المعادن النقدية
بعد أن تطوَّرت القدرة التقنيَّة البشريَّة في إنتاج السلع، وتزايَدَ استخدامنا للمعادن والسلع الأساسية، أصبحت العديد من المعادن تُنتَج بكميات كبيرة. وكان الطلب عليها مرتفعًا بما يكفي لتصبح هذه المعادن قابلةً للبيع بشكل كبير، وملائمةً للاستخدام كوسائط نقدية. كما أن كثافة تلك المعادن وقيمتها المرتفعة نسبيًّا جعلت من عملية نقلها أمرًا سهلًا، أسهل من نقل الملح والماشية؛ ممَّا جعلها قابلةً للبيع بشكل كبير عبر الأماكن. لكن إنتاج هذه المعادن لم يكن سهلًا في البداية، الأمر الذي جعل من عملية زيادة عرضها بشكل سريع أمرًا صعبًا، ممَّا منحها قابلية بيع جيدة عبر الزمن.
وقد كان لبعض المعادن قيمة أكثر من غيرها وذلك بسبب متانتها وخصائصها الفيزيائية بالإضافة إلى وفرتها النسبية في الأرض. فكان بالإمكان إنتاج النحاس والحديد بكميات متزايدة بسبب وفرتهما المرتفعة نسبيًّا، وبسبب قابليتهما للتآكل، والإنتاج الجديد منهما سيحجِّم المخزونات الحالية مُدمِّرًا القيمة فيها. ولقد أصبح لهذه المعادن قيمة سوقية منخفضة نسبيًّا، وكان يتم استخدامها في التبادلات الصغيرة. من ناحية أخرى، فالمعادن الأكثر ندرةً مثل الفضة والذهب، كانت أكثر متانةً وأقل عُرضةً للتآكل أو التلف، ممَّا جعلها قابلةً للبيع عبر الزمن بشكل أكبر، وجعلها نافعةً كمخزنٍ للقيمة للمستقبل. وصِفَة عدم قابلية الذهب للتلف على وجه الخصوص، مكَّنت البشر من تخزين القيمة عبر الأجيال، الأمر الذي سمح لنا بتطوير بصيرة ذات أفق زمني أطول.
وبحلول القرن التاسع عشر، ومع تطور النظام المصرفي الحديث، وحدوث التطويرات في طرق الاتصال، تمَكَّن الأفراد من إجراء الصفقات والأعمال التجارية بالأوراق النقدية والشيكات المدعومة بالذهب الموجود في خزائن مصارفهم، وبالبنوك المركزية؛ هذا الأمر جعل التحويلات المدعومة بالذهب أمرًا قابلًا للتحقيق بكل المقاييس، وبالتالي تفادى الحاجة إلى الدور النقدي للفضة، وجَمَع كل خصائص النقد الأساسية القابلة للبيع في المعيار الذهبي. وبذلك، سمح المعيار الذهبي بجمع رأس المال، وسمح بتجارة عالمية غير مسبوقة من خلال توحيد غالبية اقتصاد الكوكب على خيار نقد سوقي واحد سليم، لكن عيبه المأساوي هو أنه ومن خلال عملية تركيز الذهب في خزائن المصارف والبنوك المركزية لاحقًا، أصبح من الممكن للمصارف والحكومات زيادة العرض النقدي بكمية أكبر من كمية الذهب الذي تمتلكه، مُقلِّلةً بذلك من قيمة النقد، وناقلةً جزءًا من قيمته من مالكي النقد الشرعيين إلى الحكومات والمصارف.
(١) لمَ الذهب؟
لفهم كيفية ظهور النقود السلعية، سنعود بمزيد من التفاصيل عن فخ النقد السهل الذي طرحناه في الفصل الأول، ثم سنبدأ بالتفريق بين طلب السوق على السلعة (طلب استهلاك أو امتلاك السلعة لذاتِها) والطلب النقدي عليها (الطلب على السلعة كوسيط للتبادل وكمخزن للقيمة). ففي أي وقت يختار فيه أي شخص سلعةً ما كمخزن للقيمة، فإنه يقوم بزيادةٍ فعَّالة للطلب عليها بشكل يفوق طلب السوق العادي عليها، ممَّا يؤدي إلى ارتفاع سعرها. فعلى سبيل المثال، الطلب على النحاس في السوق لمختَلِف استخداماته الصناعية يبلغ حوالي ٢٠ مليون طن في السنة، بسعر يبلغ نحو ٥ آلاف دولار للطن، وقيمة سوقية إجمالية تبلغ حوالي ١٠٠ مليار دولار. تخيَّل مثلًا أن مليارديرًا قرر تخزين ١٠ مليارات دولار من ثروته بالنحاس. فعندما يحاول مصرفيوه شراء ١٠٪ من إنتاج النحاس العالمي السنوي، فإنهم سيتسبَّبون حتمًا بارتفاعٍ في سعر النحاس. قد يبدو هذا في البداية كتبرير لاستراتيجية الملياردير النقدية؛ حيث ارتفعت قيمة الأصل الذي قرر شراءه قبل أن تكتمل عملية الشراء. والملياردير حتمًا سيعتقد أنَّ ارتفاع السعر هذا سيتسبب في زيادة عدد الأفراد الراغبين في شراء النحاس كمخزن للقيمة، الأمر الذي سيتسبب بارتفاع السعر.
لكن حتى وإذا انضم إليه المزيد من الناس لتحويل النحاس إلى نقد، فإن الملياردير الافتراضي المهووس بالنحاس سيكون في ورطة؛ لأن ارتفاع الأسعار سيجعل من النحاس عملًا مربحًا للعمال ورءوس الأموال حول العالم. فكمية النحاس الموجودة تحت الأرض تتجاوز قدرتنا على قياسها، ناهيك عن استخراجها من خلال عملية استخراج المعادن. لذلك ومن الناحية العملية، إن الأمر الوحيد الذي يحدُّ من كمية النحاس المنتَج هو عدد الأيدي العاملة وحجم رأس المال اللذان يتم تخصيصهما لهذا العمل. فيمكن دومًا تصنيع المزيد من النحاس بسعر أعلى، وسيستمر معه ارتفاع الأسعار والكميات حتى يُلبي طلب المستثمرين النقديين. لنفترض أن هذا الأمر حدث بإضافة ١٠ ملايين طن و١٠٠٠٠ دولار للطن. ففي نقطة ما، يجب أن تقلَّ حدة هذا الطلب النقدي، وسيرغب بعض مالكي النحاس ببيع بعض مخزونهم لشراء سلع أخرى للاستفادة من أرباح سعر النحاس المرتفع؛ لأن هذا هو الهدف من شراء النحاس بالأساس.
