رابعًا: الحُجَّاج ورحلات الحج من بريطانيا وفرنسا

كان على كل أوروبي يسافر إلى الشرق أو يقيم فيه أن يحميَ نفسه من ضروب تأثير الشرق التي تُثير القلق. ولقد لجأ كاتب مثل «لين» آخرَ الأمر إلى «إعادة جدولة» الشرق وتعديل موقعه عندما بدأ الكتابة عنه؛ فمظاهر الشذوذ في الحياة الشرقية — من التقاويم «الزمنية» العجيبة، إلى التضاريس المكانية غير المألوفة، إلى اللغات ذات الغرابة الدافعة إلى اليأس، إلى الأخلاقيات التي تبدو منحرفة — تقلُّ كثيرًا عندما تتخذ صورةً سلسلة من الموضوعات المفضلة والمقدَّمة في أسلوب النثر الأوروبي المعياري. ومن الصحيح أن نقول إن «لين» عندما أضفى الصورة الشرقية على الشرق لم يقف عند تحديد صورته الواقعية بل عدَّلها ونقَّحها؛ أي إنه حذف منها كلَّ ما يمكنه أن يؤذيَ الحساسية الأوروبية، بالإضافة إلى ما يمسُّ وجوه تعاطفه الإنساني الشخصي. وفي أغلب الحالات كان يبدو أن الشرق يخدش «الصحة» أو «اللياقة» الجنسية، فكان كل شيء في الشرق — أو على الأقل في الشرق المتمثل في مصر عند «إدوارد لين» — يَنِزُّ خطورةً جنسية، ويُهدد الصحة العامة واللياقة المنزلية بسبب الإفراط في «حرية الجماع»، وهو التعبير الذي لم يستطع «لين» أن يتجنبه، خلافًا لمَا يتسم به عادةً من التحرز في القول.

ولكن الشرق كان يمثِّل ضروبًا أخرى من التهديد بخلاف الجنس، وكانت جميعًا تمحو التقسيمات التي يُقيمها الأوروبيون على أسس الزمان والمكان والهوية الشخصية، بل وتمحو عقلانية هذه المفاهيم لديهم، ففي الشرق كان المرءُ يواجه، فجأةً، عراقةً زمنية لا يتخيلها العقل، وجمالًا غير إنساني، ومسافات لا تقف عند حدود. وكان من الممكن الانتفاع بهذه المفاهيم بقدر أكبر من «البراءة»، إن صح هذا التعبير، إذا جُعلت موضوعًا للتفكير والكتابة، بدلًا من خوضها مباشرة. وهكذا فإن الشرق في قصيدة «ذاجاور»؛ أي الأجنبي أو الأوروبي، للشاعر «بايرون»، وفي ديوان «الشرق والغرب» للشاعر «جوته»، وقصيدة «الشرقيون» للشاعر «فكتور هوجو»، يتخذ صورة للانطلاق، وصورة «الفرصة الأصلية»، وهي التي نسمع نغمتها الرئيسية في قصيدة جوته: «هجير»:

الشمال والغرب والجنوب تتفتَّتُ
والعُروش تنفجرُ والإمبراطوريات ترتعدُ
وتطير، وفي الشرقِ النقيِّ
تتنسم نسائم الشيوخ الحكماء!

كان المرء يعود دائمًا إلى الشرق — «فإلى هناك، في نقاء وصلاح سوف أعود إلى الأصول العميقة للجنس البشري» — ويرى فيه استكمالًا وتأكيدًا لكل ما كان قد تخيله:

الله في الشرق،
الله في الغرب،
وبقاع الشمال والجنوب
تستقر في سكينة يدَيه.1
كان الشرق بشعرِه وجوِّه وإمكانياته يمثله شعراء مثل «حافظ»، فهو مكان «غير محدود» كما يقول «جوته»، وهو أكبر سنًّا وأكثر شبابًا منَّا نحن الأوروبيِّين. وقد أخذ «هوجو» في قصيدته «صيحة الحرب التي يُطلقها المفتي» و«حزن الباشا»2 صورة الضراوة والحزن البالغ لدى الشرقيِّين لا من خشية فعلية على الحياة ولا من الإحساس بالضياع الذي يوقع في الحيرة، بل من «فولني وجورج سيل»، فهما العالمان اللذان ترجمَا الروعة الهمجية فأحالاها إلى معلومات يستطيع الشاعر ذو الموهبة الرفيعة استخدامها.

وهكذا استطاع الأدباء استغلال المادة التي أصبحت متاحة بفضل المستشرقين؛ مثل «لين وساسي، ورينان وفولني، وجونز» (ناهيك بكتاب وصف مصر) وبفضل غيرهم من الرواد. وعلينا أن نتذكر الآن مناقشتنا السابقة للأنماط الثلاثة من الأعمال التي تدور حول الشرق وتستند إلى الإقامة الفعلية فيه. فلقد أدَّت المقتضيات الصارمة للمعرفة إلى تخليص الكتابة الاستشراقية من «حساسية» المؤلف، ومن هنا كان تشذيبُ «لين» لكتابته بحذف ما يتصل بذاته، ومن هنا أيضًا نشأ النوع الأول من الأعمال التي عددناها. وأما النمطان الثاني والثالث فتبرز فيهما ذات المؤلف بروزًا واضحًا، وتعتبر إما تابعة للصوت الذي يتولَّى تقديم المعرفة الحقيقية (النمط الثاني) أو مسيطرة بحيث يمرُّ من خلالها كلُّ ما يقال لنا عن الشرق (النمط الثالث). لكننا نجد أن الشرق قد أصبح على امتداد القرن التاسع عشر كله — أي بعد «نابليون» — مكانًا يُحَجُّ إليه، وكان كلُّ عمل رئيسي ينتمي إلى الاستشراق الصادق، وإن لم يكن دائمًا أكاديميًّا، يتخذ شكله وأسلوبه ومقصده من فكرة الحج إلى الشرق. كما نجد في هذه الفكرة، مثلما نجد في الأشكال الأخرى الكثيرة للكتابة الاستشراقية التي ناقشناها، أن الفكرة الرومانسية التي تقول بإعادة البناء الذي يشبع النفس (المذهب الطبيعي للأسباب الخارقة) تمثل المصدر الرئيسي.

كان كلُّ حاجٍّ أو زائر للشرق يرى الأشياء من زاويته الخاصة، ولكنَّ هناك حدودًا لما يمكن أن ترميَ إليه رحلة الحج، وللشكل أو الهيئة التي يمكن أن تتخذها، وللحقائق التي يمكنها الكشف عنها. كانت جميع رحلات الحج إلى الشرق تمرُّ بالأراضي المذكورة في الكتاب المقدس، أو كان عليها أن تمرَّ بها، وكانت معظمها، في الواقع، محاولات للحياة من جديد في الواقع اليهودي المسيحي/اليوناني الروماني، أو لتحرير قسم من ذلك الواقع، في الشرق المديد ذي الخصب الذي لا يُصدقه العقل. كان الشرق الذي أُضفيت عليه صورة الشرق الخاصة؛ أي الشرق الذي صوَّره المستشرقون؛ يمثِّل التحدِّي الذي لا بد من خوضه، مثلما كان الكتاب المقدس، والحملات الصليبية، والإسلام، و«نابليون، والإسكندر» سوابق مهيبة لها وزنها. ولم تكن صورة الشرق التي رسمها العلماء عائقًا يعوق تأملات الحاج وتهويمات خياله الخاصة فحسب؛ بل إن وجود هذه الصورة السابق للرحلة كان يُقيم الحواجز بين المسافر المعاصر وبين كتابته، إلا إذا انفصلت صورة الشرق في كتب المكتبة عن تلك الكتب وانتقلت إلى «المشروع» الجمالي، على نحو ما حدث عندما انتفع «نيرفال وفلوبير» بالمادة التي وجداها عند «إدوارد لين». وكان من العوائق الأخرى ما تفرضه المقتضيات الرسمية للبحث الاستشراقي من قيود بالغة الشدة. وكان بعض الحجاج، مثل «شاتوبريان»، يزعم بوقاحة أنه قام برحلاته من أجل ذاته فحسب، قائلًا: «سأذهب بحثًا عن صور «شعرية»: هذا كل ما في الأمر.»3 وأما «فلوبير، ونيرفال، وكنجليك، ودزرائيلي، وبيرتون» فقد قاموا برحلاتهم جميعًا لإزالة «العفن» الذي كان يكسو الأرشيف الاستشراقي القائم من قبل. وكان المعتزم أن تُصبح كتاباتهم مستودعًا جديدًا قشيبًا للخبرة بالشرق، ولكن هذا المشروع نفسه، كما سوف نرى، كان يتحول في العادة (وإن لم يكن في جميع الأحوال) إلى النزعة الاختزالية للمستشرق. وأسباب ذلك مركَّبة من عدة عناصر، ولكنها تتصل إلى حدٍّ بعيد بطبيعة الحاج، وبالطريقة التي يُنتجها في كتابته، والشكل المقصود للعمل.

ماذا كان الشرق يمثِّل للمسافر الفرد في القرن التاسع عشر؟ انظر معي أولًا إلى الفرق بين مَن يتكلم الإنجليزية ومَن يتكلم الفرنسية، كان الشرق هو الهند بالنسبة للأول، بطبيعة الحال، فهي مكان تمتلكه بريطانيا فعلًا، ومن ثَم كان المرور من الشرق الأدنى يمثِّل سبيل الوصول إلى مستعمرة كبرى. وهكذا نرى أن المساحة المتاحة لانطلاق خياله تخضع للحدود التي تفرضها حقائق الواقع، من الإدارة، إلى المشروعية الإقليمية، إلى السلطة التنفيذية، فكان «سكوط، وكنجليك ودزرائيلي، وووربيرتون، وبيرتون»، بل وحتى «جورج إليوت» (وهي التي تجعل الغرب يضع خططًا من أجل الشرق في روايتها دانيل ديروندا) كُتَّابًا، مثل «لين» نفسه و«جونز» من قبله، يرَون الشرق في صورة يُحدِّدها الامتلاك المادي، أو قُل تُحدِّدها «المخيلة المادية»، إن صحَّ هذا التعبير. كانت إنجلترا قد هزمت «نابليون»، وأَجْلَت فرنسا، وكان العقل الإنجليزي يستعرض الإمبراطورية التي يسودها؛ والتي أصبحت في الثمانينيات من القرن التاسع عشر تمتدُّ دون انقطاع من البحر المتوسط حتى الهند، وتتخذ صورة الأرض التي تخضع من أقصاها إلى أقصاها للسلطة البريطانية. وكانت الكتابة عن مصر أو سوريا أو تركيا، شأنها شأن السفر في أيٍّ منها، بمثابة التجوال في الأراضي الخاضعة للإرادة السياسية، والإدارة السياسية، و«التعريف» السياسي. كان النفوذ الإقليمي يجبر الفكر على الخضوع له، حتى بالنسبة لكاتب متحرر من القيود مثل «دزرائيلي»، فلم تكن روايته: «تانكرد» مجرد طائر شرقي غرِّيد، لكنها كانت نموذجًا يجسِّد الإدارة السياسية الحصيفة للقوى الفعلية على أراضٍ حقيقية.

وعلى العكس من ذلك كان «الحاج» الفرنسي يُخامره إحساس بالفقدان العميق في الشرق؛ إذ كان يأتي إلى مكان لم يكن لفرنسا فيه، على عكس بريطانيا، وجودٌ سيادي. وكان حوض البحر المتوسط يُرجع أصداء هزائم الفرنسيِّين، من الحملات الصليبية إلى «نابليون». وأما الذي أصبح يُعرف باسم «المهمة الحضارية» فقد بدأ في القرن التاسع عشر باعتباره أفضلَ المتاح بعد المرتبة الأولى التي يحتلها الحضور البريطاني. ومن ثَم فإن «الحجاج» الفرنسيِّين، من «فولني» فصاعدًا، كانوا يرسمون ويقصدون ويتخيلون ويتأملون الأماكن الموجودة في أذهانهم في المقام الأول، فأقاموا مشروعات لتأليف معزوفة موسيقية فرنسية الطابع، بل وربما أوروبية، في الشرق، وكانوا يفترضون بطبيعة الحال أنهم هم الذين سوف يقومون بتوزيع اللحن على الآلات المختلفة. كان الشرق عندهم شرق الذكريات، والأطلال الموحية، والأسرار المنسية، والتوافقات الخبيئة، ويمثِّل أسلوبًا خاصًّا «للوجود» شبه قائم على قِيَم جمالية، وهو الشرق الذي كانت «أعلى» صوره الأدبية تتمثل في أعمال «نيرفال وفلوبير»، وهما اللذان كان يقوم عملُهما على أسس ثابتة من الأبعاد الخيالية غير القابلة للتحقيق (إلا جماليًّا).

وكان ذلك يصدق إلى حدٍّ ما أيضًا على مَن قاموا برحلاتهم من العلماء الفرنسيِّين في الشرق؛ إذ كان اهتمام معظمهم منصبًّا على الماضي الذي يصوره الكتاب المقدس، أو الحملات الصليبية، كما قال بذلك «هنري بوردو» في كتابه: «المسافرون في الشرق».4 ويجب أن نضيف إلى هذه الأسماء (بناء على اقتراح حسن النوتي) أسماء علماء اللغات السامية الشرقية، ومن بينهم «كترمير؛ وصولسي»، مستكشف البحر الميت؛ و«رينان» الباحث في الآثار الفينيقية؛ و«جوادس» دارس اللغات الفينيقية؛ و«كاتافاجو ودفريمري»، اللذان درسَا الأنصارية والإسماعيلية والسلاجقة؛ و«كليرمون-جانو» الذي قام باستكشاف أرض جوديا (اليهودية)؛ والمركيز «دي فوجييه» الذي كان عمله يتركز في تفسير الكتابات المنقوشة في «تدمر». وبالإضافة إلى هؤلاء نجد مدرسة علماء الآثار المصرية برمَّتها، المنحدرة من «شامبوليون ومارييت»، وهي المدرسة التي كان من أفرادها فيما بعد «ماسبيرو ولوجران». ويجدر بنا أن نذكر مؤشرًا على الفرق بين حقائق الواقع عند البريطانيِّين وخيالات الفرنسيِّين، ألَا وهو ما قاله الرسام «لودوفيك ليبيك» في القاهرة، عندما أدلَى بتعليق حزين عام ١٨٨٤م (بعد بداية الاحتلال البريطاني بعامين) قائلًا «مات الشرق في القاهرة». ولم يُعرب عن الرضا عن قمع بريطانيا للثورة العرابية الوطنية إلا «رينان»، ذلك العنصري الواقعي؛ إذ قال — بحكمته العظمى! — إن الثورة كانت «عارًا على الحضارة».5

وعلى عكس «فولني ونابليون»، لم يكن «الحجاج» الفرنسيون في القرن التاسع عشر يطلبون حقائق علمية بقدر ما كانوا يطلبون حقائق غريبة وإن كانت ذات جاذبية خاصة. ويصدق هذا بوضوح على «الحجاج» من الأدباء، ابتداء ﺑ «شاتوبريان»، الذين وجدوا في الشرق مكانًا يتفق مع أساطيرهم وشواغلهم ومتطلباتهم الخاصة. وهنا نلاحظ كيف كان «الحجاج» جميعًا، والفرنسيون منهم بصفة خاصة، يستغلون الشرق في عملهم حتى يُبرروا، تبريرًا مُلحًّا إلى حدٍّ ما، «رسالتهم» الوجودية. ولم يكونوا يستطيعون التحكُّم في دفقات مشاعرهم الذاتية إلا حين تبرز أغراض معرفية إضافية للكتابة عن الشرق. إذ إن «لامارتين» مثلًا يكتب عن نفسه، وأيضًا عن فرنسا باعتبارها قوة مسيطرة في الشرق، والمشروع الأخير هو الذي يكتم صوت الدوافع التي تكمن خلف أسلوبه، ويتحكم آخر الأمر في هذه الدوافع التي تُمليها روحه هو، وذاكرته هو، وخياله الخاص. وهكذا لم يستطع أيٌّ من «الحجاج»؛ فرنسيِّين كانوا أم إنجليز، أن يسيطر السيطرة الصارمة على نفسه أو على ذاته مثلما فعل «إدوارد لين»، بل حتى ولا «ريتشارد بيرتون ولا ت. أ. لورنس»؛ فلقد كتب الأول ما يُشبه رحلة الحج الإسلامية وكتب الثاني ما كان يسميه رحلة حج عكسية الاتجاه؛ أي انطلاقًا من مكة؛ إذ قدَّمَا «أكوامًا» من المادة الاستشراقية التاريخية والسياسية والاجتماعية دون أن تبرأ من وجود «الذات» على نحو ما رأينا عند «لين». ولهذا فإن «بيرتون ولورنس وتشارلز دواتي» يشغلون موقعًا وسطًا بين «لين وشاتوبريان».

