أولًا: حدود أعادوا رسمها، وقضايا أعادوا تعريفها ودين جعلوه علمانيًّا
تُوفي «جوستاف فلوبير» في عام ١٨٨٠م قبل أن ينتهيَ من كتابة روايته: «بوفار وبيكوشيه»؛ وهي رواية موسوعية فكاهية عن انحطاط المعرفة وتفاهة الجهد البشري. ومع ذلك فإن الخطوط العريضة لرؤيته واضحة، وتدعمها بوضوح التفصيلات المستفيضة في الرواية. والبطلان اللذان تحمل الرواية اسمَيهما موظفان كتابيَّان من الطبقة البورجوازية، وعندما يرث أحدهما تركةً كبيرة على غير انتظار يقرران التقاعد وترك المدينة للعيش في ضيعة ريفية حتى يفعلا كلَّ ما يريدان («نفعل كل ما نريد!») وحسبما يصور «فلوبير» ما يحدث لهما حين «يفعلان ما يريدانه»، يقوم بوفار وبيكوشيه بجولة واسعة، عملية ونظرية، في الزراعة والتاريخ والكيمياء والتعليم وعلم الآثار والأدب، ويخرجان بنتائج دائمًا ما تقصر عن بلوغ النجاح، فهما يطوفان بحقول العلم مثل المسافر في الزمن والمعرفة، فيشهدان ضروبًا من خيبة الأمل والكوارث وألوان الخذلان التي يعهدها الهواة غير الملهمين. والواقع أن ما يمران به يمثل الخبرة الكاملة لانقشاع الوهم في القرن التاسع عشر، ومعنى ذلك أن «أفراد البورجوازية الظافرين» — بتعبير «شارل مورازيه» — يتحولون إلى ضحايا يتعثرون بسبب مستوى تفكيرهم العادي وعجزهم الذي يحول دون تميزهم. فكل حماس يذوي ويتحول إلى قالب لفظي ممل، وكل مبحث علمي أو نوع من أنواع المعرفة يتحول من الأمل والقوة إلى الفوضى والخراب والحزن.
ومن بين الصور التمهيدية التي أعدها «فلوبير» لختام هذا المشهد العام لليأس صورتان جديرتان باهتمامنا الخاص هنا؛ الأولى صورة الرجلين وهما يناقشان مستقبل الجنس البشري: إذ إن بيكوشيه يرى «مستقبل الإنسانية من خلال زجاج معتم». وبوفار يراه مشرقًا «وضَّاء!» فهو يقول:
وهذا الصدى الواضح لأفكار «كينيه» يمثل ابتداء دورة أخرى من دورات الحماس وخيبة الأمل التي سوف يمر بها الرجلان. ويتضح من المذكرات التحضيرية التي كتبها «فلوبير» للرواية أن هذا «المشروع» الذي يتوقعه بوفار لن يختلف مصيره عن مصير مشروعاته الأخرى؛ إذ سوف يصطدم بالواقع الذي يوقف سيره — ويتمثل الواقع هذه المرة في الظهور المفاجئ لرجال الشرطة الفرنسية الذين يتهمونه بالفسق والفجور. وبعد سطور قليلة تظهر الصورة الثانية التي تهمُّنا، حين يعترف الرجلان معًا، وفي نفس الوقت، لبعضهما البعض أنهما يرغبان سرًّا في العمل بنسخ المخطوطات، فيطلبان صناعة قمطر يتسع لعمل شخصين، ويشتريان الكتب والأقلام الرصاص والممحاوات، ثم — عندما ينتهي «فلوبير» من رسم الصورة — يبدآن العمل. وهكذا يتدهور حال بوفار وبيكوشيه من موقف مَن يحاول «خوض غمار» المعرفة وتطبيقها مباشرة، إلى حدٍّ ما، إلى موقف الذي يَنقُل، آخر الأمر، نقلًا سلبيًّا من نصٍّ لنص.
وتعتبر جذور أمثال هذه الطموحات «التنقيحية» جذورًا رومانسية ذات طابع بالغ الخصوصية. ولا بد أن نتذكر إلى أيِّ حدٍّ كان الجانب الأكبر من المشروع الروحي والفكري للقرن الثامن عشر يمثل «لاهوتًا أعيد تكوينه»، ويطلق عليه «م. ﻫ. إبرامز» تعبير «المذهب الطبيعي للأسباب الخارقة»، وانتقل هذا النمط الفكري إلى المواقف الفكرية المميزة للقرن التاسع، والتي يهجوها «فلوبير» في بوفار وبيكوشيه. وهكذا فإن فكرة التجديد تشير — كما يقول «إبرامز» — إلى:
وأما ما كان «بوفار» يرمي إليه بإشارته إلى تجديد أوروبا على يدَي آسيا فيعتبر فكرة رومانسية بالغة النفوذ والتأثير؛ إذ كان «فريدريش شليجل ونوفاليس»، مثلًا، يحثَّان أبناء وطنهما، ويحثَّان الأوروبيِّين بصفة عامة، على دراسة الهند دراسة مفصلة؛ لأن ثقافة الهند ودينها يستطيعان هزيمةَ النزعة المادية والآلية (والمذهب الجمهوري) في الثقافة الغربية، قائلين إن هذه الهزيمة من شأنها أن تُنشئ أوروبا جديدة بُعثت فيها الحيوية، وتُطِل علينا في هذه «الوصفة» صور الكتاب المقدس عن الموت والبعث والخلاص. أضف إلى ذلك أن المشروع الاستشراقي الرومانسي لم يكن مجردَ مثالٍ خاصٍّ لاتجاه عام، بل كان قوةً جبارة ساهمت في تكوين هذا الاتجاه، على نحو ما جاء في الحجج المقنعة التي أقامها «ريمون شواب» على ذلك في كتابه النهضة الشرقية. ولكن قيمة آسيا لم تكن ترجع إلى آسيا نفسها بقدر ما كانت ترجع إلى نفعها لأوروبا الحديثة. وهكذا فإن كلَّ مَن أتقن لغة شرقية، مثل «شليجل» أو «فرانتس بوب»، كان يعتبر بطلًا روحيًّا، أو فارسًا شاردًا يعود لأوروبا حاملًا الوعي بالرسالة المقدسة التي فقدتها. وكان هذا الوعي على وجه الدقة هو ما واصلت الأديان العلمانية — التي صورها «فلوبير» — حمله في القرن التاسع عشر. ولم يكن «أوجست كونت» — مثل «بوفار» — يقلُّ عن «شليجل ووردزورث وشاتوبريان» استمساكًا ودعوة إلى أسطورة علمانية تنتمي لما بعد عصر التنوير، وكانت خطوطها العريضة مسيحية بلا مراء.
وقد جعل «فلوبير» بطلَي الرواية، بوفار وبيكوشيه، يستعرضان جميع الأفكار «التنقيحية» من البداية حتى النهاية التي تتسم بانحطاط فكاهي، فلفت الأنظار بذلك إلى الخلل البشري الذي تشترك فيه جميع المشروعات. كان يدرك خير الإدراك إلى الخلل البشري الذي تشترك فيه جميع المشروعات. كان يدرك خير الإدراك مدى الصلف البالغ الخبث الذي يكمن خلف الفكرة الشائعة «بتجديد أوروبا على يدَي آسيا»، فلم يكن من الممكن أن يصبح «لأوروبا» أو «آسيا» معنى لولا الأسلوب الذي توصل به الحالمون في تحويل مساحات جغرافية شاسعة إلى كيانات يمكن معالجتها والتحكم فيها. وكانت أوروبا وآسيا إذن، في جوهر الأمر، أوروبا التي تنتمي إلينا وآسيا التي تنتمي إلينا؛ أي إنهما كانتا إرادتنا والصورتين اللتين رسمناهما لهما، كما قال «شوبنهاور». وكانت القوانين التاريخية في حقيقتها قوانين المؤرخين، مثلما كانت «الصورتان من صور الإنسان» — اللتان وردتا في عبارة بوفار — لا تشيران إلى واقع فعلي بقدر ما تكشفان عن القدرة