النقد والتفضيل الزمني
يتم اختيار النقد السليم بشكل حر في السوق لقابلية بيعه؛ حيث إنه يحتفظ بقيمته عبر الزمن، ويستطيع نقل القيمة بفعالية عبر الأماكن، ويمكن تقسيمه وجمعه في أحجامٍ كبيرة وصغيرة، كما أنه نقد لا يمكن التلاعب بعرضه من قِبل سُلطة مُستبدة تَفرض استخدامه على الآخرين. حَسْب التحليل السابق، وحَسْب فهمنا للاقتصاد النقدي الذي قدَّمه لنا الاقتصاد النمساوي، يُمكن توضيح أهمية النقد السليم بثلاثة أسباب أساسية؛ أولًا: إنه يحتفظ بقيمته مع مرور الزمن، ممَّا يمنح الناس حافزًا أكبر ليفكِّروا في مستقبلهم، كما أنه يُقلِّل من تفضيلهم الزمني. وتقليل التفضيل الزمني هو بداية الحضارة البشرية وما يمنح سُبل التعاون بين البشر، والازدهار والعيش بسلام. ثانيًا: النقد السليم يسمح للتجارة بأن تصبح مُستنِدةً على وحدة قياس مستقرة، ممَّا يُسهِّل من وجود أسواق كبيرة مُتحرِّرة من سيطرة وقهر الحكومات، وحيثما حَلَّت التجارة الحرة، حلَّ السلام والازدهار. يُمكن الإضافة أن وحدة الحساب هي أمر ضروري لكل أشكال الحسابات والتخطيطات الاقتصادية، والنقد غير السليم يجعل هذه الحسابات الاقتصادية غير موثوقة، كما أنه السبب الرئيسي للركود والأزمات الاقتصادية. ثالثًا وأخيرًا: النقد السليم هو مُتطلَّب أساسي للحرية الفردية في وجه القمع والاستبداد؛ وذلك لأن قدرة السلطات المستبدة على إنشاء النقد قد يمنحها سلطةً مفرطة على رعاياها، سلطة ستجذب بشكل طبيعي أولئك الأقل جدارة وعديمي الأخلاق ليستلموا زمام أمورها.
فالنقد السليم هو عامل جوهري في تحديد «التفضيل الزمني» الفردي والذي يُعتبر جانبًا هامًّا للغاية ومُهمَلًا بشكل واسع في عملية اتخاذ القرارات الفردية. إن هذا التفضيل الزمني يُشير إلى النسبة التي يقيِّمُ بها الأفرادُ الحاضرَ مقارنةً بالمستقبل، حيث إن البشر لا يُخلَّدون إلى الأبد، وقد يوافينا الموت في أية لحظة، ممَّا يجعل المستقبل غامضًا وغير مؤكَّد. وبما أن الاستهلاك من متطلَّبات النجاة، فالناس دائمًا تُقدِّر الاستهلاك الحالي بالزمن الحاضر بشكل أكبر منه من الاستهلاك المستقبلي؛ وذلك لأن نقص الاستهلاك الحالي قد يمنعنا من الوصول إلى المستقبل. وبمعنًى آخر، إن التفضيل الزمني إيجابي لكل البشر، وهناك حسمٌ دائمًا على المستقبل مقارنةً بالحاضر.
إضافةً إلى ذلك، وبما أنه يمكننا إنتاج المزيد من السلع بتخصيص المزيد من الوقت والموارد، فسيُفضِّل الأفراد العقلانيون دائمًا أن يمتلكوا كَميةً مُحدَّدة من الموارد في وقتهم الحالي مقارنةً بالمستقبل؛ حيث إنه بإمكانهم استخدامها لإنتاج المزيد. ولكي يَقبَل الفرد بتأجيل اكتسابه لسلعة ما لمدة عام واحد، يتوجَّب عرض كَمية أكبر من هذه السلعة عليه؛ فالزيادة الضرورية لإغراء هذا الفرد بتأجيل اكتسابه للسلعة هو ما يحدِّد تفضيله الزمني. فكل الأفراد العقلانيين لديهم قيمة للتفضيل الزمني، لكن هذا التفضيل الزمني يختلف تبعًا لاختلاف الأفراد.
والتفضيل الزمني للحيوانات أعلى بكثير منه لدى البشر؛ حيث إنها تتصرَّف لإرضاء دوافعها الغريزية الآنية، كما أن إدراكها للمستقبل ضئيل. ولكن تستطيع بعض الحيوانات بناء أعشاش أو بيوت قابلة للبقاء والصمود في المستقبل، بحيث إن التفضيل الزمني لهذه الحيوانات يكون أقل منه لدى تلك الحيوانات التي تتصرَّف لإرضاء احتياجاتها الآنية مثل الجوع والعدائية. بينما يسمح التفضيل الزمني المنخفض للبشر بكبح الدوافع الغريزية والحيوانية، والتفكير بما هو أفضل للمستقبل، والتصرُّف بعقلانية بدلًا من الاندفاعية. فبدلًا من أن نُمضي كامل وقتنا في إنتاج سلع للاستهلاك الفوري، يمكننا انتهاز هذا الوقت في العمل على إنتاج سلع تستغرق وقتًا أطول لتكتمل في حال كانت هذه السلع أكثر جودة. فعندما يُقلِّل البشر من تفضيلهم الزمني، فإنهم يخلقون فرصًا لتوسيع نطاق عملهم؛ وذلك لإجراء مهمات تستغرق وقتًا أطول لإرضاء احتياجات أكثر بُعدًا، ويطوِّرون أيضًا من قدراتهم العقلية لصُنع سلع ليست للاستهلاك الفوري، بل لإنتاج سلع مستقبلية. بمعنًى آخر، إنشاء سلع رأسمالية.
ففي حين يستطيع البشر والحيوانات القيام بعملية الصيد، فقد تَميَّز البشر عن الحيوانات بقضاء الوقت في تطوير أدوات لهذه العملية. وقد تَستخدم الحيوانات أحيانًا أداةً لصيد حيوان آخر، لكن ليس لهذه الحيوانات القدرة على امتلاك هذه الأدوات والحفاظ عليها للاستخدام الطويل الأمد. وفقط عَبْر التفضيل الزمني المنخفض يمكن للإنسان أن يقرِّر اقتصار بعضٍ من الوقت ليخصِّصه في صنع رمح أو صنارة صيد غير قابلة للأكل، لكن هذه الصنارة بالمقابل ستسمح له بالصيد بفعالية أكبر، وهذا هو جوهر الاستثمار؛ فعندما يؤجِّل البشر متعتهم الآنية، فإنهم يستثمرون أوقاتهم ومواردهم في إنتاج سلع رأسمالية ستجعل الإنتاج أكثر تعقيدًا وأكثر تطوُّرًا على الصعيد التقني، وستجعله مُمتدًّا على آفاق زمنية أطول. فالدافع الوحيد وراء اختيار أي شخص تأجيل إشباع رغباته ليجازف بالمشاركة بإنتاجٍ ما خلال مدة زمنية أطول، هو أن هذه العمليات الأطول قد تُولِّد له ناتجًا أكثر وسلعًا أكثر جودة. بمعنًى آخر، «الاستثمار يزيد من إنتاجية المنتجين».
فالصياد الذي يصنع صنارة صيد، يستطيع اصطياد أسماك أكثر من الصياد الذي يصطاد بيدَيه العاريتَين في المدة نفسها، لكن الطريقة الوحيدة لصنع هذه الصنارة هي بتخصيص مدة زمنية أولية للعمل لا «تُنتج» أسماكًا فيها، بل تنتج صنارة صيد. وبالطبع، إن هذه عملية غير موثوقة لأنه من الممكن ألَّا تلبي الصنارة الغاية المرجوَّة منها، وبهذا يكون الصياد قد أضاع وقته هباءً. لذلك، لا يتطلَّب الاستثمار تأخير المتعة فحسب، بل يحمل معه دائمًا احتمال الفشل؛ ولهذا لن يُباشر المرء باستثماره إلا إذا كان هناك توقعات بالمكافأة والربح. وكلما كان التفضيل الزمني أقل لدى الفرد، ازداد احتمال دخوله في الاستثمارات وجمع رأس المال، وعلى الجهة الأخرى ازداد تأخيره للمتعة. وكلما ازداد رأس المال المتراكم، ازدادت إنتاجية العمل، وامتدَّ الأفق الزمني للإنتاج.
