهم شرقيِّين، وإن كان من المحال إثباتها إذا اعتبرنا العربي إنسانًا.

والاستشراق لا يستطيع التطور التلقائي ولا الذاتي باعتباره مجموعة من العقائد ومنهجًا للتحليل، بل إنه النقيض «المذهبي» للتطور، وحجته الرئيسية تنحصر في أسطورة توقف نمو الساميِّين وتطورهم، ومن رحم هذه الأسطورة تخرج بل تتدفق أساطير أخرى وكلٌّ منها يقول إن الساميَّ نقيض الغربي، وإن الساميَّ ضحية وجوه ضعفه. وقد أدَّت بعض الأحداث والظروف المتصلة إلى أن تفرعت الأسطورة السامية فرعين في الحركة الصهيونية، فأصبح أحد الفرعين الساميَّين ينتهج منهج الاستشراق، وأصبح الفرع الآخر، وهو العربي، مرغمًا على انتهاج نهج «الشرقي»، وكلما وجدنا صورة الخيمة والقبيلة وجدنا من ورائها تلك الأسطورة، وكلما أُشير إلى مفهوم الشخصية العربية الوطنية وجدنا من ورائها الأسطورة نفسها، وتزداد سيطرة هذه الوسائل على العقل بفضل المؤسسات التي بُنيت في أطرها؛ فكل مستشرق يتمتع، دون مبالغة، بجهازٍ يدعمه ذي سلطة وقوة مذهلة، بسبب سرعة زوال الأساطير التي يدعو لها الاستشراق، وقد بلغ هذا الجهاز اليوم ذروته في مؤسسات الدولة نفسها، بحيث أصبح مَن يكتب عن عالم العرب الشرقي يتمتع بسلطة أمة كاملة وقوتها؛ أي إنه لا يكتب «مزاعم» تقوم على أيديولوجية عالية النبرة بل «حقائق» مؤكدة تقوم على الصدق المطلق الذي تدعمه القوة المطلقة.

وفي عدد فبراير ١٩٧٤م من مجلة كومنتاري، قدمت المجلة لقرائها مقالًا كتبه البروفسور «جيل كارل أولروي» بعنوان: «هل يريد العرب السلام؟» و«أولروي» أستاذ للعلوم السياسية، ومؤلف كتابَين هما: «المواقف تجاه الدولة اليهودية في العالم العربي» وكتاب: «بعض صور الصراع في الشرق الأوسط»، وهو رجل يقول إنه «يعرف» العرب، والواضح أنه خبير في تشكيل الصور الجماهيرية. ومن اليسير التنبؤ بالحجة التي يقيمها فهو يقول إن العرب يريدون تدمير إسرائيل، وإن العرب يعبِّرون فعلًا عن مقاصدهم (وهو ينتفع ظاهريًّا بقدرته على تقديم الأدلة مقتطفًا أقوال بعض الصحف المصرية، وهي الأدلة التي يقول إنها تمثِّل «العرب» كأنما كان العرب والصحف المصرية كيانًا واحدًا) وهلمَّ جرًّا، وبحماس لا يفتر، ونظرة عوراء. وأما جوهر المقال، وهو أيضًا جوهر الأعمال السابقة «للمستعربين» الآخرين (وهي الصفة المرادفة «للمستشرقين») مثل الجنرال «هاركابي»، والذين تخصصوا في «العقل العربي»، فهو الافتراض الذي يتيح العمل على أساسه عن ماهية العرب في الواقع بعد التخلص من «الهراء» الخارجي الذي يكسوها. وبعبارة أخرى نقول إن «أولروي» كان يرى أن عليه أن يُثبت أن العرب لا يمكن الوثوق بهم، وأنه لا بد من محاربتهم حربًا لا تنتهي مثلما يكافح الإنسان مرضًا مهلكًا؛ لأنهم أولًا يقفون وقفةَ رجل واحد في إصرارهم على الثأر بسفك الدماء، ولأنهم ثانيًا عاجزون نفسيًّا عن السلام، وثالثًا لأنهم بالفطرة يؤمنون بمفهوم للعدالة يعني نقيض العدالة. والأدلة التي يسوقها «أولروي» تعتمد على «مستند» رئيسي وهو مقتطف من المقال الذي كتبه «هارولد و. جليدن» بعنوان: «العالم العربي» (الذي أشرت إليه في الفصل الأول). ويرى «أولروي» أن «جليدن» قد استطاع «أن يدرك الاختلافات الثقافية بين النظرة الغربية والنظرة العربية» للأشياء «إدراكًا رائعًا». وهكذا يعتبر «أولروي» أنه أتى بحجة مفحمة — تقول إن العرب متوحشون فاسقون — وهكذا يكون هذا الرجل الذي يعتبر حجة في موضوع العقل العربي قد أخبر جمهورًا عريضًا من اليهود، وربما كان القلق يساورهم، بأن يواصلوا اليقظة والحذر، وهكذا يكون أيضًا قد فعل هذا بالمنهج الأكاديمي، المتزن، المنصف، مستعملًا أدلةً مستقاة من أقوال العرب أنفسهم — زاعمًا بثقة مهيبة وقورة أنهم قد «أكدوا استبعادهم … للسلام الحقيقي» — ومستمدة أيضًا من التحليل النفسي.30
ونستطيع أن نفهم سرَّ هذه الأقوال إذا أدركنا ذلك الاختلاف المضمر والأقوى القائم بين المستشرق والشرقي، وهو أن الأول يقوم بالكتابة، والثاني هو المكتوب عنه، والسلبية هي الدور المفترض للثاني، وأما الأول فيفترض فيه القوة التي تمكنه من الملاحظة والدرس وهلمَّ جرًّا. وكما قال «رولان بارت»، فإن الأسطورة تستطيع ابتكارَ ذاتها في دورات لا تنتهي (شأنها في ذلك شأن مبتكريها)31 وصورة الشرقي هنا صورة الموضوع الثابت المستقر الذي يتطلب الفحص، بل إنه في حاجة إلى معرفة ذاته، ومن ثَم فالجدلية غير مطلوبة، وغير مسموح بها؛ إذ إن لدينا مصدرًا للمعلومات (الشرقي) ومصدرًا للمعرفة (المستشرق) أو، بإيجاز، لدينا كاتبٌ ومادة موضوع هذا الكاتب ولولاه لظلت خامدة. والعلاقة بين الطرفين أساسًا علاقة سلطة، وهي تتخذ صورًا متعددة. وفيما يلي مثال مقتطف من الكتاب الذي كتبه «رافائيل باتاي» بعنوان: «النهر الذهبي إلى الطريق الذهبي»:
إن التقييم الصحيح لما قد تتقبله ثقافة الشرق الأوسط عن طيب خاطر من مخزونات الحضارة الغربية الحافلة إلى حدٍّ مذهل يتطلب أولًا اكتسابَ فهمٍ أفضل وأصح لثقافة الشرق الأوسط، وهذا الشرط نفسه مطلوب لقياس الآثار المحتملة للخصائص الجديدة التي أُدخلت في السياق الثقافي لشعوب تسترشد بالتقاليد. وكذلك لا بد من القيام بدراسة أدق مما سبق للسبل والوسائل التي يمكن أن تزداد بها استساغة العطايا الثقافية الجديدة. وباختصار فإن الطريقة الوحيدة لحل العقدة الذهبية لمقاومة الأخذ بأساليب الحياة الغربية في الشرق الأوسط تكمن في دراسة الشرق الأوسط، وفي رسم صورة أكمل لثقافته التقليدية، وزيادة فهم عمليات التحول الجارية فيه في الوقت الراهن، وتبصُّرًا أعمق بسيكولوجية الجماعات البشرية التي نشأت وترعرعت في ثقافة الشرق الأوسط. إن المهمة عسيرة، ولكن المكافأة — أي التوافق بين الغرب وبين منطقة مجاورة من مناطق العالم تتمتع بأهمية حساسة — تجعلها جديرةً كل الجدارة بالتصدي لها.32

ونحن نلاحظ أن التعبيرات الاستعارية الواردة في هذه الفقرة (وقد بيَّنتها بالبنط الأسود) مستقاة من شتى مجالات النشاط الإنساني، بعضها تجاري، وبعضها ديني، وبعضها بيطري، وبعضها تاريخي. ولكن العلاقة بين الشرق الأوسط والغرب في كل حالة تتخذ طابعًا جنسيًّا في الواقع، فكما سبق لي أن أشرتُ في معرض حديثي عن «فلوبير»، نرى أن ارتباط الشرق بالجنس ما يفتأ يظهر بوضوح غريب، فالشرق يقاوم مقاومة أية عذراء ولكن الباحث الذكر يفوز بالمكافأة حين يدخل بها، ويخترق العقدة العويصة على الرغم من «صعوبة المهمة». و«التوافق» هو نتيجة الانتصار على الدلال العذري، ولا يمثل بأي حال من الأحوال تعايشًا بين أنداد. وعلاقة السلطة المضمرة هنا بين الباحث ومادة موضوعه لا تتغير أبدًا، فإنها ترجح دائمًا كفة المستشرق. فالدراسة والفهم والمعرفة والتقييم تتستر جميعًا بقناع الملاطفة لتحقيق «التوافق» ولكنها أدوات غزو.

