نموذج لفلسفات ما بعد الاستعمارية
ما هي الفلسفة النسوية؟
وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بِنية تَراتُبية هرمية (هيراركية) سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المَركز والأطراف، السيد والخاضع؛ امتدت في الحضارة الغربية من الأُسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صُوَرها في الأشكال الاستعمارية والإمبريالية، وكما تقول لوريان كود: الظلم الذي نراه في مُعالَجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في مُعالَجة شعوب العالم النامي. إنه تصنيف البشر والكيل بمِكيالَين.
وتعمل الفلسفة النسوية على فضح ومُقاوَمة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والمُمارَسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المُهمَّش والمقهور، والعمل على صياغة الهُوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطوُّر والارتقاء المُتناغِم الذي يقلب ما هو مألوف ويُؤدِّي إلى الأكثر توازنًا وعدلًا. أمعنَت الفلسفة النسوية في تحليلاتها النقدية للبِنية الذكورية التراتُبية، وتوغَّلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولَّدت عن عملية إعطاء أسماء لمُشكِلات لا اسم لها، وعَنوَنة مقولات لا عناوين لها.
ولئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازًا لافتًا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مَجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقًّا أحرزت أكثر من سواها أهدافًا للحركة النسوية والفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية وأكثر عمقًا للموقف الحضاري الراهن.
هكذا، تُحاوِل الفلسفة النسوية أن تُضيف إلى العلم قيَمًا أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجًا، أكثر دفئًا ومُواءمة إنسانية، مُستجيبًا لمُتطلِّبات واقعه الثقافي ودوره الحضاري، وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مُرتبِطة بالواقع الحي النابض، بحيث يُمكِن القول إن فلسفات العلم التقليدية جميعها تُبلوِر إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ من العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تُحاوِل أن تُضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.
بدأت الفلسفة النسوية في السبعينيات بداية واعدة مُتقِدة، وشهد ذلك العقد فيضًا من الإنتاج النسوي في سائر فروع الفلسفة، يتحدَّى أبرز الافتراضات الفلسفية الجوهرية ويُقدِّم بدائل شديدة التفصيل؛ بدأت بما يُسمَّى بفروع الفلسفة اللينة السهلة وهي السياسة والأخلاق والجمال. ومع الثمانينيات كانت الفلسفة النسوية قد وصلت إلى كبد الحقيقة وقلب الأوضاع من جذورها، حين تطرَّقت إلى ما يُسمَّى بفروع الفلسفة العسيرة الشاقة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.
وفي هذا نُلاحِظ أن فلسفة العلم النسوية لها نظريتها الإبستمولوجية، وأطروحتها الميثودولوجية ورؤيتها الخاصة لمَنطِق التفكير العلمي، فضلًا عن اشتباكها الحميم بالقضايا المُستجَدة في هذا الصدد، من قَبيل قضايا فلسفة البيئة وأخلاقيات العلم وقيَم المُمارَسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمُؤسَّسات الاجتماعية الأخرى وبالأشكال الثقافية المُختلِفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى. إن الفلسفة النسوية في جملة توجُّهاتها فلسفةٌ بعد استعمارية.
النسوية فلسفةٌ بعد استعمارية
هكذا نجدُ أن ما يستوقفنا بإزاء الفلسفة النسوية هو أولًا وقبل كل شيء هو مَوقِفها النقدي الرافض للاستعمار الغربي ومُقاوَمتها النبيلة والشرسة للإمبريالية؛ وكيف لا يستوقفنا هذا وتاريخُنا العربي الحديث قد غلب عليه أن يكون تاريخ الغزو والاستعمار والمُقاوَمة؟ والحق أنه لا الفقر ولا الجهل ولا المرض، بل الاستعمار هو شَد ما مُنيت به البشرية.
