نقد النظرية الماركسية

أولًا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية

في نقد وتقويم النظرية الماركسية نجدُ أن أول ما يَلفت النظر فيها دونًا عن سواها من نظريات اشتراكية، هو الزعم بأنها نظرية علمية.

فقد جاء ماركس في عصره الذي بلغ حد الثَّمَل والدوار في الانتشاء بالعلم، وطرح نظريته بوصفها نظرية علمية، وسوف نرى أنها ليست علمية ولا يُمكِن أن تكون هكذا، أو أنها على أوسع الفروض تُحاوِل أن تتمسَّح بالعلم وأن يكون لها الشكل العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر ليست من العلم في شيء.

فأولًا: منهج ماركس مُضطرِب غامض مُبهَم، حتمي وتنبُّؤي وقطعي وجدلي في الوقت نفسه. لقد صارَح بأنه يعتمد على الجدل؛ والمنهج الجدلي والمنهج العلمي مُتضادَّان لا يُمكِن أن يلتقيا؛ فالجدل يحذف قانون عدم التناقُض وينتقل من الفكرة إلى نقيضها إلى مُركَّب يجمع بينهما أي يُقِر بهما معًا، والعلم لا يسمح بهذا، ومن غير المعقول البتة أن ننتظر من كل قضايا العلم أن تكون جدلية. السمة المُميِّزة للمنهج العلمي هي حذف القضية التي ثبت خطؤها وإحلالها بأخرى أكثر منها صوابًا، بغير مُبرِّر للبحث عن نقيضها فضلًا عن مُركَّب من القضية ونقيضها، ثم إن عالَم العلم كمي، والكمية مُجرَّد عناصر موجودة معًا، أي أنها نقيض الوحدة الجدلية. العلم لا يعنيه البتة الانتقال من الكم إلى الكيف، كما يُؤكِّد الجدل. وليس يفترض العلم أية انقلابات جدلية في مَسار الطبيعة، بل على العكس يفترض استمرارية ما. جملة القول أن أبسط تحليل مَنطِقي يكشف عن التضارُب بين المنهج الجدلي والمنهج العلمي، ولم يكُن هذا خافيًا عن أي مُلِم بأساسيات المَنطِق؛ لذا دأب الشيوعيون على القول إن مَنهج العلم يُناقِض الجدل لأنه يكشف عن وجهة النظر البرجوازية.

ولما كان العلم أساسًا هو المنهج، وكان منهج ماركس بكل هذا الاضطراب والتناقض، كانت نظريته علمية زائفة؛ إنها تُحاوِل علْمنة التاريخ، أي أن تجعله علمًا كالطبيعة، له قوانين نستخلص منها تنبُّؤات يقينية، أي تنبُّؤات ستحدث حتمًا، لينتهي إلى أن الشيوعية ليست نظرية نقبلها أو نرفضها، أو ننقدها أو نُعدِّلها، بل هي أمر محتوم، سيحدث قطعًا شِئنا أم أبَينا، وقُصارى ما نستطيع أن نفعله هو الثورة الدموية التي تُخفِّف آلام الوضع، أي فقط تُقصِّر المرحلة التاريخية التي ستعقُبها الاشتراكية، حتمًا على أية حال. وفضلًا عن أننا الآن في عصر النسبية والكوانتم اللتين لم يشهدهما ماركس، فقد أدركنا أنه لا التاريخ علم كالطبيعة، ولا الطبيعة أو أي علم آخر يُمكِن أن يكون حتميًّا بمثل هذا المنظور.

وفضلًا عن هذا نجدُ أن مِصداق الخَلل المنهجي قد أتى من الوقائع التاريخية التي حدثت فكذَّبت كل تنبُّؤات ماركس تقريبًا، مما يعني أن النظرية ذاتها كاذبة؛ وبالتالي ليست الشيوعية حتمًا مَقضيًّا كما وعدتنا:
  • (أ)

    تنبَّأ ماركس بأن طبقة البروليتاريا سوف تزداد زيادة غير محدودة، وتنكمش طبقة أصحاب رءوس المال انكماشًا غير محدود، وهذا لم يحدث أبدًا؛ فقد تعقَّد اتجاه الصناعة وتغيَّر في حالات كثيرة، وأصبحت تعتمد على الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والكومبيوتر أكثر من اعتمادها على العُمال. زادت أهمية المَهارة الكيفية للعامل عن أهمية العدد الكمي للعُمال، وبدلًا من أن تزداد البروليتاريا، ظهرت طبقة ثالثة لم يَلتفت إليها ماركس بحكم طبيعة عصره، وهي طبقة المهندسين والعلميين والفنيين والمحاسبين والإداريين … ودورها في عملية الإنتاج أهم من دور البرجوازية ومن دور البروليتاريا.