لِفهم الفرق بشكل أوضح، سنقارن بين شخصَين افتراضيَّين لم يمتلكا في البداية إلا أيديهما العارية، وتفضيلًا زمنيًّا مختلفًا؛ فلدى «هاري» تفضيل زمني أعلى من «ليندا»، ولذلك سيختار هاري أن يُمضي وقته فقط في صيد الأسماك بيدَيه، مستغرقًا حوالي ثماني ساعات يوميًّا لاصطياد سمك يكفيه قوت يومه. بالمقابل، ليندا والتي لديها تفضيل زمني أقل، تُمضي ست ساعات فقط في صيد السمك، مكتفيةً بنصيب أقل من السمك يوميًّا، وتُمضي الساعتَين المُتبقيتَين في العمل على صناعة صنارة صيد. بعد مرور أسبوع، نجحت ليندا في صناعة صنارة صيد جيدة، وفي الأسبوع التالي أصبح بإمكانها اصطياد ضِعف كمية السمك التي يصطادها هاري خلال ثماني ساعات. فاستثمار ليندا في صنارة الصيد أعطاها إمكانية العمل لأربع ساعات في اليوم فقط، وتَنَاولَ نفس كمية السمك التي يتناولها هاري، لكن ولأن لديها تفضيلًا زمنيًّا أقل، فلن تكتفي بإنجازها، بل ستُمضي أربع ساعات في اصطياد نفس الكمية التي يصطادها هاري خلال ثماني ساعات، ثم ستُمضي أربع ساعات أخرى في جمع رأس مال أكثر، كأن تبني لنفسها قارب صيد على سبيل المثال. بعد شهر، أصبح لدى ليندا صنارة صيد وقارب تتمكَّن بهما بالتعمُّق في البحار، لتصطاد سمكًا لم يرَه هاري من قبل. فلم تعد إنتاجية ليندا أكثر قياسًا بالزمن فحسب، بل أصبح صيدها مختلفًا وأفضل من سمك هاري، وأصبحت تحتاج الآن ساعةً من الصيد فقط لتؤمِّن بها قوت يومها، وتُكرِّس وقتها المتبقي في جمع رأس مال أكثر، كَصُنع صنارات صيد أفضل وأكبر، وشباكًا وقوارب، ممَّا سيؤدِّي بدوره إلى ارتفاع إنتاجيتها وتحسين مستوى معيشتها.
وإذا استمرَّ هاري وسلالته بالعمل والاستهلاك بالتفضيل الزمني ذاته، فسيعيشون الحياة ذاتها التي عاشوها سابقًا وبنفس مستوى الاستهلاك والإنتاجية. وإذا استمرَّت ليندا وسلالتها بالتفضيل الزمني المنخفض ذاته، فسيستمرون في تطوير مستوى وجودة معيشتهم مع مرور الزمن، رافعين مخزونهم من رأس المال، ومنهمكين في أعمالٍ إنتاجية نوعية من خلال عملياتٍ تستغرق زمنًا أطول بكثير. إن المثال الواقعي لسلالة ليندا اليوم سيكون مالكو «آنليس إيلينا»، وهي أكبر سفينة صيد في العالم. ولقد استغرق تَخيُّل وتصميم وبناء هذه الآلة العملاقة عقودًا من الزمن قبل أن تكتمل في عام ٢٠٠٠م، وستستمر في العمل عقودًا من الزمن لتُعيد للمستثمرين أصحاب التفضيل الزمني المنخفض رأس المال الذي قدَّموه لعملية البناء هذه قبل عشرات السنين. فعملية «إنتاج» السمك بالنسبة لسلالة ليندا أصبحت طويلةً ومعقدة لدرجة أنها باتت تستغرق عقودًا لإتمامها، في حين أنه لم تزَل سلالة هاري تُنهي عمليتها ببضع ساعات كل يوم. والفرق بالطبع هو أن إنتاجية سلالة ليندا هي أكثر بكثير من إنتاجية سلالة هاري، وهذا ما يجعل العمل بهذه العمليات الطويلة أمرًا جديرًا بالعناء.
وبصفتي أستاذًا في علم الاقتصاد، أحرص دائمًا على تدريس تجربة المارشميلو هذه في كل مادة أُعلِّمها؛ حيث إنني أعتقد أن هذا هو الدرس الأكثر أهميةً الذي يُعلِّمه الاقتصاد للأفراد، ويدهشني أن المناهج الدراسية الاقتصادية الجامعية تجاهلت هذا الدرس بالكامل تقريبًا، لدرجة أصبح فيها الكثير من الاقتصاديين الأكاديميين لا يدركون مفهوم «التفضيل الزمني» على الإطلاق، ولا يدركون مدى أهميته.
ففي حين ركَّز الاقتصاد الجزئي على المبادلات بين الأفراد، وركَّز الاقتصاد الكلي على دَور الحكومة في الاقتصاد، في الحقيقة إن أكثر القرارات الاقتصادية أهميةً للفرد هي تلك التي يُجريها الفرد في مبادلاته مع نفسه المستقبلية؛ فالمرء يجري يوميًّا بعض المبادلات الاقتصادية مع الآخرين، لكنه يشارك في عدد أكبر من المبادلات مع نفسه المستقبلية، ولا نهاية لأمثلة هذه المبادلات؛ كأن تقرِّر ادخار المال بدلًا من إنفاقه، أو أن تقرِّر الاستثمار في اكتساب المهارات للحصول على وظيفة مستقبلًا بدلًا من البحث عن وظيفة آنية بأجر زهيد، أو أن تشتري سيارةً عملية وبسعر مقبول بدلًا من أن تقترض لتشتري سيارةً باهظة الثمن، أو أن تعمل وقتًا إضافيًّا بدلًا من الذهاب إلى حفلة الأصدقاء، أو المثال الذي أُفضِّل استخدامه في الحصة الدراسية؛ أن تُقرِّر دراسة المواد التعليمية للمساق كل أسبوع في الفصل بدلًا من أن تتركها إلى الليلة السابقة للامتحان النهائي.
ففي كل واحدة من تلك الأمثلة، لا يوجد شخص يفرض هذه القرارات على الفرد، والمستفيد أو الخاسر الرئيسي من عواقب هذه الخيارات هو الفرد نفسه، والعامل الأساسي الذي يحدِّد خيارات المرء في حياته هو تفضيله الزمني. وفي حين يختلف التفضيل الزمني وضبط النفس عند الأفراد من موقف لآخر، إلا أنه يمكن بشكل عام إيجاد صلة وثيقة بين كل نواحي اتخاذ قراراتهم. فالحقيقة المؤلمة التي يجب أن نتذكَّرها هي أن مبادلات المرء مع نفسه المستقبلية ستحدِّد بشكل كبير حصته في هذه الحياة، ومهما أراد المرء أن يلوم الآخرين على فشله، أو أن ينسب نجاحه للآخرين، فالغالب أن المبادلات غير النهائية التي أجراها مع نفسه هي أكثر أهميةً من أية ظروف أو أية أحوال خارجية. لهذا، مهما بلغت الظروف التي تآمرت على المرء ذي التفضيل الزمني المنخفض، فإنه غالبًا سيجد طريقةً يعطي فيها نفسه المستقبلية أولويةً إلى أن يحقِّق أهدافه، ومهما ساعد الحظُّ المرءَ ذا التفضيل الزمني المرتفع، فإنه سيجد طريقةً ليستمر بالتحايل وخداع نفسه المستقبلية. لهذا، هناك تناقض صارخ بين القصص الكثيرة للأفراد الذين نجحوا رغم كل الاحتمالات والظروف غير المواتية لهم، وبين قصص الناس ذوي المهارات والمواهب التي كافأتهم هذه المواهب بشكل رائع، ومع ذلك قاموا بإهدارها ولم يحقِّقوا شيئًا ثابتًا لأنفسهم. فالعديد من الرياضيين والفنانين المحترفين، أكسبتهم مواهبهم مبالغ كبيرة من المال، ولكنهم ماتوا مفلسين بسبب سيطرة التفضيل الزمني المرتفع عليهم. بالمقابل، هناك العديد من الأفراد العاديين الذين لا يمتلكون أية مواهب مميزة عملوا بجد وادَّخروا واستثمروا مدى الحياة وحقَّقوا أمانًا ماليًّا، وورَّثوا أبناءهم حياةً أفضل من التي وَرِثُوها هم.
ففقط عن طريق التفضيل الزمني المنخفض يمكن للمرء أن يبدأ بتقدير أهمية الاستثمارات الطويلة المدى ويبدأ بإعطاء الأولوية للنتائج التي يمكن أن يجنيها مستقبلًا. فالمجتمع الذي يُورِّث فيه الأفراد أبناءهم أكثر ممَّا أخذوا هم من والديهم هو مجتمع متحضِّر؛ إنه مكان تتحسَّن فيه الحياة، ويعيش الناس فيه بهدف تحسين حياة الجيل القادم. ومع استمرار ارتفاع مستويات رأس المال في المجتمع، تزيد الإنتاجية وترتفع معها جودة الحياة. ومع تأمين الاحتياجات الأساسية وتفادي مخاطر الطبيعة، يُحوِّل الأفراد انتباههم إلى نواحٍ أخرى في الحياة أعمق من تلك المتعلِّقة بالرفاهية المادية ومَشقَّة العمل، فيُنشئون العائلات والروابط الاجتماعية، ويعملون على مشاريع ثقافية، وفنية وأدبية، وسيحاولون تقديم مساهمات راسخة لمجتمعاتهم وللعالم. فالحضارة لا تتعلَّق بجمع رأس المال تحديدًا، بل بما يستطيع البشر إنجازه برأس المال هذا من الازدهار والحرية في البحث عن معنًى أسمى في الحياة، وذلك بعد تأمين احتياجاتهم الأساسية وتجنُّب المخاطر المحدقة بهم.
