رابعًا: الأزمة
قد يبدو من الغريب أن نتحدث عن شيء أو شخص فنقول إنه يتخذ موقفًا نصيًّا، ولكن دارس الأدب سوف يفهم العبارة بيسرٍ أكبر لو تذكَّر نوع الموقف الذي هاجمه «فولتير» في كانديد، أو موقفًا تجاه الواقع مثل الموقف الذي سخر منه «سيرفانتيس» (ثيربانتيس) في «دون كيخوته». وأما ما كان يبدو معقولًا ولا غبار عليه لهذين الكاتبَين فهو القول إنه من الخطأ افتراض إمكان تفهُّم الفوضى التي يعيش فيها البشر — وهي التي تكتظ بعناصر لا يمكن التنبؤ بها وتغص بالمشكلات — استنادًا إلى ما تقوله الكتب، أو النصوص. أي إن التطبيق الحرفي لما يتعلمه الإنسان من كتاب ما على الواقع يُعرِّضه لخطر ارتكاب الحماقات أو للدمار. وليس من المحتمل أن يستند المرء إلى رواية أماديس أوف جول، أي البطل أماديس من بلاد الغال، في تفهم أحوال إسبانيا في القرن السادس عشر (أو في العصر الحاضر) مثلما يُستبعد أن يستند أحد إلى الكتاب المقدس في تفهم مجلس العموم البريطاني. ولكنه من الواضح أن الناس حاولوا ويحاولون استخدام النصوص بهذا الأسلوب البالغ السذاجة وإلَّا ما تمتعت كانديد ودون كيخوته بما تتمتعان به اليوم من إقبال القرَّاء وحبهم. ويبدو أنه من نقائص البشر الشائعة تفضيل حُجِّية النص القائمة على التخطيط المرسوم على ما تُثيره المواجهات المباشرة مع البشر من بلبلة وتشتيت. ولكن تُرى هل تسود هذه النقيضة في جميع الأحوال أم أن ظروفًا معينة ترجح أكثر من غيرها سيادة الموقف النصيِّ؟
أمامنا حالتان تُرجحان كفة الموقف النصي: الأولى مواجهة الإنسان عن كثب لشيء مجهول نسبيًّا يتهدده بالخطر، وكان يتسم في الماضي بالبعد عنه. في مثل هذه الحال لا يلجأ المرء فقط إلى خبرته السابقة نشدانًا لما يُشبه الشيء الجديد بل يلجأ أيضًا لما سبق له أن قرأه عنه. وتعتبر كتب الرحلات والكتب الإرشادية نصوصًا «طبيعية» ومنطقية في تأليفها واستعمالها مثل أيِّ كتاب يمكن أن يخطر على البال، وهذا، على وجه الدقة، سببُ ذلك الميل البشري للرجوع إلى نصٍّ ما عندما تتكاثر الشكوك التي تكتنف السفر في أماكن غريبة فتهدد اتزان الإنسان وراحة باله. وما أكثر مَن يقول عن رحلة قام بها إلى بلد آخر إنها لم تكن بالصورة التي كان يتوقعها؛ بمعنى أنها تختلف عمَّا قرأه في كتاب ما. والكثير من مؤلفي كتب الرحلات والكتب الإرشادية يؤلفون هذه الكتب، بطبيعة الحال، حتى يقولوا إن بلدًا ما على هذه الصورة أو تلك، أو إنه أفضل من غيره، أو إنه شائق، أو إن الأسعار فيه مرتفعة، أو إنه طريف وهلمَّ جرًّا. ومعنى هذا في أي الحالين أن الكتاب دائمًا ما يستطيع وصف الناس والأماكن والخبرات بحيث يكتسب ذلك الكتاب (أو النص) حجيَّةً أكبر، ونفعًا أكبر، حتى من الواقع الذي يصفه. وعناصر الكوميديا في بحث «فابريس ديل دونجو» بطل رواية «دير بارم» من تأليف «ستندال» عن معركة «ووترلو» لا تكمن في العجز عن العثور على المعركة، ولكن في البحث عنها باعتبارها شيئًا أوردَته بعض النصوص.