    وبسبب من تطوُّر المُنتَجات وتطوُّر الاحتياجات لم تعُد المُؤسَّسات الكبرى تُفلِس أصحاب الصناعات الصغيرة فتضُمهم للبروليتاريا، بل قد تعتمد عليها. المؤسسة الكبرى لصناعة السيارات — مثلًا — تعتمد على صناعات صغيرة لإنتاج ما يلزمها من جلود المصانع وغيره. من الناحية الأخرى لم تنكمش طبقة أصحاب رءوس الأموال انكماشًا غير محدود، بل على العكس، امتلك أسهمَ كثير من الشركات صغارُ المُساهِمين.

  • (ب)

    كذبتْ أيضًا نبوءة ماركس القائلة إن الطبقات سوف تُختصر إلى طبقتَي البرجوازية والبروليتاريا؛ لم يحدث هذا وليس من المُحتمَل أن يحدث، ومهما تقدَّمت الصناعة لن تختفي طبقة المُزارِعين بالذات، ولن تنضم إلى البروليتاريا، وتظل الحياة الريفية مُتميِّزة بطابعها المُعيَّن. ويُمكِن القول إن تاريخ الاشتراكية في أواخر القرن العشرين هو في أحد جوانبه تاريخ الصراع بين الحركة البروليتارية وبين طبقة الفلاحين. لقد عالج ماركس الإنتاج الزراعي بسطحية بالغة، الأمر الذي كلَّف خمسة ملايين من الفلاحين الروس أن يموتوا أو يُرحَّلوا حتى يتحقَّق نظامه.

    على أية حال لم تُسفِر التطوُّرات التي أعقبت ماركس عن طبقتين، بل عن الطبقات الآتية: (١) البرجوازية. (٢) كبار مُلاك الأراضي. (٣) المُلاك الآخرين. (٤) العُمال الزراعيين. (٥) طبقة وسطى من الإداريين والفنيين. (٦) طبقة العمال الصناعيين. هذا فضلًا عن طبقة المُثقَّفين التي عدَّها ماركس برجوازية، وهي ليست هكذا إذا تحرَّينا دقة في المُصطلَح. ومثل هذا التطوُّر وهو الأمر الواقع في مُعظَم البلدان، من شأنه أن يُحطِّم اتحاد طبقة العُمال الصناعيين أو وضعهم ككتلة مُتحِدة، وذلك لتداخُل علاقاتهم بالطبقات الأخرى.

  • (جـ)

    تنبَّأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومَجيء الشيوعية سوف يتبعه حتمًا المجتمع اللاطبقي، وليس هذا محتومًا، لا نظريًّا ولا تطبيقيًّا؛ نظريًّا، سوف يتَّحد البروليتاريون ليُواجِهوا البرجوازيين، ولنفترض أنهم انتصروا وابتلعت البروليتاريا البرجوازية، فلن يعود أمامها خطر تخشاه وتتَّحد لتُواجِهه، بل الأدنى إلى المعقول أن الصراعات والمشاكل الخاصة بالبروليتاريا ستنشأ داخلها فتُقسِّمها إلى طبقات من جديد، ثم إنه في حالة انتصارها سوف يقفز إلى السُّلطة قادة الحركة الثورية ويُشكِّلون طبقة الحُكام الجُدد في المجتمع الجديد. إنه مُجرَّد نوع جديد من الأرستقراطية والبيروقراطية. هذا ما تحقَّق في المجتمعات الشيوعية، ولُوحِظ البَون الشاسع بين طبقة الحُكام وطبقة المحكومين.

  • (د)

    تنبَّأ ماركس بأن تراكُم فائض القيمة سوف يُؤدِّي إلى زيادة بؤس العُمال، زيادة في شدته أي في شدة بؤس العامل الواحد، وزيادة في مَداه أي بؤس عدد أكبر من العُمال؛ وأكَّد ماركس أن البؤس مادي وأيضًا معنوي، فاستغراق العامل في عمله الشاق الذي يغترب عنه من شأنه أن يزيد من بلاهة العامل ومن تشويه قُواه العقلية.