لكن العامل المؤثر على التفضيل الزمني الأكثر اتصالًا بموضوعنا، هو القيمة المتوقَّعة للنقد مستقبلًا؛ ففي الأسواق الحرة التي يختار فيها الأفراد نقدهم بحرية، ستختار هذه الأفراد شكل النقد الذي بالغالب سيُحافظ على قيمته مع مرور الزمن. وكلما كان النقد أكثرَ قدرةً على الاحتفاظ بقيمته، حَفَّز الناس بشكل أكبر على تأجيل الاستهلاك وتخصيص الموارد للإنتاج في المستقبل؛ ممَّا يؤدي إلى تراكم رأس المال وتحسين معايير الحياة، بالإضافة إلى خلق تفضيل زمني منخفض لدى الأفراد في مجالات أخرى غير اقتصادية من حياتهم. وعندما يكون اتخاذ القرار الاقتصادي موجَّهًا نحو المستقبل، فمن الطبيعي أن تكون كل القرارات الأخرى موجهةً نحو المستقبل أيضًا، فيصبح الناس عندها مُسالمين ومتعاونين أكثر، مُوقنين أن التعاون هو استراتيجية طويلة الأمد أكثر فائدةً ونفعًا من أية فائدة قصيرة الأمد قد تعود عليهم بفعل الصراعات. بذلك، يُطوِّر الناس حِسًّا أخلاقيًّا عاليًا، مُفضِّلين الخيارات الأخلاقية التي ستؤدِّي إلى نتائج طويلة الأمد أفضل لهم ولأولادهم؛ فالشخص الذي يفكِّر على المدى البعيد لديه احتمال ضعيف بأن يغش أو يكذب أو يسرق؛ حيث إن نتيجة تلك التصرفات قد تكون إيجابيةً على المدى القصير، لكنها ستكون سلبيةً مُدمِّرة على المدى البعيد.
إن انخفاض القيمة الشرائية للنقد مشابه لعملية فرض نوع من الضرائب أو المصادرة، بحيث يتم خفض القيمة الحقيقية لعملة الفرد ولو بقيت القيمة الظاهرية ثابتة. ففي الاقتصاد الحديث، ترتبط النقود التي تُصدرها الحكومة ارتباطًا وثيقًا بمعدلات فائدة أكثر انخفاضًا ولكن بشكل صُنعي (زائف)، وهذا هدف مرغوب لعلماء الاقتصاد الحديث لأنه يشجِّع على الاقتراض والاستثمار، لكن نتيجة هذا التلاعب في قيمة رأس المال ستُقلِّل من معدلات الفائدة بشكل صُنعي للمدخرين والمستثمرين، إضافةً لأولئك الذين يَدفع لهم المقترضون. والنتيجة الطبيعية لهذه العملية هي تقليص المدخرات وزيادة الاقتراض. على الهامش، سيقوم الأفراد أيضًا باستهلاك كمية أكبر من دخلهم وسيقترضون المزيد لمستقبلهم، وهذا الأمر لن يؤثِّر على تفضيلهم الزمني من ناحية قراراتهم المالية فحسب، بل على الأغلب سينعكس على كل نواحي حياتهم.
فالانتقال من النقد الذي يرتفع أو يحتفظ بقيمته إلى النقد الذي يخسر قيمته هو أمر مهم جدًّا على المدى الطويل؛ فعندما يقل ادخار المجتمع، فإنه سيجمع رأس مال أقل ومن المحتمل أن يبدأ باستهلاك رأس ماله، وستبقى إنتاجية العمال ثابتةً أو ستنخفض، ممَّا يؤدي إلى ركود في الأجور الحقيقية حتى وإن رُفعت الأجور الظاهرية بالقوة السحرية لطباعة المزيد من النقد الورقي المتراجع في قيمته. وعندما يزداد إنفاق الناس ويقل ادخارهم، فإنهم يصبحون أكثر تركيزًا على الحاضر في كل قراراتهم، ممَّا يؤدي إلى فشلٍ بالأخلاق وارتفاع احتمال الدخول في الصراعات والتصرفات المدمِّرة للذات.
يساعد هذا في تفسير سبب ازدهار الحضارات تحت نظام نقدي سليم، وسبب تفكُّكها عندما تنخفض قيمة نظامها النقدي، تمامًا كما كان عليه الحال مع الرومان، والبيزنطيين، والمجتمعات الأوروبية الحديثة. فالتباين بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين يمكن فهمه في سياق الابتعاد عن النقد السليم وكل ما يرافقه عادةً من مشاكل.
(١) التضخم النقدي
إن الحقيقة البسيطة الواضحة عبر التاريخ هي أن أي شخص يجد طريقةً لصنع الوسائط النقدية فإنه سيحاول فعل ذلك؛ فالإغراء في فعل هذا الأمر قوي جدًّا. لكن يجب الإضافة بأن عملية صنع وسيط نقدي لا تُعتَبر نشاطًا منتجًا للمجتمع؛ حيث إن أي عرض نقدي يُعتبر عرضًا كافيًا لكي يعمل الاقتصاد مهما بلغ حجمه. وكلما حَدَّ هذا الوسيط النقدي من الرغبة في صنعه، أصبح هذا الأمر أفضل له كوسيط للتبادل وكمخزن مستقر للقيمة. وعلى عكس كل السلع الأخرى، فإن وظائف النقد كوسيط للتبادل، وكمخزن للقيمة، وكوحدة للحساب، لا علاقة لها بكميته، فالمهم بالنسبة للنقد هو قوته الشرائية، وليس كميته. لذلك إن أية كمية من النقد تُعتبر كميةً كافية لتُحقِّق فيها الوظائف النقدية طالما كانت قابلةً للقسمة، وطالما يمكن وضعها في مجموعات بكميات كافية بحيث يقتنع بها المالِكون لتلبية مبادلاتهم التجارية واحتياجاتهم التخزينية. فيُمكن لأي عرض نقدي مهما كان حجمه دعم أية كمية من التحويلات الاقتصادية إذا كانت هذه الوحدات النقدية قابلةً للقسمة بشكل كافٍ.
والنقد المثالي نظريًّا هو ذلك النقد الذي سيكون عرضه ثابتًا؛ أي إن لا أحد يستطيع إنتاج المزيد منه، والطريقة الوحيدة غير الإجرامية للحصول على نقد في مجتمع كهذا ستكون عن طريق إنتاج شيء ذي قيمة بالنسبة إلى الآخرين ثم القيام بتبادله معهم لقاء ذلك النقد. وبما أن الجميع يرغب في الحصول على المزيد من النقد، فإن الجميع سيعمل أكثر وسيُنتج أكثر، ممَّا سيؤدي إلى تحسين الرفاهية المادية للجميع، الأمر الذي سيسمح بدَوره للناس بجمع رأس مال أكثر ليزيدوا من إنتاجيتهم. إن نقدًا كهذا سيكون مثاليًّا أيضًا كمخزن للقيمة وذلك من خلال مَنْع الآخرين من زيادة عرضه النقدي، وبهذا لن تنخفض الثروة المُختزَنة فيه مع مرور الوقت؛ ممَّا سيُحفِّز الناس على الادخار وسيسمح لهم بالتفكير أكثر في المستقبل. ومع زيادة الثروة والإنتاجية، ومع القدرة المتزايدة على التفكير في المستقبل، يبدأ الناس بتخفيض تفضيلهم الزمني، وسيتمكَّنون من التركيز على تحسين نواحٍ غير مادية في حياتهم، كالمجهودات الروحية، والاجتماعية والثقافية.
لكن أُثبت أنه من المستحيل الإتيان بشكل من النقد ليس بالإمكان صناعة المزيد منه؛ وذلك لأن أي شيء يتم اختياره كوسيط للتبادل سترتفع قيمته؛ ولهذا سيحاول المزيد من الناس إنتاج المزيد منه. بهذه الكيفية، يمكن القول إن أفضل شكل من النقد في التاريخ كان ذلك النقد الذي جعل العرض الجديد منه أقل أهميةً عند مقارنته بالمخزون القائم، وبالتالي جعل عملية صنعه مصدرًا غير جيد للربح. وبما أن الذهب غير قابل للتلف، فهو المعدن الوحيد الذي كانت مخزوناته تنمو منذ أن بدأ البشر باستخراجه. ومع أن استخراجه ما يزال يُجرى منذ آلاف السنين، ولم يتمكَّن علم الكيمياء بعدُ من إثبات نجاحه لترويجه وبيعه بشكل تجاري واسع النطاق، فإن العرض الجديد لعملية الاستخراج تلك ما زالت مستمرةً وتُشكِّل جزءًا صغيرًا موثوقًا من المخزونات القائمة.
إن هذه الخاصية هي سبب كون الذهب مرادفًا للنقد السليم؛ فهو نقد ذو عرض ضُمن ألَّا يزداد بشكل كبير بفضل قوانين الفيزياء والكيمياء الصارمة. ففشل البشر رغم محاولاتهم لقرون بإنتاج شكل من النقد أكثر سلامةً من الذهب؛ ولهذا كان الذهب الأداة النقدية الرئيسية التي تستخدمها معظم الحضارات البشرية عبر التاريخ. وحتى بعد أن انتقل العالم إلى النقد الحكومي كمخزن للقيمة، وكوسيط للتبادل وكوحدة للحساب، لا تزال الحكومات نفسها تحتفظ بنسبة كبيرة من احتياطاتها بالذهب، وتُمثِّل هذه الاحتياطات نسبةً كبيرة من عرض الذهب الكلي.