فبعد انخفاض الطلب النقدي ومع ثبات جميع العوامل الأخرى، سيعود سوق النحاس إلى ظروف العرض والطلب الأصلية؛ أي إلى ٢٠ مليون طن سنويًّا بسعر ٥٠٠٠ دولار لكل طن، ولكن عندما يبدأ المالكون ببيع مخزونهم المتراكم من النحاس، سينخفض السعر كثيرًا دون هذا المستوى. فالملياردير سيخسر المال في هذه العملية؛ حيث إنه وعند قيامه برفع السعر، فهو قام بشراء معظم مخزونه بأكثر من ٥٠٠٠ دولار للطن، ولكن يُقدَّر إجمالي رصيده الآن بأقل من ٥٠٠٠ دولار للطن. أما الآخرون الذين انضموا إليه لاحقًا، فقد اشترَوا بأسعار أعلى وسيخسرون أموالًا أكثر من الملياردير نفسه.
يُمكن تطبيق هذا النموذج على جميع السلع الاستهلاكية؛ مثل النحاس، أو الزنك، أو النيكل، أو النفط، والتي يتم بشكل أساسي استهلاكها وتدميرها وليس تخزينها وجمعها. فحجم المخزون العالمي لتلك السلع في أي وقت يُقارب حجم الإنتاج السنوي الجديد، ويتم توليد عرض جديد بشكل مستمر كي يتم استهلاكه، وفي حال قرر المدخِّرون تخزين ثروتهم بواحدة من هذه السلع، فلن تشتري ثروتُهم إلا جزءًا بسيطًا من العرض العالمي قبل رفع السعر بما يكفي لامتصاص كل استثمارهم، حيث إنهم يتنافسون مع مستهلكي هذه السلعة الذين يستخدمونها بطريقة فعالة في الصناعة. وعند ازدياد عوائد منتجي السلعة، فإنه يمكنهم الاستثمار في زيادة إنتاجهم، ممَّا سيؤدي إلى تحطُّم الأسعار مرةً أخرى، وسلب ثروة المدخرين. والنتيجة النهائية لهذه الحادثة بأكملها هي نقل الثروة من المدَّخرين المُضلَّلين إلى منتجي السلعة التي اشترَوها.
فهذا هو الهيكل التشريحي لفقاعة السوق؛ الطلب المتزايد يؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار، ممَّا يؤدي إلى زيادة إضافية على الطلب، الأمر الذي يرفع الأسعار أكثر مُحفِّزًا على زيادة الإنتاج وزيادة العرض، ممَّا سيؤدي حتمًا إلى انخفاض الأسعار لاحقًا معاقبًا كل من قام بالشراء بسعر أعلى من سعر السوق المعتاد. وبهذا، يتم سرقة المستثمرين في الفقاعة، بينما يستفيد منتجو هذا الأصل. فلقد ثبتت صحة هذه الديناميكية في معظم التاريخ الموثَّق بالنسبة للنحاس وكافة السلع الأخرى في العالم، معاقبةً وبشكل مستمر أولئك الذين يختارون هذه السلع كنقد، وذلك من خلال تخفيض قيمة ثروتهم وإفقارهم على المدى الطويل، ومن خلال إعادة السلعة إلى دورها الطبيعي كسلعة سوقية، وليس كوسيط للتبادل.
ولكي يُثبت أي مخزن للقيمة جدارته، يجب عليه أن يتغلب على هذا الفخ؛ يجب أن ترتفع قيمته عندما يطلبه الناس كمخزن للقيمة، لكن يجب أن يتم منع منتجيه من تضخيم عرضه بشكل كبير لدرجةٍ قد تؤدي لتخفيض سعره. إن أصلًا كهذا سيُكافئ أولئك الذين يختارونه كمخزن للقيمة، فتزيد ثروتهم على المدى الطويل عندما يُصبح هذا الأصل المخزن الرئيسي للقيمة، بينما أولئك الذين يختارون سلعًا أخرى فعليهم أن يُبدِّلوا مسارهم بتقليد خيار نظرائهم الأكثر نجاحًا، أو أنهم ببساطة سيفقدون ثروتهم.
والرابح الجليُّ في هذا السباق على مرِّ تاريخ البشرية هو الذهب، والذي حافظ على دوره النقدي بامتيازه على بقية السلع الأخرى بخاصيتَين فيزيائيتَين فريدتَين؛ أولًا: الذهب مستقر كيميائيًّا إلى درجةٍ يكاد يستحيل تدميره. ثانيًا: يستحيل تصنيعه من مواد أخرى (رغم ادعاءات الكيميائيين) حيث إنه لا يمكن استخراجه إلا من مادته الخام غير المكرَّرة، وهي نادرة جدًّا في كوكبنا.
لكي تفهم الفرق بين الذهب وأي سلعة استهلاكية، تخيَّل تأثير زيادةٍ كبيرة في الطلب عليها كمخزن للقيمة، بحيث يؤدي إلى ارتفاع كبيرٍ في السعر ويُضاعف الإنتاج السنوي. فمضاعفة الإنتاج هذا بالنسبة إلى أي سلعة استهلاكية سيُحجِّم أي مخزون حالي، وسَيتسبَّب بحدوث تحطُّمٍ في الأسعار، وسيُلحق الضرر بالمالكين. أما فيما يخص الذهب، فلن يكون ارتفاع الأسعار الذي يؤدي إلى مضاعفة الإنتاج السنوي ذا أهمية، حيث إنه يزيد المخزون بنسبة ٣٪ بدلًا من ١٫٥٪. وإذا تم الحفاظ على وتيرة الإنتاج المتزايدة الجديدة، فستنمو المخزونات بسرعة أكبر، ممَّا سيُقلِّل من أهمية الزيادات الجديدة. وسيستحيل فعليًّا على عُمال المناجم أن يستخرجوا الذهب بكميات كبيرة لدرجة تكفي لخفض السعر بشكل كبير.
