الاستعمارية
رأَينا لوك يرفع شعاره الشهير: «الحياة، الحرية، المِلكية» الذي يُلخِّص مَبادئ الليبرالية، وكان بهذا يُؤكِّد على اعتبارٍ سوف يُصبِح من أهم أُسس الليبرالية، وهو العلاقة بين الحرية الشخصية والمِلكية الخاصة؛ فالاعتراف بمَجال خاص (= مَجال المِلكية الفردية) يستقلُّ فيه الفرد دون تدخُّل يتطلَّب أن تتوزَّع المِلكيات ولا تتركَّز في يد واحدة، ولو كانت يد الدولة. هكذا رأت الليبرالية أن الحرية تتطلَّب تنوُّع المِلكيات، لتُصبِح المِلكية شرطًا لحرية الأفراد.
والواقع أن المِلكية في الليبرالية ليست شرطًا للحرية بل هي الحرية ذاتها، أو هي بتعبير هارولد لاسكي الذي يُجسِّد به الليبرالية الأمريكية المعاصرة: المِلكية هي الحرية التي تحقَّقت.
هكذا حين رفع لوك الشعار «الحياة، الحرية، المِلكية» كان يُبلوِر خلاصة الليبرالية وهي أن الإنسان هو المالك الوحيد لحياته، ولامتدادها الذي هو العمل، والعمل يتجسَّد ناتجه في مِلكية خاصة هي التمثيل العيني للحرية، فتكون غاية الحكومة هي الحفاظ على المِلكية الخاصة، ويغدو الوطن فقط لأصحاب الضياع والعقارات ومن يملكون. أما الأُجراء الذين لا يملكون غير قدرتهم على العمل، فقد أكَّد لوك في أكثر من مَوضِع أنهم ناقصو الأهلية والتعقُّل، ولا يُمكِن أن يُشارِكوا في الحياة السياسية ولا في حقوق المُواطِنين وحرياتهم؛ فما شأنهم بالوطن ما داموا لا يملكون فيه شيئًا؟! وهكذا حيث لا مِلكية فلا حرية ولا مُواطَنة ولا إنسانية؛ فكان من الطبيعي أن يتنامى الفكر الاشتراكي فيما بعد ليُدافِع عن حريات وحقوق ومُواطَنة الذين لا يملكون.
حرية الذين يملكون هذه تجعلنا لا نُصدِّق ببساطة على زعم الليبرالية أنها مَذهَب الحرية وأقوى المُدافِعين عن حرية المُواطِن أو حرية الإنسان من حيث هو إنسان؛ ولا غُلو إذا قلنا إن حرية الإنسان وكرامته هي هدف الفلسفة السياسية الحديثة أصلًا وغايتها جملةً وتفصيلًا، كل مَذهَب من مَذاهبها يُحاوِل تحقيق هذا الهدف من الزاوية التي اتَّخذها ومن المنظور الذي تبدَّى له، الكل يُحاوِل، وليس الكل يُصيب، ولكن جميع مَذاهبها تنطلق صوْب هذا الهدف.
ورُب مُعترِض: حتى الفاشية والنازية؟!
أجل حتى الفاشية والنازية؛ فالأُولى أي «الفاشية» لم تقتنع بحرية وكرامة لمُواطِن في وطن ضعيف مقهور، فانشغلت بعزة الدولة انشغالًا أعماها عن عِزة الفرد، لتقع في الخطأ التقليدي، خطأ الوسيلة التي تُلهي عن الغاية.
أما «النازية» فلمْ ترفع الدعوة بسيادة الجنس الآري وتحقير الجنس السامي إلا حين أمعنَت الدولتان الليبراليتان الكبريان إنجلترا وفرنسا في مَدهما الاستعماري واقتسام المعمورة فيما بينهما وكأن العالم مِلك لهما وحدهما، فانطلقت الصرخة الألمانية النازية: نحن هنا! جعلها الضغط الليبرالي الاستعماري من أمام ومن وراء صرخةً هوجاء رعناء غير مُتريِّثة الخُطى أو مأمونة العواقب.
وبطبيعة الحال ليس يعنينا الآن مُحاكَمة النازية والفاشية، بل يعنينا لفتُ الأنظار إلى حقيقة كشمس الجنوب مُشرِقة ومُحرِقة، وهي أن «حركة الاستعمار» كانت من الثمرات اليانعات لليبرالية، وكوابح الاستعمار التي رانَت على الكواهل هي الأيادي البيضاء لليبرالية الغربية على العالم الذي أصبح ثالثًا، المُواطِن فيه إنسان من الدرجة الثالثة.
