الفصل السابع عشر
تلبَّدت سماء المدينة بالغيوم، لكنها لم تكن غيومًا تُوحي بهطول أمطار غزيرة مثل تلك التي هطلت على راشمير. وكانت الأشجار اليافعة الخضراء في ويستمنستر زاهية ومُشرِقة كاللهَب في مُقابل الخلفية القاتمة. شيء لطيف أن يكون المرء وسط من يتشابهون معه في الصفات الشخصية؛ أن يصِل إلى حالة التجرُّد الذِّهني التي يستخدمها بين زملائه؛ وأن يتحدَّث بالكلام التلميحي غير المفسر الذي يشكل «أسلوب التعامل» في مقرِّ الإدارة.
لكن لم يكن من المُستحَب كثيرًا له أن يفكر في أمر اللقاء المُقبِل مع برايس. هل سيُصبح اليوم هو أحد أيام برايس الرائعة أم أحد أيامه «السيئة»؟ كانت نسبة هذا إلى ذاك بالنِّسبة إلى مدير الإدارة هو يوم واحد سيئ مُقابل ثلاثة أيام رائعة، وهكذا كانت الاحتمالات في صالحه. على الجانب الآخر، كان الجو رطبًا ودائمًا ما تكون حالة مرض الروماتيزم لدى المدير هي الأسوأ في الأجواء الرطبة.
كان برايس يُدخِّن الغليون. لذا كان اليوم هو أحد الأيام الرائعة. (ففي الأيام السيئة كان يشعل سيجارة ويُطفئها في منفضة السجائر بعد خمس ثوانٍ من إطفائه عود الثقاب.)
فكر جرانت كيف يبدأ حديثه. لم يكن بمَقدورِه بكل بساطة أن يقول: قبل أربعة أيام سلمتني قضية، وإلى الآن لم يحدث أي تقدم لكشف غموضها، بل ظلَّت كما هي كما كانت قبل أربعة أيام، من حيث جميع عناصرها الأساسية وذلك من وجهة نظري. لكن ذلك، رغم أنه أمر صادم، هو حال القضية.
كان برايس هو من وفَّر عليه مشقة ذلك. فقد أخذ يتمحصه بعينيه الصغيرتين الفطنتين، ثم قال: «إذا ما رأيتُ من قبل عبارة «أرجوك، يا سيدي، لم يكن الخطأ خطئي» مكتوبة على جبين أحدهم، فهي مكتوبة على جبينك الآن.» فضحك جرانت.
«أجل، يا سيدي. إن الأمر فوضويٌّ.» ثم وضع جرانت دفاتر ملاحظاته على المكتب وجلس على الكرسي عند الجهة الأخرى منه والذي كان معروفًا في الإدارة بأنه كرسي المشتبه بهم.
«إذن في رأيك، لم يكن ذلك المغفَّل المدعو والتر هو من فعلها، أليس كذلك؟»
«كلا، يا سيدي. أظنُّ أن ذلك غير مرجَّح إلى حدِّ أنه من العبث التفكير فيه.»
«هل كان الأمر مجرد حادث عارض؟»
فقال جرانت مبتسمًا: «لا يظنُّ المغفل ذلك.»
«لا يظن ذلك، حقًّا. ألا يتمتَّع بما يكفي من العقل حتى لكي يبتعد عن الشبهات؟»
«إنه مخلوق بسيط، من وجهة نظري. لا يصدق وحسب أن الأمر وقع كحادث، ويصرح بذلك. وحقيقة أن إثبات وقوع الأمر كحادث هو شيء يصبُّ في مصلحته هي حقيقة غير ذات صلة من وجهة نظره، على ما يبدو. إنه مُتحيِّر ومُضطرِب كثيرًا بشأن اختفاء سيرل. وأنا واثق تمامًا من أنه ليس له بالأمر صلة.»
«هل من اقتراح بديل؟»
«في الواقع، هناك شخص سنحت له الفرصة، ولديه الدافع والوسيلة.»
فقال برايس، بغلظة: «ماذا ننتظر إذن؟»
«العنصر الرابع مفقود مع الأسف.»
«ليس هناك دليل.»