وكتاب «شاتوبريان»: «رحلة من باريس إلى القدس ومن القدس إلى باريس» (١٨١٠-١٨١١م) يسجل تفاصيل الرحلة التي قام بها في عامَي (١٨٠٥-١٨٠٦م) بعد جولته في أمريكا الشمالية. وتشهد مئات الصفحات التي يتكون منها الكتاب على صحة اعتراف المؤلف الذي يقول: «إنني أتكلم إلى الأبد عن نفسي»، حتى إن «ستندال»، وإن لم يكن من الكُتَّاب المنكرين لذواتهم، كان يعزو فشلَ «شاتوبريان» في القيام بدور المسافر العليم إلى «أنانيته القبيحة». لقد أتى «شاتوبريان» بأحمال بالغة الثقل من الأهداف والافتراضات الشخصية إلى الشرق، وأفرغ في الشرق هذه الأحمال، ثم انتقل بعد ذلك إلى الدفع بالناس والأماكن والأفكار كيما تدور حول الشرق كأنما لم يستطع شيءٌ مقاومةَ خياله الغلاب. ولكن «شاتوبريان» جاء إلى الشرق بشخصية بناها لنفسه، لا بذاته الحقيقية. وكان يرى أن «بونابرت» هو آخر الصليبيِّين، وأنه (أي شاتوبريان) كان بدوره «آخر فرنسي يغادر بلده للسفر في الأراضي المقدسة بالأفكار والأهداف والمشاعر الخاصة بحُجَّاج الأزمان السالفة». ولكن كانت وراء ذلك أسبابٌ أخرى، وكان السبب الأول هو التناظر بمعنى التناسق؛ إذ كان قد زار العالم الجديد وشاهد آثاره الطبيعية، وأراد أن يُكمل دائرة دراساته بزيارة الشرق ومشاهدة آثاره المعرفية، ولما كان قد درس الآثار الرومانية والكِلْتيَّة، لم يتبقَّ له سوى الاطلاع على أطلال أثينا ومنف (ممفيس) وقرطاجنة (قرطاجة)؛ والسبب الثاني هو استكمال ما لديه من الصور وتجديد مخزونه منها، والثالث هو تأكيد أهمية الروح الدينية، فكان يقول إن «الدين نوع من أنواع اللغات العالمية التي يفهمها البشر أجمعون.» وهل ثَم مكان أفضل لمراقبة ذلك من الشرق، حتى في البقاع التي يسود فيها «دين متواضع نسبيًّا مثل الإسلام». وقبل ذلك كلِّه كان «شاتوبريان» يريد أن يرى الأشياء لا على حقيقتها بل بالصورة التي افترضها لها، فكان يقول: «إن القرآن «كتاب محمد»، وإنه لا يتضمن «أيَّ مبدأ حضاري، ولا أيَّ مفهوم قادر على الارتقاء بالشخصية».» ويقول في نبرة أقرب إلى اختراع ما يزعمه في سرده: «إن هذا الكتاب لا يحضُّ على كراهية الطغيان أو على حب الحرية.»6

كان الشرق يبدو لهذه الشخصية المتحذلقة التي اصطنعها «شاتوبريان» لوحةً قديمة أصابتها يدُ البِلَى وتنتظر الترميم على يديه، قائلًا إن العربي الشرقي كان «إنسانًا متحضرًا ثم تدهور فعاد إلى حالة الوحشية». ولا عجب إذن في أنه حين شاهد العرب يحاولون الحديث بالفرنسية، أحسَّ بما أحسه «روبنسون كروسو» عندما استخفَّه الطرب لسماع ببغائه يتحدث للمرة الأولى. صحيح أنه كانت في الشرق أماكنُ معينةٌ مثل مدينة بيت لحم (وقد أخطأ «شاتوبريان» خطأً فاحشًا في تفسير معناها الاشتقاقي) يستطيع الإنسان أن يجد فيها شبهًا ما بالحضارة الحقيقية — أي الأوروبية — ولكن هذه الأماكن قليلة ومتباعدة. ويقول إن المرء يجد في كل مكان شرقيِّين — عربًا — تتسم حضارتهم، مثلما يتسم دينهم وأخلاقهم بدرجة كبيرة من التواضع والهمجية والتناقض بحيث لا يستحقون فتح بلدانهم من جديد. وكان يقول إن الحملات الصليبية لم تكن عدوانًا، بل كانت النظير المسيحي العادل لوصول عمر إلى أوروبا. ثم يستدرك قائلًا إنه حتى لو كانت الحملات الصليبية عدوانًا في صورتها الحديثة أو صورتها الأصلية، فإن القضية التي أثارتها كانت تتجاوز المسائل العادية للبشرية الفانية:

لم تكن قضية الحملات الصليبية تنحصر في تخليص الضريح المقدس، ولكنها كانت تتعلق إلى درجة أكبر بمعرفة مَن يكتب له الفوز على الأرض، عقيدة كانت تعادي الحضارة وتحبذ الجهل بانتظام [يقصد الإسلام طبعًا]، وتناصر الاستبداد والرق، أم عقيدة كانت من وراء الصحوة الجديدة عند المحدثين لعبقرية العصور الخوالي وإلغاء العبودية الحقيرة؟7

وقد كانت هذه أول إشارة مهمة للفكرة التي كُتب لها أن تكتسب سلطةً لا تكاد تحتمل، وتَشِي بما يقترب من الغباء، في الكتابة الأوروبية: ألَا وهي أن أوروبا تُعلِّم الشرق معنى الحرية، وهو المعنى الذي كان «شاتوبريان» وكل من جاء بعده يعتقد أن الشرقيِّين، وخصوصًا المسلمين، لا يدرون عنه شيئًا على الإطلاق:

لا يعرفون شيئًا عن الحرية، وليست لديهم ذرَّة من اللياقة، فالقوة إلههم. وعندما تمرُّ عليهم فترات طويلة لا يرون فيها فاتحين يقيمون العدل السماوي، يكتسون مظهر الجنود الذين لا قائد لهم، والمواطنين الذين لا مُشرِّع لهم، والأسرة التي لا أب لها.8
وهكذا نجد أوروبيًّا يتحدث في عام ١٨١٠م مثل «كرومر» عام ١٩١٠م، قائلًا إن الشرقيِّين يحتاجون «الفاتح»، ولا يجد تناقضًا في الزعم بأن الفتح الغربي للشرق لم يكن غزوًا بل تحريرًا. و«شاتوبريان» يصوغ هذه الفكرة كلها في القالب الرومانسي الذي يُفيد «الخلاص»، قالب المهمة المسيحية التي تعني إحياء عالم ميت، وبعث إحساسه بإمكاناته الكامنة، وهي التي لا يستطيع إدراكَ وجودها تحت السطح الخامد المنحط إلا الأوروبي. وهذا يعني أن على المسافر أن يهتديَ ويسترشد بالعهد القديم وبالأناجيل في فلسطين؛9 ومن المحال بغير هذا السبيل تجاوز الانحطاط الظاهر للشرق الحديث. ومع ذلك فلا يرى «شاتوبريان» أيَّ مفارقة في عجز جولته ورؤيته عن الإفصاح له بأيِّ شيء عن الشرقي الحديث، ومصير هذا الشرقي؛ إذ لا يعني «شاتوبريان» في الشرق إلا ما يُحدِثه هذا الشرق في نفس «شاتوبريان» من تأثير، وما يسمح لروحه أن «تفعله»، وما يُتيح له به أن يكشف عن نفسه، وعن أفكاره وتوقعاته. فالحرية التي تهمُّه إلى ذلك الحد لا تزيد على كونها إطلاقًا لذاته من قفار الشرق المعادية.

وأما المكان الذي يسمح له إطلاق سراحه بالذهاب إليه فورًا فهو العودة إلى عالم الخيال والتفسير الخيالي. وينطمس وصف الشرق تحت وطأة الخطط والأنساق التي تفرضها عليه الذات «الإمبراطورية» التي تُسفر كل السفور عن سلطاتها. فإذا كنَّا نرى في نثر «إدوارد لين» كيف تختفي الذات حتى يظهر الشرق بجميع تفاصيله الواقعية، فإن الذات عند «شاتوبريان» تُذيب نفسها في تأمل العجائب التي تخلقها، ثم تُولد من جديد في صورة أقوى وأقدر على تذوق سلطاتها والتمتع بتفسيراتها، فهو يقول:

عندما يتجول المرء في بقاع أرض جوديا (اليهودية) يستولي الملل على قلبه أول الأمر، لكنه حين ينتقل من بقعة منعزلة إلى سواها، ويجد المكان يمتدُّ أمام عينيه بلا حدود، يتقشع الملل تدريجيًّا، ويشعر المرء برهبة خفية، لكنها لا تؤدي إلى اكتئاب النفس على الإطلاق بل تبث فيها الشجاعة وتسمو بالعبقرية الأصيلة للإنسان. وتنكشف أشياء غريبة من شتى بقاع الأرض التي تنبض بالمعجزات: الشمس الحارقة، والعُقَاب الجامحة، وشجرة التين العقيم؛ إنها تنتمي جميعًا للشعر، وجميع المشاهد التي وردت في الكتاب المقدس حاضرة هناك. كلُّ اسم يضم في باطنه لغزًا، وكل كهف يُفصح عن المستقبل، وكل قمة تل ما زالت في أعماقها نبرات أحد الأنبياء. لقد تحدَّث الربُّ نفسُه من هذه الشطآن: وها هي ذي مجاري السيول التي جفَّت، والصخور التي انشقت، والقبور التي انفتحت، وجميعها يشهد على المعجزة. لا تزال الصحراء تبدو كأنما أخرستها الرهبة، وأكاد أقول إنها لم تستطع أن تخرق الصمت منذ أن سمعت صوت الأزلي الأبدي.10

ويُفصح مجرى التفكير في هذه الفقرة عن الكثير؛ فالإحساس برهبة كالرهبة التي صورها «باسكال»، في القرن السابع عشر، لا يقف تأثيرُه عند تقليل الثقة بالنفس بل إنه يحفز هذه الثقة وينشطها بما يُشبه المعجزة، ومن ثَم يبرز مشهد الأرض العقيم كأنما هو نصٌّ مصوَّرٌ يقدم نفسه للذات الفاحصة التي تدعمت وأصبحت بالغة القوة. وهكذا فإن «شاتوبريان» يتخطَّى الواقع المزري، على ما به من رهبة، للشرق المعاصر حتى يستطيع مواجهته في علاقة أصيلة وخلاقة. وعندما نَصِل إلى نهاية الفقرة يكون الكاتب قد تخلَّى عن صورة الإنسان الحديث واكتسب صورة العراف الحالم الذي يكاد أن يكون «معاصرًا» للرب نفسه، فإذا كانت صحراء جوديا (اليهودية) قد ظلت صامتة منذ أن تكلم الرب فيها، فإن «شاتوبريان» هو الذي يستطيع أن يسمع الصوت، وأن يفهم معناه، وأن يجعل الصحراء تخاطب قارئه من جديد.

لقد كشف «شاتوبريان» عن مواهبه العظمى في «الحدس المتعاطف» حين استطاع تمثيل وتفسير «ألغاز» أمريكا الشمالية في ملحمته التي لم تكتمل عن الهنود الحمر «أتالا» وفي رينيه، وكذلك تمثيل وتفسير المسيحية في كتابه: «عبقرية المسيحية»، ثم استثار الشرق هذه المواهب فأثبتت مزيدًا من العظمة في قدرته على التفسير خلال كتابة كتاب الرحلة المشار إليه. إذ لم يَعُد المؤلف يعالج هنا البدائية الطبيعية، والعواطف الرومانسية، بل أصبح يعالج قدرة الخلق الأزلية، والأصالة الربانية اللتين استودعتَا أولًا في الشرق الذي يصوره الكتاب المقدس، ومكثنا فيه في صورة كامنة دون أن يُخرجها أحد. ومن المحال، بطبيعة الحال، إدراكهما بيسر وسهولة، بل كان على «شاتوبريان» أن يطمح إليهما، وينالهما. ولقد كان هذا الغرض الطموح هو الذي جعل المؤلف رحلته وسيلةً لتحقيقه، مثلما كان على «شاتوبريان» أن يُعيد بناء ذاته بصورة جذرية في النص حتى يحققه. وكان شاتوبريان، على عكس «إدوارد لين» يحاول أن يهضم الشرق، إنه لا يقتصر على امتلاكه بل إنه يمثله ويتكلم باسمه، لا في إطار التاريخ، بل خارج إطاره، في البُعد اللازمني لعالمٍ التأمَ التئامًا تامًّا بتوحُّد البشر مع الأرض، والرب مع البشر، وهكذا فحين يَصِل إلى البيت المقدس، يَصِل إلى مركز رؤيته والغاية القصوى لرحلة حجه، فيمنح نفسه ضربًا من المصالحة الكاملة مع الشرق، مع الشرق اليهودي والمسيحي والمسلم واليوناني والفارسي والروماني، والشرق الفرنسي أخيرًا. وهو يُبدي تأثرَه بمحنة اليهود، لكنه يرى أنهم يساعدون، هم أيضًا، في إيضاح رؤيته العامة، كما أنهم أفادوا أيضًا في إضفاء لذعة الأسى اللازمة على حقده المسيحي، قائلًا إن الربَّ قد اختار شعبًا جديدًا، وليس هذا الشعب من اليهود.11

ولكنه يقدم مع ذلك بعض «التنازلات» الأخرى اعترافًا بالواقع على الأرض؛ فإذا كان بيت المقدس يمثل في رحلته المقصد الأخير «غير الأرضي»، فإن مصر تمدُّه بالمادة اللازمة لاستطراد سياسي مطول، وأفكاره عن مصر تستكمل رحلةَ حجِّه استكمالًا دقيقًا؛ إذ تدفعه مشاهدةُ دلتا النيل الرائعة إلى أن يقول:

