حياة النبلاء
هذه العبارة ليست قديمة؛ فيبدو أن أول من استخدمها كان الدوق الفرنسي دي ليفي عام ١٨٠٨م، عندما بدت محنة الأرستقراطيين التي استمرت ٢٠ عامًا على وشك الانتهاء مع ابتكار نابليون لتسلسل هرمي جديد من الألقاب، وقد قال: للنبالة التزامات. كان القانون يمنع الأرستقراطيين من فعل بعض الأشياء، وكانت معتقداتهم بشأن أنفسهم تُثنيهم عن فعل أشياء أخرى. ومنذ اضمحلال النظام الإقطاعي، لم يَفرض عليهم إلا عددٌ قليل من القوانين التزاماتٍ أكثر إيجابيةً، لكن الجميع كان يعلم أن النبلاء الحقيقيين يُفترض بهم التصرُّف بأساليب تدعم زعمهم التميز الاجتماعي والسلطة؛ بمعنى أن تكون «حياتهم نبيلة».
(١) الأرض
الأرستقراطيون في الأساس هم نُخَبُ ما قبل الثورة الصناعية؛ فتاريخيًّا، اعتمدت سلطتهم على السيطرة والهيمنة على المورد الاقتصادي الرئيسي في جميع المجتمعات تقريبًا قبل حلول القرن التاسع عشر؛ وهذا المورد هو الأرض؛ ففي المجر كان لقب نبلاء يعني «أصحاب الأملاك». وحتى في المدن الجمهورية التي أوجدتها التجارة وأثرتها، مثل البندقية أو جنوة، كان يُتوقع في النهاية من أعضاء الطبقات الحاكمة استخدام ثروتهم في الحصول على ممتلكات من الأراضي. ولم يَحدث إلا في الجمهورية الألمانية أن أبقى «الأوصياء على العرش» التجاريون في المدن على أنفسهم بمنأًى عن محاكاة النبلاء الفقراء نسبيًّا من أصحاب الأراضي في المقاطعات الداخلية.
كانت الأرض تمنح الحرية من وظائف مربحة. كانت الفكرة المثالية عن الدخل الذي يتم جَنْيُه من الأراضي تتمثَّل في أنه يمنح المستفيدين منه حرية فعل أشياء أخرى؛ وكان الهدف من الرابطة الإقطاعية هو السماح للمحاربين الفرسان بخدمة أسيادهم بدلًا من العمل في وظيفة لكسب قوتهم. ونظرًا لأن السادة كانوا يمنحون الإقطاعات في مقابل خدمة الفرسان لهم، كان باستطاعة التابع الإقطاعي أن يمنح ممتلكاته من الباطن في مقابل الحصول على خدمة أو رسوم من الفلاحين. وبينما في الغرب على مدار القرون الأولى من العصر الحديث استُعيض عن الحيازات الإقطاعية تدريجيًّا بالملكية التامة أو الإيجارات التعاقدية، ظل النبلاء يفضِّلون الإيجار على الاستغلال المباشر لممتلكاتهم. ولم يكن يُنظر للزراعة المباشرة للأرض على أنها إلهاءٌ عن أمور أكثر أهميةً فحسب، بل على أنها كذلك قريبة على نحوٍ خطير من السعي للحصول على مكسب تجاري. لم يكن هذا يعني عدم اكتراث النبلاء بالأرباح التي يمكن جَنْيُها من ملكية الأرض؛ فرغم الأساطير التي دارت حول إسراف الأرستقراطيين وإهمالهم الأرعن للممتلكات، فإن معظم الأدلة تشير إلى أن النبلاء كانوا يتَّسمون بالحرص — أو حتى بالجشع — في إدارتهم لثروتهم. إلا أن هذا الحرص كان عادةً ما يَتَّخذ شكل زيادة الإيجارات لأقصى حدٍّ بدلًا من التدخل لتشجيع الاستثمار في إنتاجية طويلة الأمد. في هذه