ثانيًا: سلفستردي ساسي وإرنست رينان

الأنثروبولوجيا العقلانية ومختبر فقه اللغة
كانت حياة «سلفستر دي ساسي» تدور حول محورين رئيسيَّين هما الجهد البطولي والإخلاص بتفانٍ لما يعود به التعليم والمذهب العقلاني من النفع. وُلد «أنطوان-إيزاك-سلفستر» عام ١٧٥٧م لأسرة تعتنق مذهب «الجانسينية» أو «اليانسينية»، وهو من مذاهب الكاثوليكية الرومانية، وكان العمل التقليدي للأسرة عمل «الموثق العمومي»، وتلقَّى «سلفستر» تعليمه الخاص في دير بندكتي؛ فبدأ بدراسة اللغات العربية والسريانية والكلدانية، ثم درس العبرية. وكانت العربية بصفة خاصة هي التي فتحت له أبواب الشرق، حسبما يقول «جوزيف رينو»؛ لأن المادة الشرقية، المقدس منها والدنيوي، كان يمكن الاطلاع عليها في أقدم صورها وأكثرها نفعًا، بتلك اللغة آنذاك.1 وعلى الرغم من مناصرته للسلطة الشرعية، عُيِّن في عام ١٧٦٩م أول معلم للغة العربية في مدرسة كانت قد أُنشئت حديثًا آنذاك، تسمى مدرسة اللغات الشرقية الحية، وهي التي أصبح مديرًا لها فيما بعد؛ أي في عام ١٨٢٤م، وفي عام ١٨٠٦م رُشِّح لمنصب الأستاذية في «كوليج دي فرانس»، مع أنه كان يشغل منذ ١٨٠٥م فصاعدًا منصب المستشرق المقيم بوزارة الخارجية الفرنسية. وكان عمله فيها (الذي ظل بلا أجر حتى ١٨١١م) ينحصر في البداية في ترجمة نشرات «الجيش الفرنسي العظيم» و«المانيفستو» أو البيان الذي أصدره «نابليون» عام ١٨٠٦م، وكان الأمل المرتجى من ترجمته إثارة «التعصب الإسلامي» ضد الأرثوذوكسية الروسية، ولكنه عمل بعد ذلك سنوات كثيرة على تخريج المترجمين للعمل بقلم الترجمة الشرقية الفرنسي، إلى جانب تخريج باحثي المستقبل. وعندما احتل الفرنسيون مدينة الجزائر في عام ١٨٣٠م، كان «ساسي» هو مَن ترجم «الإعلان العام» للجزائريِّين، وكان وزير الخارجية يستشيره بانتظام في جميع الشئون الدبلوماسية المتعلقة بالشرق، وأحيانًا كان وزير الحربية يستشيره كذلك. وعندما بلغ الخامسة والسبعين من عمره حل محلَّه «داسييه» أمينًا لأكاديمية المدوَّنات، كما أصبح أيضًا أمينًا للمخطوطات الشرقية في المكتبة الملكية. وعلى امتداد حياته العملية الطويلة والمتميزة، كان اسمه يرتبط بحقٍّ بإعادة بناء وإعادة تشكيل النظام التعليمي (خصوصًا في الدراسات الشرقية) في فرنسا بعد الثورة.2 وفي عام ١٨٣٢م أنعم على «ساسي»، مثل «كوفييه»، بلقب النبيل الفرنسي.
ولم يكن سبب ارتباط اسم «ساسي» ببداية الاستشراق الحديث يرجع فحسب إلى أنه كان أول رئيس للجمعية الآسيوية (التي أُنشئت عام ١٨٨٢م)، بل أيضًا إلى أن عمله قد وضع فعليًّا أمام العاملين بهذه المهنة مجموعة نصوص كاملة منتظمة، ومذهبًا تعليميًّا عمليًّا، وتقاليد بحثية، كما أنشأ رابطة مهمة بين البحوث الشرقية والسياسات العامة. إذ بدأ، ولو على استحياء، في عمل «ساسي»، ولأول مرة في أوروبا منذ انعقاد مجلس فيين، تطبيق مبدأ منهجي متزامن مع المبحث العلمي. ولا يقل أهمية عن ذلك أن «ساسي» كان يشعر دائمًا أنه يقف على أعتاب مشروع تنقيحي مهم؛ فقد كان رائدًا يدرك ما يفعل، وكان — وهذا يتصل اتصالًا أشد بقضيتنا العامة — يكتب ما يكتب مثل كاهن أصبح علمانيًّا فأصبح الشرق مذهبه الديني وطلابه رعايا كنيسته. وكان دوق «دي بروليي»، وهو أحد المعجبين المعاصرين به، يقول إن «ساسي» استطاع التوفيق في عمله بين منهج العالم ومنهج معلِّم الكتاب المقدس، وإن «ساسي» هو الرجل الوحيد القادر على التوفيق بين «أهداف لايبنتز وجهود بوسويه».3 ومن ثَم فإن كل ما كتبه كان موجَّهًا إلى طلابه بصفة خاصة (وكان التلميذ هو ابنه نفسه لكتابه الأول مبادئ النحو العام الذي كتبه عام ١٧٩٩م) كما أنه كان يقدِّم ما يكتب لا باعتباره شيئًا جديدًا بل باعتباره مقتطفًا منقَّحًا من أفضل ما سبق فعله أو قوله أو كتابته.

وهاتان الخصيصتان — أي التقديم التعليمي للطلاب وتعمده التكرار صراحة بالاقتطاف وبالتنقيح — ذواتا أهمية بالغة. فالنبرة التي تتميز بها كتابات «ساسي» دائمًا نبرةُ صوت يتكلم، فنثره يشيع فيه استعمال ضمير المتكلم، وعبارات التحديد الشخصية، والحضور البلاغي. بل إننا نشعر حتى في أعوص ما يكتب — مثلما نرى في إشارته العملية إلى المسكوكات الأثرية من العهد الساساني في بلاد الفرس، في القرن الثالث — أننا نسمع صوتًا يتحدث أكثر مما نرى قلمًا يكتب. والنغمة الأساسية لعمله تُفصح عنها السطور الأولى لإهدائه كتابه مبادئ النحو العام إلى ابنه؛ إذ يقول «ما ألَّفتُ هذا الكتاب الصغير إلا من أجلك يا ولدي العزيز.» أي إنه يقول إنني أكتب (أو أتكلم) إليك؛ لأنك تحتاج إلى معرفة هذه الأشياء، ولما كانت لا تتوافر في شكل ميسر، قمت بالعمل بنفسي من أجلك. هذه هي المخاطبة المباشرة، والنفع، والجهد، والعقلانية الحاضرة الكريمة؛ لأن «ساسي» كان يعتقد أنه من الممكن تقديم أي شيء في صورة واضحة ومعقولة، مهما تبلغ صعوبة المهمة ومهما يبلغ غموض الموضوع. وهنا نجد الجمع بين صرامة «بوسويه»، والمذهب الإنساني القائم على التجريد عند «لايبنتز»، إلى جانب نغمة أو نبرات «روسو»، في الأسلوب نفسه.

وتؤدي نغمة «ساسي» أو نبراته إلى تكوين دائرة أو حلقة تفصله هو وجمهوره عن العالم بصفة عامة، مثلما يجتمع المعلم مع طلابه في قاعة درس مغلقة فيمثلون مكانًا منفصلًا. فعلى عكس مادة الفيزياء أو الفلسفة أو الأدب الكلاسيكي تعتبر مادة الدراسات الشرقية مقصورة على الخاصة، فهي لا تهمُّ إلا مَن كانت لديهم من قبل اهتمامات بالشرق لكنهم يريدون تحسين معرفتهم به، بمنهج أشد انتظامًا، وهنا تكون فاعليةُ المبحث التعليمي أكبرَ من جاذبيته. ومن ثَم فإن المتحدث التعليمي يعرض مادته على تلاميذه، ويقتصر دورهم على تلقِّي ما يُقدَّم لهم في صورة موضوعات منتخبة ومرتبة بحرص وعناية. ولما كان الشرق قديمًا وبعيدًا فإن عرض المعلم يعتبر استرجاعًا أو رؤية جديدة لما اختفى عن أذهان الناس. ولما كان من المحال الكشف عن الشرق كله بسبب ثرائه الكبير (في المكان والزمان والثقافات) فلا حاجة بنا إلَّا إلى الكشف عمَّا يمثله من جوانب. وهكذا كان «ساسي» يركز على المنتخبات، والنصوص المختارة، على «اللوحة» واستقصاء المبادئ العامة، وفي هذا كله تتولَّى مجموعة صغيرة نسبيًّا من النماذج القوية تقديم الشرق إلى الطالب. وأمثال هذه النماذج قوية وذات سلطان لسببين: الأول أنه تتجلَّى فيها قدرات «ساسي» باعتباره حجة غربية في بابه، ينتقي ببصيرته من الشرق ما ظل خبيئًا حتى تلك اللحظة بسبب بُعْد الشرق وغرابته، والثاني لأن هذه النماذج تتمتع بطاقتها السيميائية الذاتية (أو التي أضفاها المستشرق عليها) للدلالة على الشرق.

وتعتبر أعمال «ساسي» كلها في جوهرها منتخبات، وهكذا فهي تتخذ الشكل الرسمي للكتب التعليمية، وتجتهد في التنقيح إلى حدٍّ كبير. وقد كتب «ساسي» — إلى جانب مبادئ النحو العام — كتاب المنتخبات العربية الذي يقع في ثلاثة مجلدات (١٨٠٦ و١٨٢٧م) ومختارات من الكتابات العربية في النحو (١٨٢٥م) وكتابًا في النحو العربي عام ١٨٠١م («لاستعمال تلاميذ المدرسة الخاصة» كما يقول) ودراسات في العروض العربي، ودين الدروز، ومؤلفات قصيرة كثيرة في موضوعات شرقية مثل المسكوكات الأثرية، وأسماء الأعلام، والنقوش، والجغرافيا، والتاريخ والموازين والمقاييس، كما أصدر عددًا لا بأس به من الترجمات وتعليقَين مسهبَين عن «كليلة ودمنة» و«مقامات الحريري». وكان يتمتع على غرار ذلك بنشاط جم في تحرير النصوص، وكتابة المذكرات والتاريخ للعلوم الحديثة. كما كان يتابع كل ما هو مهم تقريبًا في المباحث العلمية المتصلة بمجاله، وإن كان ذا نهج لا يحيد عنه في كتابته الخاصة، وكان نطاق هذه الكتابة «وضعيًّا» ضيقًا في كل ما لا يتعلق بالدراسات الشرقية.