تذمَّر كينز أن استخراج الذهب هو نشاط مبذِّر يستهلك الكثير من الموارد دون أن يضيف شيئًا للثروة الحقيقية، وبالرغم من أن نقده فيه شيء من الحقيقة، بمعنى أن زيادة العرض من الوسيط النقدي لا تزيد من ثروة المجتمع الذي يستخدمه، إلا أنه غفل عن النقطة المهمة بأن دور الذهب النقدي نَتَج أصلًا عن كونه المعدن «الأقل» جذبًا للبشر والموارد الرأسمالية لاستخراجه والتنقيب عنه، مقارنةً بكل المعادن الأخرى. وبما أنه لا يمكن زيادة عرض الذهب إلا بكميات صغيرة جدًّا حتى عند الارتفاع الحاد بالأسعار، وبما أنه نادر جدًّا ويصعُب إيجاده، فإن استخراج الذهب النقدي سيكون أقل ربحًا من استخراج أي معدن آخر يحمل دورًا نقديًّا، ممَّا يجعل البشر يخصِّصون أقل كَميةً من الوقت والموارد لاستخراجه. فلو تمَّ استخدام أي معدن آخر كوسيط نقدي، فإنه عندما ينخفض التفضيل الزمني للمجتمع ويشتري المزيد من الناس هذا المعدن للادخار، رافعين بذلك من سعره، فسيكون هناك فرصة مهمة للربح من إنتاج المزيد من هذا المعدن، لكن ولأن المعدن قابل للتلف، فدائمًا سيكون الإنتاج الجديد أكبر كنسبة مئوية (نسبة إلى الذهب) بالنسبة إلى المخزونات القائمة، كما في مثال النحاس، ممَّا سيقلل السعر ويحط من قيمة مدخرات المالكين له. في مجتمع كهذا، يُمكن أن تُسرَق المدخرات بشكل فعال من المدخِرين لمكافأة الأفراد الذين عملوا على استخراجه بكميات كبيرة تفوق استخدامهم الاقتصادي. فسوف تقل المدخرات والإنتاج النافع في مجتمعات كهذه، وسيترتَّب على ذلك تفَشِّي الفقر بسبب الهوَس بإنتاج وسائط نقدية، وسيكون المجتمع جاهزًا لتستولي عليه وتغزوه مجتمعات أكثر إنتاجيةً لديها أفراد يفعلون ما هو أفضل من إنتاج المزيد من الوسائط النقدية.
فعندما يكون العرض الجديد غير مهم مقارنةً بالعرض القائم، فإن القيمة السوقية لشكل النقد يتم تحديدها عبر رغبة الناس بامتلاك أو إنفاق هذا النقد. وستتباين تلك العوامل بشكل كبير مع مرور الزمن بالنسبة لكل فرد، حيث تتغيَّر ظروف الأفراد الشخصية من مراحل يُفضِّلون فيها حمل الكثير من النقد إلى مراحل يُفضِّلون فيها حمل القليل منه، لكن وبشكل عام، ستتباين هذه العوامل بشكل قليل للمجتمع ككل؛ وذلك لأن النقد هو السلعة السوقية ذات المنفعة الهامشية الأقل تناقصًا. إن أحد أهم قوانين الاقتصاد هو قانون المنفعة الهامشية المتناقصة والذي يقول: إن الحصول على المزيد من أية سلعة سيقوم بالتقليل من المنفعة الهامشية لكل وحدة إضافية. وحتى النقد، الذي لا يُمتلك من أجل امتلاكه لذاته، بل من أجل مبادلته مع سلع أخرى، فستقل منفعته الهامشية ولكن بشكل أبطأ من أية سلعة أخرى؛ وذلك لأنه يمكن دومًا مبادلته مع أية سلع أخرى. فعندما تزداد ممتلكات الأفراد من البيوت أو السيارات أو التلفازات، أو التفاح أو الألماس، ينخفض التقييم الهامشي الذي يضعه هؤلاء الأفراد على كل وحدة إضافية، ممَّا يُقلِّل الرغبة بجمع المزيد من أيٍّ منها. لكن المزيد من النقد ليس كالمزيد من تلك السلع؛ حيث إنه وعند امتلاك المزيد منه، سيتمكَّن مالكه من مبادلته ببساطة مع المزيد من السلع الأخرى التي يُفضِّلها. وفي الحقيقة، إن المنفعة الهامشية للنقد تقل أيضًا، كما يمكن رؤيته في الآتي؛ فكل دولار إضافي في الدخل يعني أكثر بكثير بالنسبة لشخص دخله اليومي دولار واحد مقارنةً بمن يجني ألف دولار في اليوم، لكن المنفعة الهامشية للنقد تقل بشكل أبطأ من أية سلعة أخرى؛ حيث إنها تقل رغبتها بكل هذه السلع، وليس بسلعة معينة.
فالمنفعة الهامشية المتناقصة ببطء لحمل النقد تعني أن الطلب عليه لن يتغيَّر بشكل كبير. هذا الأمر وعند إضافته لعرضٍ شبه دائم، فإنه سيؤدي إلى قيمة سوقية مستقرة نسبيًّا للنقد في مجال السلع والخدمات؛ أي إنه من غير المحتمل أن يرتفع أو يقل النقد بقيمته بشكل كبير، ممَّا سيجعله استثمارًا سيئًّا على المدى الطويل، لكنه سيكون مخزنًا جيدًا للقيمة. أما الاستثمارات فإنه يُتوقَّع منها أن تحمل معها ارتفاعًا كبيرًا، لكنها ستحمل معها أيضًا احتمال خسارة كبيرة أو انخفاضًا بالقيمة؛ فالاستثمار هو مكافأة المجازفة، لكن النقد السليم كونه يحمل المجازفة الأقل، لا يُقدِّم أية مكافآت.
بالمجمل، إن الطلب على النقد سيتباين بتباين التفضيل الزمني فقط؛ حيث إنه عندما يُطوِّر البشر تفضيلًا زمنيًّا منخفضًا بشكل عام، فغالبًا سيرغب المزيد من الناس بامتلاك النقد، ممَّا يؤدي إلى ارتفاع قيمته السوقية مقارنةً بالسلع والخدمات الأخرى، الأمر الذي سيزيد من مكاسب مالكيه. بالمقابل، إن المجتمع الذي يُطوِّر تفضيلًا زمنيًّا أكثر ارتفاعًا، فإنه يميل عادةً إلى التقليل من امتلاكه للنقد؛ ممَّا سيؤدي إلى انخفاض قيمته السوقية بشكل هامشي. في كلا الحالتَين، امتلاك النقد سيبقى دائمًا الأقل خطرًا وسيبقى أصلًا مكافئًا بشكل عام، وهذا بجوهره هو السبب الرئيسي للطلب والإقبال عليه.
من المهم استيعاب أن بقاء الوسيط النقدي ثابتًا بشكل كلي في القيمة هو أمر ليس ممكنًا أو قابلًا للتحديد حتى من الناحية النظرية؛ فالسلع والخدمات التي يشتريها النقد ستتغيَّر مع مرور الوقت؛ وذلك لأن التكنولوجيا الحديثة ستُقدِّم سلعًا جديدة تستبدل القديمة منها، كما أن ظروف العرض والطلب لمختلِف السلع ستتغيَّر مع مرور الزمن. وواحدة من أهم الوظائف الرئيسية لوحدة النقد هي خدمتها كوحدة قياس للسلع الاقتصادية التي تتغيَّر قيمتها باستمرار. ولهذا السبب، من غير الممكن قياس سعر سلعة نقدية بشكل دقيق ومُرضٍ، على الرغم من أنه على امتداد آفاق زمنية طويلة، هناك احتمالية لأن تشير الدراسات المشابهة لدراسة جاسترام إلى ميلٍ وتوجه إجمالي لأحد الوسائط النقدية ليحافظ على قيمته، خاصةً عند مقارنته بأشكال النقد الأخرى.
فحتى أكثر أشكال النقد الحكومي ثباتًا وأفضلها أداءً شَهِدت تحطُّمًا لقيمتها مقارنةً بالذهب، حيث أصبحت قيمتها حاليًّا تساوي حوالي ٢–٣٪ ممَّا كانت عليه عام ١٩٧١م عندما تم فكُّ ارتباطها عن الذهب. وهذا الأمر لا يُمثِّل ارتفاعًا في القيمة السوقية للذهب، بل يُمثِّل انخفاضًا في قيمة العملات الورقية. حيث إننا وعند مقارنة أسعار السلع والخدمات بقيمة هذا النقد الحكومي والذهب، فإننا سنجد ارتفاعًا ملحوظًا في أسعارها بالنسبة إلى النقد الحكومي، لكننا سنجد استقرارًا نسبيًّا في أسعارها مقارنةً بالذهب.
