الفصل السادس
إذا أمكننا القول إن إيما جاروبي كانت سعيدة لوجود ليزلي سيرل في تريمنجز، فإنَّ السبب الوحيد لذلك هو خطة تأليف الكتاب. فقد كان ذلك سيصرفُه بعيدًا عن المنزل لما تبقَّى من مدة إقامته في أورفوردشير؛ وبمجرَّد أن تنتهي رحلته إلى نهر راشمير سيغادر ولن يسمعوا عنه شيئًا بعدها أبدًا. لم يقع منه أي أذى حتى الآن، بقدر ما يُمكنها أن ترى. كانت ليز تحب أن تقضي الوقت مع ذلك المخلوق، بالطبع، بسبب أنهما شابان وبسبب أنهما يضحكان على الأشياء نفسها، وبسبب، وهذا أمر طبيعي، أنه شخص جذاب. لكن ليز لم تُظهِر أي أمارات على كونها منجذبة له جديًّا. فلم تكن تنظر إليه إلا حين يكون لديها ما تقوله له؛ ولم تتبعه بعينها كما تفعل الفتيات العاشقات، ولم تجلس إلى جواره قطُّ في غرفة ما.
لكن وعلى الرغم من كل ما تتمتَّع به إيما جاروبي من سرعة فهم، فقد كانت امرأة بليدة الإدراك.
ومن الغريب أن لافينيا شبه المتقوقعة هي من لاحظت هذا الأمر وأثار انزعاجها. وأخذ الانزعاج يتدفَّق ويفيض في كلماتها، رغمًا عنها تقريبًا، بعد مرور حوالي سبعة أيام. كانت تُملي أحد مؤلَّفاتها على ليز كالمعتاد، لكنها أخذت تزيد من صعوبة الأمر. وكان هذا نادر الحدوث حتى إن ليز أصيبت بالحيرة والارتباك. كانت لافينيا تُؤلِّف كتبها بارتياح كبير؛ إذ تكون مُهتمَّة بصدق بمصير بطلتها الحالية. لعلها لا تتذكَّر بعد ذلك إن كانت دافني أو فاليري هي من قابلت حبيبها بينما تجمع أزهار البنفسج وقتَ الفجر عند كابري، لكن بينما كانت دافني (أو فاليري) مشغولة بأمر جمع الزهور ولقاء حبيبها، كانت لافينيا فيتش ترقبُها وتحرسها وكأنها عرابتها. والآن، وعلى العكس من كلِّ ما سبَق، أصبحت لافينيا شاردة الذهن وتُواجه صعوبة كبيرة في تذكُّر ما كانت تبدو عليه سيلفيا.
قالت لافينيا وهي تذرع الحجرة جيئة وذهابًا: «أين توقفت يا ليز، أين توقفت؟» وكان هناك قلم رصاص عالق في شعرها الذهبي اللون والمصفف على شكل عش الطائر، وآخر تمضغه حتى لبه بين أسنانها الصغيرة.
«سيلفيا تدخل من الحديقة. عبر النافذة الفرنسية الطراز.»
«أوه، صحيح. «توقفت سيلفيا عند النافذة، وجسدها الممشوق يحدِّده الضوء خلفها، وعيناها الزرقاوان الواسعتان يشوبُهما الحذر والريبة …»»
فقالت ليز: «بنية.»
«ماذا؟»
«عيناها» ثم قلبت ليز بضع صفحات من النص. «الصفحة رقم ٥٩. «عيناها البنيتان شفافتان رائقتان كحبات المطر التي تُغطِّي أوراق الخريف …»»
«لا بأس، حسنًا. «… عيناها البُنيَّتان الواسعتان يشوبهما الحذر والريبة. وبحركة رشيقة بعد أن اتخذت قرارها خطت إلى داخل الحجرة، وكعبا حذائها الصغيران ينقران نقرًا خفيفًا على الأرضية المصنوعة من الباركيه …»»
«لم تكن ترتدي حذاءً ذا كعب.»
«ماذا تقولين؟»
«لم تكن ترتدي حذاءً ذا كعب.»
«ولم لا؟»
«كانت تلعب التنس لتوِّها.»
