أولًا: الاستشراق الكامن والاستشراق السافر

حاولت في الفصل الأول أن أبين النطاق الفكري والعملي لكلمة «الاستشراق» مستعينًا بالخبرتين البريطانية والفرنسية بالشرق الأدنى، وبالإسلام والعرب معه، باعتبار هاتين الخبرتَين نمطَين يتمتعان بمزايا خاصة، وأثبتُّ ما وجدته فيهما من علاقة ثرية ووثيقة بين الغرب والشرق، بل ربما كانت أشد العلاقات اتصافًا بطابعها الوثيق. وكانت هاتان الخبرتان تُشكِّلان جانبًا من العلاقة الأوروبية أو الغربية بالشرق، وأما أشد العوامل تأثيرًا في الاستشراق، فيما يبدو، فقد كان الشعور المستمر إلى حدٍّ بعيد بالمواجهة، وهو الذي كان يخامر الغربيِّين الذين يتعاملون مع الشرق. وانظر إلى فكرة الحدود الموضوعة للشرق وللغرب، وإلى الدرجات المتفاوتة لما هو مُتخيَّل من الضعف والقوة، وإلى نطاق العمل الذي أُنجز، وضروب الملامح المميِّزة المنسوبة إلى الشرق، تجد أنها تشهد جميعًا على تقسيم خيالي وجغرافي بين الشرق والغرب أملَته الإرادة وكُتب له أن يُعايَش قرونًا كثيرة. ولقد كنت مهتمًّا بأولى مراحل ما أسميته الاستشراق الحديث، وهي المرحلة التي بدأت خلال الجزء الأخير من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، لكنني لما كنت لا أعتزم أن تصبح دراستي سردًا تاريخيًّا لتطور الدراسات الشرقية في الغرب الحديث، فقد طرحت بدلًا من هذا تناولًا لنشأة وتطور الاستشراق ومؤسساته، على النحو الذي تشكَّلت به في إطار التاريخ الفكري والثقافي والسياسي حتى عام ١٨٧٠ أو ١٨٨٠م. وعلى الرغم من أن اهتمامي بالاستشراق في هذه المرحلة كان يتضمن معالجةَ نماذج منوعة إلى حدٍّ كبير نسبيًّا من الباحثين والمبدعين، فلا أستطيع أن أزعم على الإطلاق أنني قدمت ما يزيد على صورة للأبنية التي اختص بها الاستشراق آنذاك (واتجاهاته الأيديولوجية) وهي التي تشكِّل هذا المجال، وما يرتبط به من المجالات الأخرى، والعمل الذي قام به عددٌ من أشد باحثيه نفوذًا. ولقد كانت — ولا تزال — الافتراضات الرئيسية التي انطلقتُ منها تقول إن مجالات البحث العلمي، شأنها في ذلك شأن الأعمال الفنية، حتى أشدها غرابة، تخضع لقيود ومؤثرات يفرضها المجتمع، وتفرضها التقاليد الثقافية، وظروف الحياة، كما تخضع لتأثير العوامل التي تُهيئ لها الاستقرار مثل المدارس والمكتبات والحكومات. وتقول هذه الافتراضات أيضًا إن الكتابة العلمية والإبداعية لا تتمتع قط بالحرية، بل هي محدودة في صورها وافتراضاتها ومقاصدها، كما تقول أخيرًا إن مظاهر التقدم التي يحرزها «علم» مثل الاستشراق في صورته الأكاديمية يقل صدقه الموضوعي عن الدرجة التي كثيرًا ما نتصور أنه حققها. وأقول بعبارة موجزة إن دراستي قد حاولت حتى الآن أن تصف الاقتصاد الذي يُتيح للاستشراق أن يصبح مادة موضوع متماسكة المعنى، حتى مع التسليم بأن كلمة الشرق، باعتبارها فكرة أو مفهومًا أو صورة، ذاتُ أصداء ثقافية كبيرة ومهمة في الغرب.

وأنا أدرك أن أمثال هذه الافتراضات لها جانبها الخلافي؛ فمعظمنا يفترض بصورة عامة أن العلم والبحث العلمي يتقدمان، ونشعر أنهما يتحسنان على مرِّ الأيام بتراكم المزيد من المعلومات وتشذيب المناهج المطبقة، وأن أجيال الباحثين اللاحقة تقوم بتحسين ما جاءت به الأجيال السابقة. ونؤمن بالإضافة إلى ذلك بأسطورة الخلق أو الابتداع؛ بمعنى أنه في مقدور عبقرية فنية، أو موهبة أصيلة، أو ذهن جبار أن يثبَ فيتجاوز أسوار زمانه ومكانه فيقدم إلى العالم عملًا جديدًا. ومن العبث إنكار أن أمثال هذه الأفكار تتضمن قدرًا من الحقيقة. ومع ذلك فإن إمكانيات العمل المتاحة في كنف ثقافة ما لذهن عظيم وأصيل من المحال أن تكون غير محدودة، كما يصحُّ قولنا إن الموهبة العظيمة تُكِنُّ احترامًا رشيدًا لما أنجزته المواهب التي سبقَتها ولما تراه قائمًا في المجال الذي تعمل فيه، فالواقع هو أن عمل الأسلاف، والحياة المؤسسية لمجال من مجالات البحث العلمي، والطابع الجماعي لأيِّ إنجاز علمي — ناهيك بالظروف الاقتصادية والاجتماعية — من شأنها تقليل الآثار الناجمة عن إنتاج باحث علمي فرد. وإذا نظرنا إلى مجال الاستشراق وجدنا أن له هوية تراكمية وجماعية، وهي تتسم بقوة جبارة بسبب ارتباطها بالعلوم التقليدية (كالدراسات اليونانية واللاتينية، والكتاب المقدس، وفقه اللغة)، وبالمؤسسات (كالحكومات، والشركات التجارية، والجمعيات الجغرافية، والجامعات) وألوان الكتابة التي يتميز كلٌّ منها بطابع خاص (كأدب الرحلات، وكتب المكتشفات، وروايات الخرافة، ووصف الغرائب). وكانت النتيجة في حالة الاستشراق ضربًا من اتفاق الآراء؛ إذ أصبح المستشرق يحكم بالصحة على أشياء معينة، وأنماط معينة من الأقوال، وأنماط معينة من الأفعال. وهكذا فهو يبني عمله وبحوثه عليها، كما أنها بدورها تقوم بالضغط الشديد على كلِّ مَن يلتحق بصفوف الكُتَّاب والباحثين. وهكذا فيمكن اعتبار الاستشراق منهجًا من المناهج الملتزمة بنظام معين (أو بصورة خاصة للشرق) في الكتابة والرؤية والدراسة، تسوده قواعد ملزمة، ومنظورات خاصة، وانحيازات أيديولوجية ملائمة في الظاهر للشرق، وهكذا أيضًا نرى طرائق منفصلة لتدريس الشرق، ولإجراء البحوث فيه، وإدارته، وإصدار الأحكام عليه.

وإذن فإن الشرق الذي يظهر في الاستشراق نظام من الصور التي تمثله، والتي صاغَتها مجموعة كبيرة من القوى التي أدخلت الشرق في مجال العلوم الغربية، والوعي الغربي، وبعد ذلك بفترة في إطار الإمبراطورية الغربية. وإذا كان هذا التعريف للاستشراق يتسم بملامح سياسية، فالسبب هو أنني أعتقد أن الاستشراق نفسه كان من ثمار بعض القوى والأنشطة السياسية. فالاستشراق مدرسة من مدارس التفسير، تُصادف أن كانت مادتها تتمثل في الشرق وحضاراته وشعوبه ومناطقه. وأما مكتشفاته الموضوعية — والتي قام بها عددٌ لا يُحصى من الباحثين الذين وقفوا حياتهم على البحث فحرروا النصوص وترجموها، ووضعوا كتب النحو، وألَّفوا المعاجم، وأعادوا رسم صور الحقب الميتة، وتوصلوا إلى نتائج علمية يمكن إثبات صحتها بطرائق «وضعية» — فقد تشكلت وكانت دائمًا تخضع لحقائق مجسدة في اللغة، مثل جميع الحقائق التي تأتينا اللغة بها، وما حقيقة اللغة، على نحو ما قال «نيتشه» يومًا ما، إلا:

«جيش متحرك من الاستعارات والكنايات والتشبيهات بالإنسان، وباختصار مجمل علاقات بشرية قامت عوامل شعرية وبلاغية بالارتقاء بها، وتبديل مواقع أجزائها، وتجميلها، فأصبحت تبدو بعد طول استعمالها «حقائق» صلبة وفقهية وملزمة لشعب من الشعوب: ما الحقائق إلا أوهام نسيَ المرء أنها كذلك في الواقع».1

وربما رأينا في أمثال هذا الرأي الذي يعبر عنه «نيتشه» قدرًا أكبر مما ينبغي من العدمية، لكنه مفيد، على الأقل، في لفت نظرنا إلى أن كلمة الشرق، حيثما وُجدت في الوعي الغربي، انتهى بها الأمر إلى اكتساب مجال واسع من المعاني، والتداعيات، وظلال المعاني، وأن هذه لم تكن تُشير بالضرورة إلى الشرق الحقيقي بل إلى المجال الذي يحيط بالكلمة.

وهكذا فليس الاستشراق وحسب مذهبًا إيجابيًّا بشأن الشرق يمكننا رصد وجوده في الغرب في وقت محدد دون غيره، ولكنه كذلك تقاليد أكاديمية ذات نفوذ (حين يشير المرء إلى المتخصص الأكاديمي الذي ندعوه بالمستشرق) وهو أيضًا مجال اهتمام يحدده الرحالة، والشركات التجارية، والحكومات، والحملات العسكرية، وقراء الروايات وحكايات المغامرات الغربية، ورجال التاريخ الطبيعي، والحُجَّاج الذين يعتبرون الشرق نوعًا محددًا من المعرفة بألوان محددة من الأماكن والشعوب والحضارات. كما ازداد عددُ المصطلحات الخاصة بالشرق وازداد تواترها فتوطد مكانها في «الخطاب» الأوروبي. وكانت تمتد تحت هذه المصطلحات طبقة تمثِّل مذهبًا محددًا بشأن الشرق، وهو المذهب الذي تشكَّل من خبرات الكثير من الأوروبيِّين الذين تلاقَت آراؤهم جميعًا حول بعض الجوانب الجوهرية للشرق، مثل الشخصية الشرقية، والاستبداد الشرقي، والنزعة الحسية الشرقية، وما لفَّ لفَّها. كان الاستشراق يمثل لأي أوروبي في القرن التاسع عشر — وأعتقد أننا نستطيع أن نقول هذا بصورة شبه قاطعة — منظومة من الحقائق بالمعنى الذي حدده «نيتشه» للحقائق. وهكذا فمن الصحيح إذن أن كلَّ أوروبي كان، فيما يستطيع أن يقوله عن الشرق، عنصريًّا، وإمبرياليًّا، ومعتنقًا للمركزية العرقية بصورة شبه كاملة. وسوف تخفُّ حدة «اللذع» المباشر لهذه الأوصاف بعض الشيء إذا ذكرنا أيضًا أن المجتمعات البشرية، أو على الأقل تلك التي حققت تقدُّمًا أكبر من سواها، كانت نادرًا ما تُقدِّم للفرد شيئًا غير الإمبريالية والعنصرية والمركزية العرقية عند التعامل مع الثقافات «الأخرى». وهكذا فلقد ساعد الاستشراق، وتلقَّى العون من الضغوط الثقافية العامة التي كان من شأنها إضفاء المزيد من الجمود على الشعور بالاختلاف بين مناطق العالم الأوروبية والآسيوية. وحجتي تقول إن الاستشراق في جوهره مذهبٌ سياسي فُرض فرضًا على الشرق؛ لأن الشرق كان أضعفَ من الغرب، وإنه تجاهل اختلاف الشرق الراجع إلى ضعفه.