    فهل حدث هذا؟ وهل زادت بلاهة العمال؟ كلا بالطبع، بل العكس تمامًا هو الذي حدث؛ جزء من فائض القيمة الآن يُستغل في إقامة مجتمعات سكنية ونوادٍ اجتماعية ورياضية وأنشطة ترفيهية للعمال. تطوَّرت النُّظم التربوية الحديثة، وأصبح التعليم حقًّا لكل مُواطِن، برجوازي أو بروليتاري. وتفجَّرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تشُد الطبقات كلها في اللحظة نفسها للمادة الإعلامية الواحدة، ثم أتت ثورة المعلومات العظمى وثورة الإنترنت التي جعلتها مُتاحة للجميع بكبسة زر.

    كل هذا فضلًا عن الصورة التكنولوجية التي أدَّت إلى إنتاج بالجملة، فجعلت كماليات كثيرة — فضلًا عن الأساسيات — في مُتناوَل كل الطبقات. والنتيجة هي نموُّ الوعي العُمالي، وباتت طبقة العُمال تُسقِط حكومات وترفع أخرى، وتطوَّر التكوين الثقافي لطبقة البروليتاريا، ولدرجة لم يكُن ماركس يحلم بها.

  • (هـ)

    تنبَّأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكبر الدُّوَل المُتقدِّمة تكنولوجيًّا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، والذي حدث هو عكس هذا تمامًا؛ فقد تحقَّق أول انقلاب شيوعي في دولة كانت مُتخلِّفة تكنولوجيًّا، هي روسيا التي استبعدها ماركس تمامًا على الرغم من علاقته بالمُفكِّر باكونين (١٨١٤–١٨٧٦م) مُمثِّل الفكر الاشتراكي في البرجوازية الروسية، وأعقبت روسيا دولة أكثر تخلُّفًا هي الصين. وفي الربع الثالث من القرن العشرين توالت انقلابات شيوعية في دولة مُتخلِّفة كاليمن الشمالية وأفغانستان.

  • (و)

    تنبَّأ ماركس باضمحلال الرأسمالية وبالتالي مَجيء الشيوعية لتحُل مَحلها، ولكن الرأسمالية التي عرفها ماركس وحلَّلها هي رأسمالية عدم التدخُّل، أي الرأسمالية الحرة حريةً مُطلَقة والتي لا تسمح بأي تدخُّل أو فرض قيود؛ فحتى لو تدخَّلت الدولة فهي — تبعًا لنظرية ماركس — أداة البرجوازية ولن تتدخَّل إلا لحمايتها والإبقاء عليها. والأمر الواقع الذي كذَّب نبوءة ماركس هو أن مثل هذه الرأسمالية اختفت تمامًا فعلًا، ولكن لم تكُن الاشتراكية هي البديل الوحيد الذي حل مَحلها دائمًا. في مُعظَم البلدان حل نظام الرأسمالية الخاصة المُقيَّدة، أو نظام مُختلَط يجمع بين المِلكية الخاصة والمِلكية العامة، وحتى في أكثر الدُّوَل رأسماليةً تتدخَّل الحكومات بإرشاد والتوجيه والتخطيط والتحريم والإلزام، ومنح التسهيلات ورفع الجمارك والضرائب، وحماية حقوق العُمال وشملهم بالضمانات والتأمينات الاجتماعية والمَعاشات والتأمين ضد البطالة، بل أصبح للعُمال حق الإضراب عن العمل وإجبار أصحاب رءوس المال على رفع أجورهم.

وكانت السويد هي التي قامت بأُولى الخطوات الحاسمة في هذا الطريق حين حدَّدت ساعات العمل بثمانٍ وأربعين ساعة في الأسبوع. لقد عاش ماركس حتى رأى بعض الإصلاحات في أحوال العُمال، لكنه لم يرَ في هذا تفنيدًا لنبوءته، بل إيذانًا بانهيار الرأسمالية.

