ثانيًا: الجغرافيا الخيالية وصورها

إضفاء الصفات الشرقية على الشرقي
الاستشراق بالمعنى الدقيق مجالٌ من مجالات البحث العلمي. ويَعتبر الغرب المسيحي أن الاستشراق قد بدأ وجوده الرسمي بالقرار الذي اتخذه مجلس الكنائس في مدينة فيين الفرنسية بإنشاء سلسلة من كراسي الأستاذية «للغات العربية، واليونانية، والعبرية، والسريانية في باريس، وأوكسفورد، وبولونيا، وأفينيون، وسالامانكا»1 ولكن أي تناول للاستشراق يجب ألَّا يقتصرَ على النظر في أمور المستشرق المحترف وعمله بل أن يشمل الفكرة نفسها، أي فكرة وجود مجال دراسي يقوم على وحدة جغرافية وثقافية ولغوية وعِرقية تسمى الشرق. والمجالات، بطبيعة الحال، من وضع البشر، وهي تكتسب التماسك والتكامل على مرِّ الزمن؛ لأن الباحثين يُكرِّسون جهودهم بطرائق شتى لدراسة الموضوعات التي تبدو متفقًا عليها. ومع ذلك، فغنيٌّ عن القول إن تحديد المجال الدراسي نادرًا ما يتسم بالبساطة التي يزعمها حتى أشد الملتزمين به، وهم عادةً من الباحثين والأساتذة والخبراء ومَن إلى ذلك. كما أن المجال قد يتعرض لدرجة من التغيير الشامل — حتى في مجالات البحث التقليدية، مثل فقه اللغة أو التاريخ أو اللاهوت — بحيث يصبح في عداد المحال تقريبًا وضع تعريف يصلح لجميع الأغراض. ويصدق هذا بالتأكيد على الاستشراق لبعض الأسباب الطريفة.

فالحديث عن التخصص العلمي باعتباره مجالًا «جغرافيًّا» له، في حالة الاستشراق، دلالة واضحة، فليس من المحتمل أن يتصور أحدٌ وجودَ مجالٍ مناظر له يسمى «الاستغراب». وهذه البداية وحدها قد تُفصح عن خصوصية موقف الاستشراق بل وربما شذوذ موقفه. فإنه إذا كانت مباحث علمية كثيرة تُوحي باتخاذ موقف معين إزاء شيء ما، وليكن مادة إنسانية معينة (مثلما يعالج المؤرخ الماضي البشري من موقع رؤية خاصة في الحاضر) فإننا لا نستطيع القياس على ذلك هنا قياسًا حقيقيًّا فنتخذ موقعًا ثابتًا، وجغرافيًّا بصورة كاملة تقريبًا، إزاء مجموعة بالغة التنوع من الحقائق الاجتماعية واللغوية والسياسية والتاريخية. فدارس الآداب الكلاسيكية؛ أي اليونانية واللاتينية القديمة، ودارس اللغات الرومانسية؛ أي اللغات ذات الأصل الروماني، أو حتى دارس التاريخ والثقافة الأمريكية يركز بحثه في قسم متواضع من العالم لا في نصف كامل من هذا العالم. ولكن الاستشراق مجال يتسم بطموح جغرافي كبير. ولمَّا كان المستشرقون قد شغلوا أنفسهم بصورة تقليدية بالأمور الشرقية (فالذين يدعون أنفسهم مستشرقين يُطلقون هذا الاسم على المتخصص في الشريعة الإسلامية مثلما يُطلقونه على الخبير باللهجات الصينية أو بالأديان الهندية) كان علينا أن نستعدَّ لتقبُّل حجم الاستشراق الهائل وبنائه الجزافي، إلى جانب إمكان تقسيمه إلى أقسام فرعية تكاد لا تنتهي، وأن نعتبر أن ذلك من السمات الرئيسية للاستشراق، والدليل عليه هو الخلط الذي يسبب البلبلة بين الغموض الإمبريالي والتفاصيل الدقيقة.

كل هذا يَصِف الاستشراق باعتباره مبحثًا أكاديميًّا، والصورة الصرفية للكلمة وظيفتها الإصرار على تمييز هذا المبحث عن كلِّ نوعٍ سواه. وكانت القاعدة في تطوره التاريخي باعتباره مبحثًا أكاديميًّا هي توسيع نطاقه لا زيادة الطابع الانتقائي. وكان مستشرقو عصر النهضة الأوروبية، مثل «إربنيوس وجيوم بوستيل»، في المقام الأول، من المتخصصين في لغات أقاليم الكتاب المقدس، وإن كان «بوستيل» يتفاخر بأنه يستطيع أن يعبر قارة آسيا حتى يَصِل إلى الصين دون أن يحتاج إلى مترجم. وبصفة عامة كان المستشرقون حتى منتصف القرن الثامن عشر من الباحثين في الكتاب المقدس، ودارسي اللغات السامية، والمتخصصين في الدراسات الإسلامية، أو — بعد أن فتح اليسوعيون باب دراسة الصين — من المتخصصين في دراسة الصين. ولم يكن الاستشراق قد تمكَّن أكاديميًّا من فتح منطقة وسط آسيا الشاسعة حتى أواخر القرن الثامن عشر حين استطاع «أنكتيل ديبرون والسير وليم جونز» أن يكشفَا ويشرحَا الثروات الفذة التي تحفل بها اللغتان الأفستية والسنسكريتية. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كان الاستشراق قد أصبح خزانةً ذات أبعاد هائلة لكنوز من الدراسات العلمية. ولدينا مؤشران ممتازان لانتصارِ هذه النزعة الانتقائية الجديدة؛ أحدهما هو الوصف الموسوعي للاستشراق في الفترة من ١٧٦٥ إلى ١٨٥٠م تقريبًا، وهو الذي قدَّمه «ريمون شواب» في كتابه: «النهضة الشرقية».2 فإلى جانب المكتشفات العلمية التي قام بها المحترفون من العلماء، لكلِّ ما هو شرقي خلال هذه الفترة في أوروبا، انتشر الولع بالفنون والآداب الآسيوية (وخصوصًا فنون الشرق الأقصى) انتشار الوباء الذي أصاب جميع كبار الشعراء وكُتَّاب المقالات والفلاسفة في تلك الفترة. وكان «شواب» يرى أن صفة «الشرقي» تعني تحمُّسَ الهواة أو المحترفين لكلِّ ما هو آسيوي، وكانت تلك الصفة مرادفةً لكل ما كان غربيًا وغامضًا وعميقًا وأساسيًّا، ومن ثَم رائعًا، ويعتبر ذلك الولع بالشرق تحوُّلًا لولعٍ مماثل في أوروبا بالآثار اليونانية واللاتينية القديمة في أوج عصر النهضة؛ أي إنه كان تحولًا في الاتجاه إلى الشرق، عبَّر عنه «فكتور هوجو» عام ١٨٢٩م على النحو الآتي: «كان المرء في قرن «لويس الرابع عشر» مولعًا باليونان، أما الآن فهو مستشرق»3 وهكذا فقد كان لفظ المستشرق في القرن التاسع عشر يعني الباحث (المتخصص في الدراسات الصينية أو الإسلامية أو اللغات الهندية الأوروبية)، أو المتحمس الموهوب (مثل «هوجو» في كتابه: «المستشرقون» أو «جوته» في: «ديوان الغرب والشرق»)، أو يعني الاثنين معًا (مثل «ريتشارد بيرتون، وإدوارد لين، وفريدريش شليجل»).
أما المؤشر الثاني على مدى ميل الاستشراق إلى اتخاذ طابع شامل بعد مجلس «فيين»، فهو ما كتبه أبناء القرن التاسع عشر الذين أرَّخوا لهذا المجال، وأشد هذه الكتابات التاريخية دقة كتاب: «سبعة وعشرون عامًا في تاريخ الدراسات الشرقية» الذي كتبه «جول مول» بالفرنسية، ويقع في مجلدين يسجل فيهما أبرز الأحداث في مجال الاستشراق ما بين عامَي ١٨٤٠ و١٨٦٧م.4 وكان «مول» يشغل منصب أمين الجمعية الآسيوية في باريس، وكانت باريس لمدة تزيد على النصف الأول للقرن التاسع عشر عاصمة العالم الاستشراقي (وعاصمة القرن التاسع عشر وفقًا لما يقوله «فالتر بنيامين»). وقد أتاح ﻟ «مول» منصبه في الجمعية أن يعيش في قلب مجال الاستشراق. ولا يكاد «مول» يُغفل ذكرَ أيِّ شيء كتبه باحث أوروبي عن آسيا في تلك الأعوام السبعة والعشرين في تسجيله «للدراسات الشرقية». والدراسات التي يسجلها تقتصر، بطبيعة الحال، على الدراسات المنشورة، ولكن المادة المنشورة التي تهمُّ الباحثين في الاستشراق هائلة الحجم، ابتداءً من اللغة العربية، إلى العديد من اللهجات الهندية، واللغات العبرية، والفهلوية، والآشورية، والبابلية، والمنغولية، والصينية، والبورمية، وما بين النهرين، وانتهاءً بالجاوية، فقائمة الدراسات في فقه اللغة التي كانت تعتبر استشراقيةً يكاد لا يُحصيها العد. كما أن الدراسات الشرقية كانت فيما يبدو تشمل كلَّ شيء من تحرير النصوص وترجمتها إلى علم المسكوكات الأثرية، إلى الدراسات الأنثروبولوجية، والآثار، وعلم الاجتماع، والدراسات الاقتصادية والتاريخية والأدبية والثقافية في كل حضارة معروفة من حضارات آسيا وشمال أفريقيا، قديمة كانت أو حديثة. والكتاب الذي كتبه «جوستاف دوجا» بالفرنسية بعنوان «تاريخ المستشرقين الأوروبيِّين من القرن الثاني عشر إلى التاسع عشر» (١٨٦٨–١٨٧٠م)5 تاريخ انتقائي يرصد الشخصيات الرئيسية فقط، ولكن النطاق الذي يشمله لا يقل إبهارًا عن كتاب «مول».
ومع ذلك فإن أمثال هذه الدراسات الانتقائية قد أغفلت بعض الأشياء؛ فالمستشرقون الأكاديميون كانوا يهتمون في الغالب بالعهود القديمة لأي لغة أو مجتمع يدرسونه. ولم يحدث حتى أواخر القرن، باستثناء رئيسي أوحد هو المعهد المصري الذي أنشأه «نابليون»، أن بدأ الاهتمام الكبير بالدراسة الأكاديمية للشرق الحديث أو القائم فعلًا. أضف إلى ذلك أن الشرق الذي يُدرس كان، بصفة عامة، «عالمًا نصيًّا»؛ أي إن مصدر تأثير الشرق كان الكتب والمخطوطات، بخلاف تأثير اليونان في عصر النهضة الأوروبية، والذي كان مصدره فنون المحاكاة؛ مثل النحت والأواني الفخارية. بل إن التقارب الوجداني بين المستشرق والشرق كان «نصيًّا»، حتى قيل إن بعض المستشرقين الألمان في أوائل القرن التاسع عشر كُتب لهم الشفاء التام من أذواقهم الاستشراقية عندما شاهدوا بأعينهم تمثالًا هنديًّا له ثماني أذرع.6 وحين كان المستشرق المتبحر في العلم يتنقل في البلد الذي تخصص فيه، لم تكن تُفارق ذهنه مطلقًا تلك الأقوال المأثورة المجردة التي لا تتزعزع عن «الحضارة» التي درسها، ونادرًا ما كان المستشرقون يهتمون بشيء سوى إثبات صحة تلك «الحقائق» البالية بتطبيقها، دون توفيق كبير، على أبناء البلد الذين لا يفهمونها فُيتَّهمون بالانحطاط. وأخيرًا فإن قوة الاستشراق نفسه واتساع نطاقه أدَّى إلى إيجاد «كمية» معقولة من المعرفة الإيجابية الدقيقة عن الشرق، إلى جانب ضرب من المعرفة «من الدرجة الثانية» — وهي التي تختبئ في بعض المواقع مثل الحكاية الشرقية، وأسطورة الشرق الغامض، والأفكار الخاصة باستعصاء فهم آسيا — فأصبحت لهذا الضرب من المعرفة حياة خاصة، وهي التي وصفها «ف. ج. كيرنان» وصفًا موفقًا حين قال إنها «حلم اليقظة الجماعي الأوروبي عن الشرق».7 وكان من النتائج الطبية لذلك أنَّ عددًا جديرًا بالتقدير من الكُتَّاب المهمِّين في القرن التاسع عشر أمسَوا يتحمسون للشرق، وأعتقد أننا نُصيب كبد الحقيقة إذا تحدَّثنا عن نوع من الكتابات الاستشراقية التي تُمثلها الآثار الأدبية ﻟ «فكتور هوجو، وجوته، ونيرفال، وفلوبير، وفيتزجيرالد» وأمثالهم. ولكن هذا النوع يصاحبه حتمًا لونٌ من الأساطير المبهمة عن الشرق، وصورةٌ للشرق لا تنبع فقط من المواقف المعاصرة وضروب التحيز الشائعة بل أيضًا مما أسماه فيكو «غرور الأمم»، وغرور الباحثين. ولقد سبق لي أن ألمحت إلى أوجه الانتفاع السياسي بهذه المادة في الصورة التي ظهرت بها في القرن العشرين.
لقد تضاءل اليوم احتمالُ وصفِ المستشرق نفسه بهذه الصفة عمَّا كان عليه في أيِّ وقت حتى الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فهذه التسمية لا تزال مفيدة، كما يحدث عندما تُنشئ الجماعات برامجَ أو أقسامًا علمية للُّغات الشرقية أو الحضارات الشرقية. ففي جامعة أوكسفورد فرع دراسات شرقية (يشار إليه بتعبير «كلية» أو هيئة تدريس)، وفي جامعة برنستون قسمٌ علمي للدراسات الشرقية، ومنذ عهد قريب؛ أي في عام ١٩٥٩م، قامت الحكومة البريطانية بتكليف لجنة خاصة «بمراجعة واستعراض التطورات التي شهدتها الجامعات في مجال الدراسات الشرقية، والسلافونية، ودراسات شرقي أوروبا، والدراسات الأفريقية … وأن تبحث وضع مقترحات لزيادة تطويرها في المستقبل، وأن تُسديَ المشورة بشأنها».8 والتقرير الذي أصدرَته اللجنة في عام ١٩٦١م، وأُطلق عليه اسم تقرير «هيتر»، لا يُبدي أيَّ قلق بشأن إطلاق الصفة العامة؛ أي «الشرقية»، على هذه الدراسات؛ إذ رأى أنها تستخدم لأغراض مفيدة في الجامعات الأمريكية أيضًا. بل إن أكبر اسم في مجالات الدراسات الإسلامية الأنجلوأمريكية، وهو «ﻫ. أ. ر. جيب»، كان يفضِّل إطلاق صفة المستشرق على نفسه بدلًا من المتخصص في اللغة العربية، ورغم نزعته الكلاسيكية كان أحيانًا ما يستعمل التعبير الجديد القبيح «دراسات المناطق» في الإشارة إلى الاستشراق حتى يبيِّنَ أن التعبيرَين يمثلان آخر الأمر عناوينَ جغرافيةً يجوز استعمالها بالتبادل.9 ولكن ذلك، في رأيي، يُخفي بسذاجة علاقة أهم بين المعرفة والجغرافيا، وأودُّ أن أنظر في هذه العلاقة دون إسهاب.
على الرغم من تشتيت الذهن الذي يتسبب فيه عددٌ كبير من الرغبات والدوافع والصور التي تتسم جميعًا بالغموض، فالذهن فيما يبدو يصوغ دائبًا ما أسماه «كلود ليفي-شتراوس» «علم المجسدات».10 فعلى سبيل المثال تقوم قبيلة بدائية بتحديد مكان معين، ووظيفة معينة، ودلالة معينة، لكل نبات مورق في بيئتها المباشرة. وليس للكثير من تلك الحشائش والأزهار فوائد عملية، ولكن «ليفي-شتراوس» يرمي إلى إيضاح أن الذهن يتطلب النظام، والنظام يتحقق برصد جميع الأشياء والتمييز بينها، ووضع كلِّ شيء يَعِيه الذهن في مكان يُتيح العثور عليه، ومن ثَم تخصيص أدوار لكل شيء في رصيد الأشياء والهويات التي تتكون البيئة منها، وهذا الضرب من التصنيف الأول أو البدائي له مَنْطقُه، ولكن القواعد التي يستند إليها مجتمعٌ ما في اعتبار نبات السرخس رمزًا للنعمة، ويستند إليها مجتمع آخر في اعتباره رمزًا للنقمة، ليست عقلانية بوضوح ولا هي عالمية؛ إذ دائمًا ما نجد بعض التعسف الخالص في أسلوب إدراك الخصائص التي تميز الأشياء بعضها عن بعض، وتقترن بهذه الخصائص المميزة قيمٌ ذات تاريخ نستطيع لو كشفنا عنه كشفًا كاملًا أن نجد فيه نفس القدر من التعسف، وهو ما يتجلَّى دون لأْيٍ في مسألة الأزياء الشائعة (الموضة). لماذا تظهر «موضة» الشعر المستعار و«الياقة» المصنوعة من «الدانتلا» والحذاء العالي الكعب ذي المشبك، ثم تختفي في فترة عقود معدودة؟ سيرجع جانب من الإجابة إلى نفع هذه الأشياء وجانب آخر إلى جمالها في ذاتها، لكننا إذا اتفقنا على أن جميع الأشياء في التاريخ، مثل التاريخ نفسه، من صنع البشر، فسوف نُدرك مدى إقدام البشر على تحديد أدوارٍ وإسباغ معانٍ على الكثير من الأشياء أو الأماكن أو الأوقات، وهي أدوارٌ ومعانٍ لا تكتسب صحةً موضوعية إلا بعد تحديد البشر لها وإسباغهم إياها عليها، ويصدق هذا بصفة خاصة على «الأشياء» غير الشائعة نسبيًّا، مثل الأجانب، أو الكائنات الطافرة، أو السلوك «غير السوي».

