تذييل الطبعة ١٩٩٥م

اكتمل كتاب الاستشراق في أواخر عام ١٩٧٧م ونُشر بعد ذلك بعام، وكان (ولا يزال) الكتاب الوحيد الذي كتبته دفعة واحدة، فاتصلت حلقاته، دون مقاطعة، ودون ما يصرف انتباهي عنه حقًّا، من مرحلة البحث إلى المسودات العديدة وحتى الصورة النهائية. ولم أتلقَّ دعمًا أو اهتمامًا يُذكَر من العالم الخارجي، باستثناء السنة التي قضيتُها كزميل في معهد ستانفورد للدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية (١٩٧٥–١٩٧٦م) وكانت فترة تتميز بطابعها الحضاري الرائع وخلوها نسبيًّا من الأعباء. ولقد لقيتُ تشجيعًا من بعض الأصدقاء وأفراد أسرتي الصغيرة، لكنه لم يتضح لي على الإطلاق إن كانت مثل هذه الدراسة للطرائق التي تنظر بها السلطة والبحث العلمي والمخيلة الخاصة بتقاليد عمرها قرنان من الزمان في أوروبا وأمريكا إلى الشرق الأوسط والعرب والإسلام؛ تستطيع أن تُثير اهتمام الجمهور العام. وأذكر مثلًا كيف وجدت صعوبة في البداية في إثارة اهتمام دار نشر جادة بالمشروع. وقدمَت لي دار نشر أكاديمية معينة عرضًا غير مؤكد يتضمن الاتفاق على عقد متواضع لنشر دراسة صغيرة؛ إذ كان المشروع كله يبدو في البداية ضئيلًا لا يبشِّر بالكثير. ولكن سرعان ما اختلفَت الأحوال — لحسن الحظ — (وأنا أذكر في صفحة «الشكر والتقدير» الأصلية للاستشراق كيف ابتسم الحظ لي مع أول دار نشر أعمل معها) وتحسنت الأوضاع بسرعة عندما انتهيت من كتابة الكتاب.

وعندما نُشر الكتاب في أمريكا وإنجلترا (حيث ظهرَت طبعة خاصة بالمملكة المتحدة عام ١٩٧٩م) حَظِيَ باهتمام كبير، كان بعضه (كما هو متوقع) بالغ العداء، وبعضه لا يدل على الفهم، ولكن معظمه كان إيجابيًّا بل ويُبدي الحماس للكتاب. واعتبارًا من عام ١٩٨٠م، عام ظهور الترجمة الفرنسية، توالى ظهور الترجمات التي يزداد عددها إلى اليوم، وأثار الكثير منها خلافاتٍ ومناقشاتٍ بلُغاتٍ لا أستطيع أن أفهمها. كما صدرَت ترجمة عربية مرموقة، ولا تزال خلافية، بقلم الشاعر السوري الموهوب والناقد كمال أبو ديب، وسوف أقول المزيد عنها بعد قليل. وبعد ذلك صدر الاستشراق باللغات اليابانية والألمانية والبرتغالية والإيطالية والبولندية والإسبانية والقطالونية والتركية والصربية الكرواتية والسويدية (وأصبحت الترجمة الأخيرة من أكثر المبيعات رواجًا في عام ١٩٩٣م في السويد وهو ما أثار حيرةَ الناشر المحلي مثلما أثار حيرتي). وتجري ترجمة الكتاب إلى عدة لغات أخرى (اليونانية والروسية والنرويجية والصينية) أو هي على وشك الصدور. وتتردد شائعات عن ترجمات أوروبية أخرى، كما قيل إن إسرائيل بصدد إصدار طبعة للكتاب. وصدرَت ترجمات لبعض أجزاء الكتاب في إيران وباكستان دون إذن من المؤلف. وكثير من الترجمات التي عرفت بها مباشرة (وخصوصًا الترجمة اليابانية) صدرَت لها أكثر من طبعة، وجميعها ما زالت متاحة ويظهر أحيانًا أنها تُثير مناقشات محلية تتجاوز كلَّ ما دار بخلدي وأنا أكتب الكتاب.

ونتيجة لذلك كلِّه أصبح الاستشراق عدةَ كتب مختلفة بصورة تكاد تنطبق عليها حالة «بورجيس»، الكاتب الأرجنتيني الذائع. وفي حدود ما استطعتُ أن أتابعَه وأفهمه من هذه الصور التالية للكتاب، فإن ذلك التحول الغريب (الذي يدعو كثيرًا للقلق والذي لم يخطر ببالي قطعًا) من صورة الكتاب الأولى إلى صور متعددة، هو ما أودُّ أن أناقشَه هنا، وأن أسترجع في قراءتي للكتاب الذي كتبتُه ما قاله الآخرون إلى جانب ما كتبته أنا نفسي بعد الاستشراق (ثمانية أو تسعة كُتُب وكثير من المقالات). ومن الواضح أنني سوف أحاول أن أصحح بعض القراءات الخاطئة، وكذلك — في حالات معدودة — حالات سوء التفسير المتعمد.

ومع ذلك فسوف أُعدِّد بعض الحجج والتطورات الفكرية التي تُقرُّ بأن الاستشراق كتاب مفيد من زوايا لم أكن أُدركها إدراكًا كاملًا في ذلك الوقت. وليس مرماي من ذلك كله تسوية حسابات أو تهنئة نفسي ولكن تحديد وإثبات معنى أوسع كثيرًا مما اعتدناه لمعنى التأليف والمؤلف، وهو معنى يتجاوز كثيرًا إحساسَ ذواتنا بالعزلة ونحن نضطلع بعمل ما؛ إذ يبدو الاستشراق لي الآن، من زوايا شتى، كتابًا جماعيًّا، وأعتقد أنه يتجاوزني شخصيًّا باعتباري مؤلفه إلى درجة أكبر مما توقعتُه عندما كتبتُه.

فلْأبدأ بجانب معين من جوانب «استقبال» الكتاب، وهو الجانب الذي آسفُ له أشدَّ الأسف وأحاول اليوم جاهدًا (في عام ١٩٩٤م) أن أتغلب عليه، وأعني به ما زُعم عن عداء الكتاب للغرب، وهو الزعم المضلِّل الذي ردَّده المعلقون بأصوات رنانة؛ المعادي منهم للكتاب والمتعاطف معه. وهذه الفكرة ذاتُ شقَّين، أحيانًا ما يظهران معًا وأحيانًا منفصلَين؛ فأما الشق الأول فهو الزعم المنسوب إليَّ بأن ظاهرة الاستشراق مجازٌ مرسل؛ أي بعض من كل، أو رمز مُصغَّر، للغرب كله، وأن المقصود به حقًّا أن يمثِّل الغربَ كلَّه. وتستمر هذه الحجة قائلة: ما دام الأمر كذلك فإن الغربَ كلَّه يُعادي الشعب العربي والإسلامي، أو حتى الشعوب الإيرانية والصينية والهندية وغيرها من الشعوب غير الأوروبية التي عانَت من الاستعمار الغربي والتحيُّز الغربي. وأما الشق الثاني من الحجة المنسوبة إليَّ فيماثل الأول في بُعْد مداه؛ إذ يقول إن الغرب الضاري والاستشراق قد انتهكَا الإسلام والعرب (لاحظ كيف ذاب مصطلح «الاستشراق» في مصطلح «الغرب» هنا)، وما دام الأمر كذلك فقد اعتبر هذا الشق من الحجة أن مجرد وجود الاستشراق والمستشرقين يمثِّل ذريعةً للقول بعكس ذلك تمامًا؛ أي للقول بأن الإسلامَ كاملٌ وبأنه الحل الوحيد وهلمَّ جرًّا؛ أي إن انتقاد الاستشراق، على نحو ما فعلت في كتابي، معناه في الواقع تأييد ما يسمَّى التيار الإسلامي أو الأصولية الإسلامية.

ولا يكاد المرء يعرف ما يَفهم من هذه التحولات الكاريكاتورية لكتاب يعارض معارضة صريحة مذهب «الجوهرية»؛ أي نسبة خصائص «جوهرية» لأية جماعة بشرية، ويُعرب عن تشكُّكه «الجذري» في جميع التسميات الفئوية القاطعة مثل الشرق والغرب، ويحرص حرصًا شديدًا على عدم «الدفاع» أو حتى مناقشة الشرق والإسلام. ومع ذلك فلقد قرأ الناس الاستشراق وكتبوا عنه في العالم العربي باعتباره دفاعًا منهجيًّا عن الإسلام والعرب، على الرغم من أنني أقول بصراحة إنني غيرُ معنيٍّ بتبيان حقيقة واقع الشرق أو الإسلام، ولا أتمتع بالقدرة على ذلك، بل إنني أذهب في هذا الشوط إلى مدًى أبعد كثيرًا حين أقول في أوائل الكتاب إن بعض الكلمات مثل «الشرق» و«الغرب» لا تنطبق على واقع «مستقر» موجود باعتباره حقيقة من حقائق الطبيعة. زِد على ذلك أن جميع أمثال هذه التسميات الجغرافية تجمع جمعًا غريبًا بين الأشياء الإمبيريقية والأفكار الخيالية أو الإبداعية. إذ إن فكرة الشرق بالصورة المتداولة بها في بريطانيا وفرنسا وأمريكا فكرة مستمدة إلى حدٍّ كبير من النزوع لا إلى الوصف فحسب بل أيضًا إلى السيطرة والدفاع عنها بصورة ما. وكما أحاول أن أبيِّن، يصدق هذا القول بقوة على الإسلام باعتباره التجسيد الذي يمثِّل الشرق ويكمن فيه خطرٌ داهم.

وعلى أية حال فإن القضية الأساسية في هذا كله، كما تعلَّمنا من «فيكو»، هي أن التاريخ البشري يصنعه البشر. ولما كان ذلك التاريخ يتضمن الصراع في سبيل السيطرة على الأراضي، فإنه يتضمن أيضًا الصراع حول المعنى التاريخي والاجتماعي. ومهمة الباحث الناقد ألَّا يفصل بين هذين الضربَين من الصراع بل أن يجمع بينهما، على الرغم من التضاد بين الطابع المادي الغلاب للأول والطابع الروحي المهذب الظاهر للثاني. والسبيل الذي سلكتُه وأسلكه في الجمع بينهما هو أن أبيِّن أن تطور كل ثقافة والحفاظ عليها يتطلبان وجود «أنا ثانية» مختلفة عن «الأنا» الأولى وتنافسها. فالواقع أن بناء الهوية — وأنا أستخدم تعبير «البناء»؛ لأن الهوية، سواء كانت للشرق أو الغرب، لفرنسا أو لبريطانيا، هي في نهاية الأمر بناء، وإن كان من الواضح أنها تمثِّل مستودعًا لخبرات جماعية متميزة — أقول إن بناء الهوية يقتضي إقامة أضداد، و«آخرين» يخضع واقعُهم الفعلي دائمًا للتفسير المستمر وإعادة التفسير المتواصل لاختلافاتهم عنَّا «نحن». ويقوم كلُّ عصر وكل مجتمع بإعادة خلق «الآخرين» اللازمين له، وإذن فإن هوية الذات أو هوية «الآخر» أبعد ما تكون عن الثبات والجمود، بل إنها جهد وحركة متواصلة، تاريخية واجتماعية وفكرية وسياسية، تتخذ صورة النزاع الذي يشترك فيه الأفراد والمؤسسات في جميع المجتمعات، والمناظرات التي تدور اليوم حول الطابع «الفرنسي» والطابع «الإنجليزي» في فرنسا وبريطانيا على الترتيب، أو حول الإسلام في بعض البلدان مثل مصر وباكستان، تعتبر جانبًا من جوانب هذا الجهد التفسيري الذي يتضمن هويات «آخرين» مختلفين، سواء كانوا غير منتمين ولاجئين، أو مرتدين وكفارًا. ولا حاجة بي إلى إيضاح أن هذه الجهود الدائبة، في جميع الحالات، ليست جهودًا ذهنية بل هي منازعات اجتماعية عاجلة تتضمن بعض القضايا السياسية العملية مثل قوانين الهجرة، وتشريعات السلوك الشخصي، وبناء ما يسمَّى بالصحة المذهبية، وإضفاء الشرعية على العنف والتمرد أو على أيٍّ منهما، وطابع التعليم ومحتواه، واتجاه السياسة الخارجية، وهو ما يتصل في حالات كثيرة بتحديد الأعداء الرسميِّين. ونرى، باختصار، أن بناء الهوية يرتبط باستثمار القوة أو السلطة، والضعف أو العجز، في كل مجتمع، وهو من ثَم أبعد ما يكون عن الأوهام أو الشطحات الأكاديمية المجردة.