وكان ماركس في هذا قصير النظر؛ فالتعديل التدريجي والحلول التوفيقية التي أنجزت الكثير وسوف تُنجِز الأكثر، لم تكُن إلا تطويرًا لشكل من أشكال الرأسمالية وإبقاءً عليها. وإذا رأى العُمال أنهم يستطيعون تحسين أحوالهم تدريجيًّا بالتطوير السلمي، فما الذي يدفعهم إلى المُخاطَرة بثورة دموية تُدمِّر كل شيء؟!

هكذا كذَّب الواقع نبوءات ماركس، ليتَّضح أنها تُحاوِل أن تتعلْمن، وأن تجعل العلم التاريخي جدليًّا رغمًا عنه وعن الواقع التاريخي، وإذا كانت تنصَبُّ على تحليل عملية الإنتاج الاقتصادي، فقد كان يُمكِنها أن تقتصر على وصف ماضي تاريخ الإنتاج وليس مستقبله الذي يظل في عوالم الاحتمال، وبذلك تكون وظيفة المادية الجدلية هي إيجاد منهج نقدي للمجتمع المعاصر، ولا يُمكِن أن يكون ما قاله ماركس ذا قيمة إلا إذا كان قد كفَّ عن التنبُّؤ بالمستقبل وعن تأكيد حتمية مَجيء المجتمع الشيوعي اللاطبقي.

ديدن العلم هو الاختبار التجريبي، بمعنى أن نستنبط من النظرية ما يلزم عنها من نتائج وتنبُّؤات لنُواجِهها بالواقع التجريبي، فإذا كان ثمة تطابُق ظلت النظرية حائزة للقبول، أما إذا كان ثَمة تناقُض فالنظرية في مَوقِف حرِج ويتم تركها أو تعديلها. وقد تناقضت تنبُّؤات الماركسية إلى كل هذا الحد مع الواقع والوقائع التاريخية، ثم تصدَّعت البقية الباقية من أركان ادِّعائها السمة العلمية بعد أن حل الاحتمال — في العلم المعاصر — مَحل الحتمية التي تقوم عليها الماركسية وتُؤكِّد بها مَجيء الشيوعية، حين حاولت أن تتعلْمن كعلم عصرها، علم القرن التاسع عشر الذي كان حتميًّا.

إذن لم يستطع ماركس أن يُعلمِن التاريخ، ويُعلمِن مَجيء الاشتراكية، أي لم يستطع أن يكون عالمًا ناجحًا؛ فهل استطاع أن يكون فيلسوفًا ناجحًا؟

ثانيًا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية فلسفية

انتهينا من نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية، أي بوصفها نظرية ذات مضمون معرفي ومُحتوًى إخباري عن الواقع، يُمكِننا من التنبُّؤ بمُقبِل أحداثه، واتَّضح أنها حاولت أن تكون علمية ففشلت، وعلينا الآن أن نُناقِشها على الأرض التي بقيت لها، أي من حيث هي نظرية فلسفية.

إذا كان النقاش أو بالأحرى الاختبار العلمي التجريبي يعتمد أساسًا على الواقع والوقائع، فإن النقاش الفلسفي لا يُعوِّل كثيرًا على هذا. ليس يحُط من قدر النظرية الفلسفية أنها لا تنطبق على هذا العالم الفَج المُضطرِم؛ فالفلسفة سوف تُعنى دائمًا بتصوُّر ما ينبغي أن يكون، وربما تترك ما هو كائن للعلم.

لكن ما هو إذن مِعيار النقاش الفلسفي والحكم على مَنازل النظريات الفلسفية؟ المِعيار الفلسفي يتكوَّن عادةً من شقَّين؛ الأول هو الاتِّساق أي اتِّساق النظريات مع نفسها ومُسلَّماتها وقواعد منهجها، ومع مقولات المَنطِق ومقولات التفكير بعامة. أما الشق الثاني فهو قوة البرهنة والتدليل، فليس يجوز في الفلسفة إلقاء القول على أعِنته وفرض الفروض جزافًا، ولا يحِق البتة للفيلسوف أن يطرح قضية ليست بديهية واضحة بذاتها ويطلب منا التسليم بها، ما لم يكُن قد أتى بالمُسوِّغات الكافية والبراهين المُثبِتة لها. وحين نُناقِش الماركسية من هذا المنظور سنجدُ أنها وقعت في تناقُضات كثيرة وزلَّت قدمها في مَواطن عدة.

