ثالثًا: الإقامة في الشرق ودراسته
كانت آراء «رينان» في الساميِّين الشرقيِّين تنتمي، بطبيعة الحال، إلى المجال العلمي لفقه اللغات السامية أكثر مما تنتمي لمجال التعصب الشعبي والعداء الشائع للسامية. وعندما نقرأ «رينان وساسي»، نلاحظ دون لَأْيٍ كيف بدأ التعميم الثقافي يكتسب دروع الأقوال العلمية وأجواء الدراسة التصحيحية؛ إذ إن الاستشراق الحديث، مثل التخصصات الأكاديمية الكثيرة في مراحلها الأولى، كان يُحكِم قبضته على مادة موضوعه، وهي التي حدَّدها هو، كأنما كان يضعها بين فكَّي كماشة، وكان يبذل كلَّ ما في طوقه للحفاظ عليها. وهكذا نشأت مفردات «معرفية»، وكانت وظائفها، مثل أسلوبها، تضع الشرق في إطار مقارن من النوع الذي استخدمه «رينان» وتلاعب به. وكان من النادر أن تتخذ المقارنات طابعًا وصفيًّا، بل كانت في أغلب الأحيان تقوم على التقييم والعرض. وفيما يلي نموذج يمثِّل المقارنات التي كان «رينان» يُجريها:
إن الأجناس الهندية الأوروبية هي المحك هنا، وهي كذلك أيضًا عندما يقول «رينان» إن الحساسية السامية الشرقية لم تَصِل قط إلى الذُّرَا الرفيعة التي وصلت إليها الأجناس الهندية الجرمانية.
والعناصر الرئيسية لهذا التفاوت جديرة بتكرارها بإيجاز، فلقد سبقت لي الإشارة إلى تحمُّس «شليجيل» للهند أولًا ثم نفوره منها، ومن الإسلام بطبيعة الحال، بعد ذلك. وكان الكثير من أوائل هواة الشرق قد بدءوا بالترحيب به باعتباره إقلاقًا «صحيًّا» للعادات الفكرية والروحية الأوروبية، فبالغوا في تقدير قيمة الشرق بسبب قوله بوحدة الوجود، وبسبب روحانيته واستقراره وعمره الطويل وخصائصه البدائية وهلمَّ جرًّا. فكان «شلينج» مثلًا يرى أن الإيمان بتعدد الآلهة في الشرق قد مهَّد الطريق للتوحيد الذي أتَت به اليهودية والمسيحية، وأن «براهما»، الإله الهندي، قد مهَّد لظهور إبراهيم عليه السلام. لكن هذه المبالغة في التقدير كان يتلوها، دون استثناء تقريبًا، ردُّ فعلٍ مضاد؛ إذ بدا الشرق فجأةً في صورة مَن يفتقر، بصورة مؤسفة، إلى الطابع الإنساني، ومَن يتسم بمناهضة الديموقراطية، وبالتخلف، وبالهمجية وما إلى ذلك بسبيل. أي إن حركة البندول في اتجاه معين أدَّت إلى حركة «مساوية في المقدار ومضادة في الاتجاه»: بمعنى أن قيمة الشرق لم تَعُد تُقدَّر حقَّ قدرها. ونشأت مهنة الاستشراق من هذا التضاد بين الموقفين، ومن «المعادلات» والتصويبات القائمة على التفاوت، وهي الأفكار التي كانت تغذو وتغذوها أفكارٌ مماثلة في الثقافة بصفة عامة. والواقع أننا نستطيع أن نعزوَ ذلك المشروع نفسه — أي مشروع وضع القيود والحدود وإعادة البناء، في إطار الاستشراق — وأن نُرجعَه مباشرة إلى فكرة التفاوت، وهي التي تقول إن فقر الشرق النسبي (أو ثراءه النسبي) يقتضي إجراءَ معالجة أكاديمية علمية من النوع المتبع في بعض المباحث مثل فقه اللغة، أو البيولوجيا، أو التاريخ، أو الأنثروبولوجيا، أو الفلسفة أو الاقتصاد.
وأحيانًا ما نصادف بعض الاستثناءات؛ فإن لم تكن استثناءات فهي تعقيدات طريفة، فيما يتعلق بهذه المشاركة القائمة على التفاوت بين الشرق والغرب. ففي عام ١٨٥٣م قام «كارل ماركس» بعدة تحليلات للحكم البريطاني في الهند؛ فحدَّد أولًا معنى النظام الاقتصادي الآسيوي، ثم وضع إلى جواره مباشرة مظاهر السلب والنهب البشري التي تعرَّض لها هذا النظام نتيجة التدخل الاستعماري الإنجليزي ونتيجة لجشعه وقسوته المباشرة. وكان يعود في كل مقال يكتبه إلى القول باقتناع متزايد بأن بريطانيا حتى في تدميرها لآسيا، كانت تُتيح لها القيام بثورة اجتماعية حقيقية. وأسلوب «ماركس» يدفعنا دفعًا إلى مواجهة صعوبة التوفيق بين امتعاضنا الطبيعي باعتبارنا إخوانًا في الإنسانية، من معاناة أبناء الشرق أثناء التحولات العنيفة التي يشهدها مجتمعهم، وبين الحتمية التاريخية لهذه التحولات؛ إذ يقول «ماركس»:
لا بد أن مشاعرنا الإنسانية تتأذى من مشاهدة تلك الآلاف من المنظمات الاجتماعية النشطة والوقورة وغير المضرة وهي تتعرض للانحلال والذوبان في الوحدات التي تتشكل منها، الأمر الذي يُلقي بها في بحار الأحزان، ومشاهدة أعضائها الأفراد وهم يفقدون في الوقت نفسه الشكل القديم لحضارتهم ووسائل رزقهم المتوارثة، ولكننا، مهما يبلغ تأذِّينا من ذلك، يجب ألَّا ننسى أن تلك المجتمعات القروية الشاعرية، ولو كانت في ظاهرها غير مضرة، كانت على مر الزمان تمثل الأساس المتين للاستبداد الشرقي، وأنها حبسَت الذهن البشري في أضيق نطاق ممكن، فجعلته أداةً طيِّعةً للخرافات، واستعبدته وغلَّلَته بالقواعد التقليدية، وحرمته من كل جلال ومن الطاقات التاريخية جمعاء …
صحيح أن إنجلترا، عندما تسببت في إحداث ثورة اجتماعية في هندوستان، لم تكن دوافعها إلا أحقر المصالح، وصحيح أن خدمة هذه المصالح قسرًا كان يتصف بالغباء، ولكن ليست هذه هي المسألة. بل المسألة هي: هل يستطيع الجنس البشري تحقيق مصيره دون ثورة أساسية في الحالة الاجتماعية لآسيا؟ فإذا كانت الإجابة بالنفي، فمهما تكن جرائم إنجلترا، فإنها كانت دون أن تدريَ وسيلة التاريخ في إحداث تلك الثورة.