فقالت لافينيا: «ربما غيرت حذاءها، ألا يُمكنها ذلك؟» وكان في نبرتها شيء من الحدة الغريبة عليها.
فقالت ليز في تأنٍّ: «لا أظنُّ ذلك. فلا تزال تحمل مضرب التنس. لقد أتت عبر الشرفة «وهي تؤرجح مضربها برفق».»
انفجرت لافينيا قائلة: «أوه. حقًّا! أراهن أنها لا تستطيع اللعب حتى! أين توقفت؟ «خطت إلى داخل الغرفة … خطت إلى داخل الغرفة، وفستانها الأبيض القصير يُرفرف» … كلا؛ كلا، انتظري … «خطت إلى داخل الغرفة» …» ثم انفجرت تقول وقد قذفت بالقلم الممضوغ على المكتب: «أوه، تبًّا يا سيلفيا! من يعبأ بما تفعله تلك الحمقاء الساذجة! لنتركها واقفة عند النافذة اللعينة تموت جوعًا!»
«ما الخطب، أيتها الخالة فين؟»
«لا يمكنني التركيز.»
«هل يُقلقك أمرٌ ما؟»
«كلا. أجل. كلا. أجل، أظنُّ أنني قلقة، على نحوٍ ما، على الأقل.»
«أيمكنني مساعدتك؟»
مرَّرت لافينيا أصابعها في شعرها المصفَّف على شكل عش الطائر، ووجدت القلم فيه، وبدت مسرورة. «رائع، ها هو قلمي الأصفر». ثم أعادته مرة أخرى في تصفيفة شعرها. وأكملت تقول: «عزيزتي ليز، لا تظني بأنَّني أتدخل أو شيء من هذا القبيل، أستميحك في ذلك، لكن أنت بأيِّ شكل من الأشكال غير «مفتونة» ولو قليلًا … قليلًا بليزلي سيرل، أليس كذلك؟»
فكرت ليز كيف كان من شيَم خالتها أن تستخدم كلمة عتيقة تعود لعهد الملك إدوارد مثل كلمة «مفتونة». كان على ليز دائمًا أن تُحدِّث من كلمات لافينيا العتيقة.
«إن كنتِ تقصدين بكلمة «مفتونة» أنني أحبه، فأَريحي بالك. لستُ واقعةً في حبه.»
«لا أعلم إن كان هذا هو ما أعنيه. فأنتِ لا تُحبِّين مغناطيسًا إذا كان الأمر يتعلق بالحب.»
«لا أحب ماذا! ما الذي تتحدَّثين عنه؟»
«إنه ليس وقوعًا في الحب، لم يصل الأمر إلى هذا الحد. إنه انجذاب. إنه يفتنك، أليس كذلك.» وصاغت لافينيا جملتها هذه في صيغة خبرية وليس في صورة سؤال.
رفعت ليز نظرها إلى هاتَين العينين المضطربتَين البريئتين وحاولت التملص.
فسألت: «لماذا قد تظنِّين ذلك؟»
قالت لافينيا: «أظن لأنني أشعر بذلك أيضًا.»
كان هذا غير متوقع تمامًا حتى إن ليز لم تجد كلمات لتنطق بها.
ثم قالت لافينيا بنبرة بائسة: «أتمنَّى الآن لو أنني لم أدعُه إلى تريمنجز. أعلم أن هذا ليس خطأه — هو لم يتعمَّد فعل أي شيء — لكن لا شكَّ أنه شخص مُثير للانزعاج. إن سيرج وتوبي توليس يقاطعان بعضهما بعضا …»
«هذا ليس بشيء جديد!»
«أجل، لكنهما أصبحا صديقَين مجددًا، ويتصرَّف سيرج بطريقة جيدة كثيرًا وفاعلة، والآن …»
«لا يُمكنكِ إلقاء لائمة على ليزلي سيرل بسبب هذا الأمر. كان هذا سيحدث حتمًا وبالضرورة. تعرفين أنه كان سيحدث.»