فأولًا: تعتمد الماركسية على الزعم بالحتمية التاريخية، أي القول إن التاريخ يسير في مَسار محتوم يُمكِن قَولبته في مَراحل أو أنماط أو إيقاعات — هي مع ماركس مَراحل جدلية — ومن ثَم يُمكِن التنبُّؤ به؛ وهذه فكرة قديمة وعتيقة، معروفة منذ أيام هيزيود وهيراقليطس وأفلاطون وفكرة اليهود عن مَآل شعب الله المُختار، ولم تنقطع أبدًا من تاريخ الفلسفة، وظلَّت مُستمِرة حتى يومنا هذا، مع فيكو وبوسويه وكوندرسيه وهيجل وشبنجلر وتوينبي … وغيرهم؛ وعلى الرغم من هذا ومن مرور عشرات القرون من عمر البشرية، لم نجدْ لها دليلًا واحدًا مُؤيِّدًا أو برهانًا مُثبِتًا، فضلًا عن انهيار دعاوى الحتمية تحت مَعاول العلم المعاصر، مَعاول النسبية والكوانتم، فلماذا يتصوَّر ماركس أن العلم الاجتماعي بالذات هو القادر على تحقيق حلم العهود القديمة بالكشف عما يُخبِّئه لنا المستقبل؟ وأن يحُل مَحل الكهنوت وإنجيل العهد القديم في التنبُّؤ بمَسار التاريخ ومَآل البشر؟ ولما كانت نبوءات ماركس لم تتحقَّق، كان هو إذن نبيًّا زائفًا.

ثم إنها — أي حتمية ماركس التاريخية — جعلته يتناقض مع نفسه ومع قوله الشهير: مَهمَّة الفيلسوف تغيير العالم لا فهمه. فإذا كان التاريخ مُحدَّدًا سلفًا بحتمية قاطعة، فكيف يُمكِن التغيير؟

إن التغيير سوف يقتصر على التعجيل بمَجيء المجتمع الشيوعي الآتي حتمًا، وليس هذا تغييرًا حقيقيًّا؛ كل ما فعله ماركس أن وضع أمامنا بديلَين؛ إما أن يبقى العالم طويلًا في فوضى ونزاع وصراع، وإما أن يتَّحد العُمال ليُقيموا ثورة دموية تُعجِّل بمَجيء الشيوعية، وبالطبع ليس من المعقول أن يختار أحد الاحتمال الأول، هذا بالإضافة إلى الوسائل الدعائية الإعلامية اللاعقلانية لدرجة تمجيد العنف الذي أحاط بها ماركس الاحتمال الثاني. لقد كان ماركس مُتناقِضًا مع نفسه بوصفه فيلسوفًا عقلانيًّا حين مجَّد العنف والحرب الأهلية التي قد تُؤدِّي إلى دمار وخراب شامل، وإلى التضحية بجيل الثورة من أجل أجيال لم تأتِ بعد، بل ومن أدرانا أن العنف سوف يتمخَّض عن صالح هذه الأجيال المُقبِلة؟! الأدنى إلى المعقول أن يُؤدِّي إلى ضياع الحرية وإلى حكم لا يُسايِر العقل، حكم الرجال الأقوياء قادة الثورة الناجحين. ثم إن قهر الطغيان بالعنف يُؤدِّي إلى طغيان آخر، كما بيَّنت الانقلابات التي كانت تحدث كل يوم في البلدان النامية.

ولما كانت الحتمية تُلغي أي دور للإرادة الإنسانية، كانت حتمية ماركس تجعله يتناقض أيضًا مع نفسه من زاوية أخرى، مع قوله الشهير: «يا عُمال العالم اتَّحِدوا!» لكي يُخطِّطوا للثورة؛ فاتِّحاد البروليتاريا من أهم المُقدِّمات الأساسية التي استنبط منه حتمية مَجيء الشيوعية.

غير أن الحتمية التاريخية — كما هو معلوم بعامة وكما يُؤكِّد ماركس بخاصة — تعني أن مَسار التاريخ مُستقِل عن إرادة الإنسان؛ فهو محكوم فقط بعلاقات الإنتاج، ولكن ليس هناك اتِّحاد وتخطيط من دون تدخُّل عنصر الإرادة المُوجِّهة، فضلًا عن أن الاتِّحاد يعني العقل والصحوة، والعقل المُخطِّط المُدبِّر؛ وإذا تذكَّرنا أن هذا سيأتي نتيجة لتفاقُم بؤس العُمال وازدياد بلاهتهم وتشويه قُواهم العقلية، أدركنا كيف تناقَض ماركس في تنظيره للثورة الاجتماعية.