وهكذا فمهما تكن المرارة التي نشعر بها على المستوى الشخصي عند مشاهدة انهيار عالم قديم، فمن حقنا، من الزاوية التاريخية، أن نشارك «جوته» هتافه:
والأبيات التي يستشهد بها «ماركس» لدعم حجته بشأن الألم الذي يأتي بالسرور واردة في ديوان «الشرق والغرب» وهو الذي يحدد مصادر تصورات «ماركس» عن الشرق، فهي تصورات رومانسية بل و«مسيانية»؛ أي تعبر عن رجاء عودة الخلاص، فأهمية الشرق باعتباره مادة إنسانية أقل من أهميته باعتباره عنصرًا من عناصر مشروع الخلاص الرومانسي. ومن ثَم فإن تحليلات «ماركس» الاقتصادية ملائمة تمامًا لجهود الاستشراق المعتادة، حتى ولو كانت القضية تُثير بوضوح مشاعر «ماركس» الإنسانية وتعاطفه مع معاناة البشر. ولكن الرؤية الاستشراقية الرومانسية هي التي تفوز آخر الأمر، فنحن نرى كيف تكمن الآراء الاقتصادية والاجتماعية النظرية عند «ماركس» في هذه الصورة الكلاسيكية «القياسية» في قوله:
إن فكرة إعادة الإحياء، بما تُوحي به من أن آسيا خامدة أو «لا حياة فيها» أساسًا، فكرة تنتمي إلى الاستشراق الرومانسي الخالص، بطبيعة الحال، ولكن هذا الكلام يقوله نفس الكاتب الذي لا يستطيع أن ينسى بسهولة مدى المعاناة الإنسانية الناجمة عن «إعادة الإحياء»، ومن ثَم فهو كلام محير. وهو يقتضي منَّا أن نتساءل أولًا كيف أن المعادلة الأخلاقية لما تفقده آسيا بسبب الحكم الاستعماري البريطاني — والذي يُدينه — تنحرف فترتدُّ إلى فكرة التفاوت القديمة بين الشرق والغرب التي ألمحنا إليها من قبل. وهو يقتضي منَّا ثانيًا أن نسأل أين ذهب التعاطف الإنساني، وما المجال الفكري الذي اختفى فيه أثناء استيلاء الرؤية الاستشراقية على مكانه.
وهذا يعود بنا فورا إلى إدراك أن المستشرقين، مثل كثير من مفكري القرن التاسع عشر الآخرين، يرسمون للإنسانية في أذهانهم صورا جماعية ضخمة أو تعميمات تجريدية. فالمستشرقون لا يهتمون بالأفراد، ولكن السائد، بدلا من هذا، هو الكيانات المصطنعة التي ربما كانت تضرب جذورها في مذهب الشعبية عند «هيردر»، إذ لا نصادف إلا الحديث عن الشرقيين، أو الآسيويين، أو الساميين، أو المسلمين، أو العرب، أو اليهود، أو الأجناس البشرية، أو العقليات، أو الأمم، أو ما شابه ذلك من «فئات» بعضها من نتاج «العمليات العلمية» من النوع الذي نجده عند «رينان». وعلى غرار ذلك نرى أن التقسيم القديم الذي يميز «أوروبا» عن «آسيا»، أو «الغرب» عن «الشرق» يضع «عناوين» بالغة الاتساع لصور البشرية التي يضم كل منها في الواقع ما لا حصر له من الأشكال والألوان، وبذلك يختزلها في تجريد واحد أو تجريدين جماعيين نهائيين. ولم يكن «ماركس» يمثل استثناء في هذا الصدد، فالإشارة إلى الشرق الجماعي أيسر من الإشارة إلى هويات إنسانية «وجودية» في الأمثلة التي يستعين بها لإيضاح إحدى النظريات. لم يكن يقام وزن لشيء سوى الصيغة الجماعية الواسعة التي لا تحمل أسماء أفراد، ما بين الشرق والغرب، كأنما كانت هذه الصيغة إعلانا يثبت صحة ذاته، ولم يكن لغيرها قيمة أو لم يكن لغيرها وجود. ولم يكن يرى أي نمط آخر من أنماط التبادل، ولو كان يخضع لقيود بالغة الصرامة.