ونعود إلى الشغل الشاغل للفلسفة النسوية، أي العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، بخصائصه التنظيرية والتجريبية. لقد تجسَّد وتبلوَر نهائيًّا في العقل التنويري الحداثي الذي يُرابِط في سُوَيدائه الإيمان بالسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم وآلياته. مثَّلت قيَم التنوير في الفلسفة الغربية منذ القرن الثامن عشر صُلب قيَم الحداثة وخلاصة تجربة الحداثة، وهي في الآن نفسه الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية؛ فقيَم التنوير هي طريق التقدُّم الواحد والوحيد، والذي قطعه الرجل الأوروبي الأبيض باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المُتخلِّفة طوعًا أو كرهًا، ليغدو الاستعمار حقًّا للرجل الأبيض، وواجبًا عليه.
سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المَد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف؛ قهرت المرأة، وقهرت الطبيعة لتخلق مُشكِلة البيئة المُلِحة، وقهرت شعوب العالم الثالث؛ وجاءت الفلسفة النسوية لترفض التراتُب الهرمي أصلًا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعةً إلى تقويض مركزية العقل الذكوري، تحريرًا للمرأة وقيَمها الأنثوية، وبالمثل تحريرًا للبيئة، ثم تشعر بأنها مسئولة أكثر من سواها عن مُواجَهة الوجه الآخر المُتضخِّم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية.
لقد وجدت الفلسفة النسوية طريقها لكي تكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة بقدر ما هي فلسفة لتحرُّر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نِير الاستعمارية والمركزية الغربية، وهي في كل هذا فلسفةٌ بعد حداثية رافضة لقيَم الحداثة والتنوير — التي رأيناها قيَمًا استعمارية — من حيث إن الفلسفة النسوية هي فلسفةٌ بعد استعمارية.
لقد نشأت «الموجة النسوية الثانية» التي تمخَّضت عن «الفلسفة النسوية» في أوان انتهاء الاستعمار البائد الذي يُمثِّل أقوى تجسيد للفلسفة الذكورية. ما بعد الاستعمارية لحظة فارقة في تاريخ النسوية لتتسلَّح بمَناهج لمُراجَعة الأبنية الغربية في المعرفة والإنتاج، ومَزيد من الكشف عما فيها من مركزية جائرة وتراتُبية هرمية أدَّت أيضًا إلى العنصرية والاستعمارية في سجل الجرائم الغربية الحافل.
اشتبكت النسوية الجديدة وفلسفتها للعلم بالقضايا الشائكة المُتعلِّقة بالهوية واللغة والقومية. في مرحلة سابقة، قالت الأديبة المُجدِّدة فرجينيا ولف إنها ضد القوميات، وبوصفها امرأة فهذا العالم كله هو بلدها، وبحثت النسويات الاشتراكيات — وسواهن — عن التكتُّل في مُواجَهة القوميات، ولكن فيما بعد تسلَّحت النسوية بالتحليل العابر للثقافات، من أجل استكشاف وتقويم المَفاهيم المُتعلِّقة بالمرأة عبْر الثقافات المُختلِفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور مع بعضها، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى؛ فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض كل أشكال التراتُب الهرمي كما اتفقنا.
في ما بعد الاستعمارية يجب أن ينتهي عصر المَركز والأطراف، قهر الآخر وتوجيهه وفرض الوصاية عليه ليسير وفقًا لرؤى ومَصالح الأقوى أو السيد، لا بد من ظهور فلسفة جديدة تنقض تلك المركزية الجائرة وتُقِر بقيمة وحقوق تلك الأطراف، وبالتالي تصون الحقوق التي أُهدِرت للمرأة وللطبيعة ولشعوب العالم الثالث. وكانت فلسفة العلم النسوية مُحاوَلة جادة للسير في هذا الاتجاه وهي تبحث عن ديمقراطية العلم والتعددية الثقافية فيه والاعتراف بالآخر، فيكون العلم إنجازًا إنسانيًّا مُشترَكًا مفتوحًا أمام أي حضارة غربية كانت أم شرقية، وأمام أي إنسان رجلًا كان أم امرأة. وفي نقدها للموضوعية التقليدية ومَزاعم تحرُّر العلم من القيمة، كانت تكشف عما يكمن خلف تلك المَزاعم من مركزية الرجل الأبيض والحضارة الغربية، وإلغاء الثقافات والأعراق والأجناس الأخرى. بدأت البشائر مع توماس كون الذي أثبت أن نسق العلم الغربي الراهن ليس كيانًا مُنغلِقًا على ذاته واحديًّا، بل ظاهرة اجتماعية نشأت وتطوَّرت كمَراحل داخل المنظومة الثقافية العامة للمجتمع؛ وتأتي فلسفة العلم النسوية مُقتفِيةً خُطاه لتُوضِّح أن هذا يعني أن ثَمة أنساقًا معرفية في أزمنة أخرى وأمكنة أخرى، وبالتالي لا مركزية للعلم الغربي أو الحضارة الغربية، كما أكَّد فييرآبند.