تقتصر الفضة بالاقتراب من الذهب في هذا الشأن، حيث يبلغ معدل نمو عرضها السنوي تاريخيًّا حوالي ٥–١٠٪، وارتفع إلى ٢٠٪ في العصر الحديث. ويُعد ذلك أعلى من معدل نمو الذهب لسببَين؛ أولًا: إن الفضة تتآكل كما يمكن استهلاكها في العمليات الصناعية، ممَّا يعني أن المخزونات الحالية للفضة ليست كبيرةً مقارنة بالإنتاج السنوي كما هي مخزونات الذهب مقارنةً بإنتاجه السنوي. ثانيًا: إن الفضة أقل ندرة من الذهب في قشرة الأرض، وعملية صقلها سهلة. وبسبب امتلاكها لثاني أعلى نسبة مخزون إلى تدفق، ولأن قيمتها أقل من الذهب لكل وحدة وزن، فقد تم استخدام الفضة كنقد رئيسي للتحويلات الصغيرة لآلاف السنين؛ وبهذا كَمَّلت الذهبَ الذي وبسبب قيمته المرتفعة، أصبحت عملية تقسيمه إلى وحدات أصغر أمرًا ليس عمليًّا. فتبَنِّي واعتماد المعيار الذهبي العالمي أتاح الدفع باستخدام الأوراق المدعومة بالذهب في كل المقاييس، ممَّا أزال الدور النقدي للفضة كما سيتم نقاشه بمزيد من التفصيل لاحقًا هذا الفصل. ففقدت الفضة دورها النقدي مع الاستغناء عنها للتحويلات والمبادلات الصغيرة، وأصبحت معدنًا صناعيًّا، وخسرت قيمتها مقارنةً بالذهب. وقد تُحافظ الفضة على تصنيفها في المركز الثاني، ولكن بعدما أصبح الدفع ممكنًا دون الحاجة إلى نقل الوحدة النقدية نفسها بفضل تكنولوجيا القرن التاسع عشر، أصبح المركز الثاني في المنافسة النقدية مِثْل الخسارة.
فمعدل عرض الذهب المنخفض على الدوام هو السبب الجوهري لحفاظه على دوره النقدي على مرِّ تاريخ البشرية، وهو دَور مستمر حتى يومنا هذا؛ حيث لم تزل البنوك المركزية تحتفظ بعرض كبير من الذهب كي تحمي عملاتها الورقية. وتبلغ احتياطات البنك المركزي الرسمية حوالي ٣٣٠٠٠ طن، أو سُدس إجمالي الذهب الموجود فوق الأرض. فنسبة المخزون إلى التدفقات المرتفعة للذهب تجعله السلعة ذات أقل سعر بالنسبة لمرونة العرض، والتي تُعرَّف بأنها الزيادة بالنسبة المئوية للكمية المعروضة مقسومة على الزيادة بالنسبة المئوية للسعر. ونظرًا إلى أن العرض الحالي من الذهب المملوك من قِبَل الناس في كل مكان هو نِتاجٌ لآلاف السنين من الإنتاج، فإن زيادة مقدارها س٪ في سعره قد تُسبِّب زيادةً في إنتاج استخراج الذهب الجديد، ولكن هذه الزيادة ستكون متدنيةً إذا ما قُورنت بالمخزونات الحالية. فعلى سبيل المثال، شهد عام ٢٠٠٦م زيادةً بنسبة ٣٦٪ في سعر الذهب. بالنسبة إلى أي سلعة أخرى، من المتوقَّع أن يزيد هذا من ناتج استخراج المعادن بمعدل كبير لِغَمر الأسواق وخفض السعر. بدلًا من ذلك، بلغ الإنتاج السنوي في عام ٢٠٠٦م، ٢٫٣٧٠ طن؛ أي أقل بمقدار ١٠٠ طن من إنتاج عام ٢٠٠٥م، وانخفض بمقدار ١٠ أطنان أخرى في ٢٠٠٧م. ففي حين كان العرض الجديد يساوي ١٫٦٧٪ من المخزونات الموجودة في عام ٢٠٠٥م، إلا أنه كان ١٫٥٨٪ من المخزونات الموجودة في عام ٢٠٠٦م، و١٫٥٤٪ من المخزونات الموجودة في عام ٢٠٠٧م. فحتى لو ارتفع السعر بنسبة ٣٥٪، فإن ذلك لن يؤدي إلى زيادة ملحوظة في عرض الذهب الجديد في السوق. فوفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، كانت أكبر زيادة سنوية في الإنتاج حوالي ١٥٪ في عام ١٩٢٣م، والتي تُرجمت إلى زيادة بنسبة ١٫٥٪ فقط في المخزونات. فحتى لو تضاعف الإنتاج، فإن الزيادة المحتملة في المخزونات لن تكون إلا حوالي ٣–٤٪. أما الزيادة السنوية الأكثر في المخزونات العالمية فقد حدثت عام ١٩٤٠م، عندما ارتفعت المخزونات بنحو ٢٫٦٪. ولم يتجاوز النمو السنوي للمخزون هذا الرقم بعد ذلك، ولم يتجاوز نسبة ٢٪ منذ عام ١٩٤٢م.
وعندما ازداد إنتاج المعادن بشكل ملحوظ، بدأت الحضارات القديمة في الصين والهند ومصر باستخدام النحاس كنقد ومن ثَم الفضة، حيث إنه كان من الصعب نسبيًّا تصنيع هذَين المعدنَين في ذلك الوقت، الأمر الذي أعطاهما قابليةً جيدة للبيع عبر الزمان والمكان. وكان للذهب مكانة بارزة في هذه الحضارات، لكن نُدرته اقتضت في محدودية قابليته للبيع في المبادلات. وقد تم صك الذهب إلى قطع معدنية لأول مرة لغرض التجارة في اليونان، مَهْد الحضارات الحديثة، تحت حكم الملك «كرويسوس»، ونَشَّط هذا الأمر التجارة العالمية؛ حيث أدت جاذبيةُ الذهب العالمية إلى انتشار العملة على مدى واسع. ومنذ ذلك الحين، تشابكت منعطفات التاريخ البشري بشكل وثيق مع سلامة النقد، فازدهرت الحضارات الإنسانية في الأزمان والأماكن التي تم فيها تَبَنِّي النقد السليم على نطاق واسع، في حين تزامن النقد غير السليم في كثير من الأحيان مع التدهور الحضاري والانهيار المجتمعي.
(٢) العصر الذهبي الروماني وانحداره
كان «الديناريوس» العملة المعدنية الفضية المتداولة في عهد الجمهورية الرومانية، واحتوى على ٣٫٩ جرام من الفضة، بينما كان الذهب النقد الأكثر قيمةً في المناطق المتحضرة في العالم في ذلك الوقت، وكانت العملات الذهبية تزداد انتشارًا. وأسَّس الدكتاتور الأخير للجمهورية الرومانية «يوليوس قيصر»، العملة المعدنية «أوريوس»، والتي كانت تحتوي على حوالي ٨ جرامات من الذهب، وتم قَبولها على نطاق واسع في أوروبا والبحر المتوسط؛ ممَّا زاد من نطاق التجارة والتخصص في العالم القديم. وساد الاستقرار الاقتصادي لمدة ٧٥ عامًا، حتى في فترة الاضطرابات السياسية لاغتياله، والتي شهدت تحول الجمهورية إلى إمبراطورية تحت ظل وريثه «أُغسطس» الذي اختاره بنفسه. استمر هذا الأمر حتى عهد الإمبراطور صاحب السمعة السيئة «نيرون»، الذي كان أول من انخرط في العادة الرومانية ﺑ «تقسيم وقص العملة»؛ حيث كان الإمبراطور يجمع عملات السكان ويصك منها عملات جديدة ولكن بمحتوًى أقل من الفضة أو الذهب.
