الفصل السابع
رحَّب والتر بفكرة أن يُكملوا تقدُّمهم في زوارق الكانو، ليس لأنه يتطلع إلى حشر نفسه في قارب صغير غير ملائم، بل لأن هذا الأمر سيقدم له «قصته». فإن كان يريد النجاح للكتاب، فلا بد أن يكون لديه «مغامرات»، وكان استخدام وسيلة انتقال غير مُعتادة هو أسهل طريق للحصول على تلك المغامرات. فمن الصعب أن يكتسب المرء من التجارب الغريب والطريف وهو محمول على أكف الراحة في سيارة. وقد فقد السير سمعته واعتباره منذ أن أصبح عالميًّا في شكل نشاط يُدعى التنزُّه على الأقدام. كان والتر — الذي قطع مسافة كبيرة من أوروبا سيرًا على قدمَيه ومعه فرشاة أسنان وقميص احتياطي في جيب معطفِه الواقي من المطر — ليُسر كثيرًا بقطع وادي راشمير سيرًا على الأقدام، لكنه شعر بأنه لا يُمكِن له أن يأمل في أن ينال رضا الهواة المعاصرين. فأسلوب فرشاة الأسنان والقميص الاحتياطي كان من شأنه فقط أن يُحيِّر المتحمسين الذين يتلذذون بعذاب السير، ويسيرون بتثاقل، وهم يحملون الكثير من الأغراض ويرتدون أحذية ثقيلة، وقد ثبتت أعينهم الخالية من أي تعبيرات عند مستوى الأفق، حيث يصبحون أكثر شبهًا بأطلس من أوديسيوس. كما أن عبور الوادي سيرًا كحدث عارض مُرافق لعرض عرائس أو لعرض بانش وجودي قد يكون جيدًا للنشر في كتاب، لكنه لم يكن ليليق بقدر شخص صنع لنفسه مكانة تقارب حد الامتلاك في مجال برامج استضافة أصحاب مهن «الهواء الطلق».
لذا رحَّب والتر بفكرة زورق الكانو. وفي الأسبوع الماضي أو نحو ذلك بدأ يُرحِّب بالفكرة لسبب آخر مختلف تمامًا.
سيصبح والتر قريبًا من ليزلي سيرل يومًا بعد يوم سواء كان في سيارة أو سيرًا على الأقدام؛ وفي زورق الكانو سيصبح بمنأى عنه فعليًّا. لقد وصل والتر إلى المرحلة التي يتسبَّب فيها حتى حديث سيرل البطيء الممطوط في مضايقته إلى الحد الذي يُصبح فيه في حاجة إلى سيطرة لحظية على نفسه. ولم يساعد وعيه الخافت بأنه كان سخيفًا قليلًا في التخفيف من انزعاجه منه. وجاءت الطامة الكبرى حين بدأت ليز تصبح ودودة معه. لم يُحلل والتر يومًا سلوك ليز تجاهَه، والذي بدا دائمًا ملائمًا. بمعنى أن ليز كانت تُقدم له التفاني المتساهل الذي يعتبره مثاليًّا في امرأة بعد قضائه ثمانية أشهر مع مارجريت ميريام. والآن أصبحت ليز ودودة معه. كانت كلمة «التعطُّف» هي كلمته الخاصة لوصف الأمر. ولولا وعيه الجديد بليز لما أمكن له أن يلحظ التغيير، لكن ليز أصبحت تحتلُّ الصدارة في تفكيره فراح يُحلِّل حتى أبسط كلماتها، وأكثر تعبيراتها اقتضابًا. وهكذا تثبَّت والتر من أنها أصبحت ودودة معه. ودودة! «تجاهه». تجاه والتر ويتمور.
ما كان لشيء جذري أو غير لائق كهذا ليحدث لولا وجود ليزلي سيرل. كان والتر يحتاج إلى قدر كبير من ضبط النفس حين يفكر في ليزلي سيرل.
