ثالثًا: مشروعات

لا بد لنا من دراسة النجاحات العملية البراقة التي حققها الاستشراق، وإن اقتصرت الغاية على معرفة مدى الخطأ (ومدى المجافاة الكاملة للواقع) في الفكرة التي عبَّر عنها «ميشيليه»، وتتضمن التهديد المهيب الذي يقول بأن «الشرق يتقدم، بخُطًى لا تُقهر، للقضاء على أرباب النور بجاذبية أحلامه، وبسحرِ أضوائه الخافتة»1 لقد مرت العلاقات الثقافية والمادية والفكرية بين أوروبا والشرق بمراحل لا تُعَد ولا تُحصى، وإن كان الخط الفاصل بين الشرق والغرب قد ترك انطباعًا معينًا ولا يتغير في أوروبا، ومع ذلك، وبصفة عامة، كان الغرب هو الذي «يتحرك» نحو الشرق، لا العكس. والاستشراق هو «اسم الجنس» الذي استعملتُه في وصف مدخل الغرب إلى الشرق؛ فالاستشراق هو المبحث الذي استطاع الغرب بفضله (ولا يزال) أن يتناول الشرق بالبحث العلمي بصورة منتظمة، وأن يبذل فيه جهوده في الاستكشاف وفي العمل أيضًا. ولكنني استعملت الكلمة، بالإضافة إلى ذلك، في الإشارة إلى تلك المجموعة من الأحلام والصور الشعرية والمفردات المتاحة لكل مَن حاول الحديث عمَّا يقع شرقيَّ ذلك الخط الفاصل. ولا تناقض بين هذين الجانبين من جوانب الاستشراق؛ إذ استطاعت أوروبا باستعمالهما معًا أن تتقدم آمنة، تقدمًا حقيقيًّا، نحو الشرق. وهنا أودُّ أن أنظر بصفة رئيسية في الأدلة المادية على هذا التقدم.

ظل تاريخ الشرق، باستثناء الإسلام، حتى القرن التاسع عشر، تاريخ سيادة غربية متصلة الحلقات دون تحدٍّ من جانب أحد. ويصدق هذا بوضوح على الوجود البريطاني في الهند، والوجود البرتغالي في جزر الهند الشرقية، والصين واليابان، والوجود الفرنسي والإيطالي في شتى مناطق الشرق. وكانت تقع أحداث عارضة يتمرد فيها السكان فيعكرون صفو الصورة الشاعرية، على نحو ما حدث في ١٦٣٨-١٦٣٩م حين هبَّت مجموعة من المسيحيِّين اليابانيِّين فطردت البرتغاليِّين من المنطقة، ولكن الشرق العربي والإسلامي وحده هو الذي كان يمثِّل لأوروبا، بصفة عامة، تحدِّيًا لم يُحسم على المستويَين السياسي والفكري، وعلى المستوى الاقتصادي أيضًا لفترة ما. وإذن فإنَّ جانبًا كبيرًا من تاريخ الاستشراق يحمل في داخله طابع الموقف الأوروبي المُشكل إزاء الإسلام، وهذا الجانب البالغ الحساسية من الاستشراق هو الذي يدور حوله اهتمامي في هذه الدراسة.

ولا شك أن الإسلام كان يمثِّل مصدرَ استفزاز حقيقي من زوايا عديدة؛ فموقعه مجاورٌ وقريب من المسيحية، جغرافيًّا وثقافيًّا، إلى حدٍّ مقلق. فلقد انتفع بالتقاليد اليهودية اليونانية، وأبدع فأتى بالجديد فيما أخذه من المسيحية، وحقَّق من النجاحات العسكرية والسياسية التي لا تُبارَى ما حُقَّ له أن يتفاخر به. بل لم يقتصر الأمر على ذلك؛ إذ إن الأراضي الإسلامية تُجاور بل تقع في بعضها الأماكن المذكورة في الكتاب المقدس. أضِف إلى ذلك أن قلب الدولة الإسلامية كان دائمًا يقع في أقرب المواقع إلى أوروبا، أو ما يسمَّى بالشرق الأدنى. والعربية والعبرية من اللغات السامية، وهما معًا «تتصرفان» وتُعيدان «التصرف» في المادة التي تكتسي أهميةً بالغة للمسيحية. ومنذ آخر القرن السابع حتى موقعة ليبانتو البحرية عام ١٥٧١م كان الإسلام بإحدى صورِه — العربية أو العثمانية أو الشمال أفريقية أو الإسبانية — سائدًا أو مصدرَ تهديدٍ فعليٍّ للمسيحية الأوروبية. ومن المحال أن يغيب عن ذهن أي أوروبي، في الماضي أو في الحاضر، أن الإسلام استطاع التفوق على روما وسطع نجمه سطوعًا أشد. ولا يُستثنى من ذلك أحد حتى «جيبون» نفسه، على نحو ما يتضح من هذه الفقرة من كتابه عن تاريخ تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها:

كان مجلس الشيوخ في أيام انتصارات الجمهورية الرومانية يعمِد إلى أن تقتصر مجالسُها وفيالقها على حرب واحدة، وأن تقهرَ العدو الأول قهرًا كاملًا قبل استفزازِ عدوٍّ ثانٍ ودفعه إلى ساحة القتال. ولكن هذه القواعد العامة في السياسة، بما تنمُّ عنه من جبن، لم تكن تلقَى من الخلفاء العرب إلا الاستهجان، سواء كان ذلك بدافع النخوة أو الحماس، فقاموا بقوة ونجاح بغزوِ ممالك الحكام الذين خلفوا «أوغسطس قيصر وأرتخششا» (كسرى الفرس)، فوقعَت المملكتان المتنافستان في وقت واحد فريسةً لعدو كانوا قد اعتادوا التهوين من شأنه زمنًا طويلًا. ففي سنوات إدارة عمر بن الخطاب العشر، أخضع المسلمون لسلطانه وطاعته ستَّةً وثلاثين ألف مدينة أو قلعة، ودمروا أربعة آلاف كنيسة أو معبد من معابد الكفار، وأقاموا ألفًا وأربعمائة مسجد للعبادة وفقًا للدين الذي أتى به محمد. فبعد مائة عام من هجرته من مكة إلى المدينة أصبح نفوذ خلفائه وسلطانهم يمتدُّ من الهند إلى المحيط الأطلسي بل وشتى المناطق البعيدة …2
وحينما كان لفظُ الشرق لا يقصد به أن يكون مرادفًا للشرق الآسيوي بصفة عامة، أو يقصد به البعيد والغريب بصفة عامة، كان مفهومه يقتصر اقتصارًا صارمًا على الشرق الإسلامي. وأصبح هذا الشرق «المقاتل» يرمز لما يُطلق عليه «هنري بوديه» تعبيرَ «موجة المد الآسيوية».3 وكان ذلك، ولا شك، هو الواقع في أوروبا حتى منتصف القرن الثامن عشر، وهي المرحلة التي لم تَعُد فيها «مستودعات» المعرفة «الشرقية» مثل كتاب الببليوتيك أورينتال الذي ألَّفه «ديربيلو» تعني الإسلام أو العرب أو العثمانيِّين في المقام الأول. فحتى ذلك الوقت نجد أن الذاكرة الثقافية كانت تُبرز بعض الأحداث التي بَعُد العهد بها نسبيًّا — وهو أمر مفهوم — مثل سقوط القسطنطينية، والحملات الصليبية، وفتح صقلية وإسبانيا، ولكن إذا كانت هذه الأحداث تدل على الخطر الذي يتهدَّد أوروبا من الشرق، فإنها لم تطمس في الوقت نفسه ما بقيَ من آسيا.
كانت مسألة الهند قائمةً دائمًا؛ فبعد أن أنشأ البرتغاليون القواعدَ الأولى والرائدة للوجود الأوروبي في بدايات القرن السادس عشر، فرضت أوروبا، ابتداءً بإنجلترا، بعد فترة طويلة من النشاط التجاري أساسًا (من ١٦٠٠ إلى ١٧٥٨م) سيطرتها السياسية على الهند باعتبارها قوة احتلال. ولكن الهند لم تكن تمثِّل قط في ذاتها تهديدًا لأوروبا. لكنه حين انهارت السلطة المحلية في الهند، فانفتح الطريق أمام التنافس بين الدول الأوروبية وأمام السيطرة السياسية الأوروبية المباشرة، بدأت أوروبا تُعامل الهند باستعلاء المالك المتحكم دون أدنى إحساس بالخطر الذي كانت تكنُّه للإسلام وحده.4 ومع ذلك فقد كانت ثَمَّ هُوَّة شاسعة تفصل بين ذلك الاستعلاء وبين المعرفة الإيجابية الدقيقة بأي صورة من الصور، والأبواب التي يخصصها «ديربيلو» للموضوعات الهندية-الفارسية في الببليوتيك تستند جميعًا إلى مصادر إسلامية، ويصح القول بأن «اللغات الشرقية» كانت تعتبر مرادفةً «للغات السامية» حتى أوائل القرن التاسع عشر. والنهضة الشرقية التي تحدَّث عنها «كينيه» كانت تقتصر وظيفتها على توسيع بعض الحدود الضيقة إلى حدٍّ بعيد، والتي كان الإسلام فيها يمثِّل الجعبة الشرقية التي تضمُّ كلَّ شيء.5 ولم يُقدَّر للغة السنسكريتية، والديانة الهندية والتاريخ الهندي، أن تكتسب مكانةَ المعرفة العلمية إلا بعد أن بذل السير «وليم جونز» جهودَه في هذا الصدد في أواخر القرن الثامن عشر، بل إن اهتمام «جونز» بالهند لم يأتِه إلا عن طريق اهتمامه السابق بالإسلام ومعرفته له.
وليس من المدهش إذن أن يكون أولُ عمل رئيسي في الدراسات الشرقية بعد كتاب الببليوتيك الذي ألَّفه «ديربيلو» هو تاريخ المسلمين الذي كتبه «سايمون أوكلي» وظهر أول مجلد من مجلداته في عام ١٧٠٨م، ويرى أحد المؤرخين المحدثين للاستشراق أن موقف «أوكلي» تجاه المسلمين — وهو أن المسيحيِّين الأوروبيِّين يدينون لهم بالفضل في أول ما عرفوه من الفلسفة — قد أحدث «صدمة أليمة» في نفوس قرَّائه الغربيِّين. إذ إن «أوكلي» لم يقتصر على إيضاح ذلك التفوق الإسلامي في كتابه، بل «أتاح لأوروبا أيضًا أول مذاقٍ حقيقيٍّ وكبير لوجهة النظر العربية فيما يتعلق بالحروب مع بيزنطة والفرس»6 ومع ذلك، فقد حرص «أوكلي» على أن ينفيَ تعرُّضَه للإصابة بتأثير الإسلام المُعدِي، وكان يصرِّح دائمًا، على عكس زميله «وليم ويستون» (الذي خلف «نيوتن» في كيمبريدج) أن الإسلام بدعة منفرة. وأما «ويستون» فقد أدَّى حماسُه للإسلام إلى طرده من جامعة كيمبريدج عام ١٧٠٩م.