استمتع جنود وأباطرة «روما» بإنفاق غنائمهم طوال الفترة التي كانوا فيها قادرين على غزو أراضٍ جديدة كثيرة الثروات، حتى إن أباطرتها قد قرروا شراء شعبية لأنفسهم بفرض أسعار منخفضة صُنعيًّا (زائفة) للحبوب وغيرها من السلع الأساسية، بل وتجاوزوا بمنحها بالمجان في بعض الأحيان. فعوضًا عن العمل لكسب لُقمة العيش في الريف، ترك العديد من الفلاحين مزارعهم للانتقال إلى «روما»، حيث كان بإمكانهم عيش حياة أفضل وبالمجان. ومع مرور الوقت، لم يعد في العالم القديم أية أراضٍ مزدهرة لكي يتم غزوها، ونمط الحياة المتزايد ترفًا وبَذَخًا جنبًا إلى جنب مع الجيش المتنامي، احتاج مصدرًا جديدًا للتمويل، كما ازداد مع ذلك أيضًا عدد المواطنين غير المنتجين الذين يعيشون على كرم الإمبراطور وعلى عملية ضبط الأسعار. «نيرون»، الذي حكم بين عامَي ٥٤ و٦٨، وجد صيغةً لحل هذا، صيغةً شابهت إلى حد كبير حل «كينز» لمشاكل بريطانيا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى؛ فعملية تخفيض قيمة العملة ستؤدي مباشرةً إلى تخفيض الأجور الحقيقية للعُمال، وستقلِّل من عبء الحكومة في دعم السلع الأساسية، وستوفِّر المزيد من الأموال لتمويل النفقات الحكومية الأخرى.
وفي عهد «كركلَّا» (٢١١–٢١٧)، تم تخفيض محتوى الذهب بشكل أكبر ليصل إلى ٦٫٥ جرام، وخُفِّض أكثر في عهد «ديوكلتانيوس» (٢٨٤–٣٠٥) إلى ٥٫٥ جرام، قبل أن يُقدِّم «ديوكلتانيوس» عملةً بديلة تسمى «صوليدوس»، والتي احتوت على ٤٫٥ جرام من الذهب فقط، ففي عصر «ديوكلتيانوس»، احتوى الديناريوس على آثار من الفضة لتغطية قلبه البرونزي، وكانت الفضة سريعة الاختفاء بسبب الاندثار والاحتكاك بالاستعمال العادي، ممَّا أنهى الديناريوس كعملة فضية. ومع تزايد حدة التضخم في القرنَين الثالث والرابع، جاءت معه محاولات الأباطرة المضلِّلة لإخفاء هذا التضخم؛ وذلك بوضع ضوابط لأسعار السلع الأساسية. وعندما سعت قوى السوق إلى رفع الأسعار استجابةً لانخفاض قيمة العملة، تكفَّل سقف الأسعار القائم بمنع تعديل هذه الأسعار، مما جعل الأمر غير مربح للمنتجين للمشاركة في عملية الإنتاج، فتوقف الإنتاج الاقتصادي إلى أن صدر مرسوم جديد يسمح بحرية رفع الأسعار.
ومع هذا الانهيار في قيمة نقدها، أدت العملية الطويلة لانحدار الإمبراطورية إلى دورة قد تبدو مألوفةً للقُرَّاء المعاصرين؛ فعملية «تقسيم وقص العملة» خَفَّضت من قيمة الأوريوس الحقيقية، وزادت العرض النقدي، سامحةً للإمبراطور بمتابعة فَرْط الإنفاق الطائش، ولكنها في النهاية أدت إلى التضخم والأزمات الاقتصادية، والتي حاول الأباطرة المضلِّلون تحسينها من خلال المزيد من تقسيم وقص العملة المعدنية. ويلخِّص «فرديناند ليبس» هذه العملية بدرس للقراء المعاصرين:
يجب على الاقتصاديين «الكينزيين» المعاصرين، وكذلك على الجيل الحالي من المستثمرين، فهم أنه على الرغم من محاولة الأباطرة الرومانيين المسعورة ﻟ «إدارة» اقتصادهم، إلا أنهم نجحوا فقط بجعل الأمور أكثر سوءًا؛ فلقد تم سن القوانين لضبط الأسعار وضبط الأجور ولاعتماد العملة الرسمية، لكن الأمر كان أشبه بمحاولة كبح جماح المد والجزر. فعمَّ الشغب، والفساد، وغياب القانون، والهوس الطائش بالمضاربة والقمار كالطاعون في الإمبراطورية. وفي ظل وجود نقد غير موثوق ومنخفض القيمة بشكل كبير، أصبحت المضاربة بالسلع الأساسية أشد إغراءً من إنتاجها.
(٣) بيزنطة والعملة البيزنطية (البيزنت)
ارتبط اسم الإمبراطور ديوكلتانيوس ارتباطًا أبديًّا بالاحتيال المالي والنقدي، وتحت حكمه وصلت الإمبراطورية إلى الحضيض. ولكن بعد عام من تنحيه، تولَّى «قسطنطين» العظيم زمام الإمبراطورية، وعَكَس مسارها باعتماد سياسات وإصلاحات مسئولة اقتصاديًّا. ﻓ «قسطنطين»، الذي كان أول إمبراطور مسيحي، التزم بالحفاظ على عملة الصوليدوس بوزن ٤٫٥ جرام من الذهب دون اقتصاص أو غش، وبدأ بصك العملة بكميات كبيرة في عام ٣١٢. انتقل شرقًا وأسَّس «القسطنطينية» في نقطة التقاء آسيا وأوروبا، لترى الإمبراطورية الرومانية الشرقية النور، والتي اعتمدت الصوليدوس كعملة لها. وفي حين واصلت روما تدهورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي حتى انهيارها في نهاية المطاف عام ٤٧٦، نجت العملة البيزنطية لمدة ١١٢٣ عامًا، بينما أصبح الصوليدوس أكثر عملة سليمة دام استخدامها في التاريخ البشري.