«ولا قرينة بسيطة حتى.»
«من هو ذاك الشخص؟»
«أم خطيبة والتر ويتمور. أو زوجة أبيها في الواقع. لقد تولت تربية ليز جاروبي منذ طفولتها وتأخذها عاطفة الأمومة تجاهها أخذًا شديدًا. لا أقصد بذلك أنها مُتملِّكة، لكن …»
«ترغَب بالأفضل في كل شيء لليز.»
«أجل. كانت في غاية السرور حيال زواج ابنة زوجها من ابن اختها، والاحتفاظ بالثروة في نطاق الأسرة، وأعتقد أن سيرل بدا وكأنه يُفسد الترتيبات. هذا دافع مُحتمَل. وليس لديها حُجَّة غياب أثناء الليلة المعنية، وكان بإمكانها الوصول إلى المكان الذي يُخيِّمان فيه بسهولة. فقد كانت تعرف موقعه لأن الرجلين كانا يتَّصلان بمنزل تريمنجز — وهو المكان الذي يقطنه آل فيتش — كل مساء ليسردا ما أحرزاه من تقدم، ومساء الأربعاء وصفا المكان الذي سينصِبان فيه مخيمهما.»
«لكن لم يكن بمقدورها أن تعلم بحدوث خلاف بين الرجلين وأنهما سيعودان إلى النهر منفصلين. كيف كانت سترتب الأمر؟»
«في واقع الأمر، ثمة شيء غريب بشأن ذلك الخلاف. بحسب كل أقوال الشهود كان سيرل شخصًا سويًّا رصينًا، لكن كان هو من افتعل ذلك الخلاف. أو على الأقل هذا ما يقوله ويتمور، وليس لديَّ أسباب تدفعني إلى التشكيك به. لقد ضايق ويتمور وأزعجه بشأن أنه ليس أهلًا بما يكفي لليز جاروبي وتباهى بأن بمقدوره أن يسلبها منه في غضون أسبوع. وقد كان سيرل واعيًا وليس تحت تأثير الشراب؛ لذا فإن أيَّ تصرف مغاير لشخصيته لا بدَّ أنه كان بفعل دافع خفي.»
«أتظنُّ أنه اصطنع فُرقة بينه وبين سيرل ذلك المساء؟ لكن لماذا؟»
«ربما لأنه كان يأمُل أن يلتقيَ بليز جاروبي في مكان ما. فلم تكن الآنسة جاروبي في المنزل في ذلك المساء حين اتصل الرجلان بالمنزل؛ ومن ثمَّ يُمكن للسيدة جاروبي أن تدَّعي بأن ليز وكَّلتها لإبلاغ سيرل بأنها ستُقابله هذه الليلة. وأقترح أيضًا أنها ربما تمادت في الوكالة بطريقة أكثر خطورة.»
««ستلتقيك ليز عند شجرة البلوط الثالثة بعد الطاحونة القديمة».»
«شيء من هذا القبيل.»
«ثم تنتظره الأم الغاضبة بأداة حادَّة وبعدها تُلقي بالجثة في النهر. لكَم أتمنى لو أنك قد استطعت أن تستخرج تلك الجثة.»
«لكم تمنَّيت هذا أكثر، يا سيدي. فمن دون الجثة، إلام سنتوصل؟»
«ليس لدينا قضية حتى في وجود الجثة.»
«أجل. لكن معرفة حالة الجمجمة سيُصبح أمرًا باعثًا على الطمأنينة، فضلًا عن أنه سيكشف النقاب عن العديد من الأمور.»
«هل من دليل على أن سيرل كان يُبدي اهتمامًا بالفتاة؟»
«كان لديه فردة أحد قفازاتها في درج قمصانه.»
أطلق برايس صوتًا من أنفه. ثم قال: «كنتُ أظنُّ أن هذه التصرفات لم تعدْ تحدُث بين المحبين» معيدًا صياغة ما قاله الرقيب ويليامز من دون أن يدري.
«لقد أريتها القفاز وتقبَّلت الأمر بشكل حسن. قالت إنه التقطَه من على الأرض على الأرجح وكان ينوي أن يُعيده إليها.»