فالنقد الصعب الذي لا يمكن توسيع عرضه بسهولة غالبًا ستكون قيمته أكثر استقرارًا من النقد السهل؛ وذلك لأن عرضه غير مرن بتاتًا؛ حيث إن الطلب الاجتماعي على هذا النقد سيتباين قليلًا مع مرور الوقت بتباين التفضيل الزمني. بالمقابل، فالنقد السهل وبسبب قدرة منتجيه على تغيير كَميته بشكل كبير، فإنه سيُنشئ طلبًا متقلِّبًا للغاية من طرف المالكين حيث ستتباين هذه الكَمية ممَّا سيؤدي إلى تَقلُّب مصداقيته كمخزن للقيمة.
إن استقرار القيمة النسبي ليس مهمًّا للمحافظة على القوة الشرائية لمدخرات المالكين فحسب، بل قد يكون ذا أهمية كبرى في المحافظة على نزاهة الوحدة النقدية كوحدة حساب. فعند وجود توقعات بأن يكون النقد ذا قيمة مستقرة بفضل التباينات الصغيرة في العرض والطلب، فإنه يمكن لهذا النقد أن يتصرف كمؤشر موثوق للتغيُّرات بأسعار السلع والخدمات الأخرى، مثلما فعل الذهب.
لكن في حالة النقد الحكومي، فإن العرض النقدي يزداد عبر توسيع هذا العرض من قِبَل البنك المركزي والمصارف التجارية، ويتضاءل أثناء الركود والانكماش الاقتصادي وحالات الإفلاس. وبطبيعة الحال إن الطلب على النقد يمكن أن يتباين بشكل لا يمكن التنبؤ به وفقًا لتوقعات الناس لقيمة هذا النقد، ووفقًا لسياسات المصرف المركزي. فهذا المزيج عديم الاستقرار سيؤدي إلى وجود النقد الحكومي بصفته نقدًا ذا قيمة غير متوقعة على المدى الطويل. ويمكن الإضافة بأن مهمة البنوك المركزية المتمثلة بضمان استقرار الأسعار جعلتهم، وبشكل مستمر، يقومون بإدارة العرض النقدي باستخدام أدواتهم المتعدِّدة لضمان الاستقرار بالسعر؛ ممَّا جعل العديد من العملات الرئيسية تبدو أكثر استقرارًا على الأمد القصير مقارنةً بالذهب، لكن على المدى الطويل، فالزيادة المستمرة في عرض النقد الحكومي مقارنةً بالزيادة الثابتة والبطيئة للذهب ستجعل من قيمة الذهب أكثر توقعًا.
فالنقد السليم الذي يتم اختياره في الأسواق الحرة تحديدًا لأنه يحتفظ بقيمته غالبًا مع مرور الوقت، سيكون بشكل طبيعي نقدًا ذا استقرار أفضل من النقد غير السليم الذي يتم استخدامه بسبب فَرْض الحكومات القسرية له. فلو كان هذا النقد الحكومي وحدةً متفوِّقة للحساب ولتخزين القيمة، لَمَا احتاج لقوانين حكومية كي تفرضه كعملة قانونية، ولمَا اضطُرَّت الحكومات في أنحاء العالم إلى مصادرة كَميات كبيرة من الذهب، بل واستمرَّت بتخزينها في احتياطات بنوكها المركزية. فحقيقة احتفاظ البنوك المركزية بالذهب الخاص بها، بل وأنها بدأت بزيادة الاحتياطي منه، تشهد على مدى عدم ثقتها بعملاتها على المدى الطويل، وعلى الدور النقدي الحتمي للذهب، في نفس الوقت الذي يستمر فيه تدني قيمة العملات الورقية لمستويات جديدة.
(٢) الادخار وجمع رأس المال
إن واحدةً من أهم المشاكل التي تُسبِّبها عملة تتناقص قيمتها هي التحفيز سلبًا على الادخار للمستقبل. والتفضيل الزمني هو تفضيل إيجابي عالميًّا؛ فإذا تمَّ إعطاء الفرصة بالحصول على السلعة نفسها اليوم أو في المستقبل، فإن أي شخص عاقل سيُفضِّل أن يحصل عليها اليوم، ولن يُفكر الناس بتأخير المتعة إلا إن ارتفعت العوائد في المستقبل. والنقد السليم هو نقد تزداد قيمته بشكل طفيف مع مرور الوقت، ممَّا يعني أن امتلاكه سيُقدِّم زيادةً في قوته الشرائية، والنقد غير السليم الذي تتحكَّم به البنوك المركزية، والتي تتمثَّل مهمتها الصريحة في إبقاء التضخُّم إيجابيًّا، سيُقدِّم حافزًا قليلًا لمالكيه لكي يحتفظوا به، بحيث يزداد احتمال هؤلاء الأفراد بإنفاقه أو اقتراضه.
فعند الحديث عن الاستثمار والنقد، يخلق النقد السليم بيئةً اقتصادية تكون فيها أي نسبة إيجابية للعوائد مفيدةً للمستثمر، بحيث تحتفظ الوحدة النقدية بقيمتها غالبًا، هذا إن لم ترتفع، ممَّا يرفع الحافز للاستثمار. لكن عندما يتعلَّق الأمر بالنقد غير السليم، ففقط العائدات الأكثر ارتفاعًا من معدل انخفاض العملة ستكون إيجابيةً في القيمة الحقيقية، ممَّا يصنع حوافز لإنفاقٍ واستثمار ذي عوائد مرتفعة لكنها عالية المجازفة. أيضًا، بما أن الزيادة في العرض النقدي تعني بشكل فعَّال نِسَب فائدة منخفضة، فإن الحافز للادخار والاستثمار يقل في حين يرتفع الحافز للاقتراض.
وبينما انخفضت نسب الادخار في العالم الغربي، إلا أن المديونية استمرَّت بالارتفاع بحيث أصبح للأسرة الغربية العادية مديونية تُعادل أكثر من ١٠٠٪ من دخلها السنوي، وأصبحت أعباء الديون الإجمالية للمستويات المختلفة من الحكومة والعائلات تتجاوز إجمالي الناتج المحلي بعدة أضعاف، الأمر الذي أدَّى ويؤدِّي إلى عواقب وخيمة. لكن تمَّ تطبيع تلك الأرقام حيث قام الاقتصاديون الكينزيون بطمأنة المواطنين بمفاد أن الدَّين جيد للنمو، وأن الادخار سيؤدي إلى الركود الاقتصادي. فأحد أهم التخيُّلات الكاذبة التي تَسود الفِكر الاقتصادي الكينزي هي الفكرة بأن الدَّين القومي «ليس مهمًّا؛ لأننا مدينون به لأنفسنا». فقط التابعون لكينز ذوو التفضيل الزمني المرتفع يمكن أن يفشلوا بفهم أن «أنفسنا» هذه هي ليست كتلةً متجانسة، بل هي كتلة تتباين في عدة أجيال وبشكل أساسي، الجيل الحالي الذي يستهلك بتهوُّر على حساب الأجيال القادمة. ولزيادة الطين بِلة، تلك العبارة تُتبع عادةً بابتزاز عاطفي على غرار قول «سنخدع ونحرم أنفسنا إن لم نقترض لنستثمر من أجل مستقبلنا».
يَدَّعي الكثيرون أن هذا اكتشاف حديث مذهل من بصيرة كينز الرائعة، مفاده أن الإنفاق هو كل ما يهم، وأنه عند التأكد ببقاء مستوى الإنفاق مرتفعًا، ستستمر الديون بالزيادة إلى ما لا نهاية، وسيتم وقتها استبعاد المدخرات. في الحقيقة، لا شيء جديد في هذه السياسة حيث وظَّفها الأباطرة الرومان الفاسدون أثناء تدهور الإمبراطورية، إلا أنها تُطبَّق الآن باستخدام نقد ورقي أصدرته الحكومة. حيث إنه وبالواقع، يسمح النقد الورقي بالتحكم به بشكل أكثر سلاسة، وأقل وضوحًا من العملات المعدنية القديمة، لكن النتائج هي ذاتها.
فالإسراف بثقافة استهلاك المظاهر أمام الناس في القرن العشرين لا يمكن فهمها بشكل منفصل عن دمار النقد السليم، وتَفشِّي فِكر الكينزيين ذوي التفضيل الزمني المرتفع في تشويه قيمة الادخار، وتعظيم الاستهلاك بكونه مفتاح الازدهار الاقتصادي. فحافز الادخار المنخفض ينعكس ويتجلَّى بحافز الإنفاق المتزايد. ومع التلاعب المُنتَظم لتخفيض معدلات الفائدة وقدرة المصارف على إصدار الائتمانات أكثر من أي وقت مضى، لم يعد الإقراض محصورًا على الاستثمار، بل أصبح للاستهلاك أيضًا. فبطاقات الائتمان وقروض المستهلك تسمح للأفراد بالاقتراض من أجل الاستهلاك دون أي حاجة للتظاهر حتى للقيام باستثمار في المستقبل. وهذه إشارة ساخرة على عمق الجهل الاقتصادي الحديث الذي يُحرِّض عليه الاقتصاديون الكينزيون بأن الرأسمالية — وهي نظام اقتصادي يعتمد على جمع «رأس المال» من المدخرات — هي المسئولة عن انتشار ثقافة استهلاك المظاهر أمام الناس، وهو أمر معاكس تمامًا لعملية جمع رأس المال. فالرأسمالية هي ما تحدث عندما يُقلِّل الناس تفضيلهم الزمني، بحيث يؤجِّلون المتعة الفورية ويستثمرون في المستقبل، وأمَّا الاستهلاك الواسع الذي تُغذِّيه الديون فهو جزء طبيعي من الرأسمالية كما أن الاختناق هو جزء طبيعي من التنفُّس.