والحالة الثانية التي تُرجح الموقف النصي حالة مظهر النجاح؛ فإذا قرأ شخص كتابًا يقول إن الأسود شرسة ثم قابل أسدًا شرسًا (وهذا تبسيط بطبيعة الحال) فالأرجح أنه سوف يقرأ المزيد من كتب ذلك المؤلف، ويُصدِّق ما جاء فيها. لكنه إذا أُضيفت إلى ذلك الكتاب تعليمات عن كيفية التعامل مع أسد شرس، ونجحت التعليمات نجاحًا كاملًا عند تنفيذها، فلن تقتصر النتيجة على زيادة تصديق المؤلف، بل إن المؤلف سوف يجد الدافع على كتابة كتابات من نوع آخر. وإذن فنحن نرى جدلية، مركَّبة إلى حد ما، تسمَّى «جدلية الدعم» ومعناها أن ما يقرؤه القُرَّاء يحدد ما يَخْبرونه في الواقع، وهذا يؤثر بدوره في الكاتب فيجعله يتناول موضوعات حددتها سلفًا خبرات قُرَّائه. وهكذا فإن الكتاب الذي يُبيِّن أسلوب التعامل مع أسد شرس قد يؤدي إلى كتابة سلسلة من الكتب عن موضوعات أخرى مثل شراسة الأسود، أو أصول الشراسة وهلمَّ جرًّا. وبالمثل فإن زيادة تضييق تركيز النص على الموضوع — الذي يصبح شراسة الأسود لا الأسود بصفة عامة — تجعلنا نتوقع أن تميل الأساليب التي يُوصَى باتباعها في التعامل مع شراسة الأسد إلى زيادة شراسته في الواقع، وإلى إرغامه على الشراسة، فذلك طبعه، وذلك هو ما نعرفه أساسًا عنه، أو تقتصر معرفتنا بالأسد عليه.
وليس من السهل تجاهل كتاب يقول إنه يتضمن معلومات عن شيء واقعي، ونشأ في ظروف شبيهة بالظروف التي وصفتُها لتوِّي، بل تُنسَب إليه خبرة الخبراء، وقد يحظى بثقة الجامعات والمؤسسات والحكومات التي قد تحيطه بهيبة في المكانة أكبر مما تكلفه له نجاحاته العملية. وأهم ما في الأمر أن أمثال هذه النصوص لا تقتصر قدرتها على خلق المعرفة بل تتجاوزها إلى الواقع نفسه، وهو ما يبدو أنها تصفه وحسب. وبمرور الزمن تؤدي هذه المعرفة وهذا الواقع إلى إرساء تقاليد معينة، أو ما يسميه «ميشيل فوكوه» «خطابًا» معينًا، ويعتبر وجوده المادي أو وزنه المادي — لا أصالة كاتب من الكُتَّاب — المسئول الحقيقي عن النصوص التي أدَّى إلى كتابتها. وهذا الضرب من النصوص يتكون من تلك «الوحدات المعرفية» الموجودة سلفًا، والتي أدرجها «فلوبير» في القائمة التي وصفها للأعراف أو الأفكار المقبولة الشائعة.
فلننظر إذن، في ضوء هذا كله، إلى «نابليون ودي ليسبس»: إن كلَّ شيء عرفاه عن الشرق تقريبًا كان مستقًى من كتبٍ كُتبت في إطار تقاليد الاستشراق، ووُضعَت في مكتبة الأعراف أو الأفكار المقبولة. وكانَا يريان أن الشرق (مثل الأسد الشرس) شيء يمكنهما مواجهته والتعامل معه إلى حدٍّ ما؛ لأن النصوص خلقت ذلك الشرق، لكنه كان شرقًا صامتًا، ومتاحًا لتحقيق المشروعات الأوروبية التي يشارك فيها السكان المحليون دون أن يشرفوا عليها إشرافًا مباشرًا، كما كان هذا الشرق عاجزًا عن مقاومة المشروعات أو الصور أو الأوصاف التي ابتُكرَت له. وقد سبق لي في هذا الفصل أن وصفت العلاقة بين الكتابة الغربية (وعواقبها) وبين صمت الشرق بأنها نتيجة ودليل على القوة الثقافية العظمى للغرب، وإرادة فرض سلطانه على الشرق. ولكنَّ لتلك القوة جانبًا آخر، وهو جانب يعتمد وجوده على ضغوط التقاليد الاستشراقية وموقفها النصي من الشرق، وهذا الجانب يحيا حياته الخاصة، مثلما تحيا الكتب المكتوبة عن الأسود الشرسة حياتها، إلا لو قُدِّر للأسود أن تَرِد عليها. والمنظور الذي يندر أن يُرى «نابليون ودي ليسبس» من خلاله — إذا اقتصرنا على اثنين من أصحاب المشروعات الذين دبروا خططًا للشرق — هو المنظور الذي نراهما منه وهُمَا يعملان في صمت الشرق الذي لا أبعاد له، وذلك أساسًا؛ لأن «خطاب الاستشراق»، إلى جانب عجز الشرق عن اتخاذ إجراء ما بشأنهما، قد أكسب نشاطهما معنًى وقابلية للفهم وصفةَ الحقيقة الواقعة. وقد مكنهما الخطاب الاستشراقي والعوامل التي أوجدته — وكان ذلك، في حالة «نابليون»، تفوق الغرب عسكريًّا على الشرق — من الحصول على صور لأولئك الشرقيِّين الذين يمكن وصفهم في مؤلفات مثل «وصف مصر» كما مكنهما من الحصول على شرق يمكن للغرب أن يشقَّه مثلما شقَّ «دي ليسبس» قناة السويس. أضف إلى ذلك أن الاستشراق أتاح لهما النجاح الذي حققاه — من وجهة نظرهما على الأقل — وهي أبعد ما تكون عن وجهة نظر الشرقي. وبعبارة أخرى كان النجاح يتسم بجميع خصائص «التبادل» الإنساني بين الشرقي والغربي، وهي التي نراها في قول القاضي أوبريت محاكمة بالمحلفين التي كتبها «جلبرت»، «قلت إنني قلت في نفسي».