و«العمليات» اللغوية في أمثال ما يكتبه «باتاي» (الذي تجاوز في كتابه الأخير: «العقل العربي»33 حتى ما سبق أن كتبه هو نفسه) تستهدف نوعًا بالغَ الخصوصية من الضغط والاختزال. وينتمي جانب كبير من أدواته إلى الأنثروبولوجيا — إذ يصف الشرق الأوسط بأنه «منطقة ثقافية» — ولكن النتيجة هي إلغاء تعددية الاختلافات فيما بين العرب (مهما تكن هذه في الواقع) في سبيل إظهار اختلاف واحد، وهو الذي يميز العرب عن سائر البشر، فإذا أصبح العرب مادةَ موضوع تَقْبل الدراسة والتحليل ازدادت سهولة السيطرة عليهم، كما أن اختزالهم على هذا النحو يسمح بإصدار أحكام عليهم من قبيل الهراء الذي نصادفه في بعض الكتب من أمثال كتاب «المزاج النفسي العربي والشخصية العربية» الذي كتبَته «سانيا حمادي»، بل ويضفي الشرعية على ما به من ترهات عامة ويمنحها قيمة. وهاك مثالًا لها:
لم يُظهر العرب حتى الآن القدرة على الوحدة المنضبطة والدائمة؛ فدفقات الحماس الجماعي تتفجر في صدورهم، لكنهم لا يقومون صابرين بمشروعات جماعية، وهم يحتضنونها عادةً بفتور همة ويفتقرون إلى التنسيق والتناغم في التنظيم وأداء العمل، بل ولم يُظهروا القدرةَ على التعاون، وأي عمل جماعي يحقق الفائدة المشتركة أو الربح المتبادل؛ غريبٌ عليهم.34

ربما كانت دلالة هذا الأسلوب تزيد عمَّا قصدَت إليه الكاتبة، فالفعل المتعدي «يُظهر» ومشتقاته يستخدم دون إشارة لمفعول به غير مباشر: من الذي يُظهر له العرب تلك الصفات المذكورة؟ إنهم لا يُظهرونها لشخص معين، كما هو واضح، بل للجميع بصفة عامة، وتلك طريقة أخرى للتعبير عن أن هذه «الحقائق» بديهيات لا تحتاج إلى براهين في عين المراقب المتمرس أو ذي المزايا الخاصة، ما دامت الكتابة لا تسوق في أي موقع آخر أدلةً متاحة للجميع على ما تقوله، وإذا ما نظرنا في تفاهة هذه الملاحظات حُقَّ لنا أن نتساءل ماذا يمكن أن تكون هذه الأدلة؟ وهي تزداد ثقة كلما خطت في كتابتها خطوة أخرى حتى تقول إن «أي عمل جماعي … غريب عليهم». فالفئات هنا يزداد تحديدها صلابة، والأقوال القاطعة تزداد صفة القطع فيها، والعرب يتحولون عندها تحولًا كاملًا من بشر إلى ما لا يزيد على موضوع مفترض لأسلوبها، ويقتصر وجود العرب على أن يغدو مناسبة للمراقب المستبد الذي يقول لسان حاله «ما العالم إلا الفكرة التي في ذهني أنا».

وهذا هو شأن شتى جوانب عمل المستشرق المعاصر؛ إذ تنتشر في جنبات صفحاته أغربُ المقولات وأعجبها، سواء كان «مانفريد هالبيرن» الذي يقول بأنه على الرغم من إمكان اختزال جميع العمليات الفكرية لدى الإنسان بحيث لا تزيد على ثماني عمليات، فإن العقل الإسلامي لا يقدر إلا على أربع،35 أو كان «مورو بيرجر» الذي يفترض أنه لما كانت اللغة العربية مولعةً ولعًا شديدًا بالبلاغة فإن العرب، من ثَم، غير قادرين على التفكير الحقيقي.36 ولنا أن نعتبر هذه المقولات أساطير في وظيفتها وبنائها، ولكن علينا أن نحاول أن نفهم ما يُحتم استخدامها من دواعٍ أخرى، وإن اتصف عملنا هذا بالحدس والتخمين، بطبيعة الحال؛ إذ نلاحظ أن التعميمات الاستشراقية الخاصة بالعرب تتسم بالتفصيل الشديد فيما يتعلق بتحديد الخصائص العربية بعين الناقد، ولكنها أقلُّ تفصيلًا عندما تتناول مناحي القوة عند العرب؛ فعلى الرغم من ثراء الوصف المخصص للأسرة العربية، والبلاغة العربية، والشخصية العربية، فإن هذه جميعًا تبدو وقد فقدَت طبيعتها، وسُلبَت قوتها الإنسانية حتى حين تكون هذه الأوصاف نفسها زاخرة عميقة في فرض سيطرتها الشاملة على مادة الموضوع. وهذا مقتطف آخر من كتاب «حمادي»:
وهكذا فإن العربي يعيش في بيئة تغصُّ بالمشقة وتدعو للإحباط، ولا تكاد تُتاح له فرصة تنمية طاقاته الكامنة وتحديد موقعه في المجتمع، ولا يكاد يؤمن بالتقدم والتغيير ولا يجد الخلاص إلا في الآخرة.37

وهكذا فإن ما لا يستطيع العربي أن يُنجزَه بنفسه يوجد فيما يكتب عنه، وأما المستشرق فهو يثق ثقةً فائقة بإمكاناته هو، وليس متشائمًا، وهو قادر على تحديد موقفه وموقف العربي معًا، والصورة التي تبرز صورة سلبية قطعًا، ومع ذلك فنحن نسأل: ما سرُّ هذه السلسلة من المؤلفات التي لا تنتهي عنه؟ ماذا يحفز المستشرق إذا لم يكن حافزه — وهو ليس قطعًا حافزه — حب العلوم العربية، أو العقل العربي، أو المجتمع العربي أو الإنجاز العربي؟ وبعبارة أخرى ما طبيعة الحضور العربي في «الخطاب» الأسطوري عنه؟

أمران: العدد وقوة التوليد، وهما صفتان ذواتا دلالات مترادفة آخر الأمر، ولكن علينا أن نفصل بينهما لأغراض التحليل، فالواقع أن جميع الأعمال المعاصرة في مجال البحوث الاستشراقية، دون استثناء تقريبًا (وخصوصًا في العلوم الاجتماعية)؛ تتحدث كثيرًا عن الأسرة، وعن بنائها الذي يسوده الذَّكَر، وعن تأثيرها الذي يتغلغل في المجتمع. والكتاب الذي كتبه «باتاي» خيرُ مثال على ذلك؛ إذ سرعان ما تُصادفنا مفارقة صامتة؛ لأنه إذا كانت الأسرة «مؤسسة» لا علاج لأوجه قصورها العامة إلا دواء ملطِّف يسمَّى «التحديث»، فلا بد لنا من الإقرار بأن الأسرة تواصل التكاثر وأنها تتمتع بالخصوبة، وأنها مصدر الوجود العربي في العالم، على ما هو عليه الآن. وما يُشير «بيرجر» إليه بعبارة «القيمة الكبرى التي يُوليها الرجال لقدرتهم الجنسية»38 يُوحي بالقوة الكامنة وراء الوجود العربي في العالم، وإذا كانت الصورة التي تمثِّل المجتمع العربي تكاد تكون «سالبة» تمامًا، و«سلبية» بصفة عامة، تُتيح للبطل المستشرق أن يغتصبها ويظفر بها، فلنا أن نفترض أن مثل هذا التصوير يمثل وسيلةً للتصدي للتنوع وقوة التباين العربي، وإذا لم يكن مصدر هذا وذاك مصدرًا فكريًّا واجتماعيًّا فإنه مصدر جنسي وبيولوجي. ومع ذلك فإن «الخطاب» الاستشراقي يحظر حظرًا مطلقًا — إلى درجة التحريم — أيَّ اعتداد بهذا الجانب الجنسي، فلا يمكن قط أن يعتبر بصراحة مسئولًا عن عدم الإنجاز والتقدم العقلاني «الحقيقي» الذي يكتشفه المستشرق في شتى مناحي الحياة العربية. وأعتقد، مع ذلك، أن هذه هي الحلقة المفقودة في الحجج التي ترمي أساسًا إلى انتقاد المجتمع العربي «التقليدي»، مثل حجج «حمادي، وبيرجر، وليرنر»، فإنهم يُدركون قوة الأسرة، ويُشيرون إلى جوانب ضعف العقل العربي، ويلمحون إلى «أهمية» العالم الشرقي للغرب، لكنهم لا يقولون قط ما يُوحي به «الخطاب» الذي يتوسلون به، بحيث لا يتبقى للعربي آخر الأمر إلا الدافع الجنسي غير المميز. وقد نجد في مناسبات نادرة — على نحو ما نجد في عمل «ليون مونييري» — إيضاحًا لما هو مضمر خبيء، أي وجود «شهية جنسية قوية … يتميز بها أولئك الجنوبيون ذوو الدم الحار»39 ولكن الغالب هو مواصلة التقليل من شأن المجتمع العربي واختزاله في ملاحظات مبتذلة، لا تقال إلا عمَّن يعتبر في منزلة دنيا بصفة أساسية، ومن وراء ذلك مبالغة جنسية مضمرة تقول إن العربي يتكاثر بلا نهاية وعلى المستوى الجنسي دون سواه تقريبًا. والمستشرق لا يقول شيئًا عن هذا؛ وإن كانت حجته تعتمد عليه: «ولكن التعاون في الشرق الأدنى هو إلى حدٍّ كبير مسألة عائلية ويكاد ينعدم خارج دائرة الأقارب أو القرية».40 ويعني ذلك أنه لا يعتد بالعرب إلا بصفتهم كائنات بيولوجية، وأما على المستوى المؤسسي والسياسي والثقافي فهم «لا شيء»، أو يكادون يكونون «لا شيء»؛ فالوجود الفعلي للعرب هو الوجود العددي وباعتبارهم منشئين للأسر.

وترجع صعوبة هذه النظرة إلى أنها تؤدي إلى تعقيد صفة السلبية التي يفترضها في العرب المستشرقون من أمثال باتاي، بل وحمادي والآخرين، ولكن منطق الأساطير، مثل منطق الأحلام، يقبل — على وجه الدقة — التناقضات الجوهرية؛ فالأسطورة لا تقوم بتحليل المشكلات أو حلها، بل هي تمثِّلها في صورٍ سبق تحليلُها وحلُّها، بمعنى أنها تُقدمها في هيئة صور سبق تجميعُها وبناؤها مثل الناطور الذي يُبنى من تجميع أشياء شتى ثم يُجعل رمزًا للإنسان، ولما كانت الصورة تستخدم كل المواد المتاحة لتحقيق غايتها، ولما كانت الأسطورة — تقريبًا — تحلُّ محلَّ الحياة، فإن التناقض بين العربي ذي الخصوبة الفياضة والدمية السلبية لا أهمية له، «فالخطاب» يكسو التناقض ويُخفيه، بحيث يصبح الشرقي العربي ذلك الكائن المحال الذي تدفعه طاقة شهوته الجنسية إلى نوبات من الإثارة المتطرفة، ومع ذلك فهو يشبه الدمية في نظر العالم؛ إذ يحدق خاوي الذهن في مشهد حديث لا يستطيع أن يفهمه أو يتمشَّى معه.