كان على كلِّ مَن يريد أن يَصِل إلى كنوز الهند (الشرقية) أن يعبرَ أولًا، وفي كل الأحوال، البلدان الإسلامية، وأن يقاوم تأثيرَ الإسلام الخطر باعتباره مذهبًا عقائديًّا شبه أريوسي. ولقد نجحت بريطانيا وفرنسا في ذلك، في القسم الأكبر من القرن الثامن عشر على الأقل؛ إذ كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى مرحلة شيخوخة مريحة (لأوروبا)، وأصبح يُشار إليها فيما بعد؛ أي في القرن التاسع عشر، باسم «المسألة الشرقية». ودارَت الحرب بين بريطانيا وفرنسا في الهند من عام ١٧٤٤م إلى عام ١٧٤٨م، ومن جديد ما بين عامَي ١٧٥٦و١٧٦٣م، حتى دانت السيطرة الاقتصادية والسياسية عمليًّا لبريطانيا على شبه القارة الهندية في عام ١٧٦٩م. وكان من المحتوم، ولا شك، أن يختار «نابليون» «مضايقة» إمبراطورية بريطانيا الشرقية ابتداءً بقطع طريق مواصلاتها الإسلامي في مصر.

كان قد سبق «نابليون» — مباشرة تقريبًا — في غزوه لمصر عام ١٧٩٨م، وإغارته على الشام، مشروعان استشراقيان كبيران على الأقل، ولكن عواقب حملة «نابليون» بالنسبة لتاريخ الاستشراق الحديث كانت أكبرَ كثيرًا من عواقب هذين المشروعين. ولم تُبذَل قبل «نابليون» إلا محاولتان فقط (تمثَّلتا في جهود اثنين من العلماء) لغزو الشرق بنزع الأستار التي تُخفيه وأيضًا بتجاوز الملجأ الآمن نسبيًّا للشرق المذكور في الكتاب المقدس. قام بالمحاولة الأولى «إبراهام-هياسنت أنكتيل-ديبرون» (١٧٣١–١٨٠٥م)، وكان غريب الأطوار، يدعو لنظرية المساواة بين البشر، ويستطيع التوفيق في ذهنه بين اليانسية؛ وهو المذهب الذي يقول إن الإنسان مسيَّر، وبين الكاثوليكية الصحيحة والبراهمانية؛ وهي الدين الهندوسي الذي يقول بوجود جوهر خالد أو روح خالدة للكون. وقد سافر إلى آسيا حتى يثبت الوجود الفعلي والبدائي «للشعب المختار» ولسلالات الأنساب الواردة في الكتاب المقدس. وبدلًا من ذلك تجاوز هدفه الأول، وظل يرحل شرقًا حتى وصل إلى ميناء سورات، في غربي الهند على ساحل بحر العرب، وفيه وجد كنزًا من نصوص الأفستا؛ وهي الكتابات المقدسة للزرادشتية، وأقام فيه حتى أكمل ترجمته للأفستا. ويقول «ريمون شواب» عن النص القصير المقتطع من الأفستا، والذي دفع «أنكتيل» إلى القيام برحلاته إنه إذا «كان الباحثون ينظرون إلى النص المقتطع من الأفستا في أوكسفورد ثم يعودون إلى دراساتهم، فإن «أنكتيل» نظر فيها ثم ذهب إلى الهند». ويقول «شواب» أيضًا: إن «أنكتيل» و«فولتير»، على ما بينهما من اختلافات لا أمل في التوفيق بينها في الطبع والأيديولوجيا، كان لديهما نفسُ الاهتمام بالشرق والكتاب المقدس؛ «فالأول يريد أن يؤكد أن الكتاب المقدس يقينٌ لا جدال فيه، والثاني يريد تأكيد أنه غريب لا يُصدَّق». ومن المفارقات أن تؤديَ ترجمة «أنكتيل» للأفستا إلى خدمة أغراض «فولتير»؛ لأن مكتشفات «أنكتيل» «سرعان ما أدَّت إلى نقد النصوص نفسها [من الكتاب المقدس] التي كانت تعتبر حتى ذلك الحين نصوصًا مُنزَّلة». وقد أجاد «شواب» وصفَ الأثر النهائي لرحلة «أنكتيل» قائلًا:

في عام ١٧٥٩م انتهى «أنكتيل» من ترجمته للأفستا في مدينة سورات بالهند؛ وفي عام ١٧٨٦م أكمل ترجمته لنصوص الأوبانيشاد في باريس، وهكذا حفر قناة تربط بين «نصفَي كرة» العبقرية الإنسانية، فصحح ووسع المذهب الإنساني القديم لحوض البحر المتوسط. وقبل أقل من خمسين سنة، كان مواطنوه يُسألون عن معنى أن يكون المرء فارسيًّا، عندما علَّمهم أن يقارنوا آثار الفرس بآثار اليونان، وكان المرء قبل عهد «أنكتيل» يقتصر في طلبه للمعلومات عن الماضي السحيق لكوكبنا على البحث في أعمال عظماء الكتاب اللاتينيِّين واليونانيِّين واليهود والعرب، وكان الكتاب المقدس يعتبر صخرةً فريدة أو حجرًا نيزكيًّا نزل من السماء. كان أمام الناس عالم كامل في الأعمال المكتوبة، لكنه كان يندر أن يتصور أحدٌ مدى اتساع تلك الأراضي الشاسعة المجهولة. وقد بدأ الإدراك مع ترجمة «أنكتيل» للأفستا ووصل إلى ذُرًى سامقة شاهقة بسبب استكشافه في آسيا الوسطى للغات التي تكاثرت بعد بابل. وكانت المواد الدراسية في مدارسنا تقتصر حتى ذلك الحين على التراث اليوناني اللاتيني الضيق الخاص بعصر النهضة الأوروبية [وكان جانبٌ كبير منه قد نقله الإسلام إلى أوروبا] فأدخل «أنكتيل» فيها رؤيةً للحضارات التي لا تُحصى وتنتمي للزمن السحيق، ورؤية لآداب لا نهاية لها؛ إلى جانب الوعي بأن الأقاليم الأوروبية المحدودة لم تكن وحدها البقاع التي تركت بصمتها في التاريخ.7