وعندما كلف «نابليون» المعهد الفرنسي عام ١٨٠٢م بوضع «لوحة عامة» عن وضع وتقدم العلوم والفنون منذ عام ١٧٨٩م، وقع الاختيار على «ساسي» لعضوية فريق الكُتَّاب، فكان أشد المتخصصين صرامة، وأشد من يأخذون بالمنهج التاريخي بين كُتَّاب الموضوعات العامة. وكان التقرير الذي أصبح يُعرف باسم تقرير «داسييه» بصفة غير رسمية يجسد الكثير مما كان «ساسي» مولعًا به إلى جانب مساهماته بشأن حالة الدراسات الشرقية، وكان عنوانه — وهو لوحة تاريخية للدراسة العلمية في فرنسا — يعلن الوعي التاريخي الجديد (بدلًا من الوعي المقدس؛ أي القائم على العقيدة الدينية). وكان هذا الوعي يتخذ صورة درامية، بمعنى أنه يقول إن المعارف يمكن تنظيمها وترتيبها «على خشبة المسرح»، إن صحَّ هذا التعبير، بحيث يستطيع المشاهد أن يستعرض صورتها الكلية بيسر وسهولة. وكان تصدير «داسييه» للتقرير موجَّهًا إلى الملك ويعبر عن موضوعه خير تعبير؛ إذ يقول إن هذا «المسح» قد أتاح الإتيان بما لم يحاول ملك من قبل أن يأتيَ به، ألَا وهو الإلمام بالصورة الكاملة للمعارف البشرية بنظرة شاملة واحدة. وأضاف «داسييه» أنه لو كانت قد أنجزت مثل هذه «اللوحة التاريخية» في العصور الخوالي، فربما توافرت لنا روائعُ كثيرةٌ فقدناها أو أصابها البِلَى، وأما أهمية اللوحة وفائدتها فتكمنان في أنها حفظت المعارف وجعلَتها في متناول أيدي مَن يطلبها على الفور. وألمح «داسييه» إلى أن الحملة الشرقية التي قام بها «نابليون» قد يسَّرت هذه المهمة، وأن من ثمار تلك الحملة زيادة درجة المعرفة الجغرافية الحديثة.4 (ويُفصح خطاب «داسييه» برمته، أكثر مما يُفصح أيُّ شيء آخر، عن مدى تساوي نفع الشكل الدرامي للوحة التاريخية مع النفع الذي تعود به أقسام السوبر ماركت الحديث ومناضد عرض البضائع).
وترجع أهمية اللوحة التاريخية في تفهُّم المرحلة الافتتاحية للاستشراق إلى أن هذه اللوحة تُجسد الصورة التي اتخذتها المعرفة الاستشراقية وملامحها، وذلك في أثناء وصفها لعلاقة المستشرق بمادة موضوعه. إذ يتحدث «ساسي» في الصفحات الخاصة بالاستشراق في التقرير — مثلما يتحدث في غير ذلك من كتاباته — عن عمله قائلًا إنه كَشَف، وأظهر وأنقذ كمًّا هائلًا من المادة التي كان يكتنفها الغموض. ولماذا؟ حتى يضعها بين يدَي الطالب؛ إذ كان «ساسي»، مثل كل معاصريه من العلماء، يعتبر أن العمل العلمي إضافة إيجابية إلى الصرح الذي شارك جميع الباحثين في بنائه. كانت المعرفة تعني أساسًا تحويل المادة إلى صورة مرئية، وكان هدف اللوحة يتمثل في تركيب جهاز يجمع بين دقائق نفعها وصورتها العامة، على نحو ما قال به «بنثام». وهكذا كان المبحث العلمي يمثِّل نوعًا خاصًّا من تكنولوجيا السلطة؛ إذ كان يوفر للباحث (ولطلابه) أدواتٍ ومعرفةً كانت مفتقدة حتى تلك اللحظة (إذا كان مؤرخًا).5 والواقع أن مفردات السلطة المتخصصة والاكتساب المتخصص كانت شديدة الارتباط بسمعة «ساسي» باعتباره مستشرقًا رائدًا. وتكمن بطولته البحثية في قدرته على التعامل بنجاح مع صعوبات كئود؛ إذ كان يملك وسائلَ تقديم مجال لم يسبق وجوده إلى طلابه. ويقول دوق «دي بروليي» عن «ساسي» إنه صنع الكتب والمفاهيم والنماذج. وكانت النتيجة إنتاج مادة عن الشرق، ومناهج لدراسته، وأمثلة لم تكن موجودة عند أحد، حتى عند أبناء الشرق.6

وإذا قارنَّا بين جهود «ساسي» وبين جهود دارسي التراث اليوناني أو اللاتيني من العاملين في فريق المعهد، بدَت جهوده مهيبة جبارة؛ إذ كانت لديهم النصوص والأعراف والمدارس، ولم يكن لديه شيء منهما فاضطر إلى أن يبدأ في وضعها. ويسيطر على ذهن «ساسي»، كما يتبدَّى في كتابته، إحساسه القوي بما كان قد فُقد أولًا ثم اكتُسب في مرحلة لاحقة، وقد استثمر في ذلك استثمارات هائلة حقًّا. كان يعتقد مثل زملائه في المجالات الأخرى بأن المعرفة هي الرؤية — من منظور شامل، إن صح هذا التعبير — لكنه كان يختلف عنهم في أنه كان يشعر بأن عليه أن يحدد تلك المعرفة، وأن «يفك شفراتها» ويفسرها، بل — وهو ما يمثل المهمة الأصعب — أن يجعلها متاحةً لمن يريدها. أي إن إنجاز «ساسي» كان يتمثل في بنائه مجالًا كاملًا، ففتَّش ونبش «المحفوظات» الشرقية باعتباره أوروبيًّا، وتمكَّن من ذلك دون أن يترك فرنسا، فقام بتنحية بعض النصوص جانبًا ثم عاد إليها، وعالجها، وكتب لها الشروح، ووضع لها القواعد، ورتبها، وكتب تعليقات عليها. وبمرور الوقت أصبح الشرق في ذاته أقل أهمية من الصورة التي رسمها له المستشرق. وهكذا، وضع «ساسي» «شرق المستشرق» في موقع «فكري» مغلق داخل لوحة تعليمية، فظل فيه لا يريد الظهور والانتماء لدنيا الواقع.

وكان «ساسي» أذكى من أن يتجاهل تقديم الحُجج التي تدعم آراءه وأعماله، فكان، أولًا، يوضح دائمًا سببَ استعصاء تقبُّل الأوروبي «للشرق» في ذاته، قائلًا إن ذوق الأوروبي لن يتقبَّلَه ولن يتقبَّلَه ذكاؤه. وكان «ساسي» يدافع عن فائدة وأهمية الشعر العربي، مثلًا، ولكنه كان يقول في الواقع إن على المستشرق «تحويل» ذلك الشعر تحويلًا صحيحًا حتى يقدره الجمهور الأوروبي، وكانت أسبابه تقوم على أسس معرفية بصفة عامة، ولكنها كانت تتضمن أيضًا تبرير المستشرق لعمله. فهو يقول إن الذين كتبوا الشعر العربي أناسٌ يتسمون بغرابة مطلقة (في عيون الأوروبيِّين) وفي ظروف مناخية واجتماعية وتاريخية تختلف اختلافًا شاسعًا عمَّا يعرفه الأوروبي؛ أضِف إلى ذلك أن ذلك الشعر كانت تغذوه «أفكار وعصبيات وعقائد وخرافات لا نستطيع الاستدلال عليها إلا بعد دراسة طويلة مضنية». بل إنه حتى لو تعرَّض المرء للضوابط الصارمة التي تفرضها الدراسة المتخصصة؛ فسوف يتعذر تفهم كثير من الأوصاف الواردة في ذلك الشعر على الأوروبيِّين «الذين وصلوا إلى درجة أعلى من الحضارة». ومع ذلك فإن ما نستطيع أن نُحكم معرفته له قيمة كبرى لنا نحن الأوروبيِّين الذين اعتدنا إخفاء صفاتنا الخارجية، وأنشطتنا الجسدية، وعلاقتنا بالطبيعة. ومن ثَم فإن نفع المستشرق يكمن في أنه يُتيح الاطلاع على نطاق واسع من الخبرات غير المعتادة، بل وعلى ما هو أكبر قيمة؛ أي باعتباره ذلك النوع من الأدب القادر على مساعدتنا في فهم شعر العبرانيِّين «الرباني حقًّا».7
وهكذا فإذا كان وجود المستشرق ضروريًّا؛ لأنه يستخرج بعض اللآلئ النافعة من البحر الشرقي البعيد، وما دام العلم بالشرق محالًا دون وساطة المستشرق، فمن الصحيح أيضًا أنه لا ينبغي استيعاب الكتابة الشرقية في صورتها الكلية. وكانت هذه مقدمة «ساسي» لنظريته عن الشذور، وهي المسألة التي شاعت وشغلت بالَ الرومانسيِّين. فالأمر لا يقتصر على أن الآثار الأدبية الشرقية غريبة في جوهرها على الأوروبي، ولكنها غير جديرة بالنشر إلا في صورة شذور؛ لأنها لا تحافظ على إثارة اهتمام القارئ، وغير مكتوبة بالقدر الكافي من «الذوق والروح النقدية».8 وهكذا يصبح على المستشرق أن يقدِّم الشرق في شكل سلسلة من الشذور التي تمثِّله، وهي الشذور التي كان يعاد نشرها، وتقدم لها الشروح، والحواشي، وتُحاط بالمزيد من الشذور أيضًا. وهكذا فإن هذا التقديم يستلزم نوعًا خاصًّا؛ أي المنتخبات، وهو في حالة «ساسي»، ذلك النوع الذي يتجلَّى فيه نفع الاستشراق وأهميته في أشد صورهما المباشرة والمفيدة وضوحًا. وأشهر ما وضعه «ساسي» هو المنتخبات العربية، وهو كتاب في ثلاثة مجلدات، «مختوم»، إن صح التعبير، في مستهله بسطرَين عربيَّين يُزينهما السجع، هما كتاب «الأنيس المفيد للطالب المستفيد»، و«جامع الشذور من منظوم ومنثور».
وظلت منتخبات «ساسي» تُستخدم على نطاق بالغ الاتساع في أوروبا أجيالًا عديدة. ورغم الزعم بأن ما تحتويه كان يمثل الشرق خيرَ تمثيل، فإنها تُكنُّ وتُخفي وتغطي الرقابة التي يمارسها المستشرق على الشرق. كما أن النظام الداخلي لمحتوياتها، وترتيب أجزائها، واختيار الشذور، لا يكشف مطلقًا عن سرِّها، ويُشعر المرء بأنه لو لم تكن الشذور قد انتُخبت بسبب أهميتها، أو بسبب تطورها الزمني، أو بسبب جمالها (وهو ما لم تُكنه منتخبات «ساسي») فلا بد أنها تجسد رغم ذلك خاصية طبيعية شرقية معينة، أو حتمية يتميز بها. ولكن ذلك أيضًا لم يُذكر قط، بل إن «ساسي» يزعم وحسب أنه قد أجهد نفسه لصالح تلاميذه؛ أي حتى يوفر عليهم ضرورة شراء مكتبة كبيرة إلى حدٍّ بشع من المادة الشرقية (أو قراءتها). وبمرور الوقت ينسى القارئ جهودَ المستشرق، ويعتبر أن الشرق الذي أُعيد بناؤه من خلال المنتخبات هو الشرق وحسب. وهكذا فإن البناء الموضوعي (تسمية الشرق) والإعادة الذاتية للبناء (أي الصورة التي يجعلها المستشرق تمثل الشرق) يمكن أن يحلَّ أحدُهما محلَّ الآخر. فالمستشرق يكسو الشرق بعقلانيته، و«مبادئ» الشرق تصبح هي نفسها مبادئَ المستشرق. وبعد أن كان الشرق بعيدًا صار في متناول الأيدي، وبعد أن كان من المحال عليه الوقوف بذاته، أصبح مفيدًا من الناحية التعليمية؛ وبعد أن كان مفقودًا عُثر عليه، حتى وإن أُسقطت منه بعض الأجزاء في غضون ذلك العمل فضاعت. وهكذا فإن كتب المنتخبات التي أصدرها «ساسي» لا تعتبر استكمالًا للشرق وحسب، بل إنها تُقدمه للغرب باعتباره حضورًا شرقيًّا فيه،9 كما أن عمل «ساسي» يُهيِّئ مكانةً «معتمدة» للشرق، ويأتي بشرعة «الاعتماد» في النصوص المقتطفة التي يتناقلها الطلاب جيلًا بعد جيل.
ولقد كانت التركة الحية التي خلَّفها «ساسي» في تلاميذه تركة مذهلة حقًّا، فكان كل متخصص في الثقافة العربية في أوروبا إبان القرن التاسع عشر ينسب أصول حجيَّته الفكرية إلى «ساسي»، وكانت الجامعات والأكاديميات في فرنسا وإسبانيا والنرويج والسويد والدانمرك؛ وخصوصًا في ألمانيا، حافلة بالتلاميذ الذين «تشكلوا» على هدى خطاه ومن خلال لوحات المنتخبات التي هيَّأها عمله.10 ومثلما يحدث لكل ميراث فكري، كان ازدياد إثراء هذه التركة وفرض القيود عليها يتزامنان عند الانتقال من جيل لجيل. وأما الجانب الذي يمثل أصالة نسب «ساسي» فكان يتمثل في معاملته للشرق باعتباره شيئًا لا بد من استعادته واسترجاعه، على الرغم من «تمرد» الشرق الحديث و«مراوغته» لا بسبب ذلك فحسب، فلقد وضع «ساسي» العرب في الشرق، وهو الشرق الذي وضعه أيضًا في اللوحة العامة للعلوم الحديثة. ومن ثَم فإن الاستشراق ينتمي إلى الدراسة العلمية الأوروبية لكنه كان على المستشرق أن يُعيد خلق مادته قبل أن تستطيع الوصول إلى مصاف الثقافتَين اليونانية واللاتينية. وكان كل مستشرق يُعيد خلق الشرق الخاص به وفقًا للقواعد المعرفية الأساسية الخاصة بالفقدان والكسب، وهي التي كان «ساسي» أول مَن قدَّمها ووضعها، لكنه مثلما كان والدًا للاستشراق، كان كذلك أول ضحية لهذا المبحث؛ إذ إن المستشرقين اللاحقين كانوا في ترجماتهم للجديد من النصوص والشذور والمقتطفات يُزيحون تمامًا عملَ «ساسي»، بل كان كلٌّ منهم يُقدِّم صورته الخاصة للشرق المسترجَع. ومع ذلك فقد قُدِّر للعمل الذي بدأه «ساسي» أن يستمر، بعد اكتساب فقه اللغة بوجهٍ خاصٍّ طاقات منهجية ومؤسسية لم يستغلَّها «ساسي» في يوم من الأيام. وكان ذلك إنجاز «رينان»؛ أي ربطه ما بين الشرق وأحدث المباحث العلمية المقارنة، وكان فقه اللغة من أبرزها.