ويمكننا بكل تأكيد أن نقول إن بعض الأشياء المميزة من صنع الذهن، وإن هذه الأشياء التي يبدو لها وجود موضوعي، ليست في الواقع إلا أوهامًا. فقد تقوم مجموعة من الناس الذين يعيشون في أرض لا تتعدَّى مساحتها عدة أفدنة بإقامة حدود تفصل بين أرضهم وبين الأراضي المحيطة بها مباشرة وما يتجاوزها من أراضٍ، وهي التي يُطلقون عليها اسم «أراضي الهمجيِّين». وبتعبير آخر نرى أن الاتجاه الشائع عالميًّا بأن يُطلق الناس على مكان يألفونه تعبير «أرضنا نحن» وعلى المكان الذي لا يألفونه ويتجاوز أرضهم المألوفة تعبير «أرضهم هم»؛ أسلوبٌ لوضع حدود جغرافية مميزة قد تكون تعسفية تمامًا. وأنا أستعمل كلمة «تعسفية» هنا لأن الجغرافيا الخيالية من نوع «أرضنا وأرضهم» لا تحتاج إلى افتراض اعتراف «الهمجيين» بذلك التمييز، بل يكفي لنا «نحن» أن نُقيم هذه الحدود في أذهاننا، فهذا من شأنه أن يجعلَهم يصبحون «هم»، ويجعل أرضهم وعقليتهم موسومة بالاختلاف عن أرضنا وعقليتنا «نحن». ويبدو، إلى حدٍّ ما، أن المجتمعات الحديثة والمجتمعات البدائية تستمدُّ إحساسها بهوياتها بصورة سلبية. ومن الأرجح أن إحساس الأثيني في القرن الخامس بأنه غير همجي كان يعادل إحساسَه الإيجابي بأنه أثيني؛ فالحدود الجغرافية تصاحب الحدود الاجتماعية والعرقية والثقافية بطرائق متوقعة، لكنه كثيرًا ما يكون إحساس الشخص بأنه غير أجنبي قائمًا على تصوره عمَّا يوجد «هناك» فيما وراء أرضه، وهو تصور أبعد ما يكون عن الدقة؛ إذ يبدو أن شتى ألوان الافتراضات والارتباطات والأوهام تتزاحم في المكان الموجود خارج أرض الشخص.

كتب الفيلسوف الفرنسي «جاستون باشيلار» تحليلًا ذات يوم لما أطلق عليه اسم «شعرية» المكان.11 فقال إن المكان داخل المنزل يكتسب لونًا من الألفة، والسرية والأمن، سواء كان ذلك حقيقةً أو خيالًا، بسبب الخبرات التي أصبحت تبدو ملائمةً له. والأمكنة «الموضوعية» في المنزل — كالزوايا والممرات والأقبية والغرف — أقل أهمية بكثير مما اكتسبته شاعريًّا، وهو عادة «صفة» ذات قيمة خيالية أو استعارية نستطيع أن نسمِّيَها ونشعر بها، وهكذا قد يصبح المنزل مسكونًا، أو يُوحي بدفء المأوى أو بالسجن أو بالسحر. ومن ثَم فإن المكان يكتسب معنًى عاطفيًّا بل ومعنًى عقلانيًّا من خلال لونٍ من التحول «الشعري» الذي يؤدي إلى تحويل الأصقاع الخاوية أو المجاهل البعيدة إلى «معانٍ» محددة لنا هنا. ويحدث هذا التحول نفسه عندما نعالج الزمن؛ إذ إن جانبًا كبيرًا مما يرتبط في أذهاننا، أو مما نعرفه عن الفترات التي نُشير إليها بعبارة مثل «منذ زمن طويل» أو «في البداية» أو «في نهاية الزمن»، هو في حقيقته شاعريٌّ؛ أي مصنوع. فالمؤرخ الذي يتحدث عن المملكة الوسيطة في مصر القديمة سوف يجد في تعبير «منذ زمن بعيد» معنًى بالغَ الوضوح، ولكن هذا المعنى نفسه لا يلغي تمامًا الطابعَ الخيالي أو شبهَ المتوهم الذي يشعر المرء أنه كامن في تلك الفترة الزمنية البالغة الاختلاف والبُعد عن زماننا، فلا شك أن الجغرافيا الخيالية، والتاريخ الخيالي يساعدان الذهن في تكثيف وتعميق إحساسه بذاته بتهويل المسافة والاختلاف بين ما هو قريب منه وما هو بعيد عنه. وينطبق هذا بنفس الدرجة على المشاعر التي كثيرًا ما تنتابنا، والتي تُوحي بأننا كان يمكن أن نحسَّ بالمزيد من دفء «الانتماء» في القرن السادس عشر أو في جزر تاهيتي، في جنوب المحيط الهادئ.

