الماركسية
كان كارل ماركس هو الفيلسوف الاشتراكي الذي استطاع أن يخرج بفلسفته من قاعات البحث الأكاديمي، ويجعلها تدفع من يُؤمِن بها إلى حد بذْل الحياة من أجل تحقيقها، وتُؤرِّق من لا يُؤمِن بها، بحيث كانت حتى العقد قبل الأخير من القرن العشرين صداع العالم المُزمِن.
-
قُوى الإنتاج: أي المصادر الطبيعية كالمَواد الخام والطاقة ورأس المال والتكنولوجيا والأيدي العاملة.
-
علاقات الإنتاج: أي التقسيم الطبقي للمجتمع، فما يُضفي على المجتمع طابعه المُعيَّن هو نظام العلاقات التي تحكم عملية الإنتاج فيه.
غير أن ماركس مع كل هذا لم يعتبر المادية التاريخية مَذهبًا فلسفيًّا جديدًا، بقدر ما كان يعتبرها أسلوبًا علميًّا مُفيدًا في التحليل الاجتماعي والتاريخي، وقاعدة للاستراتيجية السياسية؛ فهي أساس الفهم العلمي لمَسار التاريخ.
وهذه المادية التاريخية تتميَّز عن المادية التقليدية بأنها جدلية. الجدل أي مَنطِق هيجل هو مَنهجها، وهذا يعني أنها تنفي أية سكونية عن العالم والطبيعة، وترى في الحركة والتغيُّر الدائمَين أساس فهمهما؛ فأي حادث من حوادث الطبيعة لا يُمكِن فهمه إذا نظرنا إليه مُنفرِدًا، ويُمكِن فهمه وتبريره إذا نظرنا إليه من حيث ارتباطه بالحوادث الأخرى، ومن حيث إنه في تغيُّر مُستمِر وحركة مُستمِرة.
- (١)
القضية كما هي: أ.
- (٢)
ثم تتحول إلى نقيضها: لا أ.
- (٣)
ثم نصِل إلى مُركَّب يجمع خسر ما في القضية وما في نقيضها، ثم يتجاوزهما إلى ما هو أفضل. في كل جانب منهما — من القضية ومن نقيضها — جانب من الحق وجانب من الباطل؛ الحقيقة الكاملة لا تُوجَد في أي منهما، بل في المُركَّب الذي يُوفِّق بينهما ولا يتعارض مع أي منهما، هذا المُركَّب بدوره سرعان ما يُصبِح في مرحلة أعلى من الجدل «قضية» تنقلب إلى نقيضها، ثم تصِل إلى المُركَّب الذي يتجاوزهما، وهكذا دوالَيك.
وقد قدَّم هيجل هذا المنهج الجدلي بصورة مِثالية مُتطرِّفة؛ فهيجل هو الميتافيزيقي الصميم الذي يرى الواقع مُجرَّد انعكاس للفكرة أو للروح، فقد جعل الجدل خطوات صيرورة الروح؛ الذي ينتقل من الروح الذاتي أو الروح في ذاته، الذي يتمثَّل في الطبيعة؛ إلى نقيضه أي الروح الموضوعي أو الروح لذاته، الذي يتمثَّل في الإنسان بالقانون والأخلاق والسياسة؛ ثم يصِل إلى الروح المُطلَق الذي يتمثَّل في الدين والفن والفلسفة؛ الجدل بهذا هو الفكرة إذ تُنمِّي ذاتها، أما الطبيعة فهي انحطاط الفكرة.
- (١)
التغيُّرات من الكم إلى الكيف: فالتغيُّر الذي يحدث في العالم هو انتقال من التغيُّرات الكمية إلى التغيُّرات الكيفية والعكس، وانتقال الشيء من حالة كيفية مُعيَّنة إلى كيفية أخرى نتيجة للتغيُّرات الكمية المُتدرِّجة هو طفرة في مَجال التطوُّر، والطفرة هي تحطيم لتدرُّج التغيُّر الكمي للشيء أو هي الانتقال إلى كيف جديد، مثل تدرُّج التغيُّرات الكمية لدرجة حرارة الماء، حتى إذا وصلَت إلى مرحلة مُعيَّنة انتقلت من كيف إلى كيف آخر، من سائل إلى بخار.