والفرق بين «ساسي» و«رينان» هو الفرق بين شقِّ الطريق ومواصلة السير فيه؛ إذ كان «ساسي» هو «المبتدع»، أو الأصل، وكان عملُه يمثل ظهور هذا المجال ومكانته باعتباره مبحثًا من مباحث القرن التاسع عشر الذي تضرب جذوره في أعماق الرومانسية الثورية. وكان «رينان» ينحدر من الجيل الثاني للاستشراق، وكانت مهمته تدعيم «الخطاب» الاستشراقي «الرسمي»، وتنظيم الأفكار التي أتى بها، وإنشاء مؤسساته الفكرية والدنيوية. أما «ساسي» فكانت جهوده الشخصية من وراء انطلاق وحيوية هذا المجال وأبنيته، وأما «رينان»، فكان قيامه بتطويع الاستشراق حتى يلائم فقه اللغة، وتطويعهما معًا حتى يلائمَا الثقافة الفكرية لعصره، هو الذي مكَّن الأبنية الاستشراقية من الاستمرار فكريًّا وزاد من إبرازها للعيان.

وكان «رينان» شخصية مرموقة في ذاته، دون أن يتمتع بالأصالة الكاملة أو بالاستناد المطلق إلى مَن سبقه. وهكذا فباعتباره قوة ثقافية أو مستشرقًا مهمًّا، لا نستطيع أن نختزله ببساطة فنقتصر على شخصيته الخاصة، أو على مجموعة من الأفكار المنهجية التي كان يؤمن بها. ولكن أفضل فهم ﻟ «رينان» هو أن نعتبره قوة دينامية، فلقد كان الرواد من أمثال «ساسي» قد أوجدوا له فرصة العمل، لكنه أشاع منجزاتهم في الثقافة باعتبارها «عُمْلةً» كان يتداولها ويعيد تداولها بقدرته (إذا توسعنا في الاستعارة قليلًا) على سكِّ عُمْلته الجديدة التي لا مراء في جدتها، ولا بد لنا من تفهُّم شخصية «رينان»، باختصار، باعتباره يمثِّل نمطًا من أنماط العمل الثقافي والفكري، أو أسلوبًا لإصدار «الأقوال» الاستشراقية في إطار ما قد يُطلق عليه «ميشيل فوكوه»، أرشيف عصره،11 وليست العبرة بما كان يقوله «رينان» فحسب، بل أيضًا بالطريقة التي كان يقول بها ما يقوله، وبما اختاره — في ظل خلفيته وتعليمه — مادةً لموضوعه، وبالأشياء التي كان يربط بينها وهلمَّ جرًّا. ومن ثَم نستطيع أن نصف علاقات «رينان» بمادته الشرقية، وبعصره وجمهوره، وحتى بعمله الخاص، دون اللجوء إلى الصيغ التي تعتمد على افتراض الاستقرار الوجودي، وهو افتراض لم يمحِّصه أحد (مثل روح العصر أو تاريخ الأفكار، أو الحياة والزمان). لكننا نستطيع أن «نقرأ» «رينان» باعتباره كاتبًا يفعل «شيئًا» يمكن وصفه، في مكان محدد زمنيًّا ومكانيًّا وثقافيًّا (ومن ثَم أرشيفيًّا) وموجهًا لجمهور معين، وكذلك، وهو ما لا يقل أهمية، من أجل دعم موقعه في مجال الاستشراق الخاص بعصره.

دخل «رينان» الاستشراق من باب فقه اللغة، وكان الثراء الفذ لذلك المبحث العلمي وما يتمتع به من موقع ثقافي مرموق من وراء اكتساب الاستشراق أهم خصائصه التقنية. ولكن مَن يُوحي له اسم فقه اللغة بدراسة الألفاظ دراسة تُثير الأرض ولا تسقي الحرث سوف يفاجأ بما أعلنه «نيتشه» بأنه من فقهاء اللغة، مثل أعظم العقول في القرن التاسع عشر، إلا إذا تذكَّر قول «بلزاك» في «لويس لامبرت»:

ما أروع الكتاب الذي قد يكتبه المرء إذا سرد قصة حياة كلمة واحدة ومغامراتها! لا شك أن الكلمة قد اكتسبت انطباعاتٍ مختلفةً من الأحداث التي استُعملت فيها؛ كما أن الكلمة قد أيقظت ألوانًا شتى من الانطباعات في شتى الناس، وفقًا للأماكن التي استعملت فيها؛ ولكن أليس أعظم من ذلك أن ننظر إلى الكلمة بجوانبها الثلاثة: الروح والجسم والحركة؟12
وسوف يسأل «نيتشه» فيما بعد عن المرتبة أو الفئة التي تجمع بينه وبين «فاجنر وشوبنهاور، وليوباردي» باعتبارهم جميعًا من فقهاء اللغة. يبدو أن المصطلح يجمع بين موهبة النفاذ الروحي الفذ في أعماق اللغة والقدرة على وضع عمل تتميز فصاحته بالقوة الجمالية والقوة التاريخية معًا. وعلى الرغم من أن مهنة علم اللغة قد ولدت ذات يوم من أيام ١٧٧٧م «حين اخترع ف. أ. فولف لنفسه لقب دارس فقه اللغة» فإن «نيتشه» مع ذلك يُجهد نفسه لإثبات أن الدارسين المحترفين للأعمال الكلاسيكية من يونانية ورومانية عاجزون في العادة عن فهم مبحثهم الخاص؛ «إذ إنهم لا يصلون مطلقًا إلى جذور مسألة ما، وهم لا يقدمون فقه اللغة إطلاقًا باعتباره مشكلة»؛ لأننا إذا اعتبرناه «مجرد معرفة بالعالم القديم فلن يستطيع فقه اللغة البقاء إلى الأبد، فمادته قابلة للنفاد»،13 وذلك ما لا يستطيع عامة فقهاء اللغة أن يفهموه. وأما ما تتميز به الأرواح الفذة القليلة التي يراها «نيتشه» جديرة بالثناء — وإن لم يخلُ ذلك من اللبس والغموض، كما أنه لا يستخدم أسلوب العرض العابر الذي استخدمه هنا — فهو عمق علاقتها بالحداثة، وهي العلاقة التي تكتسبها من العمل بفقه اللغة.

وفقه اللغة يطرح إشكاليات خاصة بذاته، وبمن يمارسه، وبالعصر الحاضر. فهو يجسد حالة خاصة من حالات الحداثة والانتماء الأوروبي؛ لأنه لا يمكن أن يكون لأيٍّ من هاتين المقولتين معنًى حقيقيٌّ إلا إذا ارتبطتا بثقافة أجنبية سابقة وفترة زمنية سابقة. كما يرى «نيتشه» أيضًا أن فقه اللغة شيء يُولد، أو يُخلق بالمعنى الذي كان «فيكو» يقصده، باعتباره دليلًا على الجهد البشري، وهو يُخلق باعتباره مرتبة من مراتب الاكتشاف الإنساني، واكتشاف الذات، والأصالة. فما فقه اللغة إلا أسلوب من أساليب التمييز التاريخي للذات عن العصر الذي يعيش المرء فيه، وعن الماضي القريب، مثلما يفعل كبار الفنانين، فكأنما يحدد المرء طابعَ حداثته في الواقع بهذا الأسلوب، على ما فيه من مفارقات وتضاد في المعاني.

وبين «فريدريش أوجست فولف» في عام ١٧٧٧م و«فريدريش نيتشه» في عام ١٨٧٥م، نجد «إرنست رينان»، فقيه اللغات الشرقية الذي كان يتسم بإدراكه المركَّب الطريف لشكل التداخل ما بين فقه اللغة والثقافة الحديثة. فلقد كتب في كتابه: «مستقبل العلم» (الذي أكمله عام ١٨٤٨م ولم ينشره حتى ١٨٩٠م) يقول: «إن مؤسسي العقل الحديث فقهاءُ لغة.» وكان قد قال في العبارة التي سبقت هذه: «وما العقل الحديث إن لم يكن العقلانية، والنقد، والتحرر الفكري [وهي التي] أُسِّست [جميعًا] يوم تأسيس فقه اللغة نفسه؟» ويمضي قائلًا: إن فقه اللغة مبحث مقارن لا يملكه إلا المحدثون، وهو كذلك رمز للتفوق (الأوروبي) الحديث، وكل تقدم أحرزَته الإنسانية منذ القرن الخامس عشر نستطيع نسبته إلى عقول علينا أن نصفَها بالانتماء إلى فقه اللغة. فمهمة فقه اللغة في الثقافة الحديثة (وهي الثقافة التي يقول «رينان» إنها تنتسب إلى فقه اللغة) هي مواصلة وضوح رؤية الواقع والطبيعة، وبذلك نستطيع التخلص من مذهب الأسباب الخارقة، ومواصلة مواكبة مكتشفات العلوم الطبيعية، بل وأكثر من هذا؛ ففقه اللغة يمكِّن المرء من الرؤية الشاملة لحياة الإنسان ونظام الأشياء: «ها أنا ذا في المركز، أنشَقُ عبيرَ كلِّ شيء فأحكم وأوازن وأجمع وأستنبط، وبهذا الأسلوب أَصِل إلى جوهر نظام الأشياء.» وفقيه اللغة تحيط به هالة من السلطة لا مراء فيها، و«رينان» يوضح مقصده فيما يتعلق بفقه اللغة والعلوم الطبيعية:

دراسة الفلسفة تعني معرفة الأشياء؛ بناءً على عبارة «كوفييه» الدقيقة: الفلسفة تتولى تعليم العالم نظريًّا، وأنا أعتقد مع «كانط» أن كل إثبات يقوم على التأمل المحض لا تزيد صحته عن صحة الإثبات الرياضي، ولا يستطيع أن يعلمنا أي شيء عن الواقع القائم. وفقه اللغة هو العلم الدقيق الخاص بالأمور الذهنية. وهو يمثل للعلوم الإنسانية ما تمثله الفيزياء والكيمياء للعلوم الفلسفية الخاصة بالأجساد.14
وسوف أعود إلى العبارة التي يستشهد بها «رينان» من «كوفييه» وكذلك إلى الإشارات الدائمة إلى العلوم الطبيعية بعد قليل، ولكن علينا الآن أن نذكر أن القسم الأوسط كله من كتاب «مستقبل العلم» يشغله وصفُ «رينان» لفقه اللغة والتعبير عن إعجابه به، فهو يقول إنه أصعب ما يمكننا تحديد طابعه من الجهود الإنسانية، وهو كذلك أدق المباحث العلمية طُرًّا. وفي مجال الإشارة إلى طموحات فقه اللغة بأن يصبح علم الإنسانية الحق، يربط «رينان» صراحةً بين مذهبه وبين مذاهب «فيكو، وهيردر، وفولف، ومونتسكيو»، وكذلك بعض فقهاء اللغة شبه المعاصرين مثل «فلهلم فون همبولت، وبوب»، والمستشرق الكبير «يوجين بيرنوف» (وهو الذي يهدي إليه كتابه). ويرى «رينان» أن فقه اللغة يشغل موقعًا أساسيًّا فيما يُشير إليه في كل مكان بتعبير: «مسيرة المعرفة»، والحق أن الكتاب نفسه يعتبر بيانًا رسميًّا لمذهب الإيمان بمسيرة الإنسان إلى الصلاح، وهذه مفارقة لا يُستهان بها إذا أخذنا في اعتبارنا العنوان الفرعي للكتاب: («أفكار عن عام ١٨٤٨م») والكتب الأخرى الصادرة عام ١٨٤٨م مثل رواية بوفار وبيكوشيه، وكتاب: «شهر برومير الثامن عشر ولويس بونابرت». وهكذا فإن البيان المذكور، بصفة عامة، وما يقوله «رينان» عن فقه اللغة بصفة خاصة — وكان قد أكمل عندها كتابة الدراسة المستفيضة عن اللغات السامية التي فازت بجائزة «فولني» — كانا يرميان إلى تحديد مكانة «رينان» باعتباره مفكرًا يرتبط ارتباطًا واضحًا بالقضايا الاجتماعية الكبرى المطروحة عام ١٨٤٨م، ولقد اختار أن يقيم هذا الارتباط على أساس أبعد المباحث الفكرية عن متناول الأيدي (فقه اللغة)، وأقلها صلة بحياة الناس في الظاهر، وأشدها اتصافًا بالطابع المحافظ والتقليدي، الأمر الذي يدل على تعمُّده اتخاذ هذا الموقف إلى أقصى الحدود؛ إذ إنه لم يكن يتكلم كما يتحدث ابن البشر إلى سائر البشر، بل باعتباره صوتًا «متأملًا» ومتخصصًا، يُسلِّم — على نحو ما جاء في تصديره للكتاب عام ١٨٩٠م — بتفاوت الأجناس البشرية وبحتمية سيطرة القلة على الكثرة، باعتبار ذلك قانونًا من القوانين المناهضة من بين قوانين الطبيعة والمجتمع.15
ولكن كيف تسنى ﻟ «رينان» أن يضع نفسه وما يقوله في هذا الموقف المتناقض؟ فمن ناحية، ماذا يمكن أن يكون فقه اللغة إن لم يكن علمًا لجميع البشر، علمًا يقوم على وحدة الأجناس البشرية، وعلى قيمة كل التفاصيل الإنسانية، ومع ذلك فماذا يمكن أن يكونه فقيه اللغة، من ناحية أخرى، إذا لم يكن — على نحو ما أثبت «رينان» نفسه بتعصبه العنصري الذائع البغيض ضد الساميِّين الشرقيِّين الذين كانت دراسته لهم من وراء مكانته العلمية16 — رجلًا يقسِّم البشر إلى أجناس أسمى وأجناس أدنى، وناقدًا متحررًا ينطوي عمله على الأفكار المقصورة على الخاصة، عن الطابع الزمني، والأصول، والتطور والجدارة الإنسانية؟ ويتمثل جانب من الإجابة على السؤال في أن «رينان» — كما تُفصح عن ذلك خطاباته الأولى إلى «فكتور كوزان، وميشيليه، وألكسندر فون همبولت» عن مقاصد فقه اللغة17 — كان لديه إحساسٌ قويٌّ بالانتماء «النقابي» باعتباره باحثًا محترفًا، ومستشرقًا محترفًا، في واقع الأمر، وهو الإحساس الذي أنشأ مسافة بينه وبين الجماهير. ولكن الأهم من ذلك في اعتقادي هو تصور «رينان» الخاص لدوره باعتباره فقيه لغات شرقية يعمل في الإطار الأوسع لفقه اللغة وهو الذي يضم تاريخه وتطوره وأهدافه حسبما كان يراها. وبعبارة أخرى، فإن ما قد يبدو لنا في صورة مفارقة كان النتيجة المتوقعة لتصور «رينان» لموقعه في «الأسرة الحاكمة» لفقه اللغة، بتاريخه ومكتشفاته الأولى وما فعله «رينان» نفسه في هذا الموقع. ومن ثَم فعلينا أن نحدِّد الطابع الذي تميز به «رينان» باعتبار أنه لم يكن يتكلم عن فقه اللغة، بل يتكلم من زاوية فقه اللغة بكل قوة المطَّلِع على أسرار علم جديد ذي مكانة رفيعة، ومَن يستخدم الشفرات اللغوية الخاصة بهذا العلم، والذي يتميز باستحالة تقديم تفسير فوري أو ساذج لأيٍّ من «تصريحاته».
وكان مبحث فقه اللغة، على نحو ما فهمه «رينان»، وعلى نحو ما تقبَّله وتلقَّى تعليمه فيه، يفرض عليه مجموعة من «قواعد الانتماء» الديني. فكان البحث في فقه اللغة يعني أن يخضع الفرد في كل ما يفعله، أولًا وقبل كلِّ شيء، لمجموعة من المكتشفات الحديثة التي تتسم بإعادة تقييمها لأشياء كثيرة، وهي التي بدأت فعليًّا بعلم فقه اللغة ومنحته نظرية معرفة مميزة له وخاصة به، وأنا أتحدَّث هنا عن الفترة التي تمتدُّ تقريبًا من ثمانينيات القرن الثامن عشر حتى منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وكان الشطر الأخير منها هو الفترة التي بدأ فيها «رينان» تعليمه. وهو يسجل في مذكراته كيف أن أزمة الإيمان الديني — والتي أدَّت في النهاية إلى فقدان ذلك الإيمان — دفعَت به في عام ١٨٤٥م إلى حياة الدرس والبحث، وكان ذلك يمثِّل بداية انضمامه إلى دائرة فقه اللغة، ونظرة فقه اللغة للعالم، والأزمات التي يتعرض لها والأسلوب الذي يختص به، وكان يعتقد أن حياته، على المستوى الشخصي، تتجلَّى فيها الحياة المؤسسية لفقه اللغة، وإن كان قد صمم أن يستعيد في حياته إيمانه بالمسيحية الذي عرفه يومًا ما، على الرغم مما آل إليه من فقدان الإيمان بالمسيحية، ولم يَعُد لديه سوى ما يُشير إليه باسم «العلم العلماني».18
وقد قدَّم لنا «رينان» خير نموذج لما يستطيعه العلم العلماني وما يعجز عنه، بعد عدة سنوات، في محاضرة ألقاها في جامعة السوربون عام ١٨٧٨م، بعنوان «الخدمات التي يقدمها فقه اللغة للعلوم التاريخية». وأهم العناصر التي تُميط اللثام عن موقف «رينان» في هذا النص هو كيف كان الدين يشغل باله بوضوح وهو يتحدث عن فقه اللغة — وعلى سبيل المثال، ما يعلمنا إياه فقه اللغة، مثل الدين، عن أصول الإنسانية والحضارة واللغة — وإن لم يكن ينتهي من ذلك إلا إلى أن يوضح لسامعيه أن فقه اللغة يقدم رسالة تقل عن الدين كثيرًا في تماسكها وترابط أجزائها وإيجابيتها.19 ولما كانت نظرة «رينان» تاريخية لا يُرجى منها برء، بل كانت على نحو ما وصفها «رينان» ذات يوم، نظرة «مورفولوجية»؛ أي تُركز على التغير في الشكل، كان من المنطقي أن تقتصر السبل التي يستطيع أن يسلكَها في التحول عن الدين إلى دراسة فقه اللغة في صدر شبابه على سبيل واحد؛ وهو الاحتفاظ في العلم العلماني الجديد بالنظرة التاريخية للعالم التي كان قد اكتسبها من الدين. ومن ثَم فهو يقول: «لم أكن أرى إلا عملًا واحدًا جديرًا بأن يملأ حياتي، ألَا وهو القيام ببحوثي النقدية في المسيحية [إشارة إلى المشروع البحثي الكبير الذي قام به «رينان» في تاريخ المسيحية وأصولها] مستخدمًا تلك الوسائل الأرحب نطاقًا، والتي قدَّمها لي العلم العلماني.»20 أي إن «رينان» جعل نفسه نظيرًا لفقه اللغة بأسلوبه الخاص في المرحلة التالية لإيمانه بالمسيحية.
كان الفرق بين التاريخ الذي تُقدِّمه المسيحية، داخليًّا، وبين التاريخ الذي يقدِّمه فقه اللغة، والذي كان مبحثًا جديدًا نسبيًّا، هو على وجه التحديد ما أتاح قيام فقه اللغة الحديث، وهو ما كان «رينان» يعرفه خير المعرفة؛ فكلما كان الحديث يدور عن «فقه اللغة» في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، كان لنا أن نُدرك أن المقصود هو فقه اللغة الجديد، الذي كانت نجاحاته الكبرى تتمثل في النحو المقارن، وإعادة تصنيف اللغات في أُسَر منفصلة، والرفض النهائي للقول بأن اللغة لها أصول إلهية. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن هذه المنجزات كانت ثمارًا مباشرة تقريبًا للرأي القائل بأن اللغة ظاهرة بشرية محضة. وكانت هذه النظرة قد شاعت بعد أن اكتشف العلماء بالمناهج التجريبية أن اللغات المقدسة المزعومة (والعبرية بصفة أساسية) لم تكن ذات عراقة أزلية ولا أصول ربانية. وهكذا فإن ما يسميه «فوكوه» «اكتشاف اللغة» كان حدثًا علمانيًّا أزاح التصور الديني عن قيام الرب بتسليم اللغة للإنسان في جنة عدن، وحلَّ محله.21 والواقع أن هذا التغيير كان يعني التنحي عن فكرة انتساب اللغة إلى أصول معينة أنجبت سلالات متتابعة، والاستعاضة عنها بالرأي الذي يقول إن اللغة مجالٌ خاصٌّ مستقل تربط ما بين أجزائه أبنية داخلية غير منتظمة وعوامل تماسك متفاوتة، وكان من عواقب هذا التغيير الانخفاض البالغ في مستوى الاهتمام بمشكلة أصول اللغة. وإذا كانت مناقشة هذه المشكلة في السبعينيات من القرن الثامن عشر تلقى الحماس والقبول من الجميع — وهي الفترة التي فاز فيها مقال «هيردر» عن أصول اللغة بميدالية أكاديمية برلين لعام ١٧٧٢م — فما إنْ حلَّ العقد الأول من القرن الجديد حتى كادت مناقشة هذا الموضوع أن تكون محظورةً في الأوساط العلمية في أوروبا.
كان ما ذكره «وليم جونز» في كتابه: «أحاديث الذكرى السنوية» (١٧٨٥–١٧٩٢م) أو ما عرضه «فرانتس بوب» في كتاب: «النحو المقارن» (١٨٣٢م) ينحصر من جميع الجوانب وبمختلف الصور في أن القول بأصول إلهية للغة قد تصدَّع قطعًا، وأن هذه الفكرة أصبحت مشكوكًا فيها. أي إن الحاجة قد نشأت، باختصار، لوضع تصوُّر تاريخي جديد، ما دامت المسيحية قد عجزت، فيما يبدو، عن أن تحيا وتستمر على الرغم من الأدلة الإمبيريقية التي اختزلت المنزلة الإلهية لنصوصها المقدسة. وقد ظل إيمان البعض ثابتًا لا يتزعزع على الرغم من معرفة الأسبقية الزمنية للغة السنسكريتية على اللغة العبرية، أو كما قال «شاتوبريان»: «وا أسفا! حدث أن معرفة أعمق بلغة الهند العلمية قد أرغمت قرونًا لا تُعد ولا تُحصَى على دخول دائرة الكتاب المقدس الضيقة. ما أسعد حظي إذن أنني عُدتُ إلى الإيمان دون أن أضطرَّ إلى مكابدة هذا الإحساس بالخزي.»22 ولكن البعض الآخر، مثل «بوب» نفسه، كان يرى أن دراسة اللغة تقتضي أن يكون لها تاريخها الخاص، وفلسفتها الخاصة، ومجالها العلمي الخاص، وهذه جميعًا تنفي أيَّ فكرة عن وجود لغة أولى أعطاها الربُّ إلى الإنسان في جنة عدن. ومثلما كان من نتائج دراسة اللغة السنسكريتية، وميل العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر إلى توسيع النطاق المعرفي، انتقال موقع أولى بدايات الحضارة فيما يبدو إلى مناطق شاسعة البعد شرقي الأراضي المذكورة في الكتاب المقدس، كان من نتائج هذه الدراسة أن تغلَّبت النظرة إلى اللغة باعتبارها مجالًا بشريًّا «داخليًّا» أنشأه وأحكم صنعته مستعملو اللغة، على النظر إليها باعتبارها «صلة استمرار» بين قوة «خارجية» وبين الناطقين بها من البشر. أي إن فكرة وجود لغة أولى قد انتفت، وكذلك انتفت صورة وجود لغة بسيطة، إلا باللجوء إلى منهج سوف أناقشه بعد قليل.
وكان رينان يرى أن تركة هذا الجيل الأول من فقهاء اللغة بالغة الأهمية، بل كانت تفوق في أهميتها العمل الذي أنجزه «ساسي». وحيثما ناقش «رينان» موضوع اللغة وفقه اللغة سواء في بداية حياته العلمية أو منتصفها أو نهايتها، كان يكرر الدروس التي أتى بها فقه اللغة الجديد، والتي كان عمادها الأكبر تلك المبادئ النافية لانحدار اللغات من سلالة واحدة، والمناهضة «لصلة الاستمرار» المشار إليها، والتي تقول بأن استعمال اللغة ظاهرة «تقنية» (لا ربانية). أي إن اللغوي لا يستطيع تصوير اللغة باعتبارها قوة منبثقة من طرف واحد هو الرب، فكما يقول «كولريدج»: «اللغة مستودع أسلحة العقل البشري الذي يتضمن دلائل انتصاراته في الماضي وأسلحة فتوحاته في المستقبل.»23 لقد أخلَت فكرة اللغة الأولى في جنة عدن مكانها للفكرة «الاستكشافية» القائلة بوجود لغة أم (كالهندية الأوروبية أو السامية) وهو وجود لا يُناقش إطلاقًا ما دام من المسلَّم به أن تلك اللغة تستحيل استعادتها، وإن كان من الممكن إعادة «تركيبها» من خلال فقه اللغة. أما إذا كان من الممكن استخدام إحدى اللغات محكًّا أو معيارًا، أيضًا على أساس الاستكشاف، للغات الأخرى جميعًا، فهي اللغة السنسكريتية في أقدم صورة هندية أوروبية لها. ولقد تغيرت المصطلحات المستخدمة أيضًا، فأصبح الحديث يدور عن أُسَر للغات (ويبرز هنا القياس على «أنواع» الأحياء والتصنيفات التشريحية) وعن شكل أو صورة كاملة (مطلقة) للغة، دون أن يقتضيَ ذلك انطباق هذه الصورة على أي لغة «حقيقية»، واللغات الأصلية لا توجد إلا باعتبارها من «الدوالِّ» الخاصة بمبحث فقه اللغة، لا بسبب وجودها في الطبيعة.
ولكن بعض الكتاب أبدَوا ملاحظات فطنة على الأسلوب الذي حلَّت به اللغة السنسكريتية، وكل ما هو هندي، محل اللغة العبرية وخرافة لغة جنة عدن. ففي وقت مبكر؛ أي في عام ١٨٠٤م، ذكر «بنجامان كونستان» في يومياته الحميمة أنه لن يناقش في كتابه: «عن الدين» قضية الهند؛ لأن الإنجليز الذين كانوا يملكون ذلك المكان والألمان الذين أجرَوا دراسات لا تكاد تنفد عنه قد جعلوا الهند مصدرًا وأصلًا لكل شيء، ثم جاء الفرنسيون الذين قرروا، بعد «نابليون وشامبوليون»، أن كل شيء نشأ في مصر وفي الشرق الجديد.24 وكان مما دعم أوجه الحماس المذكورة القائمة على الغائية، بعد عام ١٨٠٨م، كتاب «فريدريش شليجيل» الشهير عن لغة الهند وحكمتها، وهو الذي كان، فيما يبدو، يؤكد ما أعلنه عام ١٨٠٠م من أن الشرق يمثل أصفى شكل من أشكال الرومانسية.