لكنه لا جدوى من التظاهر بأن كلَّ ما نعرفه عن الزمن والمكان، أو بالأحرى عن التاريخ والجغرافيا، خياليٌّ في المقام الأول. فوجود التاريخ «الإيجابي» والجغرافيا «الإيجابية» لا شك فيه، ونستطيع الإلماح إلى منجزاتهما الرائعة في أوروبا والولايات المتحدة. فالباحثون يحيطون الآن قطعًا بمعارف عن العالم، وعن ماضيه وحاضره، تزيد عمَّا كانوا يحيطون به في زمن «جيبون»، المؤرخ البريطاني في القرن الثامن عشر، على سبيل المثال. ولكن هذا لا يعني أنهم يحيطون بجميع المعارف، أو — وهو الأهم — أن معارفهم قد أزالت فعلًا «المعرفة الخيالية» للجغرافيا والتاريخ التي كنت أناقشها. ولسنا بحاجة إلى أن نَبُتَّ هنا فيما إذا كانت هذه المعرفة الخيالية «مبثوثة» في التاريخ والجغرافيا أو أنها، بمعنًى من المعاني، تُبطلهما. فلنقتصر على القول، مؤقتًا، إن هذه «المعرفة» موجودة باعتبارها شيئًا يتجاوز ما يبدو لنا معرفة إيجابية وحسب.

لقد كانت صورة الشرق في أوروبا، منذ أقدم العصور تقريبًا، تتضمن ما يزيد عمَّا هيَّأته المعرفة التجريبية بالشرق. فعلى نحو ما أوضَحَ «ر. و. سَذِرْن» بأسلوبه الرشيق، كان تفهُّم أوروبا — على الأقل منذ بدايات القرن الثامن عشر — لنوعٍ محددٍ من الثقافة الشرقية، وهو الثقافة الإسلامية، يتسم بالجهل وإن كان مركَّبًا من عناصر عديدة.12 فلقد كانت تتجمَّع حول فكرة الشرق دائمًا، فيما يبدو، بعضُ المعاني التي تتداعى إلى الذهن حين يُذكر الشرق، دون أن تبلغ حدَّ الجهل تمامًا أو حدَّ العلم تمامًا، وانظر أولًا إلى رسم الحدود بين الشرق والغرب، وهي التي كانت تبدو بوضوح حتى في وقت كتابة «الإلياذة» وهي الملحمة التي كتبها الشاعر اليوناني «هوميروس» قبل الميلاد. ولسوف تجد أنَّ سمتَين من أشد السمات ارتباطًا بالشرق وأبعدها تأثيرًا واضحتان في مسرحية: «الفُرْس» للشاعر «أيسخولوس»، وهي أقدم مسرحية وصل إلينا نصُّها، وفي مسرحية: «عابدات باخوس» للشاعر «يوريبيديس»، آخر مسرحية وصل إلينا نصُّها؛ إذ يصور «أيسخولوس» إحساسَ الفرس بالكارثة حينما يعلمون أن جيوشهم التي يقودها الملك أرتخششا (كسرى) قد دمرها اليونانيون، وعندها تنشد الجوقة (الكورس) الأنشودة الآتية:
باتَتْ أراضي آسيا جمعاء
في نَعْيها تُحِسُّ بالخواء!
قادَ الجيوشَ كسرى عندها … آهًا وآه!
كسرى تحطَّم بعدَها ويلاهُ يا ويلاه!
وكلُّ ما دبَّر كسرى قد تحطَّم
في السفن بالبحر الخِضَم.
إذن كيف استطاع الحرب داريوس الأمين،
وأن يعودَ بالرجال سالمين؛
إذ قادَهُم في حَوْمة المعمعة
القائدُ المحبوبُ من صُوصَة؟13

والمهم هنا أن آسيا تتكلم من خلال الخيال الأوروبي وبفضله، وتظهر أوروبا في صورة المنتصر على آسيا، ذلك «الآخر» — العالم المعادي — فيما وراء البحار، كما تُنسب إلى آسيا مشاعر «الخواء» والضياع والإحساس بالكارثة، وهي المشاعر التي تصبح من نصيبِ كلِّ تحدٍّ من الشرق للغرب، كما ينسب إلى آسيا أنها تنعَى زوالَ عهدٍ ما في الماضي المجيد؛ استطاعت فيه التفوق، وأن تنتصر هي نفسها على أوروبا.

وفي مسرحية: «عابدات باخوس»، وربما كان طابعها الآسيوي أبرز من طابع أي مسرحية أخرى من المسرحيات الأثينية القديمة، يصور الشاعرُ الربَّ ديونيسيوس تصويرًا صريحًا يربطه بأصوله الآسيوية وبضروب التطرف التي تتسم بها «الأسرار» الشرقية، والتي تحمل في أطوائها تهديدًا غريبًا؛ فالملك بنثيوس، ملك طيبة، يلقَى حتفه على أيدي أجيف، والدته، ومعها زميلاتُها من عابدات باخوس إله الخمر؛ إذ إنَّ تحدِّي بنثيوس للرب ديونيسيوس بعدم اعترافه؛ لا بسلطانه ولا بربوبيته؛ يجلب له عقابًا رهيبًا، وتنتهي المسرحية باعتراف عام بالسلطة الرهيبة لذلك الرب غريب الأطوار. ولم يَفُت الشراح المحدثين لمسرحية «عابدات باخوس» أن يُشيروا إلى النطاق الفذ للجوانب الفكرية والجمالية من تأثير المسرحية، إلا أنهم لم يجدوا بدًّا من رصدِ أحدِ التفاصيل التاريخية الإضافية؛ وهي أن يوريبيديس «قد تأثَّر قطعًا بالمظهر الجديد الذي اكتسَت به حتمًا مذاهبُ عبادة ديونيسيوس، في ضوء ديانات «الانتشاء» الأجنبية للأرباب بنديس، وسيبيل (كيبيلي) وسابازيوس، وأدونيس وإيزيس، وهي الديانات التي دخلت اليونان من آسيا الصغرى وبلاد الشام فانتشرت في مدينتَي «بيريوس وأثينا» في سنوات الحرب البيلوبونية، بين «أثينا واسبرطة» في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت تتسم بالإحباط والرعونة المتزايدة».14
وسوف يظل هذان الجانبان من جوانب صورة الشرق — وهما اللذان يميزانه عن الغرب في هاتين المسرحيَّتَين — من المحاور الأساسية في الجغرافيا الخيالية الأوروبية؛ فالجانب الأول هو الحد الذي يفصل بين قارتين: فأوروبا قوية وتستطيع التعبير عن نفسها، وآسيا مهزومة وبعيدة، وأيسخولوس يمثل لآسيا؛ أي يجعلها تتكلم بلسان ملكة فارسية عجوز هي أم «كسرى». وأوروبا هي التي تُفصح أو تعبِّر عن الشرق، وهذا الإفصاح أو التعبير ليس ميزة يتميز بها محرِّكُ الدُّمَى بل خالقٌ حقيقي لديه القوة على أن يهبَها الروح، وأن يجعلها تمثِّل وتُحرك وتشكِّل ذلك المكان الذي يقع فيما وراء الحدود المألوفة، والذي لولاها لظل صامتًا وخطِرًا. والفرقة الموسيقية التي يقودها أيسخولوس، والتي تتضمن العالم الآسيوي كما يتصوره كاتب المسرح، تُشبه الإطار العلمي الذي يغلف دراسة المستشرق الذي قد يجد في أصقاع آسيا الشاسعة، والتي لا شكل لها، ما يُثير تعاطفه أحيانًا، ولكنه دائمًا ما يُخضع ذلك لفحص دقيق ينمُّ عن إحساسه بالسيادة عليه. وأما الجانب الثاني فهو صورة الشرق باعتباره يُنذر بالخطر، فمظاهر الإفراط الشرقية تدمر الموقف العقلاني، وهي المظاهر المضادة بجاذبيتها الغامضة لما يبدو أنه قيمُ الأسوياء أو القيم الطبيعية. ويرمز للفرق الذي يفصل الشرق عن الغرب تلك الصرامةُ التي يصُدُّ بها الملك بنثيوس عابدات باخوس الهائجات، أول الأمر، لكنه عندما يتحول بعد ذلك إلى عابد مثلهن لباخوس، فإنه يلقى حتفه، ولا يرجع سببُ ذلك إلى أنه استسلم لديونيسيوس مثلما يرجع في المقام الأول إلى خطئه في تقدير الخطر الذي يمثله ديونيسيوس. والدرس الذي يقصده يوريبيديس يتخذ شكله الدرامي من خلال وجود كادموس وتيرسياس في المسرحية، وهما حكيمان طاعنان في السن يُدركان أن «السيادة» وحدها لا تكفي لحكم الناس،15 ويقولان إنها يجب أن تقترن بالرأي الصائب أو صواب الحكم على الأشياء، ومعناه التقدير الصحيح لقوة الدول الأجنبية والتفاهم معها بخبرة ورويَّة. ومن هذا الوقت بدأ الغرب يأخذ مأخذَ الجد جوانب «الغموض» الشرقية؛ لأنها على الأقل تتحدَّى العقل الغربي فتُرغمه على اتخاذ خطوات جديدة تُنبئ عن طموحه الثابت وقوته الصامدة.
ولكن كل تقسيم كبير، مثل تقسيم العالم إلى غرب وشرق، يؤدي إلى تقسيمات أخرى أصغر؛ خصوصًا لأن المشروعات الحضارية الصغيرة تُحفز الناس على القيام بأنشطة مستمرة؛ مثل الترحال والفتوح واكتساب خبرات جديدة. وهكذا ففي اليونان القديمة وفي الإمبراطورية الرومانية قام الجغرافيون والمؤرخون وبعض الزعماء؛ مثل «قيصر»، والخطباء، والشعراء بإضافة الكثير إلى تراث التقسيم الذي يُصنف ويفصل الأجناس والأقاليم والأمم والأذهان بعضها عن بعض، وكان جانب كبير من ذلك يرمي إلى النفع الذاتي، وكان الهدف من وجوده إثباتَ أن الرومان واليونان متفوقون على غيرهم من الشعوب. ولكن الاهتمام بالشرق كانت له تقاليده الخاصة في التصنيف والترتيب الهرمي. ومنذ القرن الثاني قبل الميلاد فصاعدًا، لم يكن يغيب عن ذهنِ كلِّ مَن يرحل إلى الشرق أو يتجه بأنظاره إليه من حُكَّام الغرب الطامحين أن «هيرودوت» — المؤرخ والرحالة والإخباري الذي لا تنفد له جعبة — مثل الإسكندر الأكبر — وهو الملك والمقاتل والفاتح العلمي — كانَا قد زارَا الشرق من قبل. وهكذا كان الشرق مقسمًا تقسيماتٍ فرعية ما بين الممالك التي سبق أن عرفها وزارها وفتحها هيرودوت والإسكندر وخلفاؤهما الأدنى منزلة، وبين الممالك التي لم تسبق معرفتها أو زيارتها أو فتحها. وعندما جاءت المسيحية أكملت إنشاء التقسيمات الداخلية الرئيسية للشرق: وهي الشرق الأدنى والشرق الأقصى والشرق المألوف، وهو الذي يسميه «رينيه جروسيه» «إمبراطورية بلاد الشام»،16 والشرق الجديد. وكانت صورة الشرق تتفاوت، من ثَم، في الجغرافيا «المتصورة» ما بين عالم عريق يعود الإنسان إليه مثلما يعود إلى جنة عدن أو الفردوس، ليُقيم فيه صورة جديدة من الدنيا القديمة، وبين مكان جديد كل الجدة يرتاده الإنسان مثلما ارتاد كولومبس أرض أمريكا، حتى يُنشئ الدنيا الجديدة (وإن كان من المفارقات أن كولومبس نفسه كان يظنُّ أنه اكتشف جزءًا جديدًا من الدنيا القديمة). وقطعًا لم تكن أيُّ هاتين الصورتين للشرق تنتمي إلى جانب وحده دون الآخر، ولكن المهم هو تذبذبُ كلِّ صورة منهما، وما تُغري به من إيحاءات وظلالِ معانٍ، ومن القدرة على تسرية الذهن وبثِّ الاختلاط في التفكير.

