النقد البدائي
إن أكثر نقد من بين جميع أشكاله التاريخية التي صادفتها، يشبه بعمله آلية عمل البيتكوين هو النظام القديم القائم على حجارة «الراي» في جزيرة «ياب»، والتي تُعَد اليوم جزءًا من ولايات «ميكرونيزيا» الموحَّدة. وفهمُ آلية عمل الحجارة الدائرية الكبيرة المنحوتة من الحجر الجيري كنقد، سيساعدنا في شرح آلية عمل البيتكوين في الفصل الثامن، كما أن فَهم الحكاية المذهلة لكيفية فُقدان حجارة «الراي» دورها النقدي سيكون بمثابة درس عملي وموضوعي في كيفية خسارة النقد دورَه النقدي عندما يخسر صفة الصعوبة منه.
إن حجارة «الراي» التي شكَّلت النقد، كانت عبارةً عن أقراص دائرية كبيرة الحجم ينتصفها ثقب، كما أنها كانت مختلفة الأحجام، وبلغ أعلى وزن لها أربعة أطنان مترية. لم يكن أصل هذه الحجارة من جزيرة «ياب» التي لم يكن فيها الحجر الجيري، بل إنَّ حجارة جزيرة «ياب» كانت تُستَورد من «بالاو» أو «غوام» المجاورتَين. لقد كانت تلك الحجارة مرغوبةً ومهيبة في «ياب» بسبب جمالها ونُدرتها، لكنَّ الحصول عليها كان أمرًا صعبًا للغاية؛ لأنه تَضمَّن عمليةً شاقة من عملية التحجير، يليها الشحن بالطوافات والقوارب. وتطلَّب نقل بعض هذه الحجارة مئات الأشخاص، وكان يتم وضعها في موقع بارز بمجرد وصولها للجزيرة لكي يُتاح للجميع رؤيتها. ويمكن لمالك الحجر استخدامه كوسيلة للدفع دون الحاجة إلى نقله؛ فكل ما سيحدث هو إعلان المالك لجميع سُكان المدينة بنقل ملكية الحجر إلى المُرسَل إليه (المستفيد)، وستعترف المدينة بأكملها بملكية هذا الحجر، بحيث يمكن للمتلقي بعد ذلك أن يستخدمه للدفع وقتما شاء. ولم تكن هناك جدوى من سرقة الحجارة؛ لأن ملكيتها أصبحت معروفةً للجميع.
لقد رأى «أوكييفي» أن هناك فرصةً للربح تتمثَّل في نقل جَوز الهند من الجزيرة ثم بيعه لمنتِجِي زيوت جَوز الهند، لكن «أوكييفي» لم يكن لديه وسيلة لإغراء السكان المحليين بالعمل لديه؛ وذلك لأنهم كانوا قانعين وسعداء بشكل كبير بحياتهم الحالية في جنَّتهم الاستوائية، كما أنهم لم يكونوا بحاجة إلى أي شكل من أشكال النقد الأجنبي الذي يمكن ﻟ «أوكييفي» أن يعرضه عليهم. لكن «أوكييفي» لم يقبل بالرفض، فأبحر إلى «هونغ كونغ»، وحصل على قارب كبير ومتفجِّرات، وأخذها إلى «بالاو» واستخدم المتفجِّرات والأدوات الحديثة لاستخراج العديد من حجارة «الراي» الكبيرة، وأبحر عائدًا إلى «ياب» ليُقدِّم الحجارة للسكان المحليين كدفعةٍ لقاءَ جَوز الهند. لم يتحمَّس القرويون لتلقي الحجارة، خلافًا لتوقعات «أوكييفي»، ومَنَع رئيس القرية السكان من العمل لقاء تلك الحجارة، حيث أصدر حُكمًا فَحْواه أن حجارة «أوكييفي» لم تكن ذات قيمة؛ لأنه تمَّ جمعها بسهولة بالغة. فالحجارة التي استُخرجت بطُرق تقليدية، بتعب ومجهود السكان، هي الحجارة الوحيدة المقبولة في «ياب». عارض بعض الأفراد في القرية هذا الأمر، وقاموا بتزويد «أوكييفي» بجَوز الهند الذي أراده، ممَّا أدَّى إلى حدوث خلافات في الجزيرة، ومع مرور الوقت، انتهت فترة استخدام هذه الحجارة كنقد. وأصبحت الحجارة اليوم تلعب دورًا احتفاليًّا وثقافيًّا في الجزيرة، أمَّا الوسيط النقدي الأكثر استخدامًا الآن هو نقود الحكومات الحديثة.
بالرغم من أن قصة أوكييفي هي قصة رمزية للغاية، إلا أنها أنذرت بحتمية زوال الدور النقدي لحجارة «الراي» مع غزو الحضارة الصناعية الحديثة لجزيرة «ياب» وسكانها. فمع وصول الأدوات الحديثة والقدرات الصناعية إلى المنطقة، كان الأمر حتميًّا لأنْ يصبح إنتاج الحجارة أقل تكلفةً من أي وقت مضى. وسيكون هناك العديد من نماذج «أوكييفي» من المحليين والأجانب القادرين على تزويد «ياب» بتدفُّق متزايدٍ من الحجارة الجديدة. ففي ظلِّ وجود التكنولوجيا الحديثة، انخفضت نسبة المخزون إلى التدفُّق لحجارة «الراي» بشكل كبير للغاية؛ حيث أصبح بالإمكان إنتاج المزيد من تلك الحجارة كل عام، ممَّا أدَّى إلى انخفاضٍ ملحوظ في قيمة مخزون الجزيرة الحالي، ولم يعد من الحكمة لأي شخص استخدام هذه الحجارة كمخزن للقيمة، وبالتالي فقدت قابليتها للبيع عبر الزمن، ومعها فقدت دورها كوسيط للتبادل.