وأما ما احتفظ به جيل «رينان» — الذي تلقَّى تعليمه من منتصف الثلاثينيات إلى أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر — من كل هذا الحماس للشرق، فكان يكمن في الضرورة الفكرية التي يمثلها الشرق للباحث الغربي في اللغات والثقافات والأديان. ومن ثَم فقد كان النص الأساسي في هذا الصدد الكتاب الذي كتبه «إدجار كينيه» بعنوان: «عبقرية الأديان» (١٨٣٢م)، والذي يُعلن فيه نهضة الشرق، ويقيم علاقة «وظيفية» بين الشرق والغرب. ولقد سبق لي أن أشرت إلى النطاق الشاسع لمعنى هذه العلاقة، على نحو ما حلَّلها «ريمون شواب» تحليلًا شاملًا في كتابه النهضة الشرقية، ولا يهمني هنا إلا أن أُشير إلى جوانب محددة منها تتصل بعمل «رينان» باعتباره من فقهاء اللغة ومن المستشرقين، فلقد كان ارتباط «كينيه وميشيليه»، واهتمامهما، على الترتيب، «بهيردر وفيكو»، من وراء اعتقادهما بأن على المؤرخ الباحث أن يواجه ما هو مختلف وغريب وبعيد، تقريبًا مثلما يشاهد المتفرج حدثًا دراميًّا أثناء وقوعه، أو مثلما يشهد المؤمن تنزيلًا سماويًّا. وكانت الصورة التي صاغ «كينيه» ذلك بها هي أن الشرق يقول ويفكر، والغرب يتصرف ويدبر، فلدى آسيا أنبياء، ولدى أوروبا أطباء وعلماء (متخصصون، ومتبحرون في العلوم الطبيعية) ومن هذا التلاقي بينهما ينشأ مذهب جديد أو رب جديد، ولكن مرمى «كينيه» هو أن الشرق والغرب، كلاهما، ينهضان بما خلقا له ويؤكدان هويتهما في ذلك اللقاء. وقد ظل «رينان» يستمسك بموقفه هذا في البحث العلمي؛ أي بصورته باعتباره عالِمًا غربيًّا ينظر من علٍ، من «موقع هيمنة» مناسب إلى أبعد حد، فيستعرض الشرق السلبي، «الأصيل»، «المؤنث»، بل الصامت البليد، ثم يفصح عن الشرق، ويجعله يفضي بأسراره في ظل السلطة العلمية التي يتمتع بها فقيه اللغة الذي يستمد قوته من القدرة على فتح أبواب اللغات السرية ذات الدلالات الخفية. وأما ما تخلَّى عنه «رينان» في أربعينيات القرن التاسع عشر، أثناء تلقيه تدريبه في فقه اللغة، فكان «الموقف الدرامي»، وهو الذي حلَّ محله الموقف العلمي.