وهكذا ولأول مرة اكتشفت أوروبا الشرق في الطابع المادي لنصوصه ولغاته وحضاراته. واكتسبت آسيا لأول مرة أيضًا بُعدًا فكريًّا وتاريخيًّا دقيقًا، دعم أساطير بُعْدها واتساعها الجغرافي. وكان من المحتوم أن تأتيَ في أعقاب هذا التوسع الثقافي الفجائي جهود تقليص وتكثيف تحقق التوازن معه، وهكذا تلت جهود «أنكتيل» الشرقية جهودُ «وليم جونز» الذي يمثل ثاني المشروعَين السابقَين ﻟ «نابليون»، وهما المشروعان اللذان أشرت إليهما آنفًا. فإذا كان «أنكتيل» قد فتح آفاقًا عريضة، فإن «وليم جونز» أغلقها، بوضع قواعد التحليل والتصنيف والمقارنة. وقبل أن يرحل «جونز» إلى الهند في عام ١٧٨٣م كان قد تمكَّن من اللغات العربية والعبرية والفارسية. وربما كانت أدنى منجزاته؛ إذ كان أيضًا شاعرًا، وفقيهًا في القانون، وبحرًا في علوم شتى، وضليعًا في الدراسات اليونانية واللاتينية، وباحثًا لا يكلُّ ولا يملُّ، تؤهله طاقاته للمقارنة بطاقات «بنجامين فرانكلين» و«إدموند بيرك ووليم بت وصمويل جونسون». وعندما حان الوقت عيِّن في «منصب مشرِّف ومربح في بلاد الهند» وما إن وصل إليها لتسلُّم منصبه في شركة الهند الشرقية حتى بدأ برنامج دراسته الشخصية الذي انتهى به إلى جمع المادة الخاصة بالشرق، وفصلها عن غيرها، وإضفاء الألفة عليها حتى جعل الشرق مجالًا للدراسة الأوروبية. وأما عن عمله الشخصي الذي جعل عنوانه: «موضوعات البحث خلال إقامتي في آسيا» فقد عدَّد فيه وبيَّن موضوعات بحثه، وهي: «قوانين الهندوس والمسلمين، وشئون السياسة الحديثة في هندوستان وجغرافيتها، وأفضل طريقة لحكم البنغال، وعلم الحساب والهندسة، وخليط من علوم أهل آسيا، والطب، والكيمياء، والجراحة، وشكل أجسام الهنود، والمنتجات الطبيعية للهند، والشعر، والبلاغة وشرائع الأخلاق في آسيا، وموسيقى الأمم الشرقية، والمبادلات، والصناعة، والزراعة والتجارة في الهند» وما إلى ذلك. وفي ١٧ أغسطس ١٧٨٧م كتب بتواضع إلى اللورد «أولثورب» يقول «طموحي أن أعرف الهند خيرًا مما عرفها من قبل أي أوروبي.» وفي هذا وجد «بلفور» في عام ١٩١٠م أول إشارة بنى عليها زعمه بأنه الإنجليزي الذي يعرف الشرق معرفة أكبر وأفضل من معرفة أي فرد سواه.

كان «جونز» يعمل رسميًّا بالقانون، وهو عمل له دلالته الرمزية لتاريخ الاستشراق. فقبل أن يصل «جونز» إلى الهند بسبعة أعوام كان «وارين هيستنجز» قد قرر أن يُحكم الهنودُ وفقًا لقوانينهم، وهو مشروع ينبئ عن جهد وطموح أكبر مما يبدو للوهلة الأولى؛ إذ إن المدونة السنسكريتية للقوانين لم تكن متاحة للأغراض العملية إلا في ترجمة فارسية، ولم يكن بين الإنجليز مَن يُجيد السنسكريتية إلى الحد الذي يمكِّنه من الرجوع إلى النصوص الأصلية. وقام أحد موظفي الشركة واسمه «تشارلز ويلكنز» بتعلم اللغة السنسكريتية أولًا حتى أجادها، ثم بدأ يترجم «مجموعة المبادئ القانونية» المنسوبة إلى «مانو»، أول البشر في الأساطير الهندية، وسرعان ما انضم إليه جونز ليساعده في الترجمة (وكان «ويلكنز» بالمناسبة أول مترجم للحوارية الفلسفية الهندية بوجافد-جيتا، وتكتب بهاجافاد-جيتا) وفي يناير ١٧٨٤م دعا إلى عقد أول اجتماع للجمعية الآسيوية للبنغال، وهي التي كانت تمثِّل للهند ما تمثله الجمعية الملكية لإنجلترا. وباعتبار «جونز» أول رئيس للجمعية وباعتباره قاضيًا كذلك، فقد اكتسب المعرفة الفعالة عن الشرق والشرقيِّين، وهي التي جعلته فيما بعد المؤسس الذي لا نزاع عليه للاستشراق (بالتعبير الذي أطلقه عليه «أ. ج. آربري»). كانت أهداف جونز أن يحكم ويتعلم ثم يقارن الشرق بالغرب، ومن المعتقد أنه حقق هذه الأهداف بنزعته التي لا تقاوم للتقنين ولإخضاع التنوع الذي لا حدَّ له في الشرق إلى «موجز مكتمل» من القوانين والشخصيات والعادات والأعمال. وأشهر أقواله في هذا الصدد يُفصح عن مدى الصبغة المقارنة التي اكتسبها الاستشراق، حتى في بداياته الفلسفية؛ أي إنه كان مبحثًا مقارنًا؛ هدفه الرئيسي إثبات أن اللغات الأوروبية مستمدة من مصدر شرقي بعد العهد به ولا ضرر فيه:

تتميز اللغة السنسكريتية، مهما يكن قِدَمُها، ببنائها الرائع، فهي أشد إحكامًا من اليونانية، وأشد ثراء من اللاتينية، وتزيد في دقتها الخلابة عن أيٍّ منهما، ومع ذلك فالصلات التي تربطها بهما؛ سواء في أصول الأفعال أو الأشكال النحوية، أقوى من أن ننسبها إلى المصادفة فحسب؛ بل إن هذه الصلات على درجة من القوة يستحيل معها على أيِّ باحث في فقه اللغة أن يدرس هذه اللغات الثلاث دون أن يعتقد أنها نبعت جميعًا من مصدر مشترك ما.8
وكان عدد كبير من أوائل المستشرقين الإنجليز في الهند مثل «جونز» من المتخصصين في القانون، وكان عدد آخر منهم — وفي هذا ما فيه من طرافة — من رجال الطب ذوي الميول التبشيرية القوية. وفي حدود ما نعرف، كانوا يسعون لتحقيق غرض ذي شقين، وهما البحث في «علوم وفنون آسيا، على أمل تيسير تحسين الأحوال هناك، وكذلك تقدم المعرفة والارتقاء بالفنون في الوطن»9 على نحو ما جاء في تعريف الهدف الاستشراقي المشترك في المجلد الصادر في الذكرى المئوية لإنشاء الجمعية الآسيوية الملكية التي أسَّسها «هنري توماس كولبروك» عام ١٨٢٣م. كان المستشرقون المحترفون الأوائل من أمثال «جونز» يقتصرون على محاولة تحقيق هدفين في التعامل مع الشرقيِّين المحدثين، لكننا لا نستطيع اليوم أن نؤاخذهم على القيود المفروضة على إنسانيتهم من جراء وجودهم الغربي الرسمي في الشرق، فلقد كانوا إما قضاة وإما أطباء؛ بل إن «إدجار كينيه» الذي كان يكتب بنبرات فلسفية أكثر منها واقعية، كان لديه وعيٌ غامض بهذه العلاقة «العلاجية»، فقال في كتابه: «عبقرية الأديان» «إن آسيا لديها الأنبياء، وأوروبا لديها الأطباء».10 كانت الدراسة الصحيحة للشرق تنطلق من الدراسة المتقنة للنصوص القديمة، ولا تبدأ إلا عند الانتهاء من ذلك في تطبيق تلك النصوص على الشرق الحديث. ولما كان المستشرق الأوروبي يواجه الشيخوخة الظاهرة والعجز السياسي للشرقي الحديث، فقد وجد من واجبه إنقاذَ قدرٍ ما من الجلال الشرقي الكلاسيكي القديم الذي فُقد، بهدف «تيسير تحسين الأحوال» في الشرق القائم حاليًّا. أما ما أخذه الأوروبي من الماضي الشرقي القديم فكان رؤية معينة (وآلاف الحقائق والتُّحَف اليدوية الصنع) وكان وحده مَن يستطيع استعمالها في أفضل الوجوه لها؛ كما أعطى للشرقي الحديث «تيسيرًا وتحسينًا للأحوال»، وأيضًا ثمار ما حكم بأنه خير ما يُفيد الشرق الحديث.
وكانت السمة المميزة لجميع المشروعات الاستشراقية قبل مشروع «نابليون» عدم إمكان فعل شيء يُذكَر تمهيدًا لنجاح المشروع قبل الشروع في تنفيذه. ﻓ «أنكتيل وجونز»، مثلًا، لم يتعلَّما ما فعلاه بشأن الشرق إلا بعد أن وصلَا إلى الشرق. كانَا يواجهان الشرقَ كلَّه، إن صح هذا التعبير، ولم يتمكَّنا إلا بعد فترة؛ وبعد قدرٍ كبير من الارتجال، من تقليل حجمه حتى يصبح منطقة أصغر. ولكن «نابليون» لم يكن يقنع إلا بالاستيلاء على مصر كلها، وكانت استعداداته التحضيرية تتسم بضخامة لا تُبارَى ودقة لا تُجارى. ومع ذلك فإن هذه الاستعدادات كانت قائمةً على تخطيط مدروس بعناية، أو قُل إنها كانت قائمةً على «نصوص» معينة، أو إنها كانت «نصية» إن جاز لي استعمال هذا التعبير، وهذه الجوانب جديرة ببعض التحليل هنا: يبدو أن ذهنَ «نابليون» كانت تشغله ثلاثةُ أمور، قبل كلِّ شيء، عند تجهيز نفسه أثناء وجوده في إيطاليا عام ١٧٩٧م لخطواته الحربية التالية. الأول أنه — إلى جانب قوة إنجلترا التي كانت لا تزال تمثِّل تهديدًا — كان يرى أن نجاحاته الحربية التي بلغت أَوْجَها في معاهدة «كامبيو فورميو» لم تترك له مكانًا يحقق فيه أمجادًا أخرى سوى الشرق. أضف إلى ذلك أن تاليران كان قد انتقد قبل وقت قصير «المزايا التي يمكن أن تكتسب من المستعمرات الجديدة في الظروف الحاضرة» وكانت هذه الفكرة، إلى جانب الأمل الجذاب المتمثل في إيذاء بريطانيا، تدفعه نحو الشرق. والأمر الثاني هو أن الشرق كان يجتذب «نابليون» منذ أيام مراهقته؛ فالمخطوطات التي كتبها في صباه، على سبيل المثال، تتضمن ملخصًا للكتاب الذي ألَّفه «مارينيي» بعنوان: «تاريخ العرب»، ويتضح من كل كتاباته وأحاديثه أنه كان منغمسًا، بتعبير «جان تيري»، في الذكريات والأمجاد التي ارتبطت بالشرق في عهد الإسكندر الأكبر بصفة عامة، وبمصر بصفة خاصة.11 وهكذا فإن فكرة إعادة فتح مصر، باعتباره الإسكندر الجديد، طرحت نفسها عليه، إلى جانب فائدة أخرى وهي اكتساب مستعمرة إسلامية جديدة على حساب إنجلترا. والأمر الثالث هو أن «نابليون» كان يرى أن مصر مشروع يُحتمل النجاح فيه، والسبب على وجه الدقة أنه كان يعرفها من الجوانب التكتيكية والاستراتيجية والتاريخية، ومن جانب آخر لا ينبغي بخس قدره وهو «النصوص». أي باعتبار مصر موضوعًا عرفه وقرأ عنه ما قرأ من كتابات الثقات الأوروبيِّين القدماء والمعاصرين. والمقصود بهذا كلِّه هو أن «نابليون» كان يعتبر مصر مشروعًا اكتسب طابع الحقيقة الواقعة في ذهنه، ثم في استعداداته لفتحها فيما بعد، من خلال خبرات تنتمي إلى مجال الأفكار والأساطير المأخوذة من النصوص، لا من الواقع التجريبي. وهكذا أصبحت الخطط التي وضعها لمصر أول حالة تُصادفنا في سلسلة طويلة من اللقاءات الأوروبية مع الشرق ويُنتفع فيها مباشرة بخبرة المستشرق الخاصة في تنفيذ مشروع استعماري؛ ففي اللحظة الحاسمة التي كان على المستشرق أن يقرر إن كان يُضمر الولاء والتعاطف مع الشرق أم مع الغرب الغازي، كان يختار الجانب الأخير، منذ عهد «نابليون» فصاعدًا. أما الإمبراطور نفسه فكان لا يرى الشرق إلا في الصورة التي رسمتها النصوص الكلاسيكية أولًا ورسمها خبراء الاستشراق بعد ذلك، وكانت رؤيتهم القائمة على النصوص الكلاسيكية تبدو بديلًا مفيدًا عن أي لقاء فعلي مع الشرق الحقيقي.
وقيام «نابليون» بتجنيد عشرات «العلماء» في حملته المصرية أشهر من أن يحتاج إلى أي تفصيلات هنا؛ إذ كان يريد إعداد ما يُشبه الأرشيف الحي للحملة في صورة الدراسات التي يضطلع بها، وفي جميع الموضوعات، أعضاء المعهد المصري الذي أنشأه. أما الأمر الذي قد يخفى على الكثير فهو مدى اعتماد «نابليون» السابق على الكتاب الذي كتبه الكونت «دي فولني»، وهو رحالة فرنسي ظهر كتابه «رحلة في مصر وفي روسيا» في مجلدين عام ١٧٨٧م، وباستثناء المقدمة الشخصية القصيرة التي يُخبر فيها القارئ أن حصوله المفاجئ على بعض المال (ميراثه) مكَّنه من القيام بالرحلة في عام ١٧٨٣م. فإن كتاب «فولني» المذكور يعتبر وثيقةً غير شخصية بصورة تكاد تكون مرهقة. والواضح أن «فولني» كان يعتبر نفسه عالمًا، وأن عمله ينحصر دائمًا في تسجيل «حالة» ما يشاهده. ويصل كتاب الرحلة إلى ذروته في المجلد الثاني عندما يصف الإسلام كدين من الأديان12 وكانت آراء «فولني» معادية — بصورة لا تقبل النقض — للإسلام، باعتباره دينًا ونظامًا للمؤسسات السياسية، ومع ذلك فقد وجد «نابليون» أن لهذا الكتاب — ولكتاب «فولني» الآخر: «تأملات في الحرب الجارية مع الأتراك» (١٧٨٨م) — أهمية خاصة؛ فلقد كان «فولني»، على أية حال، فرنسيًّا شديدَ الحذر، وكان — مثل «شاتوبريان ولامارتين» اللذَين جاءَا بعده بربع قرن — يرى أن الطموح الاستعماري الفرنسي من المحتمل أن يتحقق في الشرق الأدنى. وقد استفاد «نابليون» من تعديد «فولني» للعقبات التي تواجهها أيُّ حملة عسكرية فرنسية في الشرق، وترتيب هذه العقبات في سلسلة متصاعدة وفق درجة صعوبتها.
ويشير «نابليون» بصراحة إلى «فولني» في تأملاته في الحملة الفرنسية على مصر، الواردة في كتابه: «الحملتان على مصر وسوريا ١٧٩٨–١٧٩٩م»، وهو الكتاب الذي أملاه على الجنرال «برتراند» أثناء وجوده بمنفاه في «سانت هيلينا»، فقال إن «فولني» كان يعتقد بوجود ثلاثة حواجز أمام الهيمنة الفرنسية على الشرق، وأن على أيِّ قوة عسكرية فرنسية أن تخوض، من ثم، ثلاثَ حروب: الأولى ضد إنجلترا، والثانية ضد الباب العالي العثماني، والثالثة — وهي أصعبها — ضد المسلمين.13 وكان التقييم الذي وضعه «فولني» يتسم بالحصافة ويصعب نقضه؛ إذ اتضح ﻟ «نابليون»، كما يتضح لكل مَن يقرأ «فولني» أن كتابَيه — الرحلة والتأملات — كانَا يمثلان نصَّين فعَّالَين يستطيع أيُّ أوروبي يريد الفوز في الشرق أن يستعملهما. وبتعبير آخر كان عمل «فولني» يمثِّل كتابًا إرشاديًّا أو دليلًا قادرًا على تخفيف الإحساس بالصدمة الإنسانية، وهو ما قد يتعرض له الأوروبي الذي يخبر الشرق خبرة مباشرة. ويبدو أن أطروحة «فولني» كانت تقول: اقرأ الكتابين، وبدلًا من أن يُصيبَك الشرق بالحيرة والارتباك، سوف تُخضع الشرق لك.
وطبق «نابليون» إرشادات «فولني» تطبيقًا دقيقًا، وإن كان ذلك بأسلوب المكر الذي كان يتميز به. فمنذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها الجيش الفرنسي على الأفق المصري، بذل «بونابرت» قصارى جهده لإقناع المسلمين بقوله «إننا نحن المسلمون الحقيقيون»، على نحو ما جاء في الإعلان الذي وزعه يوم ٢ يوليو ١٧٩٨م على أهالي الإسكندرية.14 وكان «نابليون» يصحب معه فريقًا من المستشرقين (ويجلس على متن سفينة القيادة التي أسماها «أوريان»؛ أي الشرق)، وقد استغل عداء المصريين للمماليك وجاذبية الفكرة الثورية التي تدعو لتساوي الفرص المتاحة للجميع في خوض حرب تبدو «حميدة» وانتقائية بصورة فريدة ضد الإسلام. وكان أكثر ما راع المؤرخ العربي الأول للحملة الفرنسية، الشيخ «عبد الرحمن الجبرتي» — استعانة «نابليون» بالعلماء في «إدارة» اتصالاته مع الأهالي — هذا إلى جانب تأثير مراقبته عن كثب لمؤسسة فكرية أوروبية حديثة.15 وحاول «نابليون» في كل مكان أن يثبت أنه يحارب في سبيل الإسلام، وكان كل ما يقوله يترجم إلى الأسلوب العربي القرآني، مثلما كانت القيادة تحث الجيش الفرنسي أن يتذكر الحساسية الإسلامية في جميع الأوقات. (ولك أن تقارن في هذا الصدد الخطوات التكتيكية التي لجأ إليها «نابليون» في مصر بالخطوات التي جاءت في وثيقة الشروط التي كتبت بالإسبانية عام ١٥١٣م، حتى يقرأها الإسبانيون على الهنود بصوتٍ عالٍ، والتي تقول «سوف نأسركم ونأسر زوجاتكم وأطفالكم ونجعلهم عبيدًا، وبهذه الصفة سوف نبيعهم ونتصرف فيهم وفقًا لأمر صاحبَي السمو [ملك وملكة إسبانيا]؛ وسوف نستولي على بضائعكم، وسوف نوقع بكم أقصي ما نستطيعه من أذًى وضرر، كشأننا في معاملة الأتباع العاصين» إلخ إلخ.)16 وعندما اتضح ﻟ «نابليون» أن قواته أصغر من أن تفرض نفسها على المصريين، حاول أن يجعل الأئمة والقضاة والمفتين والعلماء المحليِّين يفسرون القرآن لصالح الجيش الفرنسي. ومن ثَم دعا إلى مقر إقامته العلماء الستين الذين كانوا يتولون التدريس في الأزهر وأنعم عليهم بمراتب التكريم العسكرية الكاملة، ثم داهنهم «نابليون» بالإعراب عن إعجابه بالإسلام وبمحمد ، وبتبجيله الواضح للقرآن، وكان فيما يبدو يعرفه خير المعرفة. ونجح في ذلك، وسرعان ما بدا أن سكان القاهرة قد فقدوا ارتيابهم بالمحتلين.17 وبعدها أصدر تعليمات صارمة لنائبه «كليبر» بأن يُدير مصر دائمًا، بعد رحيله، من خلال المستشرقين والزعماء الدينيِّين الإسلاميِّين الذين يستطيع المستشرقون استمالتهم، أما أي منهج سياسي آخر فهو باهظ التكاليف وبالغ الحمق.18 وكان «هوجو» يظن أنه نجح في تصوير ما اتسمت به حملة «نابليون» على الشرق من مجد «لبق» في قصيدته التي أسماها «إليه»:
على ضفاف النيل وجدته مرة أخرى،
وقد أضاءت مصر بأنوار فجره،
وفي الشرق يسطع نجم سلطانه،
منتصر متحمس يتفجر بالمنجزات،
عجيب أذهل أرض العجائب،
أمير حكيم صغير يجلُّه الشيوخ الكبار،
والشعب يخشى أسلحته غير المسبوقة،
فبدا في رفعته لعيون القبائل الذاهلة؛
كأنه محمد أتى من الغرب.19
ومثل هذا النصر لا بد أن يكون قد اكتمل الإعداد له قبل القيام بالحملة العسكرية، وربما كان ذلك الإعداد يقتصر على شخص لا يتمتع بخبرة سابقة بالشرق، فيما عدا ما قالته الكتب وما قاله العلماء له. وفكرة اصطحاب أكاديمية كاملة تمثِّل جانبًا مهمًّا من جوانب هذا الموقف «النصي» تجاه الشرق. كما دعمت هذا الموقف المراسيم الثورية المحددة (خصوصًا المرسوم الصادر في ٣٠ مارس ١٧٩٣م بإنشاء «المدرسة العامة» في المكتبة القومية لتعليم اللغات العربية والتركية والفارسية)20، والتي كانت ذات هدف عقلاني يتمثل في إزالة الغموض وإرساء أسس المعارف مهما تكن عويصة. وهكذا فإن الكثير من المترجمين المستشرقين المصاحبين ﻟ «نابليون» كانوا من تلاميذ «سيلفستر دي ساسي»، وهو الذي كان، اعتبارًا من يونيو ١٧٩٦م، أول معلِّم للغة العربية بل المعلِّم الوحيد في المدرسة العامة للغات الشرقية. وقد أصبح «ساسي» فيما بعد معلِّمًا لجميع كبار المستشرقين تقريبًا في أوروبا، وظل تلاميذه يسودون الساحة مدة تقرب من ثلاثة أرباع القرن وكانت للكثير منهم فائدته السياسية، على نحو ما أفاد العديد منهم «نابليون» في مصر.
ولكن المعاملات مع المسلمين لم تكن تمثِّل إلا جانبًا واحدًا من جوانب مشروع «نابليون» للسيطرة على مصر. أما الجانب الآخر فكان تحقيق الانفتاح الكامل لمصر؛ أي تمكين الدارسين الأوروبيِّين من دراستها دون أية عوائق. وهكذا فبعد أن كانت أرض الغموض، وبعد أن كانت جزءًا من الشرق الذي لا يُعرف إلا من خلال النقل عمن سبق لهم زيارتها، أو نقلًا عن الباحثين والفاتحين، أصبحت مجالًا للدراسة العلمية الفرنسية. وهنا أيضًا تتجلى المواقف «النصية» والقائمة على الخطط المرسومة، وكان «المعهد» الذي أنشأه «نابليون» بما به من فرق علماء الكيمياء والتاريخ، والبيولوجيا، والآثار، والجراحة، والمتخصصين في الدراسات القديمة، يمثل «الفرقة العلمية» من فرق الجيش. وكان عمله يتسم بطابع هجومي لا يقل عن طابع الجيش، ألَا وهو ترجمة مصر إلى اللغة الفرنسية الحديثة، وكان عمل «نابليون» يختلف عن الكتاب الذي وضعه الأب «لوماسكرييه» عام ١٧٣٥م بعنوان: «وصف مصر» في أنه عمل عالمي؛ فمن أولى لحظات الاحتلال تقريبًا حرص «نابليون» على أن يبدأ المعهد اجتماعاته وتجاربه — أو بلغة العصر الحاضر — مهمته لتقصِّي الحقائق. وكان أهم شيء تسجيل كل ما يقال وما يشاهد وما يُدرس، وقد اكتمل التسجيل حقًّا في هذا العمل الجماعي العظيم الذي يمثِّل استيلاء بلد على بلد آخر، وهو كتاب «وصف مصر» الذي نُشر في ثلاثة وعشرين مجلدًا ضخمًا في الفترة من ١٨٠٩ إلى ١٨٢٨م.21