الأوروبية على إضفاء مسحة من الحتمية على فواصل التمييز التي وضعها الإنسان. وأما النصف الآخر من العبارة — وهو «سوف تلتحمان أخيرًا» — فيقصد بها «فلوبير» السخرية من عدم اكتراث العلم، في مرح، بالواقع الفعلي، وهو علم يقوم بتشريح وصهر الكيانات البشرية كأنها مواد خامدة إلى حدٍّ بعيد. لكنه لم يكن يسخر من العلم على إطلاقه، بل من العلم الملتهب حماسة، أو العلم الأوروبي «المسياني»؛ أي القائم على الأمل في الخلاص، والذي كانت من انتصاراته ثورات فاشلة، وحروب، وظلم، وشهية يستحيل تلقينها تدفع صاحبها إلى محاولة التطبيق الفوري للأفكار النظرية الجليلة بصورة خيالية. وأما ما لم يحسب ذلك العلم، أو تلك المعرفة، حسابه يومًا ما، فهو الانفصال الراسخ في أعماق ذلك العلم — وهو انفصال غير حميد، وإن لم يسبب له حرجًا — بينه وبين الواقع بل ومقاومة الواقع له. فعندما «يلعب» بوفار دور العالِم، يفترض بسذاجة أن العلم موجود وحسب، وأن الواقع هو ما يقول العلم إنه واقع، وأنه لا أهمية لكون العالم أحمقَ أو حالمًا، فهو لا يستطيع أن يرى (مثلما لا يستطيع كلُّ مَن يفكر بهذا الأسلوب أن يرى) أن الشرق قد لا يرغب في تجديد أوروبا، أو أن أوروبا لم تكن توشك أن تنصهر بصورة ديموقراطية مع الآسيويِّين من ذوي البشرة الصفراء أو السمراء. وباختصار فإن هذا العالِم لا يدرك في علمه إرادة السلطة التي تغذو جهوده وتفسد طموحاته، وهي إرادة أنانية.
ويحرص «فلوبير»، بطبيعة الحال، على أن يجعل الأحمقَين المسكينَين اللذين يصورهما يكتويان بنار هذه الصعوبات؛ إذ يتعلم بوفار وبيكوشيه أنه من الأفضل لهما ألَّا يتعاملَا بالأفكار وبالواقع معًا. وتقدم خاتمة الرواية صورة للرجلين وقد أصبحا يقنعان تمامًا بنسخ ما يفضلانه من أفكار ونقلها بأمانة من الكتب إلى الأوراق؛ أي إن المعرفة لم تَعُد تتطلب التطبيق على الواقع، فالمعرفة هي ما ينتقل في صمت ودون تعليق من نصٍّ إلى نص، وأصبحت الأفكار تُذاع وتُنشر دون أن تنسب لمؤلف معروف، ويكررها مَن يكررها دون نسبتها إلى صاحبها؛ إذ أصبحت، حرفيًّا، أفكارًا متلقَّاة، بمعنى أنها متقبَّلة أو مقبولة، فالعبرة فقط بوجودها، حتى يكررها البعض، ويُرجعوا صداها، ثم يرجعوا صداها من جديد، دون إبداءِ رأيٍ فيها.
وتمثل هذه الحادثة القصيرة — بشكلها المضغوط إلى حد بعيد، والمقتطفة من المذكرات التي كتبها «فلوبير» لروايته بوفار وبيكوشيه — الإطار الذي تقع فيه أبنية الاستشراق الحديثة بصفة محددة، فما الاستشراق على أية حال إلا مبحث واحد من بين الأديان العلمانية (وشبه الدينية) التي اتسم بها الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر. ولقد سبق لنا تحديد صفات النطاق العام للأفكار المتعلقة بالشرق، وهو الذي ورثته أوروبا من العصور الوسطى وعصر النهضة، وكان الإسلام يمثل جوهر الشرق في هذا الإطار. أما في القرن الثامن عشر فقد برز عدد من العناصر الجديدة المتضافرة، والتي كانت تُلْمِح إلى قدوم مرحلة النزعة التبشيرية، وهي التي أعاد «فلوبير»، فيما بعد، رسم خطوطها العريضة.