كان التاريخ يعتبر «مسرحية» في عيون «كينيه وميشليه»، فكان «كينيه» يصف العالم بألفاظ موحية قائلًا إنه معبد، وإن التاريخ الإنساني ضربٌ من الطقوس الدينية، وكان «ميشيليه وكينيه»، كلاهما، يريان العالم الذي يناقشانه رأيَ العين، وكان أصل التاريخ الإنساني أمرًا يستطيعان وصفه بنفس التعابير المشبوبة الرائعة والدرامية التي كان «فيكو وروسو» يستخدمانها في تصوير الحياة على الأرض في العصور البدائية. ولم يكن يخالج «ميشيليه وكينيه» شكٌّ في أنهما ينتميان إلى الجهد الرومانسي الأوروبي المشترك، «سواء كان ذلك في ملحمة أو في جنس أدبي رئيسي آخر — في الدراما، أو في القصة البطولية المنثورة، أو في «الأنشودة العظمى» الحافلة بالرؤى — وذلك حتى يستطيعا إعادة صياغة النسق المسيحي لسقوط الإنسان وفوزه بالغفران وظهور أرصدة جديدة تمثل فردوسًا مستعادًا، بالأساليب الملائمة للظروف التاريخية والفكرية للعصر الذي عاشَا فيه»25 وأعتقد أن «كينيه» كان يرى أن فكرة مولد رب جديد كانت بمثابة ملء المكان الذي أخلاه الرب القديم. وأما «رينان» فإن العمل بفقه اللغة كان يعني قطع جميع الروابط، مهما تكن، بالرب المسيحي القديم، وذلك حتى يتسنَّى لمذهب جديد — ربما يكون العلم — أن يتمتع بالحرية وأن يشغل موقعًا جديدًا، إن صح هذا التعبير. وقد كرس «رينان» حياته العملية كلها ليكسوَ هذا الجهد لحمًا ودمًا.
وقد أعرب «رينان» عن ذلك بوضوح شديد في نهاية مقاله المبهم عن أصول اللغة قائلًا إن الإنسان لم يَعُد قادرًا على اختراع شيء جديد، وإن عصر الإبداع قد انتهى قطعًا.26 ويقول إن الإنسان قد أتى عليه حينٌ من الدهر لا نستطيع إلا أن نحدس طبيعته، وهو الذي تحوَّل فيه، بالمعنى الحرفي للعبارة، من الصمت إلى الكلام. وبعدها جاءت اللغة، ومهمة العالِم الحقيقي أن يفحص حالة اللغة الآن لا كيف نشأت. لكنه إذا كان «رينان» يستبعد الانخراط المشبوب في «خلق» العصور البدائية (وهو الذي كان مثيرًا في نظر هيردر وفيكو وروسو، بل وكينيه وميشيليه) فهو ينخرط في نمط جديد متعمد من «الخلق» المصطنع، وهو العمل الذي لا يكون إلا ثمرة للتحليل العلمي. وقد أعلن «رينان» في محاضرته الافتتاحية في كوليج دي فرانس (٢١ فبراير ١٨٦٢م) أنه يسمح لأفراد الجمهور بحضور محاضراته حتى يطلعوا بأنفسهم على «المختبر نفسه لعلم فقه اللغة»27 وكان بوسعِ أيِّ قارئ ﻟ «رينان» أن يفهم أن ذلك الكلام كان يتضمن مفارقة من مفارقاته الخاصة، وإن كانت مفارقة عرجاء؛ إذ كان المقصود بها إحداث صدمة لا الإتيان بسرور سلبي، وكان «رينان» عندها قد بدأ يشغل كرسي أستاذ اللغة العبرية خلفًا للأستاذ القديم، وكانت محاضرته تتناول مساهمة الشعوب السامية في تاريخ الحضارة. هل كانت ثَم إهانة للتاريخ «المقدس» — على ما فيها من دهاء — أكبر من استبدال «مختبر فقه اللغة» المشار إليه بالتدخل الإلهي في التاريخ؟ وهل كان ثَم أسلوب أشد دلالة من إعلان اقتصار أهمية الشرق في الوقت الحاضر على اعتباره مادةً لبحوث الأوروبيِّين؟28 وهكذا كانت شذور «ساسي»، «الخامدة» نسبيًّا، والمرتبة في لوحات متتابعة يحلُّ محلَّها الآن شيءٌ جديد.
كانت للكلمات المثيرة والمنمقة التي اختتم بها «رينان» «محاضرته» وظيفة أخرى تتجاوز مجرد ربط فقه اللغات السامية الشرقية بالمستقبل وبالعلم. كان «إتيين كترمير» الذي سبق «رينان» مباشرة في كرسيِّ اللغة العبرية، فيما يبدو، باحثًا يجسد الصورة الكاريكاتورية الشائعة لما يكون عليه الباحث الأكاديمي؛ إذ قال «رينان» عنه في كلمة تذكارية موجزة، تنمُّ عن برودة إحساس نسبية، نشرها في مجلة جورنال دي ديباه في أكتوبر ١٨٥٧م، إنه كان يتميز بقدر مذهل من الجد والنشاط والتحذلق، فكان يقوم بعمله قيام العامل المجتهد الذي لا يستطيع — حتى وهو يؤدي خدمات جليلة — أن يرى الصورة الكاملة للبناء الذي يجري تشييده. أما ذلك البناء فلم يكن أقل من «التاريخ العلمي لروح الإنسان» والذي كان يُبنى الآن حجرًا حجرًا.29 وإذا كان «كترمير» لا ينتمي لهذا العصر، فإن «رينان» كان يصرُّ في عمله على الانتماء إليه. كما أنه إذا كان الشرق قد اقتصر حتى تلك اللحظة على الهند والصين، وحدهما ودون تمييز، فإن طموح «رينان» كان أن يُنشئ لنفسه إقليمًا شرقيًّا جديدًا، وكان في هذه الحالة الشرق السامي. وكان ولا شك قد لاحظ الخلط العابر، والشائع قطعًا، بين اللغتين العربية والسنسكريتية (على نحو ما نرى في رواية بلزاك «غشاوة الأحزان» حيث يصف الكلمات العربية المكتوبة في الطلسم المهلك بأنها سنسكريتية) ومن ثَم فقد آلى على نفسه أن يؤديَ للغات السامية ما أدَّاه بوب من أجل اللغات الهندية الأوروبية: أو هذا ما ذكره في تصديره عام ١٨٥٥م لدراسته في اللغات السامية.30 وهكذا كان «رينان» يعتزم إبراز اللغات السامية بصورة دقيقة وجذابة بأسلوب «بوب»، وأن يقوم بالإضافة إلى ذلك برفع مكانة دراسة هذه اللغات الأدنى والمتجاهلة إلى مستوى العلم الجديد الخاص بعقل الإنسان وروحه وهو الذي يتطلب الحماس له بأسلوب «لويس لامبرت».
ولقد أكد «رينان» صراحةً في أكثر من مناسبة أن الساميِّين وصفة «السامية» من خلقِ الدراسة الاستشراقية لفقه اللغة.31 ولما كان «رينان» هو الذي قام بهذه الدراسة، فإن قوله ذلك كان يقصد بوضوح أن يشير إلى الدور الرئيسي الذي اضطلع به هو نفسه في ذلك الخلق الجديد المصطنع. ولكن تُرى ماذا كان «رينان» يعني بكلمة الخلق في هذه الحالات؟ وما علاقة هذا الخلق بالخلق الطبيعي أو بالخلق الذي ينسبه «رينان» وغيره إلى «المختبر» وإلى العلوم التصنيفية والطبيعية، وأهم من ذلك كله إلى ما كان يسمَّى التشريح الفلسفي؟ لا مفر لنا من اللجوء إلى الحدس قليلًا هنا: كان «رينان» يتخيل على امتداد حياته العملية، فيما يبدو، أن دور العلم في حياة البشر هو «إخباره بصورة قاطعة (أو القول أو الإفصاح له) بكلمة أو منطق الأشياء».32 (وأنا أستشهد بهذه العبارة المنقولة عن الفرنسية بأقصى ما استطعت من الترجمة الحرفية). فالعلم يجعل الأشياء تتكلم، والعلم يفعل ما هو أفضل؛ إذ إنه يُخرج الكلام الكامن داخل الأشياء ويُتيح الإفصاح عنه. ولا ترجع القيمة الخاصة لعلم اللغة (وهو الاسم الذي كان كثيرًا ما يطلق على فقه اللغة الجديد) إلى أن العلم الطبيعي يشبهه، بل إلى أنه يعالج الكلمات باعتبارها كائنات طبيعية، ويجعلها تكشف عن أسرارها، ولولاه لظلت صامتة. ولنتذكر أن الانطلاق الرئيسي في دراسة النقوش والكتابة الهيروغليفية كان اكتشاف «شامبوليون» أن الرموز في حجر رشيد كانت تتكون من عنصر صوتي إلى جانب العنصر الدلالي.33 وإنطاق الأشياء يماثل إنطاق الكلمات ومنحها قيمة مستمدة من الظروف، ومكانًا محددًا بدقة في نسق منتظم تحكمه قواعد خاصة. والمعنى الأول لكلمة الخلق، كما استخدمها «رينان»، يدل على الإفصاح الذي يُتيح لنا أن نرى «شيئًا»، مثل صفة السامية، باعتبارها مخلوقًا من نوع ما. والمعنى الثاني للخلق هو دلالته على الإطار المحيط بالكلمة — وكان ذلك بالنسبة لصفة السامية يعني التاريخ والثقافة والجنس والعقلية الشرقية — بعد أن يُلقي العالِمُ الضوءَ عليها ويُخرجها من «تحفُّظها». وأخيرًا كان الخلق يعني وضع نظام للتصنيف يُتيح مشاهدة شيء ما بالمقارنة مع أشباهه، وكان «رينان» يقصد بكلمة «المقارنة» شبكة معقدة من علاقات الإحلال؛ أي إحلال صيغة صرفية أو معرفية محلَّ أخرى، بين اللغات السامية والهندية الأوروبية.
وإذا كنت قد ألححت كثيرًا فيما قلته إلى الآن على دراسة «رينان» للغات السامية، وهي التي تُعاني من النسيان النسبي؛ فذلك لعدة أسباب مهمة؛ إذ كانت دراسة اللغات السامية هي الدراسة العلمية التي لجأ إليها «رينان» فور فقدانه إيمانه المسيحي، وقد سبق لي أن شرحت كيف أصبح يرى أن دراسة اللغات السامية قد حلَّت محلَّ إيمانه ومكَّنته من إقامة علاقة «نقدية» معه في المستقبل. كما كانت دراسة اللغات السامية أول دراسة استشراقية وعلمية يُجريها «رينان» (إذ أكملها في عام ١٨٤٧م ونشرها أول مرة عام ١٨٥٥م) وكانت تمثِّل جانبًا من مشروعه الرئيسي فيما بعد عن أصول المسيحية وتاريخ اليهود، مثلما كانت تحضيرًا علميًّا للمجالَين. ومن الغريب أن تندر بيننا المؤلفات المعتمدة أو المعاصرة في تاريخ اللغة أو تاريخ الاستشراق التي لا تستشهد بأعمال «رينان» إلا بصورة عارضة34 فالواقع أن كتابه الرئيسي عن اللغات السامية كان المقصود به، مهما تكن درجة الوفاء بالقصد، أن يمثِّل فتحًا جديدًا في فقه اللغة، وقد أصبح يُلجأ إليه في الأعوام التالية لإيراد الحجج على صحة مواقفه (السيئة دائمًا تقريبًا) إزاء الدين والجنس البشري والقومية.35 وكان «رينان» عندما يريد أن يقول شيئًا عن اليهود أو المسلمين، مثلًا، دائمًا ما يقوله في إطار انتقاداته القاسية إلى أبعد حدٍّ للجنس السامي كما يراه (والتي لا تقوم على أساس، إلا وفقًا «للعلم» الذي يمارسه). كما أن دراسة «رينان» للغات السامية كان المقصود بها المساهمة في تطور علم اللغة الخاص باللغات الهندية الأوروبية وفي التفريق بين ضروب الاستشراق. كان يرى أن اللغات السامية تمثِّل شكلًا منحطًّا بالقياس إلى تطور اللغات الهندية الأوروبية، وكان يقصد الانحطاط الأخلاقي والبيولوجي، وأما بالنسبة لضروب الاستشراق فكانت اللغات السامية تمثِّل له شكلًا ثابتًا — إن لم يكن الشكل الثابت الوحيد — للانحلال الثقافي. وأخيرًا فإن دراسة «رينان» المذكورة كانت أول ما «خلقه» «رينان»، أو الوهم الذي اخترعه في مختبر فقه اللغة لإرضاء إحساسه بالمكانة الاجتماعية والرسالة التي يؤديها في الحياة العامة. ولا ينبغي أن يغيب عنَّا إدراك أن هذه الدراسة كانت تُرضي غرور «رينان» باعتبارها ترمز للسيادة الأوروبية (ومن ثَم سيادته) على الشرق وعلى زمانه.
ومن ثَم فقد كانت اللغات السامية، باعتبارها فرعًا من فروع الشرق، لا تصل إلى مرتبة الكائن الطبيعي — كنوع من أنواع القرود مثلًا — ولا تعتبر كائنًا غير طبيعي أو كائنًا إلهيًّا، مثلما كانت تعتبر يومًا ما. بل إن اللغات السامية كانت تشغل موقعًا وسطًا، وكانت مظاهر شذوذها (وهو الذي يحدده انتظام قواعد اللغات الهندية الأوروبية) تكتسب شرعيتها من علاقتها العكسية باللغات السوية، كما تعتبر ظاهرة شاذة شبه شوهاء لعدة أسباب؛ منها أن المكتبات والمختبرات والمتاحف تُستخدم في عرضها وتحليلها. ويتخذ «رينان» في هذه الدراسة نبرات صوت ومنهج عرض مستمدين إلى أقصى حدٍّ من دراسة الكتب ومن الملاحظة الطبيعية، على نحو ما فعل رجال مثل «كوفييه وجيفروا سانت هيلير» وابنه الذي يحمل اسمه. كانت دراسة «رينان» إنجازًا أسلوبيًّا مهمًّا؛ لأنها أتاحت له أن يستفيد باستمرار من المكتبة، لا من القول بالبدائية أو بما قضى به الرب، في إقامة الإطار النظري اللازم لفهم اللغة، إلى جانب المتحف، وهو المكان الذي تنتهي إليه نتائج ملاحظات المختبر، لعرضها ودراستها وتعليمها.36 ويعالج «رينان» الحقائق الإنسانية المعتادة — كاللغة، والتاريخ، والثقافة، والعقل، والخيال — في كل ما يكتب، بعد أن يحولها إلى أشياء أخرى؛ أشياء منحرفة بصورة غريبة؛ وذلك لأنها سامية وشرقية، ولأن الأمر ينتهي بها إلى التحليل في المختبر. وهكذا يرى أن الساميِّين موحِّدون بالله ومتعصبون لذلك، لم يأتوا بأساطير أو بفنون أو تجارة أو حضارة، ويتسم وعيُهم بالضيق والجمود، وخلاصة القول أنهم يمثلون «تركيبةً متدنية من الطبيعة البشرية».37 ويريد منَّا «رينان» في الوقت نفسه أن نفهم أنه يتحدث عن «نموذج أصلي» لا عن نمط ساميٍّ حقيقيٍّ له وجوده الفعلي (على الرغم من مخالفته لذلك أيضًا بمناقشته للمعاصرين من يهود ومسلمين بنبرات لا تتسم أيضًا بالحياد العلمي في مواقع كثيرة من كتاباته).38 وهكذا نجد أن منهجه يتسم من ناحية بتحويل الإنسان إلى عيِّنة، ويتسم من ناحية أخرى بإصدار أحكام مقارنة تظل العيِّنة فيها عيِّنةً وموضوعًا للدراسة العلمية في فقه اللغة.