- (٢)
صراع الأضداد وتداخُلها: سببُ التغيُّر والحركة المُستمِرة في العالم هو التناقُض الكامن في الأشياء، وهو ما أسماه هيجل مَبدأ السلْب.
- (٣)
نفي النفي: سَير التطوُّر كله يتم عبْر سلسلة من نفي النفي، كل مرحلة تنفي سابقتها، ثم تنفيها هي نفسَها مرحلةٌ ثالثة، وهكذا. والنفي هنا لا يعني الفناء، كل مرحلة تنفي المرحلة السابقة وتحفظها في آن واحد؛ النفي الجدلي هو نفي واحتفاظ معًا، هدم وتطوُّر أبعد؛ يضرب الجدليون المَثل على هذا بقانون الجبر: −١ × −١ = ١.
أما المَقولات فهي كثيرة؛ مثل: الكم والكيف والمِقدار، العلة والمعلول والتفاعُل، المضمون والصورة، الماهية والمَظهر، الضرورة والحرية، الإمكان والواقع، الفردي والجزئي والكلي، الهُوية والاختلاف، الطرد والجذب، اللامُتناهي الزائف واللامُتناهي الحقيقي، القوة ومَظهر تحقُّقها، الكم المُنفصِل والكم المُتصِل، المُجرَّد والعيني … إلخ. والمَجال مفتوح دائمًا أمام مَقولات أخرى يُمليها علينا التطوُّر الجدلي.
بهذه الصورة سنجدُ الدنيا كلها تسير وفقًا لإيقاع الجدل الذي لا يُفلِت من قبضته القوية شيء لا في العالم المادي ولا في العالم الروحي، حتى إن الخلافات التي تقع بين الرفاق داخل الحزب الشيوعي نفسه لا يُفسِّرها إلا ذلك الجدل الهيجلي العظيم!
•••
على أساس هذه النظرة الجدلية المادية يكون تناوُل تاريخ البشرية، فنجدُه عملية واحدة لا تكرار فيها، تخضع لقوانين يُمكِن اكتشافها؛ وهي قوانين تختلف عن قوانين العلوم الطبيعية والكيميائية التي تُسجِّل اقترانات وتتابُعات لظواهر مُتداخِلة، أينما وكلما تكرَّرت هذه الظواهر. إنها قوانين أقرب شبهًا إلى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) وعلم النبات، التي تتضمَّن المَبادئ التي تتم تبعًا لها عملية تغيير مُستمِرة. كل مرحلة في هذه العملية جديدة، تحمل سمات جديدة. وعلى الرغم من كونها جديدة وفريدة وغير مُتكرِّرة، فإنها مع ذلك تنبعث من الحالة السابقة عليها مُباشَرة، نتيجة للأسباب نفسها، وخضوعًا للقوانين الطبيعية نفسها التي أدَّت إلى انبعاث الحالة السابقة عليها من تلك التي كانت قبلها.
المَجال الوحيد للبحث عن مَبدأ هذه الحركة التاريخية هو ذلك المَجال الذي يظل مفتوحًا للاختبار العلمي التجريبي. ولما كانت الظواهر المُراد تفسيرها هي تلك التي تتعلَّق بالحياة الاجتماعية، فإن التفسير يجب أن يكمن في طبيعة البيئة الاجتماعية، على أن يكون تفسيرًا علميًّا.
لقد ضاق ماركس بالمثاليِّين الذين يتطلَّعون إلى التخلُّص من أوضاع الواقع بواسطة قيَم ومُثل عليا، ورأى أن أكبر خطأ وقعوا فيه — بسبب من الفردية البروتستانتية — هو إيمانها بأن تغيير ما في أنفسهم من شأنه أن يُؤدِّي إلى قلب أسلوب حياتهم بالكلية. وآمَن هو إيمانًا راسخًا بأن التاريخ تتحكَّم في مَسار أحداثه قوانين حتمية تُشبِه القوانين التي تتحكَّم في مَسار ظواهر الطبيعة؛ وكما أن السيطرة على الطبيعة تكون بالتوصُّل إلى هذه القوانين، فإن السيطرة على التاريخ تكون — أيضًا — بالتوصُّل إلى قوانينه التي تُمكِّننا من التنبُّؤ بما سيكون، والتي لا تقبل ردًّا ولا استثناءً، وإن كانت تقبل تعجيلًا.