هذا الأمر يساعد أيضًا في تفسير السبب الرئيسي لسوء فهم الاقتصاد عند الكينزيين، الذين يعتبرون أن تأخير الاستهلاك الحالي عبر الادخار سيؤدِّي إلى تسريح العُمال وتعطيل الإنتاج الاقتصادي. فرأى كينز أن مستوى الإنفاق في أي نقطة محدَّدة من الزمن هو المُحدِّد الأكثر أهميةً لحالة الاقتصاد، حيث إن كينز ولأنه لم يدرس الاقتصاد أبدًا، لم يفهم نظرية رأس المال وكيف أن العمالة لا يجب أن تكون مُوظَّفةً فقط في السلع النهائية، بل يمكن توظيفها في إنتاج السلع الرأسمالية التي ستُنتج سلعًا نهائية في المستقبل فقط. وبما أنه عاش بالاعتماد على ثروة عائلته الضخمة دون أن يُضطر للعمل في وظائف حقيقية، لم يكن كينز يُقدِّر الادخار أو جمع رأس المال ودورهما الرئيسي في النمو الاقتصادي. وبالتالي، كان كينز يراقب الركود الاقتصادي بالتزامن مع انخفاض إنفاق المستهلكين والزيادة بالادخار، ويفترض أن السبب يبدأ من زيادة الادخار التي تؤدي إلى انخفاض الاستهلاك ثم الركود الاقتصادي. لو كانت لديه الرغبة ليدرس نظرية رأس المال، لَفَهِم أن انخفاض الاستهلاك هو رد فعل طبيعي على الدورة الاقتصادية، والتي بدورها نشأت من التوسُّع بالعرض النقدي، كما سيتم نقاشه في الفصل السادس، لفَهِم أيضًا أن السبب الوحيد للنمو الاقتصادي بالمقام الأول هو تأجيل المتعة والادخار والاستثمار، الذي يُطيل من أمد دورة الإنتاج ويزيد من إنتاجية وسائل الإنتاج، الأمر الذي يُحسِّن من معايير الحياة، وكان ليعرف أيضًا أن السبب الوحيد لكونه وُلِد في عائلة ثرية في مجتمع ثري هو أن أجداده أمضَوا عقودًا في جمع رأس المال، مُؤجِّلين المتعة ومستثمرين في المستقبل، لكنه مثل الأباطرة الرومان أثناء انحلال الإمبراطورية، لم يكن بمقدوره فَهْم العمل والتضحية اللازمة لتحقيق ثروته، واعتقد بدلًا من ذلك أن كثرة الاستهلاك هي سبب الازدهار بدلًا من أن تكون نتيجته.
فالدَّين هو عكس الادخار، وإن كان الادخار يخلق احتماليةً لجمع رأس المال وللتطور الحضاري؛ فالديون تستطيع إبطال ذلك عبر تقليل مخزون رأس المال عبر الأجيال، وعبر انخفاض الإنتاجية، وعبر تقليل جودة معايير الحياة. وسواء أكانت ديون الإسكان أم تكاليف الضمان الاجتماعي أم القروض الحكومية، فكلها تطلَّبت ضرائب أكثر من أي وقت مضى، وتطلَّبت تسييل الديون لإعادة تمويلها؛ ولهذا قد تكون الأجيال الحالية هي أول أجيال في العالم الغربي منذ انتهاء الإمبراطورية الرومانية (أو على الأقل منذ الثورة الصناعية) تُولَد في العالم برأس مال أقل ممَّا كان لأهاليهم. فبدلًا من أن يشهد هذا الجيل تراكم مُدَّخراته ويزيد من مخزون رأس المال، يجب عليه أن يعمل ليُسدِّد الفائدة المتزايدة على ديونه؛ حيث إنه سيُضطر للعمل بجد أكثر لتمويل برامج الاستحقاق التي بالكاد سيستمتع بها أثناء دفعه لضرائب أكثر، وبالكاد سيتمكَّن من الادخار لشيخوخته.
إن هذا الانتقال من النقد السليم إلى النقد الذي تنخفض قيمته أدَّى إلى تبذير الثروة التي تمَّ جمعها من قِبَل عدة أجيال على ثقافة استهلاك المظاهر أمام الناس خلال جيل واحد أو اثنَين، جاعلًا المديونية الطريقة الجديدة لتمويل النفقات الكبيرة. ففي حين كان معظم الناس قبل ١٠٠ عام يدفعون ثمن بيوتهم، وتعليمهم، وزواجهم من عملهم الخاص أو مُدَّخراتهم المتراكمة، إلا أن فكرةً كهذه قد تبدو سخيفةً بالنسبة للناس اليوم. فحتى الأغنياء لا يعيشون وفقًا لمواردهم المالية، بل يستخدمون ثروتهم ليحصلوا على قروض أكبر لتمويل مشتريات أكثر. يمكن لنظامٍ كهذا أن يستمر فترةً من الزمن، لكن يجب علينا ألَّا نخلط بين استمراره واستقراره؛ حيث إنه ليس سوى استهلاك مُنظَّم لمخزون المجتمع من رأس المال.
وفي حين قلَّص الانخفاض بالإرث العالمي من قوة العائلة كوحدة، فإن دفتر شيكات الحكومة الذي لا ينتهي قام بزيادة قدرتها على توجيه وتشكيل حياة الناس، ممَّا أعطاها دورًا متزايدَ الأهمية كي تؤديه في نواحٍ أكثر في حياة الأفراد. فتم بذلك حجب قدرة العائلة على تمويل الفرد بسخاء الدولة، ممَّا أدَّى إلى انخفاض الدوافع للمحافظة على هذه العائلة.
ففي المجتمعات التقليدية يُدرك الأفراد حاجتهم للدعم من أبنائهم في المستقبل؛ ولهذا سيقضون سنوات شبابهم وهم أصحَّاء في بناء العائلة، والاستثمار في توفير أفضل حياة ممكنة لأبنائهم، لكن إن تمَّ تثبيط الاستثمار على المدى الطويل بشكل عام، وإن كان الادخار سيكون غالبًا غير مثمر مع انخفاض قيمة النقد، يصبح هذا الاستثمار أقل فائدة. كذلك الأمر، فعندما يبيع السياسيون الناس كذبةَ أن الرفاه الأبدي وفوائد التقاعد هي ممكنةٌ باستخدام سحر طباعة النقد الورقي، يصبح الاستثمار في العائلة أقل قيمة. ومع مرور الوقت، سيقل الحافز لبناء عائلة، وسيزداد عدد الأفراد الذين يبقَون عازبين، كما سيزداد أيضًا احتمال انهيار منظومة الزواج بسبب انخفاض الاستعداد لِمَا سيضعه الشريكان في الاستثمار العاطفي، والأخلاقي والمادي لنجاح علاقتهما، في حين أن الزواج الذي يستمر سيُنتِج أبناءً أقل. فظاهرة انهيار منظومة الأسرة المعروفة جيدًا لا يمكن فهمها دون فهم دور النقد غير السليم الذي يسمح للدولة بمصادرة الكثير من الأدوار الأساسية التي كانت العائلة تؤديها لآلاف السنين، فتُقلِّل بذلك حافز كل أفراد العائلة على الاستثمار في علاقات عائلية طويلة الأمد.
(٣) ابتكارات: «صفر إلى واحد» مقابل «واحد إلى عديد»
يمكن رؤية تأثير النقد السليم على التفضيل الزمني وعلى التوجُّهات المستقبلية على أبعاد أكبر من مستوى الادخار فحسب، بحيث يمكننا رؤية ذلك على نوعية المشاريع التي يستثمر فيها المجتمع. ففي ظل نظام من النقد السليم مشابه لأنظمة العالم في أواخر القرن التاسع عشر، يرتفع احتمال مشاركة الأفراد في استثمارات طويلة الأمد، وأن يكون لديهم كميات كبيرة متاحة من رأس المال لتمويل تلك المشاريع التي تحتاج وقتًا طويلًا لجني ثمارها. نتيجةً لهذا، شهدت الحقبة الذهبية في نهاية القرن التاسع عشر بعضًا من أهم الابتكارات في تاريخ البشرية.