لم أجد إلا أن ذكريات بلدي العظيمة جديرة بهذه السهول الرائعة؛ لقد رأيت بقايا آثار حضارة جديدة، أتت بها إلى ضفاف نهر النيل عبقرية فرنسا.12

ولكن هذه الأفكار قد صيغت في قالب الحنين إلى الوطن؛ لأن «شاتوبريان» كان يعتقد أنه يستطيع معادلةَ غياب فرنسا وهو في مصر بغياب الحكومة الحرة التي تحكم شعبًا سعيدًا، وإلى جانب ذلك فإن مصر كانت تمثِّل الهبوط من الذروة الروحية التي بلغها في بيت المقدس، وبعد أن ينتهيَ من التعليق السياسي على حالتها المؤسفة، يطرح على نفسه السؤال المعتاد عن «الاختلاف» الناجم عن التطور التاريخي، قائلًا: كيف أصبح هذا الشعب الغبي المنحط من «المسلمين» يسكن الأرض التي كان أصحابها، الذين يختلفون اختلافًا شاسعًا، قد بهروا وفتنوا هيرودوت وديودوروس؟

وكان ذلك بمثابة الوادع المناسب لمصر؛ إذ يغادرها قاصدًا تونس العاصمة، ويزور أطلال قرطاجنة هناك، وأخيرًا يعود إلى الوطن. لكنه يفعل شيئًا أخيرًا جديرًا بالذكر في مصر: كان قد عجز عن زيارة أهرام الجيزة واكتفى بمشاهدتها من بعيد، لكنه تجشَّم إرسالَ مبعوث إليها حتى ينقش على أحجارها اسمَ «شاتوبريان»، مضيفًا — لفائدتها — قولَه «على المرء أن يفيَ بجميع الالتزامات الصغيرة للمسافر البار.» وعادةً ما لا نُولي مثل هذه اللمسة الجذابة من العادات السياحية إلا بسمة عابرة، ولكنها تكتسب أهمية أكبر مما يبدو لنا للوهلة الأولى باعتبارها تمهيدًا للصفحة الأخيرة من الرحلة؛ حيث يتأمل «شاتوبريان» مشروعه الذي استغرق عشرين عامًا في دراسة «جميع مخاطر وجميع أحزان» مَن يقيم في المنفى، ويذكر في نبرة رثاء كيف كان كل كتاب من كتبه يمثِّل في الواقع امتدادًا لوجوده. فلما كان رجلًا لا يملك منزلًا ولا يأمل في إمكان الحصول على منزل، فهو يجد أنه قد تخطَّى مرحلة الشباب منذ عهد بعيد، ويقول إن السماء إذا أكرمته بالراحة الأبدية، فهو يَعِد بتكريس نفسه في صمت لإقامة «أثر خالد لوطني». وأما ما تبقَّى له على هذه الأرض فهو كتاباته، وهي تعتبر كافيةً إذا ظل اسمُه باقيًا، وإذا لم يُكتب البقاء لاسمه، فهو يرى أنها زادت عن الحد.13

وهذه الأسطر الأخيرة تعود بنا إلى اهتمام «شاتوبريان» بنقش اسمه على الأهرام ولا بد أننا أدركنا أن مذكراته الشرقية التي تدور حول ذاته تقدِّم لنا «خبرة بالذات» لا يتوقف عن «عرضها» ولا يكلُّ ولا يملُّ من خوضها؛ فالكتابة كانت تمثل ﻟ «شاتوبريان» «فعل حياة»؛ أي إثباتًا لوجوده في قيد الحياة، ومن ثَم كان من المحال أن يترك شيئًا، ولو كانت قطعة حجر في مكانٍ قصيٍّ، دون كتابة ما دام حيًّا. فإذا كان «لين» قد جعل المرجعيةَ العلمية والتفاصيل الكثيرة «تنتهك» الخط السردي في كتابه، فإن «شاتوبريان» يحول السرد لديه إلى ساحة لتأكيدِ إرادةِ فردٍ عاشق لذاته وبالغ التقلُّب. وإذا كان «لين» على استعداد للتضحية بذاته من أجل مذهب المستشرق، فإن «شاتوبريان» يجعل كلَّ شيء يقوله عن الشرق خاضعًا كلَّ الخضوع لذاته. ولكن أيًّا من هذين الكاتبَين لم يكن يتصور أن مَن يخلفه سوف يواصل العمل المثمر الذي بدأه؛ فلقد دخل «لين» مجالَ الموضوعية «غير الشخصية» للمبحث التقني، مدركًا أن عمله سوف يستفيد الآخرون منه، ولكن ليس باعتباره وثيقةً إنسانية، وأما «شاتوبريان» فكان يرى أن عملَه سوف يقوم، مثل النقش الرمزي لاسمه على الهرم، شاهدًا على ذاته ودالًّا على معناها. وأما إذا لم يكن قد نجح في إطالة عمره بالكتابة، فسوف تكون «زائدة على اللازم»، كما يقول، أي من النوافل.

وحتى إذا كان جميع زوار الشرق بعد «شاتوبريان» و«إدوارد لين» قد أخذوا أعمالهما في حسبانهم (بل وإلى حدِّ النقل حرفيًّا من كتاباتهما في بعض الحالات) فإن التركة التي خلَّفاها تُجسِّد مصير الاستشراق والخيارات التي اقتصر عليها. فكان الكاتب إما أن يكتب علمًا مثل «إدوارد لين» أو أقوالًا شخصية مثل «شاتوبريان». وكانت مشكلات النوع الأول تنحصر فيما تدل عليه من ثقة غربية «غير شخصية» في إمكان إطلاق الأوصاف على ظواهر عامة جماعية، وفي ميل هذا النوع إلى عدم استنباط الحقائق من الشرق ذاته بل من الملاحظات الخاصة به. وكانت مشكلة النوع الثاني هي تراجعه المحتوم إلى الموقع الذي يساوي فيه بين الشرق والتهويمات الخيالية الخاصة، حتى ولو كانت هذه التهويمات رفيعةَ المستوى حقًّا، من الناحية الجمالية. وفي كلتا الحالتين، بطبيعة الحال، كان الاستشراق يتمتع بتأثير قوي في أساليب وصف الشرق وتحديد خصائصه. ولكن الذي حال الاستشراق دون تحقيقه، ولا يزال يحول حتى اليوم، فكان زاوية النظر إلى الشرق التي لا تنتمي إلى التعميم المحال، أو إلى الطابع الفردي الثابت الرصين. وأما البحث في الاستشراق عن «زاوية حية» للواقع الإنساني أو حتى الاجتماعي للشرقي — باعتباره إنسانًا معاصرًا يعيش في العالم الحديث — فهو بحث عن المحال.

ويرجع جانبٌ كبير من سبب عدم وجود هذه «الزاوية الحية» إلى تأثير هذين الخيارَين اللذَين وصفتهما؛ أي مذهب «إدوارد لين» ومذهب «شاتوبريان»، البريطاني والفرنسي على الترتيب. والواقع أن نمو المعرفة، وخصوصًا المعرفة المتخصصة، يسير بخطواتٍ بالغةِ البطء. فهذا النمو أبعد ما يكون عن اتخاذ صورة الإضافة أو التراكم، بل إنه يتمثل في خطوات تقوم على الانتقاء في التجميع، والإزاحة، والإلغاء، وإعادة الترتيب، والإصرار، في إطار ما يُطلق عليه تعبير «اتفاق الآراء» البحثية. ولم تكن المعرفة المتمثلة في الاستشراق تستمدُّ سلطتها في القرن التاسع عشر من السلطة الدينية، مثلما كان عليه الحال قبل عصر التنوير، بل مما نستطيع أن نُطلق عليه تعبير الاستشهاد بمرجعية السلف في إعادة البناء، وابتداءً من «ساسي» كان موقف الباحث المستشرق هو نفسه موقف العالم الذي يستعرض سلسلةً من شذور النصوص، ثم يقوم بتحريرها وترتيبها، مثلما يقوم مرمِّمُ الرسوم القديم بوضعِ سلسلةٍ منها مع بعضها البعض ابتغاءَ إخراج الصورة «التراكمية» التي تمثلها ضمنًا. وهكذا فإن المستشرقين يتناولون أعمالَ بعضهم البعض، فيما بينهم، بنفس هذا الأسلوب الاستشهادي. فكان «بيرتون»، على سبيل المثال، يتناول ألف ليلة وليلة أو مصر، بصورة غير مباشرة من خلال عمل «إدوارد لين»، والاستشهاد بما قاله واقتطاف أجزاء منه، وقد يطعن فيما ذهب إليه حتى وهو يسلِّم له بمرجعية عظمى. وكانت رحلة «نيرفال» الخاصة إلى الشرق قد مرَّت بطريق «لامارتين»، ومرَّت رحلة «لامارتين» بطريق «شاتوبريان». ونقول بعبارة موجزة إن الاستشراق باعتباره شكلًا من أشكال المعرفة المتنامية كان يعتمد في غذائه بصفة رئيسية على الاستشهاد بمقتطفات من عمل الباحثين السابقين في هذا المجال. وحتى لو صادف المستشرقُ موادَّ جديدةً، فإنه كان يحكم عليها باستعارة «المنظورات»، والأيديولوجيات، و«الأطروحات الاسترشادية» من أسلافه (على نحو ما يفعل الباحثون كثيرًا). ونقول بتعبير دقيق إلى حدٍّ كبير، إذن، إن المستشرقين الذين خلفوا «ساسي ولين» قد أعادوا كتابة «ساسي ولين»، وإن الحجاج الذين خلفوا «شاتوبريان» أعادوا كتابته، وهكذا كانت الحقائق الفعلية للشرق الحديث تُستبعد بانتظام من كلِّ إعادة للكتابة، وهي التي تتسم بالتداخل، خصوصًا عندما يفضل بعض الحجاج الموهوبين؛ مثل «نيرفال وفلوبير»، الأوصاف التي جاء بها «لين» على ما تشهد به عيونهم وأذهانهم مباشرة.

ولا يعتبر الشرق في نظام المعرفة الخاصة بالشرق مكانًا بقدر ما يعتبر موضوعًا أو عُرفًا أدبيًّا؛ بمعنى أنه مجموعة من الإشارات والإحالات، وحزمة من الخصائص، وهي التي قد تنشأ فيما يبدو من قول مقتطف يُستشهد به، أو من شذرة من شذور النصوص، أو من اقتباس من عملٍ كتبَه شخصٌ ما عن الشرق، أو بعض ما تخيله أحدُ الأسلاف، أو من مزيج من هذه جميعًا؛ فالكتابة عن الشرق تُقدِّم قصصًا خيالية تتضمن الملاحظة المباشرة أو الوصف في ظروف معينة، ولكن هذه وتلك تعتبر ثانويةً تمامًا، وفي جميع الأحوال، لمهام منهجية من نوع آخر. فالشرق في أعمال «لامارتين ونيرفال وفلوبير» يعتبر إعادةَ تقديم لمادة معتمدة، يهتدي فيه الكاتب بالرغبة في إثارة اهتمام القارئ من خلال الجوانب الجمالية والبنائية للعمل. والكُتَّاب الثلاثة يؤكدون الاستشراق أو جانبًا من جوانبه، حتى مع السماح للوعي القصصي بأن يقوم، على نحو ما ذكرت، بدورٍ بالغِ الضخامة. وسوف نرى أن هذا الوعيَ القصصي، على الرغم من طابعه الفردي الفذ، ينتهي إلى الوعي، مثل بوفار وبيكوشيه، بأن رحلةَ الحج ما هي في الحقيقة إلا صورة من صور النسخ أو النقل.

وعندما بدأ «لامارتين» رحلتَه إلى الشرق في عام ١٨٣٣م كتب يقول إنه قام بها باعتبارها شيئًا طالما كان يحلم به: «فالرحلة إلى الشرق [كانت] تُشبه عملًا كبيرًا تقوم به حياتي الباطنة». وهو يرحل محمَّلًا بالميول المسبقة، وضروب التعاطف والانحياز، فهو يكره الرومان وقرطاجنة، ويحب اليهود والمصريين والهندوس، ويزعم أنه سوف يكتب الملحمة الخاصة بهم مثل «دانتي». وبعد أن يتسلح بقصيدة «وداع» رسمية لفرنسا يذكر فيها كلَّ ما يعتزم عمله في الشرق، يُبحر إلى الشرق. كان كلُّ ما يقابله أول الأمر إما يؤكد نبوءاته الشعرية أو يحقق ميله إلى المقارنة والتشبيه. فالليدي «هستر ستانهوب» تُشبه الساحرة كيركي، التي مسخَت البحارة في ملحمة الأوديسية، لكنها هنا ساحرة الصحراء؛ ويقول إن الشرق هو «وطن خيالي الخاص»، والعرب شعب بدائي، وشعر الكتاب المقدس محفور في أرض لبنان، وإن الشرق يشهد بالضخامة الجذابة لآسيا وبضآلة اليونان النسبية. لكنه يصبح، حالما يَصِل إلى فلسطين، صانعًا متأصِّلًا لشرق خيالي. فيزعم أن أفضلَ صورة لسهول كنعان توجد في لوحات الرسامَين «بوسان وكلود لورين»، في القرن السابع عشر. وبعد أن كان يَصِف رحلته بأنها «ترجمة» أول الأمر إذا به يُحولها إلى صلاة تنشط فيها ملكاتُ ذاكرته ونفسه وقلبه، أكثر مما تنشط فيها ملكات عينَيه أو عقله أو روحه.14

وهذا «الإعلان» الصريح يُرخي الزمام بصورة كاملة لما كان يتمتع به «لامارتين» من حماس للقياس وإعادة البناء (دون ضابط أو رابط). فهو يقول إن المسيحية دين خيال وتذكر، ولما كان يرى أنه يمثل المؤمن الورع خير تمثيل فإنه يمارس هاتين الصفتين. وإذا حاولنا تقديم قائمة «بملاحظاته» المغرضة فلن ننتهيَ: إنه يرى امرأة تُذكِّره بشخصية «هايدي» في قصة «دون جوان»، ويقول إن العلاقة بين المسيح وفلسطين تُشبه العلاقة بين «روسو وجنيف»، ونهر الأردن في الواقع أقل أهمية من «الألغاز» التي يُثيرها في النفس، والشرقيون، والمسلمون بصفة خاصة، كسالى، واتجاهاتهم السياسية هوائية مشبوبة لا مستقبل لها، وتذكره امرأة أخرى بفقرة في ملحمة «أتالا» ﻟ «شاتوبريان»، وإن لم يكن «شاتوبريان، ولا تاسو»، الشاعر الملحمي الإيطالي ابن القرن السادس عشر، قد أصابَا في رسم صورة الأرض المقدسة (وكانت رحلات شاتوبريان التي قام بها قبل لامارتين تُطارد انحصار لامارتين في ذاته، ولولاها ما اكترث لشيء على الإطلاق) وهلمَّ جرًّا. وأما الصفحات التي يكتبها عن الشعر العربي، وهو الموضوع الذي يتحدث فيه بثقة فائقة، فلا تُفصح إطلاقًا عن أيِّ قلقٍ لجهله التام باللغة العربية. وكل ما يهمُّه هو أن رحلاته في الشرق قد كشفت له أن الشرق «أرض العقائد، وأرض العجائب»، وأنه قد عُيِّن شاعرًا للشرق في الغرب. وهو يقول دون أن تشوب كلماته أدنى نبرة من نبرات السخرية من ذاته:

هذه الأرض العربية أرض العجائب، فكلُّ شيء ينبت فيها، وكل ساذج أو متعصب يمكنه أن يصبح نبيًّا هناك بدوره.15

وهكذا فلقد أصبح نبيًّا لا لشيء إلا لإقامته في الشرق وحسب.

