نظام المعلومات الرأسمالية
مَنْع الحكوماتِ الشركاتِ والمشاريعَ الحرة الحقَّ في إنتاج أموال جيدة هو ما يُسبِّب موجات من البطالة، وليست «الرأسمالية» هي من تسبِّب ذلك.
إن وظيفة النقد الأساسية كوسيط للتبادل هي السبب الذي يسمح للجهات الاقتصادية الفاعلة بالتخطيط وإجراء الحسابات الاقتصادية؛ فعند انتقال الإنتاج الاقتصادي من مرحلته الشديدة البدائية، خصوصًا عند عدم وجود إطار مرجعي ثابت يمكن استخدامه لمقارنة قيمة الأغراض المختلفة فيما بينها، تُصبح عملية الإنتاج والاستهلاك واتخاذ قرارات التجارة أكثر صعوبة. إن هذه الخاصية كوحدة حساب هي ثالث وظيفة للنقد بعد كونه وسيطًا للتبادل ومخزنًا للقيمة. ولفهم أهمية هذه الخاصية بالنسبة إلى النُّظم الاقتصادية، فإننا سنقوم باتباع خُطى الحكماء في سعيهم لفهم الأسئلة الاقتصادية، وبمعنًى آخر، سنلجأ إلى أعمال الاقتصاديين النمساويين الراحلين.
إن أُطروحة فريدريك هايك «استخدام المعرفة في المجتمع»، قد تكون إحدى أهم الأُطروحات الاقتصادية التي تمَّ نشرها على الإطلاق. فعلى عكس الأبحاث الأكاديمية النظرية الحديثة غير الهامة والتي لا يقرؤها أحد، ما تزال الصفحات الإحدى عشرة من هذه الأُطروحة تُقرأ على نطاق واسع حتى بعد مرور ٧٠ سنةً على نشرها، كما أنها تركت بصمةً دائمة في حياة وأعمال الكثيرين في أنحاء العالم، ربما كان أكثرها أهميةً هو دورها في تأسيس أحد أهم المواقع الإلكترونية على الإنترنت، وأكبر كتلة مجتمعة من المعرفة في تاريخ البشرية؛ حيث صرَّح «جيمي ويلز» مؤسس «ويكيبيديا» أن فكرة إنشاء «ويكيبيديا» تبادرت إلى ذهنه بعد أن قرأ أطروحة هايك وتفسيره للمعرفة.
يشرح هايك، وعلى عكس عملية التعامل الشائعة والأولية مع الموضوع، أن المشكلة الاقتصادية ليست هي مشكلة تخصيص الموارد والمنتجات، لكنها وبدقة أكبر، هي مشكلة تخصيص هذه الموارد والمنتجات باستخدام معرفة لا يمكن لأي فرد أو كِيان ما أن يحيط بها جميعها بمفرده. فالمعرفة الاقتصادية لحالات الإنتاج والتوفر النسبي مع وفرة عوامل الإنتاج وتفضيلات الأفراد، هي ليست معرفةً موضوعية يمكن أن يحيط بها كِيان بمفرده. ويمكننا القول إن معرفة الظروف الاقتصادية بطبيعتها هي معرفة مُوزَّعة وكامنة لدى الناس المعنيين، وذلك من خلال اتخاذهم لقراراتهم الفردية. فيُمضي كل شخص وقته في فهم وتعلُّم المعلومات الاقتصادية المفيدة له، ويُمضي الأفراد الأذكياء والكادحون عقودًا في تعلُّم الحقائق الاقتصادية لصناعاتهم؛ وذلك لكي يصلوا لمنصب يمنحهم سُلطةً على عمليات إنتاج سلعة واحدة فقط. لهذا، من غير المتصوَّر الاستعاضة عن كل تلك القرارات الفردية وتجميع كل المعلومات في عقل فرد واحد ليُجري الحسابات نيابةً عن الجميع، كما أنه لا حاجة لهذا السعي الجنوني لتركيز كل المعرفة في يدَي صانع قرار وحيد.
ففي نظام اقتصادي قائم على حرية السوق، تكون الأسعار بمثابة المعرفة والإشارات التي تنقل وتُرسل المعلومات، وبهذا يستطيع كل صانع قرار اتخاذ قراراته بتفحُّص أسعار السلع المعنية، والتي تحمل خلاصة كل ظروف وحقائق السوق في متغيِّر عملي بالنسبة إلى ذلك الفرد. وبدورها، ستؤدي قرارات كل فرد دورًا في تحديد السعر، ولا تستطيع أية سلطة مركزية استيعاب كل المعلومات المُحدِّدة للسعر أو استبدال عملها.
فمع الارتفاع الطفيف في السعر، أصبح لكل المعنيين في صناعة النحاس في كافة أنحاء العالم حافز ليتصرَّفوا بطريقة تُخفِّف من عواقب الزلزال السلبية؛ فالمُنتجون سيوفِّرون المزيد، في حين سيطلب المستهلكون كميات أقل. بالنتيجة، عَجْز الإنتاج الذي سبَّبه الزلزال لم يكن كارثيًّا كما كان من المحتمَل حدوثه، والأرباح الإضافية من الأسعار المرتفعة قد تساعد عُمال المناجم على إعادة بناء البنية التحتية الخاصة بهم، وفي غضون أيام، عاد السعر إلى طبيعته. إن هذه الاضطرابات الفردية أصبحت أقل أثرًا من السابق بعد أن أصبحت الأسواق العالمية أكبر وأكثر اندماجًا، حيث أصبح لدى صُناع السوق العمق والسيولة الكافية ليتجاوزوها بسرعة وبأقل الخسائر.
ولفهم قوة الأسعار كطريقة لإيصال ونقل المعرفة، تخيَّل أنه في اليوم الذي سبق الزلزال أن صناعات النحاس بأكملها توقَّفت عن كونها مؤسسة سوق، وتحوَّلت بدلًا من ذلك لتُصبح تحت سلطة وكالة مختصة، بمعنى أن الإنتاج سيتم تخصيصه دون الاستعانة أو الرجوع إلى الأسعار. كيف ستكون ردة فعل هذه الوكالة على الزلزال؟ كيف ستُقرِّر من يتوجَّب عليه زيادة إنتاجه من بين كل مُنتجي النحاس الكثيرين في أنحاء العالم، وما هي نسبة الزيادة؟ ففي نظام مرتبط بالأسعار، ستنظُر إدارة كل شركة إلى أسعار النحاس وأسعار كل مستلزمات إنتاجه لتصل وتجد مستوى الإنتاج الجديد الأكثر فعالية. فيعمل الكثير من الخبراء عقودًا من الزمن في شركة ليتوصَّلوا إلى هذه الإجابات بمساعدة الأسعار؛ فهؤلاء الأفراد يعرفون شركتهم أكثر من المخطِّطين المركزيين الذين لا يستطيعون الاعتماد على الأسعار. كذلك أيضًا، كيف سيقرِّر المخطِّطون مَن تحديدًا من مستهلكي النحاس عليه تخفيض استهلاكه، وما هي كمية التخفيض خصوصًا عندما لا يكون هناك أسعار تسمح للمستهلكين بكشف تفضيلاتهم؟
لهذا، مهما تكن كمية المعرفة والبيانات الموضوعية التي ستجمعها الوكالة، فلن يكون لدى تلك الوكالة أي إلمام أبدًا بكل المعارف المُوزَّعة التي تؤثِّر في القرارات التي يتخذها كل فرد، بما فيها تفضيلاتهم وتقييمهم للأشياء. بالتالي، إن الأسعار ليست مجرَّد أداة ليكسب منها الرأسماليون، بل إنها نظام المعلومات الخاص بالإنتاج الاقتصادي الذي ينقُل المعلومات عبر العالم ويُنظِّم عمليات الإنتاج المعقَّدة. فالنظام الاقتصادي الذي يحاول الاستغناء عن الأسعار سيُسبِّب انهيارًا كاملًا للنشاط الاقتصادي، وسيُعيد المجتمع البشري إلى حالته البدائية.