ولقد عرضتُ قضيتي هذه في مطلع الفصل الأول وكان القصد من كل ما جاء في الصفحات التالية له أن يؤكد صحتها إلى حدٍّ ما. إذ إن مجرد وجود «مجال» مثل الاستشراق دون أن يقابله شيء في الشرق الحقيقي، يدل على القوة النسبية للشرق والغرب. فبين أيدينا أعداد هائلة من الصفحات التي تتناول الشرق، وهي تدل بطبيعة الحال على درجة وكمية التفاعل مع الشرق، وهي درجة بالغة، وكمية ضخمة، ولكن المؤشر الأساسي للقوة الغربية هو انعدام إمكانية مقارنة تحرُّك الغربيِّين شرقًا (منذ نهاية القرن الثامن عشر) بتحرك الشرقيِّين غربًا. فإذا نحَّينا جانبًا ما نعرفه من أن الجيوش الغربية، وما كان الغرب يُرسله من هيئات قنصلية، وتجار، ورحلات علمية، وبعثات أثرية، إلى الشرق دائمًا، وجدنا أن عدد الذين كانوا يسافرون من الشرق الإسلامي إلى أوروبا ما بين ١٨٠٠ و١٩٠٠ عددٌ بالغ الضآلة، بالمقارنة بالعدد الذي كان يسافر في الاتجاه المضاد.2 زِدْ على ذلك أن المسافرين الشرقيِّين إلى الغرب كانوا يقصدون التعلم من ثقافة متقدمة والتطلع في دهشة إليها، وأما أغراض المسافرين الغربيِّين إلى الشرق فكانت، كما رأينا، من نوع بالغ الاختلاف. وبالإضافة إلى ذلك تُشير التقديرات إلى أن عدد الكتب التي كُتبت عن الشرق الأدنى كان يبلغ نحو ٦٠٠٠٠ كتاب ما بين عامَي ١٨٠٠ و١٩٥٠م، وعدد الكتب التي كتبها الشرقيون عن الغرب لا يقارن على الإطلاق بهذا الرقم. والاستشراق باعتباره جهازًا ثقافيًّا ينحصر في العدوان والنشاط وإصدار الأحكام، وفرض «الحقائق»، والمعرفة. كأن الشرق قد وُجد من أجل الغرب، أو قل هذا ما بدَا لعدد لا يُحصى من المستشرقين الذين كان موقفهم إزاء المادة التي يتناولونها إما موقفًا «أبويًّا» وإما موقفًا ينمُّ عن استعلاء و«تفضل» صريح، اللهم إلا إذا كانوا، بطبيعة الحال، مولعين بدراسة الآثار القديمة، وفي هذه الحالة كان الشرق «الكلاسيكي» أو القديم يُعلي من شأنهم هم لا من شأن الشرق الحديث الذي يُرثَى له. وإلى جانب ذلك كان عمل الباحثين الغربيِّين يتلقَّى دعمًا وقوة من عدد كبير من الهيئات والمؤسسات التي لا نظير لها في المجتمع الشرقي.

ولا شك أن مثل هذا الخلل في الميزان ما بين الشرق والغرب من دوالِّ التغير في الأنساق التاريخية؛ إذ كان الإسلام يسيطر يومًا ما على الشرق والغرب جميعًا في أوج أمجاده السياسية والعسكرية من القرن الثامن حتى القرن السادس عشر، ثم انتقل مركز القوة إلى الغرب، ويبدو الآن، ونحن في أواخر القرن العشرين، أنه غدا يتجه من جديد نحو الشرق. ولقد توقفتُ في حديثي عن الاستشراق في القرن التاسع عشر في الفصل الثاني عند فترة «مشحونة» بصفة خاصة في النصف الأخير من ذلك القرن، وهي الفترة التي كانت جوانب الاستشراق — التي كثيرًا ما اتسمت بالتوسع والتجريد والتطلع إلى المستقبل — قد بدأت تكتسب إدراكًا جديدًا بأنها مكلَّفة بمهمة «دنيوية» في خدمة الاستعمار «الرسمي». وهذا المشروع وهذه اللحظة هما ما أودُّ أن أعرض الآن له؛ لأنه سوف يقدِّم لنا جانبًا من الخلفية المهمة لأزمات الاستشراق في القرن العشرين والنهضة الجديدة للقوة السياسية والثقافية في الشرق.

سبق أن أشرت في عدة مناسبات إلى الصلات التي تربط الاستشراق — باعتباره مجموعة من الأفكار أو المعتقدات أو القوالب اللفظية أو المعارف الخاصة — بالشرق وبين المدارس الفكرية الأخرى القائمة بصفة عامة في الثقافة. ولقد كان من بين التطورات المهمة في الاستشراق في القرن التاسع عشر ما يُشبه «تقطير» الأفكار الأساسية عن الشرق وصبَّها في قالب منفصل له دلالته ووجوده الذي لا ينازعه شيء، وكانت تلك الأفكار تشمل نزعة الشرق للملاذ الحسية، وللاستبداد، و«عقليته» المنحرفة، وما اعتاده من «عدم الدقة»، وتخلفه، وهكذا، كان استعمال الكاتب لكلمة «شرقي» يكفي لإحالة القارئ إلى مجموعة محددة من المعلومات عن الشرق، يسهل عليه التعرف عليها. وكانت هذه المعلومات تبدو محايدةً أخلاقيًّا وصحيحة موضوعيًّا، وكان يبدو أنها تتمتع بمكانة معرفية معادلة للتسلسل الزمني التاريخي أو تحديد المواقع الجغرافية. وهكذا كانت المادة الشرقية، في أولى صورها الأساسية، غير قابلة للطعن فيها استنادًا إلى ما قد يكتشفه أيُّ باحث، بل ولم يكن يبدو أنه من الممكن إجراء إعادة تقييم كامل لها. وعلى العكس من ذلك، كان عمل شتى الباحثين والمبدعين في القرن التاسع عشر يزيد من وضوح هذا الكيان المعرفي الأساسي، ويزيده تفصيلًا ومادة، ويزيد التمييز بينه وبين «الاستغراب»؛ أي دراسة الغرب، محاكاةً لاشتقاق «الاستشراق». ومع ذلك فإن الأفكار الاستشراقية، استطاعت التحالف مع بعض النظريات الفلسفية العامة (مثل النظريات الخاصة بتاريخ البشرية والحضارة) وبعض الافتراضات الفضفاضة عن العالم، على نحو ما يسميها بعض الفلاسفة أحيانًا، كما أن الذين أسهموا من المحترفين في المعرفة الشرقية كانوا يحرصون، بشتى الطرق، على صياغة أفكارهم وآرائهم، وبحوثهم، وملاحظاتهم المعاصرة المتأنية، بلغة ومصطلحات تستمدُّ صحتها الثقافية من غيرها من العلوم والمذاهب الفكرية.

إن التمييز الذي أقيمه حقًّا تمييزٌ بين مذهب وضعي إيجابي يكاد يُمارس دون وعي (وإن كان قطعًا لا يقبل المساس به) وهو الذي أُطلِق عليه هنا تعبير الاستشراق الكامن، وبين شتى الآراء التي عبَّر مَن عبَّر عنها عن المجتمع الشرقي بلغاته وآدابه وتاريخه ودراساته الاجتماعية، وهلمَّ جرًّا، وهو ما سوف أسميه الاستشراق السافر. ونحن نجد أن أيَّ تغيير يحدث في المعرفة بالشرق يكاد يقتصر على الاستشراق السافر، وأما الإجماع والاستقرار والاستمرار في الاستشراق الكامن؛ فهي خصائص ثابتة تقريبًا. فالفوارق بين الأفكار الخاصة بالشرق عند كُتَّاب القرن التاسع عشر الذين تناولتُهم بالتحليل في الفصل الثاني تقتصر على الفوارق السافرة، فهي فوارق في الشكل وفي الأسلوب الشخصي، ونادرًا ما تمس المضمون الأساسي. فكلُّ واحد منهم يحافظ على اكتمال انفصال الشرق، بغرابته وتخلُّفه و«لامبالاته» الصامتة، وإمكانية اختراقه الأنثوية، وإمكان «تطويعه» الذي ينمُّ عن بلادة الحس. وهذا هو السبب الذي جعل كلَّ مَن كتب عن الشرق، من «رينان إلى ماركس» (من الزاوية الأيديولوجية) أو من أشد الباحثين صرامة (مثل إدوارد لين وساسي) إلى أقوى المبدعين مخيلةً (مثل فلوبير ونيرفال) يرى أن الشرق مكانٌ يحتاج من الغرب أن يُوليَه اهتمامه، ويقوم بإعادة بنائه أو حتى «تخليصه». كان الشرق موجودًا في صورة مكان معزول عن التيار الرئيسي للتقدم الأوروبي في العلوم والفنون والتجارة. وهكذا فإنه مهما تكن القيم المنسوبة إلى الشرق حسنة أو سيئة، فقد كانت فيما يبدو من الدوالِّ على اهتمام غربي بالغ التخصص بالشرق، وظل هذا الموقف سائدًا من سبعينيات القرن التاسع عشر تقريبًا حتى القسم الأول من القرن العشرين، ولكن فلأضرب أولًا بعض الأمثلة اللازمة لإيضاح ما أعنيه.

كانت الأطروحات الخاصة بتخلف الشرق وانحطاطه وعدم مساواته بالغرب ترتبط بيسر بالغ في أوائل القرن التاسع عشر بالأفكار الخاصة بالأسس البيولوجية للتفاوت العنصري. وهكذا فإن التصنيفات العنصرية التي نجدها في الكتاب الذي وضعه «كوفييه» بعنوان: «المملكة الحيوانية»، وكتاب «جوبينو»: «مقال عن تفاوت الأجناس البشرية»، وكتاب «روبرت نوكس» بعنوان: «أجناس البشر السمراء»، وجدت في الاستشراق الكامن شريكًا يرغب في العمل معها. ثم أضيف إلى الأفكار مذهبٌ داروينيٌّ من الدرجة الثانية، وكان فيما يبدو يؤكد ويبرز الصحة «العلمية» لتقسيم الأجناس البشرية إلى أجناس متقدمة وأجناس متخلفة، أو إلى أجناس أوروبية آرية، وأجناس شرقية أفريقية. وهكذا كانت مسألة الإمبريالية برمَّتِها، في الإطار الذي ناقشها فيه مؤيدو الإمبريالية ومعارضوها، في أواخر القرن التاسع عشر، تزيد من دعم التقسيم إلى نمطين منفصلين: ما هو متقدم وما هو متخلف (أو محكوم) من الأجناس والثقافات والمجتمعات. إذ نرى «جون وستليك» يقول في كتابه: «فصول في مبادئ القانون الدولي» (١٨٩٤م)، على سبيل المثال، إنه يجب على الدول المتقدمة أن تضمَّ أو تحتلَّ «مناطق الأرض» التي تُوصف بأنها «غير متحضرة» (وهو تعبير يحمل فيما يحمله ثقل الافتراضات الاستشراقية). وعلى غرار ذلك نجد أن أفكار بعض الكُتَّاب مثل «كارل بيترز»، و«ليوبولد دي سوسير»، و«تشارلز تمبل» تستند إلى التقسيم الثنائي بين المتقدم والمتخلف3 وهو التقسيم الذي يقع في قلب الدعوة الاستشراقية في أواخر القرن التاسع عشر.