والفكرة التي أحاول عرضها هنا تتلخص في تأكيد وقوع الانتقال من الفهم «النصي» للشرق، أو الصياغة أو التعريف النصي له، إلى التطبيق العملي لذلك كله، وفي تأكيد أن الاستشراق قد اضطلع بدور كبير في ذلك الانتقال الذي يعتبر في حقيقته قلبًا لطبيعة الأمور. ولقد حقق الاستشراق نتائج عظيمة في حدود جهوده العلمية البحتة (وأنا أجد أن القول بوجود جهود علمية بحتة بمعنى أنها نزيهة ومجردة؛ قول يصعب فهمه، لكننا نستطيع أن نسمح به على المستوى الفكري)؛ فلقد نجح في إيجاد بعض العلماء في إبان عصره العظيم في القرن التاسع عشر، وزاد من عدد اللغات التي تُدرَّس في الغرب، ومن كمِّ المخطوطات التي حرروها وترجموها وشرحوها، واستطاع في حالات كثيرة إعداد دارسين أوروبيِّين متعاطفين مع الشرق، وهم مَن كانوا مهتمين اهتمامًا صادقًا بقواعد النحو في اللغة السنسكريتية، وعلم المسكوكات الأثرية الفينيقية، والشعر العربي. ولكن الاستشراق — وعلينا أن نلتزم أشد الوضوح هنا — كان يغفل الشرق ذاته. فباعتبار الاستشراق منهجًا فكريًّا موضوعه الشرق، نجد أنه كان دائمًا ما ينطلق من التفاصيل الدقيقة الخاصة بالإنسان إلى التعميمات التي تتجاوز الإنسان، فإذا بملاحظة بشأن شاعر عربي عاش في القرن العاشر الميلادي وقد تكاثرت فتضخمت فأصبحت سياسة تُتَّخذ تجاه العقلية الشرقية (وتدور حولها) في مصر أو في العراق أو في الجزيرة العربية. وعلى غرار ذلك نجد أن المستشرقين قد يتخذون آية من آيات القرآن دليلًا ساطعًا على نزعة المسلم الحسية الراسخة الجذور. وكان الاستشراق يفترض وجود شرق لا يتغير، ويختلف بصورة مطلقة عن الغرب (وإن كانت أسباب الاختلاف تتفاوت من حقبة إلى حقبة). كما أن الاستشراق، في صورته التي اتخذها بعد القرن الثامن عشر، لم يستطع قط مراجعة ذاته. وهذا كله يُحتم نشأةَ مراقبين وإداريِّين للشرق مثل «كرومر وبلفور».
- (أ)
على مستوى موقع المشكلة والإشكالية … نرى أن [الاستشراق يعتبر] الشرق والشرقيين «موضوعًا» للدراسة، ويطبعهما بطابعِ غَيريَّةٍ معينة — مثل كل ما هو مختلف، سواء كان «ذاتًا» أو «موضوعًا» — ولكنها غيرية تشكله، ذات طابع جوهري … وسوف يكون «موضوع» الدراسة المذكور، على نحو ما جرت عليه العادة، سلبيًّا، لا مشاركة فيه، وهو يكتسب ذاتية «تاريخية»، وهو، قبل كل شيء، غير فاعل، مسلوب الاستقلال، ومسلوب السيادة، بالنسبة لنفسه. وأما الشرق أو الشرقي أو «الذات» الوحيدة التي يسمح لها «بالدخول»، في أقصى الحدود، فهي الكائن المغترب فلسفيًّا، بمعنى أنه غير ذاته في علاقته بذاته، فالآخرون هم الذين يطرحونه ويفهمونه ويُعرِّفونه ويحركونه.