ومن مُنطلَق مَوقِعنا في العالم الثالث الذي ذاق الأمرَّين — ولا يزال — من وبال الاستعمار والتبعية للغرب، لا نستطيع أن نغُض النظر عن هذا الوجه القبيح لليبرالية، حين نتطلَّع إلى الاستفادة من إيجابيات الليبرالية أو وجهها الجميل.
على هذا يكون التفهُّم العميق لليبرالية حين نضعها داخل أُطرها الأوروبية لنَنْتبه إلى أن ما يُميِّز الليبرالية حقًّا ليس الحرية والكرامة، بقدر ما يتمثَّل في أنها — كما رأينا — صِيغت أولًا كواقعٍ أوروبي، ثم صِيغت لاحقًا كنظرية، لعل هذا هو مَكمَن قوتها، فهي بعكس النظريات الاشتراكية والماركسية التي هي صياغة للنظرية أولًا ثم بحث عن تطبيقها؛ لذلك قيل إن اليمين الليبرالي هو فلسفة الأمر الواقع، وانتصاره على غريمه الاشتراكي هو نهاية التاريخ؛ وإذا كانت الديمقراطية القائمة على العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين هي أهم الإيجابيات، فإنها ليست حكرًا على الليبرالية أو صنيعتَها بقدر ما كانت اتجاه العصر الذي قامت الليبرالية بالتنظير له. وأهم فلاسفة العقد الاجتماعي جان جاك روسو قد شنَّ حملة شعواء على قُدس أقداس الليبرالية: المِلكية الخاصة.
كان نموُّ النظرية الليبرالية، منذ أن بدأت دفاعًا عن طبقة صغار المُلاك الناشئة حديثًا مرورًا بليبرالية التِّجاريين والفيزوقراطيين في فرنسا ورأسمالية عدم التدخُّل والاقتصاديين الكلاسيكيين، هو ذاته تطوُّر الحضارة الغربية الحديثة منذ انهيار الإقطاع وازدهار الحياة في المدن وظهور البرجوازية «وصولًا إلى مرحلة الثورة الصناعية وانفجار المَد الاستعماري وما تلاه من صنوف التبعية للغرب». إن الاستعمار هو الوجه القبيح لليبرالية.
لقد كانت الفترة منذ نهاية حروب نابليون بونابرت عام ١٨١٥م حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م هي أظهر فترات الحكم الليبرالي خاصةً في إنجلترا، وهي ذاتها الفترة التي اجتاح فيها الاستعمار عالَمنا الثالث كمَهمَّة اضطلعت بها الدُّوَل الليبرالية، إذ أفرزتها آليات الليبرالية؛ وأكَّدتها أهداف الليبرالية وبارَكها أقطاب الليبرالية.
وحتى مع جون ستيورات مِل وكتابه الرائع «في الحرية» الذي يُعَد تاج الأدبيات الليبرالية، نجدُ أن مِل نظرًا لمَوقِعه الشخصي في شركة الهند الشرقية يُندِّد باحتلال الهند، ومع هذا يُفسِح صفحات في كتابه المذكور ليُدافِع عن حق وواجب الدُّوَل المُتقدِّمة في احتلال الدُّوَل المُتخلِّفة؛ لأنها بمَثابة القاصر!
إذ كان من الضروري أن يتَّجه الفكر الإنجليزي — الليبرالي جدًّا — بمَجامع نفسه لتأكيد المَد الاستعماري، طالما أنه يُؤمِّن مَصادر المَواد الخام للصناعات الغربية وفتح الأسواق لمُنتَجاتها، والحيلولة دون ظهور صناعات تُزاحِمها في البلدان المُتخلِّفة التي لا بد وأن تبقى هكذا، لينفتح المَجال على مِصراعَيه — فقط في عالَمهم الغربي — للمُبادَرة الفردية وهامش الربح والتنافس الخلَّاق … إلى آخر مثاليات الاقتصاد الليبرالي، الذي تهدف سياساته إلى تأكيد حقوق الإنسان، فقط الغربي أو الأبيض. أما إنسان الدُّوَل المُحتَلة، في الهند أو مصر أو الجزائر … إلخ، فلمْ تتوانَ الدُّوَل الليبرالية عن سحب كل حق له — فضلًا عن حق وطنه — في الحرية والاستقلال والكرامة، والحياة أحيانًا، كما في حالة شهداء حركات وحروب التحرير. وسلامًا على عبد الحكم الجراحي طالب جامعة القاهرة — جامعة فؤاد الأول آنذاك — الذي قضى نَحْبه من التعذيب في سجون الاحتلال الإنجليزي فقط لأنه قاد مُظاهَرة تُنادي بأن تكون مصر حُرة مُستقِلة.