فالأسعار هي الآلية الوحيدة التي تسمح بالتجارة والتخصُّص في اقتصاد سوقي. ودون اللجوء إلى الأسعار، لن يتمكَّن الناس من الاستفادة من تقسيم العمل والتخصُّصات إلا بقدر صغير بدائي للغاية. حيث إن التجارة تسمح للمُنتجين برفع مستويات معيشتهم عن طريق التخصُّص بالسلع التي يمتلكون فيها ميزةً نسبية، وهي سلع يمكنهم إنتاجها بسعر منخفض نسبيًّا، ويمكن للناس التعرف على الميزة النسبية الخاصة بهم والتخصُّص بها فقط من خلال أسعار دقيقة يُعبَّر عنها بوسيط تبادل شائع. فالتخصُّص نفسه الذي تقوده مؤشرات الأسعار سيؤدِّي إلى تحسين جودة إنتاج المنتجين لتلك السلع عن طريق التعلُّم بالممارسة، والأهم من ذلك، جمعُ رأس مال متعلِّق به. في الحقيقة، إن التخصُّص سيسمح لكل مُنتِج بجمع رأس مال حسب إنتاجه؛ ممَّا سيؤدِّي لزيادة إنتاجيته الهامشية فيه، وذلك كله بغض النظر عن الاختلافات الكامنة في الأسعار النسبية. وهذا الأمر سيُتيح للمنتجين إمكانية تقليل كُلفة الإنتاج الهامشية، وسيسمح لهم بالتجارة مع أولئك الذين يجمعون رأس مال بغرض التخصُّص في سلع أخرى.
(١) اشتراكية السوق الرأسمالي
وفي النظم الاشتراكية، تملك وتسيطر الحكومة على وسائل الإنتاج، فتصبح مباشرةً هي البائع والمشتري الوحيد لكل السلع الرأسمالية في الاقتصاد. إن هذه المركزية تُعيق عمل السوق الحقيقة، ممَّا يجعل القرارات السليمة المبنية على الأسعار أمرًا مستحيلًا. فدون وجود سوق لرأس المال تستطيع فيه أطراف مستقلة عرض أسعارهم، لا يمكن أن يتواجد سعر لرأس المال بالمجمل أو للسلع الرأسمالية الفردية. ودون وجود أسعار للسلع الرأسمالية تعكس العرض والطلب النسبي عليها، لن يكون هناك طريقة عقلانية لتحديد الاستخدامات الأكثر إنتاجيةً لرأس المال، ولا طريقة عقلانية لتحديد كمية إنتاج كل سلعة رأسمالية. ففي عالَم تمتلك فيه الحكومة مصنع الفولاذ، بالإضافة إلى كل المصانع التي تستخدم الفولاذ في إنتاج سلع رأسمالية (إنتاجية) واستهلاكية متعدِّدة، لن يظهر سعرٌ للفولاذ لأي من السلع التي يُستخدم في إنتاجها، وبالتالي، من المستحيل معرفة استخداماته الأكثر أهميةً وقيمة. فكيف يمكن للحكومة أن تحدِّد إذا كانت كمياتها المحدودة من الفولاذ يجب أن يتم استخدامها في صناعة السيارات أو القطارات، علمًا أنها هي أيضًا من يملك مصانع السيارات والقطارات، بل وتفرض مرسومًا على المواطنين يقضي بعدد السيارات والقطارات التي يمكنهم امتلاكها! فدون وجود نظام أسعار لكي يستطيع المواطنون من خلاله اختيار السيارات أو القطارات، تستحيل معرفة التخصيص الأمثل والاستخدام الأهم للفولاذ. واستطلاع رأي المواطنين بهذه الحالة عديم الجدوى لأنه لا قيمة لخيارات الناس دون سعر لكي يفكِّروا بتكلفة الفرصة البديلة الحقيقية للمقايضة بين الخيارَين؛ حيث إن استطلاع الرأي الذي يفتقر للأسعار سيكشف لنا أن الجميع سيرغب بسيارة فيراري، لكن بالطبع عندما يُضطر الناس لدفع الثمن، ستختار قلة فقط سيارة الفيراري. ولهذا، لا يمكن للمخطِّطين المركزيين معرفة تفضيلات كل فرد ولا تخصيص الموارد بطريقة تُلبِّي احتياجات الفرد بأفضل شكل ممكن.
كذلك الأمر، فعندما تملك الحكومة كل مستلزمات عمليات الإنتاج في الاقتصاد، فإن غياب آلية الأسعار سيؤدِّي إلى استحالة عملية تنظيم وتنسيق إنتاج السلع الرأسمالية المختلفة بالكميات الصحيحة؛ وذلك لكي تسمح لكل المصانع بالعمل وأداء وظيفتها. لهذا، يمكن القول إن الندرة هي نقطة بداية كل اقتصاد، وليس ممكنًا إنتاج كميات غير محدودة من كل المستلزمات، بل يجب أن تُجرى مقايضات؛ لذا فإن تخصيص رأس المال، والأرض واليد العاملة لإنتاج الفولاذ، ستكون على حساب صنع المزيد من النحاس؛ فعندما تتنافس المصانع في الأسواق الحرة على حيازة النحاس والفولاذ، ستبدأ أمور الوفرة والندرة بالتشكُّل في تلك الأسواق، وستسمح الأسعار لصانعي النحاس والفولاذ بالتنافس على الموارد اللازمة لإنتاجهما، ولا يعرف المخطَّط المركزي شيئًا عن شبكة التفضيلات وتكاليف الفرصة البديلة بين القطارات، والسيارات، والنحاس، والفولاذ، واليد العاملة، ورأس المال والأرض. فمن دون وجود الأسعار، يستحيل حساب ومعرفة الكيفية لتخصيص هذه الموارد لإنتاج المنتجات المثالية، والنتيجة هي انهيار كامل في الإنتاج.
إن هذا كله مجرد جانب واحد من مشكلة الحساب متعلِّقة فقط بإنتاج سلع موجودة مسبقًا في سوق ثابت، والمشكلة تتضح أكثر عندما يتذكَّر المرء أن لا شيء ثابت في العلاقات البشرية؛ حيث إن البشر يسعَون دائمًا إلى تحسين وضعهم الاقتصادي لإنتاج سلع جديدة، وإيجاد طرق أكثر وأفضل لإنتاج السلع. فدافع المرء الأزلي للإصلاح، والتحسُّن، والابتكار، يمثِّل المشكلة الأكثر استعصاءً للاشتراكية. فحتى إن نجح نظام التخطيط المركزي في إدارة اقتصاد ثابت، فلا قدرة له على التأقلم مع التغيير أو السماح بتنظيم المشاريع وريادة الأعمال. فكيف يمكن لنظام اشتراكي إجراء حسابات للتقنيات والابتكارات غير الموجودة، وكيف يمكن تخصيص عوامل إنتاج لها إذا لم يكن هناك إشارة على نجاح هذه المنتجات؟
أولئك الذين لا يميِّزون بين ريادة الأعمال والإدارة، يغضُّون الطرف عن المشكلة الاقتصادية … فالنظام الرأسمالي ليس نظامًا إداريًّا؛ إنه نظام ريادي.
إن الفكرة من هذا التوضيح ليست هي انتقاد النظام الاقتصادي الاشتراكي الذي لا يأخذه أي بالغ رزين على محمل الجد في هذا العصر بعد الفشل الشامل الدموي الذريع الذي حقَّقه في كل مجتمع طُبِّق فيه في القرن الأخير، بل إن الفكرة هي توضيح الفرق بين طريقتَين في تخصيص رأس المال واتخاذ قرارات الإنتاج؛ ألَا وهما الأسعار والتخطيط. فبينما لا تمتلك معظم دول العالم اليوم لجنة تخطيط مركزي مسئولةً عن التوزيع المباشر للسلع الرأسمالية، إلا أنه مع ذلك يوجد في كل دولة في العالم لجنة تخطيط مركزي لأهم الأسواق على الإطلاق، ألَا وهي سوق رأس المال؛ فالأسواق الحرة هي أسواق يكون للمشترين والبائعين فيها حرية التبادل وفقًا لشروطهم الخاصة، حيث يكون الدخول والخروج من السوق مجانيًّا بمعنى أن الأطراف الثالثة لا تمنع دخول المشترين والبائعين إلى السوق، ولا تقوم هذه الأطراف الثالثة بتقديم الدعم المادي للمشترين والبائعين الذين لا يستطيعون إجراء التبادلات في السوق. ولا يوجد اليوم سوق رأسمالية بهذه الخصائص في أية دولة في العالم.