وتبدو أهمية هذه الصورة للعربي في المناقشات الحديثة للسلوك السياسي الشرقي، وكثيرًا ما تنشأ هذه الصورة في سياق المناقشة العلمية لموضوعين من الموضوعات التي يفضلها خبراء الاستشراق، وهما الثورة والتحديث. وقد صدر في عام ١٩٧٢م مجلد أشرفَت عليه مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بعنوان: «الثورة في الشرق الأوسط ودراسات حالة أخرى»، من تحرير «ب. ج. فاتيكيوتيس». والعنوان ذو صبغة طبية صريحة، فمن المتوقع لنا أن نعتقد أن الشرقيِّين سوف يستفيدون أخيرًا مما كان الاستشراق «التقليدي» يتجنبه في العادة، ألَا وهو العلاج السيكولوجي الإكلينيكي. ويُحدد «فاتيكيوتيس» نغمة المجموعة بشبه تعريف للثورة يبدو مقبولًا، وتكمن هنا مفارقة بالغة البراعة سأعود إلى التحدث عنها. و«فاتيكيوتيس» يعتمد نظريًّا على «ألبير كامي»، الكاتب الفرنسي، والذي لم تكن عقليته الاستعمارية تحب الثورة ولا العرب، على نحو ما أوضح أخيرًا «كونور كروز أوبريان»، ولكن «فاتيكيوتيس» يقبل عبارة يقتطفها من «كامي» ويصفها بأنها «معقولة في جوهوها» وهي «إن الثورة تدمر البشر والمبادئ»، ثم يستمر قائلًا:

… إن الأيديولوجيا الثورية كلها تتناقض مباشرة (بل وتمثِّل هجومًا مباشرًا) على التكوين العقلاني والبيولوجي والنفسي للإنسان.

فالأيديولوجيا الثورية تلتزم بالانتشار المَرَضي المنهجي؛ ولهذا تتطلب التعصب من دعاتها، فالسياسة عند الثوريِّين ليست مسألةَ عقيدة ولا هي بديل عن العقيدة الدينية. بل إن عليها أن تتخلى عن طابعها الذي لازمها على الدوام؛ أي أن تتمثل في نشاط للتكيف مع العصر من أجل البقاء. ولكن نوع السياسة القائم على الانتشار المرضي والتبشير بالخلاص يكره التكيف، وإلا فكيف له أن يتجنب الصعاب ويتجاهل ويتفادى العقبات الكامنة في البُعد البيولوجي والسيكلوجي للإنسان، الذي يتركب من عدة عناصر، كيف له أن يُخدِّر عقلانيته الماكرة، رغم قصورها وهشاشتها؟ إنه يخاف ويتحاشى طبيعة المشكلات البشرية العلمية والمحددة ومشاغل الحياة السياسية، وينمو ويترعرع بالتغذي على التجريدات والأفكار الخيالية الإبداعية. إنه يضع جميع القيم الملموسة في المرتبة الثانية ويُخضعها لقيمة أخرى عُليا وهي تسخير الإنسان والتاريخ لتحقيق الغاية المثلى وهي تحرير الإنسان، وهو لا يرضى بعلم السياسة البشري، بسبب أوجه قصوره الكثيرة المزعجة، ويرجو بدلًا من ذلك أن يخلق عالمًا جديدًا، لا من خلال التكيف والتوازن والدقة؛ أي بالأسلوب البشري، بل من خلال عمل مخيف يتمثل في خلق أوليمبي مهيب شبه رباني، فالعقائدي الثوري لا يقبل القول بأن السياسة جُعلت لخدمة الإنسان، بل يقول بأن الإنسان ما وُجد إلا ليُنشئ نظامًا ابتدعَته السياسة وفرضَته فرضًا وحشيًّا.41

ومهما كانت المرامي الأخرى لهذه الفقرة، التي كتبها الكاتب بأسلوب بالغ في تنميقه، والتي تنضح بالحماس المناهض للثورة، فإن مرماها الأول هو أن الثورة نوع سيِّئ من ممارسة الجنس (ما دام خلقًا شبه رباني)، وأنها أيضًا مرض سرطاني. و«الإنسان» الحق عند «فاتيكيوتيس» لا يقوم إلا بالأعمال العقلانية، الصحيحة، الدقيقة، المحددة، العملية، وكل ما يدعو إليه الثوري وحشيٌّ، غير عقلاني، مخدِّر، سرطاني. فالإنجاب والتغيير والاستمرار لا تقترن فقط بالحياة الجنسية والجنون بل تقترن أيضًا، على ما في هذا من بعض المفارقة، بالتجريدات.

ويُضفي «فاتيكيوتيس» ثقلًا على أفكاره ويُكسبها لونًا عاطفيًّا بالاستشهاد (اليميني) بالإنسانية والحشمة، والاستشهاد (ضد اليسار) بضرورة حماية الإنسانية من النزعة الجنسية والسرطان والجنون والعنف غير العقلاني، والثورة. ولما كانت القضية المطروحة قضية الثورة العربية، فعلينا أن نقرأ الفقرة على النحو التالي: هذا هو حال الثورة، وإذا كان العرب يريدونها، فذلك دليل يُفصح إلى حدٍّ كبير عن حالهم وعن الجنس الأدنى الذي ينتمون إليه. إنهم غير قادرين إلا على الإثارة الجنسية لا على العقل الأوليمبي (أي الغربي الحديث). وأما المفارقة التي أشرتُ إليها آنفًا فتظهر الآن على خشبة المسرح؛ إذ إننا «نكتشف» بعد عدة صفحات أن العرب قد بلغوا من الحمق درجةً تجعلهم عاجزين عن الطموح إلى ما تطمح إليه الثورة، ناهيك بتحقيق هذه الطموحات، والمعنى المضمر هو أن النزعة الجنسية العربية لا تُخشى لذاتها بل بسبب فشلها؛ أي إن «فاتيكيوتيس» يطلب من قارئه أن يصدق أن الثورة في الشرق الأوسط تمثِّل تهديدًا لسبب آخر هو، على وجه الدقة، أن الثورة يستحيل تحقيقها:

إن السبب الرئيسي للصراع السياسي وإمكان نشوب الثورة في كثير من بلدان الشرق الأوسط، وكذلك في أفريقيا وآسيا اليوم؛ هو عجز النظم والحركات الوطنية الراديكالية المزعومة عن التصدي لمشكلات الاستقلال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ناهيك بحلِّها … وما لم تتمكن دول الشرق الأوسط من السيطرة على نشاطها الاقتصادي وإنشاء أو إنتاج التكنولوجيا الخاصة بها، فسوف يظل دخولها المجال الثوري محدودًا؛ إذ ستظل تفتقر إلى المقومات السياسية الأساسية في أي ثورة.42

أي إن العرب مدانون سواء قاموا بالثورة أو لم يقوموا بها، وفي إطار هذه السلسلة من التعريفات الممزقة المفتتة، تظهر الثورات في صورة تهويمات أذهان تُعاني من الخبل الجنسي، ولكن التحليل الدقيق يبيِّن أن هذه الأذهان عاجزة حتى عن الخبل الذي يحترمه «فاتيكيوتيس» حقًّا … فهو إنساني لا عربي، وهو مجسد لا مجرد، وهو بريء من الجنس ولا جنسي.

وأما واسطة العقد «العلمية» في مجموعة «فاتيكيوتيس» فهي المقال الذي ساهم به «برنارد لويس» بعنوان «المفهومات الإسلامية للثورة». وتبدو استراتيجية الكاتب هنا مشذبة، وكثير من القراء يعرفون معنى كلمة «ثورة» العربية حين تكتب بحروف لاتينية، هي ومشتقاتها المباشرة، و«فاتيكيوتيس» يشرحها أيضًا في مقدمته، ولكن «لويس» لا يشرح معنى كلمة «ثورة» العربية إلا في نهاية مقاله بعد أن يناقش مفهوم الكلمات العربية؛ «دولة وفتنة وبغاث» في سياقها التاريخي وسياقها الديني الدقيق. والمعنى الذي يرمي إليه أساسًا هو أن «المذهب العربي الذي يقضي بالحق في معارضة الحكومة الظالمة مذهب غريب على الفكر الإسلامي» الذي يؤدي إلى «الانهزامية» وإلى «السلبية» في المواقف السياسية. ولا نفهم من المقال على وجه اليقين أين يفترض وجود هذه المصطلحات إلا في موقع ما من تاريخ هذه الألفاظ، وعندما يقترب المقال من نهايته نقرأ ما يلي:

كانت البلدان الناطقة بالعربية تُطلق كلمة مختلفة على هذا المفهوم وهي «ثورة»، ومادة «ثَوَرَ» في العربية الفصحى كانت تفيد النهوض (مثلما ينهض الجمل) أو الهياج أو الانفعال، ومن ثَم أصبحت تعني، خصوصًا في الاستعمال المغربي التمرد، وكثيرًا ما تستخدم في سياق إنشاء سيادة أو سلطة مستقلة صغيرة، وهكذا كان مَن يُسمَّون ملوك الطوائف الذين تولَّوا الحكم في إسبانيا في القرن الحادي عشر بعد تفتُّت الخلافة في قرطبة يُطلق عليهم تعبير «الثوار» (المفرد ثائر) وكان الاسم «ثورة» يعني الهياج أول الأمر، على نحو ما جاء في الصحاح، وهو المعجم العربي المعتمد في العصور الوسطى، والمثال: انتظر حتى تسكن هذه الثورة. وهي نصيحة مناسبة إلى حد بعيد. ويستخدم «الأيجي» الفعل في صورة ثوران أو إثارة فتنة باعتبار ذلك من الأخطار التي ينبغي أن تمنع المرء من أداء الواجب الذي يقضي بمقاومة الحكومة الظالمة. والثورة هي المصطلح الذي أطلقه الكُتَّاب العرب في القرن التاسع عشر على الثورة الفرنسية، والذي يستخدمه مَن تلاهم في الإشارة إلى الثورات التي يرضون عنها؛ محلية كانت أو أجنبية، في زماننا.43

والفقرة كلها غاصة بنبرات التعالي وسوء القصد، فلماذا يزجُّ الكاتب بفكرة نهوض الجمل باعتبارها دليلًا على الأصل الاشتقاقي للكلمة الخاصة بالثورة العربية الحديثة إلا لتشويه سمعة الثورة الحديثة؟ وأما السبب الواضح الذي دفع «لويس» إلى هذا فهو الحطُّ من المكانة الرفيعة التي تتمتع بها الثورة المعاصرة بحيث لا تزيد شرفًا (ولا جمالًا) عن جمل يوشك أن ينهض من مناخه. وهو يقرن الثورة بالهياج والفتنة وإقامة سلطة تافهة، لا أكثر، وأما أفضل نصيحة (والمفترض أنه لا يستطيع تقديمها إلا السيد الغربي والسيد المهذب) فهي «انتظر حتى تسكن هذه الثورة». ولا يستطيع المرء أن يعرف — حتى من هذا الوصف الذي يرمي إلى تحقير الثورة — أن أعدادًا لا تُحصى من الناس تلتزم بها التزامًا فعالًا، وبصور أعوص من أن يفهمَها «البحث العلمي» المتهكم عند «برنارد لويس». ولكن هذا اللون من الحديث الذي ينسب صفات جوهرية للشرقي هو الطبيعي عند دارسي الشرق الأوسط وواضعي السياسات الخاصة به؛ أي إن الحركات الثورية عند «العرب» لا تزيد أهميتها عن نهوض جمل، ولا تستحق اكتراثًا أكثر من تخاريف البلهاء، والواقع أن كلَّ أدبيات الاستشراق المعتمدة سوف يثبت عجزها، لهذا السبب الأيديولوجي نفسه، عن تفسير المد الثوري الإيجابي في القرن العشرين في العالم العربي أو إعداد القراء له.