ويمكن دعم بيانات «هوبنر» بإلقاء نظرة فاحصة على ابتكارات ما قبل عالم سنة ١٩١٤م، ولا نبالغ بالقول إن عالمنا الحديث قد تمَّ اختراعه في سنوات المعيار الذهبي التي سبقت الحرب العالمية الأولى. والقرن العشرون كان هو القرن الذي صقَل، وطوَّر، وحسَّن، واقتصد وعمَّم ابتكارات القرن التاسع عشر. فعجائب ومعجزات تطويرات القرن العشرين تُسهِّل على المرء نسيان أن الابتكارات الأصلية — وهي الابتكارات التي غيَّرت وحوَّلت العالم — اختُرعت كلها تقريبًا في العصر الذهبي.
وفي كتابه الشهير «من صفر إلى واحد» يناقش «بيتر ثايل» تأثير أصحاب الرؤى الذين يصنعون عالمًا جديدًا بإنتاج أول نموذج ناجح لتقنية جديدة. فالانتقال من العدم إلى وجود نموذج تقني ناجح «صفر إلى واحد» على حد تعبيره، هو أصعب وأهم خطوة نحو الابتكار، في حين أن الانتقال من واحد إلى العديد هو مجرَّد عملية توسيع، وتسويق وتطوير. وقد يصعُب على الشغوفين منا بفكرة التطوُّر تقبُّل فكرة أن عالم النقد السليم ما قبل ١٩١٤م كان عالم الصفر إلى واحد، في حين أن عالم ما بعد ١٩١٤م ذا النقد الذي تُنتجه الحكومة هو عالم الانتقال من واحد إلى العديد. ولا ضَيْر في الانتقال من واحد إلى العديد، لكنه بالتأكيد يدعو إلى التفكير بجدية في سبب عدم وجود المزيد من انتقالات الصفر إلى واحد في نظامنا النقدي الحديث.
فأغلب مظاهر التكنولوجيا التي نستخدمها في حياتنا العصرية تمَّ ابتكارها في القرن التاسع عشر تحت المعيار الذهبي، وتمَّ تمويلها من قِبل المخزون المتزايد باستمرارٍ من رأس المال الذي جمعه المُدخِرون الذين يعملون على تخزين ثروتهم في نقد سليم أو في مخزن قيمة لم ينخفض بسرعة. ويرد هنا مُلخَّص لأهم ابتكارات تلك الفترة:
-
المياه الجارية الساخنة والباردة، والمراحيض الداخلية، وتمديدات الصرف الصحي، والتدفئة المركزية.
إن هذه الابتكارات التي تُعتَبَر أمرًا مُسلَّمًا به لأي شخص يعيش في المجتمع المتحضِّر، هي الفرق بين الحياة والموت بالنسبة لغالبيتنا. وقد كانت هذه الابتكارات العامل الأساسي في القضاء على معظم الأمراض المُعدية على الكوكب، وسمحت بنمو المناطق المتحضِّرة دون ويلات الأمراض الدائمة.
-
الكهرباء، ومحرك الاحتراق الداخلي، والإنتاج الضخم.
بُني مجتمعنا الصناعي الحديث على استخدامٍ متزايد للطاقة الهيدروكربونية، ولولاها لَمَا كان أيٌّ من زخارف وجمال الحياة العصرية ممكنًا، بحيث إن الأساسيات التكنولوجية لهذه الطاقة والصناعة تمَّ ابتكارها في القرن التاسع عشر.
-
السيارات، والطائرات، وقطار الأنفاق في المدن، والمصعد الكهربائي.
يتوجَّب علينا شكر «العصر الجميل» على شوارع مدننا غير المليئة بروث الأحصنة، وعلى قُدرتنا للسفر لجميع أنحاء العالم. فلقد اخترع «كارل بنز» السيارة عام ١٨٥٥م، واخترع الأخوان «رايت» الطائرة عام ١٩٠٦م، واخترع «تشارلز بيرسون» قطار الأنفاق عام ١٨٤٣م، كما اخترع «إليشا أوتيس» المصعد الكهربائي عام ١٨٥٢م.
-
جراحة القلب، وزراعة الأعضاء، واستئصال الزائدة الدودية، وحاضنة الأطفال، والعلاج الإشعاعي، والتخدير، والأسبيرين، وزُمَر الدم ونقل الدم، والفيتامينات، وتخطيط القلب الكهربائي، وسماعة الطبيب.
إن الجراحة والطب الحديث مَدينان أيضًا للعصر الجميل لتوفيره لهم أهم مظاهر تقدُّمهم وتطوُّراتهم؛ فإدخال كلٍّ من خدمات الصرف الصحي الحديث والطاقة الهيدروكربونية الموثوقة سمحت للأطباء بتغيير طريقة عنايتهم بمرضاهم بعد قرون من الإجراءات غير المجدية.
-
الكيماويات المشتقَّة من النفط، والفولاذ المقاوم للصدأ، والأسمدة النيتروجينية.
كل المواد الصناعية التي تجعل حياتنا العصرية ممكنةً انبثقت من ابتكارات العصر الجميل، والتي سمحت بالتصنيع على مستوًى واسع، بالإضافة إلى الزراعة على مستوًى واسع؛ فالبلاستيك وكل ما يُصنع منه أيضًا هو نتاج استخدام المواد الكيماوية المشتقة من النفط.
-
الهاتف، والتلغراف اللاسلكي، وتسجيل الصوت، والتصوير الملوَّن، والأفلام.
في حين أننا نود الاعتقاد بأن عصرنا الحديث هو عصر الاتصالات الواسعة النطاق، لكن في الحقيقة، إن معظم إنجازات القرن العشرين كان هو تطوير ابتكارات القرن التاسع عشر. فأول حاسوب تمَّ تصنيعه كان هو حاسوب «باباج» الذي صمَّمه «تشارلز باباج» عام ١٨٣٣م، وقام ابنه «هينري» بإكماله عام ١٨٨٨م. وقد نُبالغ في قولنا بأن الإنترنت وكل ما يحتويه هو مجرد أجراس وصفارات مضافة إلى ابتكار التلغراف عام ١٨٤٣م، لكن في هذا القول شيء من الحقيقة؛ فالتلغراف هو الذي قام بالتحوُّل الجوهري للمجتمع البشري عبر تمكينه لنا بالتواصل دون الحاجة للنقل المادي للرسائل أو الانتقال المادي للمرسلين، فكانت تلك اللحظة هي صفر إلى واحد بالنسبة إلى الاتصالات، وكل ما تبعها بالرغم من كل روعته، كان تطويرًا من واحد إلى العديد.
(٤) الازدهار الفني
إن مساهمات النقد السليم للازدهار البشري ليست محصورةً على التقدُّم العلمي والتكنولوجي؛ بل يمكن رؤيتها بوضوح أيضًا في العالم الفني. فليس مصادفةً أن فنانَي «فلورنسا» و«البندقية» كانوا قادة النهضة؛ حيث قادت هاتان المدينتان أوروبا لتبَني النقد السليم. فالمدارس الباروكية، والكلاسيكية الجديدة، والرومانسية، والواقعية، وما بعد الانطباعية كانت مدارس مموَّلةً من قِبل رعاة أثرياء يملكون نقدًا سليمًا، ولديهم تفضيل زمني منخفض جدًّا وصبر كافٍ لينتظروا سنوات، وحتى عقود، لإتمام روائع فنية ستبقى قرونًا من الزمن. فقِبابُ كنائس أوروبا المذهلة، التي بُنيت وزُيِّنت على مدى عقود من عمل دقيق مُلهِم من قِبَل معماريين وفنيين لا شبيه لهم مثل «فيليبو برونليسكي» و«مايكل أنجلو»، تمَّ تمويلها أيضًا بنقد سليم من قِبل رعاة ذوي تفضيل زمني منخفض جدًّا. فالطريقة الوحيدة لإذهال أولئك الرعاة كانت بإنجاز عمل فني سيعيش طويلًا؛ ليُخلِّد أسماءهم كمالكين لمجموعات رائعة وكرعاة لفنانين عظماء. وقد يكون هذا هو سبب رسوخ آل «ميديتشي» من فلورنسا بالذاكرة بأنهم رعاة فنون أكثر من تذكُّرهم بابتكاراتهم المصرفية والمالية، بالرغم من أن نتائج الأخيرة قد تكون أكثر أهمية.
كذلك الأمر، فالأعمال الموسيقية ﻟ «باخ»، و«موزارت»، و«بيتهوفين»، ومُلحِّني عصر النهضة، والعصر الكلاسيكي والعصر الرومانسي تتفوَّق على الأصوات الحيوانية الحالية التي تُسجَّل على شكل عينات من بضع دقائق، تُنتجها استوديوهات عديدة بشكل سريع، وتستفيد من بيع الناس ما يلامس غرائزهم الأساسية. ففي حين كانت موسيقى العصر الذهبي تلامس روح المرء وتوقظه ليُفكِّر في نداءات أرقى من ضجيج الحياة اليومية الدنيوي، إلا أن ضجيج الموسيقى الحديثة يلامس غرائز المرء الحيوانية الأساسية، ليُشتِّته عن حقائق الحياة بدعوته إلى الانغماس في الملذَّات الحسية الفورية دون الاهتمام بالعواقب الطويلة الأمد أو أي شيء قد يكون أكثر عمقًا. فلقد كان النقد الصعب هو من مَوَّل «براندينبرج كونسيرتو» ﻟ «باخ»، في حين مَوَّل النقد السهل رقصات هز المؤخرة ﻟ «مايلي سايرس».