كانت النظرة إلى الشرقيِّين — التي تجمع بينهم وبين سائر الشعوب التي كانت تُوصَف إما بالتخلُّف أو بالانحطاط أو بعدم التحضر أو بالتأخر — تُقدَّم في إطار يجمع بين الحتمية البيولوجية و«التوبيخ» الأخلاقي والسياسي معًا. وهكذا كانت الأذهان تربط ما بين الشرقي وبين عناصر معينة في المجتمع الغربي (كالمنحرفين، والمجانين، والنساء، والفقراء) باعتبار أنها تشترك في هوية أفضل ما توصف به أنها أجنبية أو غريبة إلى حدٍّ جدير بالرثاء. ونادرًا ما كان أحدٌ يرى الشرقيِّين أو ينظر إليهم، ولكن المفكرين كانوا يبحثون أمرهم ويحللون أحوالهم لا باعتبارهم مواطنين، أو حتى باعتبارهم بشرًا، بل باعتبارهم مشكلات تتطلب الحل، أو فرض القيود، أو — بسبب طمع الدول الاستعمارية السافر في أراضيهم — تولِّي أمرهم. والمسألة هي أن مجرد وصف شيء ما بأنه شرقي كان يتضمن حُكمًا سبق النطق به على قيمته، وأما فيما يتعلق بالشعوب التي تسكن ولايات الدولة العثمانية التي تدهورت، فقد كان الوصف يتضمن برنامجَ عملٍ مضمرًا. ولما كان الشرقي ينتمي إلى «جنس محكوم» كان لا بد من إخضاعه وحكمه: كانت المسألة بهذه البساطة. وأما المثال المأثور الذي يوضح مثل ذلك الحكم وطبيعة العمل المبني عليه فموجود في الكتاب الذي كتبه «جوستاف لوبون» الفرنسي بعنوان: «القوانين السيكلوجية لتطور الشعوب» (١٨٩٤م).

ولكن الاستشراق الكامن كانت له فوائدُ أخرى. فإذا كانت تلك المجموعة من الأفكار قد سمحت للمرء بأن يفصل الشرقيِّين عن الدول المتقدمة ذات المهمة الحضارية، وإذا كان الشرق «الكلاسيكي» القديم يُبرر عمل المستشرق ويُبرر تجاهله للشرقيِّين المحدثين، فإن الاستشراق الكامن كان يشجع أيضًا تصورًا ذكوريًّا خاصًّا (إن لم نَقُل مثيرًا للضغينة) للعالم. ولقد سبق لي أن أشرتُ إشارةً عابرة إلى ذلك في أثناء مناقشتي ﻟ «رينان»، فكان الكُتَّاب يبحثون أمر الرجل الشرقي بعد عزله عن المجتمع «الكلي» الذي يعيش فيه، وهو المجتمع الذي كان الكثير من المستشرقين يقتفون خُطَى «إدوارد لين» في النظر إليه نظرةً تُشبه نظرةَ الاحتقار والخوف. وكان الاستشراق نفسه، إلى جانب ذلك، مجالًا مقصورًا على الذكور، وكان يشترك مع كثير من الطوائف المهنية في العصر الحديث في النظر إلى مادة موضوعه بغمامات التحيُّز للرجل. ويتضح ذلك بصفة خاصة في كتابات الرحالة والروائيِّين حيث نجد أن المرأة عادةً ما تكون كائنًا خلقَته أوهام السلطة وخيالاتها عند الرجل، إذ تُعبِّر المرأة عن نزوع غير محدود للملاذ الحسية، وهي تتسم بالغباء على نحوٍ ما، وهي قبل كلِّ شيء «على استعداد». والنموذج الأوَّلي لهذه الصور الكاريكاتورية تُمثله كشك هانم عند «فلوبير»، وهي الصور الشائعة إلى حدٍّ بعيد في روايات الأدب المكشوف أو الإباحي (مثل رواية أفروديت التي كتبها الفرنسي بيير لواس) التي كانت جدَّتُها ترجع إلى استثمارها الاهتمام بالشرق. زِد على ذلك أن التصور الذكوري للعالم كان — فيما يتعلق بتأثيره في عمل المستشرق — تصورًا يميل إلى الثبات والتجمد والتصلب. إذ كان ينكر على الشرق وعلى الشرقي مجردَ إمكان التطور والتحول والحركة الإنسانية، بأعمق معنًى من معاني هذه الكلمة. فلقد كان الشرقي والشرق يعتبران «صفة» معروفة وتتسم آخر الأمر بتجريدها من القدرة على الحركة أو الإنتاج، ومن ثَم أصبحَا يتسمان بخصيصة تمثِّل لونًا سيئًا من الخلود، ومن ثَم أصبحنا نسمع بعض العبارات، في حالة الرضا عن الشرق، مثل «حكمة الشرق».

وقد انتقل هذا الاستشراق «الذكوري» الثابت من كونه تقييمًا اجتماعيًّا مضمرًا أو ضمنيًّا إلى التقييم الثقافي العام، وأصبحت له صور منوعة في أواخر القرن التاسع عشر، خصوصًا عند مناقشة الإسلام. فشنَّ بعض مؤرخي الثقافة العامة، ومنهم مَن يتمتع بالاحترام مثل «ليوبولد فون رانكه، وياكوب بوركهارت»، هجومًا على الإسلام، فكأنما لم يكونوا يتعاملون مع أحد المجردات التي أكسبوها صورة الإنسان بل مع ثقافة سياسية دينية يمكنهم — بل ومن حقهم — إصدار تعميمات عميقة بشأنها، فتحدث «رانكه» عن الإسلام في كتابه: «تاريخ العالم» (١٨٨١–١٨٨٨م) قائلًا إن الشعوب الجرمانية الرومانية قد هزمته، وتحدث «بوركهارت» في الشذرات التاريخية (مذكرات لم تُنشر، ١٨٩٣م) عن الإسلام قائلًا إنه رديء وخاوٍ وتافه.4 وقد قام «أوزفالد شبنجلر» بأمثال هذه «العمليات الذهنية» ببراعة وحماس أكبر كثيرًا، وكان كتابه: «تدهور الغرب» (١٩١٨–١٩٢٢م) يزخر بالحديث عن الشخصية المجوسية (التي يمثلها الشرقي المسلم) ويدعو إلى ما كان يسميه «مورفولوجيا» الثقافات، أي: تشكُّلها وتغيُّر أشكالها.
وأما ما كانت هذه الأفكار الخاصة بالشرق، والتي انتشرت على نطاق واسع، تعتمد عليه فكان الانعدام شبه الكامل للتقاليد الثقافية الغربية المعاصرة الخاصة بالشرق باعتباره قوة يحسُّ بها الناس إحساسًا أصيلًا ويعرفونها خير المعرفة؛ فلقد كان الشرق، لأسباب عديدة واضحة، دائمًا ما يشغل مكان الكيان الأجنبي والشريك الضعيف الذي أُلحق بمعية الغرب إلحاقًا. وأما وعيُ الباحثين الغربيِّين بالشرقيِّين المعاصرين أو الحركات الفكرية والثقافية الشرقية، فكان مقصورًا على اعتبارهم إما ظلالًا صامتة — وعلى المستشرق أن يبثَّ فيها الروح ويُدخلها عالم الواقع — وإما ضربًا من الطبقة العاملة ثقافيًّا وفكريًّا، التي تعود بالنفع على النشاط التفسيري الأعظم الذي يقوم به المستشرق، واللازمة له في عمله باعتباره قاضيًا أرفع مكانًا، وعلامة، وإرادةً ثقافية جبارة. وأنا أقصد أن أقول إن مناقشات الشرق كانت تتسم بالغياب الكامل للشرق، لكن المرء يحسُّ بأن المستشرق وما يقوله حاضران، ومع ذلك فيجب ألَّا ننسى أن الذي يمكِّن المستشرق من الحضور هو الغياب الفعلي للشرق. وهذه الحقيقة — حقيقة الإبدال والإزاحة، ولا بد أن ندعوَها كذلك — تمارس ضغطًا معينًا على المستشرق نفسه، بوضوح، وتضطرُّه إلى اختزال الشرق في عمله، حتى بعد أن خصص وقتًا طويلًا لشرحه وعرضه. هذا وإلا فكيف نفسر أنماط الأعمال العلمية الكبرى التي ننسبها إلى «يوليوس فيلهاوزن»، وإلى «ثيودور نولدكه»، وتلك الأقوال التي يسودها التعميم والسطحية وتحتقر احتقارًا شبه كامل مادة الموضوع الذي اختارته؟ وهكذا فإن نولدكه يُعلن في عام ١٨٨٧م أن حاصل مجموع عمله كمستشرق كان تأكيد «نظرته التي لا تُعلي من شأن» الشعوب الشرقية.5 وكان «نولدكه»، مثل «كارل بيكر»، مولعًا بالتراث اليوناني، وكان السبيل الغريب لإظهارِ حبِّه لليونان يتمثل في إظهار نفوره الفعلي من الشرق، وإن كان الشرق في الواقع موضوع دراسته العلمية.
ولدينا دراسة للاستشراق تتميز بقيمتها البالغة وذكائها الخارق، وهي الدراسة التي أعدَّها «جاك فاردنبرج» بعنوان: «الإسلام في مرآة الغرب»، والتي يفحص فيها عملَ خمسة من الخبراء المهمين باعتبار أنهم الذين صنعوا صورة معينة للإسلام. وصورة المرآة الاستعارية التي يستخدمها «فاردنبرج» في وصف الاستشراق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين صورة موفقة. فهو يقول إنه وجد في عملِ كلٍّ من المستشرقين البارزين الذين درسهم رؤية مغرضة إلى حدٍّ كبير، بل وعدائية للإسلام في أربع حالات من خمس، فكأنما كان كلٌّ منهما يرى في الإسلام صورةً منعكسة لضعفه الخاص المختار. وهو يقول إن كلَّ باحث منهم يتميز بعلمه الغزير، وإن أسلوب مساهمته كان فريدًا، وإن المستشرقين الخمسة يمثِّلون فيما بينهم أقوى وأفضل جوانب تقاليد الاستشراق بصفة عامة في الفترة من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى فترة ما بين الحربَين العالميَّتَين. ومع ذلك فإن التقدير الذي يُبديه «إجناز جولدتسيهار» للتسامح الإسلامي إزاء الأديان الأخرى يُبطله — في رأي فاردنبرج — نفوره مما يسميه نزعة التشبيه بالإنسان عند محمد، والطابع «الخارجي» الزائد على الحد لعلم التوحيد والفقه الإسلامي، ويقول إن اهتمام «دنكان بلاك ماكدونالد» بالورع والصحة المذهبية في الإسلام يُفسده ما كان يتصوره من اعتبار الإسلام بدعة مسيحية مارقة؛ ويقول إن فهم «كارل بيكر» للحضارة الإسلامية جعله يرى أنها للأسف حضارة لم تتطور، وإن الدراسات البالغة الدقة التي أجراها «س. سنوك هرجرونيي» للتصوف الإسلامي (والذي كان يعتبره جوهر الإسلام) أدَّى به إلى إصدار حكم بالغ القسوة على مناحي قصوره المعوِّقة، وإن الاعتناق الفذ لعلم التوحيد، والعاطفة الصوفية، وفن الشعر الإسلامي عند «لويس ماسينيون» جعله لا يغفر للإسلام ما يرى فيه عداءً متأصلًا لفكرة التجسيد الإلهي. وينتهي «فاردنبرج» إلى القول بأن الاختلافات الظاهرة في مناهج هؤلاء الخمسة أقل أهمية من اتفاق آرائهم الاستشراقية بشأن الإسلام؛ ألَا وهو الإيحاء المضمر بدونيته.6
وتتميز دراسة «فاردنبرج» بمزية إضافية وهي أنها تبيِّن كيف كان هؤلاء الباحثون الخمسة يتبعون تقاليدَ فكريةً ومنهجية مشتركة تتمتع بوحدة ذات طابع دولي حقيقي. فلقد تمكَّن الباحثون في هذا المجال منذ انعقاد المؤتمر الاستشراقي الأول في عام ١٨٧٣م من معرفة بعضهم البعض والإحساس المباشر إلى حدٍّ بعيد بوجود بعضهم البعض. وأما الذي لا يؤكده «فاردنبرج» تأكيدًا كافيًا فهو أن معظم المستشرقين في أواخر القرن التاسع عشر كانوا مرتبطين فيما بينهم كذلك بروابط سياسية. فلقد تحوَّل «سنوك هرجرويني» من دراساته في الإسلام إلى العمل مستشارًا للحكومة الهولندية لمساعدتها في التعامل مع مستعمراتها الإندونيسية المسلمة، وكان الطلب كبيرًا وواسع النطاق على «ماكدونالد وماسينيون»، باعتبارهما خبراء في الشئون الإسلامية، من جانب رجال الإدارة الاستعمارية، من شمال أفريقيا إلى باكستان؛ وكما يقول «فاردنبرج» (ولو بإيجاز أشد مما ينبغي) فقد اشترك الباحثون الخمسة يومًا ما في وضع رؤية محددة واضحة للإسلام كان لها تأثيرُها الكبير في الدوائر الحكومية في شتى أرجاء العالم الغربي.7 وأما ما ينبغي أن نُضيفَه إلى ملاحظة «فاردنبرج» فهو أن هؤلاء الباحثين كانوا يستكملون، أو يحاولون الوصول إلى الصيغة النهائية الدقيقة للاتجاه إلى معالجة الشرق، منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، لا باعتباره مشكلة أدبية فحسب، بل — كما يقول «ماسون-أورسيل» — «غاية مؤكدة للاستيعاب الكافي لقيمة اللغات وقدرتها على النفاذ إلى الأخلاق والأفكار، استخلاصًا لأسرار التاريخ».8