«والطريقة التي أخذته بها مارتا معها بعد العشاء في تلك الليلة حتى ساعة متأخرة كانت غريبة للغاية. أقصد الطريقة التي «استولت» عليه بها كمرافق لها، من دون أن تنتظر لترى ما سيفعله الآخرون.»
«لكن القس كان موجودًا لتوصيل الآنسة إيستون-ديكسون إلى المنزل. كانت مارتا تعلم هذا. من الطبيعي أن يذهب القس مع الآنسة ديكسون؛ فهما يقطنان في الجهة نفسها.»
«ليس الأمر فيما فعلت، بل في الطريقة التي فعلته بها. لقد … لقد «انتزعته».»
«أوه، تلك هي طريقة مارتا المُتغطرِسة وحسب.»
«هراء. لقد شعرتْ هي أيضًا بذلك الشعور. اﻟ … الافتتان.»
فقالت ليز: «بالطبع، فهو جذاب إلى حدٍّ بعيد» وفكرت كيف أن هذه الصيغة المبتذلة لم تنجح تمامًا في أن تفي بأي صفة من صفات ليزلي سيرل.
قالت لافينيا، بنبرة حزينة: «إنه … غامض. ليس هناك كلمة أخرى تصفُه. فأنتِ تنتظِرين وتُراقبين الشيء التالي الذي سيفعله، وكأنه … وكأنه إشارة، أو نذير، أو إلهام، أو شيء من هذا القبيل.» واستخدمت لافينيا كلمة «أنت» بصورة غير شخصية، لكنها نظرت إلى ليز في عينيها بتحدٍّ وقالت: «حسنًا، تفعلين هذا، أليس كذلك!»
قالت ليز: «أجل. أجل، أظنُّ أن الأمر على هذا النحو. وكأن … وكأن أبسط شيء يفعله له مدلول ومغزى.»
التقطت لافينيا القلم الممضوغ من على المكتب وراحت ترسم به بلا تركيز على دفتر المسوَّدة. لاحظت ليز أنها ترسُم أشكالًا لرقم ثمانية. لا بدَّ أن لافينيا منزعجة كثيرًا بالفعل. فحين تكون سعيدة ترسم جدارًا من الطوب.
قالت لافينيا وهي تُفكِّر في الأمر بعمق: «هذا الأمر في غاية الغرابة. فأنا أشعر «بالرغبة في المغادرة» حين أكون معه في مكان واحد كالتي أشعر بها عند وجودي في المكان نفسه مع مُجرم شهير. كل الفارق أن الأولى ألطف بالطبع. لكنه الإحساس نفسه بأن … بأن هناك شيئًا خاطئًا.» ثم رسمت لافينيا في غضب بضعة أشكال للرقم ثمانية. وأردفت: «لو أنه اختفى الليلة، وأخبرني أحدهم أنه كان شيطانًا وسيمًا وليس كائنًا بشريًّا على الإطلاق، كنت سأصدِّقه. أقسم أنني سأُصدقه، قطعًا كنت سأفعل.»
بعد ذلك ألقت لافينيا بالقلم مرة أخرى على المكتب، وقالت بضحكة واهية: «لكن كل هذا محض عبث. إنك تنظرين إليه وتحاولين أن تكتشفي الشيء الاستثنائي بشأنه، وماذا تجدين؟ لا شيء. لا شيء مميز لا يمكن إيجاده في أشخاص آخرين، أليس كذلك؟ لون شعره الأشقر المتوهج وبشرته التي تشبه بشرة الأطفال؛ إن ذلك المراسل النرويجي لدى صحيفة كلاريون الذي اعتادَ والتر اصطحابه إلى هنا كان يتمتع بتلك الصفات. ويتسم سيرل برشاقة غير معتادة بالنظر إلى كونه رجلًا؛ لكن سيرج راتوف يتمتع بذلك أيضًا. كما أن له صوتًا لطيفًا وديعًا وطريقة حديث بطيئة ممطوطة تجذبك للاستماع إليه؛ لكن نصف سكان تكساس وكذلك قطاع كبير من الأيرلنديين لديهم السِّمة نفسها. حدِّدي صفاته الجذابة، فما الذي تدلُّ عليه؟ يُمكنني أن أخبرك بما لا تدلُّ عليه. إنها لا تدلُّ على ليزلي سيرل.»