ثم إنه رأى أن أية ثورة اجتماعية ستُؤدِّي بالضرورة إلى الشيوعية أو بالأحرى تُعجِّل بها، وليس هذا صحيحًا، فمثلًا ثورة إيران لم تُؤدِّ إلى الشيوعية.

وماركس له نظرية أخلاقية، خلاصتها أن ثَمة نمَطَين للأخلاق، أحدهما في صالح البرجوازية يُؤدِّي إلى حفاظ على الوضع القائم عن طريق تمجيد المِلكية والتفاوت الطبقي (الأخلاق اليمينية)، والنمط الأخلاقي الآخر في صالح البروليتاريا يُمجِّد التقارب الطبقي وساعات العمل القليلة لمَزيد من الحرية ونبذ المِلكية وتراكُم فائض القيمة (الأخلاق اليسارية). ويُؤكِّد ماركس على قضية مَفادها أن كل بورجوازي يعتنق القيَم البرجوازية اليمينية، وكل بروليتاري يعتنق القيَم البروليتارية اليسارية، وليس هذا صحيحًا دائمًا، وماركس نفسه برجوازي لكنه يعتنق القيَم الاشتراكية مثله في هذا مثل كثير من أنصار الاشتراكية نظريًّا وتطبيقيًّا. وهذا الحكم الماركسي تعميم بغير مُبرِّر لتأثير الوضع الاجتماعي على قيَم الإنسان، والإنسان ليس نتاجًا لطبقته فقط كما يزعم ماركس؛ فثَمة مُؤثِّرات عديدة تُشكِّل شخصية الإنسان وقيَمه.

إن التفسيرات الماركسية دائمًا تعميم لجانب واحد وإغفال لبقية الجوانب؛ فكيف يُتصوَّر أن الاقتصاد هو المُؤثِّر الوحيد على حركة التاريخ؟! والواقع أن هناك عوامل أخرى لها تأثير أقوى، كالدِّين الذي ظل العامل الأساسي لنشأة الحضارات وازدهارها وأُفولها وقيام الإمبراطوريات وسقوطها طَوال العصور الوسطى، وكالعلم وهو السبب الأساسي للثورة الصناعية التي أدَّت إلى بؤس العُمال وأيضًا إلى الاستعمار.

وكما أوضح كارل بوبر، العلاقات مُتداخِلة بين الظروف الاقتصادية وبين المعرفة، ويستحيل أن نرجع الأولى (= الظروف الاقتصادية) ببساطة إلى الثانية (= المعرفة). وإن كان يُمكِن أن نُرجِّح كِفة الأولى على الثانية؛ فلو تحطَّمت كل وسائل الإنتاج وبالتالي انتهت علاقاته، وبقيَت لدينا المعرفة، لأمكنَنا أن نُقيم الحياة الاقتصادية ثانيةً. أما لو اختفَت المعرفة تمامًا وجاءت قبيلة بدائية بكل احتياجاتها المادية والاقتصادية، فلن تستطيع أن تُقيم حياة اقتصادية كتلك التي كانت في كنَف معرفة مُتقدِّمة. المعرفة إذن — وليس الاقتصاد — هي العامل الأكثر حسمًا وهي البناء التحتي للحياة الاجتماعية.

وبكل هذا الركام من الأخطاء يُشكِّل ماركس أيديولوجية صارمة لمجتمع مُغلَق، أيديولوجيًّا تحدَّد سلفًا أسلوب حل كل المشاكل ومُواجَهة كل المَواقف، فلا يقبل المجتمع أية ديمقراطية ولا تبادُل آراء ولا حتى مُحاوَلة التوصُّل لحل أصيل مرِن لمُشكِلة طارئة.

إن الماركسية نظرة كلية، تفترض أنها بضربة واحدة — هي الثورة الدموية — ستقلب التطوُّر التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية الشيوعية، التي يتصوَّر ماركس أنها نهاية التاريخ وخاتمة العالم.