قال رئيس الشرطة: «مثلما يحدث في الأفلام.»
فقال جرانت في دماثة: «إنها فتاة لطيفة.»
«وكذلك كانت مادلين سميث. هل هناك آخرون في قائمة المشتبه بهم؟»
«كلا. فقط من كان لهم به احتكاكٌ مباشر. من لم يكن لديهم سبب يدفعهم للإعجاب بسيرل، وقد سنحت لهم الفرصة ولم يكن لديهم حُجَج غياب مقنعة.»
فتساءل برايس مُندهِشًا من صيغة الجمع: «هل هم كثر؟»
«هناك توبي توليس، الذي لا يزال منزعجًا من ازدراء سيرل له. يعيش توليس على ضفة النهر ويملك قاربًا. وتعتمد حجة غيابه على كلمة تابع مخبول له. وهناك سيرج راتوف الراقص، الذي كان يبغض سيرل بسبب ما أولاه توبي له من اهتمام. وطبقًا لما قال سيرج، فإنه كان يرقُص على العشب بالقرب من حافة النهر مساء يوم الأربعاء. وهناك سيلاس ويكلي، الروائي الإنجليزي البارز، والذي يعيش في الزقاق الذي شاهد بعض الناس سيرل يسلكُه في مساء الأربعاء قبل أن يختفي. سيلاس يكنُّ نوعًا من الكراهية تجاه الجمال؛ دائمًا ما تكون لديه رغبة دءوبة في تدميره. كان سيلاس يعمل في كشك يقع عند طرف حديقة منزله في تلك الليلة، أو هكذا يقول.»
«أكنت ستُراهن على أحدٍ من أولئك؟»
«كلا. لا أظن ذلك. إلا عن ويكلي ربما. فهو من النوع الذي قد يتجاوز الحدود في يوم ما، ثم يمضي بقية حياته سعيدًا يكتب على الآلة الكاتبة في برودمور. ما كان تُوليس ليخاطر بكل ما أحرز وحقق بجريمة عبثية كهذه. إنه أكثر فطنة من ذلك بكثير. أما عن راتوف، فأتخيَّله مُنطلقًا لارتكاب جريمة ثم تُواتيه فكرة أفضل قبل أن يقطع نصف الطريق حتى فينسى ما انطلق في الأساس ليقوم به.»
«هل كلُّ قاطني تلك القرية من غريبي الأطوار؟»
«هذا ما «وجدت» مع الأسف. لكن السكان الأصليِّين للقرية عُقَلاء بما يكفي.»
«حسنًا، أعتقد أننا لن نستطيع فعل شيء حتى تظهر الجثة.»
«هذا «إن» ظهرت.»
«عادة ما تظهر الجثث، بعد مرور بعض الوقت.»
«طبقًا لما ذكرت الشرطة المحلية، غرق خمسة أشخاص في نهر راشمير في غضون الأعوام الأربعين المنصرمة. هذا باستبعاد ميناء مير والجزء الخاص بالشحن البحري من المنطقة. غرق اثنان من الخمسة في مناطق من النهر أعلى من سالكوت والثلاثة الآخرون في مناطق أدنى منها. ظهرت جُثَث هؤلاء الثلاثة جميعهم في غضون يوم أو اثنين من غرقهم. أما الاثنان اللذان غرقا في مناطق أعلى من القرية فلم تظهر جثثهم أبدًا.»
علَّق برايس قائلًا: «يا لها من إشارة تنبيه رائعة لوالتر.»
فقال جرانت بعد أن فكر: «أجل. فلم يكُونوا شفوقِين عليه كثيرًا هذا الصباح.»
«الصحف؟ كلا. لقد كانوا مُهذَّبين ومُتحفِّظين لكن ما كتبوه ما كان ليمثل متعة لذلك المغفل. يا له من موضع سيئ يمكن لامرئ أن يصبح فيه. ليس هناك اتهام؛ لذا لن يُصبح هناك دفاع مُحتمَل.» ثم أضاف: «لا أعني أنه لا يملك أي دفاع مطلقًا.»
ثم صمت برايس برهة، وكان في أثناء ذلك يطرق بغليونه على أسنانه كعادته حين يُمعن التفكير.