فالأسواق الرأسمالية في الاقتصاد الحديث تتألَّف من أسواق للأموال القابلة للإقراض، وعندما تصبح بنية الإنتاج أكثر تعقيدًا وأطول أمدًا، يتوقَّف الأفراد عن استثمار مُدَّخراتهم بأنفسهم، ويقومون بإقراضها عبر مؤسسات مُتعدِّدة لشركات مختصة بالإنتاج، ويكون مُعدَّل الفائدة هو السعر الذي يتلقَّاه المُقرِض لقاء إقراض موارده المالية، وهو السعر الذي يدفعه المقترض ليحصل عليها.
ففي سوق حرة للأموال القابلة للإقراض، تزداد كمية الأموال المعروضة مع ارتفاع مُعدَّل الفائدة كما هو الحال في كل منحنيات العرض. بمعنًى آخر، كلما ارتفع معدل الفائدة، ازداد ميل الناس إلى الادخار وتقديم مدخراتهم إلى منظمي المشاريع والشركات. لكن بالمقابل، الطلب على القروض مرتبط عكسيًّا بمعدل الفائدة؛ أي إن رُواد المشاريع والشركات سيرغبون باقتراض مبالغ أقل عندما يرتفع معدل الفائدة.
ومعدل الفائدة في سوق حرة لرءوس الأموال سيكون إيجابيًّا؛ لأن التفضيل الزمني الإيجابي لدى الناس يعني أن لا أحد سيتخلَّى عن أمواله إلا إذا حصل على المزيد منها في المستقبل. وغالبًا، المجتمعات التي يَكثُر فيها أصحاب التفضيل الزمني المنخفض يكون لديها الكثير من المُدَّخرات، مُقلِّلةً بذلك مُعدَّل الفائدة، ومُؤمِّنةً رءوس أموال كبيرة كي تستثمرها الشركات، ممَّا يؤدِّي إلى نمو اقتصادي كبير في المستقبل. ولكن عند ارتفاع التفضيل الزمني في المجتمع، فإن احتمال ادخار الأفراد يقل، وترتفع معدلات الفائدة، وتقل رءوس الأموال التي يستطيع المنتجون اقتراضها. وبهذا، إن المجتمعات التي تحيا بسلام، وفيها حقوق ملكية آمنة، ودرجة كبيرة من الحرية الاقتصادية، غالبًا ما تكون ذات تفضيل زمني منخفض؛ حيث تؤمِّن هذه المجتمعات حافزًا كبيرًا للأفراد لتقليل الحسم على مستقبلهم. لدرجة أن اقتصاديًّا نمساويًّا آخر، «يوجين فون بوم-بافرك»، ذهب إلى أن معدل الفائدة في دولة ما يعكس مستواها الثقافي، وقال: «كلما ارتفع ذكاء الأفراد وقوتهم الأخلاقية، ازداد ادخارهم وانخفض معدل الفائدة.»
يجب فهم معلومة أساسية عن النظام المالي الحديث؛ وهي أن المصارف تستحدث النقد كلما شاركت في عمليات الإقراض؛ ففي نظام مصرفي احتياطي جزئي مشابه للموجود في كل أنحاء العالم اليوم، لا تُقرِض المصارف مُدَّخرات زبائنها فحسب، بل تقوم أيضًا بإقراض الودائع الخاصة بهم تحت الطلب. بمعنًى آخر، قد يطالب المُودِع بالمال في أي وقت، في حين تكون نسبة كبيرة من هذا المال قد مُنِحت كقرض لمقترض آخر. وعن طريق إعطاء المال للمقترض مع إبقائه متاحًا للمودع، يستحدث المصرف نقدًا جديدًا ممَّا يؤدي إلى ارتفاع العرض النقدي، ويشكِّل هذا الأمر أساس العلاقة بين العرض النقدي ومعدلات الفائدة؛ فعندما تنخفض معدلات الفائدة، يزداد الإقراض؛ ممَّا يؤدي إلى زيادة الاستحداث النقدي وارتفاع عرضه. بالمقابل إن ارتفاع معدلات الفائدة ستؤدِّي إلى انخفاض الإقراض وتقلُّص العرض النقدي، أو على الأقل ستقلِّل معدل نموه.
(٢) الدورات الاقتصادية والأزمات المالية
بينما يحدِّد المشاركون في عمليات السوق عرض الأموال القابلة للإقراض في سوق حرة لرأس المال بِناءً على معدل الفائدة، إلا أنه في اقتصاد قائم على بنك مركزي وعلى النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي، يُدار عرض الأموال القابلة للإقراض من قِبل لجنة من الاقتصاديين تحت تأثير السياسيين والمصرفيين ومثقفي التلفاز، وأحيانًا بشكل مدهش الجنرالات العسكريين.
إن أية معرفة طفيفة بالاقتصاد ستجعل من مخاطر التحكُّم بالأسعار أمرًا جليًّا وواضحًا. فإن قرَّرت الحكومة تحديد سعر التفاح ومنعت تغييره، ستكون النتيجة إمَّا شحًّا أو فائضًا، وخسارات كبيرة للمجتمع بأكمله نتيجةً لزيادة أو نقص الإنتاج. يحدث شيء مشابه في الأسواق الرأسمالية، لكن الآثار تكون أكثر ضررًا لأنها تؤثِّر في كل قطاعات الاقتصاد؛ وذلك لأن رأس المال له دور في إنتاج كل السلع الاقتصادية.
ومن المهم أولًا فهم الفرق بين الأموال القابلة للإقراض والسلع الرأسمالية الحقيقية؛ ففي اقتصاد سوق حرة بنقد سليم، يجب على المدخرين تأجيل الاستهلاك من أجل الادخار. والمال الذي يُودَع في مصرف كمدخرات سيكون مالًا لا يمكن استهلاكه من قِبل أشخاص يؤجِّلون المتعة التي قد يقدِّمها الاستهلاك لهم كي يحصلوا على متعة أكبر في المستقبل. بهذا الأمر، تصبح كمية المدخرات هي نفسها كمية الأموال القابلة للإقراض المتاحة للمنتجين لكي يقترضوها، ويرتبط توفر السلع الرأسمالية ارتباطًا وثيقًا بتخفيض الاستهلاك؛ فالموارد المادية الفعلية، واليد العاملة، والأرض، والسلع الرأسمالية؛ ستنتقل من كونها مُوظَّفةً لتأمين سلع استهلاكية نهائية إلى إنتاج السلع الرأسمالية. وبهذا، يتم توجيه العامل الهامشي من بيع السيارات إلى وظيفة في مصنع السيارات، بمعنى أنه سيتم بذر بذور الذرة في الأرض بدلًا من أكلها.
إن الندرة هي النقطة الأساسية في بداية كل اقتصاد، وأهم أثر لها هي الفكرة بأن لكل شيء تكلفة فرصة بديلة؛ ففي السوق الرأسمالية، تكون تكلفة الفرصة البديلة لرأس المال هي الاستهلاك المُتنازَل عنه، وتكلفة الفرصة البديلة للاستهلاك هي الاستثمار الرأسمالي المتنازَل عنه، ومعدل الفائدة هو السعر الذي ينظِّم هذه العلاقة؛ فعندما يطالب الناس بزيادة الاستثمارات، يرتفع معدل الفائدة مُحفِّزًا عددًا أكبر من المُدخرين ليدخروا المزيد من أموالهم. أما عندما ينخفض معدل الفائدة، فإنه يحفِّز المستثمرين على المشاركة في المزيد من الاستثمارات، وعلى الاستثمار في طُرق إنتاج متقدمة تكنولوجيًّا بآفاق زمنية أطول. وبالتالي، إن معدل الفائدة المنخفض يسمح باستخدام وسائل إنتاج أطول أمدًا وأكثر إنتاجية؛ فينتقل المجتمع من الصيد باستخدام الصنارة إلى الصيد بقوارب كبيرة تعمل على الوقود.