وأما رابع العناصر التي مهدت الطريق لقيام أبنية الاستشراق الحديث فكان يتمثل في نزعة جارفة إلى تصنيف الطبيعة والبشر في أنماط، وأعظم اسمين في هذا الصدد هما، بطبيعة الحال، «لينيوس»، عالِم النبات السويدي، و«بيفون»، عالِم الطبيعة الفرنسي. ولكن الحركة الفكرية التي ينتميان إليها كانت واسعةَ الانتشار، وهي التي جعلت ما يسمَّى «الامتداد الجسدي» — أي الطابع المادي الذي يميز الأشياء بعضها عن بعض — يتحول من كونه صورة ظاهرة إلى اعتباره قياسات دقيقة للعناصر التي تشكل خصائصه، وسرعان ما أصبحت هذه الحركة تشمل تحويلَ كلِّ ما له «امتداد» أو وجود معنوي أو فكري أو روحي إلى أنماط محددة. فلقد قال «لينيوس» إن كل ملاحظة نسجلها عن أي نمط طبيعي «يجب أن تكون نتيجة للعدد وللشكل وللنسب القائمة وللحالة» والواقع أننا إذا نظرنا في كل ما كتبه «كانط أو ديديرو أو جونسون» فسوف نستشفُّ ولَعًا مماثلًا بتكبير وتضخيم ملامح عامة، واختزال أعداد هائلة من «الأشياء» حتى تنحصر في عدد أقل من الأنماط التي يمكن تنظيمها ووصفها. وكان كل نمط في التاريخ الطبيعي وفي الأنثروبولوجيا وفي التعميمات الثقافية يتخذ طابعًا خاصًّا محددًا يُتيح للمراقب أن يسمِّيَه اسمًا معينًا، وكذلك، كما يقول «فوكوه»، أن «يتحكم في اشتقاقه». وكانت هذه الأنماط والطباع تنتمي إلى نظام معين؛ أي إلى شبكة من التعميمات التي يرتبط بعضها ببعض، وهكذا، كما يقول «فوكوه»:
وتمثل العناصر الأربعة التي وصفتها — وهي التوسع، والمواجهة التاريخية، والتعاطف، والتصنيف — التيارات الفكرية في القرن الثامن عشر التي يعتمد عليها قيام الأبنية الفكرية والمؤسسية المحددة للاستشراق الحديث، ولولاها ما نشأ الاستشراق، على نحو ما سوف نرى بعد قليل. وإلى جانب ذلك كانت هذه العناصر من وراء تحرير الشرق بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة، من منظور الفحص الديني الضيق النطاق الذي كان الغرب المسيحي يتخذه في دراستهما (والحكم عليهما). وبعبارة أخرى نقول إن الاستشراق الحديث مستمدٌّ من عناصر العلمانية في الثقافة الأوروبية في القرن الثامن عشر. فالعنصر الأول، وهو التوسع في مفهوم الشرق جغرافيًّا وامتداده إلى مسافات أبعد، أدَّى مؤقتًا إلى التحلل من الإطار المرسوم في الكتاب المقدس بل وإذابة ذلك الإطار إلى حدٍّ كبير، فلم تَعُد النقاط المرجعية هي المسيحية واليهودية، بتاريخهما وجغرافيتهما المتواضعتَين نوعًا ما، بل أصبحت تضمُّ الهند والصين واليابان وسومر، والبوذية واللغة السنسكريتية، والمذهب الزرادشتي، وديانة