والرابطة التي يقيمها «لويس» بين الثورة ونهوض الجمل، وعمومًا بينها وبين الهياج (لا بالكفاح في سبيل القيم) يُلمح بصورة أشد صراحة مما اعتدناه في كتابته إلى تصويره العربي في صورة لا تزيد على صوة كائن جنسي عُصابي، فكل كلمة أو عبارة يستعملها لوصف الثورة ملونة بلون جنسي، مثل الإثارة والهياج والوقوف، ولكن اللون الجنسي الذي ينسبه للعربي في معظمه «سيئ»، ففي النهاية ما دام العرب غيرَ مهيَّئين حقًّا للعمل الجاد فإن الإثارة الجنسية لديهم لا تزيد شرفًا عن نهوض الجمل، وبدلًا من الثورة نرى الفتنة، وإقامة سلطة تافهة، والمزيد من الهياج، وهو بمثابة القول بأن العربي لا يمارس الجماع بل لا يستطيع إلا المداعبات الجنسية، والاستمناء، والعزل عند الجماع. وأعتقد أن هذه هي المعاني التي يُوحي بها «لويس»، مهما تكن براءة مظهر علمه، أو مهما تبلغ درجة تهذيب حديثه، فما دام يُبدي هذه الحساسية لظلال معاني الألفاظ، فلا بد أنه يدرك أن كلماته هو أيضًا لها ظلالُ معانٍ.

ويعتبر «برنارد لويس» من الحالات الجديرة بزيادة الفحص؛ لأنه يتمتع بمكانة بارزة في المجال السياسي «للمؤسسة» الأنجلوأمريكية المختصة بالشرق الأوسط، ويعتبر فيها مستشرقًا علامة، وكل ما يكتبه ينضح «بالسلطة» التي يتمتع بها ذلك المجال. ولكن عمله على امتداد عقد ونصف على الأقل كان يتميز أساسًا بنزعة أيديولوجية عدوانية، على الرغم من محاولاته المتعددة لإخفاء ذلك بالحِذْق والسخرية. وأنا أشير إلى كتاباته الحديثة التي تمثِّل خير تمثيل موقف الأكاديمي الذي يزعم عمله أنه بحث علمي موضوعي ليبرالي وهو يقترب إلى حدٍّ كبير، في الواقع، من موقف الداعية الذي يهاجم مادة موضوعه، ولكن ذلك لن يُدهش أي قارئ يحيط بتاريخ الاستشراق؛ وليست حالة «لويس» إلا أحدث فضائح «البحث العلمي» المزعوم، وأقلها تعرضًا للنقد في الغرب.

بل لقد بلغ من حرص «لويس» على تنفيذ مشروعه «لتعرية» ما يتصور أنه حقيقة العرب والإسلام، والحط من شأنهما وتشويه سُمْعتهما أن خذلَته طاقاته كباحث وكمؤرخ، فتراه مثلًا ينشر فصلًا بعنوان «ثورة الإسلام» في كتاب عام ١٩٦٤م، ثم يُعيد نشرَ جانب كبير من المادة نفسها بعد اثنتَي عشرة سنة، بعد إدخال تغييرات طفيفة عليها لتُناسب مكان النشر الجديد (وهو في هذه الحالة مجلة كومنتاري) وبعنوان جديد هو «عودة الإسلام». والتغيير في المادة من «الثورة» إلى «العودة» تغيير إلى الأسوأ، بطبيعة الحال، وهو تغيير يقصد به «لويس» أن يشرح لجمهوره الأخير سببَ رفض المسلمين (أو العرب) للكف عن المقاومة ولقبول هيمنة إسرائيل في الشرق الأدنى.

فلنُنعم النظر الآن في أسلوب تنفيذه لهذا التغيير: إنه يشير في الدراستين إلى أحداث شغب وقعَت في القاهرة عام ١٩٤٥م احتجاجًا على الإمبريالية، ويَصِفها في الحالتين بأنها مناهضة لليهود، لكنه لا يقول لنا في أيٍّ منهما كيف كانت مناهضةً لليهود، وإن كان يستند، في الواقع، في إثبات العداء لليهود إلى أدلة مادية تُدهشنا بعض الشيء، ألَا وهي معلومات «استخبارية» تقول: «إن عدة كنائس كاثوليكية وأرمينية وأرثوذكسية يونانية تعرَّضت للهجوم عليها وإحداث أضرار بها.» انظر صياغة الصورة الأولى عام ١٩٦٤م:

في يوم ٢ نوفمبر ١٩٤٥م دعا الزعماء السياسيون في مصر إلى تنظيم مظاهرات بمناسبة الذكرى السنوية لإعلان «بلفور»، وسرعان ما تطورت هذه المظاهرات فأصبحت أحداثَ شغب، فهاجم المتظاهرون كنيسة كاثوليكية وأخرى أرمينية وثالثة أرثوذكسية يونانية، وأحدثوا فيها أضرارًا. أليس لنا أن نسأل ما شأن الكاثوليك والأرمن واليونانيِّين بإعلان «بلفور»؟ 44

ولننظر الآن في الصورة التي نشرها في مجلة كومنتاري عام ١٩٧٦م:

عندما اكتسبت الحركة القومية طابعًا شعبيًّا حقيقيًّا، قلَّت صبغتها القومية وازدادَت صبغتها الدينية — وبعبارة أخرى تضاءل طابعُها العربي وتنامَى طابعها الديني — ففي لحظات الأزمات — وما أكثرها في العقود الأخيرة — يتغلب الولاء الجماعي الغريزي على كل ما عداه. ويكفي أن نضرب لذلك بضعةَ أمثلة. ففي يوم ٢ نوفمبر ١٩٤٥م قامت المظاهرات في مصر [لاحظ أنه يقول إن «المظاهرات قامت» في محاولة لإبراز الولاء الغريزي، وأما في الصورة الأولى فكان «القادة السياسيون» هم المسئولين عن ذلك] بمناسبة الذكرى السنوية لإصدار الحكومة البريطانية لإعلان «بلفور». وخلافًا، بالتأكيد، لما قصد إليه القادة السياسيون الذين كانوا يرعون المظاهرة، إذا بها تتطور بسرعة فتُصبح أحداث شغب معادية لليهود، وإذا بالشغب المعادي لليهود يتحول إلى اضطرابات عامة تعرضت فيها عدة كنائس كاثوليكية وأرمينية ويونانية أرثوذكسية للعدوان والإصابة بأضرار [وهذا تغيير له دلالته؛ إذ يوحي النصُّ هنا بتعرُّض كنائس كثيرة، من ثلاثة مذاهب، للعدوان، وأما الصورة الأولى فينحصر الحديث فيها في ثلاثة كنائس فقط].45

والغرض الجدلي، لا العلمي، عند «لويس» هو أن يبين هنا وفي نصوص أخرى أن الإسلام عقيدة معادية للسامية لا مجرد دين. وهو لا يواجه صعوبة منطقية تُذكر في محاولة القول بأن الإسلام ظاهرة جماهيرية مخيفة وإن كانت في الوقت نفسه «ليست ذات طابع شعبي حقيقي»، ولكن هذه المشكلة لا تعوقه طويلًا، فكما نرى في الصورة الثانية للقصة المغرضة التي يرويها، يواصل «لويس» حديثه حتى يُعلن أن الإسلام ظاهرة غير عقلانية تستلهم منطق «القطيع» أو الجماهير وتسيطر على المسلمين بالانفعالات والغرائز وضروب الكراهية الخالية من الفكر. وكل ما يرمي إليه هذا «العرض» الذي يقدمه هو تخويف قرائه، ودفعهم إلى عدم التنازل للإسلام عن سنتيمتر واحد. ويقول «لويس» إن الإسلام لا يتطور، مثلما لا يتطور المسلمون، فهم موجودون وحسب، وعلينا أن نحذرَهم بسبب جوهرهم الخالص الذي يتضمن (طبقًا لما يقوله لويس) كراهية طال عليها الأمد للمسيحيِّين واليهود. ويلجأ «لويس» في كل ما يكتبه إلى ضبط النفس حتى لا تصدر عنه تصريحات «ملتهبة» بصورة مباشرة، وإنما يحرص على أن يقول إن المسلمين لا يعادون السامية، بطبيعة الحال، عداء النازيِّين للسامية، ولكن دين المسلمين يسمح بسهولة أكبر مما ينبغي بالعداء للسامية، بل وسمح في الواقع بهذا العداء. وينطبق ذلك على الإسلام والعنصرية والرق والشرور «الغربية» الأخرى، وأما جوهر أيديولوجيا «لويس» بشأن الإسلام فهو أنه لا يتغير أبدًا، وقد أصبحت رسالته تنحصر الآن في إخبار القطاعات المحافظة من جمهور القراء اليهود، وأي شخص آخر يرغب في الإصغاء؛ أنَّ أيَّ وصفٍ سياسي وتاريخي وعلمي للمسلمين يجب أن يبدأ وينتهي بأن المسلمين مسلمون:

إذ يتعذر علينا الإقرار بأن حضارة كاملة يمكن أن يكون ولاؤها الأول للدين، بل إن النظرة الليبرالية ترى أن مجرد الإيحاء بذلك جارح، وهي النظرة التي دائمًا ما تُبدي استعدادها للتخفِّي حتى تَقِي الذين تعتبرهم حماتها والأوصياء عليها، وهو ما يتجلَّى في العجز الحالي، على مستوى الصحافة والسياسة والبحث العلمي، عن إدراك أهمية عامل الدين في الشئون الجارية للعالم الإسلامي، وفي اللجوء — من ثَم — إلى لغة اليسار واليمين، والتقدميِّين والمحافظين، إلى آخر هذه المصطلحات الغربية، وأما استعمالها في تفسير الظواهر السياسية الإسلامية فهو لا يزيد في دقته وإيضاحه على استخدام معلق على لعبة الكريكيت لمصطلحات لعبة البيسبول [وقد بلغ من ولع «لويس» بهذا التشبيه الأخير أن اقتطفه حرفيًّا من جدليَّته عام ١٩٦٤م].46
ويحدِّد لنا «لويس» في كتاب لاحق المصطلحات التي يراها أدقَّ وأنفعَ، وإن لم تكن أقل من المصطلحات السابقة في طابعها «الغربي» (مهما يكن معنى صفة «الغربي»)؛ إذ يقول: يتسم المسلمون، مثل معظم غيرهم من الشعوب التي كانت مستعمرةً، بعجزهم عن قول الحق أو حتى إدراك الحقيقة؛ إذ إنهم، حسبما يقول «لويس»، يُدمنون الأساطير، شأنهم في هذا شأن «المدرسة التنقيحية المزعومة في الولايات المتحدة، وهي التي تتطلع إلى عصر ذهبي قديم تُزيِّنه الفضيلة الأمريكية، وتنسب كل الخطايا والجرائم تقريبًا إلى المؤسسة الاجتماعية الحالية في بلادهم»47 ويرمي «لويس» بهذا اللون من الأقوال — إلى جانب كونه مغرضًا وعاريًا عن الصحة تمامًا فيما يتعلق بتاريخ المذهب «التنقيحي» — إلى أن يضع نفسه، وهو «المؤرخ العظيم»، في مرتبة أعلى من مرتبة التخلف التافه التي يشغلها «مجرد» مسلمين وتنقيحيِّين.
وأما بخصوص التزام الدقة، وتحقيق القاعدة التي وضعها «لويس» نفسه، والتي تقول إن «على الباحث، مع ذلك، ألَّا يستسلم لنوازع تعصبه»؛48 فالواقع أن «لويس» يُبدي التعجرف والاستخفاف بنفسه وقضيته، فهو على استعداد، مثلًا، لترديد الحجة العربية ضد الصهيونية (مستخدمًا اللغة «السائدة» بين الوطنيِّين العرب) دون أن يذكر — في أيِّ شيء مما كتب — أنه قد وقع غزو صهيوني لفلسطين واستعمار استيطاني لها رغم أنف السكان العرب وضد إرادتهم. ولا يُنكر ذلك أيُّ إسرائيلي، ولكن «لويس»، المؤرخ المستشرق، يغفله وحسب، وهو لا يتردد في أن يُشير إلى غياب الديموقراطية في الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، دون أن يُشير إشارةً واحدة إلى «قوانين الطوارئ الدفاعية» التي تستخدمها إسرائيل في حكم العرب، بل ولا يشير إطلاقًا إلى ما يتعرض له العرب في إسرائيل من «اعتقالات وقائية» ولا إلى عشرات المستوطنات غير الشرعية التي أُقيمت في الضفة الغربية وفي غزة، ولا إلى إهدار حقوق الإنسان للعرب، وعلى رأسها حقُّ العودة إلى فلسطين. وبدلًا من هذا يُتيح «لويس» لنفسه حريةَ الباحث فيقول إن «الإمبريالية والصهيونية [فيما يتعلق بالعرب] كانتَا مألوفتَين باسمَيهما القديمين وهما المسيحيون واليهود.»49 وهو يستشهد بأقوال «ت. أ. لورنس» فيما يتعلق «بالساميِّين» حتى يدعم القضية التي يبنيها ضد الإسلام، ولا يناقش الصهيونية إطلاقًا بموازاة الإسلام (كأنما كانت الصهيونية حركة فرنسية لا حركة دينية) وهو يحاول في كل ما يكتب أن يُثبت أن أيَّ ثورة في أي مكان لا تزيد في أحسن حالاتها عن كونها شكلًا من أشكال «التطلع إلى زمن الخير المطلق من زاوية علمانية».

وقد يقل استنكارنا لهذا الضرب من بناء الحجج إذا اقتصرنا على اعتباره دعاية سياسية — وهو كذلك بطبيعة الحال — لولا ما يصحبه من المواعظ عمَّا يتصف به المؤرخ الحقيقي من موضوعية وإنصاف ونزاهة، والمعنى المضمر دائمًا هو أن المسلمين والعرب يعجزون عن الموضوعية، وأما المستشرقون الذين يكتبون عن المسلمين والعرب، مثل «لويس»، فهم موضوعيون، تعريفًا، وتعليمًا، ولمجرد كونهم غربيِّين. وهذه هي ذروة الاستشراق في التحجر المذهبي الذي لا يقف عند حدود الحط من مادة موضوعه بل يتجاوزها إلى كفِّ بصر ممارسيه. ولكن دعونا نسمع أخيرًا ما يقوله «لويس» عن أسلوب السلوك الأمثل للمؤرخ، ولنا أن نتساءل إن كان التعصب الذي يهاجمه مقصورًا على الشرقيِّين دون غيرهم:

لا شك في احتمال تأثُّر موضوع البحث بنوازع الولاء [عند المؤرخ] ولكن هذه النوازع لا ينبغي أن تؤثر في معالجته له. فإذا وجد في أثناء بحوثه أن الجماعة التي يحس بانتمائه إليها على صواب دائمًا، وأن الجماعات الأخرى المتنازعة معها مخطئة دائمًا، فالأفضل له أن يتشكك في النتائج التي انتهى إليها، وأن يُعيد فحص الفرضية التي انتقى على أساسها أدلته وفسَّر هذه الأدلة، فليس من طبيعة الجماعات البشرية [ولنفترض أنها تتضمن جماعة المستشرقين كذلك] أن تكون على صواب دائمًا.

وعلى المؤرخ، أخيرًا، أن يكون منصفًا وأمينًا في تقديم قصته، ولا يعني هذا أن عليه أن يقتصر على السرد المجرد للحقائق المؤكدة بلا جدال، بل إن على المؤرخ في العديد من مراحل عمله أن يضع الفرضيات ويُصدر الأحكام، ولكن المهم هو أن يفعل ذلك واعيًا وبصراحة، فيستعرض الأدلة التي تؤيد نتائجه والأدلة التي تعارضها، ويفحص شتى التفسيرات الممكنة، وينصُّ صراحة على ما قرره وكيف ولماذا انتهى إلى ذلك القرار.50

وسوف تبحث عبثًا عن الوعي والإنصاف والصراحة في الأحكام التي يُصدرها «لويس» عن الإسلام، بسبب الأسلوب الذي يتبعه في معالجته، فهو يفضِّل أن يعمل، كما رأينا، عن طريق الإيحاء والتلميح، ومع ذلك فقد نشعر أنه غيرُ واعٍ بما فعله (ربما باستثناء الشئون «السياسية»، مثل مناصرته للصهيونية وعدائه للقومية العربية، ونبرته العالية في محاور الحرب الباردة)؛ إذ إنه من المؤكد أن يقول إن تاريخ الاستشراق كله، وهو الذي انتفع به «لويس»، قد أحال تلك التلميحات والفرضيات إلى حقائق قاطعة أو لا جدال فيها.

وربما كانت أغرب هذه «الحقائق» الأساسية القاطعة وأعجبها (فمن العسير أن نتصور إمكان نسبتها إلى أي لغة أخرى) القول إن اللغة العربية — من حيث كونها لغة — أيديولوجية خطرة. وأما الشاهد المأثور المعاصر على هذه النظرة إلى العربية فهو مقال «أ. شوبي» وعنوانه «تأثير اللغة العربية في سيكلوجية العرب»51 ويوصف المؤلف بأنه «متخصص في علم النفس وأنه درس علم النفس الإكلينيكي والاجتماعي»، ونحن نفترض أن السبب الرئيسي لشيوع آرائه وذيوعها هو أنه عربي (وهي حقيقة تُدينه في الواقع). والحجة التي يطرحها ساذجة بصورة يُرثَى لها؛ ربما لأنه لا يعرف ما اللغة وكيف تعمل. ومع ذلك فإن العناوين الفرعية لمقاله تُفصح عن جانب كبير مما يقول؛ فالعربية تتصف في نظره «بالغموض العام في الفكر»، و«المبالغة في توكيد العلامات اللغوية»، و«المبالغة في التأكيد وفي القول». ويستشهد الكثير بأقوال «الشوبي» باعتباره من الثقات؛ لأنه يُوحي بذلك في كلامه، ولأن العربي الذي يفترض وجودَه عربيٌّ أبكم، لكنه، في الوقت نفسه، مالكٌ لزمام الألفاظ ويتلاعب بها دون أن ينزع إلى الجد كثيرًا أو يحاول تحقيق غرض ما. وصفة البَكَم تمثِّل جانبًا مهمًّا مما يتحدث «الشوبي» عنه؛ إذ إنه لا يستشهد في مقاله كله بشاهد واحد من الأدب العربي الذي يعتز به العربي أشد اعتزاز. أين إذن تأثير العربية في العقل العربي؟ إنه مقصور على العالم الأسطوري الذي خلقه الاستشراق للعربي، وهو الذي يزعم أن صفة العربي مرادفة للبَكَم المصحوب بالمبالغة في الكلام دونما معنى، أو الفقر المصحوب بالإسراف، وأما إمكان التوصل إلى مثل هذه النتيجة بوسائل فقه اللغة فيشهد على النهاية المحزنة التي انتهت إليها تقاليد فقه اللغة التي كانت عميقةً ومركَّبة، والتي لا يمثلها اليوم إلا قلة نادرة من الأفراد. وما اعتماد مستشرق اليوم على «فقه اللغة» إلا آخرُ مظاهرِ ضعفِ مبحثٍ علميٍّ تحوَّل تحوُّلًا كاملًا إلى خبرة أيديولوجية في مجال العلوم الاجتماعية.