وتنتشر في جنبات التاريخ العام والمذهب المقارن للغات السامية تأملات حول الروابط ما بين علم اللغة والتشريح، إلى جانب ملاحظات — لا تقل أهمية عند «رينان» — عن استخدام هذه الروابط في دراسة تاريخ العلوم («العلوم التاريخية»، كما يسميها). ولكن علينا أن نبدأ بالنظر في الروابط الضمنية، أو الموحى بها ضمنًا. ولا أظنه من الخطأ أو المبالغة أن نقول إن أيَّ صفحة من الصفحات المعتادة في كتاب «رينان» الاستشراقي التاريخ العام، قد كتبها المؤلف على غرار البناء المكاني والهيكلي للصفحة المعتادة في كتب التشريح الفلسفي المقارن، وبأسلوب «كوفييه أو جيفروا سانت-هيلير». فعلماء اللغة وعلماء التشريح يتصدَّون للحديث عن أمور لا نجدها «جاهزة» في الطبيعة ولا تأتي بها الملاحظة المباشرة للطبيعة. فصورة الهيكل العظمي المرسومة، أو الرسم التفصيلي بالقلم الرصاص لإحدى العضلات، شأنهما شأن الصور الصرفية للكلمات التي يُنشئها علماء اللغة استنادًا إلى افتراض وجود لغة سامية أُم أو لغة هندية أوروبية أُم، من ثمار العمل في المختبر وفي المكتبة. والنص في كتاب علم اللغة، أو كتاب التشريح، تربطه بالطبيعة (أو بالواقع الفعلي) العلاقة العامة نفسها التي تربط إحدى «الحالات» المعروضة في المتحف لعيِّنة من الحيوانات الثديية أو أحد الأعضاء. فالذي نراه في الصفحة وفي الحالة المتحفية شيءٌ مقتطع ومبالغ فيه، مثل الكثير من منتخبات «ساسي» الشرقية، والغرض منه إظهار العلاقة بين العِلم (أو العالم) وذلك الشيء، لا بين الشيء والطبيعة. وإذا قرأت أي صفحة كتبها «رينان»، تقريبًا، عن اللغة العربية أو العبرية او الآرامية أو السامية الأُم فسوف تجد أنك تقرأ ما يقطع بممارسة السلطة، أي سلطة المستشرق فقيه اللغة القادر على أن يستحضر ما يشاء من نماذج الكلام الإنساني من المكتبة، ثم يحيطها في تلك الصفحة بنثر أوروبي مهذب، يبين فيه المثالب والفضائل وظواهر الهمجية والنقائص التي تشوب اللغة والشعب والحضارة. وهو يستخدم الزمن المضارع — بمعنى الزمن الحاضر المعاصر — وعلى نسق واحد تقريبًا في نبرات و«أفعال» ذلك «العرض» بحيث يُوحي بأنه يقدِّم بيانًا تعليميًّا (يرمي إلى إثبات شيء ما) مثل الذي يقدمه العالم الباحث وهو واقف أمامنا على منصة المحاضر في المختبر، وهو يبتكر المادة التي يناقشها، ويضع لها الحدود ويُصدر عليها الأحكام.

ويزداد حرص «رينان» على الإيحاء بأنه يقدم ذلك «البيان» لنا فعليًّا عندما يقول بصراحة إن التشريح يستخدم علامات ثابتة ومرئية يستطيع بها تصنيف الأشياء في «طبقات»، ولكن علم اللغة لا يفعل ذلك.39 وينبغي من ثَم على فقيه اللغة أن يجعل أي حقيقة لغوية تتفق مع فترة تاريخية ما، ومن هنا تنشأ إمكانية التصنيف. ومع ذلك، وعلى نحو ما كرر «رينان» كثيرًا فيما بعد، فإن الطابع الزمني والتاريخي للغة مليءٌ بالثغرات، وفترات الانقطاع الهائلة، والفترات «المفترضة». ومن ثَم فإن الأحداث اللغوية تقع في بُعد زمني لا يسير في خطٍّ واحد كما يتميز في جوهره بالتقطع، ويتحكم اللغوي في ذلك بأسلوب خاص إلى أبعد الحدود. وهذا الأسلوب هو المقارنة، وهو ما تُثبته إلى حدٍّ كبير دراسة «رينان» عن الفرع السامي للغات الشرقية. وفي هذه المقارنة تعتبر اللغات الهندية الأوروبية هي المعيار الحي العضوي، وبالمقارنة يظهر أن اللغات الشرقية السامية غير عضوية.40 أي إن الزمن يتحول إلى المكان الذي يجري فيه التصنيف المقارن، والذي يقوم في جوهره على التعارض الثنائي الجامد بين اللغات العضوية وغير العضوية. وهكذا نرى من ناحية حركة توليدية بيولوجية عضوية تُمثلها اللغات الهندية الأوروبية، ومن ناحية أخرى حركة غير عضوية، وغير توليدية في جوهرها؛ سكنَت فتحجَّرَت في اللغات السامية. وأهم ما في الأمر أن «رينان» يوضح إيضاحًا قاطعًا أن هذا الحكم المهيب يُصدره فقيه اللغات الشرقية في مختبره؛ فالفوارق التي تشغله ليست متاحةً ولا هي في طوق أيِّ إنسان إلا المحترف المدرب، قائلًا «ومن ثَم فنحن نرفض أن نسمح بالقول إن اللغات السامية تتمتع بالقدرة على التجديد والتوليد الذاتي، حتى مع الإقرار بأنها لا مهرب لها من حتمية التغيير أو التعديلات المتوالية، شأنها في ذلك شأن غيرها من ثمار الوعي الإنساني.»41
بل إن وراء هذه المعارضة المبدئية نفسها تكمن معارضة أخرى في ذهن «رينان»، وهو يكشف موقفه بصراحة للقارئ على امتداد عدة صفحات من الفصل الأول من السِّفر الخامس، وذلك عندما يعرض آراء «سانت هيلير» عن «انحطاط الأنماط».42 ورغم أن «رينان» لا يحدد أي الرجلين يقصد، «سانت هيلير» الأب، أم «سانت هيلير» الابن، فإن الإشارة على درجة كافية من الوضوح؛ إذ كان «إتيين سانت هيلير» وابنه «إيزيدور» من أصحاب النظريات البيولوجية الذين كانوا يتمتعون بدرجة فذة من الشهرة والنفوذ، خصوصًا بين المفكرين الأدباء في النصف الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا. ونحن نذكر أن «إتيين» كان عضوًا في حملة «نابليون»، وأن «بلزاك» أهدى إليه قسمًا مهمًّا من تصدير الكوميديا الإنسانية، كما أن لدينا أدلةً كثيرة على أن «فلوبير» قرأ أعمال الأب وابنه واستخدم آراءهما في عمله.43 ولم يقتصر الأمر على أن «إتيين وإيزيدور» قد ورثَا تقاليد البيولوجيا «الرومانسية» — وكان من أعلامها «جوته وكوفييه»، وهي التي تتسم بالاهتمام الشديد بالقياس، والتماثل، والشكل العضوي البدائي بين الأنواع — لكنهما كانَا متخصصَين أيضًا في فلسفة وأشكال أجسام ذوي الخِلَق الشائهة، أو «علم المسوخ» (تيراتولوجي) كما كان «إيزيدور» يسميه، وكان هذا «العلم» يقول إن أبشع صور الانحراف الفسيولوجية نجمت عن انحطاط داخلي في حياة النوع.44 ولا أستطيع هنا أن أتعرض لدقائق «علم المسوخ» (والافتتان الشنيع به)، ويكفي أن أذكر أن «إتيين وإيزيدور» استغلَّا القوة النظرية للنموذج اللغوي في تفسير ضروب الانحرافات الممكنة داخل الجهاز البيولوجي. وكانت فكرة «إتيين» تقول إن صاحب الخلقة الشائهة يمثل شذوذًا، بنفس المعنى الذي نفهمه من ارتباط كلمات اللغة بعضها بالبعض بعلاقات قياس وشذوذ، وهذه من الأفكار القديمة في علم اللغة وترجع على الأقل إلى زمن كتابة «فارو» كتابَه عن اللغة اللاتينية في القرن الثاني قبل الميلاد؛ أي إنه لا يمكن اعتبار أي شذوذ بمثابة استثناء لا مبرر له وحسب، بل إن الحالات الشاذة تؤكد وجود الهيكل المنتظم الذي يجمع أو يضم أفراد كل طبقة إلى بعضهم البعض. ومثل هذا الرأي كان يتسم بجرأة مؤكدة في علم التشريح. ويقول «إتيين» في فقرة من فقرات «التمهيد» الذي وضعه لكتاب فلسفة التشريح:
بل إن طابع عصرنا يقضي باستحالة الانحصار الصارم في إطار موضوع واحد فقط، فإذا درست شيئًا بمعزل عن سواه فلن تستطيع إلا ردَّه إلى ذاته، ومن ثَم لم تستطع مطلقًا أن تعرفه معرفة كاملة. أما إذا نظرت إليه وسط كائنات يرتبط بعضها بالبعض بشتى الأشكال، وينعزل بعضها عن بعض بشتى الأشكال، فسوف تكتشف نطاقًا أكبر من علاقات هذا الشيء. فقبل كلِّ شيء سوف تعرفه معرفة أفضل، حتى في خصوصيته، ولكن الأهم هو أنك إذا نظرت إليه في مركز نشاطه الخاص نفسه فسوف تعرف على وجه الدقة أساليب «عمله» في إطارِ عالَمِه الخارجي الخاص به، وسوف تعرف أيضًا كيف رُكِّبَت ملامحه الخاصة في إطار التفاعل مع الوسط المحيط به.45

أي إن «سانت هيلير» لا يقول فقط إن الطابع الخاص للدراسة المعاصرة (أي في عام ١٨٢٢م) هو الفحص المقارن للظواهر، بل إنه يقول أيضًا إن العالم لا يعترف بشيء يعتبر ظاهرة لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى الظواهر الأخرى، مهما تكن هذه الظاهرة منحرفةً وشاذة. لاحِظ أيضًا كيف يستعمل «سانت هيلير» استعارةَ «المركزية» (مركز نشاطه الخاص) وهي التي استخدمها «رينان» فيما بعد في كتابه: «مستقبل العلم» في وصف الموقع الذي يشغله كلُّ شيء في الطبيعة — حتى فقيه اللغة نفسه — بشرط قيام العالِم الذي يفحصه بوضعه بأسلوب علمي في ذلك الموقع. وبعد ذلك تنشأ رابطة تعاطف بين الشيء والعالِم. ومن المحال أن يحدث هذا، بطبيعة الحال، إلا في تجارب المختبر وحدها. والمرمى المقصود هو أن العالِمَ لديه من القوة ما يستطيع أن ينظر به إلى أيِّ حادث، مهما يبلغ خروجه عن المألوف، باعتباره حادثًا طبيعيًّا وأن يعرفه معرفةً علمية، وهي التي تعني هنا عدمَ اللجوء إلى التفسير بالأسباب الخارقة بل بالاستناد فقط إلى البيئة المحيطة التي «يُركِّبها» العالم. والنتيجة أنه من الممكن النظر إلى الطبيعة باعتبارها ذات استمرار، وذات تماسك متناغم، ولا تستعصي في جوهرها على الفهم.

وهكذا كان «رينان» يرى أن اللغة السامية ظاهرة تدل على توقُّف النمو بالمقارنة باللغات والثقافات الناضجة الأخرى المنتمية إلى مجموعة اللغات الهندية الأوروبية، بل وباللغات الشرقية السامية الأخرى.46 ولكن المفارقة التي يواصلها «رينان» هي أنه حتى وهو يحثُّنا على اعتبار أن اللغات تتفق مع «الكائنات الحية في الطبيعة» أو تُناظرها بصورة ما، فإنه يعمل في كل موقع آخر على إثبات أن لغاته الشرقية لغات غير عضوية، توقَّف نموُّها، وتحجَّرت تمامًا، وأنها عاجزة عن تجديد ذاتها، وبعبارة أخرى يعمل على إثبات أن اللغة السامية ليست لغةً حية، وأن الساميِّين ليسوا أيضًا مخلوقات حية. وأما اللغة والثقافة الهندية الأوروبية، فهما حيَّتان وعُضْويَّتان، بسبب المختبر لا بالرغم منه. ولكن هذه المفارقة أبعد ما تكون عن القضية الهامشية في عمل «رينان»، بل إنها في رأيي تقع في مركز عمله نفسه، وتتبدَّى في أسلوبه، وفي وجوده «الأرشيفي» في ثقافة عصره، وهي الثقافة التي ساهم فيها مساهمة بالغة الأهمية، باتفاق آراء الكثيرين (على اختلافهم عن بعضهم البعض) مثل «ماثيو أرنولد، وأوسكار وايلد، وجيمز فريرز، ومارسيل بروست». إن القدرة على الحفاظ على رؤية تضم وتجمع بين الحياة والمخلوقات شبه الحية (كاللغة الهندية الأوروبية والثقافة الأوروبية) إلى جانب الظواهر شبه الشائهة الخلقة، وغير العضوية، والموازية لتلك المخلوقات (اللغة السامية والثقافة الشرقية) تعتبر على وجه الدقة إنجازَ العالم الأوروبي في مختبره: إنه يبني، وفعل البناء نفسه دليل على قوة السيطرة الكبرى على الظواهر «الجَمُوح» وكذلك على تأكيد الثقافة المهيمنة واعتبارها الثقافة «الطبيعية». بل إنه ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن مختبر فقه اللغة الخاص ﺑ «رينان» كان الموقع الفعلي لمركزيته الأوروبية، ولكن الذي نحتاج إلى تأكيده هنا هو أن مختبر فقه اللغة لا وجود له خارج الكلام أو الكتابة التي تصنعه باستمرار ونشعر به فيها دائمًا. وهكذا فإن الثقافة التي يسميها ثقافة عضوية وحية — أي ثقافة أوروبا — هي نفسها أيضًا مخلوق يُخْلق في المختبر، ويخلقه فقه اللغة.