وما دام البنك المركزي يُدير العرض النقدي ومعدل الفائدة فسيكون هناك تناقض حتمي بين المدخرات والأموال القابلة للإقراض؛ فالبنوك المركزية بشكل عام تحاول تحفيز النمو الاقتصادي والاستثمارات وزيادة الاستهلاك؛ ولذلك تميل إلى زيادة العرض النقدي وتخفيض معدل الفائدة؛ ممَّا يجعل كمية الأموال القابلة للإقراض أكبر من كمية المدخرات. ومع معدلات الفائدة هذه المنخفضة صنعيًّا، تأخذ الأعمال والمشاريع التجارية قروضًا (ديونًا)، لتبدأ مشاريعًا أكثر ممَّا وضع المدخرون جانبًا لتمويل تلك الاستثمارات؛ أي إن قيمة الاستهلاك المؤجَّل أصغر من قيمة رأس المال المُقترَض. ودون تأجيل استهلاك كافٍ، لن يكون هناك ما يكفي من رأس المال، والأرض، واليد العاملة لتحويلها من السلع الاستهلاكية إلى سلع رأسمالية رفيعة المستوى، وذلك في مراحل الإنتاج الأولية. ففي نهاية الأمر، لا توجد وجبة غداء مجانية، وإن قلَّ ادخار المستهلكين فحتمًا ستقل رءوس الأموال المتاحة للمستثمرين؛ فعملية إصدار واستحداث الأوراق الجديدة والقيام بإدخالات رقمية لهذه الأوراق لسد النقص الحاصل في المدخرات لن تزيد بشكل سحري من مخزون رأس المال المادي، بل ستقوم بخفض قيمة العرض النقدي الموجود حاليًّا، وستُشتِّت الأسعار.
ولا يظهر نقص رأس المال هذا على الفور؛ لأن المصارف والبنك المركزي تستطيع إصدار ما يكفي من هذا النقد للمقترضين؛ فهذه في نهاية الأمر هي الميزة الرئيسية لاستخدام النقد غير السليم. ولكن بالطبع سيكون هذا التلاعب بسعر رأس المال مستحيلًا في اقتصاد ذي نقد سليم؛ فما إن يتم ضبط معدل الفائدة ليصبح منخفضًا بشكل صنعي، فإن نقص المدخرات في المصارف سينعكس بانخفاض رأس المال المتاح للمقترضين؛ ممَّا سيؤدي إلى ارتفاع في معدل الفائدة، الأمر الذي سيُقلل من الطلب على القروض، ويرفع من عرض المدَّخرات حتى يتساويا.
إن النقد غير السليم يجعل هذا التلاعب ممكنًا، لكن بالطبع لمدة قصيرة فقط؛ حيث إنه من غير الممكن خداع الواقع إلى الأبد؛ فمعدلات الفائدة المُخفَّضة صنعيًّا مع النقد المطبوع الفائض سوف تخدع المُنتِجين وتجعلهم يبدءون عمليات إنتاج تتطلَّب موارد من رأس المال أكثر ممَّا هو متاح في الحقيقة. فالنقد الفائض الذي لا يدعمه أي تأجيل للاستهلاك، يؤدِّي إلى زيادة ما يقترضه المنتجون في البداية، وهم يعملون تحت وهم أن النقود ستسمح لهم بشراء كل السلع الرأسمالية اللازمة لعملية الإنتاج الخاصة بهم.
ولكن عندما يتنافس المزيد من المنتجين على سلع رأسمالية وموارد أقل، ستكون النتيجة الطبيعية ارتفاعًا في أسعار السلع الرأسمالية أثناء عملية الإنتاج. عندها، سيُكشف هذا التلاعب مؤديًا إلى انهيار متزامن لعدة استثمارات رأسمالية، والتي ستُصبح فجأةً غير مربحة مع أسعار السلع الإنتاجية الجديدة. إن هذه المشاريع هي التي سمَّاها ميزس ﺑ «الاستثمارات السيئة»، وهي استثمارات لم تكن ستبدأ دون التلاعب بالسوق الرأسمالية، ولن يكون إتمامها ممكنًا ما إن يُكشَف سوء التخصيص الذي حصل. فتدخُّل البنك المركزي بالسوق الرأسمالية يسمح بالشروع بمزيد من المشاريع بسبب تحريف الأسعار الذي يجعل المستثمرين يخطئون التقدير؛ حيث إنه لا يمكن لتدخُّل البنك المركزي أن يزيد من كمية رأس المال الحقيقية المتاحة. لهذا، لا تكتمل تلك المشاريع الإضافية وتصبح هدرًا غير ضروري لرأس المال، وسيؤدي إيقاف تلك المشاريع بشكل متزامن إلى ارتفاع البطالة في جميع مجالات الاقتصاد. إن هذا الفشل الاقتصادي الواسع النطاق والمتزامن في الأعمال والمشاريع التجارية الكثيرة والعاجزة عن أداء عملها هو ما يُعرف ﺑ «الركود الاقتصادي».
كذلك الأمر، فعندما يتلاعب البنك المركزي بمعدل الفائدة ليجعله أقل من سعر التصفية بالسوق عبر توجيه المصارف لإصدار المزيد من النقد عن طريق الإقراض، فإنه وبآن واحد يقوم بتقليل قيمة المدخرات المتاحة في المجتمع ويزيد الكمية المطلوبة من المقترضين، وبنفس الوقت يوجِّه رأس المال المقترَض نحو مشاريع لا يمكن إنهاؤها. بالتالي، كلما قلت سلامة النقد، وكان التلاعب بمعدلات الفائدة أسهل بالنسبة إلى البنوك المركزية، فإنَّ الدورات الاقتصادية ستكون أكثر حدة. ويشهد التاريخ النقدي على ازدياد حدة الدورات الاقتصادية والركودات الاقتصادية عندما كان يتم التلاعب بالعرض النقدي مقارنةً بغيابه.
وفي حين يعتقد معظم الناس أن المجتمعات الاشتراكية أصبحت من الماضي، وأن الاقتصادات الرأسمالية تحكمها أنظمة السوق الحرة، إلا أن الحقيقة هي أن النظام الرأسمالي لا يستطيع العمل دون وجود سوق حرة لرأس المال، بحيث يظهر سعر رأس المال هذا من خلال التفاعل بين العرض والطلب وقرارات أصحاب رءوس الأموال التي تقودها مؤشرات الأسعار الدقيقة. فتدخُّل البنك المركزي في السوق الرأسمالية هو أساس كل ركود وكل أزمة اقتصادية، والتي يُحبِّذ معظم السياسيين، والصحفيين، والأكاديميين والناشطين اليساريين لوم الرأسمالية عليها. لكن فقط وعن طريق التخطيط المركزي للعرض النقدي يمكن إفساد آلية الأسعار في الأسواق الرأسمالية ليتسبَّب ذلك باضطرابات واسعة في الاقتصاد.
فإذا سلكت حكومة طريق تضخيم العرض النقدي، فلا مجال للهرب من العواقب السلبية. وإذا أوقف البنك المركزي عملية التضخُّم، سترتفع معدلات الفائدة، وسيتبعه الركود الاقتصادي حيث ستُكشَف العديد من المشاريع التي بدأت بكونها عديمة الجدوى ويجب إيقافها، كاشفةً سوء تخصيص الموارد ورأس المال الذي جرى. وأمَّا إذا استمرَّ البنك المركزي بعملية التضخيم إلى الأبد، فسيزداد معدل سوء التخصيص في الاقتصاد، ممَّا سيُهدر المزيد من رأس المال ويجعل الركود الاقتصادي الحتمي أكثر ألمًا. لهذا، لا مفر من دفع فاتورة ضخمة لقاء وجبة الغداء التي يُفترض أنها مجانية، والتي قام الكينزيون الحمقى بِدَسِّها علينا.