وتقوم لغة الاستشراق بالدور المسيطر في كل شيء ناقشته، فهي تجمع بين الأضداد بحيث يبدو ذلك أمرًا «طبيعيًّا»، وتقدِّم أنماطًا بشرية بمصطلحات ومنهجيات علمية، وتنسب الحقيقة والمرجعية إلى أشياء (أي كلمات أخرى) من ابتكارها. ونحن نعتبر اللغة الأسطورية «خطابًا» بمعنى أنها لا يمكن إلا أن تتصف بالمنهجية، ولا يستطيع أحد في الواقع أن يُنشئ «الخطاب» الذي يريده، أو أن يقول ما يقول في إطاره دون أن ينتميَ أولًا إلى الأيديولوجيا والمؤسسات التي تضمن وجوده، وقد يكون هذا الانتماء عن غير وعي في بعض الحالات، لكنه انتماء غير طوعي على كل حال. وهذه المؤسسات دائمًا ما تكون مؤسسات مجتمع متقدم يتناول مجتمعًا أقل تقدُّمًا، أو مؤسسات ثقافة قوية تُلاقي ثقافة ضعيفة. والسمة الأساسية «للخطاب» الأسطوري هي أنه يُخفي مصادره وأصوله، مثلما يُخفي مصادر ما يصفه وأصوله. وهو يقدم «العرب» في صورة الأنماط الثابتة المجردة تقريبًا؛ لا باعتبارهم كائنات تتمتع بإمكانات تمر بمرحلة التحقيق ولا باعتبارهم تاريخًا يتشكَّل ويتكوَّن. والقيمة المبالغ فيها التي تُنسب إلى اللغة العربية، من حيث كونها لغة، تسمح للمستشرق بأن يجعل اللغة مرادفة للعقل وللمجتمع وللتاريخ وللثقافة. فالمستشرق لا يرى أن الشرق يتكلم لغته ويُفصح بها، بل إن اللغة هي التي تُفصح عنه.

(٤) الشرقيون الشرقيون الشرقيون

إن النتائج الخطيرة المترتبة على مذهب الخرافات الأيديولوجية الذي أطلقتُ عليه اسم «الاستشراق» لا ترجع فحسب إلى عيوبه الفكرية، فلقد أصبحت للولايات المتحدة استثمارات كبرى في الشرق الأوسط، أكبر من استثماراتها في أي منطقة أخرى على ظهر الأرض، وخبراء الشرق الأوسط الذين يُسْدُون المشورة إلى راسمي السياسات قد تشربوا روح الاستشراق دون استثناء تقريبًا. ولكن معظم هذا الاستثمار مبنيٌّ على أسس من الرمال، وهي الاستعارة المناسبة لهذه المنطقة؛ إذ إن هؤلاء الخبراء يغذون السياسات بالمجردات التي يسهل تسويقها مثل النُّخَب السياسية، والتحديث، والاستقرار، ومعظمها لا يزيد على أنماط ثابتة قديمة من صنع الاستشراق، وإن كانت اليوم تكتسي رداءَ الرطانة السياسية، ومعظمها لا يصلح على الإطلاق لوصف ما حدث أخيرًا في لبنان أو قبل ذلك في المقاومة الفلسطينية الشعبية لإسرائيل. والمستشرق اليوم يحاول أن يرى الشرق باعتباره صورة مقلدة للغرب، ويفترض، مثلما يقول «برنارد لويس»، أن الشرق لن ينجح في تحسين أحواله إلا إذا أصبحت نزعته القومية «على استعداد للتصالح مع الغرب».52 وأما إذا حدث وقام العرب أو المسلمون أو العالم الثالث والعالم الرابع بسلوك سبل غير متوقعة، رغم كل شيء، فلن ندهش إذا سمعنا مستشرقًا يقول لنا إن هذا يشهد على عناد الشرقيِّين واستحالة إصلاحهم، ويثبت من ثَم أنهم ليسوا أهلًا للثقة.
ونحن لا نستطيع تفسير جوانب الفشل المنهجي للاستشراق بأن نقول إن الشرق الحقيقي يختلف عن الصور التي يرسمها المستشرق له، ولا بأن نقول إنه ما دام المستشرقون غربيين في معظمهم، فلا يمكن أن نتوقع أن يُدركوا حقيقة الشرق الباطنة. فكلٌّ من هذين الافتراضَين فاسد. ولا تتمثل أطروحة هذا الكتاب في القول بوجود شيء يسمَّى الشرق الحقيقي أو الصادق (الإسلام أو العرب أو ما شئت) ولا تتمثل أيضًا في الزعم بتفضيل منظور «داخلي» على منظور «خارجي»، إذا استعرنا التمييز المفيد الذي وضعه «روبرت ك. ميرتون».53 بل لقد حاولت، على العكس من ذلك، أن أُقيم الحجة في هذا الكتاب على أن مفهوم «الشرق» نفسه مفهومٌ مختلق، وأن الفكرة التي تقول بوجود مساحات جغرافية، يسكنها بشرٌ أصليون «يختلفون» اختلافًا جذريًّا عن غيرهم ويمكن تحديد هويتهم على أساس الدين أو الثقافة أو الجوهر العنصري المناسب لذلك المكان الجغرافي؛ فكرة مختلَفٌ عليها إلى حدٍّ كبير، وأنا لا أومن قطعًا بالافتراض القاصر الذي يقول إنه لا يستطيع الكتابة عن السود إلا أسود، ولا عن المسلمين إلا مسلم وهلمَّ جرًّا.

ومع ذلك فإن الاستشراق، رغم أوجه الفشل المذكورة، ورطانته المؤسفة، ونزعته العنصرية التي لا تكاد تخفى، وجهازه الفكري الهزيل يزدهر اليوم بالأشكال التي حاولت وصفها، بل إني أرى ما يدعو إلى الانزعاج في انتشار تأثيره إلى «الشرق» نفسه؛ إذ تحفل صفحات الكتب والمجلات المنشورة بالعربية (وبلا شك باليابانية وشتى اللهجات الهندية وغيرها من اللغات الشرقية) بتحليلات من الدرجة الثانية يكتبها العرب عن «العقل العربي» وعن «الإسلام»، وغير ذلك من أقوال في عداد الأساطير، كما انتشر الاستشراق أيضًا في الولايات المتحدة بعد أن أضافت الأموال والموارد العربية بُعدًا جديدًا يتمثل في الجاذبية الكبيرة «للاهتمام» التقليدي بالشرق ذي الأهمية الاستراتيجية. والواقع هو أن الإمبريالية الجديدة قد نجحت في تكييف الاستشراق واستيعابه؛ إذ أصبحت نماذجه الفكرية الحاكمة لا تتعارض، بل وتؤكد المخطط الإمبريالي المستمر للهيمنة على آسيا.

ويحقُّ لنا أن نعتبر أن التكيُّف بين الطبقة المثقفة وبين الإمبريالية الجديدة يُعَد انتصارًا من انتصارات الاستشراق الخاصة، في تلك البقعة من بقاع الشرق التي أستطيع أن أتحدث عنها بشيء من المعرفة المباشرة. فالعالم العربي اليوم تابعٌ فكريٌّ وسياسي وثقافي يدور في فلك الولايات المتحدة، وليس هذا في ذاته ظاهرة يُؤسَف لها، لكن ما يؤسف له هو شكل علاقة التبعية المذكورة. انظر أولًا إلى الجامعات في العالم العربي التي تُدار بصفة عامة وفقًا لنسق موروث من دولة استعمارية سابقة أو فرضَته تلك الدولة بصورة مباشرة. ولقد تغيَّرت الظروف حتى أصبحت المحتويات الفعلية للمقررات الدراسة غريبة غرابة تكاد تكون شائهة، فالقاعات تغصُّ بمئات الطلاب، والمعلمون لم يتلقَّوا التدريب الجيد، ويعملون أكثر مما ينبغي ويتقاضَون رواتبَ أقل مما ينبغي، كما يحدث أن يُعَيَّن أحدُهم في منصب جامعي لأسباب سياسية، هذا إلى جانب الافتقار شبه التام إلى البحوث العلمية المتقدمة والتجهيزات اللازمة لها، وأهم من ذلك كله الافتقار إلى مكتبة «محترمة» واحدة في المنطقة العربية كلها. وإذا كانت بريطانيا وفرنسا قد سيطرتَا يومًا ما على الآفاق الفكرية للشرق بفضلِ علوِّ كعبهما وثرائهما، فلقد غدَت الولايات المتحدة تشغل هذا المكان، والنتيجة هي أن القلة من الطلاب الواعدين الذين يستطيعون النجاح من خلال النظام التعليمي في بلادهم يُحفزون على القدوم إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراساتهم العليا، وإذا كان من الصحيح، دون شك، أن بعض طلاب العالم العربي لا يزالون يقصدون أوروبا للدراسة، فإن الأغلبية تأتي للولايات المتحدة، ويصدق هذا على طلاب البلدان التي تُوصف بالراديكالية مثلما يصدق على البلدان المحافظة مثل المملكة العربية السعودية والكويت. أضِف إلى هذا أن نظام الرعاية في الدراسة والنشاط التجاري والبحث العلمي قد أتاح للولايات المتحدة أن تُمسك بزمام الأمور وتتمتع بسيطرة شبه كاملة؛ إذ يسود الاعتقاد بأن «المصدر» هو الولايات المتحدة مهما ابتعدت في الواقع عن أن تكون «المصدر» الحقيقي.