سبق لي أن تحدَّثت عن اعتبار الشرق وحدة متجانسة واستيعاب هذه الصورة عند كُتَّاب يتسمون باختلافات بالغة عن بعضهم البعض، مثل «دانتي وديربيلو». والواضح أن هذه الجهود تختلف عمَّا أصبح — بنهاية القرن التاسع عشر — مشروعًا أوروبيًّا جبَّارًا حقًّا، وله جوانبه الثقافية والسياسية والمادية. ولم يكن المشروع الاستعماري في القرن التاسع عشر الذي يُشار إليه بتعبير «التزاحم على أفريقيا»، بمعنى التسابق للظفر بها، مقصورًا على أفريقيا وحدها، بطبيعة الحال، بل ولم يكن اختراق الشرق مجردَ فكرة طارئة مفاجئة مثيرة خطرَت للغرب بعد سنوات من الدراسة العلمية لآسيا، فالواقع أنه لا بد من التسليم بوجود خطوات كثيرة تتسم بطول المدى وبطء الحركة أدَّت إلى امتلاك الشرق؛ أي مكَّنت أوروبا، أو مكَّنت الوعي الأوروبي بالشرق من التحول من وعيٍ يقوم على النصوص والتأمل إلى ظاهرة إدارية واقتصادية بل حربية. وكان التغير الجوهري تغيُّرًا مكانيًّا وجغرافيًّا، أو قُل إنه كان تغيُّرًا في نوع الإدراك الجغرافي والمكاني فيما يتعلق بالشرق. فلقد كان التعريف القديم — والذي ظل قائمًا قرونًا «للشرق» بأنه المكان الجغرافي الذي يقع شرقي أوروبا — تعريفًا له جانبٌ سياسي، وجانبٌ مذهبي وجانب خيالي، ولم يكن يَشِي بوجودِ أيِّ رابطة ضرورية بين الخبرة الفعلية بالشرق وبين معرفة ما هو شرقي، ولم يكن «دانتي ولا ديربيلو» يزعمان أيَّ شيء بخصوص أفكارهما الشرقية عدا أنها تؤكدها تقاليد علمية طويلة (لا تقاليد «وجودية»، أي قائمة على «الوجود» في الشرق). ولكنه عندما يناقش «لين ورينان وبيرتون»، والمئات الكثيرة من الرحالة والباحثين الأوروبيِّين في القرن التاسع عشر، أحوالَ الشرق؛ فإننا نُدرك فورًا موقفًا أقرب للمعرفة الوثيقة، بل وأقرب لامتلاك الشرق وكل ما هو شرقي من مواقف هؤلاء. إذ كان المستشرقون «يخترقون» المكانَ الجغرافي للشرق ويُعدِّلونه ويمتلكونه، سواء في الصورة الكلاسيكية التي كانت كثيرًا ما تتسم بالبعد الزمني عندما يُعيد المستشرق بناءها، أو في الصورة الفعلية الدقيقة للشرق الحديث الذي عاش فيه المستشرق أو درسه أو تخيَّله. وأدَّى الأثر التراكمي لعقود من هذه السيادة الغربية الكاملة في تناول الشرق إلى تحويل الشرق من مكان أجنبي إلى مكان استعماري. أما إذا كان الغرب قد نجح حقًّا في اختراق الشرق وامتلاكه فلم يكن بالأمر المهم في أواخر القرن التاسع عشر، بل كان الأمر المهم هو كيف كان البريطانيون والفرنسيون يشعرون أنهم نجحوا في ذلك.

كان البريطاني الذي يكتب عن الشرق يتناول منطقةً لا شك في صعود نجم السلطة الإنجليزية وسطوعه الحقيقي فيها، حتى ولو كان الأهالي يُبدون انجذابًا سطحيًّا لفرنسا ولطرائق التفكير الفرنسية، وكان ذلك ينطبق انطباقًا أكبر على الإداري الاستعماري البريطاني آنذاك، ولكن إنجلترا كان لها وجودٌ حقيقي على أية حال في الشرق بصفته مكانًا فعليًّا، ولم يكن لفرنسا وجودٌ إلا باعتبارها مصدر إغراء أهوج للشرقيِّين السذَّج. ولن نجدَ دليلًا على هذا الاختلاف النوعي في الموقف إزاء المكان خيرًا مما يقوله اللورد «كرومر» في هذا الموضوع، وهو من الموضوعات الأثيرة لديه:

إن أسباب تمتُّع الحضارة الفرنسية بدرجة خاصة من الجاذبية لأبناء آسيا وبلاد الشام واضحة جلية. والواقع أنها أشدُّ جاذبية من حضارتَي إنجلترا وألمانيا، وهي كذلك أيسر محاكاة منهما. ولتقارنِ الإنجليزي الخجول المتحفظ، باقتصاره على صحبة اجتماعية محدودة، وميله إلى العزلة، بالفرنسي الفياض بالحيوية والميال إلى الاختلاط بأبناء الأمم الأخرى، والذي لا يعرف معنًى لكلمة الخجل، والذي تراه في غضون عشر دقائق قد عقد فيما يبدو صداقةً حميمة مع أيِّ شخص لا تزيد معرفته به عن المعرفة العارضة التي تصادف أن أقامها. إن الشرقيَّ من أنصاف المتعلمين لا يُدرك أن الأول يتمتع، على أية حال، بفضيلة الإخلاص، وأن الأخير كثيرًا ما يكون ممثلًا يلعب دورًا ما. فهذا الشرقي ينظر بفتور إلى الإنجليزي ويُلقي بنفسه بين أحضان الفرنسي.

وبعد ذلك تتطور التلميحات الجنسية بصورة طبيعية إلى حدٍّ ما؛ فالرجل الفرنسي يفيض بالبسمات، وحضور البديهة، والظرف، والأناقة، والرجل الإنجليزي يتسم بالكد، وبالنشاط والواقعية والدقة. وحجة «كرومر» تقوم، بطبيعة الحال، على الصلابة أو الرصانة البريطانية، على عكس الإغراء الفرنسي دون أن يكون لفرنسا أيُّ وجود حقيقي في الواقع المصري. ويستمر «كرومر» في عرض حجته قائلًا:

هل ندهش إذن إذا عجز المصري، بسبب ضحالته الفكرية، عن أن يُدرك أن منطق الفرنسي يستند إلى أكذوبة من لون ما، أو إذا أظهر المصري ميلًا إلى التألق السطحي للرجل الفرنسي مفضِّلًا إياه على الجد والنشاط غير الجذاب للإنجليزي أو الألماني؟ وانظر أيضًا إلى الكمال النظري للنظم الإدارية الفرنسية، وإلى دقة تفاصيلها، وإلى النصوص القانونية التي وضعها الفرنسيون، فيما يبدو، لمعالجة أية أوضاع طارئة، وقارنْ هذه المظاهر بالنظم الواقعية العملية الإنجليزية التي تضع القواعد اللازمة لعدد محدود من المسائل الرئيسية وتترك التفاصيل الكثيرة للسلطة التقديرية الفردية، وسوف تجد أن المصري من أنصاف المتعلمين يُفضِّل، بطبيعة الحال، النظم الفرنسية؛ لأنها تقتصر على مظاهر خارجية أشد كمالًا وأيسر تطبيقًا. والمصري يعجز أيضًا عن إدراك أن الإنجليزي يرغب في وضع نظام يناسب الحقائق التي عليه أن يعالجها، وأما مصدر الاعتراض الرئيسي على تطبيق الإجراءات الإدارية الفرنسية في مصر فهو أن الفرنسي يريد في الغالب الأعم أن تتفق حقائق الواقع مع النظام الجاهز.

ولما كان لبريطانيا وجودٌ حقيقي في مصر، ولما كان ذلك الوجود — وفقًا لما يقوله «كرومر» — لا يهدف إلى تدريب الذهن المصري بقدر ما يهدف إلى «تشكيل شخصية المصري»، فإن مظاهر الجاذبية السطحية للفرنسيِّين أشبه ما تكون «بمفاتن مصطنعة إلى حدٍّ ما» لغانية من الغواني، وأما الفضائل البريطانية فهي أشبه بشمائل «السيدة الوقور التي تقدَّمت بها السنُّ، والتي ربما تتحلَّى بقيمة أخلاقية أعظم، وإن يكن مظهرها الخارجي لا يصل إلى نفس المستوى الخلاب».9
وتكمن خلف التضاد الذي يقيمه «كرومر» بين المربِّية البريطانية الرصينة والغانية الفرنسية اللعوب مزية الوجود البريطاني في الشرق، وأما ما يشير إليه «كرومر» من «حقائق على [الإنجليزي] أن يعالجها» فهي أشد تعقيدًا وأكبر أهمية من أيِّ شيء قد يُشير إليه الفرنسي «الزئبقي» بسبب امتلاك إنجلترا الفعلي لهذه الحقائق. وبعد عامين من نشر كتابه: «مصر الحديثة» (في عام ١٩٠٨م) أصدر «كرومر» كتابه الذي يُسهب الحديث فيه، من زاوية فلسفية، عن الإمبريالية قديمًا وحديثًا، قائلًا إننا إذا عقدنا مقارنة بين الإمبريالية الرومانية، بسياستها القائمة صراحة على الاستيعاب والقمع، والإمبريالية البريطانية بدَت لنا الأخيرة أفضل، وإن كانت أضعفَ إلى حدٍّ ما، ويُضيف قائلًا إن موقف البريطانيِّين يتميز بالوضوح اللازم في بعض القضايا، حتى ولو كانت إمبراطوريتهم «طبقًا لما يتميز به الطابع الأنجلوسكسوني من الغموض إلى حدٍّ ما بل وعدم الإتقان» لم تستطع أن تحسم أمرها، فيما يبدو، في اختيار «الأساس الذي تقوم عليه، هل تعتمد على الاحتلال العسكري الشامل أم على مبدأ القومية [للأجناس المحكومة]». ولكن ثبت آخر الأمر أن هذا التردد كان مسألةً نظرية محضة؛ إذ إن «كرومر» قد اختار، واختارت بريطانيا معه، معارضةَ «مبدأ القومية». وإلى جانب ذلك علينا أن نُشير إلى أمور أخرى، منها أن بريطانيا لم تكن تنتوي التخلي عن الإمبراطورية، ومنها كراهية التزاوج بين الإنجليز وبنات وأبناء الأهالي، وثالث هذه المسائل — وأهمها في رأيي — هي أن «كرومر» كان يتصور أن الوجود البريطاني الإمبريالي في المستعمرات الشرقية قد أحدث تأثيرًا باقيًا، ولا نقول كالطوفان المدمر، في عقول الشرقيِّين ومجتمعاتهم. والاستعارة التي يعبر بها عن هذا التأثير تكاد تكون «لاهوتية»؛ إذ ما أقوى الصورة التي نشأت في ذهن «كرومر» للتغلغل الغربي في أراضي الشرق الشاسعة. فهو يقول «إن البلد الذي تهبُّ عليه أنفاس الغرب المحمَّلة بالتفكير العلمي ذات يوم، وتترك فيه أثناء هبوبها أثرًا باقيًا؛ لا يمكن أن يظلَّ على حاله السابق أبدًا.»10