وبانتهاء قصته يكون «لامارتين» قد حقق الغرض من رحلةِ حجِّه إلى الضريح المقدس، وهو الذي يمثِّل البدءَ والمنتهى للزمن والمكان جميعًا، ولقد استوعب ما يكفي من الواقع للانفلات منه عائدًا إلى التأملات الخالصة، والعزلة، والفلسفة، والشعر.16

ويسمو «لامارتين» على مستوى الشرق الجغرافي المحض فيتحول إلى «شاتوبريان» جديد، فيستعرض الشرق كما لو كان إقليمًا شخصيًّا (أو فرنسيًّا على الأقل) جاهزًا لما قد تفعله به الدول الأوروبية. والواقع أن «لامارتين» كان أبعدَ ما يكون عن الرحالة والحاج الذي ينتقل في زمن ومكان حقيقيَّين، بل إنه أصبح ذاتًا تخطَّت شخصيته وتجاوزَتها، وتوحَّدَت في السلطة والوعي مع أوروبا كلها. وأما ما كان يراه فكان الشرق المقبل على التمزيق المحتوم في المستقبل، بعد إخضاعه للهيمنة الأوروبية وتكريس أوروبا لذلك. وهكذا يولد الشرق من جديد، في الرؤية التي تمثل ذروة حديث «لامارتين»، في إطار حق أوروبا في السيطرة عليه، قائلًا:

والهيمنة من هذا اللون، وفقًا لهذا التعريف، وطبقًا لتكريسها وتخصيصها باعتبارها حقًّا أوروبيًّا، تكمن بصفة أساسية في الحق في احتلال منطقة ما، وكذلك السواحل، من أجل تأسيسِ مدن حرة فيها، أو مستعمرات أوروبية، أو موانئ تجارية تمرُّ عليها السفن بانتظام …

ولا يقف «لامارتين» عند هذا الحد، بل يواصل «صعوده» حتى يَصِل إلى الموقع الذي يختزل فيه الشرق الذي رآه وزارَه لتوِّه في صورة «أمم بلا أراضٍ، ولا أوطان، ولا حقوق، ولا قوانين، ولا أمن … تنتظر في قلق حماية» الاحتلال الأوروبي لها.17

ولم أجد في جميع رؤى الشرق التي اختلقها الاستشراق تلخيصًا أوفى من هذا التلخيص، دون مبالغة. فرحلة الحج التي قام بها «لامارتين» إلى الشرق لم تقتصر على اختراقِ وعيٍ غلابٍ للشرق، بل تجاوزَت ذلك إلى الإلغاء الفعلي لذلك الوعي نتيجة التحامه بوعيٍ غيرِ شخصي يتمثل في السيطرة الأوروبية على الشرق. أي إن الهوية الفعلية للشرق تذوي وتنحصر في مجموعة من الشذرات المتتابعة؛ أي ملاحظات «لامارتين» القائمة على الذاكرة، وهي التي يضمُّ بعضها إلى بعض في وقت لاحق ويعبر عنها من جديد تعبيرًا يوحي بأنها تمثِّل حلم «نابليون» في السيطرة على العالم. فإذا كانت الهوية الإنسانية ﻟ «إدوارد لين» قد اختفت في الشبكة العلمية للتصنيفات التي وضعها للحياة في مصر، فإن وعيَ «لامارتين» يتجاوز حدوده الطبيعية كل التجاوز، وهو بذلك يكرر رحلة «شاتوبريان» ورؤاه، ثم إذا به يتجاوزها بدخوله في عالم التجريد عند الشاعر «شلي» وعند «نابليون»، وهي الرؤى التي تُتيح نقل العوالم والسكان من مكان لمكان كأنها أوراق اللعب الكثيرة على المنضدة. وأما ما يتبقَّى من الشرق في نثر «لامارتين» فلا يكاد يُعتَدُّ به على الإطلاق، فواقعه الجغرافي السياسي تطمسه الخطط الموضوعة للشرق. كما أن الأماكن التي زارها، والأشخاص الذين قابلهم، والخبرات التي اكتسبها، تُختزَل جميعًا حتى تصبح أصداء محدودةً لحقيقتها، في خضمِّ تعميماته المتباهية، فهو يمحو آخر آثار الخصوصية في «الملخص السياسي» الذي يختتم به الكاتب كتاب: «رحلة في الشرق».

ولا بد لنا من إجراء مقابلة بين الذاتية المتعالية شبه الوطنية عند «لامارتين»، وبين ما يعتبر مضادًّا لها عند «نيرفال وفلوبير»؛ إذ إن أعمالها الشرقية تنهض بدور كبير في أعمالهما الكاملة، وهو دورٌ يفوق كثيرًا دورَ رحلة «لامارتين» الإمبريالية في أعماله. ومع ذلك فقد جاء كلٌّ منهما إلى الشرق بعد استعداده، مثل «لامارتين»، بقراءة مستفيضة في الآداب الكلاسيكية؛ أي اليونانية واللاتينية، والأدب الحديث، والاستشراق الأكاديمي؛ وكان «فلوبير» أشد صراحة في الحديث عن هذا الاستعداد من «نيرفال» الذي يقول مخادعًا في بنات النار إن كل ما عرفه عن الشرق كان ينحصر في ذكرى شبه منسية من أيام تعليمه في المدرسة.18 والأدلة القائمة «في رحلة في الشرق» تناقض ذلك تمامًا، وإن كانت تُشير إلى معرفة أقل منهجية وانضباطًا من «فلوبير» بالمسائل الشرقية. ولكن الحقيقة الأهم هي أن انتفاع الكاتبين (نيرفال في ١٨٤٢-١٨٤٣م وفلوبير في ١٨٤٩-١٨٥٠م) شخصيًّا وجماليًّا بزيارتهما للشرق كان يفوق انتفاعَ جميع الرحالة في القرن التاسع عشر. كان كلاهما يتسم بالعبقرية، بدايةً، وكان لذلك تأثيره المهم، شأنُه شأنُ انغماسهما الكامل في جوانب الثقافة الأوروبية التي تشجع الرؤية المتعاطفة للشرق، على ما بها من انحراف؛ وكان «نيرفال وفلوبير» ينتميان إلى جماعة الفكر والإحساس التي وصفها «ماريو براز» في كتابه: «العذاب الرومانسي»، وهي الجماعة التي كانت تهوى صور الأماكن الغريبة، وتنمية الأذواق «السادية الماسوكية»؛ أي حب الإيلام والتألم (وهي التي كان براز يطلق عليها اسم ألجولاجنيا بمعنى لذة التألم والإيلام) كما كانت مفتونة بكل رهيب فظيع، وبفكرة المرأة القاتلة، وبالسرية وعلوم الغيب، وقد اجتمعت هذه العوامل كلها لتُخرج لنا أعمالًا أدبية من النوع الذي تميز به «جوتييه» (الذي كان مفتونًا هو نفسه بالشرق) و«سوينبيرن، وبودلير، وهايسمان».19 كان «نيرفال وفلوبير» يجدان دلالة خاصة لنمط المرأة الذي تمثله كليوباترا وسالوميه، وإيزيس، ولم يكن من قبيل المصادفة على الإطلاق أن يعمدَا في أعمالهما عن الشرق، وفي زيارتَيهما له، إلى إعلان وإبراز قيمة كل نمط نسائي ينتمي إلى هذا اللون الأسطوري، الغني بالإيحاءات والتداعيات.
وقد جاء «نيرفال وفلوبير» إلى الشرق — بالإضافة إلى مواقفهما الثقافية العامة — بأساطير شخصية كانت شواغلها، بل وبناؤها نفسه، في حاجة إلى الشرق. كان الرجلان قد تأثرَا «بالنهضة الشرقية» بالصورة التي حددها لها «كينيه» وغيره، فكانَا ينشدان الإنعاش الذي يأتي به كلُّ ما يتسم بالقِدَم إلى حد الخرافة، وكل ما هو غريب عجيب. ولكن رحلة الحج إلى الشرق كانت تمثِّل لكلٍّ منهما رحلةَ بحث عن شيء شخصي نسبيًّا؛ فكان «فلوبير» يسعى في سبيل العثور على «وطن»، بتعبير «جان برونو»،20 في المواقع التي شهدت أصل الأديان والرؤى والعراقة الكلاسيكية السحيقة، وكان «نيرفال» يسعى وراء — أو بالأحرى يقفو خُطَى — عواطفه وأحلامه الشخصية، مثل شخصية يوريك التي رسمها الروائي «لورنس ستيرن» في مواعظ الأستاذ يوريك من قبله. وهكذا كان الشرق يمثِّل للكاتبين مكانًا سبقَت رؤيته وكذلك مكانًا يكثر من الرجوع إليه بعد اكتمال الرحلة الفعلية، استنادًا إلى «الاقتصاد» الذي تتميز به جميع المخيلات الجمالية الكبرى. وكان الشرق لكلٍّ منهما مَعينًا لا ينضب مهما ينهل الكاتب منه، حتى ولو شابَت كتابتَهما عن الشرق لمساتُ خيبة أمل، أو انقشاع وهم، أو تجريد من الغموض والأسرار.
وأما الأهمية القصوى ﻟ «نيرفال وفلوبير» في دراسة ذهن المستشرق في القرن التاسع عشر، وهو موضوع هذه الدراسة، فترجع إلى أنهما أنجزَا عملًا يرتبط بنوع الاستشراق الذي ناقشناه حتى الآن ويعتمد عليه، ومع ذلك فهو يظل مستقلًّا عنه. فلننظر أولًا إلى مسألة نطاق العمل: لقد كتب «نيرفال» «رحلة في الشرق» في صورة مجموعة مذكرات للرحلة، وصور عامة وقصص وشذرات، ونحن نصادف هذا الانشغال بالشرق أيضًا في غير ذلك مما كتب مثل «الأوهام الخرافية»، وفي رسائله وفي بعض قصصه وكتاباته النثرية الأخرى. وكتابات «فلوبير» قبل زيارته وبعدها تنضح بالشرق؛ فالشرق يظهر في مذكرات الرحلة وفي الصورة الأولى من إغراء القديس «أنطوان» (وفي الصورتَين الأخيرتَين) وكذلك في «هيروديا»، وفي «سلامبو»، وفي العديد من مذكرات القراءة، والسيناريوهات، والقصص الناقصة التي لا تزال بين أيدينا، وهي التي درسها «برونو» بذكاء بالغ.21 كما نجد أصداء الاستشراق في روايات «فلوبير» الكبرى الأخرى أيضًا. وبصفة عامة نرى أن «نيرفال وفلوبير» يفصِّلان القول ويطوران من مادتهما الشرقية، ويدرجانها بأشكال مختلفة في صلب الأبنية الخاصة لمشروعاتهما الجمالية الشخصية. ولكن هذا لا يعني أن الشرق كان موضوعًا عارضًا في كتابتهما، بل يعني — على عكس ما رأينا عند كُتَّاب آخرين مثل «إدوارد لين» (وكان الرجلان يستعيران منه بلا استحياء)، ومثل «شاتوبريان، ولا مارتين، ورينان، وساسي» — لم يكن الشرق عندهما يمثِّل موضوعًا يُفهم أو كيانًا يُمتلك أو يُختزل أو توضع له القواعد، بقدر ما كان مكانًا عاشَا فيه واستغلَّاه استغلالًا جماليًّا وخياليًّا باعتباره يتميز بانفساح كبير ويُتيح إمكاناتٍ كبيرة. لم يكن يهمُّهما إلا بناء عملهما باعتباره حقيقة شخصية وجمالية ومستقلة، لا الطرائق التي يتوسل بها مَن يريد أن يسيطر فعليًّا على الشرق أو أن يرسم له صورة ثابتة. لم تستوعب الشرقَ ذاتُ أيٍّ منهما، ولم يُقِم أيٌّ منهما الموازاة الكاملة بين الشرق وبين المعرفة الوثائقية والنصية به (أي الاستشراق الرسمي باختصار).

ومن ثَم فنحن نرى من ناحية أن نطاق عملهما الشرقي يتجاوز أوجه القصور التي يفرضها الاستشراق المعتمد، ونرى من ناحية أخرى أن موضوع عملهما أكبر من أن يُوصفَ بأنه شرقي أو استشراقي (وإن كانا يُضفيان أيضًا صورةً شرقية خاصة على الشرق)؛ إذ إنَّ عملهما يتلاعب بأوجه القصور والتحديات التي يقدمها الشرق، وتقدمها المعرفة به إليهما؛ إذ يقول «نيرفال»، مثلًا، إن عليه أن يبثَّ الحيوية فيما يرى؛ لأن:

السماء والبحر لا يزالان قائمَين، وسماء الشرق وبحر اليونان يتبادلان قبلة الحب المقدسة كل صباح، ولكن الأرض ميتة، وهي ميتة؛ لأن الإنسان قد قتلها، والأرباب قد فرَّت.

أي إنه إذا كان للشرق أن يحيَا على الإطلاق، بعد أن «فرت» أربابه، فلا بد أن يكون ذلك من خلال جهوده الخصبة. ويظهر الوعي السردي في «رحلة في الشرق» في صورة صوت دائم الحيوية والنشاط، ينتقل في متاهات «الوجود» الشرقي مسلحًا — كما يقول لنا «نيرفال» — بلفظتَين عربيَّتَين هما «طيب» التي تُفيد القبول، و«مافيش» التي تُفيد الرفض. وهما تمكِّنانه من المواجهة الانتقائية لعالم الشرق المتناقض؛ أي من مواجهته واستخلاص «مبادئه السرية»، وقد تهيَّأ مسبقًا للإقرار بأن الشرق «بلد الأحلام والوهم»، وهي التي تُخفي، مثل الخُمُر التي يراها في كل مكان في القاهرة، رصيدًا حافلًا وعميقًا من الطاقة الجنسية الأنثوية. ويكتشف «نيرفال» مثل «إدوارد لين» من قبله ضرورة الزواج في مجتمع مسلم، ولكنه، على عكس «لين»، يرتبط فعلًا بإحدى النساء، وإن كان ارتباطه بزينب لا يقتصر على كونه إلزاميًّا من الزاوية الاجتماعية، فهو يقول:

لا بد أن أرتبط بفتاة سليمة الطوية، في مقتبل العمر، تنتمي لهذه الأرض المقدسة، التي هي وطننا الأول؛ لا بد أن أغتسل في منابع الإنسانية الباعثة للحياة، والتي تدفق منها الشعر وإيمان آبائنا! … أودُّ أن أعيش حياتي مثل رواية من الروايات، وها أنا ذا أضع نفسي طائعًا في موقع أحد أولئك الأبطال من ذوي النشاط والعزم الذين يريدون، مهما يكلفهم الأمر، إبداع حدث درامي يدور حولهم؛ أي عقدة مركَّبة، أو باختصار فعل مادي.22

أي إن «نيرفال» يستثمر نفسه في الشرق، لكنه لا يخرج بسرد روائي مثلما يُفصح عن مقصد خالد — وإن لم يكتمل تحقيقه قط — ألَا وهو صهر العقل والحدث المادي معًا. وهذه «القصة الضد»، أو نظير رحلة الحج، تمثِّل انحرافًا عن صيغة القطع المنطقي من النوع الذي كان يراه مَن سبقه من الكُتَّاب عن الشرق.

