الهندسة الاجتماعية الجزئية طريق ثالث

لئن كان كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤م) هو فيلسوف العلم ومَناهج البحث الأول، فإنه يشتهر أكثر بوصفه فيلسوف المجتمع المفتوح، الذي يُمثِّل واحدة من أنضَر صُوَر الديمقراطية الليبرالية؛ ونظرًا لسعة مَجال السياسة وشيوع جمهورها، فقد حاز بوبر شهرته أساسًا من كتابه «المجتمع المفتوح وخصومه» في جزأين (١٩٤٥م)، الذي طبَّق الخافقَين وتُرجِم إلى أكثر من عشرين لغة، من بينها العربية، ولقي اهتمامًا واسع النطاق في مَجالات ومُستوَيات مُختلِفة.

اقترن اسم بوبر بالمجتمع المفتوح وصار عنوانًا لفلسفته السياسية والاجتماعية، حيث التمثيل العيني لتطبيق منهج العلم العقلاني النقدي على مُشكِلات السياسة والاجتماع، حيث مُمارَسة العقلانية النقدية في الفلسفة السياسية كي تكفُل للمجتمع طريقًا للتقدُّم مثلما تكفل للعلم تقدُّمًا مُطرِدًا. تنعكس إيجابيات المنهج العلمي ها هنا في صورة مجتمع مفتوح للرأي والرأي الآخر، ليفوز الحل الأقدر والرأي الأرجح، ويكون الانتقال من المُشكِلات إلى حلولها في إطار ديمقراطي، ولا أحد يُمكِنه الزعم بامتلاك الحقيقة، ليصُب المجتمع داخل إطارها ويقود الآخرين كالقطيع. لا بد من إفساح كل مَجال للرأي والرأي الآخر، ليتغلَّب الرأي الأقدر على حل المُشكِلة، وهذا يستلزم الديمقراطية والتعددية والمناقشات النقدية والعقلانية والتسامح؛ باختصار: المجتمع المفتوح، وينقض كل دعاوى الديكتاتورية والانفراد بالرأي والتعصب والتطرف ويستحيل معه صبُّ المجتمع داخل الإطار الشمولي والنسق المُوحَّد؛ لأن هذا مُجافٍ لمَنطق العلم ومَنطق الواقع ومَنطق التاريخ، سواء أكان هذا النسق الشمولي المُوحَّد هو الماركسية أو سواها.

ويُمكِن القول إن كتاب «المجتمع المفتوح»، وبشكل خاص الجزء الثاني منه، هو أصلًا وفروعًا نقد للنظرية الماركسية، واعتبره كثيرون أقوى نقد وُجِّه للماركسية.

وفي هذا نُلاحِظ أن بوبر في إطار نقده للماركسية وللمجتمع المُغلَق إجمالًا، كانت أهم الجوانب التي حارَبها بشراسة هو ما تنطوي عليه الماركسية من نزعة يوتوبية كلية؛ النزعة الكلية تتناقض مع النزعة العلمية تناقضًا حادًّا؛ افترضت الماركسية أنها بضربة واحدة — هي الثورة الدموية — سوف تقلب التطوُّر التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية والجَنة الموعودة للكادحين؛ وهذا في جوهره مُواصَلة لمَسيرة الفكر اليوتوبي الذي يطرح تخطيطًا كليًّا للمدينة الفاضلة أو جلب السماء إلى الأرض، صارفًا الأبصار عن الطابع المرحلي لكل بناء مُعقَّد، وعن مَشاكله التي يتولَّد عن حلولها مَشاكل أخرى غير مُتوقَّعة، كما يُعلِّمنا منهج العلم وأصول التفكير العلمي.

وإذا كان التفكير الرومانتيكي هو نقيض التفكير العلمي، فإن هذا المَنزِع الكلي نحو عالم أفضل إنما هو نوع من «الرومانتيكية الصريحة، بحث عن المدينة المثالية ككلٍّ مُتكامِل في الماضي أو في المستقبل».

ربما كان البحث عنها في الماضي أكثر حضورًا في واقعنا نحن. في كلتا الحالتين يرى بوبر أن: «عودوا على الماضي المجيد» أو «سيروا نحو مجتمع العدالة الاجتماعية» نداءات إلى العواطف أكثر منها إلى العقل، طابعها الكلي يستلزم إحكام قبضة الاتجاه الواحد والرأي المُوحَّد على المجتمع بأَسره، وغلق الأبواب أمام الرأي الآخر وإخماده، وبالتالي لا مندوحة عن أساليب القهر والقسر والعنف. ومع أخلص نواياهم بصُنع جَنة السماء على الأرض، لا يُفلِحون إلا في جلب حدود الجحيم؛ لأنه الواقع المُضطرِم الحي الذي يأبى الانصياع بسائر جزئياته المُتكثِّرة والصب في إطار هندسة كلية شمولية أيًّا كانت، ليأتينا بكل ما نُريد جملةً وتفصيلًا.