قرَّر والتر وسيرل أن يُخيِّما في العراء كل ليلة؛ إذ يسمح الطقس بذلك؛ وسُر والتر بهذا أيضًا. فهذا لن يسمح له وحسب بأن يصف مجموعة نجمات الدب الكبير وهي متداخلة مع فروع شجر البلوط، أو أن يصف حياة الليل بين الحقول والنهر، لكنه سيُعفيه من الوجود معه داخل غرفة واحدة في نُزلٍ أثناء الليل. يمكن للمرء أن يخرج ليتمشى وحيدًا بعيدًا عن مكان مبيته، لكن لا يمكن له أن يفعل، وهو في نُزل صغير، من دون أن يلاحظه أحد.
لكن على الرغم من كل الهزات الخفية التي كانت تُقلقِل منزل تريمنجز — هواجس لافينيا، واستياء والتر، وشعور ليز بالذنب، وما تحمله إيما من مشاعر كراهية — كانت الحياة على السطح تسير بسلاسة. فقد أشرقت الشمس في تألق غير متجانس يشيع للغاية في إنجلترا في الفترة السابقة لاكتساء آخر الأشجار بالأوراق؛ وكانت الليالي تخلو من الرياح وكانت دافئة كالصيف. وذات ليلة، حين كان سيرل يقف في الشرفة الحجرية بعد العشاء، أشار إلى أن إنجلترا هذه يُمكن أن تكون مثل فرنسا تلك.
حيث قال: «إنها تُذكر المرء بفيلفرانش في ليلة صيفية. لقد كانت وما زالت حتى الآن مقياس السِّحر بالنسبة إليَّ. الأضواء على صفحة الماء، والهواء الدافئ الذي يحمل رائحة الأشجار، والقارب الأخير المتجه إلى السفينة بين الساعة الواحدة والثانية صباحًا.»
سأله أحدهم: «أي سفينة؟»
رد سيرل في تكاسل: «أي سفينة. لم أكن أعرف أن بريطانيا الخائنة تملك هذا السحر أيضًا.»
قالت لافينيا: «سحر! نحن أصل السحر.»
وضحكوا قليلًا وسادت حالة من الود بين الجميع.
ولم يُعكِّر شيء هذا الود حتى اللحظة التي انطلق فيها والتر وسيرل معًا عبر الطبيعة الإنجليزية الخلابة في ساعة متأخِّرة من ليلة أحد أيام الجمعة. كان والتر قد قدَّم برنامجه الإذاعي المعتاد، وأتى إلى المنزل ليتناول العشاء (الذي دائمًا ما يتناولونه مُتأخرًا عن موعده المعتاد مدة ساعة ونصف في يوم تقديمه «للبرنامج الإذاعي»)، وشربوا جميعًا نخب نجاح كتاب «زوارق كاوي في نهر راشمير». ثم أقلتهما ليز بالسيارة في ذلك المساء الربيعي الجميل عبر وادي راشمير، حيث نقطة انطلاقهما التي تبعد مسافة عشرين ميلًا. كان من المزمع أن يقضوا ليلتهما في جريمز هاوس؛ وهو كهف يطلُّ على المروج المرتفعة التي ينبع منها النهر. قال والتر إنَّ من الملائم والمناسب أن يبدآ قصتهما في أجواء إنجلترا ما قبل التاريخ، لكن سيرل شك إن كان من المرجح أن تكون التنسيقات المحلية أكثر بدائية من بعض التنسيقات التي عاينها بالفعل. فقد قال إن جزءًا كبيرًا من إنجلترا لا يبدو وكأنه ينأى كثيرًا عن مظاهر البدائية.
غير أن سيرل تحمس للغاية لفكرة النوم في الكهف. ففي صغره، نام سيرل على أرضية شاحنة، وفي الصحراء الجرداء الواسعة، وفي المرحاض، وعلى طاولة بلياردو، وفي أرجوحة شبكية، وفي داخل كابينة لعبة العجلة العملاقة في مهرجان، لكنه حتى الآن لم يُجرِّب النوم في كهف. لذا تحمس للغاية للنوم في الكهف.