مانو الهندية القديمة. والعنصر الثاني هو تدعيم القدرة على التعامل تاريخيًّا مع الثقافات غير الأوروبية وغير اليهودية المسيحية (دون اختزالها لتصبح من موضوعات السياسة الكنسية)، وذلك مع زيادة النظرة الراديكالية إلى التاريخ، بحيث أصبح تفهُّمُ أوروبا يعني كذلك تفهُّمَ العلاقات الموضوعية بين أوروبا وتخومها الزمنية والثقافية التي كان الوصول إليها محالًا من قبل. وقد تحققت بمعنى من المعاني فكرة «جون السيجوفي» بعقد مؤتمر بين الشرق وأوروبا، وإن كان ذلك بأسلوب علماني خالص؛ إذ استطاع «جيبون» أن يتناول شخصية النبي محمد عليه السلام باعتباره شخصية تاريخية أثرت في أوروبا؛ لا باعتباره كافرًا شيطانيًّا يتراوح موقفه ما بين السحر والنبوءة الكاذبة. والعنصر الثالث هو التوحد الوجداني مع بعض المناطق والثقافات التي لا ينتمي الأوروبي إليها، وهو الذي قهر «عناد» الذات والهوية، بمعنى الاستقطاب المتمثل في تصور وجود مجتمع من المؤمنين المتهيئين للقتال الذين يواجهون جحافل الهمجيين العرمرم، وهكذا لم تَعُد حدود أوروبا المسيحية تعتبر ضربًا من المناطق الجمركية؛ واكتسبت الأفكار الخاصة بالترابط الإنساني وإمكانات الإنسان شرعية عامة بالغة الاتساع؛ أي بريئة من ضيق النظرة. والعنصر الرابع هو التكاثر الدائب والمنتظم للتصنيفات الموضوعية للجنس البشري، نتيجة تشذيب وتنقيح إمكانات التسمية والاشتقاق حتى تجاوزت الفئتين القديمتين اللتين كان يصفهما «فيكو» بأنهما فئة الأمم غير اليهودية وفئة الأمة المقدسة، فتغلَّبَت اعتبارات الأجناس والألوان والأصول والأمزجة والطبائع والأنماط على التمييز ما بين المسيحيين وبين كل من عداهم.
لكن القول بأن هذه العناصر المترابطة تمثِّل اتجاهًا لإضفاء العلمانية، لا يعني ببساطة إزالة الأنساق الدينية القديمة للتاريخ البشري ومصير الإنسان ونماذجه الوجودية. فالأمر أبعد ما يكون عن ذلك؛ إذ إنها أعيد تشكيلها ونشرها وتوزيعها في الأطر العلمانية التي سبق لي تعدادها. فكل مَن يدرس الشرق كان يحتاج إلى مفردات علمانية تتمشى مع هذه الأطر. لكنه إذا كان الاستشراق قد قدم المفردات، والمفاهيم النظرية الجاهزة، وأساليب العمل، فذلك حقًّا ما فعله الاستشراق بل وما كان عليه الاستشراق اعتبارًا من نهاية القرن الثامن عشر، فإنه قد احتفظ بما يعتبر تيارًا ثابتًا في «خطابه»، وهو الدافع الديني الذي أُعيد تشكيله، أو المذهب الطبيعي للأسباب الخارقة. وسوف أحاول أن أبين أن هذا الدافع الاستشراقي كان يكمن في تصور المستشرق لنفسه، وللشرق، والمبحث الذي يعمل فيه.