ومع ذلك فلم يكن «كرومر»، في مثل هذه الأقوال، بالمفكر الأصيل على الإطلاق. بل إن رؤاه وأساليب تعبيره عنها كانت «عُملةً» شائعة التداول بين زملائه في المؤسسة الإمبريالية وبين المفكرين. ويصدق هذا الاتفاق في الرأي بصفة خاصة على زملاء «كرومر» في فترة حكم نائب الملك من أمثال «كيرزون، وسويتنام، ولوجارد». وكان اللورد «كيرزون» بصفة خاصة يتكلم دائمًا اللغة الإمبريالية المشتركة والمختلطة، وكان أكثر صراحة من «كرومر» في رسم صورة العلاقة بين بريطانيا والشرق باعتبارها علاقة امتلاك، ومن حيث تصور وجود مساحة جغرافية هائلة يمتلكها «سيد» استعماري ذو كفاءة. وقال في إحدى المناسبات إنه لا يعتبر أن الإمبراطورية «مسألة طموح»، بل يعتبرها «أولًا وقبل كلِّ شيء حقيقة تاريخية وسياسية واجتماعية عظمى». وقام في عام ١٩٠٩م بتذكير المندوبين الذين حضروا اجتماع المؤتمر الصحفي الإمبريالي في أوكسفورد «بأننا نتولى التدريب هنا، ونرسل إليكم حكامكم ومديريكم وقضاتكم، ومعلميكم ووُعَّاظكم ومحاميكم». وكان «كيرزون»، في هذه الصورة التي تكاد تكون تعليمية للإمبراطورية، يتصور أن لها مكانها الخاص في قارة آسيا، وهي التي كانت، كما قال ذات يوم، «تُرغم المرء على التوقف والتفكير»:

أحبُّ أحيانًا أن أصور لنفسي هذا النسيج الإمبريالي العظيم في صورة هيكل ضخم يُشبه البناء الذي رسمه الشاعر «تنيسون» في قصيدة «قصر الفن»، وأتصور أساسه في هذا البلد، حيث أرسَته أيادي أبناء بريطانيا ولا بد لها من الحفاظ عليه، ولكن أعمدته هي المستعمرات، وفوق هذا كله تسمو قبة آسيوية هائلة.11

وكان هذا التصور «لقصر الفن» الذي وضعه «تنيسون» يشغل تفكير «كيزرون وكرومر» عندما أبديَا الحماس معًا لعضوية لجنة وزارية تشكَّلت عام ١٩٠٩م من أجل الدعوة إلى إنشاء مدرسة للدراسات الشرقية. وإلى جانب تعبير «كيرزون» عن الأسف لعدم إلمامه باللهجات المحلية التي كان يمكن أن تساعده في «جولاته الظمآى» في الهند، كانت حجته في الدعوة إلى الدراسات الشرقية — تستند إلى كونها جزءًا من مسئولية بريطانيا تجاه الشرق. وفي سبتمبر ١٩٠٩م قال لمجلس اللوردات:

إن معرفتنا لا بلغات شعوب الشرق فقط بل بعاداتهم ومشاعرهم وتقاليدهم وتاريخهم ودينهم، وقدرتنا على أن نفهم ما يمكن أن يسمَّى عبقرية الشرق؛ تمثِّل الأساس الأوحد الذي من المحتمل أن يمكِّننا من الحفاظ في المستقبل على الموقع الذي فزنا به، وكل خطوة نستطيع أن نتخذها لتدعيم ذلك الموقع لا بد أن تعتبر جديرةً بنظر حكومة صاحب الجلالة أو بمناقشة في مجلس اللوردات.

وفي المؤتمر الذي عقد حول هذا الموضوع في مانشن هاوس بعد خمس سنوات، قام «كيزرون» أخيرًا بوضع النقط على الحروف، قائلًا:

إن الدراسات الشرقية ليست ترفًا فكريًّا، ولكنها التزامٌ إمبراطوري كبير، فأنا أرى أن إنشاء مدرسة مثل هذه [أي مدرسة للدراسات الشرقية، وهي التي أصبحت فيما بعد مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن] في لندن يمثِّل جزءًا من الأثاث اللازم للإمبراطورية. إن أبناء جلدتنا الذين قضَوا بصورة ما عددًا من السنين في الشرق، ويرونها أسعد سنوات حياتهم ويعتقدون أن العمل الذي قمنا به هناك، مهما يبلغ حجمه، يمثِّل أرفع مسئولية يمكن إلقاؤها على كواهل الإنجليز؛ يشعرون بوجود ثغرة في جهازنا القومي، وبأنه لا بد بكل تأكيد من سدِّ هذه الثغرة، وبأن رجال الأعمال في مدينة لندن الذين سوف يشاركون في سدِّها بتقديم الدعم المالي أو أي شكل آخر من أشكال المعونة النشطة والعلمية وسوف يؤدون واجبًا وطنيًّا نحو الإمبراطورية ويعززون القضية والنوايا الحسنة بين أفراد البشرية.12
وأفكار «كيرزون» عن الدراسات الشرقية مستقاةٌ، إلى حدٍّ كبير، وبصورة منطقية، من حصاد قرن كامل من الإدارة البريطانية النفعية للمستعمرات الشرقية والفلسفة الناشئة حولها. لقد كان تأثير «بنثام» وغيره من فلاسفة التفكير النفعي مثل «جون ستيورات مِل» وأضرابه في الحكم البريطاني في الشرق (وفي الهند بصفة خاصة) تأثيرًا بالغًا، كما أدَّى إلى التخلص من كل ما يزيد عن الحاجة من النظم وألوان التجديد. ولقد بيَّن «إريك ستوكس» بأدلته المُقْنعة أن الفلسفة النفعية المرتبطة بتركة النزعات التحررية والإنجيلية، بصفتها فلسفات الحكم البريطاني في الشرق؛ كانت تؤكد الأهمية العقلانية لوجود سلطة تنفيذية قوية، مسلحة بشتى المدونات القانونية وقوانين العقوبات، وبنظام للعقائد الخاصة بقضايا الحدود وإيجارات الأراضي، وبقيام سلطة إمبراطورية تُشرف على كل شيء ولا تقبل الانتقاص منها قط.13 كان حجر الزاوية للنظامِ كلِّه يتمثل في معرفة الشرق معرفة ما تفتأ تخضع للتشذيب والتهذيب، حتى لا يؤديَ التعجيل بتقدم المجتمعات التقليدية والتحول إلى مجتمعات تجارية حديثة إلى فقدانِ أيِّ جزء من السيطرة البريطانية الأبوية، أو إلى فقدان أيِّ جزء من الدخل. ومع ذلك فإن «كيرزون» عندما أشار بعبارة ركيكة بعضَ الشيء إلى الدراسات الشرقية باعتبارها «الأثاث اللازم للإمبراطورية» كان يقدِّم صورةً ثابتة للمعاملات الجارية التي مكَّنت الإنجليز والأهالي من أداء عملهم واحتفاظ كلِّ جانب بموقعه. فلقد أصبح الشرق، منذ أيام «وليم جونز»، المكانَ الذي تحكمه بريطانيا والموضوع الذي تعرفه، وهكذا اكتمل التوافق بين الجغرافيا والمعرفة والسلطة، مع استمرار بريطانيا في اتخاذ موقع السيادة دائمًا. وكان القول بما قاله «كيرزون» ذات يوم؛ أي بأن «الشرق جامعة لا يحصل الطالب فيها على درجته الجامعية أبدًا»، تعبيرًا آخر عن أن الشرق يتطلب الوجود البريطاني فيه إلى الأبد تقريبًا.14

ولكن بعض الدول الأخرى، وكان من بينها فرنسا وروسيا، كانت تمثِّل تهديدًا دائمًا (وربما كان هامشيًّا) للوجود البريطاني. وكان «كيرزون»، بالتأكيد، يُدرك أن جميع الدول العظمى كانت تشارك بريطانيا مشاعرَها تجاه الشرق. كان تحويل الجغرافيا من مادة «مملَّة متحذلقة» — وهما الصفتان اللتان أطلقهما «كيرزون» على الجوانب التي تخلصت منها الجغرافيا باعتبارها دراسة أكاديمية — إلى «أشد العلوم تحررًا من القيود القومية» يؤكد، على وجه الدقة، ذلك الولوع الغربي الجديد الواسع الانتشار. وكانت لدى «كيرزون» أسبابه التي دفعَته إلى أن يقول للجمعية الجغرافية، التي كان يرأسها، في عام ١٩١٢م:

«إن ثورة مطلقة قد قامت، لا في طريقة ومناهج تدريس الجغرافيا، بل في التقدير الذي تحظى به الآن من الرأي العام، فنحن نعتبر المعرفة الجغرافية اليوم من مقومات المعرفة بصفة عامة، فالجغرافيا وحدها هي التي تساعدنا على تفهُّم عمل القوى الطبيعية الكبرى، وتوزيع السكان، ونمو التجارة، واتساع الحدود القومية، وتطور الدول، والمنجزات الرائعة للطاقة البشرية في شتى تجلياتها.»

إننا نُدرك أن الجغرافيا خادمة التاريخ … والجغرافيا أيضًا من العلوم الشقيقة للاقتصاد والسياسة؛ ويعرف كلُّ مَن درس الجغرافيا منَّا أنه حالما ينحرف عن المجال الجغرافي يجد نفسه وقد عبرَ حدود الجيولوجيا، وعلم الحيوان، وعلم الأجناس، والكيمياء، والفيزياء، بل وجميع العلوم التي تتصل بصلة القرابة (للجغرافيا) تقريبًا. ونحن على حقٍّ إذن حين نقول إن الجغرافيا من أول وأهم العلوم، وإنها جزءٌ من المعدات اللازمة للتصور السليم للمواطنة، وملحق لا غنًى عنه لما يحتاجه الرجل العامل في الحياة العامة.15

كانت الجغرافيا تمثِّل، أساسًا، الدعامة المادية للمعرفة بالشرق، بمعنى أن جميع الخصائص الكامنة التي لا تتغير للشرق تقوم على طبيعته الجغرافية وتضرب بجذورها فيها. وهكذا نرى أن الشرق الجغرافي، من ناحية، «يغذي» سكانه ويضمن صفاته الأساسية ويحدِّد طابعهم الخاص، ومن ناحية أخرى يطلب من الغرب الاهتمام به، حتى ولو كان الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب، وهي من تلك المفارقات التي كثيرًا ما كشفت عنها المعرفة المنظمة. وأما ما كان «كيرزون» يعنيه بتحرر الجغرافيا من القيود القومية فهو أهميتها «العالمية» للغربِ كلِّه، وهو الذي كانت علاقته بسائر العالم علاقة طمع صريح فيه. ومع ذلك فقد تكتسي الشهيةُ الجغرافية ثوبَ الحياد الأخلاقي «للواقع المعرفي»؛ أي الدافع الذي يحفز الإنسان إلى اكتشاف مكان ما أو الكشف عنه والاستقرار فيه، ونحن نجد نظيرًا لذلك في اعتراف «مارلو» في رواية «قلب الظلام» التي كتبها «جوزيف كونراد» بأنه يعشق الخرائط، وهو يقول:

ربما قضيتُ ساعاتٍ أتأمل أمريكا الجنوبية أو أفريقيا أو أستراليا فأنسى نفسي فيما يغمرني به الاكتشاف من أمجاد. وفي ذلك الوقت كانت خريطةُ الأرض مليئة بالفجوات؛ فإذا شاهدتُ «فجوة» ذات إغراء خاص (وإن كانت جميعًا تبدو مغرية) وضعتُ أصبعي عليها وقلت «عندما أكبر سوف أذهب هناك».16
وقبل أن يقول «مارلو» هذا الكلام بنحو سبعين عامًا، لم يكن «لامارتين» يجد ما يدعو للقلق إن كانت تلك «الفجوة» البادية على الخريطة عامرة بالسكان من أبنائها أم لا، بل ولم يخطر ببال «إمير دي فاتيل»، البروسي السويسري الذي كان حجة في القانون الدولي، أيُّ تحفُّظٍ من الناحية النظرية حين دعا الدول الأوروبية في عام ١٧٥٨م إلى امتلاك الأراضي التي لا تسكنها إلا قبائل رُحَّل وحسب17 كان المهم هو إعلاء شأن الغزو الصريح بتحويله إلى فكرة؛ أي تحويل شهية الحصول على المزيد من الحيز الجغرافي إلى نظرية عن العلاقة بين الجغرافيا من ناحية وبين الشعوب المتحضرة أو غير المتحضرة من ناحية أخرى. ولكن الفرنسيِّين ساهموا مساهمة متميزة في هذه المحاولات العقلانية للتبرير.

فبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان اتفاق الظروف السياسية والفكرية في فرنسا قد بلغ الحد الذي أتاح للجغرافيا أن تصبح موضوعًا جذابًا لتزجية الوقت على المستوى القومي، وكذلك التأملات والمضاربات الجغرافية، فلقد كان المناخ الفكري في أوروبا ملائمًا، ولا شك أن نجاحات الإمبريالية البريطانية كانت تُفصح عن نفسها بأعلى صوت ممكن. ومع ذلك فقد كانت فرنسا ترى — مثلما كان المفكرون الفرنسيون الذين تعرضوا لهذا الموضوع يرون — أن بريطانيا تحول، فيما يبدو، دون قيام فرنسا بدور إمبريالي، حتى ولو حقق نجاحًا نسبيًّا فحسب، في الشرق، وكان المفكرون الفرنسيون، لا الشعراء والروائيون فقط، يُمَنُّون أنفسهم بقدر كبير من الأماني السياسية الخاصة بالشرق، قبل نشوب الحرب ما بين فرنسا وبروسيا، وهاك، على سبيل المثال، ما يقوله «سان مارك جيراردان»، في مقال كتبه في مجلة ريفي دي ديه موند بتاريخ ١٥ مارس ١٨٦٢م:

على فرنسا أن تعمل الكثير في الشرق؛ فالشرق ينتظر منها الكثير، ومع ذلك فهو يطلب منها أن تنهض بأكثر مما تستطيع النهوض به؛ إذ وضع في أيدَيها من جديد، وعن طيب خاطر، مسئولية الاهتمام الكامل بمستقبله، وهو ما يعتبر خطرًا داهمًا على فرنسا وعلى الشرق معًا، فأما الخطر على فرنسا فيرجع إلى أن استعدادها لتولِّي أمر السكان الذين يتعرضون للمعاناة، يعني أن تتحمل في أغلب الأحيان التزامات أكبر مما تستطيع الوفاء به، وأما الخطر على الشرق فيرجع إلى أنَّ كلَّ شعب ينتظر من الأجانب تحديد مصيره، لن يعرف سوى زعزعة الأحوال، ولن يتمتع بالخلاص الذي تحققه الأمم لنفسها.18

ولا شك أن «دزرائيلي» كان يمكن أن يقول عن أمثال هذه الآراء، على نحو ما قال أكثر من مرة، إن فرنسا ليست لديها سوى «اهتمامات عاطفية» بسوريا (وكانت سوريا تمثل الشرق الذي يكتب عنه جيراردان). وكان وَهْمُ «الشعوب التي تعاني» هو الذي استند إليه «نابليون»، بطبيعة الحال، عندما حاول اكتساب تعاطف المصريين والحديث باسمهم وباسم الإسلام ضد الأتراك. وأما في خلال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر فقد كانت الشعوب التي تعاني مقصورة على الأقليات المسيحية في بلاد الشام، ولا توجد وثائق تاريخية تثبت أن «الشرق» طلب من فرنسا إنقاذه. والأقرب إلى الواقع والحق أن نقول إن بريطانيا كانت تعترض سبيل فرنسا إلى الشرق، فحتى لو كانت فرنسا تشعر صادقةً بأي التزام تجاه الشرق (وإن كان بعض الفرنسيِّين يشعرون حقًّا بذلك) فلم يكن في إمكان فرنسا أن تفعل شيئًا يذكر لعرقلة طريق بريطانيا إلى المساحة الهائلة من الأرض التي تسيطر عليها من الهند إلى البحر المتوسط.

وكان من أهم عواقب الحرب بين فرنسا وبروسيا عام ١٨٧٠م أن ازدهرت الجمعيات الجغرافية في فرنسا ازدهارًا عظيمًا، وتجددت المطالبة القوية بحيازة المزيد من الأراضي. وفي نهاية عام ١٨٧١م أعلنت جمعية باريس الجغرافية أنها لم تَعُد تقتصر جهودها على «التأملات العلمية». بل إنها حثَّت المواطنين على ألَّا «ينسوا أن سيادتنا السابقة بدأت تتعرض للمزاحمة فيها في اليوم الذي توقفنا فيه عن المنافسة … في انتصارات الحضارة على الهمجية». وفي عام ١٨٨١م قال «جيوم دبنج» الذي تزعم ما أصبح يسمَّى بالحركة الجغرافية، «إن المعلِّم هو الذي انتصر» في حرب عام ١٨٧٠م، وكان يقصد بذلك أن الانتصارات الحقيقية كانت انتصارات الجغرافيا العلمية البروسية على التراخي الاستراتيجي الفرنسي. وكانت الصحيفة الرسمية للحكومة تخصِّص عددًا من بعد عدد للحديث عن فضائل (وأرباح) المكتشفات الجغرافية والمغامرات الاستعمارية، وكان في وسع المواطن أن يتعلم من أحد أعدادها درسًا من «دي ليسيبس» عن «الفرص المتاحة في أفريقيا»، ودرسًا من «جارنييه» عن «اكتشاف النهر الأزرق». وسرعان ما حلَّت «الجغرافيا التجارية» محلَّ الجغرافيا العلمية، بسبب ما زعمه الكتاب من روابط تربط ما بين الاعتزاز القومي بالإنجاز العلمي والحضاري وبين دافع الربح البدائي إلى حدٍّ بعيد، وبحيث تعمل «الجغرافيا التجارية» على تدعيم المكاسب الإقليمية الاستعمارية. وقال أحد المتحمسين لذلك «إن الجمعيات الجغرافية قد تشكلت لإبطال مفعول التعويذة السحرية التي تغلنا بأصفادها إلى شواطئ بلدنا». وهكذا وُضعت المشروعات من شتى الأنواع للمساعدة في تحقيق هذا المطلب «التحرري»، وكان من بينها الاستعانة بالكاتب «جول فيرن»، وهو الذي كان «إنجازه الذي لا يكاد يصدق» — فيما قيل — دليلًا على عمل الذهن الذي بلغ أعلى ذروة من ذُرَا التفكير المنطقي، وتكليفه برئاسة «حملة للاستكشاف العلمي في شتى أرجاء العالم»، إلى جانب وضع خطة «لخلق» بحر جديد شاسع يقع مباشرة إلى الجنوب من ساحل شمال أفريقيا، ومشروع «لربط» الجزائر بالسنغال بالسكك الحديدية، أو «بشريط من الفولاذ» كما كان أصحاب المشروع يُطلقون عليه.19
وكان جانب كبير من الحماس للتوسع، في فرنسا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ثمرة للرغبة الصريحة في تعويض فرنسا عن انتصار بروسيا عليها في حرب ١٨٧٠–١٨٧١م، وثمرة لرغبة لا تقل أهمية عن ذلك وهي مجاراة الإنجازات الإمبريالية البريطانية. ولقد بلغ من قوة هذه الرغبة الأخيرة، وبلغ من استنادها إلى ذلك التراث العريق من المنافسة بين إنجلترا وفرنسا في الشرق، أن شبح بريطانيا كان، فيما يبدو، «يسكن» فرنسا — دون مبالغة — ويدفعها إلى محاولة اللحاق ببريطانيا والتفوق عليها في كل ما يتصل بالشرق. وعندما أعادت الجمعية الأكاديمية الفرنسية للهند الصينية في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر تحديد أهدافها، رأت أنه من المهم «إدراج الهند الصينية في مجال الاستشراق» ولماذا؟ حتى تستطيع تحويل منطقة كوشين الصينية، وهي الجزء الجنوبي من فيتنام، إلى «منطقة هندية فرنسية». وكان العسكريون يعزون الافتقار إلى ممتلكات استعمارية كبيرة إلى تضافر الضعف الحربي مع الضعف التجاري في الحرب مع بروسيا، ناهيك بتفوق بريطانيا الاستعماري الواضح، والذي طال أمده. وقال أحد كبار الجغرافيِّين، ويُدعَى «لارونسيير لونوري»، إن «قوة التوسع للأجناس الغربية، وأسبابه الفائقة، وعناصره، ووجوه تأثيره في المصائر البشرية، من الدراسات الجميلة التي يمكن لمؤرخي المستقبل أن يقوموا بها». ولكن التوسع الاستعماري من المحال تحقيقه إلا إذا أطلقت الأجناس البيضاء العنان لولعها بالترحال، الذي يشهد بتفوقها الفكري.20

ومن أمثال هذه الأطروحات نبعت النظرة الشائعة إلى الشرق باعتباره مكانًا جغرافيًّا ينتظر الغرس والتنمية والحصاد، والحماية. ومن ثَم تكاثرت صور الرعاية الزراعية للشرق والإشارة الجنسية الصريحة إليه، وفيما يلي دفقة من دفقات التعبير التي تميز بها «جابرييل شرم»، كتبها عام ١٨٨٠م:

في اليوم الذي ينتهي فيه وجودنا في الشرق، ولا يزال للدول الأوروبية الكبرى الأخرى وجود فيه، سوف تنتهي تجارتنا في البحر المتوسط، وينتهي مستقبلنا في آسيا، وتنتهي حركة المرور في موانينا الجنوبية، وسوف يجفُّ نبع من أخصب منابع ثروتنا القومية (التأكيد من عندي).

ويزيد مفكر آخر يُدعَى «لوروا-بوليو» من التفاصيل الموضحة لهذه الفلسفة قائلًا:

يقوم أحد المجتمعات بالاستعمار، عندما يكون قد حقق لنفسه درجة رفيعة من النضج والقوة، فينجب مجتمعًا جديدًا ويحميه ويوفر له الظروف الملائمة للنمو والتطور، ويساعد هذا المجتمعَ الجديدَ الذي ولده على بلوغ مرحلة الفحولة. والاستعمار من أشد مظاهر الفسيولوجيا الاجتماعية تعقيدًا ودقة.