الأثناء، تكوَّنت في أوروبا الشرقية وعلى مدار الفترة نفسها قوة عاملة من الأسرى من خلال معاملة الفلاحين الأحرار سابقًا على أنهم عبيد، وهو ما دعم تكاسل النبلاء لفترة طويلة بعدما لم تَعُد الخدمة العسكرية التزامًا رسميًّا. استغل بعض النبلاء أراضيهم على نحوٍ مباشر من أجل الحصول على الربح، خاصة عندما كانت مساحة هذه الأرض صغيرة. فمن بين الأرستقراطيين في بروسيا، أو العدد الوافر من النبلاء في بولندا أو المجر، كان أصحاب الأراضي الصغيرة يزرعون من أجل البيع في السوق؛ إذ كانوا إما يبيعون ما يزرعونه من حبوب أو يقومون بتقطيرها من أجل صنع المشروبات الروحية، وكانوا يحرثون الحقول حاملين سيوفًا خشبية للدلالة على مكانتهم. إلا أن هذا كان بدافع الحاجة، لا بناءً على رغبتهم؛ فقد كان النموذج المثالي السائد للنبلاء حيازتهم لمساحات ضخمة من الأرض يزرعها مستأجرون أو عبيد، يدفعون أجورًا أو رسومًا، أو يعملون في خدمة سيدهم أو وكيله الذي يعيش داخل قلعة أو منزل ريفي فخم لدرجة تعكس ثروة التملك وهيبة السيادة. كان الأغنياء الطامحون في الحصول على مكانة النبلاء في كل مكان يعلمون أنهم، عاجلًا أم آجلًا، لا بدَّ لهم من استثمار ثروتهم في الأراضي ونمط الحياة المصاحب لها. مع هذا كان النبلاء الفقراء فقط هم مَن يقضون معظم وقتهم في الريف؛ فقد حرَّرَ الاعتمادُ على الإيجارات نظراءهم الأغنياء من الإشراف اليومي على ما يملكونه من أراضٍ، وعلى أي حال كانت عادةً الأراضي، التي يملكها أكثرهم ثراءً، متفرِّقة على نطاق واسع. وقد كان التغيب عن أراضيهم — وهو الأمر الذي طالما ازدراه المؤرخون واعتبروه علامةً على عدم اكتراثهم بمصادر ثروتهم — أمرًا حتميًّا لأي إنسان لديه ممتلكات ومنازل ريفية في العديد من المقاطعات أو الإمارات. على أي حال لم يستطِع إلا عدد قليل من النبلاء الأغنياء مقاومة المغريات الاجتماعية والعصرية لحياة المدينة؛ فاشتهرت العائلات الأرستقراطية في إسبانيا أو إيطاليا بأنها قلما كانت تزور ممتلكاتها في الريف، وهذا عندما يكون الطقس طيبًا. كما أن المهام التي كانت توكل إلى الموظفين الحكوميين، سواء الجنود أو القضاة أو البيروقراطيون، دفعتهم إلى الابتعاد عن أراضيهم لفترات طويلة. وأحد أسباب انتشار ثورات العبيد خلال العقد الأول من حكم كاثرين الثانية في روسيا هو ظهور النبلاء مرة أخرى في الريف عقب تحرُّرِهم من الخدمة الإجبارية في عام ١٧٦٢م واعتزامُهم استغلال العبيد على نحوٍ أكثر منهجيةً؛ وعليه، من الواضح بالتأكيد أن التغيُّب عن الممتلكات قد يكون — في بعض الحالات — أمرًا حميدًا. إلا أن الأهمية السياسية للسادة الكبار قضت بأن يقضوا معظم وقتهم في البلاط والعواصم، بصرف النظر عن كبر حجم المنازل الريفية التي بنوها وزخرفوها من أجل ممارسة سلطتهم في الريف الذي يمدُّهم بدخلهم الأساسي.
بالإضافة إلى هذا لم تكن الزراعة المصدر الوحيد للعائدات من الأراضي؛ ففي المنطقة المحيطة بالمدن الآخذة في الاتساع، أمكن لملَّاك الأرض تشييد مبانٍ على حقولهم وتأجيرها مقابل مبالغ طائلة. لقد كوَّن هذا ثروات أسر الدوقات في بريطانيا — أسرة بيدفورد وأسرة وستمنستر — التي حصلت على المال مِن توسُّع مدينة لندن جهة الغرب. كذلك من الأمور المربحة، التي ظهرت في الضواحي الأبعد، الرواسبُ المعدنيةُ، خاصةً عندما زاد الطلب في أوائل فترة التحول إلى التصنيع؛ فقد حقَّق تعدين الفحم ثروة لا توصف لدوق دي كروي في فرنسا في القرن الثامن عشر، أو لدوق بريدجووتر في إنجلترا؛ فقد أدَّى بيع بريدجووتر للفحم الذي يتم العثور عليه إلى مدينة مانشستر القريبة إلى بناء القنوات. وفي القرن التالي ساعد تصدير الفحم عبر الميناء الذي بناه مركيز بوت في كارديف في جعله أغنى رجل في بريطانيا العظمى. من ناحية أخرى، في كثير من أجزاء القارة الأوروبية، أعاقت حقيقةُ أن ثروات باطن الأرض لا تزال تحت نطاق السيطرة الملكية محاولاتِ النبلاء استغلالَ فرصة امتلاك أراضٍ غنية بالثروة المعدنية.
لكن لم تكن الأرض قطُّ في أعين الأرستقراطيين مجرد مصدر للدخل؛ فقد كانت تعني السيادة أيضًا، بعدما بليت الرابطة الإقطاعية التي انبثقت منها هذه العلاقة المتبادلة بوقت طويل. سيطر ملَّاكُ الأراضي الكبارُ على المجتمع في أحيائهم، ومارسوا حقوقهم الإقطاعية المتبقية بوصفهم سادة الضَيْعات، في ظل وجود حاشيتهم لتطبيق هذه الحقوق. وقد أَوْلَوا اهتمامًا كبيرًا للإحسان والحماية اللذين يوفرونهما لمستأجريهم الخاضعين. ومع هذا أمام كل حالة يؤسَّس فيها منزل للفقراء وتوفَّر سبل التسلية للتابعين، يمكن العثور على أمثلة على نقل قُرًى بأكملها من أجل إفساح المجال لإقامة متنزهات، أو على تدمير الصيادين لحقول بأكملها، أو على انتزاع رسوم وخدمات إلى أقصى حد، بل وحتى أكثر من هذا. لكن، سواء أكان هذا من قبيل السخاء أو الجشع، فإن جميع هذه الحالات تظهر السلطة غير القابلة للطعن التي ظلَّت مصاحِبة لملكية الأراضي حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وفي كثير من الأحيان إلى ما بعد ذلك.
(٢) وقت الفراغ
يقدِّر الأرستقراطيون وقت الفراغ؛ فقد تعلَّموا من التعليم الكلاسيكي احترام اعتزاز النبلاء الرومان بالراحة والدعة كهدف سامٍ، في مقابل المعاناة والمشقَّة، أو ببساطةٍ العمل. لقد كان وقت الفراغ مطلَبًا أساسيًّا للأرستقراطيين؛ حتى يستطيعوا القيام بالأشياء الأخرى المتوقَّعة منهم. وقد اشتمل هذا على سبل للترفيه عن أنفسهم، صدر عن كثير منها هوايات وأنشطة أكثر جديَّةً يمارسها النبلاء.
كان القتل دومًا إحدى الطرق المفضَّلة لدى النبلاء لقضاء الوقت. فحتى في وقت السلم يخاطر الفرسان بحياتهم في المبارزة بالرماح. كما ظلَّت المبارزة بالسيوف تُعد أحد إنجازات النبالة الأساسية حتى وقت متأخِّر من القرن التاسع عشر؛ حيث كانت تُستخدم المبارزات في الدفاع عن الشرف. وعندما أصبحت الأسلحة النارية أمرًا واقعيًّا، أضحت الرماية سمة مميزة أخرى للنبلاء، تُجدي نفعًا في المبارزات لكنها استُخدمت في الأساس مع الطيور والحيوانات الضارة للمزارعين، لكن زادت تربيتها أو سُمح لها بالتكاثر لمجرد أن يطلق النبلاء النار عليها. وقبل هذا وذاك كان هناك الصيد الذي كان بمنزلة التدريب الأمثل للحروب التي يمتطي فيها المقاتلون الخيل، لكنه كان أيضًا يصقل مهارات ركوب الخيل في عصور لم تكن ثمة وسيلة مواصلات أسرع من الحصان. تَمتَّع جميع النبلاء بالقدرة على امتطاء الخيول، وكانت هيبتهم تتجلَّى في نوعية الخيل التي يركبونها ومدى براعتهم في امتطائها. وعندما أراد البرلمان الأيرلندي البروتستانتي في القرن الثامن عشر تدمير سلطة طبقة الأعيان الكاثوليك، منعوا أي كاثوليكي من امتلاك حصان تزيد قيمته على خمسة جنيهات. كانت الغزلان الفريسة الأساسية للصيادين، بجانب الذئاب في العصور القديمة والثعالب حديثًا، عندما أدَّى صيد الحيوانات الأكثر وحشيةً إلى انقراضها. أظهر الناس عواطف جياشة تجاه الصيد، وكان السادة الأكثر ثراءً يمتلكون إسطبلات كبيرة ويربُّون بعناية مجموعاتٍ من كلاب الصيد. وفي حين خُصِّصت مساحات شاسعة من الغابات من أجل رفاهيتهم، فإنهم في حماس المطاردة لم يكترثوا باجتياح الحقول المزروعة أو بالدمار الذي قد يُلحقونه بممتلكات غيرهم. وبالنسبة إلى الطموحين اجتماعيًّا كانت هذه المطاردات باستخدام كلاب الصيد إحدى الطرق المهمة لاندماجهم في المجتمع الأرستقراطي.
يمكن أيضًا إقامة سباقات بين الخيول، وفي الثقافة الأرستقراطية كانت الخيول الأصيلة تقريبًا في نفس أهمية رياضات الصيد. كان النبلاء الأكثر ثراءً يربُّون خيول السباق، وأصبحت اللقاءات في السباق أماكن مهمة للتواصل الاجتماعي، بل وأيضًا لإجراء مناقشات في الشئون العامة. وما زالت أندية الجوكي التي استمرت في السيطرة على سباقات الخيل أحد آخر معاقل الحصرية الأرستقراطية. نادرًا ما كان النبلاء يشاركون في المنافسة، عدا طبقة الأعيان الصغيرة في المناسبات المحلية، لكنهم كانوا يتصدرون المراهنة على النتائج؛ فقد كانت المقامرة تتماشى مع الغريزة الأرستقراطية؛ بما فيها من شجاعة ومخاطرة ومجد ونجاح دون عناء أو مبالاة بالخسارة. ولم يكن هذا قاصرًا على حلبة السباق فحسب؛ ففي بداية العصر الحديث، جعلت الليالي الطويلة المملة في القصور الواسعة لَعِب الورق أسلوبًا عامًّا لقضاء وقت الفراغ، وفي أعلى المستويات كان يُراهَن على مبالغ طائلة من المال. ظهرت كثير من القصص عن ثروات ومواريث ضاعت في لعب الورق؛ فقد كان دفع الأموال مسألة تتعلَّق بالشرف. وكما يحدث دومًا، فإن مثل هذه الحالات الشهيرة تهدف إلى التأثير في المشاعر أكثر من كونها تعبِّر عن الواقع. فلو لم تكن هذه القصص كذلك، لكانت دُمِّرت طبقات كاملة من النبلاء. لقد كانت مجرد تحذيرات دورية لما يمكن أن تؤدِّي إليه المزاولة المفرطة للهوايات الرائجة.
بينما كان الصيد والرماية إلى حدٍّ كبير حكرًا على الرجال، كانت النساء يزاوِلْنَ لعب الورق بنفس حماسة الرجال. كذلك كان الرجال والنساء يتشاركون بالمثل في تذوقهم الأرستقراطي للفن المسرحي؛ فكانت العروض المسرحية جزءًا أساسيًّا في تعليم النخبة من الجنسين منذ أواخر القرن السادس عشر، وكانت المسارح العامة، التي نشأت أثناء هذا الوقت تقريبًا، بمنزلة أماكن يأتي إليها الأشخاص العصريون للقاء بعضهم البعض تمامًا كما يأتون لمشاهدة العرض. وعندما قام الثوريون الفرنسيون بنفي النبلاء، شارف المسرح الباريسي على الانهيار. وحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت معظم المسرحيات الناجحة تدور حول أفعال شخصيات نبيلة وما تتعرَّض له من مآزق، كما أن العروض المسرحية غير المحترفة، مثل العروض التي قامت على أساس جزء كبير من رواية «حديقة مانسفيلد» للكاتبة جين أوستن، بدلًا من لعب الورق الذي لا نهاية له؛ كانت شائعة بين سكان المنازل الريفية طوال القرن الثامن عشر. أما الرقص بوصفه إنجازًا أرستقراطيًّا للجنسين فتاريخه أطول من ذلك، وكان من المتوقَّع دومًا من النساء أن يكتسبن مهارات موسيقية أولية على الأقل.
ظهر كثير من إنجازات الأرستقراطيين وسُبل تسليتهم داخل المنزل منذ أواخر القرن السابع عشر في المنتجعات. لقد أعطت المياه المعدنية لبلدة صغيرة في أبرشية مدينة لييج هذا الاسم العام للمنتجعات الصحية التي بها ينابيع مياه علاجية في جميع أنحاء أوروبا، وفي هذه المنتجعات اعتاد أفراد المجتمع العصري، الذين لم يكن جميعهم يعانون من المرض، على الالتقاء هناك. إن منتجع بادن-بادن في ألمانيا، ومنتجع بانيير أو بلومبيير في فرنسا، وفوق كل هذا منتجع مدينة باث في إنجلترا — أكبر منتجع في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر — أصبحت جميعها مراكز للطبقات الراقية، شعر كلُّ مَن يدَّعي انتماءه لطبقة النبلاء بضرورة التردد عليها. واستمتع هؤلاء الزوار المتميزون، داخل مساكن أنيقة، بحلقة منتظمة من التواصل الاجتماعي المهذَّب بمنأًى عن الهوايات العنيفة التي مارسها أجدادهم (المزعومون) في العصور الوسطى. وكان القاسم المشترك بينهم عزمهم على التفاخر برتبتهم.
(٣) المظهر
تدعو الأرستقراطية للفخر، فلا بد للتميُّز أن يُظهر نفسه ويبهر الناظرين. بدأت أقدِّم علامة على تميُّز النبلاء — شعار النبالة — كوسيلة لتحديد هُويتهم في أرض المعركة، لكنها أصبحت رمزًا للتزيين يوضع على كل شيء له أهمية: المباني والعربات وأزياء الخدم الرسمية، والكتب وورق كتابة الملاحظات وأختام التوقيع والمقابر. نشأ علم سرِّي كامل للأنساب حول هذا الأمر. فضَّل النبلاء أيضًا الأسماء المعقَّدة، وكانوا ينطقونها أحيانًا بطرق غير متوقَّعة من أجل إرباك الأقل منهم مكانةً غير الواعين بالنطق الصحيح لتلك الأسماء، مثل تشوملي التي تُكتب تشولموندلي، وبروي التي تُكتب بروجلي، وكاستري التي تُكتب كاستريز. والأقل وضوحًا من هذا كان سعي الأرستقراطيين دومًا إلى ارتداء ملابس مميزة، اعتقادًا منهم أن أعضاء مجلس الشيوخ الرومان كانوا يرتدون أثوابًا فضفاضة وأحذية خاصة. وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر حاولت قوانين تحديد الإنفاق في كثير من الدول منع عامة الشعب من ارتداء الأثواب الباهظة الثمن التي جرى الاعتقاد بأنها مناسبة للنبلاء، لكن كثيرًا من عامة الشعب الأغنياء كان بإمكانهم شراؤها، في حين لم يستطِع كثير جدًّا من النبلاء ذلك. أما النبلاء الذين كانت لديهم الإمكانيات المادية، فقد بحثوا عن طرق تجعل مظهرهم مختلفًا عن غيرهم؛ سواء بشكل ظاهر، عن طريق حمل السيوف طوال الوقت أو ارتداء رتبهم أو الأوسمة أو المجوهرات، أو بطريقة أقل ظهورًا عن طريق اختيار نوع القماش أو طريقة التصميم. وفي فرنسا ظلَّت موضة النعال الحمراء في بلاط لويس الرابع عشر تشير إلى النبلاء لأجيال بعد اختفاء هذه الموضة.
لقد حاول النبلاء دومًا تجنُّب التنقل سيرًا على الأقدام؛ فكانت رشاقة الحصان وسرعته، فضلًا عن ثمنه، أقوى دلالةٍ ماديةٍ على الرتبة. وعلى مدى القرون الأولى من العصر الحديث زاد انتشار العربات، وما يصاحبها من سائسين للخيل وسائقين وخدم يركضون بجوارها، وقد علَّق جون راسكن بامتعاض على هذا، فقال إن هذا كله لأجل «إحراج الناظرين من العامة». في الواقع كان الخدم من كافة الأنواع مرافقين أساسيين للنبلاء، وكلما زادت مكانة أحد النبلاء، أصبح من المتوقَّع أن يزيد حجم حاشيته. وكان لزامًا على ذوي النفوذ أصحاب الضَيْعات المترامية الأطراف تعيين طاقمِ عاملين في كل أجزائها، حتى إن كان هذا فقط من أجل صيانة القلاع أو المنازل الضخمة التي كانت أحد أهم مظاهر السلطة والنفوذ الأرستقراطي.
إذا كان الفقر المدقع قد أجبر ملَّاك الأراضي في الريف على الحياة في تقشُّف في منازل ريفية بسيطة أو قلاع اختفت قيمتها العسكرية بسبب اختراع البارود، فإن بناء مسكن مناسب أو تحسينه كانت له الأولوية دومًا لدى الأرستقراطيين الذين لديهم أموال فائضة أو سمعة طيبة. كان أصحاب النفوذ يمتلكون قصورًا حضرية في المدن الرئيسية، مثل القصور التي ما زالت موجودة في أماكن متفرِّقة في جميع أنحاء باريس أو فيينا أو براغ أو سانت بطرسبرج. وفي لندن، يُعد قصر سبنسر هو الوحيد الذي يستحضر ذكرى المنازل الكبرى التي لم تَعد موجودة في العصر الحالي؛ مثل منازل دوقات ديفونشاير أو نورثمبرلاند. إلا أن القصور الأساسية لهؤلاء النبلاء كانت — وما زالت — موجودة في الريف؛ مثل منازل ألثورب وتشاتسوورث وألنويك في بريطانيا. ظهرت فعليًّا لأول مرة المنازل الريفية غير المحصَّنة البعيدة عن تهديد الحرب في القرن السادس عشر، وقد بُني كثيرٌ منها على أنقاض أديرة مهدَّمة. وفي القرن الثامن عشر ظهرت محاكاة لها، وللحدائق المحيطة بها، في جميع أنحاء القارة الأوروبية. ويمكن زيارة أكبر هذه المنازل الريفية حتى الآن؛ مثل قصر شانتيه لأمير كوندي في فرنسا، أو قصر بولوي لأمير قرية لينية في بلجيكا، أو — أشهرها على الإطلاق — قصور إسترهازي في النمسا والمجر التي أقام فيها المؤلِّف الموسيقي جوزيف هايدن. استمر بناء المنازل الريفية — الأكثر فخامةً أكثر من أي وقت مضى — حتى وقت أزمة العائدات الزراعية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، رغم أنه كان من المتعارف عليه على نطاق واسع أن تشييد المباني هو الطريقة المؤكَّدة لتبديد الثروة. ومع هذا، في عالم المظاهر الأرستقراطية، وفي خضم الاهتمام الدائم بالموضة، لم يواصل سوى قلة قليلة منهم الحياة داخل حصون كئيبة، خاصة عندما كان الوافدون الأغنياء الجدد يعلنون عن انضمامهم لهذه الطبقة عن طريق تشييد منازل على أحدث صيحة. ولم يحدث إلا في القرن العشرين أن بدأ كثير من أصحاب «المساكن الفخمة» ينظرون إليها باعتبارها عبئًا. وبحلول هذا الوقت، ومع عودة ازدهارِ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت هذه المنازل تُعتبر على نطاق واسع تراثًا ثقافيًّا قيِّمًا، وقد دُمِّر كثير منها أو تحوَّل إلى مؤسسات.
ليس من قبيل المصادفة أن كثيرًا من هذه المساكن تبدو ذات طابع مسرحي؛ فهي تشكِّل مسرحًا أساسيًّا — أو خلفية — لمسرح العروض الأرستقراطية. فنظرًا لموقع هذه المنازل في قلب الضَيْعات الكبرى، كان النبلاء يرفِّهون عن أنفسهم فيها ويُظهِرون أقدم القيم المرتبطة بالأرستقراطية، من سخاء وحُسن ضيافة. كانت المنازل الكبرى تُفتح أمام الجمهور عند الطلب، قبل قرون من فتحها أمام الزائرين الذين يدفعون تذاكر. وكان يُرفَّه أحيانًا عن المستأجرين بطعام أو مشروبات أو ألعاب أو عروض، حتى وإن اقتصرت هذه العروض على مجرد مشاهدة كلاب الصيد وهي تنطلق للصيد. اعتَبر جميع النبلاء الترفيه عن مَلِكهم شرفًا عظيمًا، رغم استخدام الحكَّام أحيانًا الجولات الملكية عن عمد لاستنزاف ثروة رعاياهم المفرطي القوة الذين كانوا يُستدعون للإنفاق على البلاط بأكمله؛ فقد اشتهر لويس الرابع عشر بشعوره برعب شديد من الثراء الذي أظهره فوكيه — مديره المالي — عند ترحيبه به في عام ١٦٦١م، لدرجة أنه أمر بإلقاء القبض عليه وسجنه مدى الحياة. وأخيرًا، نتحدَّث عن مشهد الموت؛ فقد فضَّل النبلاء الجنازات الفخمة والمهيبة، وتوقَّعوا أن يُدفنوا داخل أبرشية الكنائس بجوار أسلافهم، إن لم يكن في أضرحة العائلة. وقد كانوا يعلمون أن مَن سيبقون منهم على قيد الحياة من بعدهم سيخلِّدون ذكراهم بنُصب تذكارية مزخرفة ونقوش لفظية تعرض فضائلهم وإنجازاتهم، مما يضيف إسهامهم بعناية إلى سجل التميز العائلي المتنامي.
