اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
بشكل عام، يُمثِّل اليمين مَوقِف المُحافِظِين الراغبِين في الإبقاء على الوضع القائم،
بينما
يُمثِّل اليسار مَوقِف الثوريِّين الراغبِين في التغيير؛ إما التغيير الفابي
١ أي التدريجي، وإما التغيير الراديكالي أي الجذري.
أما بالنسبة لليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي، فقد تبلورتْ الليبرالية في القرن
الثامن عشر لتكون فلسفة نبيلة تُدافِع عن مُنطلَقات الرأسمالية والحق في المِلكية، فقد
كانت
الليبرالية أصلًا من أجل الدفاع عن الطبقة الوسطى، طبقة صِغار المُلاك (= البرجوازية؛
أي
سكان المدن)
٢ التي كانت طبقة نامية آنذاك، وللبحث عن الاعتراف الكامل بها، بسائر حقوقها
في الحياة والحرية والمِلكية. هذا في مواجهة طبقة الإقطاعيِّين التي كانت مُهيمِنة أساسًا
على الحياة الاقتصادية، وبالتالي على سائر جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية
في العصور الوسطى، وقد زوَت طبقة الإقطاعيِّين بانتهاء العصور الوسطى وإشراقة العصر
الحديث.
هكذا كانت الليبرالية في أصولها فلسفة الطبقة البرجوازية وفلسفة المِلكية، وبالتالي
تعني الليبرالية — من حيث هي فلسفة للرأسمالية — أن ترفع الدولة يدها عن وسائل الإنتاج
وتترك مِلكيَّتها للأفراد في تنافُسهم الحُر وصِراعهم؛ وذلك تحقيقًا للمبدأ المعروف باسم
مبدأ
الاقتصاد الحُر Laissez faire، والذي يُعبِّر عنه
الشِّعار الليبرالي/الرأسمالي الشهير: دَعه يعمل، دَعه يمُر، إن العالم يسير من تِلقاء
نفسه.
بل وتعني الليبرالية في أصولها ألا تتدخَّل الدولة في العلاقات الاقتصادية بين الأفراد،
أو بين الجماعات، أو بين الطبقات؛ فكان التنافُس هو الصورة العامة للاقتصاد
الليبرالي.
هكذا باتتْ الليبرالية تُمثِّل اليمين والحِفاظ على الأمر الواقع، فتُدافِع عن المِلكية
الخاصة
والطبقة المالكة (= البرجوازية) وتُجسِّد قيمة التنافُس، بينما تُمثِّل الاشتراكية اليسار،
فتقوم من أجل المِلكية العامة — مِلكية الدولة لا مِلكية الأفراد — لوسائل الإنتاج لتحقيق
العدالة الاجتماعية، وبحثًا عن تغيير الأمر الواقع لمُداواة عيوبه، بلْه الثورة عليه
وعلى
أشكال الظلم والقهر فيه، إنها تُدافِع عن حقوق الطبقة العاملة (= البروليتاريا) وعن
التقارُب الطبقي إجمالًا وتُجسِّد قيمة التعاوُن.
وكما سنرى، كانت الماركسية من أشهر صُوَر الفكر الاشتراكي وأكثرها تطرُّفًا، وبالطبع
الماركسية هي فلسفة البروليتاريا أو الطبقة العاملة، في حين أن الليبرالية هي فلسفة
البرجوازية أو الطبقة المالكة، وفي هذا نُلاحِظ أن الفكر الاشتراكي عمومًا والماركسية
خصوصًا هي فلسفة شمولية، تضع نُصب أعيُنها الطبقة والجماهير، فيَضيع الفرد في غِمارها،
هذا
بينما الليبرالية فلسفة فردية، تضع الفرد نُصب أعيُنها وترفع اهتمامها بالفرد فوق
اهتمامها بالطبقة، أو على الأقل لا تربطه بعجلاتها وتترك له حرية الاستقلال عنها وعن
أهدافها ومَطامِحها، من حيث تترك له كل حرية مُتاحة؛ إن الليبرالية هي المسئولة عن سِمة
الفردية وتقديسها والإعلاء من شأن الفرد، هذه السِّمة التي تسود الحضارة الغربية.
أما من الناحية السياسية، فكانت غاية النظام الماركسي هي اضمحلال الدولة بوصفها دولة،
ولأنها أداة اليمين، أداة الرجعية للحِفاظ على البرجوازية؛ على الرغم من أن الماركسية
نظام شمولي؛ وكان الفكر الفوضوي اللاسلطوي anarchism
الذي يُنادي بسقوط الدولة تيَّارًا مُوازِيًا. وبينما نجدُ الليبرالية تُعظِّم من شأن
الفرد،
وتحُد من سلطة الدولة أو الجماعة، ومع هذا فإن الدولة في الليبرالية مُؤسَّسة ضرورية
لا غنًى
عنها البتة، ليس بوصفها غاية وإنما بوصفها وسيلة لتحقيق غاية أبعد تَتمركَز أخيرًا حوْل
الفرد، وهي تحقيق الأمن؛ النظام والقانون في الداخل، ودفع الأعداء الأجانب من الخارج؛
وذلك ضمانًا للأجواء الصالحة لمُمارسة الحرية. ثم إن الدولة أداة لتحرير المُواطِنِين
من
الجهل والمرض، عن طريق اضطلاعها بتقديم الخدمات التعليمية والصحية.
وكان النظام السياسي الماركسي هو الديكتاتورية — ديكتاتورية البروليتاريا — ولو حتى
بصفة مُؤقَّتة، ويقوم على أساس أن الجميع ارتضَوا أيديولوجيا مُحدَّدة واستكانوا إلى
مَذهَب
فلسفي مُعيَّن. وفي مُقابِل هذا نجدُ النظام السياسي الليبرالي هو النقيض للديكتاتورية،
ولأي
استبداد بالسلطة أو انفراد بالرأي أو خضوع دوجماطيقي أو إلزام بمَذهَب مُعيَّن؛ وذلك
على
أساس أن المَبادئ النهائية التي تُمثِّل الحقيقة الحقة لا وجود لها في إمكانيات البشر،
ثَمة
فقط آراء تتفاوَت صحةً وبطلانًا، وقُصارى ما يستطيع الليبرالي تأكيده — كما أشار
برتراند رسل Bertrand Russell (١٨٧٢–١٩٧٠م) — هو
أن ذلك الرأي يبدو له أصح من غيره؛ وبالتالي لا يغدو اختلاف الرأي مَثارًا للعَداء وللزَّج
في السجون والمُعتقَلات، ويتَّسع المَجال للتسامُح الديني وتحقيق الحرية الفكرية.