ولا يقتصر الطابع الفريد لكتاب «وصف مصر» على حجمه الهائل، أو حتى على ذكاء المشاركين فيه، ولكنه يتجلى أيضًا في موقفه من الموضوع المعالج، وهذا الموقف هو الذي يُكسب الكتاب أهمية كبيرة في دراسة المشروعات الاستشراقية الحديثة. والصفحات القليلة الأولى من التصدير التاريخي الذي كتبه «جان-بابتيست-جوزيف فورييه»، أمين المعهد، توضح أن الباحثين كانوا في «تناولهم» لمصر يجاهدون أيضًا لمعالجة مادة ذات دلالة ثقافية وجغرافية وتاريخية صافية. فلقد كانت مصر مركز الاتصال في العلاقات ما بين أفريقيا وآسيا، وما بين أوروبا والشرق، وما بين ما يوجد في الذاكرة وفي الواقع الراهن:

لما كانت مصر تقع بين أفريقيا وآسيا وتتمتع بيسر الاتصال مع أوروبا، فإنها تشغل المركز في قلب القارة القديمة. وهذه البلد لا تقدم إلا ذكريات عظيمة، فهي وطن الفنون، وهي تحفظ آثارًا لا تحصى، ومعابدها الرئيسية والقصور التي كان ملوكها يقيمون فيها ما زالت قائمة، حتى وإن كانت أحدث مبانيها العريقة قد بُنيَت قبل اندلاع حرب طروادة. وقد ذهب كلٌّ من «هوميروس، ولوكورجوس، وصولون، وفيثاغورث وأفلاطون» إلى مصر لدراسة العلوم والدين والقوانين، وأسس الإسكندر مدينة تزهو بثرائها في مصر، وكانت تتمتع بالسيادة التجارية زمنًا طويلًا وشهدت «بومبي، ويوليوس قيصر، ومارك أنطونيو، وأغسطس قيصر» وهم يقررون فيما بينهم مصير روما ومصير العالم برمته. ومن اللائق إذن لذلك البلد أن يجتذب اهتمام مشاهير الأمراء الذين يتحكمون في مصائر الأمم.

لم يكتب لأمة ما أن تجتمع لها قوة جبارة، سواء كان ذلك في الغرب أو في آسيا دون أن تدفع هذه القوة تلك الأمة إلى الاتجاه إلى مصر، وذلك ما كان يعتبر إلى حد ما قدَرَها الطبيعي.22

أي إنه لما كانت مصر «مشبعة» بالمعنى في مجالات الفنون والعلوم والحُكم، كان عليها أن تقوم بدور المسرح الذي تقع فيه أحداث ذات أهمية عالمية تاريخية. واستيلاء دولة حديثة على مصر إذن من شأنه تمكين تلك الدولة من إظهار قوتها و«تبرير» التاريخ؛ أما مصير مصر، فمن الأفضل إلحاقها بأوروبا، أضف إلى ذلك أن هذه الدولة سوف تدخل تاريخًا حددت العنصر المشترك فيه شخصيات عظمى في مصاف «هوميروس والإسكندر وقيصر وأفلاطون وصولون وفيثاغورث»، وهم الذين شَرُفَ الشرق بحضورهم إليه. وباختصار كان الشرق يوجد باعتباره مجموعة من القيم المنسوبة لا إلى حقائق واقعه الحديث بل إلى سلسلة من الروابط التي بولغ في قيمتها مع ماضٍ أوروبيٍّ سحيق. وهذا مثال خالص للموقف القائم على النصوص والتخطيط المرسوم، والذي أشرت إليه فيما سبق.