شنَّت الرائدة الكبرى ساندرا هاردنج حملة شرسة على المركزية الغربية والعقبات الإبستمولوجية للإمبريالية. رأت الحرب العالمية الثانية بما حملته من كوارث هيروشيما وموت ودمار رهيب قد كشف عن زيف التسليم الوضعي بالعلم والفصل بينه وبين التكنولوجيا والعوامل الاجتماعية، مثلما كانت هذه الحرب هي نهاية مشروع إقامة مُستعمَرات غربية. إنه عصر ما بعد الاستعمار الذي يدعونا إلى الوصول لنماذج أكثر دقة للأنساق المعرفية ولدور الذات العارفة، نماذج أكثر ديمقراطية تكشف عن علم هو نتاج لثقافات مُتعدِّدة؛ وذلك عن طريق تنضيد العقبات الإبستمولوجية الناجمة عن التحرُّر والتطوُّر في العالم الثالث، وإعادة النظر في مفهوم عالمية العلم، وأخرجت كتابَيها الرائعَين «هل العلم متعدد الثقافات: ما بعد الاستعمارية والنسوية والإبستمولوجيا» (١٩٩٨م)، و«نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي» (٢٠٠٠م)، وصادرت منذ البداية في كتابها الرائد «سؤال العلم في النسوية» على أن استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية والرأسمالية، وإذا كان الكفاح ضد هذا بدا أهم من الكفاح النسوي ضد السيطرة الذكورية، فإن قضية المرأة لا تنفصل عن كل هذا. وحق قول ساندرا هاردنج إن الفلسفة النسوية مَنزِع نقدي «مثلها في هذا مثل كل حركة نقد لوضع قائم ينطوي على أشكال للظلم والغَبَن، مثل كل أشكال الكفاح ضد العنصرية والاستعمارية والرأسمالية، ومثل الحركات الثقافية المُضادَّة وثورة الشباب في الستينيات، وحركات الدفاع عن البيئة ومُناهَضة الجهود العسكرية. كل هذه الاتجاهات النقدية توقَّفت عند مَثالب استغلال العلم، لكن النقد النسوي يُلامِس عصبًا عاريًا».
وأخيرًا لا نملك بإزاء هذه الفلسفة الرائعة النبيلة أو بالتعبير النسوي الفلسفة الجميلة، إلا القول بأنها كانت تملك حيثياتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين ما دام الاستعمار بدا آنذاك وكأنه مَلف أُغلِق نهائيًّا، شأنه شأن العبودية ووباء الطاعون وما إليه، والمُوجِع حقًّا أنْ عاد الاستعمار العسكري السافر مُجدَّدًا مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، في العراق وأفغانستان، فضلًا عن الهم المُقيم والحزن القديم في فلسطين، ولا عزاء للفلسفات بعد الاستعمارية وسيدات النسوية الغربية. أما بالنسبة لنا في المَشرِق العربي فلا عزاء للسيدات ولا للرجال.
انتهى الاستعمار الأوروبي ليصعد الاستعمار الأمريكي، مِصداقًا لقول شاعر القوم أمل دنقل: لا تحلُموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد.