معانٍ وألقاب
ظهرت كلمة أرستقراطية لأول مرة في بلاد الإغريق قديمًا. لم تكُن تعني في الأصل مجموعة من الأفراد، بل أحد أشكال الحُكم: حُكم الصفوة. لكن، من كانوا هؤلاء الصفوة؟
(١) من دستور إلى طبقة اجتماعية
اعتقد أفلاطون (في كتابه «الجمهورية») أن أفضل الناس هم أكثرهم خبرةً في تحديد المصلحة العامة والسعي وراء تحقيقها. يُعرف هؤلاء باسم «الوصاة»، وهم الحكَّام والقادة المحترفون. وعليه، يحصل هؤلاء على تدريب طويل ودقيق، ولا يحصلون على أي ممتلكات كبيرة قد تدفعهم إلى السعي وراء مصالح شخصية بدلًا من المصلحة العامة. كان معظم هذا الكلام نقدًا ضمنيًّا لأسلوب الحكم الفعلي في الدول المدن في عهد أفلاطون. إلا أن تلميذ أفلاطون الشهير، أرسطو، لم يَرَ أن هذه الجمهورية عملية، وفضَّل تقديم الوصف بدلًا من تقديم العلاج، وقدَّم تعريفًا للأرستقراطية بناءً على ملاحظاته. لقد وصفها بأنها أحد أشكال الحُكم «يحكم فيه أكثر من شخص، ولكن ليس كثيرٌ من الأشخاص … وقد أُطلق عليها هذا الاسم؛ إما لأن الحكام هم أفضل الرجال، أو لأنهم يعملون على تحقيق مصالح الدولة ومواطنيها.» وعليه فقد كانت الأرستقراطية حُكم الأقلية الفاضلة، ولكنها انحرفت بسهولة لتصبح مجرد حكم الأقلية «عندما أصبح هدفها الاهتمام بمصالح الأغنياء فقط.» وفي نظام حكم الأقلية المتطرِّف تَعْمِد الطبقة الحاكمة إلى «الاحتفاظ بالمناصب في أيديها، ويقضي القانون بأن يَخْلُف الابن والده.» إلا أن أرسطو كان واقعيًّا؛ فالثراء كان أساسيًّا من أجل التغلب على إغراء المناصب العامة؛ لذا فإن القضاة في نُظُم الحكم الأرستقراطية كانوا يُختارون «على أساس ثروتهم وجدارتهم». وإذا كانت «الفضيلة هي أساس الأرستقراطية»، فإن هذه الصفة كان يزيد احتمال توافرها لدى المتميزين «في المولد والتعليم»، وكان التميُّز في المولد يعني الانتماء إلى عائلة «عريقة تتمتع بالثراء والفضيلة».
مِن ثَم كان لشكل الحُكم الأرستقراطي دلالات اجتماعية واضحة منذ بداية تكوينه؛ فقد ظلَّت نَبالة المولد تميُّزًا يُحتفى به لعدة قرون في بلاد الإغريق قبل ظهور أفلاطون وأرسطو. فيصوِّر أقدم الشعراء الكلاسيكيين، هسيود وهوميروس، ابتهاج الأبطال لانتسابهم لنسل الشخصيات الأسطورية، فضلًا عن كونهم آلهة. كذلك في روما القديمة كانت السلالات المرموقة أحد أسباب الاحترام والتميز واستحقاق السُّلطة. وبالإضافة إلى كلمة «أرستقراطية» الإغريقية، فإن المصطلحات التي استخدمها الرومان للتعبير عن التميز الوراثي استمرَّت طوال كامل تاريخ الحكم في أوروبا والتنظيم الاجتماعي. لقد كانت النخبةُ الاجتماعية في الجمهورية الرومانية الأولى الأحفادَ المزعومين للآباء المؤسسين للمدينة، الذين أُطلق عليهم الأشراف. ورغم أن طبقة الأشراف كانت طبقة حصرية ويصعب الانضمام إليها، فإنها لم تتمتع قَطُّ بهيمنة مطلقة؛ إذ أُجبِرت هذه الطبقة بشدة، على مدى قرون النظام الجمهوري، على فتح المناصب العامة والسُّلطات أمام غير المنتمين إليها، فظهرت طبقة الأغنياء بمرور الوقت كنُخبة ثانوية، عُرف أعضاؤها بالفرسان. ترجع هذه التسمية إلى أصول نظرية مثل المحاربين الفرسان، ولم يكن هؤلاء من الأشراف، لكنهم كانوا أغنياءَ بما يكفي لامتلاكهم أشياءَ باهظة الثمن، مثل الخيل. وبعد صراعات ملحمية في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، حصل أيضًا المواطنون العاديون — عامة الشعب — على المساواة السياسية؛ ونتيجة لهذا، أصبح تَوَلِّي المناصب، والانحدار من سلالة من يتولون المناصب، عنصرَ التمييز الأبرز. وقد أَطْلَقت الأسرُ المعروفة بانتمائها لمثل هذه السلالة، بصرف النظر عن نسبها، على نفسها اسم «النبلاء» (لقب نبيل في اللغة الإيطالية معناه «معروف»)، وكانت تحتفظ بأقنعة لأسلافها المشهورين في منازلها، وكانت تجعل الممثِّلين يجسِّدون شخصياتهم في المناسبات العامة. كان القنصلان (الحاكمان اللذان يُنتخبان سنويًّا من أجل رئاسة الجمهورية) ينحدران من عائلات نبيلة، فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة. وعندما تنتهي مدة توليهما الحكم، كان القنصلان ينضمان إلى مجلس الشيوخ، وهو أعلى هيئة تداولية في الجمهورية من المفترض أنها تجمع بين المعرفة العامة لجميع المواطنين وخبرة أصحاب المناصب العليا. لم يتجاوز قَطُّ عدد أعضاء مجلس الشيوخ ألف شخص، وفي معظم تاريخه كان أقل من ذلك بكثير. وقد جعل هذا عائلاتِ أعضاء مجلس الشيوخ أكثرَ النخب الرومانية حصريةً على الإطلاق. لكن بوجه عام كان الأشراف والفرسان والنبلاء وأعضاء مجلس الشيوخ يرون أنفسهم ببساطةٍ أفضل الناس (الأرستقراطيين). لقد قضى شيشرون، المتعمِّق في الفكر الإغريقي والمطَّلع على فكر أرسطو، معظم حياته المهنية في القرن الأول قبل الميلاد وهو يحاول جمع أفضل الناس لتأدية واجبهم في التصدي لموجة الديمقراطية وسيطرة العوام، وهي سلطةُ ما يُعرف باسم الحزب الشعبي. لقد فشل شيشرون في مساعيه، لكن عقب الحروب الأهلية التي كلَّفته حياته، اعترف أغسطس وخلفاؤه الأباطرة بالنخب التقليدية وبمطالباتهم بالتميُّز. فإذا كانت طبقة النبلاء واستعراض صفاتها قد اختفيا ببطء عبر قرون النظام الإمبراطوري، فإن هوية الأشراف والفرسان، والأهم من ذلك طبقة أعضاء مجلس الشيوخ، ظلَّت جميعها على قمة المجتمع الروماني حتى انهياره. وستهيمن الأمثلة والنماذج الرومانية على معظم المناقشات النظرية اللاحقة التي تدور حول معنى طبقة النبلاء والطريقة التي كان يُفترض أن تتصرَّف بها تلك الطبقة.
مع هذا، في أواخر العصور القديمة أُطلقت الأسماء المقدَّسة المستمَدة من عصور النظام الجمهوري على جماعات ومؤسسات لا يوجد إلا قدر ضئيل من التشابه بينها وبين نماذجها الأولية البعيدة. لقد أصبحت جميعها تَدْخل تحت فئة عامة تُعرف باسم «رجال الشرف»، وهم «الرجال الأكثر احترامًا»، وأَدْخل الأباطرةُ الذين جاءوا فيما بعد تقسيماتٍ فرعيةً وألقابًا تفاضليةً تدل على رفعة المكانة. كانت هذه سابقة أيضًا، لكن لم يحصل إلا لَقَبَانِ فقط من الألقاب الرومانية المتأخرة على مكان في التسلسل الهرمي للألقاب فيما بعد؛ ففي بداية القرن الرابع حصل قادة الجيش على لقب دوق، في حين كان يُعطى لقب الكونت لعدد كبير من الضباط. نقلت اللغة اللاتينية هذه الألقاب وخلَّدتها عبر عصور وأزمان أُعطيت خلالها معانيَ مختلفة تمامًا. وخلال ذلك، توقَّف الاستخدام المعتاد لكلمة «أرستقراطية» لما يقرب من ألف سنة. وعندما ظهرت مرة أخرى، في القرن الخامس عشر، ظلَّت تعني أحد أشكال الحُكم، لكنها كانت تُستخدم إلى حدٍّ كبير في وصف الدول التي يحكمها النبلاء.
لم يختفِ قَط استخدام كلمة «نبيل»، على الأقل بين رجال الدين اللاتينيين الذين دَوَّنوا سجلَّات العصور الوسطى. لقد استخدموا هذه الكلمة في وصف النخبة العلمانية في أوروبا في فترةِ ما بعد الكلاسيكية، وهي عائلات كانت تقدِّر نَبالة المولد تمامًا مثل القدماء. لكن لم يتمتع النبلاء في العصور الوسطى بفضيلة التفكير في المواطنين، التي كان أرسطو وتلاميذه الرومان يعتقدون أنها تميِّز أفضل الناس. بالطبع كانوا يمتلكون الثروة التي تدعم طموحاتهم، لكن القتال كان أكثر ما يستحوذ على اهتمامهم. كانت النبالة تعني الشجاعة في ساحة المعركة. وانقسم المجتمع إلى ثلاث مجموعات وفقًا للوصف التقليدي له الذي ظهر في العصور الوسطى. ونظرًا لأن رجال الدين هم من كانوا يدوِّنون هذا التعريف، فقد كانت الوظيفة الرئيسية فيه بطبيعة الحال من نصيب رجال الدين، وهم مَن يؤدُّون الصلوات. لكن جاء في المرتبة الثانية بفارق ضئيل للغاية المقاتلون، وهم طبقة النبلاء. أما باقي المجتمع، فقد كانوا ببساطة طبقةً عاملةً. على أرض الواقع لم يكن هذا التعريف دقيقًا قَط؛ ففي الوقت الذي تبلور فيه هذا التعريف، كان بالفعل ثمة بعض النبلاء الذين لا يقاتلون، وتزايدت أعدادهم بانتظام على مدار القرون التالية. مع هذا في كثير من الممالك قدَّم هذا التقسيم الثلاثي للوظائف الاجتماعية مبرِّرًا لتنظيم المجتمع رسميًّا في صورة طبقات يُقرُّها القانون، عادةً ما تكون لها أشكالها الخاصة من التمثيل المؤسسي. وظلَّت وظيفة المحارب عنصرًا مهمًّا في تعريف النبلاء وهويتهم منذ العصور الهمجية وحتى القرن العشرين.
وتمامًا مثل النُّخب القديمة التي كان النبلاء المتعلِّمون يشبِّهون أنفسهم بها، كان النبلاء يفترضون بطبيعة الحال أنهم أفضل الناس. لكن لم يَعِشْ إلا عدد قليل منهم في دول أرستقراطية وفقًا للتعريف الأصلي. فباستثناء عدد قليل من الدول المدن التي كانت معظمها إيطالية وتحكمها جميعًا النخب بالوراثة، مثل الجمهوريات في العصور القديمة، أصبحت معظم الحكومات ملكيةً في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن الملوك بوجه عام كانوا يعتلون العرش ويسلِّمونه وفقًا لمبادئ الوراثة نفسها التي يطبِّقها النبلاء، فقد مَرَّ وقت طويل حتى رَسَخَت فكرةُ أنه حتى في ظل وجود حاكم واحد فإن السلطة فعليًّا تكون مشتركة. حَدَثَ آخِرُ إنجاز في عام ١٧٤٨م عندما تخلَّى مونتسكيو رسميًّا عن تصنيف أرسطو للدول؛ إذ أوضح في كتابه «روح القوانين» أن الأنواع الأساسية الثلاثة للدول هي الجمهوريات والممالك والديكتاتوريات. وكانت الأرستقراطية مجرد أحد أنواع النُّظم الجمهورية، تحكُم في ظلِّه الأقليةُ بدلًا من الأغلبية. وقد عرَّف هذه الأقلية الحاكمة بالنبلاء، لكن المصير الحقيقي للنبلاء يكون في رأي مونتسكيو في النُّظم الملكية. فهُم يلعبون في هذه النُّظم دورًا أساسيًّا بوصفهم سلطةً وسيطةً بين الملك والرعية، يحافظون على تطبيق القوانين، ويمنعون انحدار الدولة إلى الحُكم الديكتاتوري. وقد كان شعاره الأساسي: «لا نبلاء دون مَلِك، ولا مَلِك دون نبلاء.»
مع هذا، بمجرد أنِ اتضح — على نحوٍ مقنع — أن النبلاء والملوك وحدة واحدة، أصبح من الممكن التفكير أيضًا في إسقاطهما معًا. فعندما نجح الثوار الأمريكيون في إعلان عدم ولائهم للملك جورج الثالث، عقب مرور ثلاثة عقود فقط على ما كتبه مونتسكيو، وأقاموا الجمهورية، أعلنوا أن أي شكل من أشكال النَّبالة غير متوافق مع دولتهم الجديدة. كذلك بدءوا يتحدَّثون عن مخاطر استيلاء «طبقة أرستقراطية» من الأغنياء على السلطة؛ ولهذا حذفوا تمييز أرسطو الدقيق بين الأرستقراطية وحُكم الأقلية. وفي نحو عام ١٧٨٠م، بينما كانت هذه القضية لا تزال معلَّقة في أمريكا، بدأ المصلحون في الجمهورية الهولندية يتَّهمون الأقلية في بلادهم بأنهم أرستقراطيون، وهي كلمة لم تكن متعارَفًا عليها من قبل. وفي خلال بضع سنوات، استخدمها الثوار الفرنسيون في وصف معارضيهم. نشأ هذا الاستخدام من حقيقة أن الثورة الفرنسية كانت قد بدأت كصراع من أجل القضاء على امتيازات النبلاء الفرنسيين وسُلطتهم. فأصبحت الأرستقراطية الآن تعني بوضوح أكثر من مجرد أحد أشكال الحكومة؛ إذ أصبحت تعني سلطة مجموعة اجتماعية معيَّنة ومؤيديها. كذلك أصبحت تشير إلى هذه المجموعة بطريقة أكثر تعميمًا. وفي النهاية أصبح مصطلحا الأرستقراطية والنَّبالة مترادفَين بالكامل بوصفهما مصطلحين وصفيين.
منذ ذلك الحين ظل هذا هو الاستخدام الشائع لهذا المصطلح. يَستخدم بعض المحلِّلين أو المعلِّقين كلمة «أرستقراطية» في التمييز بين مجموعة أوسع من رُتب النبلاء؛ حيث يخصُّون بهذا المصطلح الأقلية الغنية من أصحاب النفوذ المؤثِّرين أو النبلاء. يمكن استخدام هذا في أنواع معينة من التحليل، لكن بوجه عام يُفهم على نطاق واسع (وإن كان ذلك على نحو غير دقيق) أن كلمتَي «أرستقراطي» و«أرستقراطية» تشيران تقريبًا إلى نفس معنى لفظتَي نبيل ونبالة.
يصف هذان المصطلحان النخبةَ الأوروبيةَ، لكن عندما احْتَكَّ الأوروبيون بثقافات أخرى حاولوا غريزيًّا اللجوء إلى تصنيفاتهم الخاصة من أجل فهم ما يجدونه في هذه الثقافات؛ وعليه استُخدم مصطلح «الأرستقراطية» أو «النبالة» في وصف حكومات الأقلية والنخبة الاجتماعية خارج حدود أوروبا. مع هذا، في حين يكون جميع الأرستقراطيين من صفوة المجتمع، لا يكون جميع صفوة المجتمع أرستقراطيين، ويجب تعريف الأشكال غير الأوروبية ووصْفها وفقًا لأسمائها الخاصة، وهو ما يحتاج إلى كتاب من نوع آخر؛ ومِن ثَم، فإن هذا الكتاب يقتصر على عرض التجربة الأوروبية. ومع هذا، فإن كل شيء نقوله تقريبًا على سبيل التعريف سيخضع لاستثناءات، وإن كان يبدو أن ثمة مبادئ عامة معينة تغطي معظم الحالات.
(٢) النبلاء
كان مصطلح النبلاء يعني دومًا التمييز العام، بدايةً من العائلات «المعروفة» في روما القديمة وصولًا إلى أولئك الذين ظلُّوا يُذكَرون حتى عام ١٩٤٤م في دليل جوته السنوي الألماني عن النبلاء، أو حتى يومنا هذا في دليل بوتن الاجتماعي الفرنسي، أو دليل بيورك عن النبلاء، أو دليل الأعيان مُلَّاك الأراضي. لقد كان الجميع يعترفون بتفوق أولئك المنتسبين إلى طبقة النبلاء، سواء أكان هذا الاعتراف يأتي من باقي أفراد المجتمع، أو من نفس الطبقة، أو من السُّلطات العامة، أو في معظم الأحيان من الفئات الثلاث مجتمعةً. لا يوجد أساسٌ موضوعي أو علمي لهذا التفوق. إن تعبير «الدم الأزرق» — الصفة التي ادَّعاها لأول مرة المحاربون المسيحيون في مملكة قشتالة في العصور الوسطى، ومنذ ذلك الحين تُستخدم عادةً كأحد الرموز الدالة على طبقة النبلاء — لم يكن قطُّ أكثرَ من مجرد استعارة لونية؛ فقد اعترف المراقبون غير المتحيزين، حتى في الأوقات التي كانت فيها سُلطة النبلاء لا نظير لها، أن طبقة النبلاء في النهاية لا تزيد عن كونها فكرة أو اعتقادًا ملفَّقًا. كان هذا أمرًا مقنِعًا جدًّا؛ حيث كان يدعمه — كما هو الحال دومًا — كمٌّ كبيرٌ من مزاعم الرفعة الأكثر واقعيةً.
كيف حصل هؤلاء على مِثل هذا التميُّز المحيِّر والحَصري؟ تاريخيًّا حدث هذا بثلاث طرق.
على مدار السواد الأعظم من حقبة العصور الوسطى كان الناس ينضمون إلى طبقة النبلاء عن طريق أسلوب التناضح والامتصاص؛ فقد كانت العائلات تحصل على الاعتراف بها بأنها من النبلاء عن طريق تجميع مجموعة من السمات والأنشطة المعترَف بأنها مناسبة؛ مثل جَمْع الأراضي والتابعين، وإظهار مهارات قتالية وإنجازات، وبوجه عام عَيْش «حياة نبيلة» (انظر الفصل الثالث). لم تختفِ بالكامل قطُّ هذه الطريقة في تأكيد الحق في الحصول على مكانة النبلاء، ولم تتمكَّن إلا قلة من العائلات من أن تصبح من طبقة النبلاء دون إرساء عناصر نمط حياة النبلاء أولًا. مع هذا، منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر (وأحيانًا بعده) كان ادِّعاء النَّبالة، بناءً على هذا الأساس بالكامل، يُعتبر نوعًا من الانتحال. لقد استمرَّ حدوث هذا الأمر، لكن ازدادت صعوبة الحصول على هذا اللقب. يرجع السبب في هذا إلى أنه خلال هذه القرون احتكر الحكَّام على نحوٍ فعَّال ميزة منح لقب النبلاء. وقد كان المقابل الضمني للاعتراف بالنبلاء أو منحهم الامتيازات أن يسمح النبلاء للملوك (أو المجالس السيادية في العدد القليل المتبقي من الجمهوريات، مثل البندقية أو جنوة) بالتحكُّم في مَنْحهم لرُتبهم.
مِن ثَم، كانت الطريقة الثانية أن تُمنح مكانة النبلاء بمنحةٍ من الحاكم. وأكبر «دليل» لا جدال فيه على هذا، الإجازاتُ الرسميةُ أو خطابات مَنْح مكانة النبلاء التي كانت تصدر رسميًّا من السلطات المختصَّة. ويمكن تعقُّب جميع سلالات النبلاء تقريبًا حتى وقت ظهور مثل هذه الوثيقة، وحتى مَن يدَّعون أنهم أكثر قدمًا من هذا، يعتمدون على الاعتراف الموثَّق من هذه السُّلطة للنبلاء الذين كانوا موجودين من قبل. إن طُرق منْح مكانة النبلاء رسميًّا وأسبابه متنوعةٌ للغاية؛ فلم يُسأل الملوك قط عن دوافعهم لمنح هذه المكانة، رغم أنهم ربما يعرِّضون أنفسهم لنقد لاذع إذا رفعوا الأشخاص المفضَّلين لديهم — كما كان يُقال دومًا — «من العدم». في معظم الأحيان كانت مكانة النبلاء تُمنح اعترافًا بالخدمات التي يؤدِّيها الأفراد، سواء في ساحة المعركة، أو — على نحو متزايد — في مجالَي السياسة أو الإدارة؛ فقد كان منْح الإداريين مكانة النبلاء أمرًا تلقائيًّا؛ فعند وصولهم إلى مستوًى معين، كان هذا التمييز يأتي بحكم المنصب. إلا أن خطابات التعيين ظلَّت تؤكِّد المكانة الجديدة.
أما بخصوص الطريقة الثالثة فقد كانت مكانة النبلاء تُشترى. كان من النادر أن تُباع علنًا، فيما عدا أوقات الضرورة المالية، لكن فعليًّا لم يحصل إلا عدد قليل من العائلات على هذه المكانة دون دفع مبالغ كبيرة من المال. لقد أدرك الحكَّام منذ مرحلة مبكرة أن التمييز بين الناس له قيمة سوقية مربحة، وأن احتكار إصدار مثل هذه الامتيازات يمكن أن يصبح مصدرًا مهمًّا للدخل؛ وعليه، فإن خطابات المنح لم تكن تَصدُر مطلقًا إلا مصحوبة بكمٍّ كبير من الرسوم. وفي فرنسا، حيث كانت معظم المناصب الملكية في الفترة بين أواخر القرن الخامس عشر وقيام الثورة في عام ١٧٨٩م معروضةً للبيع، مَنحتْ آلافٌ عدة من أعلى وأغلى هذه المناصب مرتبةَ النبلاء لمشتريها.
مع هذا لا يَرى إلا عددٌ قليل من النبلاء أنفسَهم نتاج صنع دولهم. ثمة مصطلح آخر يُستخدم مرادِفًا لمصطلح النبلاء؛ وهو «عَراقة الأصل». لقد كان النبلاء رجالًا فضلاءَ من أصل عريق، ولم تفقد هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية هذا المعنى الذي ظلَّت محتفظةً به في اللغات اللاتينية إلا في خلال القرن الثامن عشر، وهو المعنى الذي يقتصر على «عراقة» المولد. لقد كان المولد هو أفضل صفة مؤهِّلة على الإطلاق؛ فالنبلاء الحقيقيون يُولدون لا يُصنعون. وقد اشتهر ملك فرنسا فرنسوا الأول (١٥١٥–١٥٤٧م) بقوله إن المَلك يستطيع صنع عدد لا حصر له من الرجال النبلاء، لكنه لا يستطيع أبدًا صُنع رجل عريق الأصل.
(٣) الوراثة
إن الأرستقراطيين هم نخبة بالوراثة؛ فهم يرِثون امتيازهم عبر الأجيال، ويرثون الدماء النبيلة من أجدادهم. عادةً ما تظهر مصطلحات — مثل السلالة والأصل وحتى العِرق — في المناقشات النظرية التي تدور حول طبيعة طبقة النبلاء في العصر الحالي أو في الماضي. لم تكن النَّبالة الشخصية أمرًا مجهولًا؛ فقد ظهر في لائحة رُتب موظفي الدولة التي ظهرت في روسيا على يد بطرس الأكبر عام ١٧٢٢م، أو في الترتيب الهرمي للألقاب المماثل، إلى حدٍّ ما، لذلك الذي وضعه نابليون في إمبراطوريته عام ١٨٠٨م. إلا أن هذين الابتكارين قد انتشرا نتيجة الافتراض بأن التميز الوراثي ما زال النموذج الأمثل المرغوب فيه أكثر من غيره، وكان منح رتبة النبالة بصفة شخصية مجرد محطة وسيطة على الطريق نحو الوراثة الكاملة، كما كان الحال في فرنسا في الفترة السابقة على الثورة؛ حيث كانت معظم المناصب التي تخوِّل الحصول على لقب نبالة تقتضي الاشتغال بها لثلاثة أجيال متعاقبة من أجل منح لقب نبالة يمكن توريثه. كان نظام النبالة مدى الحياة، الذي ظهر في بريطانيا العظمى منذ عام ١٩٥٨م، في فترة اضمحلال مجلس اللوردات، الوحيد الذي لم يحمل أي افتراض قطُّ يتعلَّق بالتوريث. ثم أَدخل قانون عام ١٩٦٣م مبدأً آخرَ جديدًا يتمثَّل في أن النبلاء بالوراثة باستطاعتهم الآن التخلي عن ألقابهم. بطبيعة الحال، نظرًا لأن النبالة كانت صفة تورَّث جينيًّا، فلم يكُن من الممكن التنازل عنها؛ فكان لأولاد النبلاء الحق في الحصول على مكانة وَالِدِهم، شريطة أن يكونوا أطفالًا شرعيين. وقد كان الملوك في أغلب الأحيان يَمنحون هذه المكانة لأطفالهم غير الشرعيين، لكن لم يَزِدْ قدرُ ما يتمتع به هؤلاء النبلاءُ غير الشرعيين من حقوق في الميراث من جهة والدهم عما يتمتع به الأبناءُ غير الشرعيين من عامة الشعب، رغم أن النبلاء كانوا دومًا في مكانة تسمح لهم بطلب إعفاءات خاصة.
مع هذا في ظروف معينة يمكن فقدان النبالة؛ فقد يفقد الرجل النبيل الذي يُدان بالخيانةِ رُتبتَه أو على الأقل الممتلكات التي تدعم امتلاكه لها. وكان الأكثر شيوعًا احتمال فقدان هذه المكانة في حال مشاركة حاملها في أنشطة تُعتبر متعارِضة مع النبالة؛ ففي فرنسا، كان يُعرف هذا باسم الانتقاص من القدر، وكان يَحدث إذا مارس الرجل النبيل عملًا يدويًّا أو تجارة التجزئة. فقد كان الشعار المطبَّق أن اليد التي تحمل السيف لا يمكنها أن تمسك أيضًا بالنقود، أو كما جاء في أطروحة ظهرت في أوائل القرن السابع عشر: «إنه مكسب حقير ودنيء ينتقص من نبالة المرء. إن نمط الحياة المناسب هو أن يحيا المنتمي لطبقة النبلاء اعتمادًا على ما يحصل عليه من إيجارات، أو على الأقل ألا يبيع مجهوده أو عمله.» نادرًا ما كانت تُنْتهك القوانين التي تقدِّس هذا المبدأ؛ فقد كانت تدعمها تحيُّزات قوية ضد الوظائف المهينة استمرت لفترة طويلة بعد انتهاء الحظر الرسمي في أواخر القرن الثامن عشر.
رغم أن التوريث كان أمرًا محوريًّا في النموذج الأرستقراطي، فإنه كان يتخذ أشكالًا عديدة متنوِّعة من حيث التطبيق. في أغلب الأحيان كان التوريث يحدث من جانب الأب؛ فتنتقل النبالة من جهة الذكور وليس الإناث. مرة أخرى ربما تحصل العائلات ذات الشأن على إعفاءات خاصة، لكن بينما يولد أبناءُ الرجلِ النبيلِ المتزوِّجِ من امرأةٍ غيرِ نبيلةٍ نبلاءَ، فإن أبناء المرأة النبيلة التي تتزوَّج برجل من العامة يرثون مكانة الأب. وفي معظم الحالات يحمل جميع الأبناء الشرعيين للأب النبيل هذه المكانة بالتساوي عند ميلادهم. ظهرت أشهَر الاستثناءات في ممالك بريطانيا العظمى الثلاث؛ حيث لا ينتمي إلى مكانة النبلاء إلا نبلاء الأصل، ولا يرث المكانة إلا الابن الأكبر، أو الأخ الأصغر في حالة وفاة صاحب المكانة دون إنجاب أبناء («الوريث وبديله»). قانونًا، يصبح جميع الأبناء الآخرين ضمن عامة الشعب، ولا يرثون شيئًا إلا الحق في ارتداء شعار النبالة الخاص بالعائلة. مع هذا في الحياة الواقعية كانت الطبقات الأرستقراطية البريطانية دائمًا لا تقتصر على النبلاء فحسب؛ فقد كانت رتبة البارونيت — وهي طبقة من الأعيان تتوافر بأعداد أكبر ويتمتع أصحابها بنبالة المولد، ويمكن انتقال ألقابها من جيل إلى جيل بنفس شروط رتبة النبلاء — دومًا المكافئ الواضح لنبلاء القارة الأوروبية الأقل مكانةً. في جولته الكبرى في أوروبا عام ١٧٦٤م، قال جيمس بوزويل الذي اشتهر فيما بعد بأنه كاتب سيرة صمويل جونسون لكنه في هذا الوقت لم يكن إلا مجرد ابن قاضٍ ومالك أراضٍ اسكتلندي: «أعتقد أنَّ من المناسب أن أحصل على لقب بارون في ألمانيا؛ نظرًا لأن لديَّ الحق في الحصول عليه تمامًا كأي فرد في طبقة الأعيان أراه من حولي.» مع هذا كان نظام البكورة البريطاني يدفع بعنادٍ الإخوةَ الأصغرَ سنًّا خارج النخبة الأرستقراطية على جميع المستويات؛ مما دفعهم للتنافس — وهو ما لم يَحْتَجْ إلى فعله أبناء النبلاء في القارة الأوروبية — من أجل الحفاظ على المجد الذي حظي به أجدادهم المشهورون. لكن كان الأمل الوحيد أمامهم من أجل استعادة مكانة أجدادهم هو أن يبدءوا في تأسيس سلالة جديدة. وربما يكون المثال الأبرز على هذا دوق ولينجتون — وهو الابن الأصغر لإيرل — الذي حصل على رتبة نبيل بنفسه فقط عن طريق أفعاله النبيلة في أرض المعركة.
يكفي وجود سَلَفٍ ذَكَرٍ واحد من أجل تأسيس سلالة نبيلة، ولا يمكن القضاء عليها إلا من خلال وفاة ذريته من الذكور المباشرين كلهم. مع هذا لا تكون جميع السلالات أصيلة؛ فتتمتع العائلات التي كان أول سَلَفٍ معروف لها يحظى بمكانة النبيل، بنبالة بالغة القدم، عفا عليها الزمن. تبدأ جميع السلالات الأخرى — لكن من وقت بعيد — بشخص لم يولد نبيلًا، بل حصل على هذه المكانة في فترة حياته؛ وعليه، فإن رفعة مكانة السلالة تعكس امتداد نسبها وعدد الأجيال النبيلة فيها. وأحد المعايير الأخرى الأساسية في ألمانيا، رغم أنه مستحَب فقط في الأماكن الأخرى، هو عدد الأسلاف النبلاء من جهة الأم تمامًا مثل جهة الأب. من الخارج قد تبدو الطبقات الأرستقراطية متسقة وموحَّدة في تفرُّدها، لكن لا توجد أي مساواة في ترتيباتها الداخلية.
(٤) التسلسل الهرمي
جوهر الأرستقراطية هو عدم المساواة؛ فهي تقوم على افتراض أن بعض الناس فطريًّا أفضل من معظم الناس الآخرين. لكن حتى إن كان النبلاء أفضل من عامة الشعب، فإن ثمة تمايزًا عميقًا بين النبلاء أنفسهم. وكذا لم يكن احتقار أي نبيل لأسلاف أكثر حداثةً من أسلافه مجرد فخر لعائلته، دون وجود تبعات مادية؛ فقد حَصَرَ كثيرٌ من المؤسسات المرموقة، مثل المحاكم أو الكنائس أو الأديرة أو طبقات الفرسان أو كتائب الجيش أو المدارس، الملتحقين بها في النبلاء الذين يتمتعون بحدٍّ أدنى معينٍ لطول السُّلالة. كذلك قد يفرض طول السلالة أفضلية عامة، خاصة بين النبلاء الذين ليست لديهم ألقاب تميزهم. كانت روسيا حالة متطرِّفة؛ حيث كانت الألقاب فيها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر غير معروفة تقريبًا، لكن اعتمد تبوُّؤ أيِّ منصب على ما يُعرف باسم نظام «مستنيتشستفو»، وهو نظام بمقتضاه لا يمكن لأي شخصٍ عَمِلَ أحدُ أجداده في مستوًى أدنى أن يتخطَّى رتبة أي شخص آخر. لقد كان هذا النظام وصفة للتعجيز، وأُلغي في عام ١٦٨٢م. مع هذا، بعد مرور ٤٠ عامًا فقط، أُسس تسلسل جديد من الرتب والألقاب.
بخلاف الاعتقاد السائد، في تاريخ الأرستقراطية كانت الألقاب أمرًا نادرًا نسبيًّا، وظهرت في وقت متأخِّر نسبيًّا؛ فالألقاب التي منحها آخر أباطرة الرومان لم تُبعث في الغرب لعدة قرون عقب انهيار الإمبراطورية الرومانية، رغم أنها بقيت في الإمبراطورية المتقلِّصة التي تحكمها القسطنطينية. وفي أوائل العصور الوسطى في الغرب كانت ألقاب الدوق والكونت تُنسب في أغلب الأحيان لأصحاب الدماء الملكية ذوي النفوذ. ولم يبدأ تسلسل هرمي في الألقاب يفرض نفسه إلا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مع ظهور مَن يحملون لقب دوق غير ملكي. كان الهدف من ذلك أنْ تفُوق رتبة هؤلاء أصحاب الألقاب المعترَف بها الموجودة بالفعل، مثل الكونت أو (نظيره الإنجليزي) الإيرل، التي كانت تعبِّر عن سموٍّ في المكانة يكون مدعومًا بوجه عام بقدر أكبر من الثروة. بحلول القرن الخامس عشر كانت التسلسلات الهرمية للألقاب الوراثية تظهر في جميع أنحاء أوروبا الغربية؛ حيث كان الملوك يكافئون وَلَاء رعاياهم ذوي النفوذ عن طريق تحديد درجة أهميتهم بعناية. ظهر في هذا الوقت لقب المركيز بين رتبة الدوق والكونت، في حين ظهرت رتبة الفيكونت بين رتبة الكونت ورتبة البارون المتواضعة نسبيًّا. كانت الأمور معقَّدة كثيرًا في ألمانيا؛ حيث ظلَّت الإمبراطورية الرومانية المقدسة لألف عام أعلى مستوًى من السلطة حتى تفكُّكها عام ١٨٠٦م. لقد كانت مصدرَ شرعية النبلاء الملكيين مرتفعي الشأن، الذين كان بعضهم فعليًّا من الأمراء ذوي السيادة المؤثِّرين الذين يتمتعون بحق التصويت في انتخاب الإمبراطور، ويحكمون أراضي شاسعة بأنفسهم، بالإضافة إلى من يُطلَق عليهم الفرسان الإمبراطوريون الأحرار الذين لا يملكون مخصَّصات من الأراضي، لكن عادةً تكون لديهم ضَيْعات خاصة واسعة. في الوقت نفسه، تزعَّم الأمراء الألمان المستقلون، مثل ناخبي براندنبورج (الذين أصبحوا فيما بعد ملوك بروسيا)، طبقةَ نبلاء خاصة بهم، أقل في المكانة من النبلاء الملكيين، لكنها كانت في بعض الأحيان أغنى منها. في معظم طبقات النبلاء كانت الألقاب تنتقل إلى الذرية من الذكور، وكانت تُربَط بمِنح معيَّنة من الأراضي أو ألقاب اللوردات، التي كانت تنتقل ومعها اللقب. لم يكن اللقب منفصلًا عن الأراضي والصلاحيات إلا في الممالك البريطانية. كذلك في أواخر العصور الوسطى بدأت طبقات الأشراف تتشكَّل، وهي مجموعات متفرِّدة من الأشخاص ذوي السلطة يتمتعون بامتيازات خاصة لا يشاركهم فيها أحد من حَمَلة الألقاب الأخرى (إلا في بريطانيا العظمى): «أدواق ونبلاء» فرنسا، ونبلاء إسبانيا، وبارونات نابولي وصقلية.
لكن ببساطة لأن الألقاب استُمدت في البداية من التراكمات الكبيرة للثروة، فإن الغالبية العظمى من النبلاء لم يتسنَّ لهم قطُّ مجرد الطموح إليها؛ فلم يكن اللقب المرموق يتعلَّق بالضرورة بطول السلالة. وقد وجد الكثير من النبلاء الشباب قليلي الثراء عزاءهم في السخرية من السلالات الحديثة والمعيبة لجيرانهم من حاملي الألقاب. في الوقت نفسه لم يسعَ هؤلاء إلى الترويج لوضعهم بكثير من التنميق. كانت توجد رتب الفروسية العادية، وهي ألقاب تُمنح بصرامة طوال الحياة، لكنها تُمنح بوجه عام للرجال النبلاء فقط. كان لقب «إسكواير» (بمعنى «حامل الدرع») يُستخدم على نطاق واسع للمطالبة بالحصول على لقب النَّبالة أو للإشارة إلى أن «هذا الرجل لديه شعار نبالة». وفي أوروبا (وبقدرٍ ما في اسكتلندا) كانت العلامة الأكثر تميزًا هي استخدام حرف جر كعلامة دالة قبل الاسم الأخير، مثل «دو» بالفرنسية أو «فون» بالألمانية أو «أوف» بالإنجليزية؛ التي تعني جميعها «صاحب»، وتشير إلى السيادة على ممتلكات نبيلة. بدأت كثيرٌ من أشكال المخاطبة (مثل سير ومسيو وهير وسنيور) تَظهر بوصفها مفردات تشير إلى الاحترام لأصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة.
مِن ثَم، داخِل رُتب معظم الطبقات الأرستقراطية كانت الفروق في التسلسل الهرمي بين أعضائها تقريبًا بنفس درجة أهميةِ ما يميز هذه الطبقات عن باقي أفراد المجتمع. لكن لم تُقبَل جميع التسلسلات الهرمية الرسمية (على عكس الاختلافات في درجة الثراء) دون مقاومة؛ ففي المدن الجمهورية الإيطالية، وبين نبلاء بولندا، الذين يمثِّلون أكبر عدد من النبلاء في أوروبا، كان ثمة دفاع شديد عن المساواة بين جميع النبلاء؛ فقد كانت الألقاب التي ظهرت في الكومنولث البولندي من أصل أجنبي، وأصبحت معترَفًا بها بدافع الكياسة لا لأنه منصوص عليها في القانون. وتَطلَّب فرضُ التسلسلات الهرمية في الألقاب في المجر وروسيا وبروسيا إجراءاتٍ حازمةً من حكَّام صارمين في القرون الأولى من العصر الحديث. إلا أن الملوك كانوا يَعْلمون أن التسلسل الهرمي هو نظام للسيطرة، تمامًا مثل الشبكة الواسعة من الامتيازات التي تنافس النبلاء للمشاركة فيها.
(٥) الامتيازات
يَعني الامتياز «قانونًا خاصًّا»، يتمتع حائزوه بالحق في أن يحصلوا على معاملة مختلفة عن غيرهم؛ ففكرة وجود طبقة أرستقراطية أو نبلاء دون امتيازات فكرة غير واردة. يقال دومًا إن ما يميز النبلاء في الممالك البريطانية عن نظرائهم في أوروبا هو عدم امتلاكهم أي امتيازات. بالتأكيد كانوا دومًا يتمتعون بعدد أقل من الامتيازات. لكن إذا قبلنا التعريف البريطاني لطبقة النبلاء بأنهم أشراف، فإن عضوية مجلس اللوردات، التي كانت من حق كل النبلاء الحصول عليها حتى عام ١٩٩٩م، كانت بالتأكيد امتيازًا له أهمية كبرى. حتى إن كنا نفضِّل وجود تعريف أكثر شمولًا للطبقة الأرستقراطية البريطانية، فإن لقب البارونيت المنتقل بالوراثة والفروسية، وشعار النبالة الذي يُسمح للرجال النبلاء بإظهاره، فضلًا عن التفضيل في المناسبات العامة الذي يحصل عليه الأعيان تقليديًّا عقب النبلاء مباشرةً؛ كلها تندرج أيضًا تحت الامتيازات. وفي الفترة بين عامَي ١٧١١ و١٨٥٨م كان الرجال الذين لا يملكون مساحات شاسعة من الأراضي يُستبعدون رسميًّا من مجلس العموم، وفي الفترة من عام ١٦٧١ حتى ١٨٣٢م كانت قوانين الألعاب تحظر على جميع المنتمين لطبقة الأعيان ممارسة الصيد والرماية.
كانت امتيازات ممارسة الصيد حكرًا على اللوردات في جميع أنحاء أوروبا؛ وكذا الحال بالنسبة إلى الحق في استخدام أنواع معينة من شعارات النبالة، رغم أنه كان يُسمح دومًا لغير النبلاء بعرض شعارات نبالة أقل تميزًا. الأهم من هذا أن الكثير من النبلاء في القارة الأوروبية شكَّلوا في أواخر العصور الوسطى طبقات قانونية منفصلة تتمتع بحقوق وامتيازات جماعية، تشمل عادةً حصولهم على قاعات خاصة في المؤسسات النيابية؛ والسبب في هذا هو عملهم المستقل كمحاربين يوفِّرون نظريًّا الحماية لمجتمعهم. وفي بولندا والمجر كان التمثيل النيابي من أي نوع حكرًا على النبلاء فقط. أهم من هذا أن وظيفة المحاربين المزعومة للنبلاء استُخدمت كمبرِّر للإعفاء من الضرائب المباشرة. كان النبلاء يدفعون «ضريبة الدم»؛ ومِن ثَم كانوا يشعرون بأن من حقهم ألا يدفعوا أي شيء آخر. ومن الأفكار التي ظهرت في أوائل التاريخ الحديث، واستمرت لوقت طويل، المجهودُ المتواصل للملوك لإجبار النبلاء — بوجه عام الفئة الأغنى — على دفع الضرائب. وآجلًا أو عاجلًا كانوا يتوصلون لطرق تمكِّنهم من استغلال ثرواتهم بأسلوب غير مباشر. مع هذا فإن الضرائب المباشرة كانت تَلقى مقاومة شديدة، ولا يرجع هذا فقط إلى كونها تُستقطَع من ثروة النبلاء، بل أيضًا لأن الإعفاء الضريبي كان الاختبار الحقيقي لتقدير قيمة طبقة النبلاء نفسها. يقول شعار فرنسي: «لا يخضع أي نبيل لدفع الضريبة.» وكان لا بد من اندلاع أكبر ثورة في التاريخ من أجل تدمير هذا المبدأ.
مع هذا، بحلول عام ١٧٨٩م كان الملك قد فاز بنصف المعركة في نضاله من أجل استغلال ثروة النبلاء. لقد كان النبلاء الفرنسيون يدفعون بالفعل مقدارًا من الضرائب غير المباشرة، وفي بعض أجزاء من المملكة كانت الضريبة المعيارية — ضريبة الأراضي — أيًّا كان الوضع، تُفرض على الأراضي وليس الأفراد. انتشر تصنيف الأراضي إلى أراضٍ نبيلة وغير نبيلة في جميع أنحاء أوروبا، وفي بعض الدول كان النبلاء فقط يُسمح لهم بامتلاك الأراضي النبيلة. وحتى في الأماكن التي لا يُمنع فيها عامة الشعب مِن تملُّك الأراضي، كان يُفرض عليهم دفع ضريبة خاصة (ضريبة التملك الحر) على ممتلكاتهم. في الوقت نفسه كان النبلاء يتمتعون بكافة أنواع الإعفاءات الأخرى، رغم أنها كانت تختلف كثيرًا من مملكة لأخرى. اشتملت هذه الإعفاءات على إعفاءات من المبيت في سكن الجنود، ومن الخدمة العسكرية، ومن العقاب البدني. كانت عقوبة الإعدام تُطبَّق بقطع الرأس وليس بالشنق. وكانت القضايا التي تتضمَّن نبلاءَ تُنظر في محاكم خاصة، وكان عدد كبير من المؤسسات والهيئات الاعتبارية يَمنع أي شخص من الدخول فيه عدا النبلاء. وأخيرًا، كان يُسمح للنبلاء بارتداء ملابس تميِّزهم عن الآخرين. وإذا كانت القوانين المحدِّدة للإنفاق التي ظهرت في الفترة بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر قد فشلت في منع الأغنياء من عامة الشعب من ارتداء ملابس مثل ملابس الأعلى منهم مكانةً، فإن المتغطرسين فقط هم من كانوا يجرُءون على خرق القوانين التي كانت تقصر حمل السيوف على النبلاء فقط. لقد كان هذا أسلوبًا آخر للتباهي بوظيفة المحارب، وكان يستلزم بعض التدريب في المبارزة؛ وهو الأمر الذي ربما لا يستطيع عامة الشعب مجاراته إذا ما استُلَّت الأسلحة.
بدأ ظهور الامتيازات بطرق عديدة ومختلفة. بعض هذه الامتيازات، مثل التمثيل السياسي أو الإعفاء الضريبي، كان جزءًا لا يتجزَّأ من مفهوم النبالة. وبعضٌ ثانٍ منها كان يمنحه الملوك من أجل الحصول على الدعم، أو رضوخًا منهم للمعارضة المتضافرة. ويوجد أيضًا بعضٌ ثالث منها يُباع ببساطة، وهذه طريقة أقل إزعاجًا يَستغل بها الحكامُ ثروةَ هؤلاء الأشخاص بدلًا من محاولة فرض ضرائب عندما تكون سلطتهم على الإجبار محدودة. ظهرت رُتبة البارونيت البريطانية، التي تسمح بانتقال لقب «سير» بالوراثة، في عام ١٦١١م، وكانت متاحةً علنيًّا للبيع، رغم أنها أصبحت تُمنح فيما بعد نظير الخدمات السياسية. وفي هذا الوقت باع الملك الفرنسي الوظائف الحكومية المصحوبة بامتيازات، بما في ذلك منْح مكانة النبلاء، على نطاق واسع غيَّر طبيعة النبلاء الفرنسيين بالكامل على مدى ثلاثة قرون قبل قيام الثورة، من نخبة من المحاربين إلى طبقة مفتوحة من الأثرياء. إلا أن الامتيازات التي كانت تُمنح أو تُباع كان من النادر حصول طبقات كاملة من النبلاء عليها؛ فقد كانت تُعطى مجزَّأة، لمجموعات فرعية أو أفراد متعاقبين، من أجل دعم أو تعديل التسلسل الهرمي الموجود في سبيل المصلحة القصوى للسلطة الملكية؛ ونتيجة لهذا وَجَدَ عدد قليل من الأرستقراطيين أنهم يتمتعون بامتيازات أكثر بكثير من غيرهم، فما كان من هذا التوزيع غير العادل للامتيازات إلا أن زاد مشاعر الكِبْر والضغينة بين النبلاء؛ مما جعل المظهر الخارجي للتضامن داخل الطبقة الأرستقراطية وهمًا هشًّا.