أمسكنا الآن بالنَّمِر من ذيله: كم سيدوم هذا التضخُّم؟ فإذا حُرر النمر (أو التضخُّم) سوف يأكلنا، وإذا ركض مسرعًا ونحن مُتعلِّقون بذيله بيأس، سيُقضى علينا أيضًا! يسرني أنني لن أكون هنا لأرى النتيجة النهائية.
إن تخطيط البنك المركزي للعرض النقدي ليس مستحبًّا ولا ممكنًا؛ حيث إنه خاضع لتحكُّم المتغطرسين الذين يضعون أهم سوق في الاقتصاد تحت سيطرة بضعة أشخاص جاهلين لحقائق سوق الاقتصاد، ويعتقدون أن بإمكانهم التخطيط مركزيًّا لسوق كبير ومعقد وناشئ مثل السوق الرأسمالية. لذلك، فإن توقُّع أن تكون البنوك المركزية قادرةً على «منع» أو «محاربة» أو «إدارة» الركود الاقتصادي هو أمر خيالي وخاطئ كجَعْل المولعين بإضرام الحرائق ومُشعلي الحرائق مسئولين عن فِرق الإطفاء.
إن شكل الفشل الذي يأخذه التخطيط المركزي للسوق الرأسمالية سيكون عبارةً عن دورة ازدهار وكساد كما فُسر في نظرية الدورة الاقتصادية النمساوية؛ لذا لا عجب في أن يُعتبر هذا الخلل جزءًا طبيعيًّا من اقتصاد السوق؛ لأنه في نهاية الأمر تَحكُّم البنك المركزي بمعدلات الفائدة هو جزء طبيعي من اقتصاد السوق الحديث في عقول الاقتصاديين المعاصرين. ولقد كان تاريخ سجل البنوك المركزية في هذا المجال سيئًا جدًّا خاصةً إذا تمَّ مقارنته بالفترات التي لم يكن فيها تخطيط مركزي وتحكُّم بالعرض النقدي. فكان البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي أُسس عام ١٩١٤م، مسئولًا عن الانكماش الحاد بالاحتياطي عام ١٩٢٠–١٩٢١م، وثم الانهيار الحاد في عام ١٩٢٩م، والذي استمرَّت تداعياته حتى نهاية عام ١٩٤٥م. ومنذ ذلك الحين، أصبح الكساد الاقتصادي جزءًا دوريًّا ومؤلمًا من الاقتصاد، يتكرَّر حدوثه كل بضع سنوات، ويُؤمِّن مبرِّرًا لتدخُّل حكومي متزايد ليتعامل مع تداعياته.
فعند مقارنة الكساد بفترات المعيار الذهبي، يجب أن نتذكَّر أن المعيار الذهبي في أوروبا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر لم يكن شكلًا مثاليًّا للنقد السليم، حيث كان هناك عدة ثغرات فيه، أهمها أن المصارف والحكومات كانت تستطيع غالبًا توسيع العرض النقدي والائتمان الخاصَّين بها بكميات أكثر من الذهب المختزن في الاحتياطي، ممَّا أدَّى إلى ازدهار وكساد مشابه للذي نراه في القرن العشرين، لكن بدرجة أقل حدة.
بوضع هذه الخلفية بعين الاعتبار، يمكننا فهم التاريخ النقدي الحديث بوضوح أكثر ممَّا يُدرَّس بشكل شائع في المراجع الأكاديمية منذ الطوفان الكينزي. فالنص التأسيسي للمدرسة النقدية يُعتَبر العمل والمرجع النهائي للتاريخ النقدي الأمريكي: «تاريخ النقد في الولايات المتحدة» ﻟ «ميلتون فريدمان» و«آنا شوارتز». إن هذا الكتاب هو مجلَّد عملاق من ٨٨٨ صفحة، وهو مذهل في قدرته على ترتيب كمية هائلة من الحقائق، والتفاصيل، والإحصائيات وأدوات التحليل دون تقديم أي شرح ولو لمرة واحدة للقارئ غير المحظوظ عن قضية أساسية رئيسية؛ وهي أسباب الأزمات المالية والركودات الاقتصادية.
إن العيب الجوهري في كتاب فريدمان وشوارتز هو عيب نموذجي معتاد في العلوم الأكاديمية الحديثة، ويكون هذا بالعمل المتقن المتمثَّل باستبدال المنطق بالصلابة؛ فالكتاب يتجنَّب بشكل منظَّم ومنهجي التساؤل عن أسباب الأزمات المالية التي أثَّرت على اقتصاد الولايات المتحدة طوال عقد من الزمن، وبدلًا من ذلك يقوم بإغراق القارئ ببيانات وحقائق وتفاصيل وأمور تافهة بُحث عنها بشكل مدهش.
فالادِّعاء الأساسي للكتاب يفترض أن الركود نتج بسبب عدم استجابة الحكومة بالسرعة الكافية لكلٍّ من الأزمة المالية والذعر المصرفي وانهيار التضخم؛ وذلك بزيادة العرض النقدي لإعادة تضخيم القطاع المصرفي. فجماعة ميلتون فريدمان الليبرالية، وكما هو المعتاد، ستلوم الحكومة على المشاكل الاقتصادية، لكن المنطق الخاطئ سيؤدي بهم إلى اقتراح زيادة التدخل الحكومي كحل. فالخطأ الفادح في الكتاب هو أن الكاتبَين لم يناقشا أبدًا أسباب كلٍّ من الأزمة المالية والذعر المصرفي وانهيار التضخم للعرض النقدي. وكما رأينا في نقاش نظرية الدورة الاقتصادية النمساوية، إن السبب الوحيد للركود الاقتصادي الشامل هو تضخيم العرض النقدي في المقام الأول. لكن يمكن لفريدمان وشوارتز وبكل أريحية اقتراح المُسبِّب نفسه كعلاج، بعد أن حرَّرا نفسَيهما من عبء فهم السبب؛ فيجب أن تتحرَّك الحكومة لتعيد رسملة النظام المصرفي بقوة، وتزيد السيولة عند أول إشارة على الركود الاقتصادي. يمكنك أن تبدأ برؤية سبب كره الاقتصاديين المعاصرين الشديد لفهم السببية المنطقية؛ التي ستكشف زيف كل حلولهم تقريبًا.
فقد بدأ فريدمان وشوارتز كتابهما سنة ١٨٦٧م، وقاما بهذا العمل في هذه السنة تحديدًا؛ حيث إنه وعند تحليل أسباب الركود في عام ١٨٧٣م، كان بإمكانهما أن يتجاهلا بالكامل «المشكلة الصغيرة» الكامنة في طباعة الحكومة للأوراق النقدية الخضراء لتمويل الحرب الأهلية، حيث كانت هذه الحرب هي السبب الرئيسي للركود الاقتصادي، وسيتكرَّر هذا النمط في كل الكتاب.