واحتفاظ «ماركس» بالقدرة على الإحساس ببعض مشاعر الأخوة الإنسانية، والتعاطف ولو قليلا مع آسيا المسكينة، يوحي بأن شيئا ما قد حدث قبل احتلال «العناوين» للساحة، وقبل أن يرسل به إلى «جوته» كمصدر للحكمة بشأن الشرق. فكأنما كان الذهن المفرد (وهو في هذه الحالة ذهن ماركس) قد استطاع العثور على طابع فردي في آسيا، سابق لتصورها في صورة جماعية، وسابق للنظرة الرسمية إليها — والاستسلام بعد العثور عليه لضغوطه على عواطفه ومشاعره وحواسه — لكن الذهن المفرد لا يلبث أن يتخلى عن الموقف حين يواجه الرقيب الأشد جبروتا والمتمثل في المفردات نفسها التي يجد نفسه مرغما على استعمالها. وكان عمل هذا الرقيب هو إيقاف التعاطف ثم طرده من الذهن، وقد صاحب ذلك تعريف رنان موقر يقول إن هؤلاء الناس لا يعانون، فهم شرقيون ومن ثم لا بد أن يعاملوا بطرائق أخرى غير الطرائق التي استعملتها لتوك. وهكذا فإن دفقة العاطفة تختفي حين تصطدم بالتعريفات التي لا تتزعزع، والتي بناها «العلم» الاستشراقي الذي تدعمه الآداب الخاصة بالشرق (مثل الديوان الذي كتبه جوته)، والتي تفترض أنها ملائمة له، كما تشتتت مفردات التعبير عن العاطفة عندما استسلمت لإجراءات الشرطة «المعجمية» التابعة للعلم الاستشراقي بل وللفن الاستشراقي. أي إن إحدى الخبرات قد خلعها تعريف معجمي: ونكاد نشهد حدوث ذلك في المقالات «الهندية» التي كتبها «ماركس»، إذ يحدث آخر الأمر أن يرغمه شيء ما على العودة مسرعا إلى «جوته»، حيث يحتمي بصورة الشرق التي رسمها المستشرقون.
ومن الطبيعي أن يكون «ماركس» مهتما، من زاوية معينة، بتبرير أطروحاته عن الثورة الاقتصادية الاجتماعية، لكنه، من زاوية أخرى، قد تيسر له الاطلاع، فيما يبدو، على مجموعة من الكتابات التي كان الاستشراق يدعمها داخليا، ويزعم صلاحيتها للتطبيق خارج مجاله في الوقت نفسه، وهي التي كانت تتحكم في كل ما يقال عن الشرق. وكنت حاولت في الفصل الأول أن أبين كيف كان لذلك التحكم تاريخ ثقافي عام في أوروبا منذ القدم، وأما اهتمامي في هذا الفصل فينصب على تبيان أسلوب وضع مصطلحات مهنية حديثة ومناهج تطبيقية معينة في القرن التاسع عشر، وهي التي فرض وجودها سيطرته على كل حديث أو تفكير في الشرق، سواء كان ذلك من جانب المستشرقين أو غير المستشرقين. وكان «ساسي ورينان» يمثلان على الترتيب الأسلوب الذي وضع به الاستشراق مجموعة من النصوص، ومناهج للتناول تضرب بجذورها في فقه اللغة، الأمر الذي جعل الشرق يكتسب هوية عقلانية، جعلته غير مساو للغرب. واستدلالنا بحالة «ماركس» على تخلي مفكر من غير المستشرقين أول الأمر عن شواغله الإنسانية، ثم اغتصاب التعميمات الاستشراقية لهذه الشواغل يضطرنا إلى النظر في أساليب الدعم المعجمي والمؤسسي التي يتميز بها الاستشراق. ترى ماذا كانت طبيعة تلك «العملية» التي تجيء لكل من يناقش الشرق «بآلية» جبارة من التعريفات القادرة على كل شيء، والتي كانت تقدم نفسها باعتبارها تتمتع وحدها بصلاحية التطبيق المناسبة لمناقشته؟ ولما كان علينا أن نبين أيضًا كيف أثرت هذه «الآلية» بصفة محددة (وبفاعلية) في الخبرات الإنسانية الشخصية، والتي كانت تتناقض مع تلك «الآلية» في كل شيء آخر، فإن علينا أيضًا أن نبين اتجاهات هذه الخبرات والأشكال التي اتخذتها في الفترة التي شهدتها.
ووصف هذه «العملية» بالغ الصعوبة والتعقيد، فهي لا تقل عسرا وتعقيدا عما يحدث لكل مبحث في طور النمو، حين يتخلص من منافسيه، ويضفي طابع «الثقة» (والسلطة) على مناهجه ومؤسساته، كما يضفي الشرعية الثقافية العامة على أقواله وشخصياته ووسائل عمله. لكنا نستطيع تبسيط جانب كبير من التعقيد السردي نفسه لهذه «العملية» إذا حددنا أنواع الخبرات التي كان الاستشراق يتوسل بها في العادة لتحقيق غاياته، والصورة التي كانت تقدم بها إلى جمهور أوسع نطاقا من جمهور العاملين بهذه المهنة. كانت هذه الخبرات في جوهرها تمثل استمرارا للخبرات التي قلت إنها ميزت عمل «ساسي ورينان». لكنه إذا كان هذان الباحثان يمثلان الاستشراق المستند إلى الكتب دون غيرها، ما دام لم يزعم أيهما أن له خبرة ميدانية خاصة بالشرق — فإن أمامنا تقاليد أخرى تزعم أن شرعيتها مستمدة من الإقامة الفعلية في الشرق، وهي حقيقة لا مجال لمعارضتها؛ أي الاتصال الوجودي الفعلي بالشرق. أما خطوط «المناسيب» التي تحدد أول أشكال هذه التقاليد فقد وضعها «أنكتيل وجونز» وحملة «نابليون»، بطبيعة الحال، وكانت هذه الخطوط تؤثر تأثيرا لا يتزعزع في جميع المستشرقين الذين أقاموا في الشرق، وكانت تلك هي خطوط السلطة الأوروبية، فالإقامة في الشرق تعني حياة تتمتع بامتيازات الممثل الأوروبي، لا حياة المواطن العادي، فالممثل الأوروبي يعي أن لديه إمبراطورية (فرنسية أو انجليزية) «تحتوي» الشرق، بمعني أنها تحيطه بأسلحتها الحربية والاقتصادية، وبأسلحتها الثقافية قبل هذه وتلك. وهكذا بدأت الإقامة في الشرق وثمارها العلمية تصب في التقاليد النظرية المستمدة من الكتب، والتي اتسمت بها المواقف «النصية» التي رأيناها عند «رينان وساسي»، وسوف يؤدي هذان النوعان من الخبرة إلى تشكيل «مكتبة» جبارة لا يستطيع أحد، حتى «ماركس» نفسه، أن يتمرد عليها، ولا يستطيع أحد أن يتجنبها.