- (ب)
وعلى مستوى المحاور الفكرية نجد أن [المستشرقين] يضعون تصورًا أو مفهومًا جوهريًّا للبلدان والأمم والشعوب الشرقية التي يدرسونها، وهو تصور يعبر عن نفسه من خلال نمطية عرقية محددة الملامح … وسرعان ما يسيرون بها نحو العنصرية.
ويقول المستشرقون التقليديون بضرورة وجود جوهر ما — بل وأحيانًا ما يصفونه بوضوح وصفًا ميتافيزيقيًّا — فهو جوهر يمثِّل الأساس المشترك والثابت أبدًا لجميع الكائنات التي يدرسونها، وهو جوهر يجمع بين صفتين، فهو «تاريخي» ما دام يرجع إلى فجر التاريخ، وهو أيضًا يتجاوز التاريخ ما دام يُثبِّت هذا الكائن، «موضوع» الدراسة، في إطار الخصوصية الثابتة أبدًا، والتي لا تتطور مطلقًا، بدلًا من تعريفه وفقًا لتعريفهم لسائر الكائنات والدول والأمم والشعوب والثقافات؛ أي باعتباره نتيجة أو محصلة لما تنقله القوى العاملة في مجال التطور التاريخي.
إن عبد الملك يرى أن تاريخ الإمبريالية — وفقًا لمنظور أحد «الشرقيين» في أواخر القرن العشرين — أدَّى به إلى الطريق المسدود الذي سبق وصفه. ولنضع الآن الخطوط العريضة، بإيجاز، لذلك التاريخ وهو ينطلق خلال القرن التاسع عشر لاكتساب المزيد من الثقل والقوة، إلى جانب «هيمنة الأقليات التي تملك» والمركزية الإنسانية المتحالفة مع المركزية الأوروبية. كانت بريطانيا وفرنسا تسودان الاستشراق باعتباره مبحثًا علميًّا منذ أواخر عقود القرن الثامن عشر ولمدة قرن ونصف تقريبًا. وكانت المكتشفات العظمى في فقه اللغة، والخاصة بالنحو المقارن، والتي أنجزها «جونز، وفرانز بوب، وجيكوب جريم» وغيرهم، تَدِين أصلًا للمخطوطات التي جيء بها من الشرق إلى باريس ولندن. وبلا استثناء تقريبًا كان كل مستشرق يبدأ حياته العملية باعتباره باحثًا في فقه اللغة، وكانت الثورة في فقه اللغة — وهي التي أخرجت لنا «بوب وساسي وبيرنوف» وتلاميذهم — عِلْمًا مقارنًا يقوم على افتراض أن اللغات تنتمي إلى أُسَر، وأن أسرة اللغات الهندية الأوروبية وأسرة اللغات السامية أعظمها. ومنذ البداية إذن كان الاستشراق يتسم في مساره بسمتين (١) الإحساس الجديد بالحرج العلمي، القائم على أهمية الشرق لغويًّا، و(٢) الميل إلى تقسيم مادة موضوعه، وإعداد تقسيمات فرعية، وإعادة تقسيمها، دون تغيير نظرته قط إلى الشرق باعتباره نفس الشيء ذي الغرابة الأصيلة، والذي يظل دائمًا على ما هو عليه من اطراد النسق وعدم التغيير.