وبالكاد يناقش فريدمان وشوارتز أسباب ركود عام ١٨٩٣م، مُلمِّحَين لحاجتنا للفضة؛ وذلك لأن الذهب ليس كافيًا لتلبية الاحتياجات النقدية بالاقتصاد، ومن ثم أغرقا القارئ بمعلومات تافهة عن الركود في تلك السنة؛ فلم يذكرا قانون «شيرمان» لشراء الفضة عام ١٨٩٠م الذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي، والذي ألزم وزارة الخزانة الأمريكية بشراء كميات كبيرة من الفضة مقابل إصدارٍ جديد من سندات الخزانة. وسعى حاملو الفضة وحاملو سندات الخزانة إلى تحويلها إلى ذهب؛ وذلك لأن تداول الفضة كان قد أُلغي في كل العالم تقريبًا آنذاك؛ ممَّا أدَّى إلى استنزاف احتياطي الخزانة من الذهب. فتورَّطت الخزانة بشكل فعَّال في جرعة مضلِّلة كبيرة من التوسع النقدي بزيادة العرض النقدي محاولةً الادعاء بأن الفضة لا تزال تُعتَبر نقدًا. وكل ما فعله هذا هو تخفيض قيمة سندات الخزانة الأمريكية، ممَّا صنع فقاعةً مالية انفجرت بتسارع عمليات سحب الذهب. إن أي كتاب تاريخي عن تلك الحِقبة سيوضِّح هذا الأمر لأي شخص لديه معرفة عابرة بالنظرية النقدية، لكن فريدمان وشوارتز تجنَّبا ذِكْر هذا بشكل مدهش.
والفصل الأكثر شهرةً في الكتاب (والوحيد الذي يقرؤه الناس على ما يبدو) هو الفصل السابع، الذي يركِّز على الكساد العظيم. يبدأ الفصل بعد انهيار سوق الأوراق المالية في أكتوبر ١٩٢٩م، بينما ينتهي الفصل السادس في عام ١٩٢١م. فكامل الفترة بين ١٩٢١م حتى أكتوبر ١٩٢٩م، والتي قد تتضمَّن أي أسباب للكساد العظيم، لم تستحقَّ أية صفحة من ٨٨٨ صفحةً في الكتاب.
إن هذا الانهيار نتج بسبب التوسُّع النقدي في العشرينيات، والذي ولَّد فقاعةً ضخمة من الثروة الوهمية في سوق الأسهم المالية. فعندما بدأ التوسُّع بالانخفاض، كان لا بد من انفجار الفقاعة، وانفجار الفقاعة يعني أن هناك دُوَّامة انكماشية ستختفي فيها كل الثروة الوهمية التي كانت في هذه الفقاعة. ومع اختفاء الثروة، فإنه لا مفر من الذعر المصرفي حيث ستعاني هذه المصارف للوفاء بالتزاماتها. إن هذا الأمر يكشف عن مشكلة وجود نظام مصرفي جزئي احتياطي؛ فهو كارثة ننتظر حدوثها. نظرًا إلى ذلك، كان جديرًا بالفيدرالية أن تضمن إيداعات الناس بدلًا من أن تضمن خسائر الأعمال والمشاريع التجارية وسوق الأسهم المالية. فالحل الوحيد هو أن يتم ترك المصارف تعاني من هذا بمفردها، والسماح بحدوث التصفية وانخفاض الأسعار. صحيح أن هذا الحل كان سيتضمَّن ركودًا مؤلمًا لكن لهذا السبب تمامًا لم يكن يجب أن يحصل توسُّع نقدي أصلًا؟ فمحاولة تجنُّب الركود بزيادة السيولة لن تؤدي إلا إلى تفاقم الخلل الذي سبَّب الأزمة أساسًا.
فلقد صَنع التوسُّع النقدي ثروةً وهمية أساءت تخصيص وتوزيع الموارد، ولا بد أن تختفي تلك الثروة كي ترجع السوق إلى العمل بشكل صحيح بآلية أسعار صحيحة. فتلك الثروة الوهمية هي من تسبَّب بالانهيار أساسًا، وإعادة تلك الثروة الوهمية إلى مكانها الأصلي هي ببساطة إعادة ترتيب بيت الأوراق مجدَّدًا والاستعداد لسقوطٍ آخر أكبر وأقوى.
فبتجاهل الفترة التي سبقت عام ١٩٢٩م، وكأنه لا علاقة لها بانهيار سوق الأسهم المالية، استنتج فريدمان وشوارتز أن ردة فعل الفيدرالية المنخفضة على الانهيار كانت هي سبب تحوُّله إلى الكساد العظيم. فلو فتح الاحتياطي الفيدرالي الحنفيات النقدية ليُغرق النظام المصرفي بالسيولة برأيهما، لكانت خسائر سوق الأسهم المالية أقل أثرًا بكثير على الاقتصادات الأوسع ولمَا ازداد الكساد. وفي خِضم فيضان البيانات، يتم غض الطرف عن حقيقة أنه ردًّا على الأزمة، تبنَّى الاحتياطي الفيدرالي سياسةً توسُّعية. وفي حين حاول الاحتياطي الفيدرالي تقليل نقص السيولة في القطاع المصرفي، إلا أنه لم يستطع إيقاف الانهيار، ليس بسبب نقص الإرادة، بل بسبب الانهيار الواسع النطاق من الاستثمارات الرأسمالية التي أُسيء تخصيصها وتوزيعها، وبسبب السياسات التدخُّلية الكبيرة التي نوقشت في الفصل الرابع.
لقد بقيت ثلاثة أسئلة مهمة دون أجوبة في هذا العمل الضخم، الأمر الذي يكشف فجوةً كبيرة في منطق هذا الكتاب؛ أولًا: لماذا يفتقر الكتاب إلى مقارنة بين كسادَي ١٩٢٠ و١٩٢٩م؟ فلم يدم الكساد الأول مدةً طويلة بالرغم من أن المصرف الفيدرالي لم يتدخَّل بالطريقة التي نصح بها الكاتبان. ثانيًا: لمَ لم تعاني الولايات المتحدة من أزمة مالية في القرن التاسع عشر خلال الفترة التي لم يكن فيها بنك مركزي، إلا في المرتَين عندما أمر الكونغرس وزارة الخزانة بأن تتصرَّف كبنك مركزي؛ أثناء الحرب الأهلية بطباعة الدولار الأخضر، وفي عام ١٩٨٠م بعد تحويل الفضة إلى نقد؟ ثالثًا: وهي النقطة الأهم، كيف تدبَّرت الولايات المتحدة أمرها خلال إحدى أطول فترات النمو الاقتصادي المستقرة دون أية أزمة مالية بين عامَي ١٨٧٣ و١٨٩٠م عندما لم يكن هناك بنك مركزي على الإطلاق، حيث كان هناك قيود على العرض النقدي، واستمرَّ مستوى الأسعار بالانخفاض؟ يذكر فريدمان وشوارتز تلك الفترة بشكل عابر فقط، مشيرَين إلى أن الاقتصاد نما بشكل مذهل «بالرغم من» انخفاض مستوى الأسعار، دون أن يُعلِّقا كيف أن حقيقةً كهذه يمكن تجاهلها؛ وذلك بسبب رعبهما من انخفاض مستوى الأسعار.
(٣) الأساس السليم للتجارة
في عالَم النقد السليم، تدفَّقت السلع ورءوس الأموال بين البلدان المختلفة تقريبًا بنفس الطريقة التي كانت تتدفَّق فيها بين مناطق مختلفة من البلاد ذاتها أي وفقًا لرغبة مالكيها الشرعيين ووفقًا للمتفق عليه في تبادل ذي نفع مشترك. وتحت حكم عملة يوليوس قيصر الذهبية، أو تحت المعيار الذهبي لمصرف أمستردام في القرن السابع عشر، أو تحت المعيار الذهبي في القرن التاسع عشر، كان نقل السلع ماديًّا من مكان إلى آخر أكبر عقبة أمام التجارة. وبالكاد كانت توجد تعاريف أو عوائق تجارية، وإن وُجدت، كانت تتضمَّن قليلًا من الرسوم من أجل إدارة وصيانة نقاط العبور الحدودية والموانئ.
أمَّا في عصر النقد غير السليم، كعصر انحدار أوروبا إلى النظام الإقطاعي أو انحدار العالم الحديث إلى التأميم النقدي، توقَّفت التجارة عن كونها حق للأفراد المتاجرين وأصبحت مسألةً ذات أهمية قومية، تحتاج إشراف الإقطاعيين أو الحكومات التي تَدَّعي السيادة على الأفراد المتاجرين. وكان هذا التحوُّل في طبيعة التجارة مكتملًا بشكل سخيف، لدرجة أن مصطلح «التجارة الحرة» في القرن العشرين أصبح يُشير إلى التبادل الذي يُجري بين فردَين عبر الحدود، وفقًا لقوانين اتفقت عليها حكوماتهما، وليس الأفراد المعنيين!