وتتضمن الإقامة في الشرق الخبرة الشخصية والشهادة الشخصية إلى حد معين. وكانت المساهمات في «المكتبة الاستشراقية» وفي دعمها تعتمد على أسلوب تحويل الخبرة والشهادة من مجرد وثيقة شخصية إلى مجموعة من القواعد التي تمكِّن «علم الاستشراق» من العمل وتَهَبه القوة. وبعبارة أخرى كان لا بد من تحويل الأقوال الشخصية إلى أقوال رسمية داخل النص، ومعنى هذا ضرورة تخلُّص الوثيقة التي تسجل إقامة الأوروبي وخبرته بالشرق، من سمات السيرة الذاتية والوصف «المتساهل» أو قل ضرورة تقليل هذه السمات، على الأقل لإحلال الأقوال الوصفية التي تمكن الاستشراق بصفة عامة، والمستشرقين اللاحقين بصفة خاصة، من الاعتماد عليها، والبناء على أُسُسها، وإقامة المزيد من الملاحظات والأوصاف العلمية على هذه الأسس. وهكذا فعلينا أن نترقب، فيما نترقب، كيف تتحول المشاعر الشخصية إزاء الشرق، بصراحة أكبر مما نجده عند «ماركس»، إلى أقوال استشراقية رسمية.
ولكن الموقف يزداد ثراءً وتعقيدًا بسبب ما اتسم به القرن التاسع عشر كله من إقبال من الأوروبيِّين على زيارة الشرق والكتابة عنه، وخصوصًا الشرق الأدنى. وإلى جانب ذلك بدأ تراكم عدد كبير نسبيًّا من الأعمال الأدبية الأوروبية «ذات الأسلوب الشرقي»، والتي كانت تقوم في حالات كثيرة على الخبرات الشخصية في الشرق. ويتبادر إلى الذهن فورًا اسم «فلوبير» باعتباره مصدرًا بارزًا من مصادر هذا الأدب، كما كان «دزرائيلي ومارك توين وكنجليك» ثلاثة أمثلة واضحة. ولكن ما يهمنا هنا هو الفرق بين الكتابة التي تحولت عن الاستشراق الشخصي إلى الاستشراق الرسمي، وبين النمط الثاني، وهو القائم أيضًا على الإقامة في الشرق والشهادة الشخصية، لكنه يظل «أدبًا» لا علمًا، وهذا الفرق هو الذي أريد الآن استكشافه.
كان وجود أحد الأوروبيِّين في الشرق يتضمن دائمًا انفصالَ وعيه عمَّا يحيط به وإحساسه بأنه غير مساوٍ لما حوله. وأما ما يلاحظ بصفة رئيسية فهو ما يقصده هذا الوعي ويعتزمه: فلماذا أتى إلى الشرق؟ ما الذي يرمي إليه في ذلك المكان حتى ولو كان قد اتجه إلى الشرق لاكتساب خبرة محددة بالغة الوضوح، دون أن يغادر أوروبا فعليًّا، على نحو ما نرى عند «سكوط وهوجو وجوته»؟ والواقع أننا نستطيع تقسيم الكُتَّاب إلى فئات محدودة طبقًا لمقاصدهم وبصورة منتظمة؛ فأما الفئة الأولى فهي فئة الكاتب الذي يعتزم استخدام إقامته لأداء مهمة معينة، وهي توفير المادة العلمية للاستشراق العلمي. والفئة الثانية فئة الكاتب الذي يرمي إلى تحقيق ذلك الغرض نفسه لكنه أقل استعدادًا للتضحية بغرابةِ وعيِه الفردي وأسلوبه الخاص في سبيل التعريفات الاستشراقية الموضوعية. ولا شك أن هذه الأخيرة تظهر أيضًا في عمله، لكنه يتعذر فصلها عن شطحات الأسلوب الشخصية إلا بصعوبة. والفئة الثالثة فئة الكاتب الذي تحقق له الرحلة الفعلية أو الاستعارية إلى الشرق «مشروعًا» يشعر به في أعماقه ويُلحُّ عليه إلحاحًا. وهكذا فإن النصَّ لديه مبنيٌّ على قِيَم جمالية شخصية، يغذوها مشروعُه الخاص ويرويها. وفي الفئتَين الثانية والثالثة مجالٌ أكبر كثيرًا من مجال الفئة الأولى لتأثير الوعي الشخصي، أو الوعي غير الاستشراقي على الأقل. وسوف تتضح المجالات النسبية المتاحة في النص لممارسة وعرض وجود المؤلف أو حضوره إذا اعتبرنا كتاب «إدوارد وليم لين»: «أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم» أول الأمثلة البارزة على الفئة الأولى، وكتاب «بيرتون»: «الحج إلى المدينة ومكة» ممثلًا للفئة الثانية، وكتاب «نيرفال»: «رحلة في الشرق» مثالًا للفئة الثالثة.