ولا بد لسلسلة النسب الفكرية — الرسمية — للاستشراق أن تتضمن «جوبينو، ورينان، وهمبولت، وشتاينال، وبيرنوف، وريموسات، وبامر، وفايل، ودوزي، وميور»، إذا اقتصرنا على بضعة أسماء للمشاهير، اختيرت بصورة شبه عشوائية من القرن التاسع عشر. بل ولا بد أن تتضمن طاقة الجمعيات العلمية على النشر، مثل الجمعية الآسيوية الفرنسية التي تأسست في ١٨٨٢م، والجمعية الآسيوية الملكية البريطانية التي أُنشئت عام ١٨٢٣م، والجمعية الشرقية الأمريكية، التي تكونت عام ١٨٤٢م وغيرها. ولكن سلسلة الأنساب الفكرية الرسمية قد تتجاهل بالضرورة المساهمة الكبيرة من جانب الكتابات الإبداعية وكتب الرحلات، وهي التي دعمت التقسيمات التي وضعها المستشرقون بين شتى مناطق الشرق جغرافيًّا وزمنيًّا وعنصريًّا. ونحن نُخطئ إن أقدمنا على هذا التجاهل؛ فمن زاوية الشرق الإسلامي تعتبر هذه الكتابات بالغة الثراء، وتمثل مساهمة لها وزنها في بناء «الخطاب» الاستشراقي، وهي تتضمن الأعمال التي كتبها «جوته، وهوجو، ولامارتين، وشاتوبريان، وكنجليك، ونيرفال، وفلوبير، ولين، وبيرتون، وسكوط، وبايرون، وفيني، ودزرائيلي، وجورج إليوت، وجوتييه». وفي وقت لاحق؛ أي في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، يمكننا أن نضيف «دواتي، وباريه، ولوتي، وت. أ. لورنس، وفورستر». فلقد اشترك هؤلاء الكتاب جميعًا في إبراز الشكل العام لما كان «دزرائيلي» يُطلق عليه «اللغز الآسيوي الأعظم». وقد تلقَّى هذا الجهد دعمًا كبيرًا لا يقتصر على نتائج الكشف عن دفائن الحضارات الشرقية الميتة (وهو ما قامت به البعثات الأوروبية للتنقيب عن الآثار) في بلاد ما بين النهرين؛ أي العراق، ومصر، وسوريا، وتركيا، بل يتضمن أيضًا نتائج المسوح الجغرافية الكبرى التي شملت الشرق كله.
وهذه الخطوط العريضة التي رسمتُها تتسم بالتعميم حتى الآن. تُرى إذن ماذا كانت الخبرات والمشاعر الخاصة المميزة والمصاحبة لأوجه التقدم العلمي للاستشراق وللعواقب السياسية التي ساعد فيها الاستشراق؟ سنجد أولًا خيبة الأمل الناشئة من الاختلاف الشديد بين الشرق الحديث وصورة الشرق في النصوص. هذا أولًا ما يقوله «جيرار دي نيرفال» في الرسالة التي أرسلها إلى «تيوفيل جوتييه» في نهاية أغسطس ١٨٤٣م:
وإذا كانت الحساسية الاستشراقية تتميز في البداية بانقشاع الوهم، على المستوى الشخصي، والانشغال العام؛ فإنه قد ترتب على هذين بعض العادات المألوفة في التفكير والإحساس والإدراك. فالذهن يتعلم الفصل بين التصور العام للشرق وبين كل خبرة خاصة به، فكلٌّ منهما يسير في طريقه الخاص، إن صح هذا التعبير. ففي الرواية التي كتبها السير «وولتر سكوط» بعنوان: «الطِّلَّسْم» (١٨٢٥م) ينازل السير كينيث (الملقب بفارس الفهد الرابض) مسلمًا، فيلتقيان وحدهما، على مسافة ما من بعضهما البعض، في صحراء فلسطين، وعندما ينخرط القائد الصليبي بعد فترة في نقاش مع خصمه الذي نتبين أنه صلاح الدين نفسه متنكرًا، يكتشف المسيحي أن عدوه المسلم ليس بالسوء الذي تصوره على كل حال. ومع ذلك فهو يقول:
ذلك أن المسلم في هذه الرواية يتفاخر بنسبة سلالته إلى إبليس، كبير الشياطين عند المسلمين. ولكن مصدر العجب الحقيقي هنا لا يتمثل في ضعف التصوير الذي يتوسل به «سكوط» لإضفاء جو العصور الوسطى على المشهد بحيث يجعل المسيحي يهاجم المسلم من زاوية لاهوتية وبصورة لم يلجأ إليها الأوروبيون في القرن التاسع عشر (وإن كانوا على استعداد لذلك)؛ ولكن مصدر العجب الحقيقي هو نبرة التفضل أو التنازل الوهمي الذي يُدين بها شعبًا بأكمله «بصفة عامة» وتخفيف تلك الإساءة في الوقت نفسه بالعبارة الفاترة «وأنا لا أقصدك أنت بالذات».
والإحساس بانقشاع الوهم والنظرة «المعممة» — ولا أقول «الفصامية» — إلى الشرق، كانت تصحبهما في العادة خصيصة أخرى؛ إذ إنه لما كان الشرق قد تحوَّل إلى «شيء عام»، فقد أصبح من الممكن استعمال الشرق كله لتمثيل شكل معين من أشكال الشذوذ. فإذا كان من المحال على الشرقي الفرد أن يغيِّر أو يعدِّل الفئات العامة التي تشرح معنى غرابته أو تجعلها مفهومة، فلا مانع من الاستمتاع بغرابته في ذاتها. وهذا، مثلًا، ما يقوله «فلوبير» في وصف مشهد الشرق:
أراد المهرج الذي يعمل عند محمد علي تسلية الجمهور فاصطحب امرأةً إلى أحد أسواق القاهرة يومًا ما، ووضعها على منضدة دكان ما، ثم جامعها علنًا، وصاحبُ الدكان يواصل تدخين غليونه في هدوء.