ولكن هل يعني هذا أنه لا سبيل إلى البحث عن عالم أفضل؟

كلا بالطبع، بل يُمكِن القول إن البحث عن عالم أفضل هو حادي مُجمَل الجهد الواعي العاقل للإنسان (لبوبر كتاب عنوانه «بحثًا عن عالم أفضل») وينبغي أن يظل هكذا، وأن نعمل دائمًا على تغيير الأوضاع من أجل دَرْء المَثالب وحل المُشكِلات التي تُواجِه المجتمع والاقتراب دومًا من الأهداف المنشودة والمُثل العليا، ولكن لا يكون هذا بالأسلوب الكلي الشمولي، والتخطيط المركزي الذي يُحكِم قبضته على المجتمع المُغلَق، بل عن طريق ما أسماه بوبر بالهندسة الاجتماعية الجزئية Social Piecemeal Engineering المُتسِقة مع ليبراليته؛ فما هي الهندسة الاجتماعية الجزئية؟

•••

الهندسة الاجتماعية على إطلاقها تعني إنشاء النُّظم والمُؤسَّسات الاجتماعية أو تكييفها وتعديلها وفقًا لخطة مرسومة قبلًا، أو بالمصطلح الأنيق نقول تبعًا لمخطوطات زرقاء blue prints على أن الخطة أو المخطوطة يُمكِن أن تكون شمولية تنحو إلى قلب المجتمع بأَسره من وضع إلى وضع، بصورة حَدية مُتطرِّفة، بضربة واحدة، أو حتى بثورة دموية؛ وهذه هي الهندسة الاجتماعية الكلية التي رفضها بوبر بشدة.

في مُقابِل هذا، يُمكِن أن تكون الهندسة الاجتماعية جزئية؛ مخطوطات زرقاء أبسط وأضيق حدودًا، مخطوطة تنصبُّ مثلًا على مُكافَحة البطالة أو مرض مُتوطِّن، أو تطوير نظام تعليمي … إلخ. ولما كانت كل مُحاوَلة في واقع الإنسان لا بد أن يشوبها خطأ ما كما يُعلِّمنا التفكير العلمي، فإن مخطوطات الهندسة الجزئية المحدودة تجعل الخطأ بدوره محدودًا، دَرْؤه أيسر، والخسران الناجم عنه أقل مُخاطَرةً من المُغامَرة بتخطيط كلي.

إن الهندسة الاجتماعية الجزئية تتلمَّس الطريق خطوة خطوة، وتبحث عن أكثر المُشكِلات إلحاحًا، يتبارى الرأي والرأي الآخر للوصول إلى أفضل الحلول، فتحُل الديمقراطية مَحل القمع والديكتاتورية، نُقارِن النتائج المُتوقَّعة بالنتائج المُتحقِّقة فعلًا، نترقَّب على الدوام ظهور النتائج غير المرغوب فيها، والتي لا مَفر منها في كل إصلاح بل وفي كل مُحاوَلة إنسانية. هكذا يحُل التناول العقلاني المرحلي مَحل التحمُّس المشبوب والعنف والقسر. ونرفض كل دعوى بحتمية التاريخ — ماضيه ومستقبله — ليُترَك المَجال مفتوحًا للتعديلات والتصويبات وفق أية مُستجَدات في الواقع.

تلك هي الهندسة الاجتماعية القريبة حقًّا من روح المنهج العلمي بل أيضًا من روح التِّقانة (التكنولوجيا)، حتى يُمكِن القول إنها الأُسس العلمية للسياسة؛ فهي تتوقَّف على السياسة الواقعية الضرورية لتشييد أو تعديل أو تبديل المُؤسَّسات الاجتماعية وفقًا لأهدافنا، سوف تُخبِرنا بأي الخطوات هي التي يجب اتخاذها فعلًا إذا رغِبْنا مثلًا في تفادي الكَساد لمُؤسَّسة ما، أو عدالة توزيع الربح الناتج عن مُؤسَّسة أخرى.