«أظن أننا ليس في مقدورنا أن نفعل شيئًا في الوقت الراهن. فلتعدَّ تقريرًا مُنظَّمًا ومتقنًا وسنرى ما سيوجه به المفوض. لكنني لا أرى أن باستطاعتنا فعل المزيد. الموت غرقًا، وليس هناك أي أدلة حتى الآن تشير إلى ما إن كان ذلك حادثًا أم غير ذلك. هذا هو استنتاجك، أليس كذلك؟»
ولما لم يُجب جرانت من فوره، رفع عينه وقال بنَبرة حادة: «أليس كذلك؟»
الآن ترى الشيء، وفي اللحظة نفسها يختفي.
هناك شيء خاطئ في صياغة القضية.
لا تكُن مطيَّة موهبتِكَ، يا جرانت.
ثمة شيء زائف في زاوية ما من زوايا هذا الأمر.
الآن ترى الشيء، وفي اللحظة نفسها يختفي.
حيلة ساحر.
حيلة تشتيت الانتباه.
يُمكِن للمرء أن يُفلتَ بأي شيء إذا ما شتت انتباه الآخرين.
هناك شيء زائف في زاوية ما …
«جرانت!»
أفاق جرانت على دهشة رئيسه. ماذا سيقول؟ أيُذعِن وينسى الأمر؟ أيلتزم بالوقائع والأدلة، ويلزم الجانب الآمن؟
سمع جرانت نفسه يقول في شعور مُنفصِل بالندم: «سيدي، أرأيت من قبل امرأة تُشق إلى نصفين؟»
فقال برايس ناظرًا إليه نظرةَ استهجان متحفظة: «أجل.»
قال جرانت: «يبدو لي أن هناك رائحة قوية لخدعة امرأة تُشق إلى نصفَين في هذه القضية.» ثم تذكر أن تلك هي الاستعارة التي استخدمها في حديثه مع الرقيب ويليامز.
لكن رد فعل برايس كان مختلفًا تمامًا عن ردِّ فعل الرقيب.
همهم برايس قائلًا: «يا إلهي! لن تُعيد كرة لامونت علينا مرةً أخرى، أليس كذلك، يا جرانت؟»
قبل سنوات طويلة كان جرانت قد ذهب إلى أقاصي هايلاند في إثر رجل وعاد به؛ عاد به بعد أن أُلقيَ القبض عليه في قضية ليس بها أي خطأ أو خلل لا ينقصها سوى العرض على القاضي لينطق بالحكم؛ وقد سلم جرانت الرجل وأبدى رأيًا بأنهم في مجمل الأمر قد ألقوا القبض على رجل بريء. (وكان ذلك صحيحًا.) لم تنسَ إدارة سكوتلانديارد تلك القضية أبدًا، فكان يُشار إلى أي رأي جامح يخالف الأدلة بجملة «إعادة كرة لامونت».
اشتد عزم جرانت لدى الإتيان المفاجئ على ذكر قضية جيري لامونت. فقد كان الشعور ببراءة جيري لامونت في قضية مُكتمِلة الأركان أكثر عبثية من الشعور بوجود خدعة في قضية بسيطة كتعرض أحدهم للغرق.
«جرانت!»
قال جرانت في عناد: «ثمة أمر غريب للغاية في صياغة هذه القضية.»
«ما الغريب؟»
«لو كنت أعرفه لتضمَّنه تقريري. إنه ليس بشيء واحد. إنما هي: الصياغة برمتها. الجو العام. الرائحة التي تفوح من المسألة. لا تفوح منها رائحة صائبة.»