وفي الطريق من القاهرة إلى شبرا، منذ فترة ما، سمح أحد الشبان لقرد ضخم بأن يطأه علنًا، وذلك، مثلما حدث في القصة السابقة، حتى يُبديَ الناسُ إعجابهم به وحتى يضحكوا منه.
وتُوفي منذ فترة أحد المرابطين — وكان أبلهَ — وإن كان الناس قد اعتقدوا زمنًا طويلًا أنه من أولياء الله الصالحين، وكانت كل النسوة المسلمات يأتين إليه لرؤيته ولاستمنائه، ومات في النهاية من الإجهاد؛ فلقد كان يقضي الوقت من الصباح إلى المساء في ذلك.
ويُقر «فلوبير» صراحة بأن هذه أحداث شاذة غريبة من نوع خاص. ولكن «كل هذه الأحداث الفكاهية القديمة» — و«فلوبير» يعني بها التقاليد المشهورة «للعبد الذي يُقرع بالعصا … وللمتاجر الفظ في النساء … وللتاجر الذي يسرق زبائنه» — تكتسب معنًى جديدًا «به نضرة … وأصالة وفتنة» في الشرق. ومن المحال تكرار تقديم هذا المعنى، بل لا بد من التمتع به في الحال، ثم «العودة به» إلى الوطن في صورة تقريبية قدر الطاقة. وهكذا فإن الشرق يشاهد أو يراقب؛ لأن سلوكه الذي يكاد يؤذي البصر (وإن لم يكن يؤذيه تمامًا) ينبع من ذخيرة لا تنفد من الغرابة الخاصة، والأوروبي ذو الحس الرهيف الذي يطوف الشرق لا يزيد عن مُشاهد أو مُراقب، لا يشارك مطلقًا بل يظل دائمًا منفصلًا، دائمًا جاهزًا لمشاهدة نماذج جديدة مما يسميه كتاب: «وصف مصر» ألوان «المتع الغربية» ومن ثَم يصبح الشرق لوحة حية للغرائب والعجائب.
والمستشرق الحديث عندما يحكم على الشرق لا يبتعد عنه، بعكس ما يظن وما يقول، كيما يُصدر عليه حكمًا موضوعيًّا؛ إذ إن انفصاله الإنساني — الذي يدل عليه عدم تعاطفه الذي تستره المعرفة «المهنية» — مثقلٌ بكل ما هو «معتمد» في الاستشراق من مواقف ومنظورات وحالات نفسية سبق لي أن وصفتها هنا. كما أن الشرق الذي يراه ليس الشرق بصورته الحقيقية بل بصورته التي رسمها له الاستشراق، ورابطة المعرفة والسلطة تربط رجل السياسة الأوروبي أو الغربي بالمستشرقين الغربيين مثل قوس متصل الحلقات يشكِّل حافة المسرح الذي يقوم فيه الشرق. وبانتهاء الحرب العالمية الأولى لم تَعد أفريقيا والشرق يمثِّلان مشهدًا فكريًّا أمام الغرب بقدر ما أصبحَا «منطقة امتيازات»، وأصبح نطاق الاستشراق ينطبق انطباقًا كاملًا على نطاق الإمبراطورية، وهذا التوحد المطلق بين الجانبين هو الذي أدى إلى نشأة الأزمة الوحيدة في تاريخ الفكر الغربي والمعاملات الغربية مع الشرق. ولا تزال هذه الأزمة قائمة حتى الآن.
كان رد فعل العالم الثالث إزاء «الإمبراطورية» والإمبريالية ردًّا جدليًّا؛ اعتبارًا من فترة العشرينيات، ومن أقصى العالم الثالث إلى أقصاه. وبانعقاد مؤتمر «باندونج» عام ١٩٥٥م كان الشرق كله قد حصل على استقلاله من الإمبراطوريات الغربية، وبدأ يواجه تشكيلًا جديدًا يتكون من الدول الإمبريالية، وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولما عجز الاستشراق عن التعرف إلى «شرقه» في العالم الثالث الجديد، أصبح يواجه شرقًا يتحداه، وشرقًا مدجَّجًا بالسلاح السياسي. وانفتح طريقان بديلان أمام الاستشراق: الأول هو مواصلة العمل كأنَّ شيئًا لم يحدث، والثاني تطويع المناهج القديمة حتى تتكيف مع الواقع الجديد. ولكن المستشرق الذي يعتقد أن الشرق لا يتغير أبدًا كان يرى أن الواقع الجديد يمثل الواقع القديم الذي خانه شرقيون جدد «سُلِبت شرقيتهم» (ولنسمح لأنفسنا باشتقاق هذا المصدر الصناعي). أما البديل الثالث فهو بديل «تنقيحي» يتمثل في الاستغناء عن الاستشراق كله، ولكن أقلية صغيرة فقط هي التي نظرَت في هذا البديل.