وعلى الرغم من الاختلافات بين هذه الفئات الثلاث، فإنها ليست منفصلةً عن بعضها البعض بالصورة التي قد نتخيلها. بل ولا تقتصر كل فئة على أنماط «خالصة» تُمثلها فحسب. فالأعمال التي تنتمي إلى الفئات الثلاث تعتمد على ما يتميز به الوعي الأوروبي في قلب كل فئة من قوى الأثرة أو قوة الذات المجردة، ونرى في جميع الحالات تصوير الشرق كأنما قد وجد من أجل المراقب الأوروبي، بل وما هو أكثر، ففي الفئة التي تضم كتاب «لين» عن المصريين نرى بوضوح شديد «ذات» المستشرق، مهما يحاول أسلوبه أن يُوحيَ بالموضوعية المحايدة. كما أن بعض الصور «الدالة» تتكرر بانتظام في الأنماط الثلاثة، منها صورة الشرق باعتباره مكانًا يُحَجُّ إليه، ومنها أيضًا رؤية الشرق باعتبار عرضًا شائقًا أو «لوحة فنية»، وكل عمل عن الشرق في هذه الفئات يحاول، بطبيعة الحال، تحديد الصفات الخاصة للمكان، ولكن الأهم هو مدى اتفاق البناء الداخلي للعمل، أو ترادفه إلى حدٍّ ما، مع التفسير الشامل الذي يقدمه المؤلف للشرق فيه (أو يحاول تقديمه). وليس مما يدعو للدهشة أن يكون هذا التفسير في معظم الحالات شكلًا من أشكال إعادة بناء الشرق على أسس رومانسية؛ أي أن يكون تنقيحًا لصورته أو تقديم رؤية أخرى له تُعيده إلى الزمن الحاضر حتى تسترجعَه حقًّا. وهكذا فإن كلَّ تفسير وكلَّ بناء يقام للشرق هو، إذن، إعادة تفسير له وإعادة بناء.
وما دمنا ذكرنا ذلك فلنعد مباشرةً إلى الفوارق بين الفئات. كان كتاب «لين» عن المصريين ذا تأثير كبير؛ فقرأه الكثيرون واستشهدوا به (من بينهم فلوبير) كما رسخ صيت مؤلفه باعتباره شخصية بارزة في مجال البحث الاستشراقي. وبعبارة أخرى، لم يكتسب «لين» مرجعيته بفضل ما قال، بل بفضل مدى تطويع ما قاله حتى يلائم الاستشراق. فالذين يستشهدون به يرجعون إليه باعتباره مصدرًا للمعرفة الخاصة بمصر أو بلاد العرب، أما الذين قرءوا ويقرءون «بيرتون أو فلوبير» فيُنشدون ما تُفصح عنه كتابتهما عن الكاتبَين، إلى جانب ما كانَا يعرفانه عن الشرق. فالعلاقة بين المؤلف ووظيفته في كتاب «لين» المصريون المحدثون أقل قوة من العلاقة بينهما في الفئات الأخرى، بسبب انتشار عمله في أوساط المهنة، وما اكتسبه منها من تدعيم، ومن انتماء إلى المؤسسة «الاستشراقية». كانت هوية المؤلف في عمل ينتمي إلى مجال بحثه «المهني»؛ أي الاستشراق، تشغل موقعًا ثانويًّا بالقياس إلى متطلبات المجال نفسه، ومتطلبات مادة موضوعه. ولكن ذلك لم يحدث «ببساطة» أو دون أن يُثير بعض المشكلات.
كان عمل «إدوارد لين» الكلاسيكي وصف أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم (١٨٣٦م) نتيجةً أو محصلة واعية وعامدة لسلسة من الأعمال وفترتين من فترات الإقامة في مصر (١٨٢٥–١٨٢٨م)، و(١٨٣٣–١٨٣٥م). وأنا أقول «واعية عامدة» وأؤكد هذه الصفة بعض الشيء؛ لأن الانطباع الذي أراد «لين» لقارئه أن يخرج به من الكتاب هو أنه كتاب يتضمن صورًا مباشرة فورية، محايدة غير محلَّاة لمصر، والواقع أنه كان ثمرةً لجهود «تحريرية» كبيرة (فلم يكن الكتاب الذي كتبه هو الكتاب الذي نشره آخر الأمر)، وكذلك ثمرة لجهود خاصة وبالغة التنوع. لم يكن في مولد «إدوارد لين» أو خلفيته ما يربط، فيما يبدو، مستقبله بالشرق، ربما باستثناء جدِّه واجتهاده المنهجي، وطاقته على الدراسات الكلاسيكية والرياضيات، وهي التي تفسر إلى حدٍّ ما الانتظام الداخلي الظاهر للكتاب. وتصديره للكتاب يقدم لنا سلسلةً من الإشارات المهمة التي تساعدنا في فهم ما فعله من أجل الكتاب. فلقد ذهب إلى مصر أصلًا لدراسة اللغة العربية. وبعد أن كتب بعض «المذكرات» عن مصر الحديثة، تلقَّى التشجيع من لجنة تابعة لجمعية نشر المعرفة المفيدة على أن يكتب عملًا منهجيًّا عن ذلك البلد وسكانه. وبعد أن كان الكتاب لا يزيد على مجموعة ملاحظات «عشوائية» أصبح وثيقةً للمعرفة المفيدة، وهي التي رتَّبها ونظَّمها حتى تكون ميسورة وفي متناولِ كلِّ مَن يريد أن يُلمَّ بالمعلومات الأساسية عن مجتمع أجنبي. والتصدير يوضح أن هذه المعرفة لا بد أن تتخلص، بطريقة ما، من أي معرفة سابقة، وأن تزعم أنها تتمتع بطابع خاص ذي فاعلية خاصة، وهنا يتبدَّى دهاء «إدوارد لين» في المجادلة؛ إذ إن عليه أن يبيِّن أولًا أن ما فعله هو لم يستطع غيره أن يفعله، أو لم يفعله وحسب، وبعدها يُثبت أنه استطاع الحصول على معلومات «أصيلة» وصحيحة كل الصحة. وهكذا تبدأ مرجعيته الخاصة في الظهور.