وأما سبب صعوبة قبول هذه الحقائق الفعلية ذات الأشكال المتغيرة، والتي تتسم بثراء فذ، فيرجع إلى أن معظم الناس يقاومون الفكرة الكامنة وراءها؛ وهي أن هوية الإنسان ليست كيانًا طبيعيًّا ثابتًا بل هي أيضًا بناءٌ يُبنَى، وأحيانًا ما يُخترع اختراعًا. ويرجع جانب من المقاومة والعداء اللذَين استُقبلَت بهما كتبٌ مثل الاستشراق ومن بعده اختراع التقاليد ثم أثينا السوداء1 إلى أنها تقوض، فيما يبدو، الإيمان الساذج بالإيجابية المؤكدة والطابع التاريخي الذي لا يتغير لثقافة ما، أو لذات ما، أو لهوية قومية ما. ولا يمكن تفسير الاستشراق بأنه دفاع عن الإسلام إلا بحذف نصف حجتي، وهو النصف الذي أقول فيه (على نحو ما أفعل في كتاب لاحق هو تغطية الإسلام) إن المجتمع البدائي الذي ننتمي إليه بالميلاد ليس محصَّنًا ضد الصراع التفسيري، وأن ما يبدو في الغرب في صورة ظهور الإسلام أو عودته أو نهوضه إنما هو في الحقيقة صراعٌ في المجتمعات الإسلامية حول تعريف الإسلام. ولمَّا لم يكن ينفرد بالسيطرة الكاملة على هذا التعريف شخصٌ واحد أو سلطة أو مؤسسة واحدة، فقد نشأ الصراع بطبيعة الحال. والخطأ المعرفي الذي ترتكبه الأصولية ظنُّها أن «الأصوليِّين» فئاتٌ لا تخضع للتاريخ، وأنهم لا يخضعون للفحص النقدي من جانب المؤمنين الصادقين؛ أي إنهم معصومون منه، ويفترضون أن على المؤمنين الصادقين أن يقبلوهم دون مساءلة. وهكذا فإن المستمسكين بالصورة المستعادة أو التي أحيوها للإسلام في أول عهوده يرون أن المستشرقين مصدر خطر؛ لأنهم يعبثون بتلك الصورة، أو يُشككون فيها أو يحاولون القول بأنها غير صادقة أو حتى غير مُنزَّلة. وإذن فهم يرون أن فضائل كتابي ترجع إلى أنه أظهر الأخطار الخبيثة للمستشرقين وأنقذ الإسلام بصورة ما من مخالبهم.

لكنني لم أكن أتصور أنني توليتُ هذه المهمة، وإن كانت النظرة التي تقول بهذا لا تزال قائمة. ولهذا سببان؛ ففي المقام الأول لا يسهل على أيِّ فرد أن يحيَا بلا شكاة ولا خوف في ظِل القول بأن الحقيقة الإنسانية تتعرض باستمرار للتشكيل وإعادة التشكيل، وأن كلَّ ما يمكن اعتباره جوهرًا ثابتًا يتعرض للتهديد باستمرار. ومن ردود الفعل المألوفة إزاء هذا الخوف نزعة الوطنية، والقومية المتطرفة الكارهة للأجانب، بل ونعرة التعصب الوطني المستهجنة. ونحن نحتاج جميعًا إلى أسس من نوع ما نقف عليها، والسؤال هو مدى التطرف في رسمنا لهذه الأسس ومدى ثباتها. وموقفي فيما يتعلق بالإسلام «الجوهري» أو الشرق «الجوهري» ينحصر في أن هذه الصور لا تزيد على كونها صورًا، وأنها صور تساندها جماعة المسلمين المؤمنين وجماعة المستشرقين (ولهذه المشاركة دلالتها). وأنا لا أعترض على ما أسميتُه الاستشراق لا لأنه وحسب دراسةٌ للغات والمجتمعات والشعوب الشرقية نابعةٌ من الولع بالقديم، بل لأنه، باعتباره مذهبًا فكريًّا، يعالج حقيقية إنسانية دينامية مركَّبة ومتعددة العناصر من وجهة نظر غير نقدية تنسب إلى هذه الحقيقة جوهرًا ثابتًا (وهو مذهب «الجوهرية»)، وذلك يُوحي بوجود حقيقة شرقية ثابتة دائمة، ووجود جوهر غربي يعارضها ولا يقل عنها ثباتًا ودوامًا، وهو يراقب الشرق من مسافة بعيدة، وكذلك — إن صح التعبير — من علٍ. وهذا الموقف الزائف يُخفي التغير التاريخي. والأهم منه في نظري أنه يُخفي مصالح المستشرق. وعلى الرغم من محاولات رصد الفروق الدقيقة بين الاستشراق باعتباره جهدًا علميًّا بريئًا والاستشراق باعتباره متواطئًا مع الإمبريالية؛ فمن المحال فصل هذه المصالح من طرف واحد عن السياق الإمبريالي العام الذي بدأ مرحلته العالمية الحديثة بغزو نابليون لمصر في ١٧٩٨م.

وأنا أعني التضاد الصارخ بين الطرف الأضعف والطرف الأقوى، وهو التضاد الذي يتجلى منذ بداية اللقاءات الأوروبية الحديثة مع ما أسمته أوروبا «الشرق». انظر إلى الرصانة المتعمدة والنبرات الوقورة لكتاب «وصف مصر» الذي أمر نابليون بوضعه، وانظر إلى مجلداته الهائلة المتراصَّة التي تشهد بالجهود المنهجية لفيلق كامل من العلماء الفرنسيِّين الذين يساندهم جيش حديث يقوم بالغزو الاستعماري، وانظر كيف تتضاءل أمام هذا العمل الشهادة الفردية لشخص مثل «عبد الرحمن الجبرتي»، وهو الذي يصف في ثلاثة مجلدات منفصلة وقائع الغزو الفرنسي من وجهة نظر من تعرَّض للغزو. وقد يقول قائل إن «وصف مصر» لا يزيد على كونه كتابًا علميًّا، وأنه من ثَم كتاب موضوعي يَصِف مصر في أوائل القرن التاسع عشر، ولكن وجود «الجبرتي» (الذي يجهله نابليون ويتجاهله) يوحي بخلاف ذلك: إن كتاب نابليون وصف «موضوعي» من وجهة نظر طرف قوي يحاول إبقاء مصر في الفلك الإمبريالي الفرنسي، وأما كتاب «الجبرتي» فمكتوب من وجهة نظر من دفع الثمن، من تعرَّض — مجازيًّا — للأسر والقهر.

وبتعبير آخر نقول إن الكتابَين لا يمثلان وثائق «خامدة» تشهد بالتضاد الأبدي بين الشرق والغرب، بل إن كتاب «وصف مصر» وكتاب «الجبرتي» في التاريخ يشكِّلان معًا خبرة تاريخية مشتركة، نشأت منها خبرات أخرى مثلما وُجدت خبرات أخرى قبلها. ودراسة الأسس الدينامية التاريخية لهذه المجموعة من الخبرات تتطلب ما يزيد على الارتداد إلى القوالب النمطية مثل «الصراع بين الشرق والغرب». وهذا هو السبب الأول للخطأ في تفسير الاستشراق باعتباره عملًا معاديًا للغرب بصورة مستترة، وهذه «القراءة» (شأنها في ذلك شأن جميع القراءات القائمة على افتراض وجود تعارض ثنائي ثابت) تُضفي على الكتاب صفةً لا مبرر لها بل وتتعمد الخروج منه بنتيجة تُعلي من صورة الإسلام البريء الذي يشعر بالظلم.

وأما السبب الثاني لصعوبة تقبُّل معارضة حجتي لمذهب «الجوهرية»؛ أي افتراض جوهر ثابت لأي فئة من الناس، فهو سبب سياسي وذو طابعٍ أيديولوجي مُلِحٍّ. لم يكن بمقدوري أن أتنبأ أن تُصبح إيران، بعد عام من نشر الكتاب، مسرحًا لثورة إسلامية ذات آثار بعيدة المدى بصورة فذة، أو أن المعركة بين إسرائيل والفلسطينيِّين سوف تتخذ مثلَ ما اتخذته من وحشية ومن امتداد زمني، ابتداء بغزو لبنان عام ١٩٨٢م وحتى الانتفاضة في أواخر عام ١٩٨٧م. ولم يُؤدِّ انتهاء الحرب الباردة إلى إسكات صوت الصراع، ناهيك بوضعِ حدٍّ له، بين الشرق والغرب، وهو الذي لا تبدو له نهاية ويمثله العرب والإسلام طرفًا أول، والغرب المسيحي طرفًا ثانيًا. وقد نشأت بعد ذلك صراعات أخرى أقرب زمنًا ولا تقل حدة عن تلك بسبب غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، منها التحديات التي طرحَتها الجماعات الإسلامية للوضع الراهن في الثمانينيات والتسعينيات في بلدان متفاوتة الطابع مثل الجزائر والأردن ولبنان ومصر والأراضي المحتلة، وشتى ردود الفعل الأمريكية والأوروبية إزاءها؛ ومنها تشكيل الفيالق الإسلامية لمحاربة الروس في أفغانستان من قواعد في باكستان؛ ومنها حرب الخليج (١٩٩١م)؛ ومنها استمرار تأييد إسرائيل؛ وظهور «الإسلام» باعتباره موضوعًا تتناوله الأقلام المذعورة للصحفيِّين والباحثين، دون أن تقوم على دقة الفهم أو صحة المعلومات في كل الأحوال، وقد أدَّى ذلك كله إلى إشعال الإحساس بالاضطهاد لدى الذين يُرغمون، في كل يوم تقريبًا، على أن يُعلنوا أنهم غربيون أو شرقيون. ولا يبدو أن أحدًا استطاع أن ينجوَ من التعارض بيننا «نحن» وبينهم «هم»، وهو الذي أدَّى إلى تدعيم وتعميق وتشدد الإحساس بالهوية، والذي لم يَعُد علينا بأية فائدة.

وفي مثل ذلك السياق المضطرب، صاحب حسن الحظ وسوء الحظ معًا مصير الاستشراق. فأما الذين كانوا، في العالم العربي والإسلامي، يشعرون بالقلق والتوتر إزاء التطاول الغربي، فقد بدا لهم أن الاستشراق أول كتاب يقدِّم إجابةً جادة يُرَدُّ بها على الغرب الذي لم يُنصت إنصاتًا حقيقيًّا للشرقي قط، ولم يغفر له على الإطلاق كونه شرقيًّا، وما زلت أذكر أن إحدى المراجعات العربية الأولى للكتاب أشارت إلى المؤلف باعتباره نصير العروبة، والمدافع عن المقهورين والمظلومين، والذي جعل رسالته الاشتباك مع السلطات الغربية في نزال فردي ملحمي رومانسي. وعلى الرغم مما في هذا من المبالغة، فقد كان يعبِّر إلى حدٍّ ما تعبيرًا حقيقيًّا عن إحساس العرب بالعداء المستديم من جانب الغرب، كما كان يقدم الردَّ الذي كان الكثيرون من المثقفين العرب يرون أنه الرد المناسب.

ولا أُنكر أنني كنت حقًّا واعيًا، عندما كتبتُ هذا الكتاب، بصدق المقولة — من وجهة نظر ذاتية — التي يُلمح إليها «ماركس» في الجملة الصغيرة التي استشهدت بها في إحدى مقدمات فصول الكتاب («لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يمثِّلهم أحد»)، أي إنك لو أحسست بأنك قد حُرمتَ فرصةَ الإدلاء برأيك فسوف تحاول جاهدًا أن تتسنَّى لك هذه الفرصة. فالواقع يقول إنَّ مَن يشغلون منزلة ثانوية يستطيعون الكلام، على نحو ما يشهد به تاريخ حركات التحرر في القرن العشرين بأنصع صورة. لكنني لم أشعر قط بأنني أعمل على ترسيخ العداوة بين كتلتَين سياسيَّتَين وثقافيَّتَين متنافستَين تتسمان بالجمود والتحجر، وهما اللتان وصفت أساليب بنائهما وكيف أدَّى ذلك إلى عواقب وخيمة حاولت تخفيف حدَّتها. فكما سبق أن قلت، أرى — على العكس من ذلك — أن تصور التعارض بين مثل هاتين الكتلتَين تصور مضلِّل ومكروه إلى أقصى حد، والأفضل أن نُقلِّل قدرَ الطاقة من الثقة في قدرته على تفسيرِ أيِّ شيء تفسيرًا فعليًّا، والاقتصار على اعتباره تاريخًا جذابًا لشتى التفاسير والمصالح المتنازعة. ويُسعدني أن أسجِّل أن عددًا كبيرًا من القرَّاء في بريطانيا وأمريكا — وكذلك في البلدان الناطقة بالإنجليزية في أفريقيا وآسيا وأستراليا وبلدان البحر الكاريبي — رأوا أن الكتاب يؤكد حقائق الواقع الذي أطلقتُ عليه في وقت لاحق مصطلح «التعددية الثقافية»، لا بصفته تعبيرًا عن كراهية الأجانب، أو عن المشاعر القومية العدوانية ذات التوجه العنصري.

ومع ذلك فقد كانت الآراء الشائعة تميل إلى اعتبار كتاب «الاستشراق» ضربًا من الشهادة على قدرات أصحاب المنزلة الثانوية — أي قدرة البؤساء في الأرض على الرد — أكثر من ميلها إلى اعتباره بحثًا نقديًّا يستند إلى التعددية الثقافية في تحليله للسلطة التي تستخدم المعرفة لتحسين حالها. وهكذا رأى الناس أنني، باعتباري مؤلفَ الكتاب، أنهضُ بدور معين، ألَا وهو دور الوعي — الذي يمثِّل ذاته — بما تعرَّض من قبلُ للكتمان والتشويه في النصوص العلمية لضرب من ضروب «الخطاب» الذي كان أصحابه الغربيون «يُكيِّفونه» على مرِّ التاريخ بحيث لا يقرؤه الشرقيون بل غيرهم من الغربيِّين. وهذه قضية مهمة، وهي تزيد من الإحساس بوجود هويَّتَين ثابتتَين تتصارعان أو تتقاتلان، عبر الأخدود الدائم الذي ينبذه هذا الكتاب نبذًا، وإن كان يفترض وجوده ويعتمد عليه، على ما في هذا من مفارقة، فلم يكن أحدٌ من المستشرقين الذين أكتب عنهم، فيما يبدو، يقصد أن يكون أحد الشرقيِّين من قراء ما يكتب؛ إذ إن «خطاب» الاستشراق، بما يتميز به من اتساق داخلي وقواعد صارمة في التحليل، كان موجَّهًا إلى القراء و«المستهلكين» في المدن الغربية. وينطبق هذا على الذين أُكنُّ لهم إعجابًا حقيقيًّا؛ مثل «إدوارد لين وجوستاف فلوبير»، اللذَين سحرَتهما مصر، انطباقه على المديرين الاستعماريِّين المتعجرفين مثل اللورد «كرومر»، وعلى الباحثين الألمعيِّين مثل «إرنست رينان»، والأرستوقراطيِّين المتباهين مثل «آرثر بلفور»؛ إذ كانوا جميعًا يتحدثون عن الشرقيِّين الذين حكموهم أو درسوهم بنبرات تنمُّ عن «التفضل» وعن الكراهية. ولا بد لي من الإقرار بأنني وجدت متعةً معينة في استراق السمع، دون دعوة، إلى شتى مقولاتهم والمناقشات الدائرة بين المستشرقين، ومتعة تُضاهيها في نشر ما وجدته حتى يقرأَه الأوروبيون وغير الأوروبيِّين على حد سواء. ولا شك أنني تمكنت من ذلك؛ لأنني عبرتُ الأخدود الإمبريالي الذي يفصل الشرق عن الغرب، وتغلغلتُ في حياة الغرب، ومع ذلك احتفظتُ بقدر من الصلة «العضوية» بالمكان الذي أنتمي إليه أصلًا. وأنا أكرر أن ذلك كان يتمثل إلى حدٍّ بالغ في عبور الحواجز وتخطِّيها لا في الإبقاء عليها. وأعتقد أن كتاب «الاستشراق» يبيِّن ذلك، خصوصًا عندما أقول إن الغاية المثالية للدراسة الإنسانية هي تجاوز القيود القسرية المفروضة على التفكير ونشدان نمط من الدراسة المتحررة من السيطرة ومن النظرة «الجوهرية»؛ أي التي تنسب جوهرًا للشرقي يفصله عن الغربي أو العكس.

وقد زادَت هذه الاعتبارات في الواقع من الضغوط التي يتعرَّض لها كتابي حتى يمثِّل شهادة ما على الجراح وسجلًّا ما لضروب المعاناة، وكان الشعور السائد هو أن ذلك ردٌّ على الغرب تأخَّر كثيرًا عن موعده. ويؤسفني ذلك الوصف المبسط لعمل مثل هذا العمل — وأنا ألجأ هنا إلى التظاهر بالتواضع — إذ إنَّ كتابي يحفل بظلال المعاني والتمييز فيما يقوله عن مختلف الأشخاص، ومختلف الفترات، ومختلف الأساليب في مجال الاستشراق. وكل تحليل من تحليلاتي يُدخِل تعديلاتٍ على الصورة، ويزيد من الاختلاف والفوارق، ويفصل المؤلفين عن بعضهم البعض والفترات عن بعضها البعض، وإن كانت جميعًا تنتمي إلى الاستشراق. وأما مَن يقرأ تحليلاتي عن «شاتوبريان وفلوبير»، أو عن «بيرتون ولين»، دون أن يجد فروقًا في التوكيد، ودون أن يتخلَّى عمَّا يتصوره من وجود رسالة «مختزلة»، تُجملها عبارة مبتذلة مثل «الهجوم على الحضارة الغربية»، فهو — في اعتقادي — يُفرِط في التبسيط ويُخطئ أيضًا، لكنني أعتقد كذلك أنه من الصواب تمامًا أن نقرأ بعض «ثقات» المستشرقين المحدثين مثل «برنارد لويس»، وهو الذي يُصِر على موقفه إصرارًا يكاد يُثير الضحك، باعتبارهم شهودًا على العداء السياسي والدوافع السياسية، وهي الحقيقة التي تُحاول نبراتهم المهذبة ويحاول استعراضهم غير المُقنع للمعرفة أن يُخفيَه.

وهكذا نعود من جديد إلى السياق السياسي والتاريخي للكتاب، وهو ما لا أتظاهر بأنه غير ذي صلة بمحتواه. ومن أفصح ما عبر عن ذلك الارتباط بين كتابي والسياق المذكور ما ورد في مراجعة للكتاب كتبها الباحث باسِم مُسلَّم (MERIP, 1979) وهي التي تحفل بالنظرات الثاقبة وذكاء التمييز. وهو يبدأ بمقارنة كتابي بكتابٍ سابق كتبَه الباحث اللبناني ميخائيل رستم بالعربية، ويُسقط فيه الأقنعة عن الاستشراق عام ١٨٩٥م بعنوان كتاب: «الغريب في الغرب»، لكنه يقول عندئذٍ إن الفرق الرئيسي بيننا هو أن كتابي يدور حول الخسارة، على عكس كتاب رستم، ويقول مسلَّم:

إن رستم يكتب باعتباره رجلًا حرًّا، وفردًا من أفراد مجتمع حر، فهو سوري، وعربي بلغته، ومواطن في دولة عثمانية لا تزال مستقلة … وبخلاف ميخائيل رستم، لا يتمتع «إدوارد سعيد» بهوية يقبلها الجميع، بل إن أشخاصه أنفسهم في نزاع. وربما يشعر «إدوارد سعيد» وأبناء جيله أحيانًا أنهم لا يعتمدون على ما هو أصلب من أطلال المجتمع السوري الذي تحطم منذ أيام ميخائيل رستم، وعلى الذاكرة. ولقد تسنَّى للآخرين في آسيا وأفريقيا تحقيق النجاح في عصر التحرر الوطني الذي نشهده، وأما هنا، وعلى النقيض من ذلك، وهو مما يحز في النفس، فلا نجد إلا المقاومة المستميتة ضد قوى غلابة، بل، وحتى الآن، لا نجد إلا الهزيمة: إن كاتب هذا الكتاب ليس أي «عربي» بل هو عربي ذو خلفية معينة وخبرة محددة (ص٢٢).

و«مُسلَّم» على حق في استبعاده قيام أحد أبناء الجزائر بكتابة كتاب من نوع هذا الكتاب نفسه، المتشائم بصفة عامة، وخصوصًا كتابي الذي لا يكاد يتعرض على الإطلاق لتاريخ العلاقات الفرنسية مع شمال أفريقيا، ومع الجزائر على أخص الخصوص. وهكذا فإذا كنت أقبل الانطباع العام بأن الاستشراق مكتوب في ظل وقائع التاريخ الصلبة إلى أقصى حد، والتي تنطق بالخسارة الشخصية والتمزق الوطني — وكانت «جولدا مائير»، رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، قد أدلت، قبل كتابتي «الاستشراق» بأعوام معدودة، بتصريحها ذي الطابع الاستشراقي العميق، والذي ذاعَت سُمْعتُه السيئة، عن عدم وجود شعب فلسطيني — أقول إذا كنت أقبل ذلك الانطباع العام، فإنني أُضيف أيضًا أن مرامي لم يكن يقتصر في هذا الكتاب، أو في الكتابَين اللذين تبعاه مباشرة وهما «مسألة فلسطين» (١٩٨٠م) و«تغطية الإسلام» (١٩٨١م) على اقتراح برنامج سياسي لاستعادة الهوية والنهضة الوطنية. وكان الكتابان اللاحقان يحاولان، بطبيعة الحال، استكمالَ النقص في الاستشراق، ألَا وهو ما يمكن أن تكون عليه — من وجهة نظر شخصية — الصورة البديلة لبعض عناصر الشرق، وهما فلسطين والإسلام، على الترتيب.

لكنني ظللتُ في جميع أعمالي مستمسكًا بموقفي الأساسي وهو انتقاد النزعة الوطنية المتباهية العمياء، وكانت صورة الإسلام التي مثَّلتُ لها لا تقوم على «خطاب» التوكيد والجمود المذهبي المستند إلى ما يسمَّى بالصحة أو الصواب، بل على القول بوجود جماعات التفسير داخل وخارج العالم الإسلامي، وبأنها تتواصل فيما بينها في حوار بين أنداد. وأما نظرتي الخاصة بفلسطين، فلم تتغير حتى اليوم، وهي الني عبرتُ عنها أصلًا في كتابي مسألة فلسطين؛ حيث عبرتُ عن شتى ضروب التحفظات بشأن نزعة التعصب للسكان الأصليِّين التي لا تبالي بشيء، وبطابع الكفاح العسكري الذي تتفق عليه آراء الوطنيِّين، وحيث اقترحتُ بديلًا يتمثل في إلقاء نظرة ناقدة على البيئة العربية، وعلى التاريخ الفلسطيني، وحقائق الواقع الإسرائيلي، والخروج من ذلك بنتيجة صريحة تقول إن الخلاص من الحرب التي لا تنتهي لن يتوافر إلا بتسوية على أساس التفاوض بين الجماعتَين اللتين تتعرضان للمعاناة؛ أي العرب واليهود (ولا بد أن أُشير إشارة عابرة إلى أنه رغم ترجمة كتابي عن فلسطين ترجمةً عبرية بديعة في أوائل الثمانينيات، نشرَتها دار مفراس، وهي دار نشر إسرائيلية صغيرة، فلا يزال غير مترجم إلى العربية حتى اليوم. وكان كلُّ ناشر عربي يُبدي اهتمامًا بالكتاب يطلب مني أن أحذف الأجزاء التي تتضمن نقدًا صريحًا لأحد النظم الحاكمة العربية (ومن بينها منظمة التحرير الفلسطينية)، غير أنني كنت دائمًا أرفض ذلك الطلب).

ويؤسفني أن أقول إن استقبال العرب للطبعة العربية من الاستشراق — على الرغم من الترجمة المرموقة التي قام بها «كمال أبو الديب» — كان لا يزال يتجاهل ذلك الجانب من كتابي الذي أُقلل فيه من شأن الحماس الوطني الذي استنبطه البعض من دارستي النقدية للاستشراق، والذي قرنتُه بنزعات الهيمنة والسيطرة التي نجدها أيضًا في الإمبريالية. وأما أهم ما أنجزه «أبو ديب» في ترجمته التي اجتهد فيها اجتهادًا كبيرًا فهو تجنُّبه شبه الكامل للتعابير الغربية المعربة؛ إذ إنه يترجم بعض المصطلحات الفنية مثل «الخطاب»، أو المحاكاة، أو النموذج، أو الشفرة في إطار البلاغة الكلاسيكية للتراث والتقاليد العربية، وكان يرمي بذلك إلى أن يضع كتابي داخل تراث اكتمل تشكيلُه، فكأنما كان يخاطب «الآخر» من منظور التكافؤ والمساواة الثقافية. وكان المنطق الذي يستند إليه في ذلك هو إثبات إمكانية تقديم بحث نقدي معرفي في إطار التراث العربي، مثل تقديمه في إطار التراث والتقاليد الغربية.

ومع ذلك، فإن الإيحاء بالمواجهة بين عالم عربي كثيرًا ما تُرسم صورته في إطار عاطفي، وعالم غربي يستشعر العرب وجودَه في إطار يزيد طابعه العاطفي عن ذلك، قد طمس حقيقة القصد من كتاب «الاستشراق» وهو أن يكون دراسة للبحث النقدي لا تأكيدًا للتناقض الراسخ بين هويَّتَين متحاربتَين. كما كان القصد من الواقع الفعلي الذي وصفته في الصفحات الأخيرة من الكتاب؛ أي وجود نظام فكري تحليلي قوي يفرض هيمنته على نظام آخر؛ هو أن يكون بمثابة الطلقة الأولى في مناظرة قد تدفع القراء والنقاد العرب إلى الاشتباك بعزم وتصميم أقوى مع الاستشراق. وكنت أحيانًا ما أتعرض للتأنيب؛ لأنني لم أهتمَّ اهتمامًا أدق ﺑ «كارل ماركس» (إذ إنَّ أكثر الفقرات التي اختصها النقاد العقائديون بالهجوم في العالم العربي والهند مثلًا كانت الفقرات التي تتحدث عن موقف ماركس الاستشراقي الخاص) زاعمين أن مذهبه الفكري قد ارتفع فوق جوانب تعصُّبه الظاهرة، كما كنت أتعرض للانتقاد بسبب عدم تقديري للمنجزات العظيمة للاستشراق أو للغرب وهلمَّ جرًّا. ويبدو لي أن اللجوء إلى الماركسية أو «الغرب» باعتبارِ أيٍّ منهما «مذهبًا» أو نظامًا كليًّا متماسكًا، يُشبه ضروب الدفاع عن الإسلام في كونه محاولةً لاستخدام مذهب «صحيح» في تحطيم مذهب آخر.

وفي تصوري أن الفرق بين ردود الفعل العربية وغيرها إزاء الاستشراق يعتبر مؤشرًا دقيقًا يبيِّن كيف أثَّرت عقود الخسارة والإحباط وغياب الديموقراطية في الحياة الفكرية والثقافية في المنطقة العربية، وقد قصدت بكتابي أن يصبح جزءًا من تيار فكري قائم بالفعل ويهدف إلى تحرير المثقفين من أصفاد بعض المذاهب مثل الاستشراق: أي إنني أردت للقراء أن ينتفعوا بكتابي في إجراء دراسات جديدة خاصة بهم تُلقي الضوء على الخبرة التاريخية للعرب وغيرهم بمنهج سمحٍ يزيد من طاقاتهم. ولقد حدث هذا قطعًا في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وشبه القارة الهندية، وبلدان البحر الكاريبي، وأيرلندا، وأمريكا اللاتينية وبعض مناطق في أفريقيا. ويسعدني ويسرُّني أن كتاب «الاستشراق» كانت له أهميته في دراسة «الخطاب» الخاص بالثقافتين الأفريقية والهندية، وتحليلات تاريخ مَن يشغلون مكانة ثانوية، وفي دراسة العلوم السياسية، وتاريخ الفن، والنقد الأدبي، وعلم الموسيقى، إلى جانب التطورات الجديدة الشاسعة في «الخطاب» النسوي؛ أي الخاص بقضايا المرأة، و«خطاب» الأقليات. ولا يبدو أن ذلك ما حدث (في حدود مقدرتي على الحكم) في العالم العربي لسببَين: أولهما ما رآه العرب من تركيز كتابي على أوروبا في اختيار النصوص، وهم محقون في ذلك، والثاني هو ما يقوله مُسلَّم من أن المعركة في سبيل البقاء الثقافي تشغلهم إلى الحد الذي يجعلهم يُفسرون كتابي تفسيرًا أقل نفعًا، من ناحية الإتيان بالثمر، وأقرب إلى الدفاع إما عن «الغرب» أو ضد «الغرب».

ومع ذلك فإن أوساطَ الأكاديميِّين الأمريكيِّين والبريطانيِّين الذين يلتزمون الصرامة والصلابة هاجمت الاستشراق بل وجميع كتبي الأخرى وأعربت عن رفضها له ولها بسبب «رواسب» النزعة الإنسانية فيها، وتناقضاتها النظرية، والمعالجة غير المكتملة، بل وحتى العاطفية، لدور القوى المؤثرة في غيرها. ولقد سعدتُ بهذا الهجوم! ﻓ «الاستشراق» كتاب يناصر قضية معينة، وليس آلة نظرية. ولم يستطع أحد حتى الآن أن يسوق أدلة مقنعة على أن الجهد الفردي لا يخرج عن المألوف أو على أنه يتميز بالأصالة بالمعنى الذي وضعه لها الشاعر الإنجليزي «جيرارد مانلي هوبكنز»، وهذا على الرغم من وجود المذاهب الفكرية وضروب «الخطاب» والهيمنة (وإن لم يكن أيٌّ منها في الواقع يخلو من الفجوات أو يتسم بالكمال أو الحتمية). ولقد كان اهتمامي بالاستشراق باعتباره ظاهرة ثقافية (مثل ثقافة الإمبريالية التي تحدثت عنها في الثقافة والإمبريالية وهو تتمة هذا الكتاب الذي صدر عام ١٩٩٣م) نابعًا من اختلاف أشكاله واستحالة التنبؤ بمساره وهما الصفتان اللتان تمنحان كتَّابًا مثل «ماسينيون وبيرتون» قوة مدهشة، بل وجاذبية. وأما ما حاولت الحفاظ عليه في تحليلي للاستشراق فهو قدرته على الجمع بين الاتساق والتناقض، وتأثيره الذي لا يمكن التعبير عنه إلا إذا احتفظ المرء — كاتبًا وناقدًا — بالحق في إبداءِ قدرٍ ما من القوة الشعورية؛ أي الحق في أن ينفعل، ويغضب، ويدهش بل ويبتهج. وقد دارت مناقشة حول هذا الكتاب في دراستين؛ الأولى بقلم «جايان براكاش»، والثانية بقلم «روزاليند أوهانلون ودافيد واشبروك»، وأعتقد أن علينا، للسبب الذي أوردته آنفًا، ألَّا نبخس قدر دراسة براكش فإن منهجها «ما بعد البنيوي» يتميز بالمزيد من المرونة.2 ولهذا السبب نفسه لا يمكننا معارضة دراسات «هومي بابا، وجاياتري سبيفاك، وآشيس ناندي»، التي تقوم على افترض وجود علاقات ذاتية، تتمتع بقوة مذهلة أحيانًا، وتتولد عن الاستعمار، ولا نملك أن نرفض ما يقولونه بسبب مساهمته في تفهمنا للفخاخ «الإنسانية» التي تنصبها بعض النظم، مثل الاستشراق.

ولأختتم الآن هذا الاستعراض للتحولات النقدية التي مر بها كتاب «الاستشراق» بإشارة إلى المجموعة التي كانت أعلى الجميع صوتا، كما هو متوقع، في الاستجابة لكتابي؛ أي جماعة المستشرقين أنفسهم، ولأقل بداية إنهم لم يكونوا الجمهور الرئيسي الذي أخاطبه، على الإطلاق، بل إنني قصدت إلى إلقاء بعض الأضواء على ممارساتهم حتى يزيد وعيُ أصحاب المذهب «الإنساني» الآخرين بخطوات البحث الخاصة في مجال معين والنسب الذي ينحدر منه هذا المجال؛ فلقد ظل مصطلح «الاستشراق»، لفترةٍ طالَت فأمعنَت في الطول، محصورًا في تخصص مهني دقيق، فحاولت أن أبيِّن تطبيقاته، ووجوده في الثقافة العامة، وفي الأدب، والأيديولوجيا، والمواقف الاجتماعية والسياسية. فلم يكن القصد من وصف شخص ما بأنه شرقي، على نحو ما دأب عليه المستشرقون، ينحصر في الإشارة إلى أن لغة هذا الشخص وجغرافية بلاده وتاريخه من موضوعات الدراسة العلمية، بل كثيرًا ما كان ذلك التعبير يرمي إلى الحط من شأن الشخص ويعني أنه ينتمي إلى سلالة دنيا من البشر، وإن كان ذلك لا ينفي أن كلمة «الشرق» كانت ترتبط في أذهان بعض المبدعين مثل «نيرفال» و«سيجالين» ارتباطًا رائعًا وخلَّابًا بالغرابة، والبهاء، والغموض، والوعد، ولكن الكلمة كانت بمثابة تعميم تاريخي مغرق في شموله. وبالإضافة إلى هذه المعاني التي استُعملت فيها كلمات الشرق، والشرقي، والاستشراق، أصبح مصطلح المستشرق يمثِّل أيضًا العالم المتخصص والباحث الأكاديمي أساسًا في لغات الشرق وتاريخ بلاد الشرق. ومع ذلك، وكما قال لي المرحوم «ألبرت حوراني» في رسالة أرسلها إليَّ في مارس ١٩٩٢م، قبل رحيله المبكر والمحزن عن هذا العالم ببضعة أشهر، فقد أدَّى كتابي، بسبب قوة حجته (التي قال إنه لا يستطيع أن يلومني عليها) إلى أن أصبحَ من شبه المحال استخدام مصطلح الاستشراق بمعنى محايد، وذلك بعد أن اكتسب إلى حد بعيد صفة السباب. واختتم رسالته قائلًا إنه لا يزال يودُّ البقاء على استعمال المصطلح في وصف «مبحث علمي محدود، باهت إلى حدٍّ ما وإن كان صحيحًا.»

وعندما نشر حوراني مراجعته التي تتميز بالاتزان بصفة عامة لكتاب «الاستشراق» عام ١٩٧٩م عبَّر عن أحد اعتراضاته عليه قائلًا: إنني أركز على المبالغات والعنصرية والعداء في الكثير من كتابات المستشرقين، لكنني أتجاهل ذكر منجزاته العلمية والإنسانية الكثيرة. وكان من بين الأسماء التي ذكرها «مارشال هودجسون، وكلود كاهن، وأندريه ريمون»، وكلهم (إلى جانب المؤلفين الألمان الذين تقضي التقاليد بذكرهم) ممن ينبغي الإقرار بمساهماتهم الحقيقية في المعرفة الإنسانية. ولكن هذا لا يتناقض مع ما أقوله في الاستشراق، والفرق هو أنني أُصرُّ إصرارًا على أن «الخطاب» الاستشراقي نفسه تسوده مجموعة من المواقف التي تُشكل هيكلًا من المحال تنحيته جانبًا أو عدم أخذه في الحسبان. وأنا لا أزعم في أيِّ مكان من كتابي أن الاستشراق شرٌّ أو مائع أو ذو صورة واحدة في عمل كل مستشرق، لكني أقول وأؤكد أن رابطة المستشرقين لها تاريخ محدد في التواطؤ مع السلطة الإمبريالية، ومن العبث أن نُنكر الصلة بينهما.

وهكذا فإذا كنت أتعاطف مع التماس «حوراني»، فإنني أتشكك حقيقةً في إمكان الفصل الكامل بين فكرة الاستشراق، بمفهومه الصحيح، وبين الظروف التي تكتنفه، والتي تتميز بتعقيد أشد إلى حدٍّ ما، ولا تُعلي من شأنه في جميع الأحوال. وإذن فلنتخيل الحد الأقصى؛ وهو أن الباحث المتخصص في وثائق الأرشيف العثماني أو الفاطمي مستشرقٌ بالمعنى الذي يقصده «حوارني»، لكن علينا مع ذلك أن نسأل أين وكيف تُجرَى هذه الدراسات اليوم، وما هي المؤسسات والهيئات التي تدعمها؟ ولقد عمد الكثيرون الذين كتبوا بعد ظهور كتابي إلى طرح هذه الأسئلة على الباحثين، حتى أعمقهم وأشدهم زهدًا في الدنيا، وكانت النتائج مذهلة في بعض الأحيان.

ومع ذلك فلقد شهدنا محاولةً واحدة متصلة الحلقات لبناء حجة تقول إن إجراء بحث نقدي للاستشراق (وبحثي بصفة خاصة) لا معنى له، ويمثِّل على نحوٍ ما انتهاكًا لفكرة البحث العلمي المنزَّه عن الهوى نفسها، وهي المحاولة التي يقوم بها «برنارد لويس» الذي خصصتُ له عدة صفحات نقدية في كتابي. فبعد ظهور «الاستشراق» بخمسة عشر عامًا كتب «لويس» سلسلة من المقالات، جمع بعضها في كتاب عنوانه: «الإسلام والغرب». ويتكون أحد الأقسام الرئيسية في هذا الكتاب من هجوم عليَّ، ومن حوله فصول ومقالات أخرى تحشد مجموعة من المقولات المهلهلة التي يتميز بها الاستشراق من أمثال القول بأن المسلمين ساخطون على الحداثة، أو إن الإسلام لم يفصل يومًا ما بين الكنسية والدولة، وهلمَّ جرًّا، وهو يُعلنها جميعًا بأقصى قدر من التعميم، ودون أن يُشير إلى الفوارق بين المسلمين الأفراد، أو بين مجتمعات المسلمين، أو بين تقاليد المسلمين، أو حقب التاريخ الإسلامي. ولمَّا كان «لويس» قد عيَّن نفسَه متحدثًا بلسان رابطة المستشرقين التي أقمتُ على أساسها بحثي النقدي أصلًا، فقد يجدر بنا أن نزيدَ قليلًا من الحديث عن خطوات عمله. أما أفكاره فهي شائعة، للأسف، بين صغار مساعديه ومقلِّديه، وهم الذين تنحصر مهمتُهم، فيما يبدو في تنبيه «المستهلكين» الغربيِّين إلى الخطر الذي يتهدَّدهم، والنابع من عالم إسلامي ساخط، خلقه الله غير ديموقراطي وميَّالًا للعنف.

ولكن ما يلجأ إليه «لويس» من حشو وتطويل لا يكاد يُخفي الأسس الأيديولوجية لموقفه وقدرته الفذة على الخطأ في كل شيء يقوله تقريبًا. وهذه، بطبيعة الحال، صفات مألوفة في سلالة المستشرقين، وإن كان بعضهم يتحلَّى، على الأقل، بالأمانة في التعبير عن تحقيره للشعوب الإسلامية وغيرها من الشعوب غير الأوروبية. إلا «لويس»! إنه يمضي في تشويه الحقيقة، وفي إقامة القياس الفاسد، وفي التلميح، في المناهج التي يكسوها بقشرة من سلطة مَن يَعْلم كل شيء، ويتحدث بنبرات هادئة واثقة، ويفترض أن ذلك كلَّه من سمات الباحثين. وهاك هذا المثال الذي يمثله خيرَ تمثيل، ألَا وهو مقارنته البحث النقدي الذي أجريته للاستشراق بهجوم مفترض على الدراسات اليونانية القديمة، قائلًا إن الهجوم عليها عمل أحمق. وأنا لا أشك أن مثل هذا الهجوم عمل أحمق، ولكن شتان بين الاستشراق والدراسات اليونانية القديمة! إن الاختلاف بينهما اختلاف جذري؛ فالأول يمثِّل محاولة لوصف منطقة كاملة من العالم، وهي محاولة مصاحبة للفتح الاستعماري لها، وأما الثاني فلا علاقة له على الإطلاق بالفتح الاستعماري لليونان في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أن الاستشراق يعبر عن نفوره من الإسلام، والدراسات الهيلينية تعبِّر عن تعاطفها مع اليونان القديمة.

وبالإضافة إلى ذلك فإن اللحظة السياسية الراهنة التي تحفل بصفحات لا تُحصَى من القوالب النمطية العنصرية المعادية للعرب والمسلمين (دون وجود أي هجوم على اليونان القديمة) تسمح ﻟ «برنارد لويس» بإصدار أقوال غير تاريخية وذات أغراض سياسية مقصودة، في صورة حجة علمية، وهو موقف يتفق تمامًا مع أسوأ جوانب الاستشراق الاستعماري القديم الطراز.3 ومن ثَم فإن عمل «لويس» يعتبر جزءًا من المناخ السياسي الراهن لا المناخ العلمي الحديث.

وأما الإيحاء — على نحو ما يُوحي به «لويس» — بأن فرع الاستشراق الذي يتناول العرب والإسلام مبحث علمي، وأنه من ثَم يمكن أن يشغل نفس المرتبة التي يشغلها فقه اللغة الكلاسيكي، فهو إيحاءٌ سخيف وغير معقول، ولا يصح تشبيه هذا بذاك إلا كما يصح تشبيه أحد المتخصصين في اللغة العربية والمستشرقين من الإسرائيليِّين الذين يعملون لحساب سلطات الاحتلال في الضفة الغربية وغزة ببعض الباحثين مثل «فيلا موفيتس أو مومسين»؛ إذ إن «لويس» يريد، من ناحية، أن يضع الاستشراق الإسلامي في منزلة مجال البحث العلمي البريء المتقد حماسًا، ويريد، في الناحية المقابلة، أن يتظاهر بأن الاستشراق مجالٌ يتميز بدرجة بالغة من التعقيد والتنوع والتخصص التقني إلى الحد الذي يستحيل معه أن يتخذ شكلًا يُتيح لأيِّ شخص من غير المستشرقين (مثلي ومثل الكثيرين سواي) أن ينتقده. ولكن الاهتمام الأوروبي بالإسلام لم ينشأ، كما سبق لي أن ذكرت، من حب الاستطلاع بل من الخوف من منافس للمسيحية يتميز بوحدته وصلابته وبقوته الجبارة ثقافيًّا وعسكريًّا. وكان أوائل الباحثين الأوروبيِّين في الإسلام، على نحو ما بيَّنه مؤرخون كثيرون، من أرباب المجادلات القروسطية الذين كتبوا ما كتبوه لدرء خطر جحافل المسلمين التي تُهددهم وخطر الارتداد عن الدين المسيحي. وقد استمرت هذه «التوليفة» من الخوف والعداء، بصورةٍ ما، حتى يومنا هذا، سواء في الاهتمام العلمي أو غير العلمي بالإسلام، وهو الذي يُنظر إليه على أنه دين ينتمي إلى منطقة معينة من مناطق العالم — هي الشرق — وهي التي غدَت تمثِّل الثقل الموازن — خياليًّا وجغرافيًّا وتاريخيًّا — لأوروبا أو ضد أوروبا والغرب.

وأما أهم المشكلات الشائقة الخاصة بالاستشراق الإسلامي أو العربي فتكمن أولًا في الأشكال التي اتخذَتها الرواسب القروسطية التي لا تزال بيننا ولا تزال تتشبَّث بمواقعها، وتكمن ثانيًا في العلاقات التاريخية والسوسيولوجية بين الاستشراق وبين المجتمعات التي أفرزَته؛ إذ نرى، مثلًا، تلك الروابط القوية بين الاستشراق وبين المخيلة الأدبية، وكذلك بين الاستشراق وبين الوعي الإمبريالي، ويروعنا في الكثير من فترات التاريخ الأوروبي ذلك التجاوب الدائب بين ما كتبه العلماء والمتخصصون، وما غدا الشعراء والروائيون والسياسيون والصحفيون يقولونه عن الإسلام. وبالإضافة إلى هذا — وهذه هي المسألة الجوهرية التي يرفض «برنارد لويس» أن يتناولها — نلمح ذلك التوازي الشديد (وإن يكن يسير الإدراك) بين سطوع نجم النشاط العلمي الحديث في الاستشراق وبين اكتساب بريطانيا وفرنسا إمبراطوريات شاسعة في الشرق.