وحتى بعد انخفاض قيمته وانهيار إمبراطوريته، نجا «البيزنت» وأوحى بأشكال أخرى من النقد السليم لا تزال مُستخدمةً على نطاق واسع حتى يومنا هذا، على الرغم من أنه لم يعد العملة الرسمية لأية دولة، وكان هذا الشكل هو الدينار الإسلامي. فمع ازدهار الإسلام خلال العصر الذهبي لبيزنطة، انتشر «البيزنت» والقطع المعدنية النقدية المشابهة له في الوزن والحجم في المناطق التي انتشر فيها الإسلام. وحدد الخليفة الأُموي عبد الملك بن مروان وزن وقيمة الدينار الإسلامي، وطَبع عليه الشهادة الإسلامية عام ٦٩٧م. وعلى الرغم من سقوط الأسرة الأُموية الحاكمة، وسقوط عدة ولايات إسلامية أخرى بعدها، إلا أن الدينار بقي مُتداوَلًا ومنتشرًا على نطاق واسع في المناطق الإسلامية بوزن وحجم «البيزنت» الأصليين، وهو يُستخدم حتى يومنا هذا كمهر للزواج، وللهدايا، وبالمناسبات الدينية والتقليدية. لكن على عكس الرومان والبيزنطيين، لم يكن انهيار الحضارات العربية والإسلامية مرتبطًا بانهيار عملتهم؛ حيث إنهم حافظوا على سلامة عملاتهم لقرون؛ فالصوليدوس — وهو العملة التي صَكَّها ديوكلتانيوس أول مرة عام ٣٠١م — تم تغيير اسمها إلى البيزنت والدينار الإسلامي، ولكنَّ تداوُلها مستمر إلى يومنا هذا. واستخدم الناس هذه العملة للتداولات في جميع أنحاء العالم لمدة سبعة عشر قرنًا، مُعزِّزةً بذلك قابلية بيع الذهب عبر الزمن.
(٤) عصر النهضة
بعد الانهيار الاقتصادي والعسكري للإمبراطورية الرومانية، ظهرت الإقطاعية كأسلوب رئيسي لتنظيم المجتمع، فدمار النقد السليم كان أمرًا محوريًّا في تحويل مواطني الإمبراطورية الرومانية إلى عبيد للأرض يعملون تحت رحمة أسيادهم المحليين الإقطاعيين. فلقد كان الذهب مُركَّزًا بين أيادي الأسياد الإقطاعيين، وكانت القطع النقدية النحاسية والبرونزية هما الشكلَين الرئيسَين من النقد المُتاحَين للفلاحين في أوروبا في ذلك الوقت، وكان تضخيم عرضهما أمرًا سهلًا بحيث أصبح إنتاج هذه المعادن أكثر سهولةً مع تقدُّم علم وصناعة المعادن، ممَّا جعلها مخزنًا سيئًا للقيمة. يُضاف إلى ذلك أن العملات الفضية كان عادةً يتم تخفيض قيمتها ويتم غشها، كما أنها لم تكن وحدةً معيارية في جميع أنحاء القارة، ممَّا منحها قابلية بيع ضعيفة عبر الأماكن، وحدَّ من نطاق التجارة عبر القارة.
فلقد دمَّر التضخم والضرائب ثروات ومدخرات شعوب أوروبا، فنشأت أجيال جديدة من الأوروبيين دون ثروة متراكمة موروثة من أجدادهم. كما أن غياب وجود عملة معيارية نقدية سليمة مقبولة على نطاق واسع حدَّ وبشكل كبير من نطاق التجارة، وأغلق المجتمعات عن بعضها البعض، وعزز النزعات المحلية للمجتمعات التي كانت بالسابق مجتمعات تجاريةً وحضارية مزدهرة، لتسقط هذه المجتمعات إلى عصور مظلمة من العبودية، والأمراض، والانغلاق الفكري والاضطهاد الديني.
وقد قام ظهور ما يُعرف باسم «مدن الدول» بنقل أوروبا من العصور المظلمة إلى عصر النهضة، وهذا أمر معترَف به على نطاق واسع، لكن دور النقد السليم في هذه النهضة لا يَحظَى بما يكفي من الاعتراف والتقدير. فقد كان بوسع البشر في مدن الدول العيش بحرية من أجل العمل، والإنتاج، والتجارة والازدهار، وكان هذا نتيجةً لتبني هذه المدن معيارًا نقديًّا سليمًا إلى حد كبير. وقد بدأ الأمر كله في «فلورنسا» عام ١٢٥٢م، عندما صَكَّت المدينة عملة «الفلورين»، وهي أول عملة أوروبية سليمة مهمة تم صَكُّها منذ عملة «يوليوس قيصر» الذهبية. فنهضة فلورنسا جعلت منها مركز أوروبا التجاري؛ حيث أصبحت عملتها «الفلورين» الوسيط الأوروبي الرئيسي للتبادل، ممَّا سمح لمصارفها بالازدهار على امتداد القارة بأكملها. وكانت «فينيسيا» أول من حذا حذو «فلورنسا» في صك عملة «الدوكات» بنفس مواصفات «الفلورين» في عام ١٢٧٠م. وبحلول نهاية القرن الرابع عشر، شرعت أكثر من ١٥٠ مدينةً ودولة أوروبية بصك عملات معدنية بنفس مواصفات «الفلورين»، ممَّا أعطى لمواطنيها الكرامة وحرية جمع الثروة والمتاجرة باستخدام نقد سليم ذي قابلية بيع مرتفعة عبر الزمن والأماكن، حيث كان يمكن تقسيمها إلى عملات معدنية صغيرة، ممَّا سَهَّل قابلية التجزئة الخاصة بها. ومع التحرر الاقتصادي للفلاحين الأوروبيين، ظهر الازدهار السياسي، والعلمي، والفكري، والثقافي للمدن الإيطالية المستقلة، والذي انتشر فيما بعد إلى جميع أنحاء القارة الأوروبية. فسواء أكان في روما، أو القسطنطينية، أو فلورنسا أو البندقية، يُظهر التاريخ أن معيار النقد السليم هو شرط ضروري لازدهار الإنسان؛ لأنه ومن دونه سيقف المجتمع على حافة الهمجية والدمار.
وعلى الرغم من أن الفترة التي تلت ظهور «الفلورين» شهدت تحسنًا في سلامة النقد من حيث تزايد أعداد الأوروبيين القادرين على تبني الذهب والفضة للادخار والتجارة، وتوسع مدى الأسواق إلى جميع أنحاء أوروبا والعالم، إلا أن الوضع لم يكن مثاليًّا على الإطلاق؛ فقد كان هناك العديد من الفترات التي قام فيها بعض الملوك بخفض قيمة عملة شعبهم لتمويل الحروب أو للإنفاق بشكل مُبذِّر. وبحكم أنهما استُخدما بشكلهما المادي، كمَّل الذهب والفضة أحدهما الآخر؛ فنسبة المخزون إلى التدفق المرتفعة للذهب جعلته مثاليًّا كمخزن للقيمة طويل الأمد، وجعلته وسيلةً للدفعات الكبيرة، ولكن القيمة المنخفضة للفضة لكل وحدة وزن، سهَّلت تقسيمها إلى كميات ملائمة للتبادلات الصغيرة وللامتلاك لفترات أقصر. ورغم فوائد هذا الترتيب، إلا أنه يحوي عيبًا جسيمًا؛ فتقلُّب سعر الصرف بين الذهب والفضة أدى إلى مشاكل في التجارة والحسابات، وآلت محاولات تثبيت سعر العملتَين فيما بينهما بالفشل، ولكن انتصرت أفضلية الذهب النقدية بنهاية المطاف.