يستطيع المستشرق أن يحاكيَ الشرق دون أن يكون العكس صحيحًا. وهكذا فإن ما يقوله عن الشرق يجب أن يُفهم على أنه «وصف» حصل عليه في تبادل يسير في اتجاه واحد: فكانوا هم يقولون ويفعلون، وهو يراقب ويكتب. وكانت سلطته تكمن في قدرته على أن يعيش بينهم مثل أبناء اللغة نفسها تقريبًا، وأن يكتب ما يكتبه سرًّا. وكان المقصود بما يكتبه أن يصبح معرفة مفيدة، لا لمن يكتب عنهم بل لأوروبا ولشتى مؤسسات النشر فيها. وذلك أمر لا يسمح لنا كتاب «إدوارد لين» بأن ننساه على الإطلاق، فتلك الذات، أو ضمير المتكلم الذي يتجول بين عادات المصريين، وشعائرهم واحتفالاتهم، وطقوس الميلاد والبلوغ والدفن لديهم، ما هو في الواقع إلا شرقيٌّ متنكر وأداة استشراقية لاقتناص وتوصيل المعلومات القيمة التي لولاه لتعذر الحصول عليها، والكاتب «لين» يجمع في سرده بين صفتَين؛ صفة الشيء المعروض وصفة الشخص الذي يعرضه، وبهذا يكتسب ثقة الطرفين، ويظهر شهيَّتَين للإقبال على الخبرة: الأولى شهية الشرقي الذي يسعد بصحبته (أو ذلك ما يبدو) والثاني شهية الغربي المفتوحة للمعرفة المفيدة الموثوق بها.
ولا يوضح هذا مثالٌ أنصعُ من القصة الثلاثية الأخيرة في التصدير. ففيها يَصِف «إدوارد لين» مصدرَ معلوماته الأول وصديقه الشيخ أحمد، باعتباره رفيقًا ونموذجًا عجيبًا؛ إذ يتظاهر الاثنان بأن «لين» مسلم، ولكن «لين» لا يستطيع أن يُحاكيَ حركاتِ المصلين في المسجد بجوار أحمد إلا بعد أن ينجح الأخير في قهر خوفه، مستلهمًا ذلك من قدرة «لين» الجسور على المحاكاة. وهذا الإنجاز الأخير يسبقه مشهدان يصوِّر المؤلف فيها أحمد في صورة الرجل العجيب الذي يأكل الزجاج، وفي صورة الذي يجمع بين أكثر من زوجة واحدة. وتزداد المسافة التي تفصل بين «لين» والرجل المسلم في جميع الأجزاء الثلاثة لقصة الشيخ أحمد، حتى وهي تتضاءل أثناء أحداث القصة نفسها. إذ إن «لين» — باعتباره وسيطًا ومترجمًا، إن صح التعبير، لسلوك المسلمين — لا يدخل نسقَ حياة المسلمين إلا بقدر ما يُعينه على وصفها في نثرٍ إنجليزي رصين، وفي هذا ما فيه من مفارقة، فإن هويته باعتباره مؤمنًا مزيَّفًا وأوروبيًّا يتمتع بمزايا خاصة تمثِّل جوهر فساد العقيدة؛ لأن الصفة الأخيرة تنتقص من الصفة الأولى بما لا يدع مجالًا للشك. وهكذا فإن ما يبدو «إبلاغًا» واقعيًّا صحيحًا عمَّا يفعله مسلم واحد، وغريب الأطوار إلى حدٍّ ما، يُظهره «لين» في صورة الكشف الصادق الصريح عن جوهر عقيدة المسلمين كلها. ولا يكترث «إدوارد لين» لخيانة صداقته لأحمد أو صداقة الآخرين الذين يمدُّونه بالمعلومات، فلا يهمه إلا أن يبدوَ بلاغُه دقيقًا وعامًّا وموضوعيًّا، وأن يقتنع القارئ الإنجليزي بأن «لين» لم تُصبه مطلقًا عدوى الزندقة أو الرِّدَّة، وأخيرًا أن يلغيَ النصُّ الذي كتبه «لين» المضمون الإنساني لمادة موضوعه في سبيل الصحة العلمية للنص.
وتحقيقًا لهذه الغايات كلها قام «إدوارد لين» بتنظيم كتابه لا باعتباره سردًا لأحداث مقامه في مصر وحسب بل باعتباره بناءً سرديًّا تغلب عليه «إعادة البناء» والتفاصيل المقدمة من وجهة نظر استشراقية، وأعتقد أن ذلك هو الإنجاز الرئيسي لعمل «لين»؛ ففي الخطوط العريضة والشكل العام يتبع كتاب «المصريين المحدثين» نسق الرواية الإنجليزية في القرن الثامن عشر، مثل روايات «هنري فيلدنج»؛ إذ يبدأ الكتاب بوصف البلد والمكان، وبعده تأتي فصول عن «الخصائص الشخصية»، و«الطفولة والتعليم المبكر»، تتلوها خمسة وعشرون فصلًا عن الاحتفالات، والقوانين، والطباع، والصناعة، والسحر، والحياة المنزلية، قبل أن نَصِل إلى القسم الأخير «الموت والشعائر الجنائزية». وحجة «لين» تتبع، ظاهريًّا، التسلسل الزمني والتطور. وهو يكتب عن نفسه باعتباره مراقبًا للمشاهد التي تتبع التقسيمات الرئيسية لعمر الإنسان، ونموذجه هو النسق السردي، على نحو ما نرى في رواية «توم جونز» التي كتبها «فيلدنج»، والمنشورة في ١٧٤٩م، وفيها نشهد مولد البطل، ومغامراته، وزواجه، وما يُوحي ضمنًا بوفاته. ولكن الصوت السردي في كتاب «لين» دائم الشباب، أما موضوعه — أي المصريون المحدثون — فيمرُّ بدورة عمر كل فرد. وقلب الوضع هنا بمعنى أن فردًا وحيدًا يُضفي على نفسه ملكاتٍ لا تهرم أبدًا ويفرض على مجتمع وشعب عمرًا زمنيًّا شخصيًّا، لا يعدو كونه «العملية» الأولى من بين عدة «عمليات» لتنظيم المادة التي كان من الممكن ألَّا تزيدَ عن مجرد السرد للرحلات في البلدان الأجنبية، ومن ثَم فالمؤلف يحوِّل نصًّا خاليًا من الفن إلى موسوعة لعرض الغرائب وساحة للفحص الاستشراقي يصول فيها ويجول.