وقد أدَّت معادلة «التكاثر الذاتي» بالاستعمار عند «لوروا-بوليو» إلى الفكرة الخبيثة إلى حدٍّ ما، والتي تقول إن كلَّ ما يتمتع بالحيوية في أحد المجتمعات الحديثة «يتضخم من خلال قذفه لنشاطه الفياض بالحيوية إلى خارجه». ومن ثَم فهو يقول إن:

الاستعمار قوة انتشار شعب من الشعوب؛ وهو طاقته على التكاثر؛ وهو يمثل تضخمه وتكاثره مكانيًّا؛ وهو إخضاع الكون أو جانب شاسع فيه للغة ذلك الشعب وعاداته وأفكاره وقوانينه.21

والقضية المطروحة هنا هي اعتبار أن المكان الذي تشغله المناطق الأضعف أو المتخلفة مثل الشرق يدعو الفرنسيِّين إلى الاهتمام به واختراقه وتلقيحه، أي — باختصار — استعماره. وهكذا فإن التصورات و«حالات الحمل» الجغرافية، سواء كان هذا التعبير مجازيًّا أو حقيقيًّا، تعني إلغاء وجود الكيانات المنفصلة التي تحدُّها الحدود والتخوم. ولقد عرفت فرنسا مَن لا يَقِلُّون عن «فردينان دي ليسبس» في رؤاهم وقدرتهم على تنظيم الأعمال التجارية، ومَن كانوا يعتزمون كسر القيود الجغرافية للشرق والغرب، من العلماء والإداريِّين والجغرافيِّين والوكلاء التجاريِّين الذين صبُّوا نشاطهم الدفاق في الشرق المستكين والأنثوي إلى حدٍّ كبير، كما عرفت فرنسا الجمعيات الجغرافية التي كان عددها، وعدد أعضائها، يزيد مرة أو مرتين عن مجموع ما ظهر في أوروبا منها، إلى جانب المنظمات القوية مثل لجنة آسيا الفرنسية، ولجنة الشرق، وكذلك الجمعيات العلمية، وعلى رأسها الجمعية الآسيوية، وهي التي ترسخ تنظيمها وترسخت عضويتها في الجامعات والمعاهد والحكومة. وقد أدَّت كلُّ هيئة من هذه الهيئات إلى أن اصطبغَت الاهتمامات الفرنسية بالشرق بصبغة أقرب إلى الحقيقة الواقعة وأوسع نطاقًا: كان لا بد من وضعِ حدٍّ لما يقرب من قرن كامل قضَته فرنسا فيما كان يبدو لها ضربًا من الدراسة السلبية للشرق، وبدأت تتصدَّى لمسئولياتها «عبر الوطنية»؛ أي التي تتجاوز حدودها القومية، في العقدَين الأخيرَين من القرن التاسع عشر.

وقد استطاع الخصمان تسويةَ النزاع بينهما بأسلوب يكاد يتصف بالكمال وبطابع الاتساق الذي كان يميز أمثال هذه التسويات، في المنطقة الوحيدة من الشرق التي كانت المصالح البريطانية والفرنسية تتداخل فيها تداخلًا حقيقيًّا، ألَا وهي الدولة العثمانية التي كانت قد مرضَت مرضًا لا شفاء منه. كان لبريطانيا وجودٌ في مصر وبلاد ما بين النهرين (العراق)، وأصبحت بفضل سلسلة معاهدات شبه وهمية مع الزعماء المحليِّين (الذين لا حول لهم ولا طَول) تسيطر على البحر الأحمر، والخليج العربي، وقناة السويس، إلى جانب معظم الأراضي الواقعة ما بين البحر المتوسط والهند. وأما فرنسا فقد بدا أنها كُتب عليها أن تحوم حول الشرق، وأن تهبط فيه على فترات متباعدة لتنفيذ مشروعات تُكرر فيها نجاح «دي ليسبس» في القناة، وكانت معظمها مشروعات سكك حديدية، مثل المشروع الذي وضعته لإقامة خط يربط سوريا ببلاد ما بين النهرين، ويمر في منطقة خاضعة تقريبًا لبريطانيا. كما كانت فرنسا ترى أنها مسئولة عن حماية الأقليات المسيحية، مثل المارونيِّين، في الشام، والكلدانيِّين، في العراق، والنسطوريِّين، في الدولة العثمانية. ولكن بريطانيا وفرنسا اتفقتا من حيث المبدأ على ضرورة تقسيم أراضي تركيا في آسيا، عندما تحين اللحظة المناسبة. وكانت الدبلوماسية السرية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها تعمل على تقسيم الشرق الأدنى إلى مناطق نفوذ أولًا، ثم إلى مناطق تحت الانتداب (أو تحت الاحتلال). وقد تشكَّل جانب كبير من هذه النزعة التوسعية الفرنسية في أيام ازدهار الحركة الجغرافية وكانت تتركز في الخطط الموضوعة لتقسيم الأراضي الآسيوية التابعة لتركيا، وازداد هذا التركيز إلى الحد الذي أدَّى إلى «انطلاق حملة صحفية باهرة» في باريس عام ١٩١٤م تحقيقًا لهذه الغاية،22 وفي إنجلترا كُلِّفَت عدة لجان بدراسة السياسات الخاصة بأفضل الوسائل اللازمة لتقسيم الشرق والتوصية بتنفيذها. وبناءً على اقتراح إحدى هذه اللجان، وهي لجنة بَنْسِن، تشكَّلَت فِرَق إنجليزية فرنسية مشتركة، كان أشهرها الفريق الذي كان يرأسه «مارك سايكس، وجورج بيكو». وكانت فكرة التقسيم العادل للمناطق الجغرافية تعتبر أفضل قاعدة في هذه الخطط التي كانت تمثِّل كذلك محاولات متعمدة لتهدئة المنافسة بين إنجلترا وفرنسا. إذ إنه، كما ذكر «سايكس» في إحدى المذكرات التي بعث بها:
كان من الواضح … أن العرب سوف يقومون بثورة إن عاجلًا أو آجلًا، وأنه من الأفضل أن تسود العلاقات الطيبة بيننا وبين الفرنسيِّين حتى تصبح تلك الثورة نعمة لا نقمة …23

ولكن مشاعر العداء استمرت، وأُضيف إليها البرنامج الذي وضعه «ويلسون»، وكان يمثِّل مصدرَ مضايقة، ويقضي بحق البلدان في تقرير مصيرها؛ إذ كان — على نحو ما أقرَّ سايكس بنفسه — يطعن في صحة الهيكل الكامل للمشروعات الاستعمارية والتقسيمية التي شاركَت الدولتان في وضعها معًا. وليس هذا السياق مناسبًا لمناقشة تاريخ الشرق الأدنى كله في مطلع القرن العشرين (فهو مثار خلافات عميقة ويضل المرء في شعابه) في فترة البت في مصيره، وهو الذي كانت تتولاه الدول الأوروبية، والأُسَر الحاكمة المحلية، وشتى الأحزاب والحركات القومية، ودعاة الصهيونية. وأما الذي يهمُّنا مباشرة في هذا السياق فهو الإطار المعرفي الخاص الذي كان يُنظر فيه إلى الشرق، وتتصرف الدول الأوروبية من خلاله. إذ كان البريطانيون والفرنسيون يعتقدون أن لهم حقًّا تقليديًّا في تحديد مصير الشرق الذي كانوا يرَون أنه كيان جغرافي وثقافي وسياسي وسكاني واجتماعي وتاريخي. ولم يكن الشرق في أعينهم يمثِّل اكتشافًا مفاجئًا، أو مجرد حادثة تاريخية، بل منطقة تقع في شرق أوروبا، وتتخذ قيمتُها الرئيسية صورةً موحَّدة تحدَّدت ملامحُها من زاوية نظر أوروبية، وبصفة أخص من زاوية النظر التي تزعم لأوروبا دون غيرها — لمَا تتمتع به من علم وبحث وفهم وإدارة — الفضلَ في أن جعلَت الشرق ما أصبح عليه. ولقد كان ذلك هو الإنجاز الذي حققه الاستشراق الحديث، سواء كان ذلك عن غير قصد أو عن قصد، فالأمر لا يتصل بقضيتنا.

ولقد سلك الاستشراق منهجَين رئيسيَّين في تقديم الشرق إلى الغرب في مستهل القرن العشرين. كان الأول يتوسل بطاقات العلم الحديث على الانتشار؛ أي يعتمد على جهاز النشر في المِهَن العلمية، في الجامعات، والجمعيات المهنية، والمنظمات الكشفية والجغرافية، وصناعة نشر الكتب والمطبوعات. وكانت هذه جميعًا تبني ما تبني، كما رأينا، على أساس المكانة الرفيعة الموثوق بها للرواد من الباحثين والرحالة والشعراء، وهم الذين أدَّت رؤاهم التراكمية إلى تشكيل الصورة التي تمثِّل جوهر الشرق، وأما الصورة المذهبية العقائدية لذلك الشرق فهي التي أطلقتُ عليها تعبير الاستشراق الكامن. وكان كلُّ مَن يريد أن يقول قولًا يتمتع بأيِّ قدر من الأهمية عن الشرق، يجد في الاستشراق الكامن مصدرًا لطاقة تعبيرية يمكنه استخدامها، أو بالأحرى حشدها، وتحويلها إلى «خطاب» معقول يلائم المناسبة العملية الطارئة. وهكذا فعندما تحدَّث «بلفور» عن «الشرقي» في مجلس العموم البريطاني عام ١٩١٠م، كان يعتمد، ولا شك، على تلك الطاقات التعبيرية للغة عصره الشائعة والمقبولة عقلانيًّا، وهي التي كانت تُتيح إطلاق اسم «الشرقي» على شيء ما والحديث عنه دون المخاطرة بالوقوع في غموض أكثر مما ينبغي. ولكن الاستشراق الكامن — شأنه شأن جميع الطاقات التعبيرية وضروب «الخطاب» التي تُتيحها — كان في أعماقه محافظًا إلى حدٍّ بعيد؛ أي يحاول جهد الطاقة الحفاظ على ذاته. كان ينتقل من جيل إلى جيل، باعتباره جانبًا من جوانب الثقافة، وباعتباره لغة خاصة بظاهرة من ظواهر الواقع مثل الهندسة أو الفيزياء. وكان الاستشراق يرهن وجوده لا بانفتاحه أو مدى تقبُّلِه للشرق بل باتساقه الداخلي والمتكرر بشأن إرادة التسلط على الشرق، وهي الإرادة التي كانت من مقوماته. وهكذا تمكَّن الاستشراق من البقاء، وكُتبت له النجاة من الثورات والحروب العالمية والتمزق الفعلي للإمبراطوريات.

وكان المنهج الثاني الذي قدَّم الاستشراق به الشرق إلى الغرب من ثمار حالة من حالات التلاقي المهم. فلقد كان المستشرقون على مدى عقود طويلة يتحدثون عن الشرق، فيترجمون النصوص، ويشرحون الحضارات والأديان والأُسَر الحاكمة والثقافات والعقليات، باعتبارها جميعًا موضوعاتٍ أكاديميةً يحجبها عن أوروبا طابعُها الأجنبي الذي لا مثيلَ له. كان المستشرق خبيرًا، مثل «رينان ولين»، وظيفته في المجتمع أن يفسِّر الشرق ويوضحه لزملائه المواطنين. وكانت العلاقة بين المستشرق والشرق علاقة استكشافية في جوهرها، فكان المستشرق يُواجه حضارةً أو أثرًا ثقافيًّا نائيًا لا يكاد يُفهم، وكان يحاول في بحثه العلمي تقليل الغموض الذي يشوب تلك الحضارة أو ذلك الأثر الثقافي عن طريق الترجمة، أو بالتصوير المتعاطف، بحيث يُفهم «الموضوع» الذي يستعصي على الإدراك. ولكن المستشرق كان يظل دائمًا خارج الشرق، ويظل الشرق، مهما يبلغ نجاح المستشرق في تيسير فهمه في الظاهر، خارج نطاق الغرب. وكان التعبير عن هذا الابتعاد الثقافي والزمني والجغرافي يتخذ شكل استعارات تقوم على العمق، والسرية، والوعد الجنسي؛ إذ دخلت بعض العبارات إلى اللغة الشائعة؛ مثل «خمار العروس الشرقية» أو «الشرق ذو الأسرار التي لا تُكتنه».