فقالت ليز بنبرة جادة: «أجل. لا تدلُّ عليه.»
«ستجدين أن … أن الشيء المُثير للاهتمام لم يأتِ على ذكره أحد. ما الشيء الذي يجعله مختلفًا؟ حتى إيما شعرت به أيضًا.»
«أمي؟»
«لكن هذا الشيء قد أخذَها في الاتجاه المعاكس. إنها تكره هذا الشيء. هي غالبًا ما تعترض على من أستضيفهم هنا، بل إنها حتى لا تعجب بهم أحيانًا. لكنها تكره ليزلي سيرل.»
«هل أخبرتكِ بذلك؟»
«كلا. لم يتحتَّم عليها ذلك.»
كلا، هكذا فكرت ليز. لم يتحتَّم عليها ذلك. إنَّ لافينيا فيتش — المحبوبة العطوفة شاردة الذهن — صانعة الروايات الخيالية للمُراهقين الدائمين تتمتَّع في نهاية المطاف بحدسِ الكُتاب.
قالت لافينيا: «أتساءل كثيرًا إن كان هذا الشيء هو أنه مجنون بقدر ما.»
«مجنون!»
«جنون لحظي فقط، بالطبع. فثمة جاذبية خبيثة لدى الأشخاص الذين يتَّصفون بالجنون الشديد بشأن شيء ما، ويتَّسمون بالعقلانية تجاه كل شيء آخر.»
قالت ليز: «فقط حين تعرفين بأمر جنونهم. سيتعيَّن عليكِ أن تعرفي عن عقدته الذهنية قبل أن تعاني من أي جاذبية خبيثة.»
أخذت لافينيا تُفكِّر في هذا. ثم قالت: «أجل. أعتقد أنكِ محقة. لكن الأمر لا يهمُّ؛ لأنني قررت بنفسي أن نظرية «الجنون» لا تُجدي نفعًا. فلم ألتقِ من قبل بأحدٍ أكثر عقلانية من ليزلي سيرل. هل التقيت أنت؟»
ولم تكن ليز قد فعلت.
ثم قالت لافينيا، وقد عادت إلى الرسم بدون تركيز مرةً أخرى محاولة اتِّقاء نظرات ابنة أختها: «لا تعتقدين أن والتر بدأ يشعر بالانزعاج من ليزلي، أليس كذلك؟»
قالت ليز، في اندهاش: «والتر. كلا، بالطبع لا. إنهما صديقان عزيزان.»
رسمت لافينيا بابًا على منزلٍ رسمته بسبعة خطوط دقيقة.
فقالت ليز، في تحد: «لماذا قد تظنِّين هذا بشأن والتر؟»
أضافت لافينيا أربعة نوافذ وفتحة مدخنة، وأخذت تنظر في تأثير ذلك على الرسم.
«لأنه يقدِّره ويحترم مشاعره كثيرًا.»
«يقدره! لكن والتر دائمًا ما …»
قالت لافينيا، وهي ترسُم الدخان المنبعث من المدخنة: «إن والتر يتعامَل مع الناس الذين يروقونه على أن وجودهم في حياته أمر مفروغ منه ومُسلَّم به. وكلَّما راقوه أكثر، صار وجودهم مسلَّمًا به أكثر. إنه حتى يعتبر وجودك في حياته أمرًا مسلَّمًا به، كما لاحظتِ من دون شكٍّ قبل ذلك. وكان يأخذ وجود ليزلي سيرل أمرًا مفروغًا منه حتى مؤخَّرًا. لكنه لم يعد يعتبره كذلك.»
راحت ليز تفكر في هذا في صمت.
ثم قالت في النهاية: «إن كان لا يروقه، لمَ قام معه برحلة نهر راشمير، أو شاركه الكتاب.» وأضافت بينما كانت لافينيا مُنهمِكة تمامًا في وضع مقبض الباب في مكانه الصحيح: «أخبريني، أكان سيفعل؟»
ثم قالت لافينيا، بنبرة جافة قليلًا: «سيُدرُّ الكتاب ربحًا وفيرًا.»