ولا يحول دون تحقيق النظام السردي — في الوقت الذي يعتبر فيه النظام السردي هو الخرافة المسيطرة على نص «إدوارد لين» — سوى قوة الوصف الخالصة المهيمنة الجبارة. فالهدف الذي يسعى «لين» لتحقيقه هو رسم صورة بصرية كاملة لمصر والمصريين، بحيث لا يُخفِي شيئًا عن القارئ، وأن يقدم صورة المصريين دون تعمق، بل في تفاصيل «متورمة». وهو «راوية» نزَّاع إلى سرد الطرائف المتطرفة «السادية الماسوكية». أي الموحية بحب التألم والإيلام، مثل وصف قيام الدراويش بتشويه أجسامهم، وقسوة القضاة، واختلاط الدين بالفجور بين المسلمين، وتطرُّف النوازع الشهوانية وما إلى ذلك. لكنه مهما تكن غرابة الحادثة ومهما يكن شذوذها، ومهما يبلغ انغماسنا في تفاصيلها الكثيرة المرهقة، فإن «لين» حاضر هنا وهناك دائمًا، ومهمتُه تجميعُ ما تفرَّق وتمزَّق، وتمكيننا من مواصلة السير وإن كان متقطعًا. وهو ينجح في أداء هذه المهمة، وذلك إلى حدٍّ كبير بفضل كونه أوروبيًّا وحسب؛ إذ يستطيع بهذه الصفة أن يُخضعَ للعقل ألوان الانفعال والإثارة التي تبدو للأسف في سلوك المسلمين، ولكن ذلك — أقصد قدرة «لين» على التحكم في جموح موضوعه بلجام شديد من الانضباط والموضوعية — يرجع إلى حدٍّ أكبر إلى المسافة «الباردة» التي تفصله عن الحياة المصرية والجانب المثمر لهذه الحياة.
ولا تقتصر دلالة ذلك على كونه نموذجًا لما يتبعه «لين» من مقاطعة مجرى السرد الرئيسي بإدراجِ تفاصيلَ مخلَّةٍ بنظامه، بل تتضمن أيضًا انفصال المؤلف انفصالًا حقيقيًّا وصارمًا عن الحركة المثمرة للمجتمع الشرقي. والقصة الصغرى التي تَرْوي رفضه الانضمام إلى المجتمع الذي يصفه تنتهي بثغرة مثيرة؛ إذ يبدو أنه يقول إن قصته لا يمكن أن تستمرَّ ما دام لم «يدخل» خصوصية الحياة المنزلية، وهكذا يتوارى احتمال دخوله هذه الحياة. إنه دون مبالغة يلغي وجوده باعتباره ذاتًا إنسانية برفضه الزواج لدخول المجتمع الإنساني. وهكذا يحافظ على هويته «المرجعية» باعتباره مشاركًا وهميًّا ويدعم موضوعية روايته. فإذا كنَّا قد علمنا من قبل أن «لين» لم يكن مسلمًا، فنحن نعلم الآن أنه كان مضطرًّا — حتى يصبح مستشرقًا، لا شرقيًّا — إلى حرمان نفسه من المتع الحسية للحياة المنزلية، بل إنه اضطرَّ إلى تجنُّب الانتماء إلى زمانه برفضه الدخول في دورة الحياة الإنسانية، ولم يكن يستطيع إلا بهذا الأسلوب السلبي أن يحتفظ بمرجعيته اللازمنية باعتباره مراقبًا.
كان على «لين» أن يختار إما أن يعيش دون «منغصات ومتاعب» وإما أن ينجزَ دراسته للمصريِّين المحدثين. وكانت نتيجة اختياره، بوضوح، هي التي مكَّنَته من معرفة المصريِّين؛ لأنه لو كان قد أصبح واحدًا منهم لما غدَا منظورُه معجميًّا خالصًا، بريئًا من «التلوث» ومن الحياة الجنسية. وهكذا فإن «لين» يكتسب المصداقية والشرعية «الأكاديمية» بطريقتَين مهمَّتَين وملحَّتَين، الأولى هي التدخل في المجرى السردي الطبيعي لحياة البشر، فذلك ما تُنجزه التفاصيل الهائلة؛ حيث يتمكن ذكاء المراقب الأجنبي من تقديم المعلومات المتزاحمة ثم إقامة الروابط فيما بينها وضم بعضها إلى بعض؛ أي إنه يقوم «بتشريح» المصريين أولًا، إن صحَّ هذا التعبير، ابتغاءَ عرضِ التفاصيل ثم ضم الأجزاء بعضها إلى بعض بنبرة النصح والإرشاد. والثانية هي عدم الارتباط بالجانب الخلاق «التوليدي» للحياة المصرية الشرقية، وهذه هي المهمة التي يُنجزها قمعه لشهوته الحيوانية، من أجل نشر المعلومات، لا في مصر أو من أجل مصر بل في الأوساط العلمية الأوروبية بصفة عامة ومن أجلها. ولقد كان نجاحه في فرض إرادته العلمية على واقع غير منتظم، وفي تركه عامدًا مقرَّ إقامته كيما يبني المشهد الذي جلب له الشهرة العلمية، مصدرًا لشهرته العظمى في حوليات الاستشراق، فلم يكن من الممكن الحصول على مثل ما حصل عليه من معرفة مفيدة، وصياغتها ونشرها، إلا بمثل ما أقدم عليه من ضروب الحرمان.