كان المستشرق الحديث يرى نفسه بطلًا ينقذ الشرق من العتمة والاغتراب والغرابة ويرى أنه هو الذي نجح في إدراك ذلك. فبحوثه أعادَت تكوين ما فُقد من لغات الشرق، ومن أخلاقه وطرائق تفكيره، مثلما أعاد «شامبوليون» تكوينَ الحروف الهيروغليفية من حجر رشيد. وكانت أساليب الاستشراق الخاصة — من وضع المعاجم والقواعد النحوية، إلى الترجمة، والتفسير الثقافي — تُعيد بناء القيم القائمة في الشرق العريق القديم، وفي المباحث التقليدية مثل فقه اللغة والتاريخ والبلاغة والجدلية المذهبية فتكسو عظامها لحمًا وتُعيد تأكيدها. ولكن الشرق ومباحث الاستشراق تغيَّرت في غمار هذا الجهد تغيُّرًا جدليًّا؛ إذ لم تستطع البقاء بصورتها الأصلية؛ فلقد تعرَّض الشرق «للتحديث»، فأُعيد إلى الزمن الحاضر، حتى في الشكل «الكلاسيكي» الذي كان المستشرق يدرسه عادة، كما أُعيد إدراج المباحث التقليدية في نسيج الثقافة المعاصرة. ولكن هذا وذاك كانَا يحملان آثار السلطة، ومعناها القدرة على بعث الشرق بل وخلقه، والقوة الكامنة في المناهج الجديدة، والمتقدمة علميًّا، لفقه اللغة والتعميم الأنثروبولوجي. وباختصار، فبعد أن نقل المستشرق الشرق إلى العالم الحديث، بدأ يحتفل بمنهجه وبمكانته باعتباره مبدعًا علمانيًّا؛ أي باعتباره رجلًا تمكَّن من خلق عوالم جديدة مثلما خلق الله العالم القديم. وأما مواصلة أمثال هذه المناهج وهذه المكانة لتتجاوز عمر أي مستشرق فرد في هذه الدنيا؛ فقد تطلبت ظهور تقاليد الاستمرار العلمانية، أو نظامًا علمانيًّا من المنهجيات المنضبطة التي لا يعتمد الانتساب إلى عضويتها على رابطة الدم بل على «خطاب» مشترك، أو على أسلوب ممارسة، ومكتبة، ومجموعة من الأفكار الثابتة، أو قل في كلمة واحدة أن يرتل تراتيلَ الحمد كلُّ مَن ينضم إلى الصف. كان عند «فلوبير» من بُعْد النظر ما مكَّنه من أن يتوقع أن يتحول المستشرق الحديث على مر الأيام إلى نسَّاخ مثل بوفار وبيكوشيه، لكن مثل هذا الخطر لم يكن واضحًا في الأيام الأولى في الحياة العلمية لكلٍّ من «سلفستر دي ساسي وإرنست رينان».
وأطروحتي تقول إننا نستطيع أن نفهم الجوانب الجوهرية لنظرية المستشرق الحديث وعمله (والاستشراق في العصر الحاضر مستمدٌّ منها) لا باعتبارها معرفة موضوعية أصبحت متاحة فجأة عن الشرق، بل باعتبارها مجموعة من الأبنية الموروثة من الماضي، بعد أن قامت بعض المباحث العلمية مثل فقه اللغة بإكسابها صبغة علمانية، وإعادة تنظيمها وتشكيلها، وهي المباحث التي كانت بدورها بدائل عن مذهب الأسباب الخارقة المسيحي (أو بعض صوره) بعد أن اكتست ثوبًا «طبيعيًّا» إلى جانب تحديثها وإكسابها طابعًا علمانيًّا، وقد نجح «تكييف» الشرق بوضعه في صورة نصوص وأفكار جديدة، حتى يلائم هذه الأبنية الجديدة. لا شك أن بعض علماء اللغة والمستكشفين، مثل «جونز وأنكتيل»، قد ساهموا في الاستشراق الحديث، ولكن ما يميز الاستشراق الحديث؛ باعتباره «مجالًا» أو مجموعة من الأفكار أو «خطابًا» كان العمل الذي قام به جيل لاحق لجيل هؤلاء. وإذا استخدمنا حملة «نابليون» (١٧٩٨–١٨٠١م) باعتبارها أولى الخبرات التي مكَّنت الاستشراق الحديث من الظهور، فلنا أن نعتبر أن