وعلى الرغم من أن العلاقةَ بين التعليم الكلاسيكي البريطاني المعتاد وتوسيع الإمبراطورية البريطانية علاقةٌ أشدُّ تعقيدًا مما يفترضه «لويس»، فلن نشهدَ توازيًا أشدَّ نصوعًا بين السلطة والمعرفة في تاريخ فقه اللغة الحديث من توازيهما في الاستشراق؛ إذ استمدَّت الدول الاستعمارية جانبًا كبيرًا من المعلومات والمعرفة بالإسلام والشرق، وهو ما استخدمَته في تبرير استعمارها، من الدراسات الاستشراقية، وأثبتَت دراسة حديثة بعنوان: «الاستعمار ومحنة ما بعد الاستعمار»4 شارك فيها مؤلفون كثيرون، وتتميز بغزارة وثائقها؛ أن المعرفة الاستشراقية قد استخدمت في الإدارة الاستعمارية لجنوبي آسيا، ولا يزال التبادل أو التفاعل قائمًا إلى حدٍّ كبير بين المتخصصين في دارسة المناطق، مثل المستشرقين، وبين وزارات الخارجية. أضِف إلى هذا أنَّ عددًا كبيرًا من الصور النمطية للمسلمين والعرب، وهي التي تُبرز النزعة الحسية، والكسل، والإيمان بالقضاء والقدر، والقسوة، والانحطاط، والبهاء، والتي نجدها في كتابات الكُتَّاب من «جون بوكان إلى ف. س. نايبول»، تمثِّل كذلك تلك الافتراضات المسبقة التي يقوم عليها مجالُ الاستشراق الأكاديمي المتاخم لهذه الكتابات. وعلى العكس من ذلك، نجد أن تبادلَ القوالب النمطية بين الدراسات المتخصصة في الهند والصين من ناحية، وبين الثقافة العامة من ناحية أخرى؛ لا يتمتع بالازدهار نفسه، على الرغم من العلاقات والاستعارات الملحوظة. بل ولا نرى تشابهًا كبيرًا بين الحال السائدة في أوساط الدارسين الغربية للصين والهند وبين حال الكثيرين من الدارسين المحترفين للإسلام، في أوروبا والولايات المتحدة، وهم الذين يقضون حياتهم في دراسة الموضوع، ولكنهم يجدون من المحال عليهم أن يحبوا الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية، ناهيك بالإعجاب بهما.

وأما مَن يقول، مثلما يقول «لويس» ومقلدوه، إن أمثال هذه الملاحظات جميعًا لا تزيد عن كونها مسألة اعتناق «قضايا رائجة» فهو لا يتصدَّى للإجابة على الأسئلة التالية: لماذا قام ويقوم الكثير، مثلًا، من المتخصصين في الإسلام بإسداء المشورة، بصورة منتظمة، بل وبالعمل النشط لدى حكومات تتمثَّل خططُها في العالم الإسلامي في الاستغلال الاقتصادي، أو السيطرة، أو العدوان الصريح؟ أو لماذا يشعر كثير من الباحثين في الإسلام، مثل «لويس» نفسه، شعورًا تلقائيًّا بأن واجبَهم يتضمن شنَّ الهجمات على الشعوب العربية أو الإسلامية متظاهرين بأن الثقافة الإسلامية «الكلاسيكية» يمكن أن تكون، رغم ذلك، موضوعَ الاهتمام العلمي النزيه؟ إن مشاهدة المتخصصين في تاريخ طوائف الحرفيِّين الإسلامية في القرون الوسطى الذين تُرسلهم وزارة الخارجية الأمريكية في بعثات لإحاطة أفراد البعثات الدبلوماسية الأمريكية في الخليج بقضايا أمن الولايات المتحدة في المنطقة لا تُوحي تلقائيًّا بأيِّ تشابُه بحب اليونان القديمة الذي ينسبه «لويس» إلى فقه اللغة الكلاسيكي مفترضًا أنه مجال من المجالات المرادفة للاستشراق.

وليس من المدهش إذن أن نجد أن مجال الاستشراق الإسلامي والعربي، الذي يتسم باستعداده الدائم لإنكار تواطئه مع سلطة الدولة، قد عجز إلى عهد جد قريب عن تقديم بحث نقدي «داخلي» عن الارتباطات التي وصفتُها لتوِّي، وأن «لويس» يستطيع أن يُصدر التصريح الغريب بأن نقدَ الاستشراق نقدٌ «لا معنى له». وليس من المدهش أيضًا أن معظم النقد السلبي الذي تلقَّاه عملي هذا من «المتخصصين»، وباستثناءات قليلة، قد اتضح أنه، مثل نقد «لويس»، لا يزيد عن الوصف المبتذل لقيام شخص عادي بانتهاك حرمة ضيعة أحد كبار الملَّاك. وأما الفئة الوحيدة من المتخصصين (أيضًا باستثناءات قليلة) التي حاول أفرادها معالجةَ ما أناقشه — وهو الذي لا يقتصر على مضمون الاستشراق بل يتضمن علاقاته، وارتباطاته، واتجاهاته السياسية، ونظرته للعالم — فكانوا من المتخصصين في دراسة الصين والهند، ومن أبناء الجيل الجديد من باحثي الشرق الأوسط، المنفتحين على المؤثرات الجديدة، وكذلك على الحجج السياسية التي يتضمنها البحث النقدي للاستشراق، ومن الأمثلة عليهم «بنجامين شوارتز»، من جامعة هارفارد، الذي انتهز فرصةَ إلقاء خطاب تولية رئاسة جمعية الدراسات الآسيوية في عام ١٩٨٢م لا للتعبير فقط عن اختلافه مع بعض ما وُجِّه لي من نقد بل أيضًا للترحيب بالحجج الفكرية التي سُقْتُها.

وأما كبار المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية فإن ردود أفعالهم تَشِي بالإحساس بالإساءة البالغة والظلم الشديد، وهو الذي يمثِّل لهم بديلًا عن صورة ذواتهم؛ فمعظمهم يستعمل كلماتٍ مثل «الإساءة»، و«تلويث السمعة»، و«السب العلني»، كأنما كان النقد نفسه انتهاكًا غير مسموح به لحرمة ضيعتهم الأكاديمية المقدسة. وأما الدفاع الذي قدَّمه «لويس» فينبئ بوضوح عن سوء الطوية؛ إذ إنه كان ولا يزال يفوق المستشرقين جميعًا في انحيازه العدائي المشبوب ضد القضايا العربية (وغيرها) الذي أعرب عنه في عدة أماكن مثل الكونجرس الأمريكي ومجلة كومنتاري وغيرها؛ ولذلك فإن الرد الصحيح عليه يجب أن يتضمن وصفَ ما يمثِّله «برنارد لويس» سياسيًّا وسوسيولوجيًّا عندما يتظاهر بأنه يدافع عن «شرف» مجال عمله، فما هذا الدفاع، على نحو ما سوف يتضح بجلاء، سوى تركيبة معقدة من أنصاف حقائق ترمي إلى تضليل القراء غير المتخصصين.

وأقول بعبارة موجزة إننا نستطيع أن ندرس العلاقة بين الاستشراق الإسلامي أو العربي وبين الثقافة الأوروبية الحديثة دون أن نقوم في نفس الوقت بذكرِ كلِّ مستشرق ظهر على هذه البسيطة، أو كل ضرب من التقاليد الاستشراقية، أو كل شيء كتبه المستشرقون، ثم نضع ذلك كلَّه في سلة واحدة ونُطلق عليه صفةَ الإمبريالية الفاسدة التي لا قيمةَ لها. وعلى أية حال فأنا لم أفعل ذلك قط، فمن الجهل المطبق القول بأن الاستشراق مؤامرة، أو الإيحاء بأن «الغرب» شرٌّ، وكلاهما من السخافات التي تجاسر «لويس» بوقاحة فنسبها إليَّ، هو وتابعه — الذي يتولَّى التعليق على الأحداث الجارية — وهو العراقي «كنعان مكية». ومن ناحية أخرى، فإنه من النفاق التغاضي عن السياقات الثقافية والسياسية والأيديولوجية والمؤسسية التي يكتب الناس في أُطُرها ويفكرون ويتحدثون فيها عن الشرق، سواء كانوا باحثين أو غير باحثين. وعلى نحو ما سبق لي أن ذكرت، أرى أهميةً بالغة لتفهُّم سبب معارضة غير الغربيِّين من ذوي التبصر والرشاد للاستشراق، ألَا وهو إدراكهم أن «خطاب» الاستشراق الحديث «خطابُ» سلطةٍ نابعة من حقبة استعمارية، وهم محقُّون في ذلك، كما كان هذا موضوع ندوة ممتازة عُقدت في الآونة الأخيرة بعنوان الاستعمار والثقافة.5 وفي إطار هذا الضرب من «الخطاب»، الذي يقوم أساسًا على افتراض أن الإسلام كيان موحد متحجر لا يتغير ومن ثَم يقبل التسويق على أيدي «الخبراء» ابتغاءَ تحقيق مصالح سياسية محلية قوية، لا يستطيع المسلمون أو العرب، ولا أيُّ شعب من الشعوب الأخرى الصغرى التي سُلبت إنسانيتها أن يتعرفوا إلى أنفسهم باعتبارهم بشرًا، أو على مَن يراقبونهم باعتبارهم باحثين وحسب. والأغلب أن يرَوا في «خطاب» الاستشراق الحديث، وفي نظائره في المعارف المماثلة التي بُنيت للسكان الأمريكيِّين الأصليِّين ولأبناء أفريقيا، اتجاهًا مزمنًا إلى إنكار أو إبطال أو تشويه السياق السياسي لأمثال هذه المذاهب الفكرية ابتغاء الحفاظ على خرافة نزاهة البحث العلمي. ومع ذلك فلا أودُّ الإيحاء بأن آراء «برنارد لويس»؛ على الرغم من شيوع أمثال هذه الآراء، كانت الآراء الوحيدة التي ظهرَت أو تدعَّمَت في أثناء السنوات الخمس عشرة الماضية. ومن الصحيح قطعًا أن بعض الباحثين والصحفيِّين في الولايات المتحدة قد تدافعوا، منذ انهيار وتفكُّك الاتحاد السوفييتي، إلى اعتبار أن الإسلام الذي أضفوا عليه صبغةَ الشرق يمثِّل إمبراطورية شر جديدة. ومن ثَم غمرَت أجهزة الإعلام الإلكترونية والمطبوعة صور نمطية تحطُّ من شأن المسلمين، فتربط بينهم وبين الإرهاب، أو تربط بين العرب والعنف، أو بين الشرق والطغيان. كما شهدَت هذه الفترة أيضًا العودة في بعض مناطق الشرق الأوسط والشرق الأقصى إلى بعض صور الأديان «الأصلية»، وإلى ألوان بدائية من «القوميات»، ولكن هذه الملامح لا تمثِّل الصورة الكاملة، وأريد أن أتحدَّث في القسم الباقي من هذه الدراسة عن التيارات الجديدة في البحث العلمي والنقد والتفسير، وهي التي — رغم قبولها للمنطلقات الأساسية لكتابي هذا — تتجاوزه بحيث تزيد من ثراء إدراكنا لمدى تعقيد الخبرة التاريخية.