ويستمر «فورييه» في الحديث بنبرات مماثلة لما يربو على مائة صفحة (وتبلغ مساحة كل صفحة، بالمناسبة، مترًا مربعًا، كأنما كان يرى أن المشروع ومساحة الصفحة يشتركان في نطاقهما الواسع). لكنه يشعر بأن عليه أن يبرر — من بين أحداث الماضي التي لم تحسم — حملة «نابليون» باعتبارها فعلًا كان ينبغي القيام به في ذلك الوقت. وهو لا يتخلَّى قط عن المنظور الدرامي، فهو واعٍ بجمهوره الأوروبي وبالشخصيات الشرقية التي يتلاعب بها، فيقول:

ونحن نتذكر الانطباع الذي أحدثَته في أوروبا كلها الأنباء المذهلة عن وجود الفرنسيِّين في الشرق … لقد جرى تدبير هذا المشروع العظيم في صمت، واكتمل إعداده بهمَّة ونشاط وبدرجة من السرية خدعت العيون اليقظة والقلقة لأعدائنا؛ ولم يعرفوا بوقوعه إلا في تلك اللحظة التي تحقق له فيها النجاح في التخطيط والتدبير والتنفيذ …

ويضيف قائلًا إن هذه «الخبطة المسرحية» كانت لها مزاياها بالنسبة للشرق أيضًا:

إن هذا البلد الذي نشرَ معارفَه إلى عدد كبير من الأمم غارقٌ اليوم في لجَّة الهمجية.

ولم يكن يتسنى لغير بطل من الأبطال أن يجمع هذه العوامل معًا وهذا هو ما يصفه «فورييه» قائلًا:

كان «نابليون» يقدر مدى تأثير هذا الحادث في العلاقات ما بين أوروبا والشرق وأفريقيا، وفي الملاحة في البحر المتوسط، وفي مصير آسيا … وأراد «نابليون» أن يقدم إلى الشرق نموذجًا أوروبيًّا نافعًا، وأخيرًا أن يزيد حياةَ سكانه هناءً وسرورًا، وأن يقدِّم لهم أيضًا جميع مزايا حضارة بلغت الكمال.

وكان من المحال تحقيق ذلك لولا الاستعانة المستمرة في المشروع بالفنون والعلوم.23
كانت ملامح آفاق الاستشراق التي تحققت بصورة كاملة في كتاب «وصف مصر» متعددة: إعادة المنطقة التي سقطت في هُوَّة الهمجية إلى ما كانت عليه من عظمة في الماضي؛ وتعليم الشرق (لمصلحته) طرائق الغرب الحديث؛ واعتبار القوة العسكرية مسألة ثانوية، أو التهوين من شأنها في سبيل تضخيم مشروع المعرفة المجيدة المكتسبة من خلال السيطرة السياسية على الشرق؛ و«صياغة» الشرق بمعنى إضفاء شكل معين عليه، وهوية، وتعريف محدد، مع الاعتراف الكامل بالموقع الذي يشغله في الذاكرة، وأهميته للاستراتيجية الإمبريالية، ودوره «الطبيعي» باعتباره ملحقًا أو تابعًا لأوروبا؛ وتشريف كلِّ معرفة تُكتسب أثناء الاحتلال الاستعماري بتسميتها «مساهمة في العلم الحديث» في حين أنه لم يستشِر أحدٌ أهلَ البلاد، ولم يعاملهم أحد إلا باعتبارهم ذرائع «لكتابة نص» لا فائدة لهم فيه؛ وأن يشعر الأوروبي بأنه يتحكم، وقتما يشاء تقريبًا، في تاريخ الشرق وزمنه وجغرافيته؛ وإنشاء مجالات تخصص جديدة؛ وتأسيس مباحث علمية جديدة؛ وتقسيم وتوزيع وتخطيط وتصنيع وتبويب وتسجيل كلِّ ما تشاهده العين (وما يخفَى عنها)؛ وتحويل كلِّ «تفصيل» يُدركه المرء إلى «تعميم»، وكل تعميم إلى قانون ثابت عن طبيعة الشرق، أو مزاجه، أو عقليته، أو عادته أو نمطه؛ وقبل ذلك كلِّه تحويل الواقع الحي إلى مادة «نصية» حتى يمتلك المرء (أو يظن أنه امتلك) الواقع؛ لأنه لا شيء في الشرق يستطيع، فيما يبدو، أن يقاوم سلطانه. كانت هذه، كما قلت، ملامح آفاق الاستشراق التي تحققت بصورة كاملة في وصف مصر؛ ذلك الوصف الذي قوَّاه وعزَّزه ابتلاع «نابليون» ابتلاعًا استشراقيًّا كاملًا لمصر، مستعينًا بوسائل المعرفة الغربية والقوة الغربية. وهكذا يُنهي «فورييه» مقدمتَه بأن يُعلن أن التاريخ سوف يذكر كيف «كانت مصر مسرح مجده [أي مجد «نابليون»] وتَقِي من النسيان جميع ظروف هذا الحادث الفذ».24
وهكذا فإن «وصف مصر» يحلُّ محلَّ التاريخ المصري أو الشرقي باعتباره تاريخًا يتمتع بتماسكه وهويته ومعناه. بل إن التاريخ المسجل في هذا الكتاب يغتصب مكان التاريخ المصري أو الشرقي، ما دام التاريخ المسجل يحدد نَسَبَه تحديدًا صريحًا ومباشرًا باعتباره تاريخ العالم، وهذا تلطف في التعبير أو كناية عن التاريخ الأوروبي. وإنقاذ حادثة من النسيان يعادل في ذهن المستشرق تحويل الشرق إلى مسرح للصور التي يرى أنها تمثِّل الشرق: وهذا هو نفسه تقريبًا ما يقوله «فورييه». أضف إلى ذلك أن مجرد القدرة على وصف الشرق من زاوية غربية حديثة تنهض بالشرق من ظلمته الصامتة التي كان يقبع فيها مهملًا (باستثناء الهمسات المبتسرة لإحساسه بماضيه إحساسًا شاسعًا وإن كان غير ذي شكل محدد) إلى أضواء العلم الأوروبي الحديث. وعلى هذا المسرح يظهر هذا الشرق الجديد ليؤكد قوانين التخصص في عالم الحيوان التي وضعها «بيفون»25 — وسوف نجد المثال عليه في الأطروحات البيولوجية التي يُقدمها «جيفروا سانت-هيلير» في كتاب: «وصف مصر» — أو ليضرب مثالًا «على التناقض الصارخ مع عادات الأمم الأوروبية»26 حيث تؤكد «المتع والملذات الغريبة» للشرقيِّين مدى اتزان وعقلانية العادات الغربية، أو إذا ضربنا مثلًا آخر «للانتفاع» بالشرق في هذا الصدد، ذلك البحث في الخصائص الفسيولوجية الشرقية التي مكَّنت القدماء من النجاح في تحنيط الجثث، ومحاولة إيجاد مثيل لها، أو خصائص معادلة لها في الأجسام الأوروبية، حتى يمكن الاحتفاظ بأجسام الفرسان الذين يسقطون في ساحة الشرف كآثار تكتسي شكل الأحياء تخليدًا لحملة «نابليون» الشرقية العظيمة.27
ولكن الفشل العسكري الذي مُنيَ به احتلال «نابليون» لمصر لم يقضِ على خصب الخطة الشاملة التي كان الاحتلال قد وضعها لسائر بلاد الشرق. وأقول دون أدنى مبالغة إن الاحتلال قد خرجَت من رحمه الخبرةُ الحديثة بالشرق برمتها، بحيث أصبحت صورة الشرق قائمة على التفسير الذي يدور في الفلك الفكري الذي أنشأه «نابليون» في مصر، وكانت عوامل السيطرة والنشر فيه تتضمن «المعهد» و«وصف مصر». وكانت الفكرة، على نحو ما وصفها «شارل-رو»، تتلخص في أن مصر «إذا عاد لها ازدهارها، وأحيتها من جديد إدارة حكيمة متنورة … فسوف تشعُّ أضواء التحضر على جميع جيرانها الشرقيِّين».28 صحيح أن الدول الأوروبية الأخرى سوف تسعى للتنافس في تنفيذ هذه المهمة، ولن تفوق إنجلترا دولةٌ أخرى في هذا الصدد، ولكن الذي يحدث ويظل يمثِّل ميراثًا مستمرًّا للبعثة الغربية المشتركة للشرق — على الرغم من المشاجرات، بين الدول الأوروبية، أو المنافسة غير الشريفة أو الحرب السافرة — سيكون إنشاءَ مشروعاتٍ جديدة، وتكوينَ رؤًى جديدة، وجهودًا إنتاجية جديدة تقيم الروابط بين أجزاء أخرى من الشرق القديم وبين روح الفتح الأوروبي. وهكذا فقد تغيرت لغة الاستشراق نفسها بعد «نابليون» تغيرًا جذريًّا. وارتقت «واقعيتها الوصفية» فلم تَعُد مجرد أسلوب للتمثيل والتصوير بل أصبحت لغةً خاصة، بل وسيلة للخلق والإبداع. فإلى جانب إعادة بناء «اللغات الأم» — وهو الاسم الذي أطلقه «أنطوان فبر دوليفيه» على اللغات الشرقية باعتبارها المصادر الكامنة المنسية للغات الأوروبية «الشعبية» الحديثة — أُعيد بناء الشرق، وأعيد تركيبه، وأُحكمت صناعته، وهكذا ولدته جهود المستشرقين. وأصبح كتاب: «وصف مصر» النمط الرئيسي الذي اتبعته جميع الجهود التي بُذلت بعده من أجل تقريب الشرق إلى أوروبا، ومن أجل استيعابه كاملًا في مرحلة لاحقة، وكذلك — وهو ما يتسم بأهمية كبري — إلغاء غرابته أو على الأقل تخفيض وتقليل غرابته، وكذلك عداؤه فيما يتعلق بالإسلام. فاعتبارًا من هذه اللحظة سوف يظهر الشرق الإسلامي باعتباره «مقولة» تدل على سلطان المستشرقين لا على أفراد الشعوب الإسلامية باعتبارهم بشرًا، ولا على تاريخهم باعتباره تاريخًا.