فعندما كان الملوك يحدِّدون سعر الصرف بين سلعتَين، فإنهم كانوا يُغيِّرون حوافز المالكين لاقتناء أو إنفاق هاتَين السلعتَين. ولقد استمر هذا النظام غير المناسب لتثبيت السعر لعدة قرون في أوروبا والعالم. ولكن كما هو الحال مع الانتقال من الملح، والماشية والأصداف إلى المعادن، أمَّن التقدم التكنولوجي الحثيث حلًّا لهذا الأمر.
فهناك تقدمان تكنولوجيان محدَّدان قاما بنقل أوروبا والعالم بعيدًا عن العملات المعدنية المادية، وبالتالي ساعدا على إنهاء الدور النقدي للفضة؛ وهما التلغراف، والذي نُشر تجاريًّا لأول مرة عام ١٨٣٧م، وشبكة القطارات المتزايدة، والتي سَمحت بالتنقل عبر أوروبا. فبِفضل هذَين الابتكارَين، أصبح بإمكان المصارف التواصل مع بعضها أكثر وبشكل أسهل من ذي قبل، وذلك بإرسال الدفعات بفاعلية عبر الأماكن عند الحاجة، وتقييد الحسابات بدلًا من إرسال مدفوعات مادية. فأدى هذا الأمر إلى زيادة استخدام الفواتير، والشيكات والإيصالات الورقية كوسائط نقدية بدلًا من العملات المادية الذهبية والفضية.
وبدأت دول أخرى بالانتقال إلى معيار نقدي من أوراق مدعومة بالكامل بمعادن ثمينة محفوظة في الخزائن، وكانت هذه الأوراق قابلةً للاستبدال والتحويل وبشكل فوري. فاختارت بعض الدول الذهب، واختارت غيرها الفضة، وكان هذا قرارًا مصيريًّا ترتَّبت عليه عواقب وخيمة. فكانت بريطانيا أول من اعتمد معيارًا ذهبيًّا حديثًا في عام ١٧١٧م، وفقًا لتوجيه عالم الفيزياء «إسحاق نيوتن»، الذي كان حامي دار الصك المَلكية، ولعب المعيار الذهبي دورًا كبيرًا في نشر تجارتها عبر إمبراطوريتها حول العالم. وبقيت بريطانيا تحت المعيار الذهبي حتى عام ١٩١٤م، على الرغم من أنها قامت بتعليقه خلال حروب «نابليون» من ١٧٩٧م إلى ١٨٢١م. فالتفوق الاقتصادي لبريطانيا كان مرتبطًا بشكل معقَّد باستخدامها معيارًا نقديًّا متفوِّقًا، وبدأت تتبعها دول أوروبية أخرى. وبشَّرت نهاية الحروب ببداية العصر الذهبي لأوروبا، حيث بدأت الدول الأوروبية الكبرى في تبني المعيار الذهبي واحدةً تلو الأخرى. وكلما تبنَّت دول أكثر المعيار الذهبي رسميًّا، أصبح الذهب الأكثر قابليةً للتداول، وزاد حافز الدول الأخرى للانضمام إليه.
علاوةً على ذلك، وبدلًا من أن يُضطر الأفراد إلى حمل عملات ذهبية وفضية للمعاملات الكبيرة والصغيرة، أصبح بإمكانهم الآن تخزين ثرواتهم بالذهب في المصارف واستخدام إيصالات ورقية، وفواتير وشيكات لتسديد الدفعات المتنوعة. ويمكن لحاملي الإيصالات الورقية استخدامها للدفع ولكن بأنفسهم فقط؛ حيث خَصَمت المصارفُ الفواتيرَ واستخدمتها لتصفية الحسابات، وأصبح بالإمكان أيضًا صرف الشيكات من المصارف التي أصدرتها. إن هذا الأمر قام بحل مشكلة قابلية بيع الذهب في مختلِف المقاييس، ممَّا جعل الذهب أفضل وسيط نقدي — هذا في حال لم تزِد المصارف التي تُخزِّن ذهب الناس من عرض الأوراق التي أصدرتها كإيصالات.
ومع تغطية هذه الوسائط بالذهب المادي الموجود في الخزائن، والسماح بالمدفوعات بمختلِف أحجامها، لم تَعد هناك حاجة حقيقية لدور الفضة في الدفعات الصغيرة. فتُعتبر نهاية الحرب الفرنسية البروسية ناقوسَ فناء الدور النقدي للفضة، وذلك عندما انتزعت ألمانيا من فرنسا تعويضًا من الذهب بقيمة ٢٠٠ مليون جنيه إسترليني، واستخدمته للانتقال إلى المعيار الذهبي. وبعد انضمام ألمانيا لبريطانيا، اتجهت فرنسا، وهولندا، وسويسرا، وبلجيكا وغيرهم إلى استخدام المعيار الذهبي، فَمَال النظام النقدي اتجاه الذهب بشكل حاسم، مما جعل الأفراد والدول التي تستعمل الفضة حول العالم تشهد خسارةً تصاعدية لقواهم الشرائية، وأعطاهم حافزًا أقوى للانتقال إلى الذهب. وأخيرًا بدأت الهند باستخدام الذهب بدلًا من الفضة عام ١٨٩٨م، في حين كان اقتصاد الصين وهونغ كونغ آخر اقتصادَين في العالم يهجران المعيار الفضي في عام ١٩٣٥م.