وانظر كيف أصبح الشرق، وخصوصًا الشرق الأدنى، معروفًا في الغرب باعتباره الصورة المضادة العظمى والمكملة للغرب منذ القدم؛ إذ شهد الكتاب المقدس ونشأة المسيحية، وبعض الرحالة مثل «ماركو بولو» الذي رسم الطرق التجارية ووضع الأنساق الدقيقة لنظم التبادل التجاري، ومَن تلاه مثل «لودوفيكو دي فارتيما، وبيترو ديلا فالي»، وكاتب حكايات الأسفار «ماندفيل»، إلى جانب حركات الفتوح الشرقية الجبارة، وخصوصًا الفتوح الإسلامية بطبيعة الحال، ثم الحجاج المقاتلين، وعلى رأسهم الصليبيون. وقد أثمرت هذه الخبرات كتاباتٍ تشكِّل فيما بينها سجلًّا له بناؤه الداخلي الخاص، وفي هذا السجل يبرز عددٌ محدود من القوالب التي تُمثِّله خيرَ تمثيل مثل قالب الرحلة والقصة التاريخية، والحكاية الخرافية، والنمط الثابت، والمواجهة الجدلية. وتعتبر هذه القوالب العدسات التي كان يُنظر إلى الشرق من خلالها، وهي التي تشكِّل لغةَ اللقاء بين الشرق والغرب، وكيف كان يُرى هذا التلاقي والشكل الذي كان يتخذه. ولكن اللقاءات البالغة العدد كان يوحد بينها، إلى حدٍّ ما، ذلك التذبذب الذي كنت أتحدَّث عنه. فإذا كان شيءٌ ما أجنبيًّا وبعيدًا بصورة صريحة، اكتسب، لسبب ما، مكانةَ شيءٍ مألوف إلى حدٍّ ما، وتوقف المرء عن الحكم على الأشياء باعتبارها جديدة كل الجدة أو معروفة لديه معرفة كاملة. وهكذا نشأت مرتبةٌ وسطى جديدة، تُتيح للمرء أن يُبصر الأشياء الجديدة؛ أي الأشياء التي يراها لأول مرة، باعتبارها صورًا لأشياء معروفة. وكانت هذه المرتبةُ في جوهرها لا تمثِّل أسلوبًا لتلقِّي المعلومات الجديدة بقدر ما كانت طريقة للسيطرة على ما يتضمن، فيما يبدو، خطرًا يهدِّد إحدى الطرائق الراسخة للنظر إلى الأشياء. فإذا كان على الذهن، فجأة، أن يتصدَّى لما يعتبره شكلًا جديدًا للحياة يختلف اختلافًا جذريًّا عما سبقه — على نحو ما بدَا الإسلام لأوروبا في أوائل العصور الوسطى — كانت استجابة الذهن تتسم، بصفة عامة، بالمحافظة واتخاذ موقف الدفاع. إذ كان يقال إن الإسلام صورة جديدة مخادعة لخبرة سابقة، وكانت في هذه الحالة هي المسيحية. وهكذا ينجح الذهن في تخفيف حدة الخطر، وتفرض القيم المألوفة نفسها، ويتمكن الذهن في النهاية من تخفيف الضغوط عليه باستيعاب الأشياء إما باعتبارها «أصيلة» أو «مكررة»، وبعدها يستطيع أن «يتناول» الإسلام حقًّا فيسيطر على جدته وطاقته على الإيحاء بحيث يتمكن من رسم خطوط تمييز دقيقة نسبيًّا، وهي ما كان في عداد المحال لو ترك الذهنُ جِدَّةَ الإسلام الأصيلة دون تعديل. وهكذا كان الشرق بصفة عامة يتذبذب بين احتقار الغرب للمألوف، ورجفة سروره بالجديد أو خوفه منه.