وهكذا يرتبط «نيرفال» ماديًّا وعاطفيًّا بالشرق، ويتجول بصورة «غير رسمية» بين ثرواته وبيئته الثقافية (الأنثوية في المقام الأول)، مبصرًا في مصر خصوصًا ذلك «المركز» الذي يُشبه الأم، والذي يجمع بين «الغموض وبين إمكان الوصول إليه»، والذي تُستقى منه الحكمة كلها.23 وتتبادل انطباعاته وأحلامه وذكرياته مواقعها مع أقسام من السرد الزخرفي النمطي بالأسلوب الشرقي، كما تمتزج حقائق الترحال الواقعية — في مصر، ولبنان، وتركيا — بشكل الاستطراد المتعمد، كأنما يكرر «نيرفال» نسق رحلة «شاتوبريان»، سالكًا طريقًا «تحت سطح الأرض»، وإن كان أقلَّ سلطانًا ووضوحًا من طريق «شاتوبريان». وقد صاغ هذه الفكرة «ميشيل بيتور» صياغة جميلة قائلًا:

كانت رحلة «شاتوبريان» تبدو لعينَي «نيرفال» رحلةً على السطح، أما رحلته هو فهي طريق محسوب بدقة، ينتفع فيه بالمراكز [الثانوية] الملحقة به، وبالدهاليز التي تتمثل في كل ما حذفه وتحيط بالمراكز الرئيسية فيه، وهذا يُتيح له أن يقدم الأدلة التي تتكون من جميع أبعاد الشراك التي تضمها المراكز العادية، عن طريق تغيير موقع النظر إلى هذه الشراك. وحين يتجول «نيرفال» في شوارع القاهرة أو بيروت أو القسطنطينية، فإنه يتربص بأيِّ شيء يسمح له بأن يشعر بوجودِ كهفٍ ممتدٍّ تحت روما وأثينا وبيت المقدس [المدن الرئيسية في رحلة شاتوبريان] …

ومثلما يُقيم «شاتوبريان» تواصلًا مع المدن الثلاث — روما بأباطرتها وبابواتها والتي تُعيد بناء تركة أثينا وبيت المقدس أو ميراثهما — تشترك كهوف «نيرفال» … في التواصل.24
بل إن الحادثتَين المطولتَين المحبوكتَين — وهما «حكاية الخليفة حكيم» و«حكاية ملكة الصباح»، وهما اللتان يُفترض أن تقدِّمَا «خطابًا» سرديًّا صلبًا وثابتًا — تدفعان «نيرفال»، فيما يبدو، إلى الابتعاد عن «الغائية» «فوق سطح الأرض»، وزيادة الاقتراب من العالم الداخلي للمفارقات والأحلام الذي لا يملك الذهن منه فكاكًا. وكلٌّ من الحادثتَين تعالج مسألةَ تعدُّد الهوية، ومن المحاور الرئيسية فيهما — المصرح بها — محور زنا المحارم، وكلتاهما تُرجعنا إلى جوهر العالم الشرقي عند «نيرفال» وهو عالم أحلام قلقة سيالة تتكاثر إلى ما لا نهاية فتتجاوز إمكان التوفيق بينها أو القطع في معناها، أو اكتساب الطابع المادي. وعندما تكتمل الرحلة ويَصِل «نيرفال» إلى مالطة في طريق عودته إلى أوروبا، يُدرك أنه قد دخل «بلد البرد والعواصف، ولم يَعُد الشرق فعلًا يمثِّل لي إلا حلمًا من أحلام الصباح التي لن تلبث أن تُخلفها ضروبُ ملل النهار».25 ويتضمن كتاب «رحلة في الشرق» صفحات كثيرة نقلها حرفيًّا من كتاب «إدوارد لين» عن «المصريين المحدثين»، بل إن ما تتميز به هذه الصفحات من ثقة واضحة يذوب، فيما يبدو، داخل جو التحلل والتعفن الذي يمثل الشرق عند «نيرفال».
والمذكرة التي كتبها للرحلة تقدِّم لنا، في رأيي، نصَّين كاملَين يساعدانِنا على تفهُّم كيف قطع الشرق عنده كلَّ ما يربطه بما يُشبه التصور الاستشراقي للشرق، حتى ولو كان عمله يعتمد إلى حدٍّ ما على الاستشراق. ففي الأول تعبير عن جهد شهيته لاستيعاب الخبرة والذاكرة دون تمييز، فهو يقول: «أحس بالحاجة إلى استيعاب الطبيعة كلها (الأجنبيات من النساء) تذكيرًا لي بأنني قد عشت هناك.» والثاني يفصل القول قليلًا في معنى الأول: «الأحلام والحمق … رغبة الشرق. إن أوروبا تصعد، والحلم يتحقق … فيها هي. لقد فررت منها، ولقد فقدتها … وعاء الشرق»؛26 أي إن الشرق يرمز لسعي «نيرفال» وراء الحلم، والمرأة الهاربة تشغل موقعًا رئيسيًّا فيه، سواء كان ذلك باعتبارها رمزًا للرغبة أم للفقدان. وتعبير «نيرفال» الأخير «وعاء الشرق» قد يشير، في غموضه، إما إلى المرأة باعتبارها الوعاء الذي فيه يُحمل الشرق، أو وعاء «نيرفال» الخاص للشرق، وهو الذي كتبه نثرًا، أي «رحلة في الشرق». وفي الحالين يجعل الشرق مرادفًا للغياب الذي يذكره به.

هذا وإلا فكيف نفسِّر لجوء الرحلة — وهي ثمرة قريحة أصيلة فردية إلى حدٍّ بعيد — إلى الكسل الذي يتبدَّى في اقتطاف فقرات مطولة من كتاب «إدوارد لين»، وإدراجها في النص دون أدنى اعتراف بأنها مقتبسة، فكأنما كانت تمثل الوصف الذي يقدِّمه «نيرفال» نفسه للشرق؟ وكأنما عجز «نيرفال» عن العثور على واقع ثابت للشرق في بحثه عنه، فأراد أن يضع النظام المنهجي لإعادة تقديمه للشرق، باللجوء إلى السلطة المستعارة لنص استشراقي معتمد. ولقد ظلت الأرض «ميتة» بعد رحلته، وعلى الرغم من الصور البارعة التي تجسِّد ذاته، وإن كانت ممزقة متفرقة في الرحلة، فقد استمرت الذات تشعر أنها مخدرة ومنهكة دون تغيير، ومن ثَم فإن استرجاع صورة الشرق كان يضعها، فيما يبدو، في إطار سلبي، لا تجد فيه وعاءً سوى وعاء القصص التي أخفقت، والروايات التاريخية المضطربة، والنقل المباشر لبعض نصوص الباحثين. ولكن «نيرفال» لم يحاول، على الأقل، أن يُنقذ مشروعه بالاستسلام الكامل للمخططات الفرنسية التي تستهدف الشرق، وإن كان قد لجأ إلى الاستشراق في إقامة بعض حججه.

وعلى العكس من رؤية «نيرفال» السلبية لشرق أُفرغ مما فيه، تتميز رؤية «فلوبير» بالتجسيد البارز؛ فمذكرات رحلته وخطاباته تكشف عن رجل يتحرَّى الدقة في رواية الأحداث والحديث عن الأشخاص والأماكن، مستمتعًا بغرائبها، دون أن يحاول قط أن يختزل المتناقضات التي تعرض له. فاهتمامه فيما يكتب (أو ربما لأنه يكتب) ينصبُّ على ما هو لافت للنظر، بعد ترجمته إلى عبارات مصوغة بوعي ودقة مثل «النقوش وزَرْق الطيور هما وحدهما اللذان يشيران إلى وجود حياة في مصر».27 وذوقه يميل إلى كلِّ ما يمثِّل «انحرافًا»، وكثيرًا ما يتخذ ذلك صورة تجمع بين الحيوانية المفرطة التي قد تصل حتى إلى حدِّ البشاعة الغريبة، وبين الرهافة القصوى والفكرية أحيانًا. ولكن «فلوبير» لم يكن يقتصر على مجرد «ملاحظة» ذلك النوع الخاص من الانحراف، بل كان يدرسه حتى أصبح يمثِّل عنصرًا أساسيًّا من عناصر قصصه الروائية. ونحن نرى أن ألوان التضاد المألوفة، أو حالات ازدواج المعنى — وهو التعبير الذي يُطلقه عليها «هاري ليفين»، التي تنتشر في جنبات كتابة «فلوبير» — بين الجسم والعقل، وبين سالوميه والقديس «يوحنا»، وبين «سلامبو» والقديس «أنطوني»28 — تجد تبريرًا لصحتها فيما رآه في الشرق، وفيما استطاع أن يراه، بفضل تعليمه الانتقائي، من مشاركة بين المعرفة والفظاظة الجسدية. ولقد وقف في صعيد مصر مأخوذًا يتأمل الفن المصري القديم، ويعجب لما يتسم به من تكلُّف وفسق متعمد، متسائلًا «وإذن فقد عُرفت الصور الفاحشة في تلك الأزمان السحيقة؟» وأما قدرة الشرق على الإجابة فعلًا عن الأسئلة التي شغلته، والتي فاقَت حدود الأسئلة التي يطرحها الشرق فتتضح في الفقرة التالية:
تسألينني [أي والدة فلوبير] عمَّا إذا كان الشرق قد حقق الصورة التي تخيلتها له، وأجيبك إنه حققها، بل وحقق ما يزيد عليها؛ إذ يمتد إلى ما يتجاوز كثيرًا تلك الصورة الضيقة النطاق التي كنت أتخيلها له. لقد وجدت الصور المرسومة بوضوح لكل ما كان غائمًا مبهمًا في ذهني. لقد حلَّت الحقائق محلَّ الافتراضات، وبدرجة متميزة إلى الحد الذي كان كثيرًا ما يجعلني أحسُّ كأنني لاقيتُ فجأةً أحلامًا قديمة طواها النسيان.29
والواقع أن عمل فلوبير يتسم بدرجة من التركيب والاتساع تجعل أيَّ وصف لكتابته عن الشرق تبدو عامةً إلى أقصى الحدود وناقصة لا تكتمل أبدًا. ومع ذلك، ففي السياق الذي أنشأه الكُتَّاب الآخرون عن الشرق، يبرز عددٌ معين من الملامح الرئيسية للاستشراق عند «فلوبير» بحيث يمكن وصفها دون تجنٍّ أو تجاوز. فإذا سلمنا بالفوارق بين الكتابة الشخصية الصريحة (كالرسائل، ومذكرات الرحلات، وما يسجله الكاتب في مفكرته اليومية) وبين الكتابة الجمالية الرسمية (الروايات والحكايات) وأخذنا هذه الفوارق في اعتبارنا، فسوف نستطيع أن نقول إن المنظور الشرقي عند «فلوبير» يضرب بجذوره في بحث متجه إلى الشرق وإلى الجنوب عن «رؤيا بديلة»، ويعني ذلك (كما يقول هاري ليفين) «الألوان الزاهية، على عكس المسحة اللونية الرمادية للمناظر الريفية في فرنسا وكان يعني المشاهد المثيرة بدلًا من رتابة العادات اليومية، ويعني كلَّ ما يتسم بالغموض الدائم أبدًا بدلًا مما هو مألوف زادت أُلْفتُه عن الحد».30 ولكن «فلوبير» عندما زار الشرق فعلًا راعه وَهَنُ شيخوخته وتقدُّمه في السن. وهكذا، فإن استشراق «فلوبير»، مثل كل استشراق آخر، كان يؤمن بالإحياء وتجديد الشباب، فكان يحسُّ أن عليه هو أن يعيد الحياة إلى الشرق وعليه أن يقدِّمه لنفسه ولقرائه، وكانت خبرته بالشرق في الكتب وعلى الطبيعة، واللغة الخاصة بتلك الخبرة، هي المكلفة بإنجاز هذه المهمة. ولذلك كانت رواياته عن الشرق بمثابة إعادة بناء تاريخي وعلمي مفصَّل. فمدينة قرطاجنة في رواية سلامبو، وجميع التصورات الصادرة من الخيال المحموم للقديس أنطوني، من الثمار الأصيلة لقراءات «فلوبير» الواسعة النطاق في المصادر (الغربية بصفة خاصة) عمَّا في الشرق من أديان وفنون حربية وطقوس ومجتمعات.
ويتبقى في العمل «الجمالي» الرسمي ذكريات أسفاره في الشرق، إلى جانب الدلائل على قراءات «فلوبير» النهمة ومراجعته للنصوص وتنقيحها. وتقول «مكتبة الأفكار الشائعة» إن المستشرق «رجل قام برحلات كثيرة»31 وإن كان «فلوبير» يختلف عن معظم الرحالة الآخرين في أنه انتفع برحلاته انتفاعًا عبقريًّا. فمعظم خبراته مقدَّم إلينا في قالب مسرحي؛ إذ لم يكن اهتمامه يقتصر على مضمون ما يراه بل كان يتعدَّى ذلك — مثل «رينان» — إلى أسلوب رؤيته له، أو الأسلوب الذي دائمًا ما يتخذه الشرق في تقديم نفسه، فيما يبدو، إليه وأحيانًا ما يكون هذا الأسلوب بشعًا، ولكنه دائمًا جذاب، و«فلوبير» هو أفضل جمهور يشاهده:
… مستشفى قصر العيني. حسنة النظام والصيانة. من عمل «كلوت بك»، ما زلت تشعر بوجود لمساته. حالات فظيعة من مرض الزهري. في عنبر مماليك عباس كثيرون مصابون في منطقة الشرج. عندما أشار لهم الطبيب قاموا جميعًا فوقفوا على سررهم وفكوا أحزمة سراويلهم (كان ذلك يُشبه تدريبًا في الجيش) وفتحوا بأصابعهم منطقة الشرج ليُظهروا ما بها من قرح. أقماع زهرية ضخمة. كان في شرج أحدهم بعض الشعر النامي. وكان قضيب أحد كبار السن قد انسلخ جلده تمامًا. أجفلتُ من رائحة العفونة. وهذا كسيح، تقوست يداه للخلف، وطالت أظفاره حتى صارت كالمخالب، وكنت تستطيع أن ترى بناء عظام جسده بارزة، واضحةً وضوح الهيكل العظمي، وكان سائر جسده أيضًا نحيفًا إلى درجة لا تُتخيل، وكانت تحيط برأسه دوائر من الجذام الضارب إلى البياض.
غرفة التشريح … على المنضدة جثة شخص عربي مفتوحة؛ شعر أسود جميل32

وترتبط التفاصيل البشعة في هذا المشهد بمشاهد كثيرة في روايات «فلوبير»، وهي التي يقدم إلينا فيها المرض كأنما يعرضه في غرفة العمليات الجراحية. ويذكرنا افتنانه بالتشريح والجمال، مثلًا، بالمشهد الختامي من رواية «سلامبو»، والذي يصل إلى ذروته بوفاة «ماتو» وما يحيطها من مراسم. ففي أمثال هذه المشاهد يقمع تمامًا مشاعر النفور أو التعاطف، فالعبرة فيها بتقديم التفاصيل الدقيقة.