ولقد كان لإلغاء الدور النقدي للفضة تأثير سلبي جسيم على الدول التي كانت تستخدمه كمعيار نقدي في ذلك الوقت؛ فشهدت الهند انخفاضًا مستمرًّا في قيمة «الروبية» مقارنةً بالدول الأوروبية التي اعتمدت الذهب، ممَّا دفع بالحكومة الاستعمارية البريطانية إلى زيادة الضرائب لتمويل عملياتها، الأمر الذي أدى إلى تزايد الاضطرابات والاستياء من الاستعمار البريطاني. وعندما انتقلت الهند إلى دعم «الروبية» بالجنيه الإسترليني المدعوم بالذهب في عام ١٨٩٨م، كانت الفضة، والتي هي تدعم «الروبية» الهندية، قد خسرت ٥٦٪ من قيمتها خلال السنوات السبع وعشرين بعد نهاية الحرب الفرنسية البروسية. أما بالنسبة إلى الصين، والتي بقيت على المعيار الفضي حتى عام ١٩٣٥م، فقد خسرت فضتها (بأسماء وأشكال مختلفة) ٧٨٪ من قيمتها خلال تلك الفترة. ويرى المؤلف أن تاريخ الصين والهند، وفشلهما في اللحاق بالغرب خلال القرن العشرين، مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بهذا الدمار الهائل للثروة ورأس المال الناتج عن إلغاء الصفة النقدية للمعدن النقدي الذي استخدمته هاتان الدولتان. بالتالي، إن إلغاء الصفة النقدية للفضة قد وضع الصينيين والهنود في موضع مماثل للأشخاص الذين كانوا يمتلكون الخرز الزجاجي في غرب أفريقيا عندما وصل الأوروبيون؛ فالنقد المحلي الصعب كان نقدًا سهلًا بالنسبة إلى الأجانب، وبالتالي فإن هذا النقد الأجنبي كان يقوم بإقصاء هذا النقد المحلي، ممَّا سمح للأجانب بالتحكم وامتلاك كميات متزايدة من رأس المال والموارد الموجودة في الصين والهند خلال تلك الفترة. ويُعد هذا درسًا تاريخيًّا بالغ الأهمية، ويجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار من قِبل أي شخص يعتقد أن رفضه للبيتكوين يعني أنه غير مضطر لاستخدامه. فيُبيِّن لنا التاريخ أنه ليس بالإمكان عزل نفسك عن عواقب امتلاك الآخرين لنقد أكثر صعوبةً من نقدك.
فلقد اكتسب الذهب قابليةً للبيع عبر الزمن، والمقاييس، والموقع، أثناء تزايد وجوده بين أيدي البنوك المركزية، لكنه فقد ميزته كنقد، ممَّا جعل المدفوعات باستخدامه أمرًا يخضع لموافقة السلطات المالية والسياسية التي تُصدِر الإيصالات، وتُصفِّي الشيكات وتُخزِّن الذهب. فكانت مأساة الذهب متمثلةً في أنه لم يتمكن من حل مشاكل قابلية البيع عبر الزمن والمقاييس والأماكن إلا بأن يكون مركزيًّا، ويصبح بالتالي فريسةً للمشكلة الرئيسية للنقد السليم، والتي أكد عليها اقتصاديو القرن العشرين؛ وهي سيطرة الفرد على النقد ومقاومته للسيطرة المركزية الحكومية. وبالتالي أصبح بوسعنا فهم سبب تركيز اقتصاديي النقد السليم في القرن التاسع عشر أمثال «مينجر» على فهم تأثير سلامة النقد على قابليته للبيع كسلعة سوقية، في حين ركَّز اقتصاديو النقد السليم في القرن العشرين أمثال «ميزس»، و«هايك»، و«روثبارد» و«ساليرنو»، تحليلهم على تأثير سلامة النقد على مقاومته لسيطرة الحكام. وبما أن نقطة ضعف نقد القرن العشرين كانت هي تمركزه في أيدي الحكومات، فسنرى لاحقًا كيف أن النقد الذي تم اختراعه في القرن الواحد والعشرين، وهو البيتكوين، كان مُصمَّمًا بشكل أساسي لتجنب السيطرة المركزية.
(٥) العصر الجميل
إن نهاية الحرب الفرنسية البروسية عام ١٨٧١م، وما ترتَّب على ذلك من تحوُّل جميع القوى الأوروبية الكبرى إلى معيار نقدي واحد — وتحديدًا الذهب — قد أدت إلى خلق فترة من الازدهار والرخاء تزيدنا إذهالًا مع مرور الوقت، وحتى بإعادة النظر إليها. ويمكن الادِّعاء أن القرن التاسع عشر — ولا سيما النصف الثاني منه — كان أعظم فترة شهدها العالم من الازدهار البشري والابتكارات والإنجازات، والدور النقدي للذهب كان محوريًّا فيها؛ فمع تزايد عملية إبطال الصفة النقدية للفضة ولوسائط التبادل الأخرى، استَخدمت غالبية الكوكب المعيار النقدي الذهبي نفسه، ممَّا سمح بتطور الاتصالات والنقل، وشجَّع على جمع رأس مال عالمي وتجارة لم يسبق لها مثيل.
ولقد كانت العملات تختلف عن بعضها باختلاف وزن الذهب المادي لكل منها، وكان سعر الصرف بين عملتَي دولتَين هو التحويل البسيط بين وحدات الوزن المختلفة، أو ببساطة مثل عملية تحويل الإنش إلى سنتيمتر. فحُدِّد الجنيه البريطاني ﺑ ٧٫٣ جرام من الذهب، بينما كان الفرنك الفرنسي ٠٫٢٩ جرام من الذهب، والمارك الألماني ٠٫٣٦ جرام؛ أي إن سعر الصرف بينها كان ثابتًا بالضرورة على ٢٦٫٢٨ فرنكًا فرنسيًّا و٢٤٫٠٢ ماركًا ألمانيًّا لكل جنيه. وبنفس الطريقة التي تُستخدم فيها الوحدات المترية والإمبرالية لقياس الطول الأساسي، فإن العملات الوطنية كانت مجرد طريقة لقياس القيمة الاقتصادية مُمثَّلةً بمخزون القيمة العالمي؛ ألَا وهو الذهب. ولقد كانت العملات المعدنية الذهبية لبعض البلدان قابلةً للبيع إلى حدٍّ ما في بلدان أخرى؛ وذلك لأنها كانت مصنوعةً من الذهب. فلم يكن عرض النقد في كل بلد مقياسًا تُحدِّده لجان تخطيط مركزية تمتلئ بحاملي شهادات الدكتوراه، بل كان هذا العرض يُحدَّد بالعمل الطبيعي لنظام السوق. فاستطاع الناس امتلاك القَدر الذي يشاءون من النقد، وإنفاق القَدر الذي يحلو لهم على المنتجات المحلية أو الأجنبية، ولم يكن العرض النقدي الفعلي قابلًا للقياس بسهولة.