ولم تنشأ أيٌّ من هذه التيارات فجأةً، بطبيعة الحال، بل ولم تكتسب أيٌّ منها منزلةَ المعرفة أو الممارسة الكاملة الرسوخ. فالسياق العالمي لا يزال مضطربًا إلى درجة تبعث على الحيرة، مثقلًا بشتى الأيديولوجيات، سريع التقلب، متوترًا، غير مأمون بل مهلكًا. إذ على الرغم من تمزُّق الاتحاد السوفييتي وحصول بلدان شرقي أوروبا على الاستقلال السياسي فإن أنساق السلطة والهيمنة لا تزال قائمةً بصورة تُثير البلبلة. فبلدان الجنوب الجغرافي — التي كان يشار إليها بتعبير رومانسي بل وعاطفي هو العالم الثالث — مكبَّلة في أشراك الديون، وقد تفتَّتت في عشرات من الكيانات المنقسمة على أنفسها أو غير المتماسكة، تُحاصرها مشكلات الفقر والمرض والتخلُّف التي زادَت على مدى السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية. وانقضى زمانُ حركة عدم الانحياز وزمن الشخصيات الساحرة التي قضَت على الاستعمار وأتَت بالاستقلال، وبرز من جديد نسقٌ يدعو إلى الانزعاج يتمثل في الصراعات العِرقية والحروب المحلية، وهو الذي لا يقتصر على الجنوب الجغرافي، على نحو ما تشهد به الأحوال المفجعة لأبناء البوسنة والهرسك، ولا تزال الولايات المتحدة الدولة المسيطرة في بعض المناطق مثل أمريكا الوسطى والشرق الأوسط وآسيا، ولا تزال أوروبا، والتي يساورها القلق ولم تُحقق وحدتها الحقة حتى الآن تتلكأ خلفها.

كما برزت — وببعض الصور المثيرة إلى درجة بعيدة — عدة تفسيرات للمشهد العالمي الحالي وبُذلت عدة محاولات لفهمه ثقافيًّا وسياسيًّا. ولقد سبق لي أن أشرتُ إلى «الأصولية». وأما النظائر العلمانية فهي العودة إلى القومية وإلى النظريات التي تؤكد التمييز الجذري — وهو في اعتقادي تمييز زائف بسبب شموله — بين مختلف الثقافات والحضارات. فمنذ عهد قريب، على سبيل المثال، قدَّم الأستاذ «صمويل هنتنجتون»، من جامعة هارفارد، نظريته غير المقنعة على الإطلاق، والتي تقول بأن ما يسمِّيه «صدام الحضارات» قد حلَّ محلَّ القطبية الثنائية في زمن الحرب الباردة، وهي أطروحة تقوم على افتراض أن الحضارات الغربية والكونفوشيسية والإسلام، من بين عدة حضارات أخرى، تمثِّل أقسامًا محكمة الإغلاق، يحرص أصحابها أساسًا، في الحقيقة، على نبذِ كلِّ ما عداها.6

وهذا منافٍ لطبيعة الأمور؛ إذ إن أحد مظاهر التقدم الكبير في النظرية الثقافية الحديثة يتمثل في إدراكنا، وهو الذي يكاد يقبله الجميع على مستوى العالم، بأن الثقافات مهجَّنة ومتعددة العناصر، وبأن الثقافات والحضارات، على نحو ما أقمت عليه الحجة في كتابي: «الثقافة والإمبريالية»، تتصل ببعضها البعض ويعتمد بعضُها على بعض إلى درجةٍ يصعب معها وضعُ توصيفٍ لكلٍّ على حدة أو رسمُ صورٍ مبسطة لتفرُّدِ كلٍّ منها بذاتها. كيف نستطيع اليوم أن نتحدث عن «الحضارة الغربية» إلا باعتبارها، وإلى حدٍّ كبير، خرافةً أيديولوجية، تُوحي بنوع من التفوق «المنعزل» لحفنة من القيم والأفكار، ليس لأيِّها معنًى خارج سياق فتوح البلدان، والاستيطان فيها، والسفر منها وإليها، واختلاط الشعوب، وهو الذي جعل الأمم الغربية تتمتع بما تتمتع به الآن من هويات مختلطة؟ ويصدق هذا بصفة خاصة على الولايات المتحدة وهي التي لا يمكن وصفها اليوم إلا باعتبارها صحيفة بالغة الضخامة تعاقبَت عليها كتابات تشهد باختلاف الأجناس والثقافات التي تشترك في تاريخ معقَّد للفتوح والغزوات، وحالات الإبادة، إلى جانب المنجزات الثقافية والسياسية الكبرى، بطبيعة الحال. ولقد كانت هذه الفكرة من «الرسائل» المضمرة في الاستشراق، بمعنى أن أيةَ محاولة للفصل قسرًا بين الثقافات والشعوب، حتى أو بحيث تُصبح كلٌّ منها سلالةً منفصلة وجوهرًا متميزًا، لا تقتصر على كشف إجراءات التزييف وسوء التمثيل المترتبة على ذلك بل تكشف أيضًا عن كيفية تواطؤ «الفهم» مع السلطة في إفراز ما يسمَّى «الشرق» أو «الغرب».

ولا يعني ذلك أن «هنتنجتون»، ومِن خلفِه جميع أصحاب النظريات والمبررات للتقاليد الغربية المتهلِّلة فرحًا، مثل «فرانسيس فوكوياما»، لم يعودوا يتمتعون بجانب كبير من سيطرتهم على الوعي الجماهيري، بل لا يزالون يتمتعون به، على نحو ما اتضح في حالة «بول جونسون» — وذلك يعتبر من «أعراض» هذا الموقف — فلقد كان يومًا من المفكرين اليساريِّين ثم أصبح مجادلًا اجتماعيًّا وسياسيًّا رجعيًّا. إذ نشر في مجلة نيويورك تايمز ماجازين، بتاريخ ١٨ أبريل ١٩٩٣م، وليست على الإطلاق بالمجلة الهاشمية، مقالًا بعنوان «عاد الاستعمار ولم يتأخر لحظة»، وأما الفكرة الرئيسية فيه فهو أن على «الأمم المتحضرة» أن تتعهد بإعادة استعمار بلدان العالم الثالث «التي انهارت فيها أولى الشروط الأساسية للحياة المتحضرة» وأن يكون ذلك من خلال نظام لفرض الوصاية عليها. والنموذج الذي يقدِّمه هو النموذج الاستعماري الصريح الذي ينتمي للقرن التاسع عشر؛ إذ يقول إن ممارسة التجارة الرابحة سوف تستحيل على الأوروبيِّين إلا إذا فرضوا النظام بالمعنى السياسي.

والحجة التي يقدِّمها «جونسون» ذات أصداء باطنة عديدة في كتابات راسمي السياسات الأمريكيِّين وفي أجهزة الإعلام، وكذلك — بطبيعة الحال — في السياسة الأمريكية الخارجية التي لا تزال تؤمن بالتدخل في الشرق الأوسط وفي أمريكا اللاتينية وفي شرقي أوروبا، كما لا تزال «تبشيرية» في كل ما عدا تلك من المناطق، وخصوصًا في سياساتها إزاء روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة. ولكن المهم هو أن صدعًا خطيرًا قد نشأ، وإن لم يفحصه أحدٌ تقريبًا، في الوعي الجماهيري بين الأفكار القديمة الخاصة بالهيمنة الغربية (والذي كان نظام الاستشراق جانبًا من جوانبه) — من ناحية — وبين الأفكار الجديدة التي تسود في المجتمعات «الثانوية» والمحرومة، وفي أوساط قطاع عريض من المثقفين والأكاديميِّين والفنانين من ناحية أخرى. لقد تغيَّرت الأوضاع تغيُّرًا هائلًا فلم تَعُد الشعوب الأقل شأنًا — والتي كانت يومًا ما مستعمرة ومستعبدة ومقهورة — تخلد إلى الصمت، ولا يتولَّى تفسيرَ أوضاعها سوى كبار الأوروبيِّين أو الذكور من الأمريكيِّين. كما حدثَت ثورة في وعي المرأة، وفي وعي الأقليات والمهمَّشين، بلغ من شدتها أن امتدَّ تأثيرُها إلى التيار الرئيسي للتفكير على مستوى العالم كلِّه. وعلى الرغم من أنني كنت أستشعرها إلى حدٍّ ما في أثناء عملي بكتابة «الاستشراق» في السبعينيات فقد اتضحَت معالمها الآن بصورة مثيرة من شأنها أن تستلفتَ انتباهَ كلِّ مَن يهتمُّ اهتمامًا حقيقيًّا بدراسة الثقافة عمليًّا ونظريًّا.

ويمكننا أن نميِّز بين تيارَين عريضَين هما ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة. واستخدام لفظة «بعد» قبل الكلمة لا تعني التجاوزَ بقدرِ ما تعني، على نحوِ ما بيَّنَت الباحثة «إلا شوهات» في مقالٍ أساسيٍّ لها عن «ما بعد الاستعمار»، «مظاهر الاستمرار ومظاهر الانقطاع، ولكن التأكيد ينصبُّ على الطرائق والأشكال الجديدة للممارسات الاستعمارية القديمة، لا على ما «يتجاوزها»»7 وقد برز ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة معًا باعتبارهما موضوعَين مترابطَين لدى تصدِّي الباحثين لهما وفحصهما. ومن المحال في هذا السياق أن أعرض للمناظرات المستفيضة التي أحاطَت بمعنى هذين المصطلحين، بل وبصياغتهما وطرائق كتابتهما بالإنجليزية. وهكذا فلن أتحدَّث عن بعض الحالات الفردية التي اتسمت بالتطرف أو استخدام الرطانة المضحكة، بل سأعرض لبعض التيارات والجهود التي يبدو أنها لا تزال مهمة الآن، ونحن في عام ١٩٩٤م، من منظورِ كتابٍ نُشر عام ١٩٧٨م.
كان ولا يزال جانب كبير من أهم الدراسات التي أُجريت عن النظام الاقتصادي والسياسي الجديد يتعلق بما يَصِفه «هاري ماجدوف» في مقالٍ حديثٍ بتعبير «العولمة»، وهو النظام الذي يسمح لنخبة ضئيلة من رجال المال بتوسيع سلطانها حتى يشمل العالمَ كلَّه، وهو ما يؤدي إلى تضخم أسعار السلع والخدمات، وإعادة توزيع الثروة بنقلها من قطاعات أصحاب الدخول المنخفضة (عادة في العالم غير الغربي) إلى قطاعات الدخل المرتفع.8 وإلى جانب هذا — على نحو ما ناقشه «ماساو ميوشي وعارف ديرليك» مناقشةً دقيقة — ظهر نظام جديد عابر للحدود الوطنية، بحيث تختفي الحدود الخاصة للدول، ولا يخضع العمال ولا الدخول إلا للمديرين «العالميِّين»، وبحيث يعود الاستعمار إلى الظهور في صورة خضوع الجنوب وتبعيَّته للشمال.9 وينتقل كلٌّ من «مويشي وديرليك» بعد ذلك إلى تبيان كيف يمكن أن يصبحَ اهتمام الأكاديميِّين الغربيِّين بموضوعات؛ مثل التعدد الثقافي و«أوضاع ما بعد الاستعمار»، في الواقع، بمثابة تراجع ثقافي وفكري عن حقائق الواقع الجديد للقوة في العالم، فيقول «ميوشي»: ««إن ما نحتاجه هو الفحص السياسي والاقتصادي الصارم لا الدراسة التي تُمليها المقتضيات التعليمية» التي يمثِّلها «خداع النفس الليبرالي» المضمر في بعض المجالات الجديدة مثل الدراسات الثقافية والتعددية الثقافية.» (٧٥١).