(٦) الواجبات
كانت الامتيازات تمثِّل حقوقًا؛ فقد نصَّ عليها القانون وكانت تحميها المحاكم. ولم يتردَّد النبلاء قط في رفع دعاوى قضائية من أجل الدفاع عنها؛ حيث كانت أدوات أساسية في ادِّعاء الأرستقراطيين أنهم أرفع اجتماعيًّا. في المقابل، كانت الواجبات المفروضة على النبلاء قليلة للغاية وفي مجملها مبهمة. في الغرب، كانت تلك الواجبات مستمدَّة في الغالب من فترة ازدهار النظام الإقطاعي، بين القرنين العاشر والثالث عشر. لم تُستخدم كلمة «نظام إقطاعي» قبل القرن السابع عشر إلا نادرًا، ويفضِّل الباحثون في العصر الحديث تجنُّبَها. مع هذا فإن الإقطاع الذي كان السمة الغالبة في هذه الفترة، والقوانين والعادات المستمدَّة منه، كانت جميعها تميِّز كافة جوانب تاريخ الطبقات الأرستقراطية تقريبًا حتى نهاية القرن الثامن عشر، وأحيانًا في الفترة التالية عليه؛ فقد كان الإقطاع عبارة عن عطايا مشروطة من الأراضي والصلاحيات تقدَّم من اللورد لأحد المرءوسين أو التابعين بالتعاقد. وكانت عادةً تشتمل على مكان محوري حصين يمكن إقامة قلعة فيه. إلا أن جوهر العقد الإقطاعي كان يتمثَّل في قيام التابع بإمداد اللورد، بناءً على طلبه، بعدد متفق عليه من المحاربين الفرسان، الذين يُطلَق عليهم اسم «الخيَّالة» في أوروبا، و«الفرسان» في إنجلترا. كانت أراضي الإقطاع تتفاوت في أحجامها وفقًا لعدد الفرسان الذين من المتوقَّع أن يحصلوا عليها، لكن الإقطاعيين (ملَّاك الإقطاع) الذين يفشلون في الوفاء بالتزاماتهم قد يجرَّدون شرعيًّا من ممتلكاتهم. هيمن الفرسان والقلاع على الحروب منذ القرن العاشر وحتى القرن الرابع عشر، لكن مع ظهور أساليب قتالية جديدة وظهور البارود (بعد قرن من الزمن)، بدأت الاتفاقات الإقطاعية في الاختفاء. استمرَّت ممارسة الفرسان للمبارزة القاتلة بالرماح لقضاء وقت فراغهم خلال القرن السادس عشر، لكن في القرن السابع عشر عندما كانت مجموعة من الإقطاعيين تُستدعى أحيانًا للمشاركة، كانت النتائج تُرى على أنها أكثر من مجرد إحراج لهواة. لكن في هذا الوقت كانت الألقاب المشتقة من أسماء القلاع، والفروسية بوصفها وظيفة محترمة، وحمل شعار النبالة (المستخدم في الأساس من أجل التمييز في المعركة)، والفقه المعقَّد للإقطاع والصلاحيات المصاحبة له، وقواعد سلوك الفرسان القويم المعروف باسم الفروسية؛ كانت جميعها جزءًا من هوية النبلاء. وجاءت منها جميعًا فكرة أن الرجل النبيل يتوجَّب عليه خدمة سيده الأعلى — الملك. وهو شعور بالواجب استمر في شكل التزام واسع النطاق للمهن العسكرية طوال القرن التاسع عشر وبعده.
لم يكن هذا ينطبق على جميع النبلاء؛ فالعدد الوافر من النبلاء الذين ظهروا في بولندا في أوائل العصر الحديث — «الشلاختا» المشهورين — اعتبروا الإعفاء من الخدمة العسكرية أحد امتيازاتهم؛ فقد كانوا يفتخرون بعدم التزامهم تجاه أي شخص عدا أنفسهم، وأطلقوا على هذا اسم «الحرية الذهبية». وبالتوغل شرقًا، وتحديدًا في السهول الحدودية الفوضوية، كان هذا نوعًا من الرفاهية لا يستطيع أحد التمتع به؛ فقد كان النبلاء في روسيا يُعرفون دومًا بأنهم عبيد أو خدم للقيصر. لقد كانوا يتمتعون — مثل التابعين الإقطاعيين الأوائل في الغرب — بمِنح من الأراضي وعبيد يقومون على فِلَاحتها مقابل إعالتهم، ولم يكن التزام النبلاء بخدمة القيصر محدودًا. بالطبع كانت معظم خدماتهم عسكرية، لكنهم كانوا بالكامل تحت تصرُّف الحاكم لأي غرض وطيلة الوقت الذي يريده. وسَّع بطرس الأكبر (١٦٨٢–١٧٢٥م) هذا المبدأ ونظَّمه؛ حيث طلب من جميع النبلاء أن يعملوا لديه طوال حياتهم إما في الجيش أو «كموظفين حكوميين» (كان هذا أول استخدام لهذا المصطلح). ثبت أن هذا النظام نظام مؤقت؛ فلم تستطِع الدولة تعيين كل الموظفين الموجودين مدى حياتهم، وفي عام ١٧٦٢م حصل النبلاء على الحق في ترك الخدمة. لكن في هذا الوقت لم يعرف كثيرٌ منهم ما يفعلونه بخلاف هذا، وأدَّت عودة الكثير منهم إلى أراضيهم واستغلال عبيدهم عن قرب إلى تفاقم حدة التوتر الاجتماعي في الريف. تَبِعَت هذا ثوراتٌ شعبية ضخمة في سبعينيات القرن الثامن عشر، وَسَعَت كاثرين الثانية (١٧٦٢–١٧٩٦م) المذعورة إلى نيل ولاء النبلاء عن طريق منحهم امتيازات شاملة. هذا وقد أعطى ميثاقُ طبقةِ النبلاءِ في عام ١٧٨٥م النبلاءَ في روسيا مزايا وإعفاءات على نطاقٍ كان في هذا الوقت قد بدأ يندثر في غرب أوروبا. لقد كان الهدف من هذا الميثاق جعل هؤلاء النبلاء متحمِّسين لخدمة حكومتهم على كافة المستويات، لكن دون شيء من الإجبار القديم. ونظرًا لأنه ضَمِن لهم ممتلكاتهم وحيازتهم للإقطاعيات، وأعطاهم رأيًا معترَفًا به في الحكومة المحلية، فإن إقناع النبلاء في روسيا لم يتطلَّب جهدًا كبيرًا كي يقدِّموا خدماتهم طواعية.
نقسم نحن، الذين لا نقلُّ مكانةً عنك، إليك، يا مَن لا تزيد مكانةً عنا، أن نتقبَّل تولِّيك المُلك والسيادة علينا، شريطة أن ترعى حرياتنا وقوانيننا، لكن إن لم يحدث هذا فلن نقبل بك.
لكن لم يكن هذا قط سلوكًا مستبعَدًا عن الأرستقراطيين، فيزخر التاريخ بثورات من النبلاء أو البارونات ضد السلطة، فضلًا عن الإطاحة بالحكَّام أو قتلهم على يد رجال نبلاء ساخطين. فلم يتحدَّد سلوك وحقوق وواجبات الطبقات الأرستقراطية في صورة قواعد وتعريفات رسمية، بقدر ما تحدَّدت بما اختار أعضاؤها أن يعتقدوه عن أنفسهم.