والآن يبدو طبيعيًّا جدًّا ومُتوقَّعًا أن تنزع الولايات المتحدة الأمريكية اليوم إلى الاضطلاع بالدور الذي قامت به إنجلترا وفرنسا بالأمس، وهو السيطرة على مُقدَّرات العالم وتنظيمه وتوجيهه بما يتَّفق مع مَصالح الغرب، وطبقًا لآليات العصر طالما أن أمريكا قد ورِثت عن إنجلترا وفرنسا عرش الليبرالية.
وبالمثل حين اندفعت الليبرالية الغربية لتأسيس المشروع العنصري الإسرائيلي، والعمل على تكريس تفوُّقه وبقائه، فإنه يستوي في تبرير مَوقِفهم هذا أن إسرائيل حاملة لواء الديمقراطية الليبرالية في الشرق الاستبدادي المُتخلِّف، أو أنها أقوى وأبهى إنجازات المشروع الاستعماري وأعلى أشكاله.
فتُجلجَل الصيحة بحقوق الإنسان في الانتقال والإقامة حيث يريد، ليكتسب أي شخص في العالم — عدا الفلسطينيين المُكدَّسين في مُخيَّمات البؤس — حق الإقامة في فلسطين! طالما انتمى لشراذم اليهود. ولا تُقلِق حقوق الإنسان الليبرالية قِيدَ أنملة ولا تُغيِّر توجُّهاتها لتكسير عظام الفلسطينيين وتعذيبهم وهدم مَنازلهم وطردهم من أراضيهم، طالما أن في هذا ما يُؤكِّد الأهداف النهائية للحضارة الغربية ومَدها الاستعماري، أي تأكيد هيمنة المشروع الحضاري الغربي كمشروع أوحد، وهو ما بات قابَ قوسَين أو أدنى مع تصاعُد صيحات العولمة.
•••
على أية حال يظل التقدُّم المُتوالي خاصةً من خصائص الحضارة الإنسانية، وليس اليوم كالأمس أبدًا، وبالتالي ليس وضع الاستعمارية الغربية اليوم كما كانت منذ قرنين ماضيين، على الرغم من وجود بعض امتدادات وانعكاسات لها مع الإمبريالية الأمريكية وتصاعُدها البشع مع المُحافِظين الجُدد.
لقد كانت نهاية الحرب العالمية الثانية لحظة فارقة في تاريخ المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي، لتُعلِن إفلاسه. وفي أعقاب هذه الحرب وكنتيجة لها خرجت الدولتان الاستعماريتان الكبريان إنجلترا وفرنسا مُتهالِكتين غير قادرتين على مُواصَلة الزحف الاستعماري. ومن الناحية الأخرى تعاظَم شأن حركات التحرير والمَد القومي في الدُّوَل المُحتَلة.
وتزامَن مع هذا تصاعُد النقد المُوجَّه لقيَم الحداثة الغربية والتنوير. لم تعُد الحداثة كما كانت قبل الحرب، مُسلَّمًا بها بوصفها طريق التقدُّم الواحد والوحيد والتمثيل العيني لكل إيجابيات الحضارة الإنسانية.
ومن ثَم شهدت الفلسفة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين تياراتٍ دأبتْ على نقد قيَم الحداثة والتنوير وإعلان أوانِ انتهائها أو إفلاسها، والبحث عن طريق آخر ومنظومة قيَمية أخرى، تُعرَف هذه التيارات باسم تيارات ما بعد الحداثة.
وفي إطار نقد الحداثة وصياغة توجُّهات ما بعد الحداثة شهدت الفلسفة الغربية دعاوى نبيلة صادقة مع النفس ومع الواقع تنحو باللائمة على المشروع الاستعماري البائد وجرائمه، وتُؤكِّد على ضرورة انتهاء تلك المرحلة التي كان الزحف الاستعماري الغربي يرسم خريطة العالم وشكل العلاقات بين الثقافات والحضارات. إنه عصر التحرُّر القومي والتسليم بحق كل الكيانات الحضارية في الوجود المُستقِل.
ولعل الفلسفة النِّسَوية التي ظهرت في أوروبا وخصوصًا فرنسا وأينعَت وازدهرت في أمريكا إبَّان العقدين الأخيرين من القرن العشرين، من أبرز التيارات التي أتَت في سياقِ ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية؛ وامتازَت النِّسَوية بحِدَّة هجومها على الاستعمار وفضحها لزيف مَزاعمه.
فما هي النِّسَوية وكيف كانت فلسفتها السياسية فلسفةً بعد استعمارية مُتقِدة حقًّا؟