وسوف نجد داخل الحياة العملية التي عاشها «ﻫ. أ. ر. جيب» نماذجَ للمنهجين البديلين اللذين اتبعهما الاستشراق في التصدِّي للشرق الحديث. ففي عام ١٩٤٥م ألقى «جيب» «محاضرات هاسكيل» في جامعة شيكاغو، ولم يكن العالَم الذي يستعرض أحواله آنذاك هو العالم الذي عرفه «بلفور وكرومر» قبل الحرب العالمية الأولى؛ إذ نشبت عدة ثورات، واندلعت حربان عالميتان، ووقع ما لا يُحصى عدده من التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي جعلت الواقع في عام ١٩٤٥م يبدو «شيئًا جديدًا» لا مراء في جدته بل وفي نكباته. ومع ذلك فنحن نجد أن «جيب» يفتتح المحاضرات التي جعل عنوانها الاتجاهات الحديثة في الإسلام على النحو التالي:
دائمًا ما يصطدم دارس الحضارة العربية بالتناقض الصارخ بين قوة الخيال التي تتجلَّى مثلًا في بعض فروع الأدب العربي، وبين النزعة الحَرْفية أو التحذلق الذي يتجلَّى في الاستدلال والعرض حتى ولو عند تناول نفس الأعمال المكتوبة. صحيح أنه خرج عددٌ من الفلاسفة العظام من بين الشعوب الإسلامية، وأن بعضهم كان من العرب، ولكن هؤلاء يمثلون استثناءات نادرة. فالعقل العربي لا يستطيع — سواء كان ذلك بالنسبة للعالم الخارجي أو بالنسبة «للعمليات» الفكرية — أن يتخلص من إحساسه العميق تجاه فردية الأحداث المجسدة وانفصال بعضها عن البعض. وهذا في اعتقادي أحد الأسباب الرئيسية التي تكمن وراء ذلك «الافتقار إلى الحس القانوني» الذي كان الأستاذ «ماكدونالد» يعتبره الاختلاف المميز للشرقي.
هذا استشراق بحت بطبيعة الحال، لكننا إذا أقررنا بالمعرفة الفائقة بالإسلام «المؤسسي» التي يصطبغ بها الكتاب كله، فإن أوجه التحيز المبدئية للكاتب «جيب» سوف تظل عقبةً كَأْداءَ أمام أي شخص يحاول أن يفهم الإسلام الحديث. ما معنى كلمة «الاختلاف» بعد حذف حرف الجر «عن» واختفائه عن الأنظار؟ تُرى هل يُطلب منَّا، من جديد، أن نفحص المسلم الشرقي كما لو كان عالمه لم يتخطَّ مطلقًا حدودَ القرن السابع الميلادي، على عكس عالَمنا، الذي «يختلف» عن عالَمه؟ وأما عن الإسلام الحديث نفسه، فلماذا — على الرغم من التعقيدات التي تشوب فهم «جيب» السديد له — يتحتم النظر إليه بهذه العداوة الشرسة التي ينظر بها المؤلف إليه؟ ولو كان الإسلام معيبًا من البداية بسبب نقائص دائمة، فسوف يعترض المستشرق على إجراء أية محاولات إسلامية لإصلاح نظمه؛ لأن الإصلاح في رأيه خيانة للإسلام: وهذه على وجه الدقة حجة «جيب». كيف يستطيع الشرقيُّ أن يطرح هذه الأصفاد ويدخل العالم الحديث إلَّا بأن يقول ما يقوله المهرج في مسرحية: «الملك لير»: «إنهما تأمران بجَلْدي حين أقول الحق، وأنت تريد أن تجلدني عندما أكذب، بل أحيانًا ما يجلدني البعض؛ لأنني ألتزم الصمت.»