كان الشطر الأخير كله من حياة «رينان» العملية منصرفًا إلى أوروبا والثقافة، وكانت منجزاته هنا منوعة وتحظَى باحتفاء كبير. وأعتقد أننا نستطيع أن نغزوَ «السلطة» أو المرجعية التي كان يتمتع بها أسلوبه إلى حذقه في بناء ما ليس عضويًّا (أو ما هو مفتقد) وإضفاء مظهر الحياة عليه. كان أشهر ما اشتهر به، بطبيعة الحال، هو كتابه «حياة يسوع»، وهو العمل الذي افتتح به كتاباته التاريخية الضخمة عن المسيحية وعن الشعب اليهودي. ومع ذلك فعلينا أن نُدرك أن كتاب «حياة يسوع» كان يمثِّل على وجه الدقة نمطَ الإنجاز البطولي الذي تميز به التاريخ العام؛ أي ذلك البناء الذي أُقيم بفضل قدرة المؤرخ على «الصناعة» البارعة لسيرة حياة شرقية ميتة كأنما كانت قصة حقيقية لحياة طبيعية — وهنا تبدو المفارقة واضحة على الفور — (وكان رينان يستخدم الوصف بالموت بمعنى مزدوج، الأول يشير إلى موت الإيمان، والثاني يشير إلى فترة تاريخية مفقودة، ومن ثَم فهي ميتة). وكان كل ما يقوله «رينان» يمرُّ أولًا بمختبر فقه اللغة، وكان عندما يظهر في الصفحة المطبوعة، وقد تخلَّلت نسيجَ النص خيوطُه، يتمتع بقوة البصمة الثقافية المعاصرة التي تَهَبُه حياته، والتي كانت تستمد من الحداثة كل سلطتها العلمية وكل «رضاها عن الذات» دون أدنى تشكك. وكانت تلك الثقافة تعتبر أن سلاسل النسب القائمة مثلًا في الأسر الحاكمة، والتقاليد، والدين والمجتمعات العِرقية لا تزيد على وظائف لنظريةٍ عملُها أو مهمتها تعليم العالم. وعندما اقتبس «رينان» هذه العبارة الأخيرة من «كوفييه»، كان يضع، بحذرٍ، الإثبات العلمي في مستوى أعلى من الخبرة، وكان يخفض من قيمة العامل الزمني بإقصائه إلى مجال الخبرة العادية التي لا تتمتع بقيمة علمية، وأما انتماء الثقافة ومذهب المقارنة الثقافية إلى عصره بصفة خاصة (وهما اللتان ولَّدتَا المركزية العِرقية، والنظرية العنصرية، والطغيان الاقتصادي) فكان يمنحه سلطات تسبق الرؤية الأخلاقية بمراحل.

ولننظر إلى أسلوب «رينان»، إلى حياته العلمية مستشرقًا وأديبًا، والظروف التي أحاطَت بالمعنى الذي يقدِّمه، وعلاقته الحميمة بصفة خاصة مع ثقافة أوروبا في عصره، بجانبَيها المتخصص والعام — وهي التي كانت تحررية، تؤمن بخصوصيتها، ومتعجرفة، ومضادة للإنسانية إلا بمعنًى مشروطٍ بشروط كثيرة — وسوف تجد أن هذه جميعًا تمثِّل ما قد أَصِفه بأنه الموقف العلمي المترهبن، فالتوليد عنده مقصور على مجال المستقبل، وهو الذي يربطه في «بيانه» الشهير بالعلم. ورغم أن «رينان» مؤرخ ثقافي ينتمي إلى مدرسة «تيرجو، وكوندورسيه، وكوزان، وجوفروا، وبالانش»، ورغم أنه باحث علمي ينتمي إلى مدرسة «ساسي، وكوسان دي بيرسيفال، وأوزانام، وفورييل، وبيرنوف»، فإن عالَمَ «رينان» عالَمٌ ذكوري خَرِبٌ بصورة غريبة، ومبالغ في ذكورته، مكرس للتاريخ والتحصيل العلمي. والحق أنه ليس عالم آباء وأمهات وأطفال، بل عالم رجال يُشبهون الصورة التي رسمها للمسيح أو للفيلسوف الرواقي «ماركوس أوريليوس»، ابن القرن الثاني الميلادي، أو ﻟ «كاليبان»، المخلوق الشائه المتوحش في مسرحية «العاصفة» ﻟ «شيكسبير»، أو لرب الشمس عنده (وهو آخر ما يصفه في «الأحلام» التي صورها في كتابه: «حوارات فلسفية»).47 كان يحب ويعتز بقوة العلم وفقه اللغات الشرقية بصفة خاصة، وكان يسعى للتسلح بما تمدُّه به هذه القوة من نظرات عميقة، وما تُهيئه من طرائق عمل، كما استعان بها في التدخل في حياة عصره، وبنجاح كبير في أحيان كثيرة، ومع ذلك فقد كان دوره المثالي دور المتفرج.
ويقول «رينان» إن على فقيه اللغة أن يفضِّل السعادة على المتعة، وهذا التفضيل يتجلَّى فيه اختياره للسعادة الرفيعة، على عمقها، وإعلاء شأنها على المتعة الجنسية. فالكلمات تنتمي إلى عالم السعادة، مثلما تنتمي دراسة الكلمات، من الناحية المثالية. وفي حدود ما أعرف، يندر في كتاباته كلها أن نصادف تصويرًا للمرأة ينسب إليها دورًا فعالًا يعود بالخير على الناس، ومن تلك الأدوار النادرة ما يقوله عن دور النساء الأجنبيات (الممرضات والخادمات) اللاتي قمن، في رأيه، بتعليم أطفال النورمانديِّين الغزاة أو الفاتحين، وهو ما يفسر لنا التغييرات التي وقعت في اللغة. لاحِظ أنهن لم يساعدنَ في مجال «الإنتاجية» والانتشار، بل اقتصر دورهن على التغير الداخلي، وهو، إلى ذلك، تغير ثانوي. ويقول «رينان» في خاتمة ذلك المقال نفسه إن «الإنسان لا ينتمي إلى لغته أو إلى جنسه، بل ينتمي إلى نفسه قبل كل شيء؛ إذ إنه قبل كلِّ شيء كائنٌ حرٌّ وكائن أخلاقي.»48 أي إن الإنسان حرٌّ وأخلاقي، ولكن تُكبِّله أصفادُ الانتماء العنصري، وأصفاد التاريخ والعلم، حسبما كان يراها «رينان»، وهي «أحوال» يفرضها العالم الباحث على الإنسان.
وقد مكَّنت دراسةُ اللغات الشرقية «رينان» من النفاذ إلى قلب هذه «الأحوال»، كما أوضح فقه اللغة عمليًّا أن معرفة الإنسان لا تصبح قادرةً على ممارسة التغيير «الشعري»49 — إذا كان لنا أن نشرح أو نفسر ما يقوله «إرنست كاسيرر» — إلا بعد أن تكون قد فُصِلت من قبل عن الواقع الفعلي (على نحو ما فعله «ساسي»، بحكم الضرورة، حين فصل شذوره العربية عن واقعها الفعلي) ثم وُضعت بعد ذلك في القيود الصارمة التي يفرضها الإيمان بها والتسبيح بحمدها. وعندما تحولت دراسة الكلمات إلى فقه لغة، فقدَت هذه الدراسة الشكل الذي تتخذه عند «فيكو وهيردر وروسو وميشيليه وكينيه»، وأهم ما فقدته هو «الحبكة»، أو قدرة التمثيل الدرامي، على نحو ما دعاها «شيلنج» ذات يوم، وبدلًا من ذلك أصبح فقه اللغة معقدًا من الزاوية المعرفية، ولم يَعُد الحسُّ اللغوي يكفي، ما دام انتماء الكلمات إلى الحواس أو الجسد (وهو ما كان يراه فيكو) قد أصبح أقلَّ من انتمائها إلى مجالٍ تجريديٍّ أعمى خالٍ من الصور، تحكمه صيغٌ «مستنبتة» في صوبة زراعية مثل الجنس والعقل والثقافة والأمة. وكان من الممكن في ذلك المجال، الذي بُنيَ بناءً ذهنيًّا وأُطلق عليه اسم الشرق، قول أقوال جازمة من نوع معين، تتميز جميعًا بنفس القدر من التعميم القوي والصحة الثقافية؛ إذ انحصرَت جهودُ «رينان» كلُّها في إنكارِ حقِّ الثقافة الشرقية في «التولد»، إلا بصورة مصطنعة في مختبر فقه اللغة، وهكذا أنكر أن يكون الإنسان ابنًا للثقافة، بعد أن نجح فقه اللغة نجاحًا باهرًا في الطعن والتشكيك في ذلك التصور «الأُسَري»، كما أن فقه اللغة يُعلِّم المرء أن الثقافة بناء أو إفصاح وتعبير (بالمعنى الذي استخدمه ديكنز في وصف مهنة السيد فيناس في رواية صديقنا المشترك) بل و«خَلْق»، ولكنها لا تزيد مطلقًا على كونها بناءً شبهَ عضوي.
ومصدر الطرافة الخاصة في حالة «رينان» إدراكه العميق أنه مخلوق من صنع زمانه وثقافة المركزية العنصرية التي كان يعتنقها. وعندما كتب «رينان» ردًّا أكاديميًّا على خطاب ألقاه «فردينان دي ليسبس» عام ١٨٨٥م، صرَّح بمدى «الحزن الذي ينشأ حين تزداد حكمةُ فردٍ واحد على حكمة أمته … فالمرء يشعر بالمرارة تجاه وطنه. والأفضل للمرء أن يُخطئَ مشاركة لأمته في خطئها، من أن يكون على صواب مع الذين يخبرونها بالحقائق الصلبة».50 إن إيجاز هذه العبارة قد بلغ كمالًا لا يكاد يُصدَّق. أفلا يعني الشيخ «رينان» أن أفضل علاقة للمرء هي علاقة تكافؤ مع ثقافته، ومع أخلاقياتها، ومع جوها النفسي في زمانه، لا علاقة الانتماء الأُسري التي تجعل المرءَ ابنًا لزمانه أو والدًا له؟ وهنا نعود إلى المختبر؛ ففي هذا المختبر — كما كان «رينان» يتصوره — تنقطع مسئوليات البنوة، والمسئوليات الاجتماعية آخر الأمر، وتسود المسئوليات العلمية والاستشراقية؛ إذ كان مختبر «رينان» هو المنصة التي يخاطب العالم منها باعتباره مستشرقًا، وكان هو «الوسيط» الذي يصدر من خلاله أقواله، والذي تُستمد منه الثقةُ والدقة العامة، والاستمرار. وهكذا فإن مختبر فقه اللغة كما كان يفهمه «رينان» أعاد تعريف ورسم صورة زمانه وثقافته، فأرَّخ لهما وشكَّلهما بطرائق جديدة، وأضفى التماسك العلمي على مادته الشرقية، بل وما يزيد على ذلك؛ إذ إنه هيَّأ له (مثلما هيَّأ للمستشرقين اللاحقين الذين اتبعوا تقاليده) أن يصبح الشخصية الثقافية الغربية التي انتهى إليها فيما بعد. ولنا الحقُّ كلَّ الحق في أن نتساءل إذا ما كان هذا الاستقلال الجديد داخل الثقافة هو الحرية التي كان «رينان» يرجو لعلم فقه اللغة الاستشراقي لديه أن يأتيَ بها، أم إذا كان — في حدود ما يهمُّ المؤرخ الناقد للاستشراق — قد أنشأ علاقة مركَّبة بين الاستشراق وموضوعه الإنساني المفترض تقوم في نهاية الأمر على السلطة لا على الموضوعية المنزهة عن الغرض حقًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