فردت ليز في عناد: «ما كان والتر ليتعاون أبدًا مع أحد وهو لا يروقه.»
قالت لافينيا وكأنها لم تتحدَّث: «وربما يجد والتر صعوبة في تفسير عدم رغبته في تأليف الكتاب في نهاية المطاف.»
قالت ليز، وهي شبه غاضبة: «لماذا تُخبرينني بهذا؟»
توقفت لافينيا عن الرسم وقالت بنبرة ودية: «ليز يا عزيزتي، لا أعلم ذلك يقينًا، إلا أنني كنت آمل أن تجدي طريقة لطمأنة والتر. بأسلوبك الذكي. أي من دون جذب انتباهِه إلى الكثير من التفاصيل.» ثم التقت عيناها بنظرات ليز، فقالت: «أوه، أجل، أنتِ ذكية. أذكى بكثيرٍ مما سيكون عليه والتر يومًا. هو ليس ذكيًّا للغاية، ذلك المسكين والتر. كان أفضل ما حدث له أنكِ أحببتِه.» ثم دفعت بورق المسودة بعيدًا عنها وابتسمت فجأة، وأردفت: «لا أظنُّ أن من السيئ تمامًا أن يكون له مُنافس يتنافس معه. طالما أنه لا توجد فرصة أن تُصبح تلك المنافسة جادة.»
فقالت ليز: «بالطبع ليست جادة.»
فقالت لافينيا، وقد بدأت تمضغ القلم مرةً أخرى بعد أن التقطته: «إذن لنُبعد تلك الحمقاء عن النافذة وننتهِ من الفصل قبل الغداء.»
لكن ليز لازمها إحساس بالصدمة فيما كانت تُسجِّل أفعال الحمقاء سيلفيا، بما يخدم مكاتب إعارة الكتب ومصلحة الضرائب إلى أقصى حد. لم يخطر ببالها أن اهتمامها بسيرل يُمكِن أن يكون معروفًا لدى أحد غير نفسها. والآن لا يبدو أن لافينيا وحدها تعرف على وجه الدقة ما كانت تشعُر به تجاهه، لكنها ألمحت أيضًا إلى أن والتر ربما يعرف هو الآخر. لكن من المؤكَّد أن هذا مستحيل. أنَّى له أن يعرف؟ لقد عرفت لافينيا لأنها هي الأخرى كانت ضحية جاذبية سيرل كما قالت بكل صراحة. لكن لا يُمكن أن يكون لدى والتر مؤشِّر كهذا على مشاعرها.
ولكن كانت لافينيا محقَّة تمامًا. فقد تغيَّر موقف والتر السلس تجاه الزائر الذي كان يعتبر وجوده أمرًا بديهيًّا إلى كونه علاقة بين مُضيف وضيفه. تغير موقفه شيئًا فشيئًا لكنه حدث أيضًا بين ليلة وضحاها. فمتى تغير موقفه ولماذا؟ كان هناك ذلك الحادث المؤسف عن تزامن وجود صندوقَين من الحلوى كل منهما مختلفٌ عن الآخر كثيرًا؛ لكن لا يُمكن لهذا أن يعتمل في قلب أي شخص راشد عاقل ويزرع فيه ضغينة. فشراء الحلوى للفتيات يُمثِّل رد فعل تلقائيًّا لدى الأمريكيين؛ وهو أمر ليس له مغزى أكثر من مغزى السماح للفتيات بالمرور عبر الباب أولًا. لا يُمكن لهذا أن يثير حنق والتر. إذن كيف خمَّن والتر السر الذي لم تتشاركه إلا مع لافينيا رفيقتها في المعاناة؟