ومع ذلك، فقد كانت المسافة التي تفصل الشرق عن الغرب آخذةً في التضاؤل في القرن التاسع عشر، وهو ما يكاد يمثِّل مفارقةً من لون ما. إذ إنَّ ازدياد حالات التلاقي التجاري والسياسي والوجودي بين الشرق والغرب (بالصور التي ناقشناها حتى الآن) أدَّى إلى نشوب توتُّر بين العقائد الجامدة للاستشراق الكامن وما يدعمها في الدراسات الخاصة بالشرق «الكلاسيكي»، وبين ما جاء به الرحَّالة والحُجَّاج والسياسيون وما أفصحوا عنه من ملامح الشرق الحديث، الواضح الحاضر. وفي لحظة ما، ومن المحال القطع في موعد وقوعها بدقة، أدَّى هذا التوتر إلى تلاقي هذين النمطَين من أنماط الاستشراق. وأظنُّ ظنًّا أن التلاقي قد وقع عندما قام المستشرقون، ابتداءً ﺑ «ساسي»، بإسداء المشورة إلى الحكومات فيما يتعلق بأحوال الشرق الحديث، فاكتسب الدور الذي يضطلع به الخبير، بسبب حصوله على تدريب خاص ومؤهلات خاصة؛ بُعدًا إضافيًّا. ولنا أن نعتبر أن المستشرق أصبح الأداة الخاصة التي تتوسل بها السلطة الغربية في محاولة رسم سياساتها تجاه الشرق. وهكذا كان كلُّ زائر أوروبي متعلم (وغير المحيط بعلم فياض) للشرق يرى أنه يمثِّل الغربي الذي استطاع النفاذ إلى ما يكمن خلف أغشية الغموض وغلالاته. ويصدق هذا بوضوح على «بيرتون، ولين، ودواتي، وفلوبير»، وجميع الشخصيات الرئيسية التي ناقشتُها إلى الآن.

واكتسبت مكتشفات الغربيِّين عن الشرق الحديث الواضح طابعَ الإلحاح والعجلة، وهو الذي صاحب اتساع الأملاك الغربية في الشرق. وهكذا كان التعريف الذي يضعه الباحث المستشرق لما يمثِّل الشرق «في جوهره»، يُقابَل أحيانًا بالنقض، وإن كان يلقَى التأييد في حالات كثيرة بعدما أصبح الشرق في الواقع التزامًا إداريًّا فعليًّا. ولا شك أن نظريات «كرومر» عن «الشرقي» — وهي النظريات التي استقاها من الأرشيف الاستشراقي التقليدي — قد صادفَت وقائعَ كثيرة تؤكد صحتها عندما تولَّى حكم الملايين من الشرقيِّين في الواقع الفعلي. وهذا يصدق بالدرجة نفسها على خبرة الفرنسيِّين في سوريا وفي شمال أفريقيا، وغيرها من المستعمرات الفرنسية، أو ما كان في حكم المستعمرات. وأما أبرز صور التلاقي بين عقائد الاستشراق الكامن وبين خبرة الاستشراق السافر فلم تشهدها فترة مثل فترة تطلُّع بريطانيا وفرنسا إلى تمزيق الأراضي التابعة لتركيا في آسيا نتيجة للحرب العالمية الأولى: كان رجل أوروبا المريض؛ أي الدولة العثمانية يستلقي على منضدة العمليات استعدادًا للجراحة، ويكشف عن جميع مناحي ضعفه، وخصائصه، وحدوده المكانية أو الطبوغرافية.

وقد نهض المستشرق، بما يتمتع به من معرفة خاصة، بدورٍ ذي أهمية بالغة إلى أقصى حدٍّ في هذه الجراحة. وكان قد سبق الإحساس بدوره الجوهري باعتباره عميلًا سريًّا من لونٍ ما، يقوم بعمله داخل الشرق، عندما أرسلَت بريطانيا الباحث «إدوارد هنري بامر» إلى سيناء في عام ١٨٨٢م لقياس مدى شيوع المعاداة لبريطانيا وإمكان استخدام الثورة العرابية لها. وقد قُتل «بامر» أثناء أدائه مهمَّتَه، ولكن حالته لم تكن سوى أشدِّ الحالات إخفاقًا من بين حالات الكثيرين الذين قدَّموا خدماتٍ مماثلةً للإمبراطورية، وهي التي أصبحت عملًا خطيرًا مرهقًا يُسنَد إلى حدٍّ ما إلى «الخبراء» الإقليميِّين. وكان ذلك من أسباب تعيين د. «ج هوجارث» رئيسًا للمكتب العربي في القاهرة أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان مستشرقًا اشتهر بالكتاب الذي وضعه عن استكشاف الجزيرة العربية، ووضع له عنوانًا يلائمه وهو «اختراق بلاد العرب» (١٩٠٤م).24 كما لم يكن من قبيل المصادفة أن بعض الرجال والنساء، من «جروترود بِل»، إلى «ت. أ. لورنس، وسانت جون فيلبي» — وكلهم من خبراء المستشرقين — قد أُرسلوا إلى الشرق باعتبارهم من عملاء الإمبراطورية، ومن أصدقاء الشرق، وواضعي السياسات البديلة، بسبب معرفتهم الوثيقة العميقة بالشرق وبالشرقيِّين. وكانوا يُشكلون فيما بينهم «عُصبة» — وهي الصفة التي أطلقها عليهم «لورنس» ذات يوم — تربط ما بين أفرادها أفكارٌ متناقضة ووجوه شَبَه شخصية: مثل النزعة الفردية المتأصلة، والتعاطف مع الشرق إلى درجة «التوحُّد» الحدسي معه، والحرص الشديد على فكرة أداء «رسالة» شخصية في الشرق، و«غرابة الأطوار» المكتسبة، والرفض النهائي للشرق. وكانت صورة الشرق عند الجميع تقتصر على الخبرة المباشرة الخاصة به. واتخذ الاستشراق مثلما اتخذت السبل العملية للتصدِّي للشرق لديهم صورتها الأوروبية النهائية قبل اختفاء الإمبراطورية وتسليم تَرِكتِها لمرشحين آخرين للقيام بدور الدولة المسيطرة.

وأصحاب النزعة الفردية من أمثال هؤلاء لم يكونوا أكاديميِّين، ولكنهم انتفعوا، كما سوف نرى بعد قليل، بالدراسة الأكاديمية للشرق، دون انتماءٍ بأيِّ معنًى من المعاني إلى الزمرة الرسمية والمهنية للمستشرقين الأكاديميِّين. ومع ذلك فلم يكن الدور الذي اضطلعوا به يعني الاستهانة بالاستشراق الأكاديمي أو تقويضه بل إكسابه المزيد من الفعالية: كانوا ينحدرون فكريًّا من سلالة مستشرقين مثل «إدوارد لين وريتشارد بيرتون»، من حيث نزعة التعليم الذاتية والموسوعية لديهم، وأيضًا من حيث المعرفة شبه الأكاديمية بالشرق التي كانت تتجلَّى بوضوح في تعاملهم مع الشرقيِّين أو الكتابة عنهم. وقد استعاضوا عن الدراسة المنهجية للشرق (أي في «المقررات» الدراسية) بتطوير الاستشراق الكامن والإفصاح عن عناصره، وهي التي كانت في متناول أيديهم في الثقافة الإمبريالية للحقبة التي عاشوا فيها. وكان الإطار المرجعي لهم، في الحدود التي كان لهم فيها إطار مرجعي، قد شكَّله دارسون من أمثال «وليم ميور، وأنتوني بيفان، ود. س. مارجوليوث، وتشارلز لَيَالْ، وأ. ج. براون، ور. أ. نيكولسون، وجي لوسترانج، وأ. د. روص، وتوماس أرنولد»، وهم الذين كانوا ينحدرون كذلك من السلالة الفكرية المباشرة ﻟ «إدوارد لين». وأما آفاقهم الإبداعية فقد رسمها أساسًا معاصرهم الأشهر «رديارد كبلنج»، الروائي والشاعر الذي أنشد أناشيده التي لا تُنسى عن «السيادة على أشجار النخيل والصنوبر» معًا.

وكان الفرق بين بريطانيا وفرنسا في هذه المسائل يتفق اتفاقًا كاملًا مع تاريخ كل أمة منهما في الشرق؛ فلقد كان للبريطانيِّين وجود فيه، وكانت فرنسا تنعَى فقدان الهند والأراضي المؤدية إليها. وبحلول نهاية القرن كانت سوريا قد أصبحت المركز الرئيسي للنشاط الفرنسي، وإن اتفقت الآراء على أن الفرنسيِّين لم يكونوا قادرين، حتى في سوريا، على مجاراة البريطانيِّين في نوعية «العاملين» فيها ولا في درجة النفوذ السياسي. وقد تجلَّت المنافسة بين إنجلترا وفرنسا حول الحصول على أسلاب الدولة العثمانية حتى في ميادين القتال في الحجاز وفي سوريا وفي بلاد ما بين النهرين؛ أي العراق، ولكن المستشرقين وخبراء الشئون المحلية من البريطانيِّين كانوا يتفوقون على نظرائهم الفرنسيِّين في الذكاء وفي المناورات التكتيكية حتى في هذه الميادين، على نحو ما أشار إليه الفطن الأريب «إدموند بريموند».25 فباستثناء العبقريات الفرنسية العارضة، مثل عبقرية «لويس ماسينيون»، لم يكن لدى الفرنسيين نظراء ﻟ «لورنس أو سايكس أو بِلْ»، وإن كان لديهم إمبرياليون ذوو عزم متين مثل «إتيين فلاندان، وفرانكلين-بوييون». فقد ألقى الكونت «دي كريساتي» في عام ١٩١٣م (وكان من أعلى الإمبرياليِّين صوتًا) محاضرةً في اجتماع للتحالف الفرنسي بباريس أعلن فيها أن سوريا كانت تمثِّل الشرق الخاص بفرنسا، وأنها المكان الذي يضم المصالح السياسية، والأخلاقية، والاقتصادية، لفرنسا، وأضاف أن هذه المصالح لا بد من الدفاع عنها في هذا العصر، «عصر الغزوات الإمبريالية». ومع ذلك فقد أشار «كريساتي» إلى أنه رغم تمتُّع فرنسا بوجود شركاتها التجارية والصناعية في الشرق، ورغم التحاق أكبر عدد من التلاميذ من أبناء الأهالي بالمدارس الفرنسية، فإن فرنسا كانت تتعرض دائمًا للمدافعة والمزاحمة في الشرق، وللتهديد لا من بريطانيا فقط بل أيضًا من النمسا وألمانيا وروسيا. كانت حجة «كريساتي» تقول إنه إذا أرادت فرنسا أن تواصل الحيلولة دون «عودة الإسلام» فعليها أن تبسط سيطرتها على الشرق، وهي الحجة التي أيَّدها السناتور «بول دومير».26 وقد تكرر الإعراب عن هذه الآراء في مناسبات عديدة، والواقع أن فرنسا نجحت دون الاستعانة بأحد في شمال أفريقيا وفي سوريا بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن الفرنسيِّين كانوا يشعرون أنهم لم ينجحوا في الإدارة العملية الخاصة فيما يتعلق بالكيانات الناشئة لسكان الشرق وللمناطق التي تتمتع باستقلال نظري فيه، وهو النجاح الذي كان الإنجليز ينسبونه دائمًا لأنفسهم. وربما كان الفرق الذي يشعر به المرء دائمًا، في نهاية الأمر، بين الاستشراق الفرنسي الحديث، والاستشراق البريطاني الحديث يكمن في الأسلوب؛ فلقد كانت التقاليد الفرنسية والبريطانية تشترك في فحوى التعميمات الخاصة بالشرق والشرقيِّين، وبالحفاظ على التمييز بين الشرق والغرب، وتفضيل السيطرة الغربية على الشرق، ولكن الأسلوب يتفرد من بين العناصر الكثيرة التي تمثِّل ما اعتدنا تسميته ﺑ «الخبرة»، بكونه أوضح هذه العناصر؛ لأنه يمثِّل التعبير «الشكلي» عن تأثير التقاليد والمؤسسات والإرادة والذكاء في مجموعة من الظروف الواقعية المحددة، كما يمثِّل نتيجة هذا التأثير الذي يعتبر صوغًا أو تشكيلًا لهذه الظروف. وعلينا الآن أن ننظر في هذا «العامل» البارز الذي أدَّى إلى إجراء تنقيح حديث في الاستشراق في مطلع القرن العشرين في بريطانيا وفرنسا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