وهكذا أنجبت حملة «نابليون» سلسلة كاملة من الأطفال، وهي النصوص التي تمتدُّ من كتابات «شاتوبريان» (الرحلة) إلى «لامارتين» (رحلة في الشرق)، و«فلوبير» (سلامبو)، كما نجد في إطار هذه التقاليد نفسها كتاب «إدوارد لين» (أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم)، وكتاب «ريتشارد بيرتون» (رواية شخصية للحج إلى المدينة ومكة). ولا يقتصر ما يربط بينها على الخلفية المشتركة في الأساطير والخبرة الشرقية، بل يجمعها كذلك اعتمادُها المدروس على الشرق باعتباره الرحم الذي خرجت جميعًا منه. وقد يكون من المفارقات أن يتضح أن هذه الأعمال الإبداعية لا تزيد عن صور زائفة نمطية الأسلوب إلى حدٍّ بعيد، أو محاكاة بالغة التكلف للشكل الذي كانوا يتخيلونه للواقع الحي في الشرق، ولكن ذلك لا ينتقض على الإطلاق من قوة التصور الخيالي (الإبداعي) فيها، ولا من قوة السيادة الأوروبية على الشرق، وكانت النماذج الأولى لها — على الترتيب — كاليوسترو، الذي أجاد «تمثيل» شخصية الشرق، و«نابليون»، أول فاتح في العصر الحديث للشرق.

ولكن ثمار حملة «نابليون» لم تقتصر على الأعمال الفنية أو النصية، بل تجاوزتها إلى المشروع العلمي الذي كان بالقطع أشدَّ تأثيرًا ونفوذًا، وكان المثال الرئيسي له كتاب «إرنست رينان»: «منهج مقارن وتاريخ عام للغات السامية» الذي أكمله في عام ١٨٤٨م حتى يتقدم به لجائزة «فولني» — وهو ما يناسبه تمامًا — والمشروع الجغرافي السياسي الذي كان مثالاه الساطعان هما قناة السويس التي اقترنت باسم «فردينان دي ليسبس»، واحتلال إنجلترا لمصر عام ١٨٨٢م، ولم يكن الفرق بين المشروعين ينحصر في مدى اتساع النطاق، وهو واضح، بل يتضمن أيضًا نوع العقيدة الاستشراقية: فأما «رينان» فكان يعتقد صادقًا أنه قد أعاد في عمله خلق الشرق، بالصورة الأصيلة التي كان عليها، وأما «دي ليسبس» فكان دائمًا ما يشعر ببعض الرهبة من جِدَّة «الكيان» الذي أطلقه مشروعه من الشرق القديم، وكان هذا الإحساس بالجِدَّة يصل إلى كل فرد يرى أن افتتاح القناة عام ١٨٦٩م حدثٌ غير معتاد. وكان حماس «توماس كوك» استمرارًا لحماس «دي ليسبس»، على نحو ما يظهر في العدد الصادر يوم أول يوليو ١٨٦٩م من مجلة إعلانات السياحة والرحلات:

في السابع عشر من شهر نوفمبر، سوف يُحتفل بنجاحِ أعظمِ عملٍ هندسي في القرن الحالي، بإقامة حفل افتتاح وتكريم، يحضره ممثلٌ خاص عن كل أسرة ملكية أوروبية تقريبًا. وسوف تكون مناسبة فذة حقًّا. لقد كان شقُّ مجرًى مائي يصل بين أوروبا والشرق فكرةً شغلت الناس على مرِّ القرون، وشغلت على التوالي أذهان اليونان والرومان والسكسونيِّين والفرنسيِّين، لكن لم يحدث حتى السنوات القليلة الماضية أن بدأت الحضارة الحديثة في الشروع جادةً في محاكاة جهود الفراعنة القدماء الذين أنشئوا منذ قرون كثيرة قناةً بين البحرين، ولا تزال آثارها باقية إلى اليوم … إن كل ما يرتبط بالأشغال العامة [الحديثة] يتسم بنطاقه الهائل، ومَن يقرأ الكتيب الصغير الذي يَصِف هذا العمل، والذي خطَّه قلم حامل وسام فارس القديس «ستويس»، سوف ينبهر انبهارًا شديدًا بعبقرية العقل المدبر العظيم — عقل السيد فردينان دي ليسبس — إذ بفضل مثابرته، وجرأته الهادئة، وبُعْد نظره — تحوَّل حلم العصور الخوالي أخيرًا إلى حقيقة واقعة ملموسة … وهو مشروع زيادة التقارب بين بلدان الغرب والشرق، وبذلك تتوحد حضارات الحقب المختلفة.29

الجمع بين الأفكار القديمة والمناهج الحديثة، والربط بين الثقافات التي كانت علاقاتها بالقرن التاسع عشر مختلفة، وفرض قوة التكنولوجيا الحديثة والإرادة الفكرية فرضًا حقيقيًّا على كيانَين كانَا مستقرَّين ومنقسمَين جغرافيًّا فيما مضى، هما الشرق والغرب: هذا هو ما يراه «كوك»، وهو ما يُعلن عنه «دي ليسبس» في مذكراته، وخُطَبه، وكتيباته الوصفية، ورسائله.

كانت بداية «فردينان» تبشِّر بالخير من زاوية نسبه. كان أبوه — «ماتيو دي ليسبس» — قد جاء إلى مصر مع «نابليون» ومكث فيها (باعتباره «ممثلًا غير رسمي لفرنسا»، حسبما يقول «مارلو»)30 أربع سنوات بعد جلاء الفرنسيِّين عنها عام ١٨٠١م. ويشير «فردينان» في كتاباته الأخيرة إلى اهتمام «نابليون» الشخصي بحفر قناة، ولكنه لم يكن يظن أن ذلك هدف يقبل التحقيق قط، بسبب خطأ المعلومات التي قدَّمها له الخبراء. وقد تأثر دي ليسبس بما قرأه وعَلِمه عن التاريخ المتقطع لمشروعات القناة، وكانت من بينها مشروعات فرنسية دعا إليها «ريشيليو» وأتباع «سان سيمون»، ومن ثَم عاد إلى مصر في عام ١٨٥٤م حيث بدأ العمل الذي كُتب له أن يكتمل بعد خمس عشرة سنة. ولم يكن «دي ليسبس» يتمتع بخلفية هندسية حقيقية، ولكن إيمانه العميق بقدرته «شبه الربانية» على البناء وبثِّ الحركة والإبداع مكَّنه من مواصلة الجهد، ولما كانت مواهبه الدبلوماسية والمالية قد كفلت له المؤازرة من جانب المصريين والأوروبيِّين، فقد اكتسب المعرفة اللازمة، فيما يبدو، لاستكمال كل عمل يشرع فيه. وربما وجد فائدةً أكبر بما تعلمه من وضع من يُحتمل أن يشاركوه ويساهموا في مشروعه على مسرح التاريخ العالمي وأن يجعلهم يُدركون المعنى الحقيقي لمشروعه الذي كان يصفه بأنه «فكرته الأخلاقية»، فقال لهم في عام ١٨٦٠م: «لكم أن تتصوروا الخدمات الجليلة التي لا بد أن يعود بها التقارب بين الغرب والشرق على الحضارة وعلى زيادة الثراء العام. إن العالم ينتظر منكم تقدُّمًا عظيمًا، وأنتم تريدون الاستجابة لما ينتظره العالم.»31 ووفقًا لأمثال هذه الأفكار كان اسم الشركة الاستثمارية التي كونها «دي ليسبس» عام ١٨٥٨م اسمًا حافلًا بالدلالات وتتجلَّى فيه الخطط العظمى التي كان يعتز بها؛ ألَا وهو «الشركة العالمية». وفي عام ١٨٦٢م أعلنت الأكاديمية الفرنسية عن جائزة لأفضل ملحمة شعرية عن القناة، وفاز بها «بورنييه» الذي كتب المبالغات التالية، والتي لا يتناقض أيٌّ منها مع تصوير «دي ليسبس» لما كان بصدده:
هلموا إلى العمل! أيها العمال يا مَن أرسلَتهم أُمُّنا فرنسا،
فلتشقوا من أجل هذا العالم هذا الطريق الجديد!
إن آباءكم الأبطال قد جاءوا حتى تلك البقعة؛
فلتصمدوا كالصناديد،
إنكم تقاتلون مثلهم عند سفح الأهرام،
ومن عليائها تتملَّاكم أنتم أيضًا سنواتها الأربعة آلاف!