وأما أشهر اللحظات في أسفار «فلوبير» في الشرق فتتعلق بالسيدة كشك هانم، وهي راقصة مصرية ذائعة الصيت، وغانية قابلها في وادي حلفا. وكان قد قرأ في كتاب «إدوارد لين» عن «العوالم» و«الخولات»، أي محترفي الرقص من النساء والأولاد على الترتيب، ولكن خياله لا خيال «إدوارد لين» هو الذي استطاع أن يدرك على الفور، وأن يتمتع كذلك، بالمفارقة التي تكاد تكون ميتافيزيقية، والتي تتسم بها حرفة «العالمة» ومعني اسمها (وقد عاد جوزيف كونراد فكرر ملاحظة فلوبير في روايته النصر عندما جعل بطلة الرواية وعازفة الموسيقى التي تسمى «عالمة» ذات جاذبية لا تقاوم وذات خطر على أكسيل هيست). والاسم بالعربية يعني امرأة على علم. وكان اللقب يمنح في المجتمع المصري المحافظ في القرن الثامن عشر للنساء من منشدات الشعر المتعلمات (العالمات). وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كان اللقب يستعمل كنوع من ألقاب الحرفة التي تطلق على الراقصات اللاتي كنَّ مومسات أيضًا، وهو ما كانته كشك هانم، وقد شاهدها «فلوبير» وهي تؤدي رقصة «النحلة» قبل مضاجعتها. كانت لا شك هي النموذج الأولى للعديد من الشخصيات النسائية في رواياته، في «عِلْمها» بالفنون الحسية وإحكامها لها، ورقَّتها، وكذلك (كما يقول فلوبير) فظاظتها الساذجة. وأما ما أحبه فيها بصفة خاصة فكان أنها لا تطالبه بشيء على الإطلاق، فيما يبدو، وإن كانت «الرائحة المقززة» للبقِّ في سريرها تختلط اختلاطًا ساحرًا «بأريج بشرتها التي كانت تقطر بعبير خشب الصندل» وبعد الانتهاء من رحلته كان قد كتب إلى «لويز كوليه» رسالةً يُطمئنها فيها قائلًا إن «المرأة الشرقية لا تعدو كونها آلة، فهي لا تفرق بين رجل وآخر.» وهكذا فإن النزعة الجنسية الصامتة التي لا تُختزل عند كشك هانم قد سمحت لذهن «فلوبير» أن يشطح في تأملات سيطرت عليه وتسلطت تسلُّطًا يذكرنا إلى حد ما بموقف «ديلورييه وفريديك مورو» في نهاية رواية التربية العاطفية:

أما أنا فلم يكد يغمض لي جفن. كنت أتأمل تلك المخلوقة الجميلة النائمة (كانت تغطُّ في سُباتها وقد ألقَت رأسها على ذراعي، ودسستُ أصبعي السبابة تحت قلادتها)، وتحولت ليلتي إلى حلم يقظة طويل لا نهاية لعمقه، وكان ذلك سبب بقائي. شرد فكري في الليالي التي قضيتها في بيوت الدعارة في باريس، فعادت إليَّ سلسلة كاملة من الذكريات القديمة، وفكرت فيها، وفي رقصها، وفي صوتها وهي تغنِّي أغانيَ لم تكن تعني شيئًا بل ولم أكن أستطيع تمييز ألفاظها عن بعضها البعض.33
كانت المرأة الشرقية تمثل مناسبة وفرصة لتأملات «فلوبير»: لقد سحره اكتفاؤها الذاتي، ولا مبالاتها العاطفية، وكذلك ما سمحت له بالتفكير فيه وهي راقدة إلى جواره. كانت كشك هانم لا تمثل المرأة بقدر ما كانت تمثل الأنوثة الباهرة وإن كانت لا تعبر عن نفسها بلغة الألفاظ، وهكذا أصبحت النموذج الأوَّلي الذي بنى عليه «فلوبير» شخصيتَي سلامبو وسالوميه، وكذلك جميع صور الإغراء الجسدي الأنثوي الذي تعرَّضت له شخصية القديس «أنطوني» لديه. كان يمكنها أن تقول — لو استطاعت الكلام — ما قالَته ملكة سبأ (التي رقصت أيضًا رقصة «النحلة»): «لست امرأة، بل أنا عالم (كامل).»34 وإذا نظرنا إليها من زاوية أخرى وجدنا أن كشك هانم رمز مقلق للخصب، وأنها «شرقية» بصورة خاصة في طابعها الأنثوي الفياض الذي لا تبدو له حدود. ومسكنها بالقرب من أعالي نهر النيل يشغل موقعًا يُشبه من الناحية البنيوية المكانَ الذي أُخفيَ فيه لثام تانيت — الربَّة التي توصف بأنها ذات خصب جامع — في رواية سلامبو.35 ومع ذلك فإن كشك هانم، مثل تانيت وسالوميه وسلامبو، كُتب عليها أن تظل عاقرًا، تنشر الفساد، وليس لها ذرية. ونحن نستشفُّ درجةَ تعميقها، هي والعالم الشرقي الذي تعيش فيه، لإحساس «فلوبير» الشخص بالعقم من الفقرة التالية:
لدينا فرقة موسيقية كبيرة، لوحة ألوان زاخرة، وموارد منوعة. وأفانين الصنعة والتملص التي نعرفها ربما كانت تزيد على كل ما سبقت معرفته. لا! إن ما نفتقده هو المبدأ الجوهري، روح الشيء، فكرة الموضوع نفسها. إننا نسجل مذكرات، ونقوم برحلات: خواء! خواء! نصبح باحثين، وعلماء آثار، وأطباء، وإسكافيين، وأصحاب ذوق رفيع. ما فائدة ذلك كله؟ أين القلب، أين الحيوية، أين العصارة؟ من أين نبدأ؟ وإلى أين نمضي؟ إننا نُحسن فنَّ المصِّ ونلعب الكثير من ألعاب اللسان، ونمارس الغَزَل والملاطفة ساعات، ولكن الأمر الحقيقي غائب! قذف المني، إنجاب طفل!36

ويرتبط الشرق بالجنس ارتباطًا لا تكاد تختلف صوره في جميع «الخبرات الشرقية» عند «فلوبير»، سواء كانت مثيرةً أو مخيبة للآمال، ولم تكن إقامة هذا الارتباط عند «فلوبير» أول مثال أو أشد الأمثلة تطرفًا على تلك الفكرة الملحَّة دائمًا، وبصورة بارزة، في المواقف الغربية تجاه الشرق. والواقع أن الفكرة نفسها لا تتغير، وبصورة تُثير الدهشة، وإن كان من المحتمل أن عبقرية «فلوبير» قد بذلت جهودًا تفوق كلَّ ما عداها لإضفاء الوقار الفني عليها، ونحن لا نستطيع القطع في السبب الذي يجعل الشرق يُوحي، حتى الآن، لا بالخصب فحسب بل بالوعد (والتهديد) الجنسي، وبالنزعة الحسية التي لا تكل أبدًا، وبالرغبة غير المحدودة، وطاقات التوليد العميقة، وليس هذا، للأسف، مما يقع في نطاق تحليلي هنا، على الرغم من تواتر الإشارة إلى ظهوره. ومع ذلك فلا بد من الإقرار بأهميته باعتبار أنه قد أدَّى إلى ردود فعل مركَّبة، بل إنه أدَّى أحيانًا إلى «الكشف عن الذات» كشفًا مخيفًا عند المستشرقين، وكان «فلوبير» يمثِّل نموذجًا طريفًا لهذا الموقف.

لقد جعله الشرق يرجع إلى موارده الإنسانية والتقنية؛ إذ إن الشرق لم يستجب، مثلما لم تستجب كشك هانم، لوجوده. كان يقف، مثل «إدوارد لين» من قبله، أمام حياة الشرق المتدفقة، فيشعر بأنه يعجز عن دخول المشهد الذي يراه حتى ينتميَ إليه، وربما كان يُخامره أيضًا شعور (ولَّده في نفسه) بأنه ليس على استعداد لذلك. وكانت هذه، بطبيعة الحال، مشكلة «فلوبير» دائمًا؛ إذ كانت المشكلة قائمة قبل أن يذهب إلى الشرق وظلت قائمة بعد الزيارة. وقد اعترف «فلوبير» بهذه الصعوبة، وكان «الترياق» الذي توصل إليه في كتاباته (خصوصًا في عمل شرقي مثل إغراء القديس أنطوان) هو تأكيد شكل العرض الموسوعي للمادة على حساب المشاركة الإنسانية في الحياة. والحق أن القديس «أنطوان» ليس سوى رجل لا يزيد الواقعُ في نظره على سلسلة من الكتب، والمشاهد، والمناظر الخلابة، التي تتكشف في غواية أمام عينَيه وعلى مبعدة منه. والنطاق الهائل للعمل الذي اكتسبه «فلوبير» مبنيٌّ في صورة تُشبه — بتعبير «ميشيل فوكوه» البالغ الدلالة — مكتبة مسرحية خيالية تستعرضها عين الناسك الشاخصة،37 ويستبقي العرض من صورته ذكريات «فلوبير» عن مستشفى قصر العيني (التدريب العسكري لمرضى الزهري) ورقصة كشك هانم. ولكن ما يتصل بالموضوع اتصالًا أوثق هو أن القديس «أنطوني» رجلٌ أقسم على عدم الزواج، وضروب الغواية كلها — بالنسبة له — جنسية في المقام الأول في حالته. وبعد عرض جميع ألوان الفتنة الخطرة عليه، يُتاح له آخرَ الأمر أن يُلقيَ نظرةً سريعة على «العمليات» البيولوجية للحياة، وهو يُصاب بالهذيان حين يتمكن من رؤية الحياة وهي تُولد أمامه، وهو المشهد الذي كان «فلوبير» نفسه يشعر بالعجز إزاءه في أثناء إقامته في الشرق. لكنه ما دام «أنطوني» يهذي، فالكاتب يقصد أن يُقيم الموقف على مفارقة ساخرة؛ إذ يقتصر ما يناله في النهاية على الرغبة في أن يصبح مادة، أن يصبح حياة، ولكنها لا تزيد في أفضل حالاتها على رغبة وحسب، ونحن لا نستطيع أن نعرف إذا كانت هذه الرغبة قابلةً للتحقيق أو للإشباع أم لا.
وعلى الرغم مما كان يتميز به ذكاء «فلوبير» من حيوية، وبالرغم من قدرته الجبارة على الاستيعاب الفكري، فلقد كان يشعر في الشرق أولًا أنه «كلما زاد تركيزك على «التفاصيل» تضاءل إدراكُك للصورة الكلية»، وأنه من طبيعة الشرق، ثانيًا، أن «تنضمَّ أجزاءُ الصورة فيه إلى بعضها البعض دون تدخُّلٍ خارجي».38 ومن شأن ذلك، في أفضل الأحوال، أن يُخرج لنا شكلًا جذابَ المظهر رائعًا، لكنه يظل ممتنعًا على المشاركة الكاملة فيه من جانب أبناء الغرب. وكان ذلك، على أحد المستويات، يمثِّل محنةً شخصية ﻟ «فلوبير»، وقد ابتدع الوسائل اللازمة لمعالجتها، وسبقت لنا مناقشة بعض هذه الوسائل. ولكن الصعوبة كانت، على مستوى أعم وأشمل، صعوبةً معرفية، وكان مبحث الاستشراق موجودًا، بطبيعة الحال، لتذليل هذه الصعوبة. وفي لحظة من اللحظات في أثناء جولة «فلوبير» الشرقية، نظر فيما يمكن أن يؤديَ إليه التحدي المعرفي. كان يقول إن العقل قد «يضل ويتوه في علم الآثار» إذا كان المرء يفتقر إلى ما كان «فلوبير» يسميه الروح والأسلوب، وكان يقصد بذلك الإشارة إلى الولوع المنظم بالآثار القديمة، وهو الذي يؤدي إلى تنسيق كل ما هو عجيب وغريب وتحويله إلى معاجم وقواعد، ثم إلى قوالب نمطية لفظية آخر الأمر من النوع الذي سخر منه بعد ذلك في معجم الأفكار الشائعة. ومن شأن الخضوع لتأثير هذا الموقف تحويل العالم إلى جهاز «منظم تنظيمًا يُشبه تنظيم إحدى الكليات الجامعية، فيسُنُّ المعلمون القوانين، ويلبس كلُّ مَن فيها الزيَّ الجامعي الموحد».39 وفي مقابل مثل ذلك النظام المفروض كان لا شك يشعر بالأفضلية المطلقة لمعالجاته الخاصة للمادة الغربية، وخصوصًا المادة الشرقية التي خبرها بنفسه وقرأ عنها سنوات طويلة. كان يرى أن هذه «المعالجات» تُتيح على الأقل إحساسًا «بالحضور المباشر»، وتُتيح للقارئ إعمال خياله وطاقته الفطرية على التمييز، وأما في مؤلفات علم الآثار فلن تجد إلا «العلم» أو المعلومات ولا شيء سواها. وكان «فلوبير» ملمًّا بالعلم المنظم وثماره ونتائجه إلمامًا يفوق إلمامَ معظم الروائيِّين الآخرين: وتبدو هذه الثمار واضحةً جلية في مصائب الشخصيتَين: بوفار وبيوكشيه (في رواية «فلوبير» التي تحمل اسمَيهما) وإن كانت ظاهرة أيضًا، وبشكل فكاهي، في بعض المجالات الأخرى مثل الاستشراق، وهو الذي تنتمي مواقفه النصية إلى عالم الأفكار الشائعة. وهكذا فإن على المرء أن يختار إما أن يبنيَ العالم بحيوية (إنسانية) وأسلوب صادق، وإما أن ينقلها أو ينسخها دون كللٍ وفقًا لقواعد الإجراءات الأكاديمية «غير الشخصية». والمرء يعترف في كلتا الحالين اعترافًا صريحًا بأن الشرق يعتبر عالمًا قائمًا في مكان آخر، وأنه منفصل عمَّا اعتدناه من ارتباطات ومشاعر وقِيَم في عالمنا نحن في الغرب.