لكننا حتى لو أخذنا هذه «الأوامر» مأخذَ الجد (كما يقضي به الواجب) فسوف نجد أن الخبرة التاريخية تقدِّم لنا أسسًا صلبة لظهور الاهتمام اليوم بما بعد الحداثة، وبقرينه الذي يختلف تمامًا عنه وهو ما بعد الاستعمار؛ إذ سوف نجد في الأول انحيازًا أشدَّ كثيرًا للمركزية الأوروبية، إلى جانب غلبة التركيز النظري والجمالي الذي يؤكد العوامل المحلية والطارئة، وكذلك ما يكاد أن يكون وجودًا زخرفيًّا، لا وزن له، للعوامل التاريخية، وعوامل المحاكاة، وقبل هذا وذلك النزعة الاستهلاكية. وأما أولى الدراسات الخاصة بما بعد الاستعمار فقد قام بها عددٌ من المفكرين المتميزين؛ مثل «أنور عبد الملك، وسمير أمين، وس. ل. ر. جيمز»، وكانت كلُّها تقريبًا تستند إلى دراسات للسيادة والسيطرة، إما من وجهة نظر الاستقلال السياسي الذي اكتمل أو من وجهة مشروع تحرري غير مكتمل. لكنه إذا كانت ما بعد الحداثة، طبقًا لتعريف من أشهر تعريفاتها القائمة على برنامج محدد (وهو تعريف جان فرانسوا ليوتار) تؤكد اختفاءَ الصور الكبرى للتحرر والتنوير، فإنَّ جانبًا كبيرًا من العمل الذي أنجزه الجيل الأول من فنَّاني وباحثي ما بعد الاستعمار يؤكد العكس تمامًا، فعلى الرغم من بقاء الصور الكبرى المذكورة فإن تنفيذها وتحقيقها يتعرَّضان الآن لمن يُوقفهما أو يُرجئهما أو يتحايل عليهما. وهكذا فإن الاختلاف الحاسم بين الضرورات التاريخية والسياسية العاجلة لما بعد الاستعمار عن الانفصال النسبي لما بعد الحداثة يؤدي إلى اختلافٍ تامٍّ في المداخل والنتائج، على ما بينهما من تداخل محدود (في تقنيات «الواقعية السحرية» على سبيل المثال).

وأعتقد أنه من الخطأ أن نقول إن جانبًا كبيرًا من أفضل الكتابات الخاصة بما بعد الاستعمار التي تكاثرَت تكاثرًا شديدًا منذ أوائل الثمانينيات يخلو من التأكيد الشديد على ما هو محليٌّ، وإقليمي وطارئ، فهذه الكتابات لا تخلو من هذا التأكيد، ولكن أهم أشكالها تتصل، فيما يبدو لي، في منهجها العام، بمجموعة عالمية من القضايا، وكلها تتعلق بالتحرر، وبالمواقف المنقحة تجاه التاريخ والثقافة، وبانتشار تطبيق النماذج والأساليب النظرية المتكررة، وكان من أشدها بروزًا البحث النقدي المنتظم والمناهض للمركزية الأوروبية ونظام السلطة الأبوية. ففي شتى الجماعات الأمريكية والأوروبية دأب الطلاب والأساتذة في الثمانينيات بل وبذلوا جهودًا مضنية في توسيع مجال التركيز الأكاديمي فيما يسمَّى بالمواد الدراسية الأساسية حتى يشمل كتابات المرأة، وكتابات الفنانين والمفكرين غير الأوروبيِّين، ومَن يشغلون المراتب الثانوية وصاحبَت ذلك تغييرات مهمة في النظرة إلى دراسات المناطق التي طالما احتكرها المستشرقون الكلاسيكيون ونظائرهم في المجالات الأخرى. وهكذا فقد بدأ يتجلَّى في بعض المباحث العلمية مثل الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والأدب وعلم الاجتماع بل والتاريخ، قبل كل شيء، تأثير البحث النقدي المديد في المصادر، ودخول النظرية النقدية الجديدة، واستبعاد المنظور القائم على المركزية الأوروبية. وأما أهم الدراسات التنقيحية الرائعة فربما لم يشهدها مجال دراسات الشرق الأوسط، بل شهدها مجال الدراسات الهندية؛ وذلك بإنشاء مجال دراسات ذوي المكانة الثانوية، وهو الذي يضمُّ جماعة مرموقة من العلماء والباحثين الذين يرأسهم «راناجيت جُوها». وكانت غايتهم تتسم بالطموح، ألَا وهي القيام بثورة في علم كتابة التاريخ، وهدفهم المباشر هو إنقاذ كتابة التاريخ الهندي من سيطرة النخبة القومية، وأن يُعيدوا إليه الدور المهم الذي يقوم به فقراء المدن وسكان الريف. وأعتقد أنه من الخطأ أن نقول إن مثل هذا العمل، الذي يغلب عليه الطابع الأكاديمي؛ يتعرض بسهولة للاستقطاب والتواطؤ مع الاستعمار الجديد «العابر للحدود الوطنية». فما علينا إلَّا أن نسجل ونعترف بالإنجاز، مع التحذير من مزالق المستقبل.

ولقد اهتممتُ اهتمامًا خاصًّا بالتوسع في قضايا ما بعد الاستعمار حتى أصبحَت تشمل مشكلات الجغرافيا، فما كتاب «الاستشراق» على أية حال إلا دراسةٌ بُنيَت على إعادة النظر في المقولة التي ظل الناس يؤمنون بها على مرِّ القرون، ألَا وهي وجود هُوَّة من المحال تخطِّيها تفصل بين الشرق والغرب. ولم يكن هدفي، كما سبق لي أن قلت، إنكار الاختلاف في ذاته — فمَن ذا الذي يُنكر الدور التأسيسي الذي تنهض به الاختلافات القومية والثقافية في العلاقات ما بين البشر — بقدر ما كان يتمثل في الطعن في مقولة إن الاختلاف يتضمن العداء، ويتضمن مجموعةً من العناصر الجوهرية المجسدة المجمدة المتعارضة، وهيكلًا معرفيًّا كاملًا «تعارضيًّا» بُنيَ من هذه الأشياء. بل كان ما أدعو إليه في الاستشراق هو اتخاذ منهج جديد في تفهُّم عناصر الانفصال والتضارب التي دفعَت أجيالًا متعاقبة إلى العداء والحرب والسيطرة الإمبريالية. والحق أن تطورًا من أهم التطورات في دارسات ما بعد الاستعمار كان يتمثَّل في إعادة قراءة الأعمال الثقافية «المعتمدة» لا بالحطِّ من قدرها أو بتلويثِ سُمْعتِها بصورة ما، بل بإعادةِ فحصِ بعضِ ما تقوم عليه من افتراضات، وتجاوز خضوعها لصورة ما من صور «الجدلية الثنائية» التي تُوحي بوجود أسياد وعبيد. ولقد كان هذا قطعًا هو الأثر النسبي لبعض الأعمال الفنية التي تشهد بسعة الحيلة إلى حدٍّ مذهل، مثل قصص «س. ل. ر. جيمز» وأشعار «إبميه سيراز، وديريك وولكوت»، فأعمالهم تتميز بمنجزات شكلية جديدة تمثِّل في الواقع إعادةَ النظر في الاستعمار باعتباره خبرة تاريخية وامتلاك ناصية هذه الخبرة وبث الحياة فيها وتحويلها إلى صورة جمالية جديدة للمشاركة، بل وفي أحيان كثيرة إعادة صياغتها بحذق فائق.

كما نرى تطورًا مماثلًا في أعمال مجموعة من الكُتَّاب الأيرلنديِّين المتميزين الذين فرضوا وجودَهم في عام ١٩٨٠م عندما أنشئوا هيئةً جماعيةً أسمَوها «فيلد داي»، ويقول تصدير إحدى الطبعات التي تتضمن بعضَ أعمالهم ما يلي عنهم:

كان (هؤلاء الكتاب) يعتقدون أن جماعةَ «فيلد داي» تستطيع بل ومن واجبها أن تُساهم في حلِّ الأزمة الراهنة بوضع تحليلاتٍ لكلِّ ما استقر من آراء وأساطير وأنماط كانت قد أصبحَت من أعراض وأسباب الموقف الحالي (بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية). والواقع أن انهيار الترتيبات الدستورية والسياسية، وعودة تفشِّي العنف الذي كانت هذه الترتيبات تهدف إلى قمعه أو احتوائه، يجعل هذا المطلب أشدَّ إلحاحًا في الشمال عنه في الجمهورية … وهكذا قررت الجماعة أن تشرع في نشر عدة مطبوعات متوالية، ابتداءً بسلسلة من الكتيبات (بالإضافة إلى سلسلة رائعة من قصائد شيماس هيني، ومقالات شيماس دين، ومسرحيات بريان فريل وتوم بولين) بغرض استكشاف جوانب المشكلة الأيرلندية، وزيادة النجاح في مواجهتها عمَّا شهدناه حتى الآن.10
ورأينا كيف أن فكرة إعادة التفكير في الخبرات التاريخية التي كانت تقوم يومًا ما على الفصل الجغرافي بين الشعوب والثقافات وإعادة صياغة هذه الخبرات — أصبحَت تقع في قلب موجة كاملة من الأعمال العلمية والنقدية؛ إذ نجدها مثلًا — ولنقتصر على ثلاثة أعمال فقط — في كتاب «إيمييل ألكالاي» بعنوان: «ما وراء العرب واليهود»: إعادة صنع ثقافة بلاد الشام، والكتاب الذي كتبه «بول جيلروي» بعنوان: «المحيط الأطلسي الأسود: الحداثة والوعي المزدوج»، والكتاب الذي كتبَته «مويرا فيرجسون» بعنوان: «الخضوع للآخرين: الكاتبات البريطانيات والرق الاستعماري ١٦٧٠–١٨٣٤م».11 وتتولَّى هذه الأعمال إعادةَ فحص المجالات التي كان يُعتقد يومًا ما أنها مقصورة على شعب واحد، أو على الرجل دون المرأة أو العكس، أو على جنس بشري واحد أو طبقة اجتماعية واحدة، وتبيان أنها تشمل غيرهم. وبعد أن دأب الكُتَّاب ردحًا طويلًا من الزمن على تصوير بلاد الشام في صورة صعيد معركة بين العرب واليهود، تظهر هذه المنطقة في كتاب «ألكالاي» في صورة الثقافة الخاصة بالبحر المتوسط، والتي يشترك فيها العرب واليهود. وينتهج «جيلروي» منهجًا مماثلًا يؤدي إلى تغيير بل وازدواج رؤيتنا للمحيط الأطلسي الذي كان يُظن أنه أساسًا بحر الرحلات البحرية الأوروبية. وعندما تفحص «فيرجسون» علاقة الخصومة بين المُلَّاك الإنجليز للعبيد والعبيد من أبناء أفريقيا، تُتيح إبراز نسق أشد تعقيدًا يفصل ما بين الأنثى البيضاء والذكر الأبيض، وما يستتبعه ذلك من ظهور حالات جديدة تمثِّل تخفيض المنزلة وإزاحة الإنسان عن مكان الحق في أفريقيا.

وأستطيع مواصلةَ ضرب المزيد من الأمثلة، لكنني سوف أُوجز الختام قائلًا إنه على الرغم من استمرار وجود العداوات ومظاهر الظلم التي كانت النبع الذي تدفَّق منه اهتمامي بالاستشراق باعتباره ظاهرةً ثقافية وسياسية، فإننا نشهد الآن، على الأقل، قبولًا عامًّا بأن هذه لا تمثِّل نظامًا خالدًا بل خبرة تاريخية قد نكون قد اقتربنا من نهايتها أو على الأقل من تخفيفِ حدَّتِها بعضَ الشيء، وحين أستعرضها الآن، من المنظور الذي تُتيحه هذه المسافة الزمنية على امتداد خمس عشرة سنة حافلة، ونتيجة هذا الكم الهائل من جهود التفسير والبحث العلمي الجديدة التي ترمي إلى تخفيف آثار الأصفاد الإمبريالية في الفكر والعلاقات البشرية؛ أجد أن كتاب «الاستشراق» يُشرفه على الأقل أنه جنَّد نفسَه صراحةً في النضال، وهو الذي لا يزال مستمرًّا بطبيعة الحال في «الغرب» و«الشرق» معًا.

إ. و. س.
نيويورك
مارس ١٩٩٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