تتشابه الديناميكية الأساسية لانخفاض نسبة المخزون إلى التدفُّق رغم احتمال اختلافها بالتفاصيل في كل أشكال النقد الذي فقد دوره النقدي، حتى انهيار «البوليفار الفنزويلي» الذي يتزامن حدوثه مع كتابة هذه السطور.
ولقد حدثت قصة مشابهة مع الخرز الزجاجي الذي تمَّ استخدامه كنقد في غرب أفريقيا لقرون طويلة. إنَّ تاريخ ذلك الخرز في غرب أفريقيا ليس واضحًا تمامًا، حيث يُعتقد أنه صُنع من الحجارة النيزكية، أو أنه قد تمَّ نقله من قِبل التجار المصريين والفينيقيين. لكن الواضح والمعروف هو أنه كان ثمينًا في المناطق التي كانت فيها صناعة الزجاج باهظةً وغير شائعة، ممَّا مَنحه نسبة مخزون إلى تدفُّق مرتفعة، الأمر الذي جعله قابلًا للبيع عبر الزمن. وبما أنه كان صغيرًا وقيِّمًا، فقد كان ذلك الخرز قابلًا للبيع في مختلِف المقاييس؛ حيث كان بالإمكان تجميعه في سلاسل أو قلادات أو أساور، إلا أن هذا لم يكن مثاليًّا مطلقًا بسبب وجود أنواع عديدة مختلفة من الخرز بدلًا من وجود نموذج معياري واحد، كما أنه كان قابلًا للبيع عبر الأماكن؛ وذلك لأن نقله كان سهلًا. بالمقابل، إن ذلك الخرز الزجاجي لم يكن باهظ الثمن، ولم يكن له أي دور نقدي في أوروبا؛ لأن تكنولوجيا صناعة الزجاج كانت منتشرةً في تلك المناطق، ممَّا يعني أنه إذا تمَّ استخدامه كوحدة نقدية، فسيقوم منتجو الخرز بغمر السوق به. بعبارة أخرى، كان لديه نسبة مخزون إلى تدفُّق منخفضة.
لم يقتصر هذا المصير للأصداف البحرية كنقد في أمريكا الشمالية فحسب، بل شمل أيضًا كل المجتمعات التي كانت تعتمد الأصداف كنقد، فعندما وصلت إليها العملات المعدنية الموحدة، قامت بتبني هذه العملات واستفادت من هذا التحول. وقد أصبح تمشيط البحار بحثًا عن أصداف البحر أمرًا سهلًا بعد وصول الحضارة الصناعية مع القوارب التي تعمل بالوقود الأحفوري، الأمر الذي قام بزيادة تدفق إنتاجها، وقام بخفض نسبة المخزون إلى التدفق بشكل سريع.
ومع تقدُّم التكنولوجيا خاصةً في علم المعادن، طوَّر البشر أشكالًا من النقد أكثر تفوقًا من وسائط التبادل تلك، وقامت باستبدالها بشكل سريع. فتلك المعادن أثبتت أنها وسيط تبادل أفضل من الأصداف البحرية، والحجارة، والخرز، والماشية والملح؛ وذلك لأنه يمكن صنعها بشكل متماثل (مُوحَّدة ومُنتظمة) على شكل أجزاء صغيرة مرتفعة القيمة يمكن نقلها بسهولة أكبر. ولقد تم وضع مسمار آخر في نعش النقد القديم بالاستخدام الهائل لطاقة الوقود الهيدروكربوني الذي زاد من قدرتنا الإنتاجية بشكل كبير، فسمح بزيادة سريعة في العرض (التدفق) الجديد لتلك المصنوعات، مما يعني أن أشكال النقد التي كانت تعتمد على صعوبة الإنتاج لحماية النسبة المرتفعة من مخزونها إلى تدفقها قد خسرت تلك الميزة. فباستخدام الوقود الهيدروكربوني الحديث، أصبح بالإمكان استخراج حجارة الراي بسهولة، وصُنع الخرز الزجاجي بثمن زهيد، وجَمْع الأصداف بكميات ضخمة باستخدام قوارب كبيرة. وما إن فقدت تلك الأموال صعوبتها، عانى مالكوها من مُصادرة كبيرة لثرواتهم، وانهار نسيج مجتمعهم بأكمله نتيجةً لذلك. فلقد فهم رؤساء جزيرة «ياب» الذين رفضوا حجارة «الراي» الرخيصة التي قدَّمها «أوكييفي» ما فشل معظم الاقتصاديين المعاصرين فهمه؛ فالنقد الذي يسهُل إنتاجه ليس نقدًا على الإطلاق، والنقد السهل لا يزيد من ثراء المجتمع، بل على العكس، يجعله أكثر فقرًا من خلال عرض كل ثروته التي اكتُسبت بعناء للبيع لقاء شيء يسهُل إنتاجه.