المهندس الاجتماعي هنا يتصوَّر شيئًا ما يُشبِه التكنولوجيا الاجتماعية من قَبيل تصميم النُّظم والمُؤسَّسات الاجتماعية الجديدة، وتشغيل وإعادة تركيبِ ما هو موجود فعلًا. النُّظم الاجتماعية هنا تُستعمل بمعنًى واسع، فتشمل الهيئات الاجتماعية العامة والخاصة، أيَّ عمل تِجاري كبير أو صغير، شركات التأمين والمَصارف، الشرطة، مُؤسَّسات الخدمات التعليمية والصحية، الهيئات الدينية والقضائية والإعلامية … إلخ، كلها تتناولها الهندسة الاجتماعية الجزئية بوصفها وسائل علينا أن نجعلها تُحقِّق أهدافًا مُعيَّنة، ونحكم على كلٍّ منها على حِدة تبعًا لمُلاءمتها وقدرتها على تحقيق الهدف منها.

طرَح بوبر تصوُّره للهندسة الاجتماعية الجزئية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في مُحتدِم الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، فبَدتْ كأسلوب ترقيع جزئي مُتواضِع، عزَف عنه المُتحمِّسون من كلا الجانبين، التوَّاقون للإصلاح والكمال ككلٍّ لا يقبل تجزئة؛ والآن اتَّضح أن طريقهم أكثر التواءً وأبعد مَنالًا، إن لم نقُل مُستحيل المَنال.

•••

كما ذكرنا، شهدتْ بدايات القرن العشرين انتهاء الرأسمالية المُطلَقة، رأسمالية «دَعه يعمل، دَعه يمُر، إن العالم يسير من تِلقاء نفسه» بلا أي توجيه أو تدخُّل من الدولة، إنها الرأسمالية التي كانت سائدة في عصر الثورة الصناعية وحاربتْها الاشتراكيات الصاعدة آنذاك، وتنبَّأ ماركس بأُفولها، وهذه هي نبوءته الوحيدة التي تحقَّقت وإن لم تحُل مَحلها الشيوعية كما زعم. على أية حال كان اختفاء تلك الرأسمالية المُتطرِّفة أو تكييفها أو تعديلها تقدُّمًا إيجابيًّا بلا شك، وبوبر نفسه يُعلِن ارتياحه لانتهاء مثل هذه الرأسمالية.

ومثلما شهدتْ بدايات القرن العشرين انتهاءها، شهد العقد الأخير منه نهاية الاشتراكيات المُتطرِّفة وانهيار الأنظمة الشمولية المُغلَقة باسم الاشتراكية في شرق أوروبا. لقد ثبَت فشل التطرُّف من كلا الاتجاهين، اليمين واليسار على السواء؛ وتتقدَّم الهندسة الاجتماعية الجزئية حين تقنينها وصياغتها وتوجيهها وفق أهداف ومُثل عُليا، وتبدو حلًّا في مُتناوَل كل الأطراف، يصعب أن يستأثر بها أحد الطرفين، إنها فكرة عالَجها فيلسوف ليبرالي اقترن اسمه بتطوير ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين في اتجاه خطوط الاشتراكية الديمقراطية التي ما فتئ بوبر يُثني عليها.

لهذا نجدُ الهندسة الاجتماعية الجزئية التي عالَجها فيلسوف ليبرالي قد أتتْ في جوهرها أقرب إلى الاشتراكية الديمقراطية، بل والاشتراكية الفابية التي عرَفتْ كيف تزرع القيَم الاشتراكية في صُلب الحضارة الإنجليزية، مَعقِل الرأسمالية، حيث يُنازِع حزب العُمال حزب المُحافِظين ويتغلَّب عليه كثيرًا ويُمسِك بزمام الحكم.

وفي هذا نُلاحِظ أن زعماء كلا الحزبين الأكبرين في بريطانيا يُقِرون بأنهم مُتأثِّرون ببوبر الذي هو أشهر وأهم فلاسفة إنجلترا المعاصرين، وبفلسفته السياسية والاجتماعية التي يرَونها أول تطوير حقيقي وتغيير لمَسار الليبرالية منذ وفاة جون ستيوارت مِل، أيضًا في إنجلترا العام ١٨٧٣م.

إنهم الآن يتحدَّثون كثيرًا عن الطريق الثالث، بعد ما رأَيناه من أُفول التطرُّف الرأسمالي اليميني والتطرُّف الاشتراكي اليساري على السواء، وظهر مصطلح الطريق الثالث وكاد يفرض نفسه حتى ظهور مصطلح العولمة كغولٍ يُنذِر بابتلاع كل ما عداه، وذي صخَبٍ عالٍ يطغى على كل ما سواه؛ ودون أن ندور في مَتاهات العولمة، نكتفي بإيجابيات التفكير العلمي وقد تمثَّلت في الهندسة الاجتماعية الجزئية، كآلية فعَّالة في صُلب الطريق الثالث، الذي يبدو طريقًا مُربِحًا لكلا الجانبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