ويقيم «فلوبير» في جميع رواياته رابطةً بين الشرق والتلهِّي بالخيالات الجنسية؛ فالسيدة «إما بوفاري» في رواية «مدام بوفاري» وفريدريك مورو في رواية «التربية العاطفية» يذوبان شوقًا إلى ما لا يتوافر لهما في حياتهما البرجوازية (أو الحافلة بالمنغصات)، وأما ما يدركان أنهما يريدانه فهو يعتاد أحلام يقظتهما بيسر وسهولة مغلَّفًا داخل صور نمطية شرقية: الحريم، والأميرات والأمراء، والعبيد، والنقاب، والراقصين والراقصات، وألوان «الشربات» وزيوت التعطير وما إلى ذلك. وذخيرة هذه الصور مألوفة، لا لأنها تُذكِّرنا فحسب برحلات «فلوبير» نفسه في الشرق وسيطرة الشرق على فكره، بل أيضًا، وإلى حدٍّ أبعد؛ لأنها تبيِّن بوضوح الارتباط القائم بين الشرق وبين الممارسة الحرة للجنس ومجونه. ولنا ولا شك أن نتبين أيضًا أن الجنس قد اكتسب صفة «المؤسسة» إلى درجة كبيرة حقًّا في أوروبا إبان تحوُّلها المتزايد إلى البرجوازية في القرن التاسع عشر، فمن ناحية لم نكن نرى ما يسمَّى «بالحرية» الجنسية، ومن ناحية أخرى كانت ممارسة الجنس في المجتمع تستتبع شبكة من الالتزامات القانونية والأخلاقية بل والسياسية والاقتصادية المفصلة، والتي كانت مرهقةً معوِّقةً دون جدال. ومثلما كانت شتى الممتلكات الاستعمارية مفيدة — بغض النظر تمامًا عن فائدتها الاقتصادية للحياة المدنية في أوروبا — باعتبارها المنفَى الذي يُرسَل إليه الأبناء العاصون، والمواطنون «الزائدون عن الحاجة» من المنحرفين والفقراء وغيرهم من غير المرغوب فيهم؛ كان الشرق هو المكان الذي يطلب فيه المرء خبرة جنسية لا تتوافر في أوروبا. ولا نكاد نرى كاتبًا أوروبيًّا كتب عن الشرق أو سافر إليه في الفترة التي تلَت عام ١٨٠٠م يعفي نفسه من هذا الطلب، وما «فلوبير ونيرفال وريتشارد بيرتون» (الذي كان يوصف بالانحطاط لهذا السبب) و«إدوارد لين» إلا أشهر الأسماء في هذا الصدد. وتخطر على بالنا من أبناء القرن العشرين أسماء «أندريه جيد، وجوزيف كونراد، وسومرست موم»، وعشرات آخرين. وكان ما يطلبونه في أحيان كثيرة — محقِّين في ظني — هو نوع مختلف من الخبرة الجنسية، وربما كانت أكثرَ مجونًا وأقل ارتباطًا بالإثم. ولكن هذا المطلب نفسه، إذا سعى الكثير إلى تحقيقه فتكررت صورته، قد يصبح (بل وأصبح فعلًا) يخضع لنظم معينة ويتخذ شكلًا موحَّدًا مثل العلم نفسه. وعلى مرِّ الزمن أصبحت «الخبرات الجنسية الشرقية» سلعةً «قياسية» مثل أيِّ سلعة أخرى متاحة في الثقافة الجماهيرية، وكانت نتيجة ذلك أن غدا في وسع القرَّاء والكُتَّاب أن يحصلوا عليها إذا أرادوا دون أن يذهبوا بالضرورة إلى الشرق.

والحقيقة التي لا شك فيها هي أن «صناعة المعرفة» — من النوع الذي كان «فلوبير» يخشاه — ازدهرت في إنجلترا وسائر أوروبا، فكانت الكتب تُنشر بأعداد كبيرة، وانتشرت في كل مكان هيئات ومؤسسات النشر والدعاية لها. وقد أشار مؤرخو العلم الطبيعي والمعارف العامة إلى أن تنظيم المجالات العلمية والمعرفية الذي شهده القرن التاسع عشر كان يجمع بين الصرامة والشمول. وأصبح البحث العلمي نشاطًا معتادًا يُمارَس بانتظام، ووُضعَت النظم الخاصة بتبادل المعلومات، إلى جانب اتفاق الآراء بشأن الصيغ المناسبة للبحث ونتائجه.40 وأصبح الجهاز الذي «يخدم» الدراسات الشرقية جزءًا لا يتجزَّأ من هذا المشهد الجديد، ولا شك أن «فلوبير» كان يعني ذلك أيضًا حين أعلن أن «كلَّ شيء سوف يرتدي الزيَّ الرسمي»! لم يَعُد المستشرق هاويًا متحمسًا موهوبًا، فإذا كان كذلك فسوف يجد العنت في اكتساب احترام الناس له باعتباره باحثًا جادًّا. أما لفظ المستشرق الحق فكان يُطلَق على خريج الجامعة الذي تخصص في الدراسات الشرقية (إذ كانت كل جامعة أوروبية كبرى قد خصصت منهجًا دراسيًّا كاملًا في فرع من فروع المباحث الاستشراقية بحلول عام ١٩٥٠م)، كما كان لفظ المستشرق يعني الحصول على معونة مالية لتغطية نفقات السفر (ربما من إحدى الجمعيات الآسيوية، أو من صندوق مخصص للكشوف الجغرافية، أو منحة حكومية) كما كان يعني نشر أعماله في صورة معتمدة (ربما تحمل طابع إحدى الجمعيات العلمية أو أحد صناديق الترجمة الشرقية). وكان مثل هذا «الاعتماد» الموحد الذي اكتساه عمل البحوث الاستشراقية، لا الشهادة الشخصية أو الانطباعات الذاتية، هو الذي يعني العلم بالمفهوم الحديث، سواء كان ذلك في أوساط الباحثين المستشرقين أو بالنسبة للجمهور بصفة عامة.

وإلى جانب هذا التنظيم الثقيل الوطأة «للشئون» الشرقية نجد الزيادة المتسارعة للاهتمام الذي كانت «القوى» الأوروبية (وهو التعبير الذي يشير إلى الإمبراطوريات الأوروبية) تُبديه بالشرق، وبالشام خصوصًا. إذ أصبحت «المسألة الشرقية» تحوم بوضوح متزايد على آفاق البحر المتوسط الأوروبية منذ معاهدة «شَنَك» بين الدولة العثمانية وبريطانيا العظمى في عام ١٨٠٦م. صحيح أن مصالح بريطانيا في الشرق كانت أكبر من مصالح فرنسا فيه، ولكننا يجب ألَّا ننسى تحركاتِ روسيا في الشرق (إذ استولت على سمرقند وبخارى في عام ١٨٦٨م، وكان الخط الحديدي يمتد بانتظام عبر منطقة بحر قزوين) ولا أن ننسى تحركات ألمانيا والإمبراطورية النمسوية المجرية. ولكن تدخُّل فرنسا في شمال أفريقيا لم يكن يمثل العنصر الوحيد فيما يسمَّى بسياستها «الإسلامية». ففي عام ١٨٦٠م، وأثناء المصادمات التي وقعت بين الدروز والموارنة في لبنان (والتي كان لامارتين ونيرفال قد تنبآ بها من قبل) أبدَت فرنسا مناصرتها للمسيحيِّين، وظاهرت إنجلترا الدروز؛ إذ كانت مسألة الأقليات تشغل مكانًا قريبًا من قلب السياسة الأوروبية في الشرق بصفة عامة، وكانت «القوى» الأوروبية تزعم أنها تحمي «مصالح» هذه الأقليات من اليهود، ومن المؤمنين بالأرثوذكسية اليونانية والروسية، والدروز، والجراكسة، والأرمن، والأكراد، وشتى الطوائف المسيحية الصغيرة، ثم وضعت لها خططًا خاصة، ومشروعات خاصة؛ الأمر الذي أدى إلى مزيج من الارتجال والبناء المحكم للسياسات الشرقية لهذه الدول.

وأنا لا أذكر هذه الأمور إلا من باب التذكير بما كان من تراكم «المصالح»، و«العلم» الرسمي، والضغوط المؤسسية، والتي كانت تمثِّل طبقات يعلو بعضها فوق بعض وتغطي الشرق باعتباره موضوعَ الدرس وأيضًا باعتباره منطقةً جغرافية في إبان النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بل إن أقل كتب الرحلات ضررًا في مظهرها — وكانت تُعَد بالمئات بعد منتصف القرن41 — كانت تساهم في تكثيف الوعي الجماهيري بالشرق، ونحن نجد خطًّا فاصلًا بارزًا يمتد فيميز بين ما خبره الحجاج الأفراد من مباهج، ومغامرات منوعة، وشهادات على ما صادفوه من الغرائب، في الشرق (وكان من بينهم بعض الرحالة الأمريكيين، منهم مارك توين وهيرمان ملفيل)42 وبين الروايات المرجعية التي سجلها الرحالة من الباحثين وأعضاء البعثات التبشيرية وموظفي الحكومة وغيرهم من الشهود الخبراء. وكان هذا الخط الفاصل يقوم بوضوح في ذهن «فلوبير»، ولا بد أنه كان يقوم أيضًا في وعيِ أيِّ فرد لم يكن لديه منظور بريء إلى الشرق باعتباره منطقة «استغلال» أدبي.

وكان الكُتَّاب الإنجليز بصفة عامة يتفوقون على الكُتَّاب الفرنسيِّين في وضوح إدراكهم لما قد يترتب على رحلات الحج إلى الشرق وصلابة هذا الإدراك. وكانت الهند من الثوابت الحقيقية القيِّمة في هذا الإدراك، ومن ثَم فقد اكتسبت جميع المناطق الواقعة بين البحر المتوسط والهند أهميةً كبرى بسبب الهند. وهكذا تشكَّلَت لدى الكُتَّاب الرومانسيِّين مثل «بايرون وسكوط» رؤية سياسية للشرق الأدنى، ووعي «قتالي» إلى حدٍّ بعيد بالصورة التي يجب أن تتخذها العلاقات بين الشرق وأوروبا. وقد يسَّر الحسُّ التاريخي ﻟ «سكوط» أن يجعل أحداث روايتَيه الطِّلسَّم، والكونت روبير الباريسي، تدور في فلسطين إبان الحملات الصليبية وفي بيزنطة في القرن الحادي عشر، على الترتيب، دون أن ينتقص في الوقت نفسه من تقديره السياسي الحذر للأسلوب الذي تتصرف به الدول في الخارج. وأما فشل رواية تانكريد التي كتبها «دزرائيلي» فنستطيع أن نعزوه بسهولة إلى معرفة مؤلفها معرفة ربما كانت أكبر مما ينبغي بشئون السياسة الشرقية وشبكة المصالح الخاصة بالمؤسسة الاجتماعية البريطانية. وهكذا فإن رغبة تانكريد الساذجة في أن يذهب إلى بيت المقدس سرعان ما تجعل «دزرائيلي» يتورط في وصف معقد إلى درجة مضحكة للأسلوب الذي يحاول به زعيمٌ قَبَليٌّ لبناني استغلال الدروز، والمسلمين، واليهود والأوروبيِّين لتحقيق مصالحه السياسية، وبنهاية الرواية يكون «المطلب» الشرقي الذي كان تانكريد يسعى لتحقيقه قد اختفى تقريبًا، بسبب عدم اشتمال رؤية «دزرائيلي» المادية لحقائق الواقع في الشرق على ما يغذو دوافع ذلك «الحاج» الهوائية إلى حد ما. بل إن «جورج إليوت» نفسها — وهي التي لم تَقُم قط بزيارة الشرق — لم تستطع الحفاظ على «المقابل اليهودي» لرحلة الحج الشرقية في دانييل ديروندا (١٨٧٦م) دون أن تحيد عن الحدث فتضل في شعاب الواقع البريطاني الذي كان له تأثيره الحاسم في «المشروع الشرقي».

وهكذا فحيثما كان «الموضوع» الشرقي الذي يتناوله الكاتب الإنجليزي يتجاوز الأسلوب أو الصفة الفنية أساسًا (على نحو ما نرى في الرباعيات لفتزجيرالد أو في مغامرات الحاج بابا الأصفهاني لجيمز موريير) كان الكاتب الإنجليزي يضطر إلى مواجهة مجموعة من الحقائق التي تقاوم خياله الفردي مقاومة شديدة. ولن نجد مؤلفات إنجليزية تعادل الأعمال الشرقية التي كتبها «شاتوبريان ولامارتين ونيرفال وفلوبير»، تمامًا مثلما كان المستشرقان الفرنسيان الأولان، من نظراء «إدوارد لين» — وهما «ساسي ورينان» — أكثر وعيًا منه إلى حدٍّ بعيد بدرجة مشاركتهما في «خلق» ما يكتبان عنه. فالشكل الذي اتخذه كتاب «إيوثن» الذي وضعه «كنجليك» (١٨٤٤م) وكتاب «بيرتون» قصة شخصية لرحلة حج إلى المدينة ومكة (١٨٥٥-١٨٥٦م) يتبع التسلسل الزمني بصورة صارمة ويسير فيه السرد في خط مستقيم، كأنما كان ما يصفه الكاتبان رحلة تسوُّق في سوق شرقية لا مغامرة. وقد حظيَ كتاب «كنجليك» بشهرة وشعبية لا يستحقهما؛ فهو «كتالوج» تافه لمشاعر «المركزية العرقية» التي يتباهى بها، وأوصاف عادية تبعث على الكلل والسأم لصورة الشرق في عيون الإنجليز. وغرضه الظاهري من كتابة الكتاب أن يُثبت أن الرحلة إلى الشرق مهمة في «تشكيل شخصيتك، أي هويتك ذاتها»، ولكن يتضح في الواقع أن هذا الغرض لا يكاد يتجاوز تأكيد معاداتك للسامية، وتأكيد كراهيتك للأجانب، والتعصب العنصري العام والشامل. إذ يقال لنا مثلًا إن كتاب «ألف وليلة وليلة» يتميز بقدر كبير من الحيوية والابتكار إلى الحد الذي يستحيل معه أن يكون من إبداع «مجرد شخص شرقي، وهو الذي يعتبر من زاوية الإبداع والخلق، شيئًا ميتًا وجافًّا، مومياء ذهنية». ورغم أن «كينجليك» يعترف في سعادة بأنه لا يعرف أيَّ لغة شرقية، فإن جهله لا يمنعه من إصدار التعميمات الجزافية عن الشرق، وعن ثقافته وعقليته ومجتمعه. وكثير من المواقف التي يعبر عنها من جديد مواقف «معتمدة» بطبيعة الحال، ولكن الغريب هو أن آراءه لا تكاد تتأثر بخبرة رؤيته الفعلية للشرق، بل كان اهتمامه — مثل اهتمام الكثيرين من الرحالة — بإعادة «تشكيل» ذاته وإعادة تشكيل الشرق («ميت وجاف – مومياء ذهنية»)؛ يفوق اهتمامه بمشاهدة ما هو موجود في الواقع. كان كلُّ كائن يصادفه يؤكد، وحسب إيمانه، أن أفضل حال للتعامل مع الشرقيِّين هي تخويفهم، وهل توجد أداة للتخويف أفضل من ذات غربية سائدة؟ وهو يتباهى — وهو في طريقه إلى السويس عبر الصحراء وحيدًا — بأنه يتمتع بالاكتفاء الذاتي وبالقوة، قائلًا «كنت هنا في هذه الصحراء الأفريقية، وكنت أنا نفسي، ولا أحد سواي، مسئولًا عن حياتي.»43 أي إن قيمة الشرق بالنسبة إليه تنحصر في غرضٍ تافهٍ نسبيًّا وهو أن يُمسك «كنجليك» بزمام نفسه.