ها هنا نُلاحِظ مَعلمًا يُميِّز النظرية الماركسية عن سواها من النظريات الاشتراكية، ألا وهو ما تزعمه من خاصة علمية، وبالتالي ما تدَّعيه من إخبار عن الواقع، الواقع التاريخي. فكما كان نيوتن عالم الفيزياء وكان باستير عالم البيولوجيا، أراد ماركس أن يكون عالم التاريخ الذي يدرسه ويُحلِّله ويفهمه، فيستطيع التوصُّل إلى القوانين الحتمية التي تحكمه والتي تُمكِّننا من التنبُّؤ بما سيكون من أحداثه، تبعًا لطبيعة العلم ووظيفته.
والقانون الأساسي الذي يحكم حركة التاريخ كما توصَّل إليه ماركس هو: صراع الطبقات الذي يتطوَّر تطوُّرًا جدليًّا من مرحلة إلى أخرى؛ فمُنذ أن انتقلت الحضارة الإنسانية من الشيوعية إلى المِلكية بدأ الصراع بين الأحرار والرقيق، ومع الانتقال الجدلي إلى المرحلة الإقطاعية أصبح الصراع بين طبقة مُلاك الأرض وطبقة رقيق الأرض، ومع الانقلاب الصناعي أصبح الصراع بين طبقة البرجوازية (أي مُلاك رأس المال) وبين طبقة البروليتاريا (أي عُمال الصناعة الكادحين). إنه الصراع الدائم بين الحاكمين والمحكومين، بين القاهرين والمقهورين، بين الذين يملكون وسائل الإنتاج وبين العُمال الذين لا يملكون ويقومون بعملية الإنتاج.
إن الباعث الأساسي على العمل في حياة الإنسان هو علاقته بالطبقات المُختلِفة في الصراع الاقتصادي، وهو باعث تزيد قوته لأن الإنسان لا يُدرِكه؛ فهذه العلاقة حرب مُستتِرة، تظهر تارة وتختفي تارة أخرى، حرب كانت تنتهي دائمًا إما إلى إعادة تشكيل المجتمع بأَسره بطريقة ثورية، وإما إلى انهيار الطبقتَين معًا.
المجتمع البرجوازي الحديث الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يقضِ على التناقضات، لكنه أقام طبقات جديدة تحُل مَحل الطبقات القديمة، وأوجد ظروفًا جديدة للقهر، وأشكالًا جديدة من الصراع بدلًا من الأشكال القديمة، وإن كانت أشكالًا قد بلغت الذروة في تناقُضها، وهذا ما تُوضِّحه نظرية ماركس الاقتصادية التي أسماها «نظرية القيمة وفائض القيمة».
نظرية القيمة هي التي قال بها ديفيد ريكاردو (١٧٧٢–١٨٢٣م) وخلاصتها أن قيمة السلعة تتناسب تناسُبًا طرديًّا مع عدد ساعات العمل — أي كمية العمل — المبذولة فيها. أما نظرية فائض القيمة فقد توصَّل إليها ماركس، وخلاصتها أن العامل يبيع عمله للبرجوازي مُقابِل أجره الذي يكفيه الحد الأدنى من ضرورات الحياة، لكن البرجوازي يبيع ناتج العمل بأجر أعلى بكثير مما دفعه للعامل؛ فارِق السعر بين أجر العامل وبين ثمن بيع عمله هو ما أسماه ماركس «فائض القيمة»، وهو الذي يُبلوِر مَدى استغلال البرجوازي للبروليتاري؛ فالثروات تتراكم بتراكُم فائض القيمة، التي تُشكِّل بدورها رأسمالًا آخر يفيض عن إشباع حاجات البرجوازي، فيستغِله في عملية إنتاج أخرى، أي في توسُّع صناعي أكبر واستغلال عدد أكبر من العُمال، يُحقِّق فائض قيمة أعلى، وهكذا دوالَيك.