ولكن خوف أوروبا من الإسلام — وإن لم يكن يمثل الاحترام في كل حالة — كان له ما يُبرره. فبعد وفاة محمد في عام ٦٣٢ﻫ، ازدادت هيمنة الإسلام العسكرية، وازدادت في وقت لاحق هيمنتُه الثقافية والدينية، زيادة هائلة. فقد فتحَتْ جيوشُ المسلمين أولًا بلادَ فارس، وسوريا، ومصر ثم تركيا ثم شمال أفريقيا، كما فتحت في القرنين الثامن والتاسع إسبانيا وجزيرة صقلية وأجزاء من فرنسا. وما إن حلَّ القرنان الثالث عشر والرابع عشر حتى أصبح حكم الإسلام يمتد شرقًا إلى الهند والهند الصينية والصين، ولم يكن في طوق أوروبا أن تردَّ على هذه الهجمة ردًّا يُذكَر، إلا بالخوف ولون من ألوان الرهبة. ولم يكن لدى المؤلفين المسيحيِّين الذين شهدوا الفتوحات الإسلامية اهتمامٌ يُذكَر بعلوم المسلمين وثقافتهم الرفيعة وصور البهاء والروعة المتواترة لديهم، وهم الذين كانوا، كما يقول «جيبون»، «معاصرين لأظلم الفترات وأشدها كسلًا في حوليات أوروبا». (ولكنه يضيف بقدرٍ ما من الرضا «لكنه قد ازداد حجم العلم في الغرب، ويبدو من ثَم أن الدراسات الشرقية قد وهنت وتدهورت»).17 وأما ما كان المسيحيون يشعرون به في العادة إزاء الجيوش الشرقية فهي أنها كانت تُشبه سربًا من أسراب النحل إلى حدٍّ كبير، ولكن أياديها ذات بأس شديد … فاجتاحَت كل شيء. حسبما كتبه «إيرشمبير»، وكان كاهنًا في مونتي كاسينو في القرن الحادي عشر.18
ولم يصبح الإسلام رمزًا للرعب والخراب وجحافل الهمجيِّين الشيطانية الكريهة بلا سبب، فلقد كان يمثِّل لأوروبا صدمةً نفسية متصلة الحلقات؛ إذ كان «الخطر العثماني» يكمن حتى نهاية القرن السابع عشر بجوار أوروبا ويمثِّل خطرًا دائمًا على الحضارة المسيحية بأسرها، وعلى مر الزمن تمكَّنت أوروبا من أن تُدرج هذا الخطر ومأثوراته التقليدية، وأحداثه العظمى وشخصياته البارزة ومناقبه ومثالبه في صلب حياتها. ويحكي لنا «صمويل تشو» في دراسته الكلاسيكية «الهلال والوردة» «أن الرجل ذا التعليم والذكاء المتوسط» في عصر النهضة في إنجلترا وحدها، كان يعرف خير المعرفة ويستطيع أن يشهد على مسارح لندن عددًا كبيرًا نسبيًّا من الأحداث المفضلة في تاريخ الإسلام العثماني وانتهاكاته لأوروبا المسيحية.19 والذي يهمُّنا هو أن ما بقيَ شائعًا عن الإسلام كان بالضرورة صورةً مخففة لتلك القوى العظمى والخطرة التي كان يرمز لها في أوروبا. وعلى نحو ما فعل الروائي «وولتر سكوط» في تصويره للبدو الرُّحَّل، كان تصوير أوروبا للمسلم العثماني أو العربي يمثِّل دائمًا محاولة للتحكم في الشرق المهيب، ويصدق ذلك إلى حدٍّ ما على أساليب العلماء المستشرقين المحدثين، فليس موضوعهم هو الشرق في ذاته بقدر ما هو التعريف بالشرق، فإذا تسنَّت معرفتُه أصبح أقلَّ إثارةً للخوف لدى جمهور القراء الغربيِّين.
وليس إضفاء الألفة على هذا النحو على كلِّ ما هو غريب أو عجيب مدعاةً للخلاف أو الذم بصورة خاصة، فهو يحدث قطعًا فيما بين جميع الثقافات وبين جميع البشر. ولكن مرماي تأكيد هذه الحقيقة، وهي أن المستشرق، شأنه في هذا شأن أي فرد في الغرب الأوروبي فكر في أمر الشرق أو زاره، قد «أجرى هذه العملية الذهنية». ولكن الأهم من ذلك هو المجموعة المحدودة من المفردات والصور التي تفرض نفسها من جرَّاء ذلك. وتصوير الإسلام في الغرب شاهدٌ على ذلك، على نحو ما بين «نورمان دانييل» في دراسته الرائعة: «الإسلام والغرب». وكان من القيود التي قيدت تفكير المفكرين المسيحيين الذين حاولوا فهمَ الإسلام قيدُ القياسِ أو التشبيه، فلما كان المسيح أساس الدين المسيحي، افترض هؤلاء — وكانوا مخطئين كل الخطأ — أن محمدًا يمثِّل للإسلام ما يمثِّله المسيح للمسيحية، ومن هنا أطلقوا على الإسلام التسمية الجدلية أي «المحمدية»، وألصقوا بمحمد صفة «الدجال» بصورة تلقائية.20 ومن أمثال هذه المفاهيم الخاطئة وغيرها «تشكَّلت حلقة لم تنكسر في يوم من الأيام بالانفتاح على الخارج … إذ اعتبروا أن المفهوم المسيحي للإسلام متكاملٌ وكافٍ بذاته»21، وأصبح الإسلام صورة — وهي الكلمة التي أتي بها «دانييل»، وتترتب عليها في نظري دلالات مهمة للاستشراق بصفة عامة — إذ لم تَعُد وظيفتها تكمن في تمثيل الإسلام في ذاته بقدر تمثيله لعيون المسيحيِّين في العصور الوسطى. يقول «دانييل»:
كان الاتجاه الثابت إلى إهمال ما يعنيه القرآن، أو ما يرى المسلمون أنه يعنيه، وتجاهل فكر المسلمين وأفعالهم في شتى الظروف، يعني ضمنًا تقديم المذهب القرآني وغيره من المذاهب الإسلامية في شكل قادر على إقناع المسيحيِّين؛ وازدادت احتمالات تقبُّل الأشكال التي يزداد تطرُّفها باطراد مع زيادة ابتعاد الكُتَّاب والجمهور عن حدود أراضي المسلمين، بل كانوا يجدون صعوبة كبيرة في تصديق ما يقول المسلمون إنهم يؤمنون به، فلقد نشأت صورة مسيحية [للإسلام] وكان الكتاب لا يتخلوَّن إلا عن أقل القليل من تفاصيلها (حتى تحت ضغط الحقائق) ولكنهم لم يكونوا يتخلَّون مطلقًا عن إطارها. وكنت تلمح بطبيعة الحال ظلال اختلافات، لكنها دائمًا تدور في إطار مشترك. وجميع التصويبات التي كانوا يقومون بها لزيادة الدقة لم تكن تزيد عن دفاع عمَّا أدركوا أخيرًا أنه مُعرَّض للهدم؛ أي إنها كانت بمثابة تدعيم لبناء تصدُّع. فآراء المسيحيِّين كانت بناءً لا يمكن هدمه، حتى وإن كانت الغاية إعادة بنائه.22
وقد تدعمت هذه الصورة الصارمة للإسلام بعدة سُبُل كان من بينها — إبان العصور الوسطى وبداية عصر النهضة — ضروبٌ بالغة التنوع من الشعر، والمجادلات العلمية، والخرافات الشعبية.23 وبحلول هذه الفترة كان الشرق الأدنى يكاد يمثِّل جزءًا من صورة العالم الشائعة في عيون أبناء المسيحية اللاتينية، على نحو ما نرى في أنشودة «رولان» التي تُصور دين المسلمين باعتباره يضم محمدًا و«أبوللو»، الرب الوثني الإغريقي. وبحلول منتصف القرن الخامس عشر، على نحو ما بين «ر. و. سَذِرْن» في كتابه الرائع، اتضح للمفكرين الأوروبيِّين الجادين «أنه لا بد من اتخاذ إجراء ما بصدد الإسلام» الذي كان قد قلب الموازين بوصول عسكر المسلمين أنفسهم إلى شرق أوروبا. ويَقُصُّ «سَذِرْن» قصة مثيرة وقعَت ما بين عامَي ١٤٥٠ و١٤٦٠م عندما حاول أربعة من العلماء، هم «جون السيجوفي، ونيكولاس القوصي، وجان جيرمين، وإينياس سيلفيوس (بيوس الثاني)» التصدِّي للإسلام من خلال «مؤتمر» خاص. كان الأول صاحب الفكرة التي تقضي بعقد مؤتمر «مع الإسلام» يحاول فيه المسيحيون تحويلَ المسلمين جملة عن عقيدتهم. «كان يرى في المؤتمر أداة لها وظيفتها السياسية إلى جانب وظيفتها الدينية الخالصة، وبتعبير تستجيب له صدور المحدثين صاح قائلًا إن المؤتمر حتى لو استمر عشر سنين فسوف يكون أقلَّ تكلفة وأقلَّ ضررًا من الحرب». لم يتوصل الأربعة إلى اتفاق، ولكن الحادثة بالغة الأهمية لكونها محاولة لوذعية — تدخل في إطار المحاولات الأوروبية من القديس «بيد» إلى «مارتن لوثر» — لتقديم صورة تمثل الشرق في عيون أوروبا، والجمع بين الشرق وأوروبا معًا على المسرح في شكل له دلالته، والقصد منه أن يشرح المسيحيون للمسلمين أن الإسلام صورة مُضلَّلة من صور المسيحية. وفيما يلي ما انتهى إليه «سَذِرن»:
وأبرز ما يتجلَّى لنا هو عجزُ أيِّ نظام من هذه النظم الفكرية [المسيحية الأوروبية] عن تقديم تفسير مقنع ومُرْضٍ للظاهرة التي تحاول تفسيرها [الإسلام]، بل وعجزها إلى درجة أكبر عن التأثير بصورة حاسمة في مجرى الأحداث في دنيا الواقع. فعلى المستوى العملي، لم يكتب للأحداث أن تحقق النجاح المدوِّي أو الفشل الذريع على النحو الذي تنبأ به أذكى المراقبين، وربما يكون جديرًا بالملاحظة أن الأحداث حققت أكبر نجاح ممكن عندما كان أفضل القضاة يتوقعون، بثقة، نهاية سعيدة. فهل تحقق أي تقدم [في المعرفة المسيحية بالإسلام]؟ لا بد أن أُعرب عن اقتناعي بوجود هذا التقدم. وحتى لو كان حل المشكلة قد ظل يستعصي على الظهور للرائي، فإن صوغ المشكلة أصبح يبتعد عن التبسيط، وأكثر عقلانية، وأكثر ارتباطًا بالخبرة … والباحثون الذين بذلوا الجهد لمعالجة مشكلة الإسلام في العصور الوسطى أخفقوا في العثور على الحل الذي كانوا يطلبونه ويرغبون فيه، ولكنهم أنشئوا عادات في التفكير وطاقات على الفهم لا تزال جديرة بالنجاح لو توافرت لغيرهم وفي مجالات أخرى.24
ويخصص «سَذِرْن» الجانب الأكبر من تحليله، هنا وفي أبواب أخرى من تاريخه الموجز للآراء الغربية في الإسلام، لإيضاح أن الجهل الغربي هو الذي ازداد في النهاية تنقيحًا وبُعْدًا عن البساطة، لا أن قدرًا ما من المعرفة الإيجابية الغربية قد ازداد حجمًا ودقة. فالأكاذيب لها منطقها الخاص وجدليتها الخاصة في النمو أو التدهور. فلقد أُهيلت على شخصية النبي محمد في العصور الوسطى مجموعة من الصفات التي تتفق مع «شخصية كل نبي [في القرن الثاني عشر] من أنبياء ما يسمَّى «الروح الحرة» وهم الذين ظهروا فعلًا في أوروبا فكان لهم مَن صدقوهم ومَن اتبعوهم». وعلى غرار ذلك، فلما كان يُنظر إلى محمد باعتباره نبيًّا ينشر تنزيلًا زائفًا، فلقد أصبح أيضًا جماع صور الفساد، وهي النظرة المستقاة، منطقيًّا، من اعتباره دجَّالًا.25 وهكذا اكتسب الشرق مَن يمثلونه، إن صحَّ هذا التعبير، وصورًا تمثله، وازداد كلٌّ منها تجسيدًا عمَّا سبقه، كما ازداد اتساقها الداخلي مع بعض المقتضيات الغربية. فكأنما كانت أوروبا، حالما استقر رأيها على أن الشرق يمثِّل المكان المناسب لتجسيد اللانهائي في شكل محدد، عاجزة عن التوقف عن ممارسة ذلك، فأصبح الشرق والشرقي، عربيًّا كان أو إسلاميًّا أو هنديًّا أو صينيًّا أو سوى ذلك، صورًا شبه مجسدة ومتكررة لكيان أصلي عظيم (المسيح، أوروبا، الغرب) وهو الكيان الذي افتُرض أنها تُحاكيه. ولم يتغير على مرِّ الزمن إلا مصدر هذه الأفكار الغربية، والنرجسية إلى حدٍّ ما، عن الشرق، دون أن يتغير طابعها. وهكذا انتشر الاعتقاد في القرنَين الثاني عشر والثالث عشر بأن بلاد العرب «تقع على حافة العالم المسيحي، وأنها ملجأ طبيعي للزنادقة الخارجين على القانون»26 وأنَّ محمدًا كان مرتدًّا ماكرًا، وكان القرن الثاني عشر يرى أن الباحث المستشرق؛ أي المتخصص العالم، كان مَن يُركن إليه لإيضاح أن الإسلام لا يزيد في الواقع على بدعة أريوسية من الدرجة الثانية.27

وهكذا فإنَّ وصفَنا المبدئيَّ للاستشراق باعتباره مجالًا علميًّا يكتسب الآن شكلًا مجسدًا جديدًا. فكثيرًا ما يكون المجال حيِّزًا مغلقًا. وفكرة التمثيل فكرة مسرحية، وبلدان المشرق هي خشبة المسرح التي يُحبَس فيها الشرق كله، وسوف تظهر على هذه الخشبة شخصياتٌ ينحصر دورها في تمثيل الكيان الكلي الأكبر الذي خرجت منه. وهكذا فإن الشرق سوف يبدو مجالًا مغلقًا، أو خشبة مسرح ملتصقة بأوروبا، لا امتدادًا غير محدود خارج العالم الأوروبي المألوف. والمستشرق لا يزيد على متخصص في معرفة خاصة، وتُعتبر أوروبا بأسرها مسئولةً عنها، على نحوِ ما يُعتبر الجمهور، تاريخيًّا وثقافيًّا، مسئولًا عن المسرحيات التي يؤلفها كاتبُ المسرح (ومستجيبًا لها). وفي أعماق هذا المسرح الشرقي توجد ذخيرة ثقافية مذهلة يُوحي كلُّ عنصر مفرد من عناصرها بعالمٍ يتميز بثراء خرافي: «أبو الهول، وكليوباترا، وجنة عدن، وطروادة، وسدوم وعمورة، وعشتروت، وإيزيس وأوزوريس، وسبأ، وبابل، والجن، والمجوس، ونينوى، وبريسترجون، ومحمد»، وعناصر أخرى كثيرة. كما يوحي بأماكن نصف خرافية ونصف معروفة، لا تزيد في بعض الأحيان على أسماء مجردة؛ وبمخلوقات شائهة وشياطين وأبطال؛ وبألوان الرعب والملذات والشهوات. ووجدت المخيلة الأوروبية في هذه الذخيرة غذاءً لا يكاد ينفد؛ إذ حدث ما بين العصور الوسطى والقرن الثامن عشر أن كان بعض كبار الكُتَّاب؛ مثل «أريوسطو، وميلتون، ومارلو، وتاسو، وشيكسبير، وثيربانتيس (سرفانتيس)»، ومثل مؤلفي أنشودة «رولان» وقصيدة السيد، ينهلون من هذه الذخيرة فيما يؤلفونه بأساليب أدَّت إلى تحديد وتأكيد أشكال الصور الشعرية والأفكار والشخصيات التي تعمرها. أضف إلى ذلك أن قدرًا كبيرًا من الكتابات التي كانت تعتبر بحوثًا استشراقية متخصصة في أوروبا، كان يُسخِّر الأساطير الأيديولوجية لخدمته، حتى حين كانت المعرفة تتقدم بخطًى حقيقية فيما يبدو.