«ألا يمكنك أن تشرح لضابط شرطة عادي مُجتهِد ما الرائحة المشبوهة في هذه القضية؟»
تجاهل جرانت قسوة رئيس الشرطة. وقال:
«ألا ترى، إن الأمر برمته من البداية به خطأ. مجيء سيرل من العدم، إلى الحفل. أجل، أعرف أننا نعرف هويته. وأنه من يقول إنه هو، وما إلى ذلك. بل إننا نعرف حتى إنه أتى إلى إنجلترا تمامًا مثلما يقول إنه أتى. عبر باريس. وحجز مقعده عن طريق مكتب أميريكان إكسبريس في مادلين. لكن هذا لا يُغير من حقيقة أن الحدث برمَّته ينمُّ عن شيء غير مألوف. أكان من المرجَّح إلى هذا الحد أن يكون سيرل حريصًا على لقاء والتر فقط لأنهما صديقان مُشتركان لكوني ويجن؟»
«لا تسلني! أصحيح ذلك؟»
«لمَ تلك الحاجة إلى لقاء والتر؟»
«لربما رآه يقدم برنامجه ولم يستطع الانتظار وحسب.»
«ولم يكن يتلقَّى أي رسائل بريدية.»
«من ذاك؟»
«سيرل. لم يتلقَّ أي رسائل طوال الوقت الذي قضاه في سالكوت.»
«ربما كان يُعاني من حساسية تجاه الصمغ على المظاريف. أو، سمعت أن الناس يتركُون خطاباتهم تتكدَّس في البنوك حتى يتم استدعاؤهم.»
«هذا أمر آخر. لا يُوجد من البنوك أو الوكالات الأمريكية المعتادة والمألوفة من سمع به. وهناك شيء آخر بالغ الدقة يبدو لي غريبًا بصرف النظر عن القيمة الفِعلية له. أقصد القيمة الفعلية له في هذه القضية. كان لديه صندوق صفيحي، يبدو أشبه بعلبة ألوان كبيرة، كان يستخدمه في الاحتفاظ بكل أدواته الخاصة بالتصوير. ومن ذلك الصندوق اختفى شيء. أبعاده تقريبًا تسع بوصات في ثلاث بوصات ونصف في أربعة، وكان ذلك الشيء موضوعًا في الصندوق في الجزء السفلي منه (إذ كان للصندوق صينية تبدو كغطاء علبة الألوان تحتها مساحة عميقة). ولا شيء من بين مُتعلِّقاته الآن يتناسب مع تلك المساحة الخاوية، ولم يتمكَّن أحد من اقتراح ما قد يكونه ذلك الشيء.»
«وما الغريب بهذا الأمر؟ لا بدَّ أن هناك مائة شيء وشيء يُمكن أن تسعه تلك المساحة.»
«مثل ماذا، على سبيل المثال، يا سيدي؟»
بعد تفكير قال برايس: «في الواقع، لا يُمكن أن أرتجل شيئًا الآن، لكن لا بدَّ أن هناك عشرات الأشياء.»
«هناك مساحة وافرة في حقائبه الأخرى لأي شيء يُريد أن يضعه ضمن أمتعته. لذا لن يكون هذا الشيء من الملابس، أو المُقتنيات العادية. وأيًّا ما كان في الصندوق، فقد كان شيئًا يحتفظ به بحيث يكون هو وحده من يتعامل معه.»
هنا ازداد انتباه برايس.
«والآن هذا الشيء مفقود. وهو غير ذي أهمية واضحة لهذه القضية. ربما كان غير ذي أهمية على الإطلاق. إنه فقط أمر غريب وملازم لتفكيري.»
فسأله برايس بشيء من الاهتمام أخيرًا: «في رأيك لماذا أتى إلى تريمنجز؟ بدافع الابتزاز؟»
«لا أدري. لم أُفكِّر في دافع الابتزاز.»
«ما الشيء الذي كان في الصندوق وكان بإمكان سيرل أن يُحوِّله إلى أموال؟ لم تكن رسائل بريدية، فهي لا تتَّخذ هذا الشكل. ربما تكون وثائق؟ لفافة من وثائق؟»
«لا أدري. أجل. ربما. الفِكرة التي تناقض دافع الابتزاز أنه بدا وكأنه يتمتَّع بوافر من المال.»
«عادة ما يكون المبتزِّون على هذا النحو.»
«أجل. لكن لدى سيرل مِهنة تدر عليه مالًا وفيرًا. الطماعون فقط هم من قد يرغبون بالمزيد. وبطريقة ما لم يبدُ لي سيرل طماعًا.»