وعلى هذا نتفهَّم سر دعوى «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما التي تردَّدت وعلا صِيتها في العقد الأخير من القرن العشرين، فقد كان الاتحاد السوفيتي أقوى وأمضى تمثيل لتطبيق النظرية الماركسية، وتمثيلًا عينيًّا للسير في طريقها؛ وشهد النصف الثاني من القرن العشرين استِعار أُوار الحرب الباردة بين اليمين وتُمثِّله رأسمالية وليبرالية الولايات المتحدة الأمريكية والسائرون في فلكها، واليسار وقد انبرى له الاتحاد السوفيتي والسائرون في فلكه، الزاعمون أن المستقبل ملك لهم، أوَليست الشيوعية آتية لا ريب فيها؟! وعلى حين غِرة انهار الاتحاد السوفيتي، فخرج فرنسيس فوكوياما — المُفكِّر الأمريكي اليميني المُتشدِّد ذو الأصول اليابانية — ليُعلِن أن هذا هو النصر المُؤزَّر لليمين الليبرالي والقضاء المُبرَم على غريمه اليسار الاشتراكي، مما يعني أن نهاية التاريخ لن تكون الشيوعية كما زعم ماركس بل هو تلك الليبرالية والرأسمالية التي تُجدِّد نفسها، والإصلاحات المتوالية.

لسنا الآن بصدد مُناقَشة فوكوياما الذي تُثير رؤيته حفيظة العُقلاء؛ لأن التاريخ ببساطة لم ينتهِ بعد، غير أن الإصلاح مثل النقد من الأفضل أن يكون على مَراحل وقائمًا على أساسِ هندسة اجتماعية جزئية تتعامل مع المُؤسَّسات الاجتماعية كلٌّ على حِدة، بالأسلوب الذي يُناسِبها، وليس بأسلوب مُحدَّد سلفًا. الاتجاهات الكلية التي تُريد الإصلاح بضربة واحدة قاصمة فاصلة قد لا تُصلِح شيئًا، وقد تُؤدِّي إلى خراب أو فساد شامل، ثم إن النزعة الكلية الاجتماعية مُستحيلة منطقيًّا، فكل تحكُّم جديد في العلاقات الاجتماعية من شأنه أن يخلق مجموعة جديدة من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج هي الأخرى إلى التحكُّم فيها، وهكذا في سلسلة بغير نهاية؛ لذلك أعلن فلاديمير إيلتش لينين القائد السوفيتي المُبرِّز أن الحزب الشيوعي السوفيتي بمُجرَّد أن تولَّى السُّلطة لم يجِد في النظرية الماركسية أية تكنولوجيا اجتماعية أو خُطط للإصلاح الاجتماعي، فكل بحوث ماركس كانت مُكرَّسة لخدمة نبوءاته التاريخية التي فشلت.

•••

ولكن مهما اختلفنا مع ماركس، ومهما كان وضوح الأخطاء في النظرية الماركسية ومَواطن الزلل فيها، فإن أحدًا لا يستطيع إنكار أن ماركس كان واحدًا من أعظم أقطاب الفلسفة، وأن هناك الكثير مما يُسجَّل له.

حاوَل مُخلِصًا أن يُطبِّق المنهج العلمي العقلاني على أكثر مَشاكل الحياة العملية إلحاحًا، كانت رغبته مُتأجِّجة لمُساعَدة المطحونين المقهورين، وبإخلاص نادر بذَل حياته قولًا وفعلًا من أجل تحسين أحوالهم، ضرب عُرض الحائط بفرص حياة عريضة كانت مفتوحة أمامه غير نادم ولا آسف، ولم يلقَ من دعوته إلا العنَت والفاقة التي تسبَّبت في موت نفرٍ من بَنيه.

وحين هاجَر إلى لندن هربًا من الاضطهاد الذي لاقاه في وطنه ألمانيا وفي أوروبا عمومًا، كان يستجدي من رفيقه وتابعه الوفي فردريك إنجلز رجل الأعمال الثري، وأحد أقطاب صناعة النسيج في مَعقِلها آنذاك، في بريطانيا. أما ماركس فقد كان شُغله الأول مكتبة المتحف البريطاني، يقضي فيها جُل ساعات يومه بلا مَلل ولا كَلل، قرأ بِنَهم محموم كل ما وقع في يديه من بحوث ومَراجع وهوامش، ربما كما لم يقرأ أحد مثله، وليس هذا غريبًا من شخصية جبَّارة مثله. كان قد درس التاريخ والفلسفة في جامعة برلين، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة برسالة موضوعها أكاديمي خالص هو: «المذهب المادي بين ديمقريطس وأبيقور». وبتأثير من المُحامي المُثقَّف أوستفالن — والد زوجته المحبوبة — اطَّلع بحماس على الآداب الكلاسيكية القديمة والفكر الإنساني، ولما انتُقد عام ١٨٤٠ لأنه يُحاوِل تنظيم الاقتصاد وتخطيطه في حين أنه لم يدرس الاقتصاد بما يكفي، انكبَّ بعزيمة حديدية على دراسته ثماني سنوات، فلما جاء العام ١٨٤٨ كان ماركس أعلم علماء عصره بالاقتصاد.