ومن الأمثلة الذائعة على امتزاج الشكل الدرامي بالصور الشعرية «العلمية» في المسرح الاستشراقي، معجم وضعه «بارتيليمي ديربيلو» بالفرنسية بعنوان: ببليوتيك أورينتال (أي المكتبة الشرقية)، ونُشر بعد وفاته في عام ١٦٩٧م، بمقدمة كتبها «أنطوان جالان». وتقول مقدمة تاريخ كيمبريدج للإسلام إن هذا الكتاب، إلى جانب المقدمة التي كتبها «جورج سيل» لترجمته للقرآن (١٧٣٤م) وتاريخ المسلمين الذي كتبه «سايمون أوكلي» (١٧٠٨–١٧١٨م) كتاب «بالغ الأهمية» في توسيع نطاق «الفهم الجديد للإسلام» وتقديمه إلى «قراء على مستوى أكاديمي أدنى».28 ولكن هذا الوصف لكتاب «ديربيلو» وصف قاصر؛ فالكتاب لا يقتصر على الإسلام فحسب مثل كتابي «سيل وأوكلي». فباستثناء كتاب «تاريخ الشرق» الذي وضعه «يوهان ﻫ. هوتينجر» في عام ١٦٥١م، ظل الببليوتيك المرجعَ المعتمد في أوروبا حتى أوائل القرن التاسع عشر، وكان نطاقه واسعًا وبالغ الأهمية حقًّا، بل إن «جالان»، الذي كان أولَ مترجم أوروبي ﻟ: «ألف ليلة وليلة»، ومتخصصًا شهيرًا في اللغة العربية، كان يفضِّل إنجاز «ديربيلو» على كتاباتِ كلِّ مَن سبقوه ويُرجع الفضل في ذلك إلى الاتساع المذهل لنطاق العمل؛ إذ يقول «جالان»: إن «ديربيلو» قد قرأ عددًا كبيرًا من الأعمال باللغات العربية والفارسية والتركية، الأمر الذي مكَّنه من اكتشاف أشياء كانت تخفى حتى ذلك الحين عن الأوروبيِّين.29 فبعد أن وضع «ديربيلو» معجمًا لهذه اللغات الشرقية الثلاث، اتجه إلى دراسة تاريخ الشرق وجغرافيته ولاهوته وعلومه وفنونه، في صورها الخرافية والحقيقية أو الصادقة جميعًا. وبعدها قرر أن يؤلف عملين؛ أحدهما هو الببليوتيك أو «المكتبة» وهو معجم مواده مرتبة ترتيبًا هجائيًّا، والثاني هو فلوريليج (طاقة الأزهار) أو المنتخبات المترجمة، لكنه لم يُكمل إلا العمل الأول.
ويقول «جالان» في وصف الببليوتيك: إن صفة «أورينتال»، أي الشرقي، كان يقصد بها أن تتضمن بلاد الشام بصفة رئيسية، ويقول «جالان» مبدِيًا إعجابه: إن المؤلف لم يكتفِ بأن تبدأ الفترة التي يتناولها الكاتب بخلق آدم، عليه السلام، وأن تنتهيَ «بالوقت الذي نعيش فيه»، بل إن «ديربيلو» عاد للزمن السحيق؛ أي إلى الوقت الذي يُوصف بأنه «الأعظم» في الروايات التاريخية الخرافية، ويقصد بها الفترة الطويلة التي عاش فيها «السليمانون» قبل آدم عليه السلام. وعندما نمضي في قراءة وصف «جالان» لذلك الكتاب نُدرك أن الببليوتيك كان يُشبه أي تاريخ آخر للعالم؛ إذ حاول تقديم خلاصة شاملة للمعارف التي كانت متاحةً بشأن بعض القضايا؛ مثل خلق العالم وطوفان نوح وتدمير بابل إلى آخره، وإن اختلف «ديربيلو» في أن مصادره كانت شرقية. وهو يقسم التاريخ إلى نوعين: التاريخ المقدس، والتاريخ الدنيوي (وينتمي اليهود والمسيحيون إلى الأول والمسلمون إلى الثاني) كما يقسمه إلى فترتين: ما قبل الطوفان وما بعد الطوفان. وهكذا استطاع «ديربيلو» أن يناقش ألوانًا بالغة الاختلاف من التاريخ؛ مثل تاريخ المغول، والتتار، والترك، والسلافونيِّين، كما جعل استقصاءَه شاملًا لجميع ولايات الإمبراطورية الإسلامية، من أقصى الشرق إلى أعمدة هرقل، بعادات أهاليها وطقوسهم وتقاليدهم وشروحهم، وأُسَرهم الحاكمة، وقصورهم وأنهارهم ونباتاتهم. ورغم أن العمل قد أشار إشارةً ما إلى ما أسماه «المذهب المنحرف الذي أتى به محمد، والذي تسبَّب في أضرار كبيرة للمسيحية»، فإنه كان، في غير ذلك، يتسم بزيادة دقته وثراء تفاصيله عن أيِّ عمل سبقه. ويختتم «جالان» حديثَه بأن يُذكِّر القارئ ويؤكد له آخر الأمر أن معجم ببليوتيك الذي وضعه «ديربيلو» «مفيد وممتع» بصورة فريدة، في حين كان غيره من المستشرقين؛ مثل «بوستيل، وسكاليجر، وجوليوس، وبوكوك، وإربنيوس» يكتبون دراسات استشراقية ذات نطاق بالغ الضيق في النحو أو المسائل المعجمية أو وما شابهها. ولم يستطع سوى «ديربيلو» أن يكتب عملًا قادرًا على إقناع القراء الأوروبيِّين بأن دراسة الثقافة الشرقية ليست دراسةً عقيمًا أو ناكرةً للجميل، ويقول «جالان» إن «ديربيلو» وحده هو الذي حاول أن يبثَّ في أذهان قرَّائه فكرةً كافية عمَّا تعنيه معرفة الشرق ودراسته، وهي الفكرة القادرة على إشباع الذهن وإرضاء التوقعات الكبرى التي كانت لدى المرء من قبل.30
ومن خلال أمثال هذه الجهود التي بذلها «ديربيلو» استطاعت أوروبا أن تكتشف طاقاتها على «احتواء» الشرق وإضفاء الصورة التي تريدها عليه، ويلوح لنا هنا وهناك إحساس معين بالتفوق فيما يقوله «جالان» عن «مادته الشرقية» ومادة «ديربيلو» «الشرقية»، على نحو ما كان الأوروبيون يجدون في الأعمال الجغرافية التي وضعها أمثال «رافائيل دي مان» أن العلوم الطبيعية الغربية قد سبقت الشرق وجعلته قديم الطراز.31 ولكن الذي يتجلَّى لنا لا يقتصر على المزية التي يهيئها المنظور الغربي، بل يتجلَّى إلى جانبه انتصار حيلة فنية بارعة تتمثل في تناول الشرق الذي يتسم بخصب هائل وتبسيطه بحيث يستطيع الغربي غير المتخصص أن يعرفه بصورة منتظمة بل ووفق ترتيب الحروف الأبجدية. وأعتقد أن ما قاله «جالان» عن إرضاء «ديربيلو» لتوقعات القارئ كان يعني أن الببليوتيك لم يحاول مراجعة أو تعديل الأفكار التي شاعت قبله عن الشرق، فالذي يفعله المستشرق هو تأكيد صحة صورة الشرق في عيون قرائه، فهو لا يحاول ولا يريد زعزعة المعتقدات التي رسخت جذورها وثبتت من قبل. وكل ما فعله «ببليوتيك أورينتال» كان ينحصر في تمثيل الشرق تمثيلًا أشد اكتمالًا ووضوحًا، والمادة التي كانت مجموعة فضفاضة من الحقائق المكتسبة بصورة عشوائية عن التاريخ المنسوب بغموض إلى بلدان الشام، والصور الشعرية في الكتاب المقدس، والثقافة الإسلامية، وأسماء الأماكن وما إلى ذلك بسبيل، قد تحولت لديه إلى بانوراما شرقية عقلانية، مرتبة من الألف إلى الياء. ففي باب «محمد» في المعجم يبدأ «ديربيلو» بذكر أسماء النبي كلها، ثم يمضي ليؤكد قيمته الأيديولوجية والمذهبية على النحو الآتي:
هذا هو محمد، الدجال الشهير، صاحب ومؤسس البدعة التي اتخذت اسم الدين وهي التي ندعوها المحمدية. انظر باب الإسلام. وقد نسب مفسرو القرآن وغيرهم من علماء الشريعة الإسلامية أو المحمدية إلى هذا النبي الزائف جميع الصفات الحميدة التي نسبها الأريوسيون والبوليون وغيرهم من المارقين إلى يسوع المسيح، مع تجريده من ألوهيته … 32
وتعبير «المحمدية» يمثل التسمية الأوروبية الخاصة (والمهينة)؛ وأما «الإسلام»، وهو التسمية الصحيحة لدي المسلمين، فيؤخرها المؤلف إلى باب أقل مكانة. فكأنما استطاع المؤلف «اقتناص» تلك «البدعة المارقة … التي نسميها المحمدية» بأن اعتبرها محاكاةً لمحاكاة مسيحية للدين الحقيقي. وهكذا، في غمار الوصف التاريخي المطول لحياة محمد ، يستطيع «ديربيلو» أن يعود إلى السرد المباشر إلى حدٍّ ما. ولكن المهم هنا هو الموقع الذي وضع فيه باب «محمد» في الببليوتيك. أي إنه يُزيل الخطر الكامن في البدعة المنطلقة دونما ضابط أو رابط عندما يحولها إلى مادة ذات صبغة أيديولوجية صريحة تحت حرف الميم في المعجم، ومن ثَم يتوقف «محمد» عن الانطلاق في العالم الشرقي باعتباره فاسقًا يُنذر بالخطر بل يقبع في هدوء في الركن المخصص له بالمسرح الشرقي (وإن كان ركنًا بارزًا بلا جدال).33 والمؤلف يمنحه نَسَبًا ينتمي إليه، وشرحًا يوضحه، وتطورًا يمرُّ به، وكلها تتضمنه العبارات البسيطة التي تمنعه من الانطلاق إلى أماكن أخرى.

وأمثال هذه الصور التي بين أيدينا للشرق إنما هي صور وحسب، بمعنى أنها تمثِّل أو ترمز لكيان بالغ الضخامة، وهي تمكِّن المرء من فهمه أو رؤيته، وإلا استحال ذلك بسبب امتداده الشاسع. وهي كذلك «شخصيات» ترتبط ببعض الأنماط، مثل نمط المتفاخر أو البخيل أو الشَّرِه، التي يصورها «ثيوفراستوس، أو لابريير أو سِلْدِن»، وربما لا يكون صحيحًا كل الصحة أن نقول إن المرء يشاهد أمثالَ هذه الشخصيات مثلما يشاهد شخصية الجندي المتباهي المشاكس في الكوميديا الكلاسيكية، أو «الدجال» محمد؛ لأن التحديد العقلاني للشخصية لا يُفترض فيه، في أحسن الأحوال، إلا تمكين المرء من فهم النمط العام دون صعوبة ودون لبس أو غموض. ومع ذلك فإن شخصية محمد عند «ديربيلو» ما هي إلا صورة؛ لأن ما يسمَّى «النبي الزائف» جزءٌ من التمثيل المسرحي العام الذي يسمَّى الشرقي، والذي يضم «الببيلوتيك» أطرافه جميعًا.