وهذه المواقف الاستشراقية المعاصرة تغمر الصحافة والتفكير الشعبي؛ إذ يُظن أن العرب قوم يركبون الجمال، إرهابيون، أنوفهم معقوفة، فاسقون مرتشون، وأن ثروتهم التي لا يستحقونها إهانةٌ للحضارة الحقيقية. وخلف ذلك دائمًا ما يختبئ افتراض أنه رغم انتماء المستهلكين الغربيِّين إلى أقلية عددية في العالم، فإن من حقهم إما أن يمتلكوا أو ينفقوا (أو أن يمتلكوا وينفقوا معًا) غالبية موارد العالم. لماذا؟ لأن المستهلك الغربي، بخلاف الشرقي، إنسان حقيقي. ولا يوجد اليوم مثال أنصع على ما وصفه عبد الملك بأنه «هيمنة الأقليات التي تملك» والمركزية الإنسانية المتحالفة مع المركزية الأوروبية: إن الغربي الأبيض الذي ينتمي للطبقة الوسطى يعتقد أنه يتمتع بمزية إنسانية تمنحه الحق لا في إدارة العالم غير الأبيض فحسب بل أيضًا في امتلاكه، لمجرد كون ذلك العالم — تعريفًا — لا ينتمي للإنسانية تمام الانتماء مثلنا «نحن». كما لا يوجد مثال أصفى من هذا على الفكر المجرد من الصفات الإنسانية.
أضف إلى ذلك أن المستشرق يفترض أن ظهور ما لم تُهيئه النصوص لظهوره قد ظهر؛ إما نتيجة تحريض خارجي في الشرق وإما بسبب التفاهات الشرقية الضالة. ولا يوجد نص من النصوص الاستشراقية التي كتبت عن الإسلام — حتى ذلك المصنف الجامع «تاريخ كيمبريدج للإسلام» — يستطيع أن يُهيئ قارئه لما حدث منذ عام ١٩٤٨م في مصر وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان أو اليمن؛ شماله وجنوبه. وعندما تعجز العقائد الجامدة عن الإسلام عن مدِّ يد العون، حتى لأشد المستشرقين تفاؤلًا، يبدأ اللجوء إلى رطانة العلوم الاجتماعية الاستشراقية، وإلى بعض التجريدات التي يمكن تسويقها مثل النُّخَب والاستقرار السياسي، والتحديث، والتنمية المؤسسية، وقد اصطبغت جميعها بالصبغة المميزة للحكمة الاستشراقية. وفي غضون ذلك ينشأ صَدْعٌ يتسع ويزداد خطره ليفصل بين الشرق والغرب.
والأزمة الراهنة تُجسد التفاوت بين النصوص والواقع تجسيدًا صارخًا. لكنني لا أريد أن أقتصر في هذه الدراسة للاستشراق على كشف مصادر آراء الاستشراق بل أن أتأمل أيضًا أهميته، فالمثقف المعاصر يرى مُحقًّا أنه إذا تجاهل جزءًا من العالم؛ لأنه أصبح يتطاول عليه، كان معنى ذلك تجاهل الواقع وتجنُّبه. وما أكثر ما كان دارسو العلوم الإنسانية يقصرون اهتمامهم على موضوعات بحث مستقلة، فلم يرقبوا أو يتعلموا من مبحث مثل الاستشراق الذي كان طموحه الدائب أن يحيط بعالم كامل، لا بقسم منه يتيسر رسم حدوده مثل مؤلفات مؤلف واحد أو مجموعة من النصوص. ومع ذلك، فإلى جانب بعض «أستار الأمن» الأكاديمية مثل «التاريخ» أو «الأدب» أو «العلوم الإنسانية»، ورغم طموحات الاستشراق الكبيرة، فإنه منغمس في الظروف التاريخية الدنيوية، وهو الانغماس الذي يحاول أن يُخفيَه بقناع العلمية المفرطة التي كثيرًا ما يتباهى بها وبدعوى العقلانية. ويستطيع المفكر المعاصر أن يتعلم من الاستشراق كيف يحُدُّ أو يُوَسِّع، بمنهج واقعي، من نطاق مزاعم مبحثه، من ناحية، وأن يرى، من ناحية أخرى، الساحة الإنسانية (أو ساحة القلب، مضغة اللحم والدم، كما كان الشاعر ييتس يسميها) التي تشهد مولد النصوص والرؤى والمناهج والمباحث العلمية، وتشهد نموها وازدهارها ثم تدهورها. والبحث في الاستشراق يعني كذلك طرح الطرائق الفكرية اللازمة لمعالجة المشكلات المنهجية التي قدمها التاريخ في مادة موضوعه، إن صح هذا التعبير، أي الشرق. ولكن علينا قبل ذلك، في واقع الأمر، أن نطَّلع على القيم الإنسانية التي كاد الاستشراق، بخبراته وأبنيته، أن يلغيَها.