وهو في كل هذا لم يكُن يرى في المعرفة إلا وسيلة لدفع تقدُّم الإنسان وتحسين أحواله، أحوال الكادحين؛ وإن كان مَسار التاريخ قد أثبت أن ماركس أخطأ أكثر مما أصاب.

هذا عن ماركس، أما عن ماركس الفيلسوف فإن الحديث يطول، ويكفي أنه قلَب النظرة الوضعية الإستاتيكية للمجتمع والتاريخ، وعلَّمنا أصول النظرة الحركية الديناميكية التي تنظر إلى مَسار التاريخ الإنساني من حيث التغيُّرات الحَدية فيه.

ولا شك أن ثَمة مُثلًا عُليا لا يُنكِرها إلا مُكابِر مُنغلِق على ذاته غير مبالٍ بالصالح العام، كالعدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروات في المجتمع وتحقيق التقارب الطبقي والحياة الكريمة للجميع مهما كانت أعمالهم ومهما تواضعت قدراتهم، وتقديس قيمة العمل كحق للجميع وواجب عليهم وشرف لهم، ونبذ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان … إلخ، وهي مُثل قد تتحقق في المجتمع الاشتراكي أكثر مما تتحقق في المجتمع الرأسمالي الليبرالي، ولا شك أيضًا أن ماركس فعل لهذه القيَم ما لم يفعله سواه، وأنه جعل الاشتراكية من أهم نقاط التحوُّل في مَسار التاريخ البشري الحضاري والفكري، ومن أهم تيَّارات الفلسفة في القرنين التاسع عشر والعشرين.

ولكن حين نَنشُد تحقيق مثل تلك القيَم وتحقيق المجتمع الاشتراكي، لم يعُد واردًا الآن أن نتبع كارل ماركس الذي رحل عنا منذ أكثر من مائة عام، باعًا بِباع، ولا تزال هناك تيَّارات اشتراكية مُتبصِّرة تفعل فعلها في واقعنا المعاصر، كالاشتراكية الفابية والاشتراكية الديمقراطية والماركسية المُعدَّلة المُتطوِّرة دائمًا في الصين، إنها تيَّارات مُتبصِّرة واعية لمُتغيِّرات الواقع وأخطاء المثال.

لقد تراجعت الليبرالية المعاصرة عن كثير من تطرُّفها اليميني، مثلما تراجعت الاشتراكية الآن عن كثير من تطرُّفها لتصُب فيما يُعرف الآن بالطريق الثالث، وفي هذا يحِق لنا اعتبار فكرة الهندسة الاجتماعية التي طرحها كارل بوبر — كفلسفة للتنظير وللتخطيط السياسي — كانت من الشِّعاب المُمهِّدة حقًّا لتُؤدِّي إلى هذا الطريق الثالث.

ولا غَرْو أن يُمهِّد كارل بوبر الطريق الثالث؛ فهو فيلسوف الليبرالية البارز الذي ما فتئ يُؤكِّد أن القيَم الاشتراكية بمَعية قيَم التنوير هي أنبَل ما حملته الفلسفة، وقبل وفاته بعامين قال إنه دائمًا اشتراكي، بمعنى إحساس العاقلين بالمسئولية تجاه الآخرين الأقل منهم حظًّا ونصيبًا في الحياة، بيدَ أن البشر للأسف لا تُحرِّكهم مثل هذه الدوافع النبيلة، ومع ذلك يظل بوبر من أبرز فلاسفة الديمقراطية الليبرالية في القرن العشرين.

والسؤال الآن كيف تُمهِّد الهندسة الاجتماعية الجزئية ذلك الطريق الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