واستطرد عقلُها يتدبَّر لافينيا وقدرتها على الفهم والإدراك. ففكَّرت في الشيء الوحيد الذي تركتْه لافينيا خارج لائحة الاتهام — وهو ازدراء توبي توليس — وتساءلت ما إن كانت لافينيا قد أغفلت ذكرَه لأنَّها لم تكن تعرف معاناته، أم لأنها غير مبالية وحسب بأي معاناة يُمكن لتوبي أن يتعرَّض لها. كان توبي — وكما تعرف القرية بأكملها — يتحمَّل أشد عذابات خيبة الأمل التي يمكن أن يتعرض لها إنسان على وجه الأرض. فقد رفض سيرل — بلامبالاة لطيفة لا يُمكن تصوُّرها — الذهاب لمُشاهَدة هوو هاوس، أو المشاركة بأي شكل في الأنشطة الأخرى التي كان توبي يتوق لترتيبها من أجله. بل إنه أخفق في أن يُظهر أي اهتمام حين عرض عليه توبي أن يذهب به إلى ستانوورث ليُقدمه هناك. لم يسبق أن حدث هذا لتوبي من قبل. فالحرية التي يتمتَّع بها توبي في التنزه بين روائع ستانوورث الدوقية هي بمثابة بطاقته الرابحة. ولم يسبق له قطُّ أن لعب بها هباءً. كانت الخدعة تنطلي على الأمريكيِّين بصفة خاصة. لكن ليس مع هذا الأمريكي. لم يكن سيرل يرغب في أن يكون له صلة بتوبي توليس، وقد جعل هذا واضحًا بأكثر الأساليب الحميدة جاذبية. لقد راوغه سيرل في كياسة وكانت مشاهدة مراوغته ممتعة رغم أنها حدثت على نحو لاذع. فقد راح المثقفون في سالكوت يُشاهِدون مراوغته في سرور واضح.
وكان هذا هو ما أغضب توبي وأربكه.
كان من السيئ للغاية أن يزدريه ليزلي سيرل؛ أما أن يعرف الجميع أنه قد ازدُريَ فهذا هو العذاب.
فكَّرت ليز أن قدوم ليزلي سيرل إلى سالكوت سانت ماري لم يكن حقًّا حدثًا سعيدًا بصورة خاصة. ومن بين كل الأشخاص الذين دخل سيرل حياتهم، ربما كانت الآنسة إيستون-ديكسون وحدها سعيدة تمامًا بمجيئه. كان سيرل رائعًا معها؛ فكان ودودًا وحليمًا حيال أسئلتها التي لا تنتهي، وكأنه هو نفسه امرأة مهتمة بالأحاديث التافهة عن عالم السينما والأفلام. لقد عرض عليها كل الإشاعات الصغيرة عن سياسات الاستوديوهات، وتبادل معها ذكريات الأفلام الجيدة والسيئة، حتى قالت لافينيا إنهما يشبهان ربتَي منزل تتبادلان وصفات الطعام.
كانت تلك هي الليلة التي أتت فيها مارتا لتناول العشاء؛ وأثناء تلك الأمسية مرَّت لحظة على ليز — حين شاهدت سيرل مع الآنسة ديكسون — تملَّكها فيها شعور رهيب بالخوف من أنها في نهاية الأمر ربما تكون واقعة في حبِّ ليزلي سيرل. لكنها لا تزال تشعر بالامتنان تجاه مارتا لأنها طمأنتها. فحين استولت مارتا على ليزلي سيرل واصطحبته معها إلى الخارج في جنح الليل ولم تشعر ليز وقتها ولو بأبسط انقباض لدى رؤيتهما يغادران، حينها عرفت ليز أنها لا تشعر نحوه بالحب، على الرغم من قوة ما تشعر به من جاذبيته.
والآن، بينما تُسجل ليز أفعال الحمقاء سيلفيا، قررت أنها ستأخذ بنصيحة لافينيا وستجد طريقة تطمئن بها والتر، حتى يذهب إلى تلك الرحلة سعيدًا بدون أي ضغينة في قلبه تجاه سيرل. حين يعود والتر وسيرل من ميناء مير — حيث يحصُلان على زورقَي كانو ويرتبان لنقلهما إلى أوتلي حتى يصبحا بانتظارهما هناك — ستفكر ليز في القيام بشيء صغير وخاص مع والتر؛ شيء كمحادثة ثنائية ذات طابع حميمي. فقد كانت الأمور ثلاثية في أغلب الأحيان في الآونة الأخيرة.
أو ربما كانت ثنائية في أغلب الأحيان، لكن على النحو الخطأ.