وأما العملان الكبيران الآخران ﻟ «إدوارد لين»، وهما معجمه العربي الذي لم يتمكن قط من إتمامه، وترجمته المملَّة ﻟ «ألف ليلة وليلة»، فقد دعَّمَا النظام المعرفي الذي دشَّنه كتاب المصريين المحدثين. ففي عملَيه الأخيرَين تختفي فرديتُه اختفاءً كاملًا، ويكتفي «لين» بالظهور باعتباره القناع الرسمي للشارح والمترجم الجديد (لألف ليلة) والمعجمي الموضوعي. ويتحول «لين» من مؤلف معاصر لمادة موضوعه إلى باحث مستشرق في العربية الفصحى وفي الإسلام الكلاسيكي، وهو الجانب الذي يُبقي في قيد الحياة من شخصية المؤلف الأولى. ولكن شكل ذلك «البقاء» هو الذي يهمُّنا؛ إذ إن التركة العلمية ﻟ «إدوارد لين» لم تكن تعني الشرق في شيء، بطبيعة الحال، ولكنها كانت تعني الكثير للمؤسسات والهيئات في مجتمعه الأوروبي. وكانت بعض هذه أكاديمية — مثل جمعيات الاستشراق الرسمية ومؤسساته وهيئاته — أو خارج النطاق الأكاديمي، وبصور بالغة الخصوصية، نلمحها في عمل الأوروبيِّين اللاحقين الذين أقاموا في الشرق.
تأليف أو طباعة كتب النحو، والمعاجم، وغير ذلك من الكتب الأساسية الأخرى المعترف بأنها مفيدة أو لا غنى عنها لدراسة اللغات التي يقوم بتدريسها أساتذةٌ معينون «للغات الشرقية»؛ والمساهمة، من خلال الاشتراكات أو غيرها من الوسائل في نشر أعمال من نوع الأعمال التي يُنجزها المؤلفون في فرنسا أو في الخارج؛ واقتناء المخطوطات، أو النسخ الكلي أو الجزئي للمخطوطات الموجودة في أوروبا، وترجمتها أو اقتطاع مقتطفات منها، وزيادة أعدادها بنسخها إما عن طريق فن الحفر أو الطباعة بالحجر وتمكين مؤلفي الكتب المفيدة في الجغرافيا والتاريخ والفنون والعلوم من اكتساب الوسائل التي تُتيح للجمهور الاستمتاعَ بثمارِ كدِّهم وسهرِهم؛ ولفت نظر الجمهور من خلال مجلة دورية مكرسة للأدب الآسيوي، إلى الإبداعات العلمية أو الأدبية أو الشعرية للشرق، ونظائرها التي تُبدعها أوروبا بانتظام، وإلى تلك الحقائق عن الشرق التي قد تهمُّ أوروبا وإلى تلك المكتشفات والأعمال التي قد تصبح الشعوب الشرقية موضوعًا لها، فهذه إذن هي الأهداف التي تقترح الجمعية الآسيوية أن تعمل على تحقيقها.
كان التنظيم المنهجي الذي وضعه الاستشراق لنفسه هو الحصول على المادة الشرقية ونشرها بصورة منتظمة باعتبارها ضربًا من المعرفة المتخصصة. فالبعض ينسخ ويطبع كتب النحو، والبعض يحصل على نصوص أصلية، والبعض يضاعف أعدادها وينشرها على نطاق واسع، بل و«يوزع» المعلومات على الناس في مطبوعات دورية. ولقد كتب «لين» كتابه، وضحَّى بذاته، في إطار هذا النظام ومن أجله. ونحن نجد أيضًا ما ينصُّ على الطريقة التي يستمر بها عمله في «أرشيفات» الاستشراق، ألَا وهو إنشاء «متحف»، حسبما يقول «ساسي»:
وكلمة «ترجمان» العربية هي الأصل الدقيق الذي اشتُقَّت منه كلمة «ترشمان» الفرنسية، وتعني «المترجم» أو «الوسيط» أو «المتحدث باسم غيره»؛ فمن ناحية نجد أن الاستشراق قد «حصل على» الشرق بأقصى قدر ممكن من الحرفية وعلى أوسع نطاق ممكن؛ ومن ناحية أخرى جعل المعرفة به «مألوفة» للغرب، بعد أن جعلها تمرُّ بمصفاة القواعد التنظيمية، والتصنيفات، والحالات التي تمثِّل عينات محددة، والمراجعات الدورية، والمعاجم، وكتب النحو، والشروح، والطبعات المتوالية، والترجمات، وكلها يمثِّل في مجموعه صورةً تحاكي الشرق محاكاةً ظاهرية، وكلها يعيد تقديم الشرق في صورة مادية في الغرب ومن أجل الغرب. أي إن الشرق كان يُعتَزم تحويله من صورة الشهادات الشخصية، وغير الواضحة أحيانًا — والتي كان يُدلي بها مَن يقومون بالرحلات الجسور ومَن أقاموا في الشرق — إلى صورة غير شخصية يتولَّى تحديدَ معالمها صفٌّ كامل من الباحثين العلماء؛ أي تحويل الشرق من صورة الخبرات المتتابعة التي تأتي بها البحوث الفردية إلى متحف خيالي ما، أو قُل إلى متحف بلا جدران، يصبح فيه كلُّ ما جُمع من أقاصي البقاع وشتى ضروب الثقافة الشرقية، ممثلًا للشرق بصورة قاطعة. كما كان يجري تحويله مرة ثانية وإعادة بنائه، حتى تصبح عصبة الشذرات التي عاد بها مجزَّأةً مَن قاموا بالاستكشاف، واشتركوا في الحملات، وفي أداء مهمات بعينها، وفي الجيوش، وفي التجارة، مادة استشراقية لها معنًى، بعد أن تكتسيَ الثياب المعجمية، والببليوغرافية، والتصنيفية، والنصية. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كان الشرق قد أصبح، بتعبير «دزرائيلي»، حياة عملية، يستطيع المرءُ فيها أن يُعيد تكوين الشرق، وأن يسترجعَه، وأن يُعيد تكوين نفسه في غضون ذلك ويسترجعها.