ومثلما فعل «لامارتين» من قبل، كان «كنجليك» يعتبر، وهو مرتاح الضمير، أن وعيَه الفائقَ ووعيَ أمته شيءٌ واحد، ولكنه كان يختلف عن الفرنسي في أن الحكومة الإنجليزية كانت أقربَ إلى الاستقرار في سائر مناطق الشرق من الحكومة الفرنسية، ولو مؤقتًا. وقد رأى ذلك «فلوبير» بدقة متناهية:

يبدو لي شبه محال ألَّا تبسط إنجلترا سيادتها على مصر في غضون فترة قصيرة. فما زالت حشود جنودها تملأ عدن، وسوف يكون من أيسر الأمور على الجنود البريطانيِّين، حين يعبرون السويس، أن يصلوا فجأة إلى القاهرة، وسوف تَصِل الأنباء إلى فرنسا بعد أسبوعين فيدهش الجميع دهشة بالغة! تذكر نبوءتي: عند أول بادرة اضطراب في أوروبا سوف تستولي إنجلترا على مصر، وتستولي روسيا على القسطنطينية، وردًّا على ذلك سوف نتعرض نحن للمذابح في جبال سوريا.44

ورغم كلِّ ما تتباهَى به آراء «كنجليك» من «فردية»، فإنها تعبِّر عن الإرادة العامة والقومية للسيطرة على الشرق، و«ذات» الكاتب هي أداة التعبير عن تلك الإرادة؛ أي إنها لا تتحكم على الإطلاق في تلك الإرادة. ولا نجد في كتابته دليلًا على أنه حاول أن يبتدع رأيًا جديدًا في الشرق، فلا شيء في معرفته ولا في شخصيته يستطيع ذلك، وهذا هو الفارق الكبير بينه وبين «ريتشارد بيرتون». فبصفته رحالةً كان «بيرتون» مغامرًا حقيقيًّا، وبصفته باحثًا كان يستطيع الصمود أمام أيِّ مستشرق أكاديمي في أوروبا، وبصفته الشخصية، كان واعيًا كلَّ الوعي بضرورة منازلة أولئك المعلِّمين الذين يرتدون زيًّا فكريًّا واحدًا، ويُديرون الشئون الأوروبية. والمعرفة الأوروبية إدارة تتسم بالدقة في «تجهيل» أصحابها وبصرامة علمية كبيرة. وكل ما كتبه «بيرتون» يشهد بهذا الميل للنزال، ولكن احتقاره الصريح لخصومه يندر أن يتجلَّى في شيء أكثر مما يتجلَّى في تصديره لترجمته ﻟ «ألف ليلة وليلة». ويبدو أنه يجد متعةً طفولية خاصة في إثبات أن علمه يفوق علمَ أيِّ باحث محترف آخر، وأنه أصبح يحيط بتفاصيل تزيد عمَّا لديهم، وأنه يستطيع أن يعالج المادة معالجةً أشد ذكاء وكياسة ونُضرة.

ويشغل عمل «بيرتون» الذي يستند إلى خبرته الشخصية، كما ذكرت من قبل، موقعًا وسطًا بين أنواع الاستشراق التي يمثِّلها «إدوارد لين»، من ناحية، ويمثِّلها الكُتَّاب الفرنسيون الذين ناقشتهم من الناحية الأخرى. وقصصه الشرقية مبنية بناء رحلات الحج، وكذلك، في حالة كتابه «العودة لزيارة أرض مدين»، الحج مرة ثانية إلى مواقع تتسم أحيانًا بأهمية دينية، وأحيانًا أخرى بأهمية سياسية واقتصادية. وهو «حاضر» في هذه الأعمال بصفته الشخصية الرئيسية فيها، فهو يجمع بين كونه مركزًا للمغامرات الخيالية بل والمغرقة في شطط الخيال (مثل الكُتَّاب الفرنسيِّين) وبين كونه المُعَلِّقَ الثقة وابن الغرب «المنفصل» عمَّا يشرحه من أحوال المجتمع الشرقي وعاداته (مثل إدوارد لين). وقد أصاب «توماس أساد» في اعتباره الأول في سلسلة من الكُتَّاب الذين يتميزون بالفردية المتطرفة ممن قاموا في العصر الفكتوري برحلات إلى الشرق (والآخران في هذه السلسلة هما بلَنْت وداوتي). ويبني «أساد» نظريتَه على أساس المسافة التي تفصل أعمالَ هؤلاء الكُتَّاب من زاوية النبرة والذكاء عن أعمال أخرى مثل كتاب «أوستن ليارد»، وعنوانه: «مكتشفات في أطلال نينوى وبابل» (١٨٥١م)، والكتاب الشهير الذي كتبه «إليوت ووربيرتون» بعنوان: «الهلال والصليب» (١٨٤٤م)، وكتاب «روبرت كيرزون» بعنوان: «زيارة إلى أديار بلاد الشام» (١٨٤٩م) إلى جانب «عمل لا يشير إليه» وهو الكتاب المُسلِّي إلى حدٍّ ما الذي كتبه «ثاكري» بعنوان: «مذكرات رحلة من كورنهيل إلى القاهرة الرائعة» (١٨٤٥م).45 ولكن تركة «بيرتون» تتضمن من العناصر ما يزيد على الفردية قطعًا، والسبب على وجه الدقة هو أننا نجد في كتابته ما يمثل الصراع بين الفردية والإحساس بالتوحُّد القومي مع أوروبا (وخصوصًا مع إنجلترا) باعتبارها دولة ذات إمبراطورية في الشرق. ويشير «أساد» بحساسيته إلى أن «بيرتون» كان إمبرياليًّا، على الرغم من تعاطفه وارتباطه بالعرب، ولكن الأهم من ذلك هو أن «بيرتون» كان يرى نفسه في صورة تجمع بين المتمرد ضد السلطة (ومن هنا جاء تعاطفه مع الشرق إلى درجة التوحُّد باعتبار الشرق مكان التحرر من السلطة «المعنوية» للعصر الفكتوري في إنجلترا) وبين كونه قادرًا على تمثيل تلك السلطة في الشرق. والواقع أن أسلوب التعايش ما بين هذين الدورَين المتضادَّين اللذَين كان يرى أنه يقوم بهما هو الذي يُثير اهتمامنا.

وتنحصر المشكلة آخر الأمر في مشكلة المعرفة بالشرق، وهو ما يدفعنا إلى النظر في مذهب «بيرتون» الاستشراقي ختامًا لحديثنا عن أبنية الاستشراق وإعادة بنائها في معظم القرن التاسع عشر. كان «بيرتون» الرحالة المغامر يرى أنه يشارك الناس الذين يعيش في أرضهم حياتهم؛ إذ نجح نجاحًا فاق نجاح «ت. أ. لورنس» في أن يُصبح شرقيًّا؛ فلم يقتصر على امتلاك ناصية الحديث باللغة العربية، بل استطاع النفاذ إلى قلب الإسلام، وتمكَّن بعد تنكُّره في ثوب هندي مسلم من أداء شعائر الحج في مكة. ولكن أغرب خصيصة من خصائص «بيرتون»، في اعتقادي، كانت إحاطته الخارقة بمدى خضوع الحياة الإنسانية في المجتمع للقواعد والأعراف. وتكشف معلوماته المستفيضة عن الشرق، التي تتجلَّى في كل صفحة كتبها، عن أنه كان يعرف أن الشرق بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة، كانَا نظامَين من نظم المعلومات والسلوك والعقيدة، وأن كونَ الفرد شرقيًّا أو مسلمًا معناه معرفة أشياء معينة وبأسلوب معين، وأن هذه كانت تخضع، بطبيعة الحال، للتاريخ وللجغرافيا ولتطور المجتمع في ظروف خاصة به. وهكذا فإن رواياته عن أسفاره في الشرق تكشف لنا عن وعيٍ يدرك هذه الأشياء ويستطيع إدارة دفة القصة من خلالها، ولم يكن بوسع رجل لا يتمتع بمستوى إحاطة «بيرتون» بالعربية والإسلام أن يذهب إلى المدى الذي ذهب إليه فيصبح فعلًا حاجًّا في مكة والمدينة. وهكذا فإن ما نقرؤه في نثره قصةُ وعيٍ يشقُّ طريقه في وسط ثقافة أجنبية بفضل نجاحه في استيعاب نظم معلوماتها وسلوكها. وترجع حرية «بيرتون» إلى أنه استطاع التحرر إلى درجة كافية من أصوله الأوروبية حتى يستطيع الحياة بصفته شرقيًّا. وكل مشهد في كتاب «رحلة الحج» يكشف لنا عن نجاحه في التغلب على العقبات التي تُواجهه، وهو أجنبي في مكان غريب. وقد استطاع ذلك بسبب إلمامه بالمعرفة الكافية عن مجتمع أجنبي معين، تحقيقًا لهذا الغرض.

ونحن لا نشعر في أيِّ كتابة كتبها كاتبٌ عن الشرق بقدر ما نشعر به عند «بيرتون» من أن التعميمات التي يوردها عن الشخصية الشرقية — مثل الصفحات الخاصة بفكرة «الكيف» عند العربي، أو باستعداد العقل الشرقي للتعلم (وهي الصفحات التي قصد بها بوضوح تفنيد مزاعم ماكولي الساذجة)46 — ثمرة المعرفة التي اكتسبها شخصٌ عاش في الشرق، وخبرَه بنفسه، وحاول صادقًا رؤية الحياة الشرقية من وجهة نظر رجل استغرق فيها. ولكننا نلمح أمرًا لا يبتعد قط عن السطح في نثر «بيرتون»، ألَا وهو ما يشعه من التأكيد والثقة والسيادة على جميع تعقيدات الحياة الشرقية. فهو يقصد بكل حاشية من حواشي كتبه، سواء في رحلة الحج أو في ترجمته ﻟ «ألف ليلة وليلة» (وهذا يصدق على «مقاله الختامي» لها)47 بأن تكون شهادة على انتصاره على نظام المعرفة الشرقية، الشائن أحيانًا، وهو النظام الذي أحكم الإحاطة به بنفسه. إذ إن «بيرتون» لا يقدِّم إلينا الشرق مباشرة حتى في نثره، بل يقدم إلينا كلَّ شيء من خلال «تدخلاته» التي تنمُّ عن معرفة مستفيضة (وكثيرًا ما تكون بذيئة)، وهي التي تذكِّرنا مرارًا وتكرارًا بأنه قد تكفل «بإدارة» الحياة الشرقية تحقيقًا لأغراض قصته. وهذه الحقيقة — فهي حقيقة في كتاب «رحلة الحج» — هي التي ترفع من وعي «بيرتون» إلى موقع السيادة على الشرق. وفي هذا الموقع تلتقي فرديته، بل وتمتزج حقًّا، بصوت الإمبراطورية التي تمثِّل في ذاتها نظامًا للقواعد والأعراف والعادات المعرفية العلمية. وهكذا فعندما يقول لنا «بيرتون» في رحلة الحج إن «مصر كنز لمن يفوز به»، وإنها «أشد الجوائز التي لدى الشرق إغراءً للطموح الأوروبي، وحتى دون استثناء القرن الذهبي»، وهو الاسم الذي يُطلق على شريط البسفور الممتد في الجزء الأوروبي من تركيا،48 فلا بد أن نتبين كيف كان صوت هذا الذي يحيط، بصورة بالغة الخصوصية، بالمعرفة الشرقية يَغْذُو ويُغذِّي صوت الطموح الأوروبي لتولِّي الحكم في الشرق.

وهكذا فإن «بيرتون» له صوتان يمتزجان في صوت واحد يُنذِر بعمل بعض الذين يجمعون بين الاستشراق والعمالة للإمبريالية مثل «ت. أ. لورنس، وإدوارد هنري بامر، ود. ج. هوجارث، وجرترود بِل، ورونالد ستورز، وسانت جون فيلبي، ووليم جيفورد بولجريف»، إذا اقتصرنا على بعض الكُتَّاب الإنجليز. وكان مقصد «بيرتون» في عمله ذا شقَّين؛ أي أن يجمع في الوقت نفسه بين الانتفاع بالإقامة في الشرق في تسجيل الملاحظات العلمية، وعدم التضحية بفرديته بسهولة تحقيقًا لهذا الغرض. والشق الثاني من مقصده يجعله يخضع حتمًا للشق الأول لأنه، كما سوف يتضح باطراد، أوروبيٌّ لا يستطيع إلا أوروبيٌّ مثله أن يكتسب ما لديه من معرفة بالمجتمع الشرقي، بحيث يتمتع بما يتمتع به الأوروبي من وعيٍ ذاتيٍّ بالمجتمع باعتباره مجموعة من القواعد والممارسات. وبتعبير آخر، فإن وجود أوروبي في الشرق، ووجود أوروبي على هذا القدر من العلم، يقتضي رؤيةَ الشرق ومعرفته باعتباره منطقة خاضعة لحكم أوروبا. وهكذا فإن الاستشراق، وهو نظام المعرفة بالشرق، يصبح مرادفًا للسيطرة الأوروبية على الشرق، وهذه السيطرة تنقض فعليًّا غرائب أسلوب «بيرتون» الشخصي نفسها.

ولقد مضى «بيرتون» في محاولة عرض المعرفة الشخصية والأصيلة والمتعاطفة والإنسانية بالشرق إلى أقصي مدى متاح لها في صراعها مع أرشيف المعرفة الأوروبية الرسمية عن الشرق. كما ساهم الاستشراقُ بقسطٍ وافٍ ومهمٍّ — شأنه في ذلك شأن جميع المباحث العلمية الأخرى المستلهمة من الحركة الرومانسية — في تاريخ المحاولات التي بذلها القرن التاسع عشر لاسترجاع وإصلاح وإعادة بناء جميع المجالات المختلفة للمعرفة والحياة؛ إذ لم يقتصر الاستشراق على التطور من كونه نظامًا للملاحظة الملهَمة إلى أن أصبح، بتعبير «فلوبير»، كلية للتعليم ذات نظم محددة، بل إن الاستشراق أدَّى إلى «مسخ» العاملين به، حتى أشد من امتازوا بنزعاتهم الفردية مثل «بيرتون» الذي أصبح دورُه يقتصر على كاتب «ناسخ» للإمبراطورية. وبعد أن كان الشرق مكانًا أصبح مجالًا للحكم «العلمي» الفعلي ولإمكان السيطرة الإمبريالية. وكان دور المستشرقين الأوائل مثل «رينان وساسي ولين» يتمثل في توفير الإخراج المسرحي لعملهم وللشرق معًا، وأما المستشرقون المتأخرون، البحاثة منهم والمبدع، فقد سيطروا على المشهد سيطرة محكمة. وفي مرحلة لاحقة على ذلك، عندما بدأ المشهد يتطلب إرادة خاصة، اتضح أن المؤسسات والحكومات أقدر على ممارسة لعبة الإدارة من الأفراد: هذه هي تركة الاستشراق في القرن التاسع عشر التي ورثها القرن العشرون، ولا بد لنا الآن من البحث، بأقصى حدٍّ من الدقة، في الأسلوب الذي تمكَّن به الاستشراق في القرن العشرين — وكانت فاتحته هي الإجراءات المديدة للاحتلال الغربي للشرق اعتبارًا من ثمانينيات القرن التاسع عشر — من النجاح في السيطرة على المعرفة وتقييد الحرية؛ وباختصار، الأسلوب الذي اكتمل به الشكل الرسمي للاستشراق باعتباره نسخة مصورة مكررة من ذاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