أخذتهما ليز إلى حيث انتهى الطريق، وسارت معهما على طول المسار العشبي الذي يبلغ مائة ياردة لتتفحص ملجأهما لهذه الليلة. كان ثلاثتهم مبتهجين للغاية، بطونهم ملأى بطعام شهي وشراب طيب، وثملين قليلًا بفعل سحر الليل. ثم تركا طعامهما وكيسا نومهما، ورافقا ليز في مسيرها عائدة إلى السيارة. وحين توقفوا عن الكلام قليلًا ملأ السكون آذانهم، حتى إنهم حافظوا على صوت وقع أقدامهم ليصبح هناك صوت يسمعونه.
قالت ليز كاسرةً الصمت: «أتمنَّى لو أنني لن أعود إلى المنزل لأنام تحت سقفه. إنها ليلة من أجل الاستمتاع بالبدائية والبساطة.»
لكنها قطعت المسار المليء بالحُفَر حتى وصلت إلى الطريق، فصنعت الكشافات الأمامية لسيارتها بقعًا بلون زمردي على العُشب القاتم، وتركتهما إلى الصمت والبدائية.
بعد ذلك أصبح المُستكشفان مجرد أصوات في سماعة الهاتف.
ففي كل مساء كانا يتَّصلان بمنزل تريمنجز من إحدى الحانات أو أكشاك الهاتف ليرويا ما يحرزانه من تقدم. فقد نجحا في قطع المسافة حتى أوتلي سيرًا ووجدا زورقيهما في انتظارهما. فأخذاهما إلى النهر وكانا مسرورَين بهما. ومن ثمَّ امتلأت مفكرة والتر الأولى بالفعل، وكان سيرل شاعريًّا في وصفه لجمال إنجلترا هذه في أولى مظاهر تفتُّحه. وقد اتصل خصيصي من قرية كابل ليتحدَّث إلى لافينيا ويخبرها أنها كانت محقة بشأن السحر؛ إذ إن إنجلترا تحوز بالفعل النسخة الأصلية منه.
قالت لافينيا بنبرة يشوبها الشك والارتياح حين أغلقت الهاتف: «يبدو أنهما في غاية السعادة.» كانت تتوق إلى الذهاب لرؤيتهما، لكن كان الاتفاق أن يكونا كغريبين في بلاد غريبة، وأن يُبحِرا في النهر عبر سالكوت سانت ماري وكأنهما لم يرياها من قبل.
قال والتر: «ستُفسدون انطباعي لو ظهر أحد من منزل تريمنجز في هذه الرحلة. لا بدَّ لي أن أراه وكأنني لم أره من قبل؛ أقصد الريف؛ ينبغي أن أراه وكأنه جديد عليَّ.»
وهكذا أخذ من في منزل تريمنجز ينتظرون كل ليلة من أجل تقريرهما الذي يُقدمانه عبر الهاتف؛ وهم يتندرون بعض الشيء على هذه الهوة الخيالية.
ثم وفي مساء يوم الأربعاء، أي بعد خمسة أيام من انطلاقهما في رحلتهما، دلفا إلى حانة سوان وحياهما الجميع باعتبارهما آل ستانلي من راشمير ودُعيا لتناول المشروبات على حساب العديد منهم. توقفا في بيتس هاتش، كما قالا، حيث ناما هناك؛ لكنهما لم يتمكَّنا من مقاومة السير عبر الحقول إلى سالكوت. كانت المسافة من بيتس هاتش وحتى سالكوت تبلغ ميلين، إذا ما قطعاها عبر النهر، لكن وبفضل انحناء نهر راشمير كانت المسافة بينهما إذا ما قطعاها عبر الحقول ميلًا واحدًا. لم يكن هناك أي نزل في بيتس هاتش؛ لذا سارا على طريق الحقول نحو سالكوت وسوان التي تُعتبَر ملاذًا مألوفًا لهما.