وكان هذا العصر يُعرف باسم العصر الذهبي في الولايات المتحدة، حيث ازدهر النمو الاقتصادي بعد استعادة المعيار الذهبي عام ١٨٧٩م عقب الحرب الأهلية الأمريكية. ويُذكر أن المعيار الذهبي توقف مرةً واحدة فقط في حادثة من الجنون النقدي، والتي عَنَت بشكل فعال احتضار وموت الفضة كعملة نقدية، وكان ذلك عندما حاولت وزارة الخزانة الأمريكية إعادة التعامل بالفضة بتعيينها كنقد، وهذا ما سيُناقش في الفصل السادس. فلقد تسبَّب ذلك الأمر في زيادةٍ كبيرة في العرض النقدي، والذعر المصرفي من قِبل أولئك الذين يسعَون إلى بيع أوراق الخزانة النقدية والفضة لقاء الذهب. وكانت النتيجة ركودًا في عام ١٨٩٣م، والذي استأنف الاقتصاد من بعده نموَّه في الولايات المتحدة.
الأعوام | الفترة تحت معيار الذهب | العملة |
---|---|---|
١٠٠ | ١٨١٤–١٩١٤م | الفرنك الفرنسي |
٩٨ | ١٨١٦–١٩١٤م | الغيلدر الهولندي |
٩٣ | ١٨٢١–١٩١٤م | الجنيه الإسترليني |
٨٦ | ١٨٥٠–١٩٣٦م | الفرنك السويسري |
٨٢ | ١٨٣٢–١٩١٤م | الفرنك البلجيكي |
٥٨ | ١٨٧٣–١٩٣١م | الكرونا السويدية |
٣٩ | ١٨٧٥–١٩١٤م | المارك الألماني |
٣١ | ١٨٨٣–١٩١٤م | الليرة الإيطالية |
إن الفترة التي استَخدم فيها معظم العالم وحدةً نقدية سليمة واحدة، هي فترة لم نشهد مثلها على مر الأزمان من ناحية تراكم رأس المال، والتجارة العالمية، وتقييد الحكومات، وتغيير مستويات المعيشة. فلم تكن الأنظمة الاقتصادية الغربية أكثر حريةً في ذلك الوقت فحسب، بل كانت المجتمعات نفسها أكثر حريةً أيضًا. وكان لدى الحكومات عدد قليل جدًّا من البيروقراطيات، والتي ركَّزت على الإدارة الدقيقة والتفصيلية لحياة المواطنين، وكما وصفها «ميزس»:
كان المعيار الذهبي هو المعيار العالمي لعصر الرأسمالية، والذي أدى إلى زيادة الرفاهية، والحرية والديمقراطية، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية. وفي نظر التُّجار الأحرار، إن السِّمة الأساسية لهذا المعيار، تمثلت بحقيقة كونه معيارًا دوليًّا مطلوبًا للتجارة الدولية وتحويلات الأموال الدولية والأسواق الرأسمالية. ولقد كان هذا المعيار وسيط التبادل الذي استخدمته الثورة الصناعية الغربية ورأس المال الغربي في نقل الحضارة الغربية إلى أقصى بقاع الأرض، لتُدمِّر بذلك في كل مكان قيود وتحيُّزات وخرافات العالم القديم، وتزرع بذور حياة ورفاهية جديدة، وتُحرِّر العقول والأرواح، وتخلق ثروات لم يُعرف عنها من قبل. وقد قام بمرافقة التقدم الناجح غير المسبوق لليبرالية الغربية، وكان جاهزًا لتوحيد جميع الدول في مجتمع من الدول الحرة التي تتعاون فيما بينها سِلميًّا. فأصبح من السهل علينا فهم اعتبار الناس المعيار الذهبي رمزًا لهذا التغيير الأكبر والأعم فائدةً من بين كل التغييرات التاريخية.
ولقد انهار هذا العالم في عام ١٩١٤م الكارثي، والذي لم تندلع فيه الحرب العالمية الأولى فحسب، بل كان هو العام الذي تخلَّت فيه الأنظمة الاقتصادية الكبرى في العالم عن المعيار الذهبي، واستبدلته بنقد حكومي غير سليم. ولم يبقَ سوى سويسرا والسويد من الدول التي بقيت على الحياد خلال الحرب العالمية الأولى على المعيار الذهبي وحتى ثلاثينيات القرن العشرين؛ حيث بدأ عصر النقد الذي تسيطر عليه الحكومة عالميًّا بعد ذلك، صاحبًا معه عواقب وخيمةً وكارثية مطلقة.
وعلى الرغم من اعتباره أقرب ما شهده العالم للنقد المثالي السليم، إلا أن المعيار الذهبي في القرن التاسع عشر كان له عيوب؛ أولًا: كانت الحكومات والمصارف تستحدث دائمًا وسائط للتبادل تتجاوز كميتها مخزون الذهب الاحتياطي الذي لديها. ثانيًا: لم تستخدم العديد من الدول الذهب وحده في احتياطاتها، بل استخدمت أيضًا عملات بلدان أخرى؛ فبريطانيا التي كانت القوة العالمية العظمى آنذاك، استفادت من استخدام نقدها كعملة احتياطية في جميع أنحاء العالم؛ ممَّا جعل احتياطها من الذهب جزءًا صغيرًا من عرضها النقدي المذهل. ومع نمو التجارة الدولية، والتي تعتمد على تسوية كميات كبيرة من النقود عبر أنحاء العالم، كانت الأوراق النقدية لمصرف إنجلترا، ووفقًا لرأي الكثيرين في ذلك الوقت، «بجودة الذهب». وفي حين كان الذهب نقدًا صعبًا للغاية، إلا أن الأدوات المستخدمة لتسوية الدفعات بين البنوك المركزية والتي يمكن تحويلها ظاهريًّا لذهب، انتهى بها الأمر فعليًّا ليصبح إنتاجها أسهل من إنتاج الذهب.
إن وجود هذَين العَيبَين يعني أن المعيار الذهبي كان دائمًا عرضةً لنفاد الذهب في أي بلد قد تدفع ظروفه نسبةً كبيرة من السكان إلى المطالبة باستبدال نقودهم الورقية بالذهب. فالعيب القاتل للمعيار الذهبي في صميم هاتَين المشكلتَين تمثَّل بتسوية الذهب البطيئة، والمكلفة وغير الآمنة، ممَّا يعني أن احتياطي الذهب المادي يجب أن يتم تركيزه في مواقع قليلة — المصارف والبنوك المركزية — ممَّا جعله عرضةً لاستيلاء الحكومات عليه.
وقد بدأ القرن العشرون بوضع الحكومات ذهبَ مواطنيها تحت سلطتها، وذلك باختراع البنك المركزي الحديث المعتمِد على المعيار الذهبي. ومع بدء الحرب العالمية الأولى، أتاحت مركزية الاحتياطات لهذه الحكومات توسيع العرض النقدي بما يتجاوز احتياطاتها من الذهب، مما خفض قيمة عملتها.