•••

أجل! إن جهدكم من أجل خدمة العالم! من أجل آسيا وأوروبا،
من أجل الأصقاع النائية التي يغلفها الليل،
من أجل الصيني الوثني والهندي شبه العاري،
من أجل الشعوب التي تُنعم بالسعادة والحرية وتتحلَّى بالقيم الإنسانية والشجاعة،
من أجل الشعوب الشقية والأقوام المستعبدة،
من أجل مَن لا يزالون يجهلون المسيح.32
كان «دي ليسبس» يُبدي ذروةَ ما لديه من الفصاحة وسعة الحيلة حين يُطلب منه تبرير ما سوف تتطلبه القناة من تكاليف باهظة في المال والرجال؛ إذ كانت لديه القدرة على تقديم فيض من الإحصائيات التي تُبهر الأذن، ويستطيع الاستشهاد بالمؤرخ «هيرودوت» بالطلاقة التي يستشهد بها بالإحصائيات البحرية. وقد استشهد فيما كتبه في مذكراته عام ١٨٦٤م بالملاحظة التي أبداها «كاسيمير لوكونت»؛ معربا عن موافقته عليها، من أن الحياة الغريبة الأطوار من شأنها تنمية «أصالة إبداعية» كبيرة في الفرد، وأن هذه الأصالة تؤدي إلى منجزات عظمى وفذة.33 وكانت هذه المنجزات تُبرر نفسها بنفسها، ولقد أدت القناة — على الرغم من حالات الإخفاق التي مرت بها في الأزمان السحيقة، وتكاليفها الباهظة، وطموحاتها المذهلة — إلى تغيير أسلوب معاملة أوروبا للشرق، ومن ثَم فقد كانت جديرةً بالجهد المبذول فيها. كانت مشروعًا نجح نجاحًا فريدًا في التغلب على اعتراضات الذين استشيروا بشأنها، وفي تحسين أحوال الشرق بصفة عامة، واستطاعت تحقيق ما لم يكن باستطاعة المصري الحاذق، والصيني الغدار، والهندي شبه العاري، أن يحقِّقه لنفسه أبدًا.

وكانت مراسم الاحتفال بافتتاح القناة في نوفمبر ١٨٦٩م مناسبة جسَّدَت أفكار «دي ليسبس» تجسيدًا كاملًا، مثلما كانت تُجسدها قصة مكائد «ديلسبس» بأَسْرها. وظلت خُطَبُه ورسائله وكتيباته حافلة، على امتداد سنوات طويلة بالمفردات المسرحية المفعمة بالطاقة والحيوية؛ إذ نراه يتحدث عن نفسه (مستعملًا ضمير المتكلم الجمع دائمًا) قائلًا إننا في سعينا للنجاح أنشأنا وتصرفنا وأنجزنا وعملنا وأدركنا وثابرنا وتقدمنا؛ وكان يكرر في مناسبات كثيرة قوله إننا لم نجد شيئًا قادرًا على إيقافنا، ولم نجد ما يعتبر مستحيلًا، ولم يكن يهمنا في النهاية شيء سوى تحقيق «النتيجة النهائية والغاية العظمى» وهي التي فكر فيها وحددها ونفذها آخر الأمر. وعندما جاء دور مبعوث البابا إلى مراسم الاحتفال للحديث يوم ١٦ نوفمبر إلى حشد الشخصيات الرفيعة، حاول في حديثه محاولةً مستميتة أن يرقى إلى مستوى المشهد الفكري والإبداعي الذي تجسده قناة «دي ليسبس»:

لا جناح علينا إن قلنا وأعدنا إن اللحظة التي دقَّت ساعتها ليست من أجلِّ لحظات هذا القرن فحسب، بل هي أيضًا من أعظم وأخطر اللحظات التي مرَّت بالإنسانية منذ أن كان لها تاريخ. هذه البقعة التي تتلاقى فيها أفريقيا وآسيا الآن وبلا عودة إلى الوراء. هذا العيد العظيم للإنسانية، هذا الضرب العالمي المهيب للمساعدة، جميع أجناس الأرض، جميع الرايات والبيارق، جميع السفن، الكل يتبختر على الماء تحت صفحة السماء المشرقة المترامية، الصليب المنتصب الذي يبادره بالإجلال كل عابر لطريقه، ما أكثر العجائب! ما أكثر المتناقضات المذهلة! ما أكثر الأحلام المشهورة الخيالية التي تحولت إلى واقع حقيقي! ووسط هذا الجمع من الجهابذة، ما أكثر المواضيع الجديرة بالتأمل لمن يتدبر! ما أكثر الأفراح في هذه اللحظة، وكم من آمال عظيمة تطالعنا في ظل آفاق المستقبل! …

إن طرفَي الكرة الأرضية يتقاربان، وبهذا التقارب يتعارفان، وفي ظل هذا التعارف تهتزُّ طربًا أجساد سائر البشر، أبناء روح واحد وإله واحد، من واقع إحساس بالتآخي الإنساني بينهم! أيها الغرب! أيها الشرق، تقاربَا، تبادلَا النظر، تعارفَا، تبادلَا التحية! تعانقَا!

لكن المتأمل يرى وراء هذه الظاهرة المادية آفاقًا أرحب من المساحات القابلة للقياس، آفاقًا دون حدود تتحرك في ساحتها أسمى الأقدار، أعظم الفتوحات، أخلد معتقدات البشرية …

فلتخفق أنفاسك المقدسة [أيها الإله] على صفحة هذه المياه! فلتنطلق جيئةً وذهابًا من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الغرب! أيها الإله، فلنستخدم هذا الطريق حتى يتقارب البشر معًا!34

كان يبدو أن العالم كلَّه قد اجتمع للإشادة بمشروع يباركه الإله. فلقد ذابت حواجز التمييز والتعويق، فبدأ الصليب يواجه الهلال مواجهة الغالب، وأتى الغرب إلى الشرق حتى يظل فيه دائمًا (حتى جاء جمال عبد الناصر في عام ١٩٥٦م فأطلق شرارة استعادة مصر للقناة بنطق اسم «دي ليسبس»).

ونحن نرى في فكرة قناة السويس النتيجة المنطقية لفكر الاستشراق بل وما هو أهم؛ جهود الاستشراق. كانت آسيا تمثِّل للغرب في يوم من الأيام الابتعاد الصامت والاغتراب، وكان الإسلام يمثل العداوة المحاربة للمسيحية الأوروبية. وكان التغلُّب على هذه الثوابت الجبارة يتطلب أولًا معرفة الشرق، ثم غزوه وامتلاكه، ثم إعادة خلقه على أيدي الباحثين والجنود والقضاة الذين نبشوا مكامن ما سقط من الذاكرة من لغات وتاريخ وأجناس وثقافات لتقديمها — خارج نطاق معرفة الشرقي الحديث — باعتبارها الشرق القديم الحقيقي الذي يمكن الاستعانة به في الحكم على الشرق الحديث وتولِّي الحكم فيه. وانقشع الظلام وحلَّت محلَّه كياناتٌ تُشبه نباتات الصوبة الزراعية، وأصبحت كلمة «الشرق» هي الكلمة التي يستخدمها المستشرق ليُعنى بها ما أصبحت أوروبا تعنيه ببلدان المشرق التي لا تزال في عينَيها غريبة. لقد نجح «دي ليسبس» وقناته أخيرًا في إلغاء ابتعاد الشرق، وحياته الخاصة والمنعزلة بعيدًا عن الغرب، وطابع غرابته الدائم الذي لا يحول. فمثلما تمكَّن من تحويل حاجز أرضي إلى شريان مائي دافق، تحولت طبيعة الشرق من العداء المستحكم إلى مشاركة تتسم بالطاعة والخضوع. ولم يكن أحد بعد «دي ليسبس» يستطيع أن يتكلم عن الشرق باعتباره ينتمي إلى عالم آخر — إن شئنا دقة التعبير. لم يكن يوجد سوى عالمنا «نحن»، عالم «واحد»؛ لأن قناة السويس قد أحبطت مساعي آخر دعاة الإقليمية الذين كانوا لا يزالون يؤمنون بالاختلاف بين العالمين. ومنذ هذه اللحظة أصبحت فكرة «الشرقي» فكرة إدارية أو تنفيذية، وأصبحت تابعة لعوامل سكانية واقتصادية واجتماعية، كما غدا الإمبرياليون من أمثال «بلفور»، ومناهضو الإمبريالية من أمثال «ج. أ. هوبسون»، يرون أن الشرقي، مثل الأفريقي، ينتمي إلى الجنس المحكوم لا مجرد قاطن في منطقة جغرافية فقط. وهكذا فإن «دي ليسبس» قد أذاب الهوية الجغرافية للشرق حين قام بجرِّ الشرق جرًّا (بتعبير شبه حقيقي) إلى داخل الغرب، فاستطاع القضاء أخيرًا على تهديد الإسلام له. وقد كُتب لمراتب جديدة وخبرات جديدة أن تنشأ، من بينها مراتب وخبرات الإمبريالية، كما قُدِّر للاستشراق أن يتكيف معها، وإن شابت ذلك صعوبة ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