فالتخلي عن المعيار الذهبي عام ١٩١٤م بإيقاف وتقييد عملية تبديل النقد الورقي بالذهب من قِبَل معظم الحكومات بدأ المرحلة التي سمَّاها هايك «التأميم النقدي». فلم تعد قيمة النقد وحدةً ثابتة من الذهب الذي كان السلعة ذات أعلى نسبة مخزون إلى التدفُّق، وبالتالي العرض الأقل مرونةً في السعر، بحيث يمكن التنبُّؤ بقيمته الثابتة نسبيًّا. وبدلًا من ذلك، تأرجحت قيمة النقد مع تقلُّبات السياسة النقدية والمالية بالإضافة إلى التجارة العالمية. فمعدلات الفائدة المنخفضة أو العرض النقدي المتزايد سيؤدي إلى انخفاض قيمة النقد، والأمر ذاته سيحدث مع إنفاق الحكومة الذي تموِّله قروض البنك المركزي للحكومة. وفي الوقت الذي كان فيه هذَين العامِلَين تحت سيطرة الحكومات التي توهم نفسها على الأقل بأنها تستطيع إدارتهما لتحقِّق الثبات، كان العامل الثالث نتاج عملية معقَّدة من تصرُّفات كل المواطنين والعديد من الأجانب. فترتفع قيمة عملة دولة ما في أسواق الصرف العالمية عندما تكون صادراتها أكبر من وارداتها (فائض تجاري)، في حين تنخفض قيمتها عندما تصبح وارداتها أكبر من صادراتها (عجز تجاري). وبدلًا من أن يَعتبر صُناع السياسة هذا الأمر إشارةً للكف عن التلاعب بقيمة النقد وإعطاء الناس حرية استخدام السلعة الأقل تقلُّبًا في القيمة كنقد، اعتبروه دعوةً للتدخل في كل كبيرة وصغيرة في التجارة العالمية.
فقيمة النقد التي يُفترض أن تكون وحدة الحساب التي يُقاس ويُخطَّط على أساسها كل نشاط اقتصادي، انتقلت من كونها القيمة الأقل تقلُّبًا بالسوق إلى قيمة تحدِّدها سياسة ثلاث أدوات حكومية — السياسة النقدية، والمالية والتجارية — وردود أفعال الأفراد غير المتوقعة على تلك الأدوات السياسية. فقرار الحكومات فَرضَ مقياس للقيمة يماثل بمنطقه محاولتها فَرضَ مقياس للطول وفقًا لطول الأفراد وطول ارتفاع الأبنية في أراضيها. يمكن للمرء تخيُّل الارتباك الذي سيُصيب كل المشاريع الهندسية إذا كان طول المتر يتأرجح يوميًّا وفقًا لتصريحات مكتب قياسات مركزي.
فغرور المجانين وحده هو ما يتأثَّر بتغيير الوحدة التي يتم القياس بها، فتقصير المتر قد يجعل من يمتلك بيتًا مساحته ٢٠٠ متر مربع يعتقد أنه ٤٠٠ متر مربع، لكنه سيبقى البيت ذاته. فلن تؤدي إعادة تحديد المتر إلا إلى تدمير قدرة المهندسين على البناء بشكل جيد وتدمير قدرتهم على صيانة البيت. بالمثل، إن تخفيض قيمة العملة قد يجعل الدولة أكثر ثراءً ظاهريًّا، أو قد يزيد القيمة الظاهرية (الاسمية) لصادراتها، لكنه لن يجعل الدولة أكثر ازدهارًا.
فالاقتصاد الحديث شَكَّل «الثالوث المستحيل» للتعبير عن محنة المصرفيين المركزيين المعاصرين، والتي تنص على الآتي: لا يمكن لأية حكومة أن تنجح بتحقيق الأهداف الثلاثة من سعر صرف أجنبي ثابت، وتدفُّق رءوس أموال حر وسياسة نقدية مستقلة. فإذا كان للحكومة سعر صرف أجنبي ثابت وتدفُّق رءوس أموال حر، فلا يمكن أن يكون لديها سياسة نقدية خاصة بها؛ حيث إن تغيير معدل الفائدة سيؤدِّي إلى تدفُّق رءوس الأموال إلى الداخل أو الخارج إلى الدرجة التي يصبح عندها من المستحيل الدفاع عن سعر الصرف، وكلنا نعرف كم يحب الاقتصاديون المعاصرون أن يكون لديهم سياسة نقدية كي «يديروا» الاقتصاد. لهذا، لا يمكن تحقيق سياسة نقدية مستقلة وسعر صرف ثابت إلا بحد تدفُّق رءوس الأموال، كما كان الوضع السائد بين عامَي ١٩٤٦ و١٩٧١م. لكن حتى هذا الأمر لم يستمر؛ حيث أصبح تدفُّق السلع هو الطريقة التي سيحاول بها سعر الصرف تعويض اختلال التوازن بحيث تقوم بعض الدول بعمليات تصدير كثيرة وتقوم أخرى بعمليات استيراد كثيرة، ممَّا أدَّى إلى مفاوضات سياسية لإعادة معايرة سعر الصرف. ولا يمكن إيجاد أساس منطقي لتحديد نتائج تلك المفاوضات في المنظمات العالمية؛ وذلك لأن حكومة كل دولة ستحاول تحقيق مصالح مجموعاتها الخاصة وستفعل كل ما يلزم لفعل هذا. وبعد عام ١٩٧١م، انتقلت غالبية دول العالم إلى الحفاظ على سياسة نقدية مستقلة وتدفُّق رءوس أموال حر، لكن أسعار الصرف بين العملات ظلَّت عائمة.
ولقد سمح هذا التدبير للاقتصاديين الكينزيين باللعب بأدواتهم المفضَّلة ﻟ «إدارة» الاقتصاد مع الحفاظ أيضًا على سعادة المؤسسات المالية العالمية وأصحاب رءوس الأموال الكبيرة؛ حيث إنها كانت مفيدةً للغاية للمؤسسات المالية الكبيرة، التي خلقت سوق تبادل عملات بقيمة تريليونات الدولارات «يوميًّا»، ويتم فيها تبادل العملات والعقود الآجلة. لكن هذا التدبير غالبًا لا يُفيد أحدًا، خاصةً أصحاب المشاريع المنتجة حقًّا والتي تقدِّم سلعًا قيِّمة للمجتمع.
ففي عالم تسوده العولمة بشكل كبير ويعتمد سعرُ صرفِ العملات الأجنبية فيه على عدد كبير من المتغيِّرات المحلية والعالمية، تُصبح عملية إدارة عمل أو مشروع تجاري مُنتِج أمرًا صعبًا دون أي مبرِّر. فغالبًا ما تنتقل موارد ومنتجات شركة ناجحة بين عدة دول، وقرار كل عملية شراء وبيع يعتمد على سعر الصرف بين الدول المعنية. لهذا وفي هذا العالم، قد تعاني شركة تنافسية للغاية من خسائر فادحة لمجرد تغيُّر سعر الصرف بدولة أخرى. فإذا شهدت دولة المُورِّد لشركة ما ارتفاعًا في قيمة عملتها، فقد ترتفع أسعار موارد هذه الشركة بما يكفي لتدمِّر أرباحها، وقد يحدث الشيء ذاته إذا انخفضت قيمة عملة السوق الرئيسي الذي تُصدِّر إليه. فالشركات التي أمضت عقودًا في العمل على ميزة تنافسية قد تشهد اختفاء تلك الميزة خلال ١٥ دقيقةً من تقلُّب سعر الصرف الأجنبي غير المتوقَّع. وتُلام التجارة الحرة على هذا عادة، كما يستخدمها الاقتصاديون والسياسيون كعذر أيضًا لفرض سياسات تجارية وقائية شائعة لكنها مدمِّرة.