«توقَّف عن التصرُّف كالأطفال يا جرانت. اجلس هادئًا لبرهة وفكِّر في المُبتزِّين الذين عرفتهم من قبل.» ثم جلَس برايس يرقُبُه بينما تستقر هذه الجملة في ذهنه، وبعدها قال بنبرة ساخرة: «بالضبط!». ثم أردف: «في رأيك من كان الشخص المقصود بالابتزاز في منزل تريمنجز؟ أتظنُّ أن السيدة جاروبي لديها ماضٍ؟»
فأجاب جرانت وهو يُفكِّر في إيما جاروبي من منظور جديد: «مُحتمَل. أجل، أظنُّ أن هذا مُمكن إلى حد بعيد.»
«نطاق الاختيار هنا ليس بواسع. فلا أعتقد أن لافينيا فيتش كانت سيئة السلوك يومًا ما، أليس كذلك؟»
فكَّر جرانت في الآنسة لافينيا فيتش العطوفة القلوقة بأقلامها الرصاص وهي مُنتصبة في شعرها الذي يشبه عش الطائر، ثم ابتسم.
«نطاق الاختيار ليس كبيرًا كما ترى. أعتقد أن الأمر لو كان ابتزازًا في الأساس فلا بدَّ أن المقصود به هي السيدة جاروبي. لذا فإنَّ نظريتك تقول إن سيرل قُتِل لسبب لا يمتُّ لليز جاروبي بصلة.» ولما لم يُجب جرانت من فوره على ذلك، قال برايس: «أنت تعتقد أنها جريمة قتل، أليس كذلك.»
«كلا.»
«كلا!»
«لا أعتقد أنه قد مات.»
ساد الصمت لحظة. ثم مال برايس إلى الأمام على الطاولة وقال في شيء هائل من ضبطٍ النفس: «اسمع يا جرانت. الموهبة هي الموهبة. ولك الحق فيما تتمتَّع به منها. لكن حين تستخدمها بغير حساب ينقلب الأمر إلى ضده. تحلَّ بشيء من الاعتدال بحق السماء. طيلة يوم أمسِ كنت تُفتِّش نهرًا في محاولة لإيجاد جثَّة رجل غارق، والآن أجدك تتحلَّى بالجرأة لتجلس هنا وتُخبرني أنك لا تظنُّ أنه غرق من الأساس. ماذا تظنُّ أنه فعل؟ سار مُبتعدًا حافي القدمين؟ أم أخذ يعرُج مُتنكِّرًا في شكل رجل ذي قدم واحدة يسير بمُساعدة عكازين صنعهما في لحظة تفرُّغ من غصنَي شجرة بلوط؟ إلى أين ذهب في رأيك؟ وكيف سيقتات من الآن فصاعدًا؟ صدقًا، يا جرانت، أعتقد أنك في حاجة إلى إجازة. فقط أخبرني ما الذي أدخل تلك الفِكرة إلى رأسك؟ كيف لعقلية بوليسية مُتمرِّسة أن تنحرف فجأة من قضية بسيطة وواضحة عن «مفقود يُعتقَد أنه غرق» إلى وهمٍ خيالي جامح لا يمتُّ بأي صلة إلى أي شيء في القضية؟»
كان جرانت يلوذ بالصمت.
«فضلًا، يا جرانت. أنا لا أهزأ بك. إنما أُريد أن أعرف حقًّا. كيف لك أن تصل إلى استنتاج مفاده أن رجلًا لم يغرق بعد أن وجدت حذاءه في النهر؟ كيف وصل الحذاء إلى النهر؟»
«لو كنت أعرف، يا سيدي، لانحلَّت مُعضلة هذه القضية.»
«هل كان بحوزة سيرل حذاء إضافي؟»
«كلا. الحذاء الذي كان يرتديه فقط.»
«الذي وُجِد في النهر؟»
«أجل، يا سيدي.»
«وما زلت تظن أنه لم يغرق، أليس كذلك؟»
«أجل.»
هنا ساد الصمت بينهما.
«لا أعرف بأيهما أبدي إعجابي أكثر، يا جرانت: جرأتك أم مخيلتك.»