والطابع التعليمي لتمثيل الشرق أو تصويره لا يمكن عزله عن سائر جوانب الكاتب. ففي عمل «عملي» مثل الببليوتيك أورينتال الذي كان ثمرة الدراسة المنتظمة والبحث، يفرض المؤلف نظامًا «تأديبيًّا» على المادة التي تناولها، كما أنه يريد أن يوضِّح للقارئ أن ما تقدمه إليه الصفحة المطبوعة حكمٌ على المادة يتسم بالنظام والانضباط، ويدلنا الببليوتيك بهذا الأسلوب على قوة الاستشراق وفعاليته، وهما اللتان تذكران القارئ في كل موقع من الكتاب بأنه إذا أراد أن يفهم الشرق فعليه من الآن فصاعدًا أن يمرَّ من خلال الشبكات والشفرات العلمية التي يقدمها المستشرق. ولا يقتصر الأمر على تطويع الشرق حتى يلائم المقتضيات الأخلاقية للمسيحية الغربية، بل إنه مقيد بسلسلة من المواقف والأحكام التي لا تُحيل العقل الغربي إلى الشرق نفسه؛ أولًا نشدانًا للتصحيح والتحقق بل إلى أعمال استشراقية أخرى. ويتحول مسرح الاستشراق، على نحو ما أطلقت عليه؛ إلى نظام للصرامة الأخلاقية والمعرفية. وهكذا فإن الاستشراق باعتباره مبحثًا يمثِّل المعرفة الغربية المؤسسية للشرق يكتسب قوةً تؤثر في ثلاث جهات: في الشرق، وفي المستشرق، وفي «المستهلك» الغربي للاستشراق. وأعتقد أنه من الخطأ التهوين من تقديرنا لقوة العلاقة الثلاثية التي تنشأ بهذا الأسلوب. إذ إن الشرق (ببلدانه الواقعة «بعيدًا هناك» باتجاه الشرق) يخضع للتصحيح بل وللعقاب لوقوعه خارج حدود المجتمع الأوروبي، وهو عالمنا «نحن»؛ وهكذا «يُفرض» على الشرق طابعٌ شرقي، وهو العمل الذي لا يبين فحسب أن الشرق هو مجال المستشرق بل يُرغم القارئ الغربي غير المدرب على قبول تصنيفات وتقنينات المستشرق (مثل ببليوتك ديربيلو المرتب هجائيًّا) باعتبارها تمثل الشرق الحقيقي. وباختصار تصبح الحقيقة دالةً من دوالِّ أحكام الدارسين لا من دوال المادة نفسها، وهي التي تبدو على مرِّ الزمن كأنما كانت تدين بوجودها نفسه للمستشرق.

وليس من الصعب تفهُّم أو شرح هذه العملية التعليمية برمتها، وعلينا أن نتذكر من جديد أن جميع الثقافات تفرض «تصحيحات» على الواقع فتُحوله من أشياء طليقة الحركة إلى وحدات معرفية. ولا تكمن المشكلة في حدوث هذا التحول. فمن الطبيعي تمامًا أن يقاوم الذهن البشري الهجوم الذي يتعرض له من جانب المادة الغريبة غير المعالجة؛ ولهذا كانت الثقافات دائمًا ما تتسم بميلها إلى فرض تحولات كاملة على الثقافات الأخرى، بحيث لا تستقبل هذه الثقافات الأخرى كما هي عليه بل — لفائدة الملتقي — كما ينبغي أن تكون عليه. ولكن الغربي كان دائمًا يرى شبهًا ما بين الشرقي وبين جانب من جوانب الغرب، فبعض الرومانسيِّين الألمان، مثلًا، كانوا يرون أن الديانة الهندية في جوهرها صورة شرقية لمذهب الحلول المسيحي الألماني، ومع ذلك فإن المستشرق يجعل عمله ينصبُّ دائمًا على تحويل الشرق من شيء إلى شيء آخر، وهو يفعل هذا من أجل ذاته، ومن أجل ثقافته، بل ويعتقد في بعض الأحيان أنه من أجل الشرقي. وهذا التحويل يتسم بالانضباط، فهو يُدرَّس للآخرين، وله جمعياته الخاصة، ومجلاته الدورية، وتقاليده، ومفرداته، وبلاغته، وهي ترتبط جميعًا، وبصورة أساسية، بالمعايير الثقافية والسياسية الغربية السائدة، وهي المعايير التي أنشأتها أصلًا. ومن الأرجح، على نحوِ ما سوف أبيِّن، أن يزداد لا أن يتناقص ما يحاول هذا التحول أن يفعله حتى يشمل الشرقَ كلَّه، إلى الحد الذي يجعل مَن يستعرض الاستشراق، في القرنين التاسع عشر والعشرين، يخرج بانطباعٍ غلَّاب بأن الاستشراق قد وضع هذا الرسم التخطيطي «البارد» للشرقِ كلِّه.

ويتضح من الأمثلة التي ضربتها لصور الشرق في اليونان القديمة أن وضع هذا الرسم التخطيطي قد بدأ في الغرب منذ عهد بعيد. ونستطيع الرجوع الآن إلى الجزء الأول من الكوميديا الإلهية التي كتبها «دانتي»، وعنوانه: «الجحيم»، لنرى ذلك واضحًا جليًّا في الصور التالية للشرق، وهي التي بُنيَت على أساس الصور الأولى، ولنرى أيضًا مدى الدقة في إعداد هذا الرسم التخطيطي، ومدى التأثير الدرامي للموقع الذي وُضع فيه في الجغرافيا الخيالية الغربية. وقد قال النقاد إن إنجاز «دانتي» في الكوميديا الإلهية يكمن في قدرته على الجمع بيسر وسهولة بين التصوير الواقعي للواقع الدنيوي وبين نسق عالمي خالد للقيم المسيحية؛ إذ إن «دانتي» الرحالة يمرُّ بأصقاع الجحيم والمطهر والفردوس فتبدو له رؤيا فريدة ليوم الحساب. فهو يرى مثلًا باولو وفرنشيسكا في مأواهما الأبدي وهو جهنم بسبب ما ارتكباه من خطايا، ولكننا نراهما أيضًا وهما يقومان بأدوار الشخصيات ويفعلان الأفعال التي أدَّت إلى ذلك المصير الأبدي، بل يعيشان حياة هذه الشخصيات. وهكذا فإن كلَّ شخص يبدو ﻟ «دانتي» في تلك الرؤيا لا يمثل ذاته فقط بل يعتبر تمثيلًا نمطيًّا لشخصيته وللمصير الذي حكم به عليه.

ويظهر «ماوميتو» — أي محمد — في النشيد الثامن والعشرين من الجحيم. و«دانتي» يضعه في الدائرة الثامنة من حلقات الجحيم التسع؛ أي الحلقة التاسعة من حلقات الشر العشر، وهي دائرة مليئة بالحُفَر المظلمة وتحيط بمعقل إبليس في النار. وهكذا وقبل أن يصل «دانتي» إلى محمد، يمر بدوائر أُلقي فيها الأشخاص الذين ارتكبوا ذنوبًا أقل جسامة، مثل الشهوانيِّين والبخلاء، والشَّرهين، وأصحاب البدع المارقة، والحاقدين الغضوبين، والمنتحرين، والمجدفين في الدين. وبعد دائرة محمد نصادف المزيفين والخونة (ومن بينهم يهوذا وبروتس وكاشيوس) قبل أن نصل إلى الدرك الأسفل من النار حيث نجد إبليس نفسه. ومن ثَم فهو يقول إنَّ محمدًا ينتمي إلى مرتبة معينة من المراتب المحددة بدقة للشرور، وهي المرتبة التي يسميها «دانتي» مرتبة «نشر الفضائح وإثارة الفتن». والعقاب السرمدي الذي يقرره لمحمد عقاب مقزز إلى حدٍّ بعيد … ويشرح محمد عقابه إلى «دانتي»، مشيرًا أيضًا إلى عليٍّ الذي يسبقه في صفِّ الخاطئين الذين يعذبهم أحد الزبانية، كما يطلب من «دانتي» أن يحذِّر رجلًا يُدعَى الراهب دولشينو من المصير الذي ينتظره، وهو كاهن مرتدٌّ كانت طائفته تدعو لشيوعية النساء والبضائع، وكان متهمًا بأن له عشيقة، ولا يخفى على القارئ أن «دانتي» كان يرى توازيًا بين النزعة الحسية المقززة عند دولشينو ومحمد، وكذلك بين ما كانا ينشدانه من سطوع النجم في مجال اللاهوت.

ولكن «دانتي» لا يكتفي بأن يقول ذلك عن الإسلام؛ إذ تظهر قبل ذلك في الجحيم مجموعة صغيرة من المسلمين، ونصادف «ابن سينا وابن رشد وصلاح الدين الأيوبي» بين «الوثنيِّين» الفضلاء الذين يحبسهم «دانتي» في الدائرة الأولى من دوائر الجحيم، مع «هكتور، وإينياس، وإبراهيم، عليه السلام، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو»، حيث ينالون الحد الأدنى (بل والمشرِّف) من العقاب، ما دامت الدعوة المسيحية لم تَصِلهم. و«دانتي» يُبدي إعجابه، بطبيعة الحال، بفضائلهم ومنجزاتهم العظيمة، ولكنه يجد لزامًا عليه أن يحكم عليهم بالعذاب في جهنم، مهما يكن مخفَّفًا؛ لأنهم لم يكونوا مسيحيِّين. صحيح أن الأبدية من أكبر ما يمحو الفوارق بين البشر، ولكن المفارقات التاريخية ومظاهر الشذوذ البادية في الجمع بين الشخصيات اللامعة في العصور السابقة للمسيحية وبين المسلمين الذين جاءوا بعدها في نفس المرتبة من مراتب «الوثنيِّين» في الجحيم لا يُقلق «دانتي». فعلى الرغم من أن القرآن يصف عيسى بأنه نبي، يختار «دانتي» أن يعتبر أن الفيلسوفَين المسلمَين العظيمَين «ابن سينا وابن رشد» والملك المسلم العظيم «صلاح الدين» كانوا أساسًا يجهلون المسيحية. وهكذا فإن إنزالهم نفس المنزلة المتميزة التي أنزل فيها «دانتي» أبطال وحكماء اليونان والرومان القدماء، يمثل رؤية تتجاوز التاريخ، وتُشبه رؤية الفنان «رافائيل» التي صورها في لوحته الجدارية مدرسة أثينا، ونرى فيها «ابن رشد» مجاورًا في ساحة المدرسة ﻟ «سقراط وأفلاطون» (ويشبه حوارية الموتى التي كتبها «فينيلون» [١٧٠٠–١٧١٨م] حيث يدور النقاش بين «سقراط وكونفوشيوس»).

وتعتبر مظاهر التمييز والتنقيح في الإدراك «الشعري» للإسلام عند «دانتي» مثالًا على الحتمية التصويرية التي تكاد تتصل بعلم الكون نفسه، والتي أدَّت إلى أن أصبح الإسلام، ومن قيل إنهم يمثِّلونه، من ابتداع التصورات الجغرافية والتاريخية الغربية، بل والتصورات الأخلاقية الغربية قبل هذا وذاك. وأما المعلومات الإمبيريقية عن الشرق أو عن أي منطقة فيه فلا يكاد يكون لها وزن، فالعامل الذي يعتدُّ به بل العامل الحاسم هو ما أسميته الرؤية الاستشراقية، وهي رؤية لا تقتصر على الباحث المحترف إطلاقًا، بل هي «ملكية شائعة» لجميع الغربيِّين الذين فكروا في أمر الشرق. وطاقات «دانتي» الشعرية تُعمق هذه المنظورات الخاصة بالشرق وتجعلها أكثرَ تمثيلًا له. فهو يثبت هذه الشخصيات — «محمد ، وصلاح الدين، وابن رشد وابن سينا» — في ضربٍ من علم الكون الخيالي: إنه يُثبتهم، ويعرضهم ويحتجزهم ويحبسهم، دون اعتبارٍ يُذكر لأيِّ شيء آخر فيما عدا «الوظيفة» والأنساق التي يحققونها على المسرح الذي يظهرون عليه. وقد وصف «إيزايا برلين» تأثيرَ أمثال هذه المواقف على النحو التالي:

يعتبر عالَمُ البشر في [مثل هذا] … النوع من علوم الكون (بل يعتبر الكون كله في بعض صور هذا العلم) هرمًا مدرَّجًا واحدًا وشاملًا، بحيث يصبح شرحك لسبب اتخاذ كلِّ شيء فيه صورته الخاصة ومكان وجوده وزمن وجوده وسبب فعله ما يفعله؛ شرحًا أيضًا في ذاته للهدف من وجوده، ومدى نجاحه في تحقيق هذا الهدف، وتحديد علاقات التنسيق والتبعية فيما بين أهداف شتى الكيانات التي تسعى لتحقيق أهداف معينة في الهرم المتناغم الذي تشكله معًا. فإذا كانت هذه صورة صادقة للواقع فلا بد أن ينحصر الشرح التاريخي — مثل كل شكل من أنواع الشروح — في تحديد الأماكن الملائمة للأفراد والجماعات والأمم وأنواع المخلوقات الأخرى في هذا النسق العالمي. وإذن فإن معرفة الموقع «الكوني» لشيء ما أو لشخص ما، معناها الإفصاح عمَّا هو عليه وما يفعله، وفي نفس الوقت سبب اتخاذه هذه الصورة وفعله ما يفعل. وهكذا فإن الوجود واكتساب قيمة ما، أو الوجود واتخاذ وظيفة ما (والنجاح إلى حدٍّ ما في أدائها)؛ شيءٌ واحد. فالنسق والنسق وحده هو الذي يتسبب في وجودِ كلِّ ما هو موجود، ويتسبب في فنائه، وإسباغ غرضٍ لوجوده؛ أي منحه القيمة والمعنى … وهكذا فإن الفهم معناه رؤية الأنساق … وكلما ازداد تبيانك لحتمية وقوع حادثة أو فعل أو وجود شخصية ما، ازداد فهمك لها، وازداد عمق نظرة الباحث الفاحصة، وازداد اقترابنا من الحقيقة الواحدة النهائية.