ففقط عَبْر هذه المجهودات الدقيقة والبالغة الاهتمام بالتفاصيل على مدى عقود من الزمن، نجح أولئك العباقرة بإنتاج تلك التحف الفنية مُخلِّدين أسماءهم كأسياد مهنتهم. أما في عصر النقد غير السليم، فلا يملك أي فنان تفضيلًا زمنيًّا منخفضًا ليعمل بجد لوقت طويل كما عمل مايكل أنجلو أو باخ ليتعلَّما مهنتهما جيدًا أو ليمضيا زمنًا طويلًا في إتقانها. إن جولةً في معرض للفنون الحديثة ستُظهِر لنا أعمالًا فنية لا يتطلَّب إنتاجها أكثر من جهد أو موهبة طفل في السادسة من عمره وهو يشعر بالضجر.
فاستبدل الفنانون المعاصرون الحرفة وساعات التدريب الطويلة بالغطرسة، وقوة الصدمة، والسخط، والقلق الوجودي؛ كسُبلٍ لجذب المُشاهدين إلى تقدير فنهم، وكثيرًا ما يُضيفون تظاهرًا بالمثاليات السياسية التي تكون عادةً من التعدُّدية الماركسية الصبيانية؛ وذلك ليَدَّعوا العمق، لدرجةٍ يمكن القول إن أي شيء جيد عن «الفن» الحديث، هو أنه فن ذكي، لكن على شكل خدعة أو دُعابة. فلا يوجد أي شيء جميل بالنسبة إلى ناتج أو عملية تشكيل معظم الفن الحديث؛ لأنه أُنتج خلال ساعات فقط من قبل فاشلين كسولين عديمي الموهبة لم يُتعبوا أنفسهم يومًا في التمرُّن على حرفتهم. فالتظاهر الرخيص، والفُحْش، وقوة الصدام بالقيم؛ تجذب الانتباه لهذا الفن الحديث الزائف، أضف إلى ذلك السجالات الطويلة واللاذعة التي تُهين الآخرين لأنهم لا يفهمون هذا الفن الزائف.
ومع استبدال النقد السليم بالنقد الحكومي، تمَّ استبدال الرُّعاة ذوي التفضيل الزمني المنخفض والذوق الرفيع ببيروقراطيين حكوميين أصحاب أجندات سياسية فظَّة كذوقهم الفني. لهذا وبشكل طبيعي، لم تعد أمور الجمال أو الديمومة أمورًا مهمة؛ حيث إنه تمَّ استبدالهما بالثرثرة السياسية والقدرة على إذهال البيروقراطيين الذين يُسيطرون على معظم موارد التمويل للمعارض والمتاحف الكبيرة، والتي أصبحت احتكارًا محميًّا من الحكومة للذوق ومعايير التعليم الفنية. فالمنافسة الحرة بين الفنانين والمتبرِّعين استُبدلت اليوم بتخطيط مركزي من قِبل بيروقراطيين عديمي المسئولية، وبالطبع بنتائج كارثية متوقَّعة. ففي الأسواق الحرة، الرابحون هم دائمًا من يقدِّمون السلع التي يعتبرها الناس الأفضل، ولكن عندما تكون الحكومة مسئولةً عن تحديد الرابحين والخاسرين، يصبح الأشخاص الذين ليس لديهم أي شيء جيد ليفعلوه في حياتهم سوى العمل كبيروقراطيين حكوميين هم حكام الذوق والجمال. وبدلًا من أن يتم تحديد نجاح الفن من قِبل الأفراد الذين نجحوا في تحصيل ثروة عبر عدة أجيال من الذكاء والتفضيل الزمني المنخفض، أصبح يُحدَّد من قبل أشخاص ذوي انتهازية تسمح لهم انتهازيتهم بصعود النظام السياسي والبيروقراطي بأفضل شكل ممكن. ومعرفة هذا النوع من الأشخاص سطحيًّا كفيلة بالتفسير لأي شخص كيف وصلنا لفظاعة ما وصل الفن الحديث إليه.
إن المذهل في هذا الأمر ليس هو تفوُّق التافهين أمثال روثكو في عالم الفن الحديث فحسب، بل الغياب الواضح للتحف الفنية العظيمة التي يمكن مقارنتها بأعمال الماضي العظيمة. فاليوم لا بُد للمرء من ملاحظة قِلة الأبنية المشابِهة لكنيسة سيستين في أي مكان، أو عدم وجود وفرة من التحف الفنية التي يمكن مقارنتها بلوحات مهمة كأعمال «ليوناردو»، و«رافائيل»، و«رامبرانت»، و«كارفاجيو»، أو «فيرمير». ويصبح الأمر أكثر إذهالًا عندما يدرك المرء أن تطوُّرات التكنولوجيا والتحوُّل الصناعي تجعل إنتاج أعمال كهذه أسهل ممَّا كانت عليه في العصر الذهبي.
فكنيسة سيستين ستُبهر من يراها، وإن أي شرح إضافي لمحتواها وطريقة رسمها وتاريخها سيُحوِّل الانبهار إلى تقدير لعمق الفكرة، والحرفة، والعمل الشاق الذي استُثمر فيها. فقبل أن يُصبحوا مشهورين، أمكن حتى لأكثر نُقَّاد الفن ادعاءً أن يمروا بلوحةٍ لروثكو مُهمَلة على الرصيف، ولا يلاحظوها حتى، ناهيك عن حملها وأخذها إلى البيت. لكن فقط وبعد أن أمضت دائرة من النقاد السافلين ساعات طويلةً في إلقاء المواعظ للترويج لهذا العمل، بدأ الطفيليون والطامحون والأثرياء الجدد بالادعاء أن لها معنًى أعمق، وبدءوا بإنفاق نقد حديث غير سليم عليها.
فلقد ظهرت قصص عديدة على مر السنين عن مخادعين قاموا بوضع أغراض عشوائية في متاحف الفن الحديث، ليتجمَّع حولها فقط محبو الفن الحديث منبهرين، مُعبِّرين عن الفراغ الكلي للذوق الفني في عصرنا. لكن ليس هناك ما يُعبِّر عن قيمة الفن الحديث أكثر من الحراس الكثيرين لمعارض الفن الحديث في أنحاء العالم، الذين يُظهرون بصيرةً وإخلاصًا رائعًا في عملهم، حيث قاموا وبشكل مُتكرِّر بإلقاء نتاج فنٍّ حديثٍ باهظ الثمن في القُمامة إلى حيث ينتمي. فبعضٌ من أهم رموز «فناني» عصرنا، أمثال «داميان هيرست»، و«غوستاف» و«ميتزغر»، و«تريسي إمين»، والثنائي الإيطالي «سارا غولدشميد» و«إليونورا كيارا»، لاقَوا هذا التقييم من قِبل حراسٍ أكثر حكمةً من الأغنياء المعاصرين فاقدي الثقة بأنفسهم، والذين أنفقوا ملايين الدولارات على ما رماه الحراس.
فلِكونها عارًا لعصرنا قد تمَّت بتمويل حكومي، يمكن تبرير تجاهل كل هذه الخربشة العديمة القيمة ورؤية ما هو قيِّم خلفها. ففي النهاية، لن يحكم أحد على دولة مثل الولايات المتحدة وفقًا لتصرُّفات موظفي دائرة المركبات المتحرِّكة عديمي الفائدة الذين يأخذون قيلولةً أثناء دوامهم، ويُفرغون إحباطهم على زبائنهم العاجزين. وربما لا يجب أن نحكم أيضًا على عصرنا بِناءً على عمل موظفين حكوميين ينشرون قصصًا عن أكوام أوراق عديمة الفائدة كما لو أنها كانت إنجازات فنية. لكن ومع ذلك، يتضاءل أعداد هذه الأشياء التي نستطيع إيجادها مقارنةً بالماضي؛ ففي كتابه «من الفجر إلى الانحدار»، الذي يقدِّم نقدًا لاذعًا عن الثقافة «الشعبية» الحديثة، يقول «جاك برازون»: «إن كل ما ساهم به وصنعه القرن العشرون هو التحسين عن طريق «التحليل» أو النقد عن طريق التقليد والمحاكاة الساخرة.» فعملُ برازون لاقى صدًى كبيرًا لدى الكثير من هذا الجيل لأنه احتوى على درجة كبيرة من الحقيقة المؤسفة، فما إن يتجاوز المرء انحيازه للموروث ليؤمن بحتمية التطور، فلا مفر من الاستنتاج بأن جيلنا هو جيل أقل جودةً من أسلافه في الثقافة وعملية الصقل، تمامًا كما كان الرومان عُرضةً لديوكلتيانوس، الذي كان يحيا من إنفاقه التضخمي وهو مخمور على المظاهر الوحشية في المدرَّج الروماني؛ «الكولوسيوم»، ولا يمكن مقارنته بالرومان العظماء في عصر قيصر، الذين كان عليهم كسب نقودهم الذهبية لعُملة الأوريوس بعمل جاد وشاق.