أبطالها الذين شقُّوا الطريق — مثل «ساسي ورينان ولين» في مجال الدراسات الإسلامية — هم الذين تولَّوا بناء هذا «المجال»، وإنشاء تقاليد جديدة، وأنهم أسلاف أعضاء جماعة «الإخوان المستشرقين». وكان ما فعله «ساسي ورينان ولين» يتمثل في إقامة الاستشراق على أساس علمي وعقلاني. ولم يكن ذلك يقتصر على ما أنجزوه من عمل نموذجي بل كان يتجاوزه إلى ابتداع مفردات وأفكار يستطيع كلُّ مَن يريد أن يصبح مستشرقًا أن يستعملها دون أن يُشير إلى شخص بعينه. كان «تدشينهم» للاستشراق إنجازًا هائلًا؛ إذ أتاح وضع مصطلح علمي؛ ونفى الغموض وأحل محلَّه نوعًا خاصًّا من التبصر بالشرق؛ ونصَّب شخصية المستشرق باعتباره الثقة المرجعية بل والسلطة المركزية في شئون الشرق؛ وأضفى المشروعية على نوع خاص من عمل المستشرق يتميز بتماسكه المحدد؛ وأشاع في المحيط الثقافي تداول «عملة» عقلانية كان وجودها يعني أن الآخرين سوف يتكلمون نيابةً عن الشرق من الآن فصاعدًا، وأهم من ذلك كلِّه أدَّى عمل هؤلاء «المفتتحين» إلى إعداد مجال دراسي و«أسرة» من الأفكار، وهما اللذان استطاعَا بدورهما تكوين جماعة من الباحثين الذين كانت سلسلة نسبهم وتقاليدهم وطموحاتهم تجمع بين الانتماء إلى ذلك المجال «داخليًّا» وبين درجة من عدم الانتماء تكفل لهم الهيبة والاحترام العام خارجيًّا. وكلما ازداد تعدِّي أوروبا على الشرق في القرن التاسع عشر ازدادت ثقة الجمهور بالاستشراق. لكنه إذا كانت هذه الزيادة في الثقة قد تزامنت مع نقصان الأصالة، فلا ينبغي لنا أن ندهش كثيرًا؛ لأن أسلوب الاستشراق منذ البداية كان يقوم على إعادة البناء والتكرار.
وهاك ملاحظة أخيرة: إن الأفكار والمؤسسات والشخصيات التي تنتمي لأواخر القرن الثامن عشر وللقرن التاسع عشر — وهي التي سوف أتناولها في هذا الفصل — تمثِّل جزءًا مهمًّا أو تطويرًا جوهريًّا للمرحلة الأولى من أعظم عصر احتلال للأراضي عرفه التاريخ. فبانتهاء الحرب العالمية الأولى كانت أوروبا قد استعمرت ٨٥ في المائة من الأرض. والقول ببساطة بأن الاستشراق الحديث يمثِّل جانبًا من جوانب الإمبريالية والاستعمار معًا، ليس مثارَ خلاف كبير، لكن القول وحده لا يكفي بل لا بد من تفصيل أبعاده تحليليًّا وتاريخيًّا. ويُهمني أن أبيِّن كيف كان الاستشراق الحديث — بخلاف ما كان لدى «دانتي وديربيلو» من وعي بالشرق قبل عهد الاستعمار — يجسِّد مبحثًا منتظمًا يقوم على التراكم. وكان ذلك أبعد ما يكون عن الاقتصار على الجانب الفكري أو النظري فقط؛ إذ إنه جعل الاستشراق يميل ميلًا مهلكًا إلى التراكم المنتظم لما يتحكم فيه من البشر والأراضي؛ لأن إعادة بناء لغة شرقية ميتة أو مفقودة كانت تعني في النهاية إعادةَ بناء شرق ميت أو مهمل، كما كانت تعني أن ما يصاحب إعادة البناء من دقة وعلوم بل وخيال إبداعي يستطيع تمهيد الطريق لما سوف تحققه الجيوش والإدارات والأجهزة البيروقراطية في وقت لاحق على أرض الواقع في الشرق. كان تبرير الاستشراق لا يقوم فقط، بمعنًى من المعاني، على نجاحاته الفكرية أو الفنية، ولكن أيضًا، في وقت لاحق، على فاعليته ونفعه، وسلطته. ولا شك أنه جدير بالاهتمام الجادِّ به من هذه الزوايا جميعًا.