لم ينبِس جرانت ببنت شفة. لم يبدُ له أن هناك شيئًا ليقوله. كان يعي بمرارة أنه قال بالفعل أكثر مما ينبغي.
«أيُمكنك افتراض نظرية — مهما كانت جامحة — يُمكن أن تناسب فكرتك عن كونه لا يزال على قيد الحياة؟»
«يمكنني افتراض واحدة. ربما تعرض للاختطاف، وأُلقي الحذاء في النهر كدليل على غرقه.»
فنظر إليه برايس نظرةَ احترام دراماتيكية. وقال: «أنت لم تختر المِهنة التي تناسب موهبتك، يا جرانت. أنت محقِّق جيد بحق، لكنك قد تجني ثروة من كتابة الأدب البوليسي.»
فقال جرانت في تهذيب: «إنما كنتُ أجيبك فقط على التحدي الذي وضعته أمامي وأذكر نظرية تتناسب والوقائع، يا سيدي. لم أقلْ إنني متأكِّد من صحَّتها.»
لطفت هذه الجملة من حدة برايس تجاهه بعض الشيء. فقال: «أراك أنت تخرج تلك النظريات من القبعة كالأرانب مثلما يفعل الحواة. نظريات بكافة الأشكال بما يتلاءم مع أيِّ قضية! لكن لا إكراه على تصديقها! اقترب وشاهد! اقترب وشاهد!» ثم توقَّف ونظر مطوَّلًا إلى وجه جرانت رابط الجأش، وأرجع ظهره ببطءٍ إلى ظهر كرسيه، مُسترخيًا، ثم ابتسم. وقال بنبرة ودودة: «يا لوجهِكَ الذي يخلو من أي تعبيرات مثل لاعب بوكر!» ثم أخذ يبحث في جيبه عن الثقاب. «أتعرف ما أحسدك عليه، يا جرانت؟ قدرتك على التحكُّم في نفسك. دائمًا ما أفقد صوابي بشأن هذا أو ذاك؛ وهذا لا يُجديني ولا يجدي أحدًا نفعًا. تقول زوجتي إن هذا بسبب أنني لستُ واثقًا بنفسي وأنني أخشى أني لن أحصل على ما أريد. لقد حضرت حلقة دراسية في علم النفس من ست محاضرات في كلية مورلي، ولا يُوجد شيء لا تَعرفه هي عن العقل البشَري. لا يسعُني سوى أن أخلُص إلى أنك شديد الثقة بنفسِك خلف هدوء أعصابك اللطيف هذا.»
فقال جرانت باسمًا: «لا أدري، يا سيدي. كنتُ بعيدًا تمامًا عن هدوء الأعصاب حين أتيت إليك لأقدم تقريري، ولم يكن لديَّ ما أطلعك عليه سوى قضية ظلَّت على ما كانت عليه تمامًا حين سلمتني إياها قبل أربعة أيام مضت.»
«إذن قلت في نفسك: «كيف حال ذلك العجوز مع الروماتيزم اليوم؟ هل سيسهل التحدُّث معه أم أن عليَّ طرح الأمر بحذر؟»» ثم تلألأت للحظة عيناه الصغيرتان اللتان تُشبهان عينَي الفيل. وأردف: «أرى أن نقدم للمفوض تقريرك المُتقَن عن الوقائع كما هي عليه، وألا نُطلعه على خيالاتك البديعة تلك.»
«كما ترى، يا سيدي. فلن يُمكنني أن أفسر للمفوض أن لديَّ تصوُّرًا مُختلِفًا نابعًا من إحساس داخلي.»
«أجل. وإن أردتَ نصيحتي، توقَّف عن الانتباه كثيرًا إلى إحساسك الداخلي، والتزم بما يقتنع به ذهنك. هناك عبارة بسيطة شائعة في تحقيقات الشرطة تقول: «بمُقتضى الأدلة». قلها ستَّ مرات في اليوم وكأنها صلاة المائدة قبل وبعد الوجبات، لربما ساعدتك على الحفاظ على واقعيتك ومنعتك من رؤية نفسك ألمعيًّا كفريدريك الكبير أو اعتبار نفسك قنفذًا أو شيئًا من هذا القبيل.»