ففي سوق حرة للنقد، سيختار الأفراد العملة التي يريدون استخدامها، والنتيجة هي أنهم سيختارون العملة ذات نسبة المخزون إلى التدفُّق المرتفعة الموثوقة، بحيث يكون تقلُّب هذه العملة صغيرًا مع تغيُّرات العرض والطلب، وبالتالي ستصبح وسيطًا للتبادل مطلوبًا عالميًّا؛ ممَّا يسمح بأن تُجرى كل الحسابات الاقتصادية باستخدامها، لتصبح وحدة حساب منتشرةً على صعيد الزمان والمكان. فكلما زادت قابلية بيع السلعة، أصبحت مناسبةً أكثر لهذا الدور، وكانت العملة الذهبية الرومانية، والعملة البيزنطية، والدولار الأمريكي إلى حد ما أمثلةً على هذا، بالرغم من أن لكلٍّ منها سلبياتها. والذهب في السنوات الأخيرة من المعيار الذهبي العالمي كان هو أكثر نقد اقترب من تحقيق ذلك، رغم أنه حتى آنذاك بقيت بعض الدول والمجتمعات على النقد الفضي أو أشكال بدائية أخرى.
وهذه حقيقة مذهلة من واقع الحياة العصرية أن رياديًّا في سنة ١٩٠٠م كان بإمكانه إجراء خطط وحسابات اقتصادية عالمية بشكل كلي وبأية عملة دولية يريد، دون التفكير نهائيًّا بتقلُّبات أسعار الصرف. أمَّا بعد مرور قرن، فإن ريادي أعمال مماثل يحاول إجراء خطط اقتصادية خارج الحدود، سيواجه صفًّا من أسعار صرف متقلِّبة بشدة قد تجعله يظن أنه دخل لوحةً ﻟ «سالفادور دالي». إن أي محلِّل عاقل ينظر إلى هذه الفوضى سيستنتج أنه من الأفضل ربط قيمة النقد بالذهب مجدَّدًا والتخلُّص من هذا العرض البهلواني، وعندها يُحل الثالوث المستحيل بالتخلُّص من الحاجة إلى سياسة نقدية تتحكَّم بها الحكومة، وبالتالي سنحصل على حركة رءوس أموال حرة وتجارة حرة. وسيصنع هذا وعلى الفور استقرارًا اقتصاديًّا، وسيحرِّر كميةً كبيرة من رأس المال والموارد لإنتاج سلع وخدمات قيِّمة، بدلًا من التفكير بتقلُّبات أسعار الصرف المعقَّدة.
لكن وللأسف، إن للمسئولين عن النظام النقدي الحالي مصلحةً خاصة في استمراره، وبالتالي فضَّلوا إيجاد طرق لإدارته، وإيجاد طرق أكثر إبداعًا لرفض المعيار الذهبي، وهذا أمر مفهوم تمامًا؛ وذلك لأن وظائفهم تعتمد على حكومة تستطيع طباعة النقد لتكافئهم.
فتوليفة أسعار الصرف العائمة مع الفكر الكينزي قدَّمت لعالمنا ظاهرةً حديثة تمامًا من حروب العملات؛ فالتحليل الكينزي يقول إن زيادة الصادرات تؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي، والناتج المحلي الإجمالي هو أعظم إنجاز لصحة وسلامة الاقتصاد؛ لذلك وبرأي الكينزيين، إن أي أمر يعزِّز الصادرات هو أمر جيد. فأي دولة تواجه تباطؤًا في الاقتصاد فإنه يمكنها تعزيز ناتجها المحلي الإجمالي وتعزيز العمالة بتخفيض قيمة عملتها وزيادة صادراتها؛ وذلك لأن العملة التي تنخفض قيمتها ستجعل الصادرات أرخص.
يوجد الكثير من الأمور الخاطئة في هذه النظرة العالمية؛ فتخفيض قيمة العملة لا يؤدي إلى زيادة منافسة الصناعات بالمعنى الحقيقي، بل إنه يُقدِّم حسمًا لمرة واحدة على منتجاتها، وبالتالي يعرضها على الأجانب بسعر أرخص من المحليين، مؤديًا إلى فقر المحليين ودعم الأجانب. كما أنه يجعل كل أصول الدولة أرخص بالنسبة إلى الأجانب، ممَّا يسمح لهم بالقدوم وشراء الأراضي، ورءوس الأموال، والموارد في الدولة مع حسمٍ بالسعر.
ففي نظام اقتصادي ليبرالي، لا خَطْب في شراء الأجانب لأصول محلية، لكن في نظام اقتصادي كينزي، يُدعَم الأجانب بشكل نشط ليأتوا ويشتروا الدولة بسعر زهيد. ويُظهر التاريخ الاقتصادي أن معظم الاقتصادات الناجحة في مرحلة ما بعد الحرب؛ مثل ألمانيا، واليابان، وسويسرا، زادت صادراتها بشكل كبير مع استمرار ارتفاع قيمة عملتها، ولم تكن يومًا هذه الدول بحاجة إلى تخفيض قيمة العملة بشكل مستمر لتنمو صادراتها، بل طوَّرت ميزةً تنافسية جعلت منتجاتها مطلوبةً عالميًّا، والتي أدَّت بالتالي إلى ارتفاع قيمة عملاتها مقارنةً بشركائهم التجاريين؛ ممَّا زاد ثروةَ شعبها. فإذا فكَّرَت الدول المستوردة منها أن بإمكانها تعزيز صادراتها بتخفيض قيمة العملة، فهذا الأمر سيكون غير مثمر. وهذه الدول ستُدمِّر ثروة شعوبها إذا سمحت للأجانب بشراء هذه الثروة مع تخفيض وحسم. لهذا، لم يكن مصادفةً أن الدول التي شهدت أكثر انخفاض في قيمة عملتها في مرحلة ما بعد الحرب هي نفسها التي عانت من ركود وانحطاط اقتصادي.
لكن حتى وإذا كانت كل مشاكل تخفيض القيمة كطريقة للازدهار هي غير دقيقة، فهناك سبب بسيط لعدم قدرتها على النجاح، وهو؛ إذا نجح أمر تخفيض العملة وقامت كل الدول بتجربته، فستنخفض قيمة كل العملات ولن يكون لأية دولة أفضلية على الأخرى، ويصل هذا بنا إلى الوضع الراهن في الاقتصاد العالمي، حيث تحاول معظم الحكومات تخفيض قيمة عملاتها كي تُعزِّز صادراتها، وكلها تشتكي من تلاعب الحكومات الأخرى «غير العادل» بعملاتها. فتُسبِّب كل دولة فقر شعبها وبفعالية كي تُعزِّز صادراتها وترفع أرقام الناتج المحلي الإجمالي، ثم تتذمَّر عندما تفعل مثلها دول أخرى. ولا يضاهي الجهل الاقتصادي إلا كَذِب وافتراء السياسيين والاقتصاديين الذين يردِّدون هذه الجمل كالببغاوات؛ حيث إنه يتم إجراء مؤتمرات اقتصادية عالمية يحاول فيها قادة العالم التفاوض على تخفيض مقبول لقيمة العملة لكلٍّ منها، جاعلين قيمة العملة قضيةً ذات أهمية جيوسياسية.
بالطبع، لن يكون أيٌّ من هذا ضروريًّا إن استند العالم إلى نظام نقدي عالمي سليم يعمل عالميًّا كوحدة حساب ومقياس للقيمة، سامحًا للمنتجين والمستهلكين في كل أنحاء العالم بالحصول على تقييم دقيق لتكاليفهم وأرباحهم، مع فصل الربح الاقتصادي عن السياسة الحكومية. فالنقد الصعب وبانتزاعه لمسألة العرض من أيدي الحكومات ومُروِّجيهم الاقتصاديين سيُجبِر الجميع على أن يكونوا منتجين للمجتمع بدلًا من السعي وراء الثراء بطرق غبية كالتلاعب بالنقد.