ويبدو التناقُض أوضح في أن العامل يبيع عمله كسلعة بثمن بخْس، ولما كان عمله يستغرق عمره، فهو محروم من كل وسائل الترفيه والتثقيف، ويُصبِح العامل نفسه سلعة شقية، ويتناسب شقاؤه تناسُبًا طرديًّا مع حجم وقوة إنتاجه؛ كلما زاد الإنتاج، كلما انخفضَت قيمة العامل، مما يُوضِّح اغتراب العامل عن عمله الذي يُسبِّب له الشقاء، بينما يُسبِّب للبرجوازية المُستغِلة رفاهية ونعيمًا.
وبطبيعة الحال الجدلي، لن يستمر هذا الوضع إلى الأبد ولا حتى طويلًا؛ فالبرجوازية شأن أية مرحلة تطوُّر اقتصادي أخرى، تحمل في ذاتها عوامل فنائها، إلا أن البرجوازية تتميَّز بأنها أكثر بساطة؛ فالمجتمع يسير أكثر فأكثر في طريق الانقسام إلى طبقتَين كبيرتَين مُتعارِضتَين تمامًا، هما البرجوازية والبروليتاريا؛ فسوف تبتلع البروليتاريا الحِرَفيين والصُّناع والتُّجار — لأنهم لن يستطيعوا الصمود أمام الصناعات التكنولوجية الضخمة — وأيضًا الفلاحين، وسوف تنكمش البرجوازية، فتتركَّز الثروة في أيدٍ قليلة؛ مما سيزيد من حِدة الصراع الطبقي وقوته ويُعجِّل بانهيار النظام البرجوازي. سوف يَشتد ساعد البروليتاريا ويقوى، فتَقهر البرجوازية وتصِل إلى مَواقع السُّلطة، وتُكوِّن حكومة ديكتاتورية تُحافِظ على مَكاسب البروليتاريا، وتُصفِّي بقايا النظام والعادات البرجوازية، تُؤمِّم كل وسائل الإنتاج، فيختفي الاستغلال والقهر، وتضمحل الدولة نفسها، أو تنتهي بوصفها دولة، لأن الدولة هي أداة الرجعية للحفاظ على النظام البرجوازي القائم. وشيئًا فشيئًا تنضم الدُّوَل الواحدة بعد الأخرى إلى هذا المجتمع — وعلى الأغلب سيكون المجتمع الإنجليزي أو الألماني — الذي سيشمل العالم أجمع في نهاية الأمر، لأنه ذروة التقدُّم وغايته: المجتمع الشيوعي اللاطبقي، الذي يحكمه مَبدأ: من كلٍّ حسبَ قدرته ولكلٍّ حسبَ حاجته. بدلًا من المَبدأ البرجوازي: من كلٍّ حسبَ قدرته ولكلٍّ حسبَ إنتاجه؛ فيتساوى الجميع مهما كانت أعمالهم.
لكن البرجوازية سوف تستخدم كل الأساليب في مُحاوَلة عرقلة مَسار التاريخ وتعويض تقدُّمه المحتوم نحو الشيوعية؛ لذلك من الضروري أن يتَّحد العُمال للقيام بثورة دموية عنيفة، تقهر البرجوازية وتُحقِّق الشيوعية بقوة السلاح، فقط لكي تُخفِّف آلام الوضع وتُقصِّرها، وتختصر المَراحل التاريخية المطلوبة للوصول إلى المرحلة الشيوعية، وإن كانت هذه المرحلة على أية حال هي النهاية الحتمية لمراحل التطوُّر الاقتصادي.
فَتنتْ هذه النظرية في عصرها ألباب الكثيرين؛ فقد بدَت حُلمًا طوباويًّا خلَّابًا يُؤكِّد مَجيء اليوتوبيا الموعودة للكادحين المطحونين، بعد طول قهر وحرمان. فهل هذا عن حق؟ هل كانت النظرية صادقة؟ لماذا إذن كل الانهيار المُدوِّي لبعض أو لمُعظَم تطبيقاتها المُخلِصة؟