وقد ساهم عاملان في جعل هذه الحال تمثِّل انتصارًا أوضح للاستشراق؛ فإذا استطعنا إصدارَ أحكام عامة شاملة قلنا إن التيارات البارزة للثقافة المعاصرة في الشرق الأدنى تسترشد بالنماذج الأوروبية والأمريكية. وعندما قال طه حسين عن الثقافة العربية الحديثة عام ١٩٣٦م إنها أوروبية لا شرقية، كان يسجل هوية الصفوة أو النخبة المصرية المثقفة التي كان هو من أفرادها البارزين، ويصدق ذلك نفسه على النخبة الثقافية العربية اليوم، وإن كان التيار العارم للأفكار المناهضة للإمبريالية في العالم الثالث الذي ساد المنطقة منذ الخمسينيات؛ قد خفف من الطابع الغربي للثقافة السائدة. وبالإضافة إلى ذلك فإن العالم العربي والإسلامي لا يزال يمثِّل قوةً من الدرجة الثانية من حيث إنتاج الثقافة والمعرفة والبحث العلمي. وعلينا هنا أن نتسلح بالواقعية الكاملة في وصف الأوضاع الناجمة؛ إذ لا يملك باحث عربي أو إسلامي أن يتجاهل ما يُنشَر في الدوريات العلمية ولا ما يحدث في المعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، والعكس ليس صحيحًا. فعلى سبيل المثال، لا توجد دورية علمية كبرى للدراسات العربية تُنشر في العالم العربي اليوم، كما لا توجد مؤسسة تعليمية عربية قادرة على تحدِّي جامعات مثل أوكسفورد وهارفارد وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس في دراسة العالم العربي، وتقل قدرة المؤسسات التعليمية العربية على ذلك في مجال الدراسات غير الشرقية. والنتيجة المتوقعة لهذا كلِّه هي أن الطلابَ الشرقيِّين (والأساتذة الشرقيِّين) لا يزالون يريدون أن يأتوا ليتعلموا من المستشرقين الأمريكيِّين، حتى يعودوا ليُكرروا على مستمعيهم المحليِّين نفسَ القوالب الفكرية واللفظية التي وصفتُها بأنها عقائد استشراقية جامدة. ومثل هذا النظام من التكاثر أو الاستنساخ يدفع الباحث الشرقي حتمًا إلى استخدام تعليمه الأمريكي في الإحساس بالتفوق على أبناء وطنه بسبب قدرته على «الإحاطة» بالنظام الاستشراقي وتطبيقه، لكنه يظل مجرد «مصدر معلومات وطني» في علاقاته برؤسائه من المستشرقين الأوروبيِّين أو الأمريكيِّين. والواقع أن دوره في الغرب سوف يقتصر على ذلك إذا أسعده الحظ بالمكوث في الغرب بعد تعليمه العالي. والمعروف أن معظم المناهج الدراسية الأولية في اللغات الشرقية يقوم بتدريسها هؤلاء «الشرقيون» في جامعات الولايات المتحدة اليوم، ولكن السلطة في هذا النظام (في الجامعات والمؤسسات وما شابهها) تكاد تكون محصورةً في أيدي غير الشرقيِّين، وإن كانت أعداد غير الشرقيِّين من الأستاذة المقيمين لا تزيد بصورة صارخة عن أعداد نظرائهم الشرقيِّين.

وأمامنا شتى أنواع الدلائل الأخرى التي تبيِّن كيف يتسنَّى الحفاظ على الهيمنة الثقافية، وهو الذي يساهم فيه قبول الشرقيِّين له والضغط الاقتصادي المباشر والفظ من جانب الولايات المتحدة. فمما يلفت الانتباه مثلًا أن عشرات المنظمات قد تخصصت في الولايات المتحدة في دراسة الشرق العربي والإسلامي، ولم تتخصَّص منظمة واحدة في الشرق نفسه في دراسة الولايات المتحدة؛ الدولة التي تتمتع بأقوى نفوذ اقتصادي وسياسي في المنطقة، والأدهى من ذلك أننا لا نكاد نجد معهدًا واحدًا في الشرق، ولو تواضَعَ مستواه، يتخصص في دراسة الشرق. ولكن هذا كله يتضاءل في ظني أمام العامل الثاني الذي يساهم في انتصار الاستشراق؛ ألَا وهو النزعة الاستهلاكية في الشرق. فلقد ارتبط العالم العربي والإسلامي بصفة عامة بنظام السوق الغربي، ولا يحتاج أحد إلى مَن يُذكِّره بأن النفط، أعظم موارد المنطقة، يستوعبه الاقتصاد الأمريكي استيعابًا تامًّا، ولا أعني بذلك فقط أن النظام الاقتصادي الأمريكي يتحكم في شركات النفط الكبرى بل أعني أيضًا أن عائدات النفط العربي — ناهيك بالتسويق والبحوث وإدارة الصناعة — تتخذ الولايات المتحدة مقرًّا لها، وهو الذي أدَّى فعليًّا إلى أن أصبح العرب — أصحاب الثورة النفطية — من كبار المستهلكين للصادرات الأمريكية، ويصدق هذا على دول الخليج العربي مثلما يصدق على ليبيا والعراق والجزائر، والأخيرة من الدول الراديكالية. وما أرمي إليه هو أن هذه العلاقة علاقة من جانب واحد، ونرى فيها أن الولايات المتحدة مستهلكٌ انتقائيٌّ لمنتجات بالغة القلة (النفط والأيدي العاملة الرخيصة أساسًا) وأن العرب مستهلكون بالغو التنوع لشتى ضروب المنتجات الأمريكية، المادية والأيديولوجية.

وقد كانت لذلك عواقبه الكثيرة؛ إذ ساد توحيد الأذواق على نطاق هائل في المنطقة، ولا تقتصر رموزه على الترانزستور وسراويل البلوجينز والكوكاكولا بل تتجاوز ذلك إلى الصور الثقافية للشرق التي تُقدمها أجهزة الإعلام الجماهيرية الأمريكية و«تستهلكها» دون تفكير جماهير التليفزيون في المنطقة. ومفارقة العربي الذي يعتبر نفسه «عربيًّا» بالصورة التي تقدِّمها هوليود ليست سوى أبسط النتائج التي أشير إليها، فمن النتائج الأخرى نجاح اقتصاد السوق الغربي وتوجُّهه الاستهلاكي في إنتاج طبقة (يزداد إنتاجها بمعدل سريع) من المتعلمين الذين يتجه تكوينهم الفكري إلى إشباع احتياجات السوق. فالتركيز الشديد على الهندسة وإدارة الأعمال والاقتصاد لا يكاد يحتاج إلى إيضاح، ولكن طبقة المثقفين نفسها تساعد ما ترى أنه التيارات الأساسية التي تتعرض للقمع في الغرب، فقد وجدت أن الدورَ الموصوفَ لها، بل والمُعَدَّ لها، هو دور «التحديث»، وهو ما يعني إضفاء الشرعية والسلطة على الأفكار الخاصة بالتحديث والتقدم والثقافة التي تتلقاها من الولايات المتحدة في معظمها ولدينا أدلة باهرة على ذلك في العلوم الاجتماعية، بل — وهو ما يُثير الدهشة — بين المثقفين الراديكاليِّين الذين اقتبسوا نظرتهم الماركسية كلها من نظرة ماركس التي تصور العالم الثالث في صورة موحدة متجانسة، على نحو ما سبقت لي مناقشته في هذا الكتاب. وهكذا فإذا كانت الحالة العامة تدل على قبول فكري للصور والعقائد التي وضعها الاستشراق، فإن هذا الاتجاه يلقَى التدعيم الشديد من التبادل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهكذا، وبإيجاز، نرى أن الشرق الحديث يساهم في صبغ نفسه بصبغة «الشرق» الاستشراقية.

لكن دعونا نتساءل في الختام: هل من بديل عن الاستشراق؟ هل يقتصر هذا الكتاب على إقامة الحجة ضد شيء ما؛ لا من أجل شيء إيجابي؟ لقد تحدثت في مواقع متفرقة من هذا الكتاب عن نقاط انطلاق جديدة «للتحرر من الاستعمار» فيما يسمَّى بدراسات المناطق — مثل العمل الذي أنجزه «أنور عبد الملك»، والدراسات التي نشرها أعضاء مجموعة «هَلْ» عن دراسات الشرق الأوسط، والتحليلات والمقترحات التجديدية التي قدَّمها شتى الباحثين في أوروبا وفي الولايات المتحدة وفي الشرق الأدنى54 — لكنني لم أحاول إلا أن أذكرَها أو أُشيرَ إليها في عجلة. إذ إن مشروعي هو وصفُ نظام فكري خاص لا أن آتيَ، على الإطلاق، بنظام جديد يحلُّ محلَّه. أضِف إلى ذلك أنني أحاول أن أطرح مجموعة كاملة من الأسئلة المتصلة بالموضوع وهو مناقشة مشكلات الخبرة الإنسانية: كيف يقدِّم المرء صورًا تمثِّل ثقافاتٍ أخرى؟ ما معنى ثقافة أخرى؟ وهل فكرة وجود ثقافة (أو جنس بشري أو دين أو حضارة) متميزة؛ فكرة مفيدة، أم تراها تختلط في جميع الأحوال إما بتهنئة الذات (عندما يناقش المرء ثقافته الخاصة) وإما بالعداء والتعدي (عندما يناقش المرء ثقافة «الآخر»)؟ وهل تعتبر الاختلافات الثقافية والدينية والعنصرية أهم من الفئات الاقتصادية الاجتماعية أو الفئات السياسية التاريخية؟ كيف تكتسب الأفكار السلطة؟ وكيف تتمكن من أن تصبح أفكارًا «سوية» وترقَى إلى منزلة الحقائق «الطبيعية»؟ ما دور المثقف؟ هل ينحصر دوره في إثبات صحة الثقافة والدولة التي ينتمي إليها؟ ما مدى الأهمية التي يجب أن يُوليَها للوعي النقدي المستقل، أي للوعي النقدي المعارض؟

أرجو أن تكون بعض إجاباتي على هذه الأسئلة مضمرة فيما سبق لي قوله، وربما استطعت أن أزيد قليلًا من الإفصاح عنها هنا. سبق لي في وصفي لطابع الاستشراق أن قلت إنه يُثير الشكوك ليس فقط في إمكان إجراء بحوث علمية بريئة من السياسة بل أيضًا في حكمة وجود علاقة أوثق مما ينبغي بين الباحث والدولة. وأعتقد أنه من الواضح أيضًا أن الظروف التي تجعل الاستشراق نمطًا فكريًّا ذا قدرة دائمة على الإقناع سوف تستمر، وهو أمر يدعو إلى الانقباض بصفة عامة. ومع ذلك فإنني أتوقع، وعلى أسس عقلانية، عدمَ استمرار ما يدعو إلى أن يظلَّ الاستشراق دائمًا بمنجى من الطعن فيه فكريًّا وأيديولوجيًّا وسياسيًّا، على نحو ما شهدناه حتى الآن.

ولم أكن لأكتب مثل هذا الكتاب لو لم أكن أومنُ أيضًا بوجود بحوث علمية لا تتسم بما تتسم به البحوث التي ركَّزتُ عليها في عرضي من فساد أو، على الأقل، من عمًى عن الحقيقة الإنسانية؛ إذ يوجد اليوم كثيرٌ من الباحثين الأفراد الذين يعملون في بعض المجالات؛ مثل التاريخ الإسلامي، والدين الإسلامي، والحضارة الإسلامية، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والذين يتميز إنتاجهم العلمي بقيمته العميقة. ولا تبدأ المتاعب إلا عندما تزحف التقاليد «المهنية» للاستشراق فتستولي على الباحث غير اليقظ، والذي لا يأخذ وعْيُه الفردي في البحث العلمي حذرَه من الأفكار التقليدية التي يتوارثها أبناء المهنة بسهولة من أسلافهم. وهكذا فالأرجح أن ينجز الأبحاثَ الجيدةَ الباحثون الذين يدينون بالولاء لمبحث علمي ذي حدود فكرية لا «لمجال» مثل الاستشراق؛ حدودُه هي الأصول المرعية في «المهنة» أو التقاليد الإمبريالية أو الحدود الجغرافية. ومن الأمثلة الحديثة الممتازة تلك الدراسة الأنثروبولوجية التي قدَّمها «كليفورد جيرتز»؛ فاهتمامه بالإسلام يتميز بدرجة كبيرة من الاستقلال والطابع العملي، وهو ما يمكنه من استلهام روح المجتمعات والمشكلات المحددة التي يدرسها، بدلًا من الارتكان إلى طقوس الاستشراق وتصوراته المسبقة وعقائده الراسخة.

ونرى، من ناحية أخرى، أن الباحثين والنقاد الذين تلقَّوا دراساتهم في إطار المباحث الاستشراقية التقليدية يستطيعون بسهولة أن يتحرروا من القيود الأيديولوجية القديمة. والدراسة التي تلقَّاها «جاك بيرك ومكسيم رودنسون» تعتبر من أشد الدراسات التي نعرفها صرامة، ولكن بحوثهما تمتاز بحيوية خاصة حتى حين يدرسان المشكلات التقليدية، بسبب الوعي الذاتي المنهجي لدى كلٍّ منهما؛ فإذا كان الاستشراق على مرِّ التاريخ يتميز بالزهو المبالغ فيه بنفسه، والانعزال الشديد، والثقة الزائدة — المستمدة من المنطقية الوضعية — بأساليب عمله ومنطلقاته، فإن أحد وسائل انفتاح الباحث على ما يدرسه في الشرق أو عن الشرق هو أن يقوم بفحص منهجه الخاص فحصًا نقديًّا. وهذا هو ما يميز «بيرك ورودنسون»، كلٌّ بأسلوبه الخاص. ونحن نجد في عملِ كلٍّ منهما، أولًا، حساسية مباشرة للمادة التي يواجهانِها، وبعدها يأتي الفحص الذاتي المتواصل للمنهجية والتطبيق، والمحاولة الدائمة لإخضاع عملهما للمادة لا لتصور عقائدي مسبق. ويتميز كلٌّ من «بيرك ورودنسون» — شأنهما في ذلك شأن «عبد الملك وروجر أووين» — بإدراك أن أفضل سبيل إلى دراسة الإنسان والمجتمع — شرقيًّا كان أم غير شرقي — هو المجال الواسع لجميع العلوم الإنسانية، ومن ثَم فإن هؤلاء الباحثين قرَّاءٌ ناقدون ودارسون لما يجري في المجالات الأخرى. وهكذا فإن انتباه «بيرك» إلى المكتشفات الحديثة في الأنثروبولوجيا البنيوية، واهتمام «رودنسون» بعلم الاجتماع والنظرية السياسية، وإلمام «أووين» بالتاريخ الاقتصادي، كلها تعتبر «تصويبات» مفيدة، استُعيرت من العلوم الإنسانية المعاصرة لتطبيقها في دراسة ما يسمَّى بالمشكلات الشرقية.

غير أنه لا سبيل إلى تجنُّب الواقع الذي يقول إننا — حتى لو تغاضينا عن التفرقة الاستشراقية بينهم «هم» وبيننا «نحن» — نجد أن سلسلة ذات قوة ونفوذ من الحقائق السياسية، والتي تعتبر أيديولوجية آخر الأمر، تغذو البحث العلمي اليوم. أي إنَّ أحدًا لا يملك تجنُّب ضروب أخرى من التفرقة، إن لم تكن بين الشرق والغرب، فبين الشمال والجنوب، أو بين الأغنياء وبين الفقراء، أو بين الإمبرياليِّين وبين مناهضي الإمبريالية، أو بين الأجناس البيضاء وبين الأجناس الملونة، ولا نستطيع الالتفاف حولها جميعًا متظاهرين بأنها غير موجودة، بل على العكس من ذلك نجد أن الاستشراق المعاصر يُعلمنا الكثير من التزييف الفكري الكامن في الخداع بشأن هذه القضية؛ إذ يؤدي ذلك إلى تعميق التقسيمات وجعْلها خبيئةً ودائمة معًا. ومع ذلك فما أسرع ما يمكن أن يتدهور البحث العلمي «التقدمي» القائم على جدلية صريحة ونظرة عقلية صائبة، فيصبح بمثابة غفوة من غفوات الجمود المذهبي، وهو احتمال لا تُرجَى منه فائدة علمية هو الآخر.

وأما تصوري الخاص للمشكلة فتُفصح عنه أنواع الأسئلة التي طرحتُها آنفًا؛ فلقد اكتسبنا من الفكر الحديث والخبرة الحديثة الحساسية لما يعنيه تقديم صورة تمثِّل شيئًا ما، ودراسة الآخر، والتفكير العنصري، والقبول دون تفكير ودون انتقاد للسلطة وللأفكار «المعتمدة»، والدور السياسي الاجتماعي الذي ينهض به المثقفون، والقيمة الكبرى للوعي النقدي القائم على الشك. وربما لو تذكَّرنا أن دراسة الخبرة الإنسانية عادةً ما تكون لها عواقب أخلاقية، ناهيك بالعواقب السياسية، بأفضل معنًى لهذه الكلمات أو أسوئه، فسوف نكُفُّ عن اللامبالاة في البحث العلمي. وهل ثَم معيارٌ للباحث العلمي يفضُلُ الحرية الإنسانية والمعرفة؟ وربما يكون علينا أن نتذكَّر أيضًا أن دراسة الإنسان في المجتمع دراسة تقوم على وقائع تاريخ البشر وخبراتهم، لا على تجريدات الأساتذة أو على القوانين الغامضة أو على النظم التعسفية. والمشكلة إذن هي تطويع الدراسة وفقًا للخبرة، بحيث يتحدد شكل الدراسة في ضوء الخبرة بصورة ما، وعندها تستطيع الدراسة إيضاح الخبرة وربما تغييرها أيضًا والواجب أن نتجنب، مهما يكن الثمن، إضفاء صورة شرقية مسبقة على الشرق في كلِّ خطوة نخطوها، وسوف يترتب على هذا قطعًا تنقيح المعرفة والتقليل من غرور الباحث. ولو غابت صورة «الشرق» المسبقة لجاء من الباحثين والنقاد والمفكرين والبشر مَن لا يولون لضروب التمييز العنصري والعِرقي والقومي الأهمية التي يُولونها للجهد المشترك في سبيل تعزيز التواصل والترابط البشري.

إنني أومنُ إيمانًا قاطعًا — على نحو ما حاولت إيضاحه في أعمالي الأخرى — بأن المنجزات الجارية اليوم في العلوم الإنسانية تكفي لتزويد الباحث المعاصر بالأفكار والمناهج والنظرات الثاقبة القادرة على إقصاء الأنماط العنصرية والأيديولوجية والإمبريالية، وهي الأنماط الثابتة التي أنشأها الاستشراق أثناء صعود نجمه وسطوعه على مرِّ التاريخ. وأنا أرى أن فشل الاستشراق فشلٌ إنساني بقدر ما هو فشل فكري؛ إذا إنه حين دُفع دفعًا إلى اتخاذ موقع معارضة لا يمكن اختزاله إزاء منطقة من مناطق العالم يعتبرها أجنبية غريبة عنه، قد عجز عن التعاطف أو التوحد مع الخبرة البشرية بل وعجز عن إدراك أنها خبرة بشرية. ومن الممكن الآن تحدِّي السيطرة العالمية للاستشراق وكل ما يرمز له، إذا استطعنا أن نستفيد استفادةً صحيحة مما شهده القرن العشرون بوجه عام من ارتفاع مستوى الوعي السياسي والتاريخي لعدد كبير من شعوب العالم. وإذا كُتب لهذا الكتاب أن يعود بفائدة ما في المستقبل، فسوف تنحصر هذه الفائدة في كونه مساهمة متواضعة في ذلك التحدي، وفي كونه تحذيرًا يقول: ما أسهل إنشاء بعض النظم الفكرية مثل الاستشراق وضروب «خطاب» السلطة والخرافات الأيديولوجية — وهي أصفاد يصنعها العقل — وما أسهل تطبيقها والحفاظ عليها. وأرجو، قبل كل شيء، أن أكون قد أوضحتُ لقارئي أن الرد على الاستشراق ليس «الاستغراب»، ولن يجد مَن كان «شرقيًّا» يومًا ما أيَّ تسرية في القول بأنه ما دام شرقيًّا هو نفسه فمن المحتمل، بل من الأرجح، أن يدرس «شرقيِّين» جُدَدًا — أو «غربيِّين» — من ابتكاره الخاص. وإذا كان لمعرفة الاستشراق أيُّ معنًى، فإنه يكمن في كونه تذكيرًا بالتدهور المُغْوِي للمعرفة، أية معرفة، في أي مكان، وفي أي زمان. وربما يصدق هذا على العصر الحاضر أكثر مما يصدق على الماضي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