وهذا الموقف مضادٌّ في أعماقه للموقف الإمبيريقي التجريبي.34
ويصدق هذا، حقًّا، على موقف الاستشراق بصفة عامة، فهو يشترك مع السحر ومع الأساطير في نظامه المغلق، التام بذاته، والذي يدعم ذاته، وفيه نرى أن الأشياء تتخذ الصورة التي تتخذها؛ لأنها خُلقت على هذه الصورة، في اللحظة الراهنة وعلى مرِّ الزمنِ كلِّه، ولأسباب وجودية لا تستطيع أيُّ مادة إمبيريقية زحزحتَها عن مكانها أو تغييرها. وقد أدَّى اللقاء الأوروبي مع الشرق، وخصوصًا مع الإسلام، إلى تدعيم النظام المشار إليه لتمثيل الشرق، وكذلك، على نحوِ ما قال «هنري بيرين»، إحالة الإسلام إلى صورة مجسدة للقوة الخارجية التي قامت الحضارة الأوروبية كلها على أساس معاداتها منذ العصور الوسطى. ويقول «بيرين»: إن تدهور الإمبراطورية الرومانية نتيجة لغزوات «الهمجيين» كان له تأثيرٌ يتسم بمفارقة، وهو إدراج الأساليب «الهمجية» في الثقافة الرومانية وثقافة البحر المتوسط، كحال رومانيا، ويمضي «بيرين» قائلًا إنه كان من عواقب الغزوات الإسلامية التي بدأت في القرن السابع أن انتقل مركز الحضارة الأوروبية إلى خارج البحر المتوسط، وهو الذي كان تحت إمرة العرب؛ أي نحو الشمال، «وهكذا بدأت الثقافة الجرمانية تلعب دورها في التاريخ؛ فلقد كانت التقاليد الرومانية متصلة الحلقات حتى ذلك الوقت، ولكن حضارة رومانية جرمانية كانت توشك أن تنشأ آنذاك»، كانت أوروبا منغلقة على نفسها، وكان الشرق مجردَ مكان للتبادل التجاري، وفيما عدا ذلك كان يقع ثقافيًّا وفكريًّا وروحيًّا خارج أوروبا والحضارة الأوروبية، وهي التي أصبحت، بتعبير «بيرين» «مجتمعًا مسيحيًّا كبيرًا، مرادفًا للكنيسة … وكان الغرب آنئذٍ يحيَا حياته الخاصة به».35 ففي قصيدة «دانتي»، وفيما كتبه «بطرس المبجل»، وغيره من المستشرقين الكلونيِّين، وفي كتابات المسيحيِّين الذين حاولوا إقامة الحجة على الإسلام — من «جيبير النوجنتي والقديس بيد»، إلى «روجر بيكون، ووليم الطرابلسي، وبيرشادر «ابن جبل صهيون»، إلى لوثر» — وفي قصيدة إليسد وأنشودة رولان، وفي مسرحية عطيل ﻟ «شيكسبير» («ذلك الذي أفسد العالم») يتخذ «تمثيل» الشرق والإسلام دائمًا صورة القوى الخارجية التي تنهض بدورٍ خاصٍّ داخل أوروبا.

وهكذا فإن الجغرافيا الخيالية — من الصور الواقعية الحية التي نجدها في الجحيم إلى الإشارات النثرية في الببليوتيك أورينتال لديربيلو — تُضفي الشرعية على مفردات معينة، وعلى عالم من «الخطاب التمثيلي» المقصور على مناقشة الإسلام والشرق وفهمهما. وما يعتبره هذا «الخطاب» حقيقة — كالقول إنَّ محمدًا كان دجالًا — يعتبر عنصرًا من عناصر هذا «الخطاب» أو بيانًا لشيء يُرغم «الخطابُ» المرءَ على الإقرار بصحته كلما ظهر اسم محمد . وتحت شتى وحدات «الخطاب» الاستشراقي — ولا أعني بها أكثر من المفردات المستخدمة كلما أصبح الشرق موضوعًا للحديث أو الكتابة — تكمن مجموعة من الصور التمثيلية أو الاستعارات. وعلاقة هذه الصور بالشرق الحقيقي — أو بالإسلام، وهو مدار اهتمامي الرئيسي هنا — تُشبه علاقة الملابس النمطية بالشخصيات في إحدى المسرحيات، فهي تُشبه مثلًا الصليب الذي يحمله الممثل الذي يلعب دور «كل إنسان» في المسرحية التي تحمل ذلك العنوان، أو الحلة المتعددة الألوان التي يرتديها المهرج في إحدى مسرحيات الحِرَف الإيطالية (كوميديا ديلارتي). وبتعبير آخر لا ينبغي لنا أن نبحث عن أيِّ اتفاق بين اللغة المستخدمة في تصوير الشرق وبين الشرق نفسه، ولا يرجع سبب ذلك إلى أن اللغة تفتقر إلى الدقة بقدر ما يرجع إلى أنها لا تحاول توخِّي الدقة. وأما الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه دومًا — على نحو ما فعل «دانتي» في الجحيم — فهو تحديد صورة الشرق باعتباره أجنبيًّا، وإدخاله — وفق الرسم التخطيطي الموضوع — إلى مسرحٍ روادُه ومديره وممثلوه يتوجهون بعملهم إلى أوروبا، وإلى أوروبا وحدها. ومن هنا جاء التذبذب بين المألوف والأجنبي. فمحمد هو الدجال دائمًا (مألوف لأنه يتظاهر بأنه مثل المسيح الذي نعرفه) وهو الشرقيُّ دائمًا (أجنبيٌّ لأنه، وإن كان «يشبه» المسيح من بعض الزوايا، فإنه في آخر الأمر ليس مثله).

وبدلًا من رصد جميع الصور البلاغية المرتبطة بالشرق — بغرابته، واختلافه، ونزعته الحسيَّة العجيبة وما إلى ذلك — نستطيع التعميم في وصف الشكل الذي وصلتنا به أو تلقيناها به من خلال عصر النهضة، فنقول إنها جميعًا تتسم بالإفصاح الصريح وطابع «البداهية»، والزمن الذي تستخدمه هو الأزلي أو «اللازمني»، وهي تُوحي بالتكرار والقوة، وهي دائمًا ما تتصف بالتماثل مع نظائرها الأوروبية، وإن كانت أدنى إلى أقصى حدٍّ من هذه النظائر الأوروبية التي قد تكون محددة أحيانًا وغير محددة في أحيان أخرى. وتحقيق هذه الوظائف كلها لا يتطلب في كثير من الأحيان أكثر من استعمال الزمن المضارع — وهو أبسط رابطة نحوية — على غرار القول بأن محمدًا دجال، وهي العبارة التي أضفي عليها «ديربيلو» مسحة قداسة في الببليوتيك وأكسبها «دانتي» طابعًا دراميًّا من لون ما، دون أن يرى أحدٌ ضرورةً لذكر الخلفية أو الأدلة اللازمة، فالدليل اللازم لإدانة محمد قائم في صيغة الزمن المضارع. كما لا يُقْدِم أحد على وضع شرائط أو صفات في العبارة، بل ولا يرى أحد أيَّ ضرورة للقول بأن محمدًا كان دجَّالًا، كما لا ينظر أحد إطلاقًا في إمكان الاستغناء عن تكرار العبارة، ومع ذلك فالكُتَّاب يكررونها، ونقرأ من جديد أنه دجال، وفي كل مرة تُقال تزداد صفة الدجل رسوخًا، ويكتسب المؤلف المزيد من السلطة والحجيَّة في إعلان ذلك. وهكذا فإن السيرة الشهيرة للنبيِّ محمد التي كتبها «همفري بريدو» في القرن السابع عشر، تحمل عنوانًا فرعيًّا هو الطابع الحقيقي للدجل. وأخيرًا، بطبيعة الحال، نجد أن أمثال هذه المراتب، كالدجال (أو حتى كالشرقي) تُوحي ضمنًا، بل وتتطلب فعلًا مقابلًا مضادًّا لها بحيث يكون شيئًا مختلفًا اختلافًا صادقًا ولا يحتاج إلى بذل جهد لا ينتهي في تحديد هويته بصراحة. وهذا المقابل المضاد «غربي»، أو هو يسوع المسيح في حالة محمد عليهما السلام.

وهكذا نرى من الزاوية الفلسفية، أن نوع اللغة والفكر والرؤية الذي أطلقتُ عليه صفة الاستشراق، يعتبر بتعميم شديد شكلًا من أشكال الواقعية الراديكالية؛ فكلُّ مَن يستعمل الاستشراق — وهو اعتياد التعامل مع المسائل والأشياء والصفات والأصقاع التي تعتبر شرقية — يقوم بتحديد وتسمية وتثبيت والإشارة إلى ما يتحدث عنه أو ما يفكر فيه بكلمة واحدة أو بعبارة واحدة، يُرى بعدها أنها قد اتخذت طابع الواقع أو أصبحت الواقع وحسب. ويعتبر الاستشراق من الناحية البلاغية الصرفة ذا منهج تشريحي وتعديدي بشكل مطلق، واستخدام مفرداته يعني القيام بتقسيم الموضوعات الشرقية وتفتيتها بحيث تصبح ميسورة المعالجة. ويعتبر الاستشراق من الناحية السيكلوجية شكلًا من أشكال الخيلاء المرضي، أو معرفة من نوع آخر، أو قل من نوع يختلف عن المعرفة التاريخية العادية. وأعتقد أن هذه بعض نتائج الجغرافيا الخيالية والحدود المسرحية التي ترسمها. ولكن أمامنا بعض الصور التي اتخذتها هذه النتائج الاستشراقية بسبب تحولاتها الخاصة في العصر الحديث، ولا بد لي أن أتناولَها الآن.

ملاحظة

حذفت عبارات تتضمن تفاصيلَ أستحي من إيرادها. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