كان الحديث عامًّا في البداية حيث يسأل كل وافد جديد عن كيفية سير الأمور معهما. لكن سرعان ما أخذ والتر جعته واتجه إلى طاولته المفضلة عند الزاوية، وبعد ذلك بوقتٍ قصير تبعه سيرل. ومنذ تلك اللحظة ولعدة مرات كان واحد أو أكثر من المتسكعين عند المشرب يتجه نحوهما لينخرط معهما مرة أخرى في محادثة، ليتوقف بعدها ويغير رأيه؛ إذ يجد أن هناك شيئًا غريبًا في سلوك وأسلوب كلا الرجلين تجاه الآخر. لم يكونا يتشاجران؛ كان الأمر فقط أن هناك شيئًا شخصيًّا وطارئًا في حديثهما جعل الآخرين يحجمون — بغير وعي منهم — عن الانضمام إليهما.
وبعدئذ، وعلى نحو مفاجئ تمامًا، غادر والتر المكان.
غادر والتر من دون جلبة ومن دون أن يُلقيَ تحية المساء. ولم ينبههم إلى خروجه إلا ضربة الباب العنيفة. كانت ضربة الباب بليغة، وتنمُّ عن الغضب والحسم؛ كان خروجه حادًّا للغاية.
أخذوا ينظرون جميعًا في حيرة بين الباب والجعة التي لم يكمل تناولها في المكان الشاغر الذي كان والتر يجلس فيه، وقرروا أن والتر سيعود رغم الغضب الذي يفوح من صوت الباب.
كان سيرل جالسًا في ارتياح مُسترخيًا قبالة الجدار، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة؛ فاتجه بيل مادوكس نحوه وانضم إليه، شجعه على ذلك رغبته في التخفيف من حدة ذلك التوتُّر السرِّي الذي غطى الزاوية وكأنه سحابة في الأفق. وتجاذبا أطراف الحديث عن المحركات الخارجية وتجادلا بشأن أسلوب الألواح المتداخلة في مقابل أسلوب تراصِّ الحواف بين الألواح في بناء السفن، حتى فرغَتْ أكوابُهما. وبينما كان مادوكس يهم بالذهاب لإعادة ملْء كوبَيهما لاحظ السائل الساكن في كوب والتر وقال: «من الأفضل أن أُحضر كوبًا آخر للسيد ويتمور؛ فقد أصبح هذا الشراب غير مُستساغ.»
فقال سيرل: «أوه، لقد ذهب والتر ليخلد للفراش.»
شرع مادوكس يقول: «لكن الساعة لم تتجاوز …» ثم أدرك أنه سيفتقِر بذلك إلى اللباقة.
«أجل، أعرف؛ لكنه رأى أن ذلك آمن أكثر.»
«هل شعر بتعب؟»
قال سيرل بنبرة ودودة: «كلا، لكنه لو بقيَ لأكثر من هذا لقرر أن يخنقني. وفي المدرسة التي كان والتر يذهب إليها، لديهم وجهة نظر سيئة عن الخنق. إنه يضع الإغراء الذي يحفزه لذلك خلف ظهره. حرفيًّا.»
فقال بيل الذي شعر أنه يعرف هذا الأمريكي الشاب أكثر من معرفته بوالتر ويتمور: «هل كنتَ تُزعج السيد والتر المسكين؟»
أجاب سيرل في مرح: «إلى حد شنيع» وبادل بيل ابتسامة بابتسامة.
أصدر مادوكس صوتًا بلسانه وذهب ليحضر الجعة.
بعد ذلك، أصبحت المحادثة عامة. ومكث سيرل حتى وقت إغلاق الحانة، وودع ريف، مالك الحانة، بينما كان يُغلق الباب خلفهم، وسار عبر شارع القرية مع البقية. وعند الزقاق الضيق الذي يؤدي من بين المنازل إلى الحقول، استدار سيرل ليسلكه بينما يرشقونه بتعازيهم الساخرة لعدم وجود سرير دافئ مريح له، وبدوره رشقهم سيرل باتهامات الشيخوخة وافتقاد الهواء النَّقي.
ثم صاح بهم، بعد أن قطع مسافة كبيرة من الزقاق: «طابت ليلتكم!»
وكانت هذه هي آخر مرة يرى فيها أحد من سالكوت سانت ماري وجه ليزلي سيرل.
وبعد ذلك بثمانٍ وأربعين ساعة، عاد آلان جرانت إلى الظهور في منزل تريمنجز.