كان الحرص على المظاهر أمرًا مكلِّفًا، فحتى أغنى الأرستقراطيين كانوا يميلون إلى الإنفاق وصولًا إلى حدود دخلهم، وعادةً ما كانوا يتخطَّونها. وساد نمط أدبي قوي عن النبيل المسرف المثقَل كاهله بديون يجلبها على نفسه بسبب إهماله ويتأخَّر في سدادها على نحو مخزٍ، هذا إن سدَّدها من الأساس. وفي واقع الأمر كانت الديون العرضية الوحيدة التي يسدِّدها النبلاء في موعدها بالضبط، هي ديون القمار؛ إذ إنها تتعلَّق بالشرف. في المقابل كان التجَّار والمقاولون عادةً ما ينتظرون سداد أموالهم لسنوات، وفي إنجلترا حتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن سجن النبلاء من أجل دَيْن مسموحًا به. وقد خاطر آلاف الدائنين بالتعرُّض للانهيار عندما يتعرَّض أحد النبلاء الكبار إلى الإفلاس على نحوٍ مذهل. لكنْ نظرًا لأن الحد الفاصل بين الإفلاس والاحتيال أصبح أقلَّ وضوحًا مما أصبح عليه الحال فيما بعد، أصابت وصمة العار نبلاء آخرين. ومع هذا فإن بيع الممتلكات من أجل تجنُّب الدَّيْن لم يكن أمرًا سهلًا طوال الوقت؛ فمعظم الضَيْعات الواسعة كانت محميةً دومًا بأوقاف محكمة الصياغة. وعلى أي حال، كانت الحكومات تعارض دومًا رؤية انهيار ممتلكات النبلاء من الأراضي عن طريق البيع الإجباري، وفي أواخر القرن الثامن عشر أَسَّس كثير من حكَّام أوروبا الشرقية بنوكًا عقارية من أجل إقراض النبلاء ذوي الرتب المنخفضة قروضًا مالية بأسعار فائدة مميزة. ونظرًا لأن هذه البنوك أُسِّست من أجل الحفاظ على ثروة النبلاء، فإنها نادرًا ما كانت تحجز على الممتلكات إذا ما تخلَّف المقترضون عن الدفع. وعندما تكون الضيعات موقوفة، فإن الحجز عليها على أي حال يصبح مستحيلًا من الناحية القانونية. إلا أن أكبر القروض العقارية التي حصل عليها النبلاء نادرًا ما كانت تُستخدم لتمويل أمور تافهة، بل للتخفيف من عبء المهور والتسويات الأسرية، فضلًا عن تحسين الضيعات أو توسيعها. وكان يُخطَّط لمثل هذه القروض بعناية، وتُحدَّد مصادرها بحكمة. وكان النبلاء أنفسهم هم من يشجِّعون بعناية الأساطير التي تدور حول السخاء الأرعن الذي يفضِّل نقَّادُ طبقة النبلاء الخوضَ فيه. لكن لو كان النبلاء بالفعل بمثل هذا الإهمال في أموالهم، لما بقي عدد كبير منهم طوال هذه المدة الطويلة.
(٤) التعليم
كان الإنجاز دون عناء — أو على الأقل ما كان يبدو كذلك — أحدَ الجوانب القيِّمة في مظاهر النبالة؛ فلا بد أن تكون مظاهر التميز واضحة؛ فالصفة البارزة التي اتصفت بها الشخصيات اللامعة في كتاب بالداساري كاستيليوني «رجل البلاط» (١٥٢٨) — الذي ربما يكون من أكثر الكتيبات خضوعًا للدراسة فيما يتعلَّق بالسلوك الأرستقراطي — كانت «اللامبالاة المدروسة»، وهي ازدراء أي مظهر من مظاهر بذل الجهد. لم يكن للتعليم الرسمي قيمة كبيرة لدى النبلاء في العصور الوسطى؛ فالتدريب الوحيد الذي كانوا بحاجة إليه هو تجهيز أنفسهم للنجاح في ساحة المعركة، وحتى في هذا السياق طغى زعْم الشجاعة الفطرية على الحاجة إلى تعلُّم مهنة الجندي. ولم يعزِّز الأدب والفن مكانتهما من جديد باعتبارهما يرتبطان بالطبقة الأرستقراطية إلا بين غير العسكريين في شمال إيطاليا، الذين اقتدوا بالنخبة في روما القديمة لكنهم كانوا يوظِّفون مرتزقةً للقتال بدلًا منهم. انتشر الأدب والفن ببطء حتى بين الفرنسيين المهتمين بأحدث الصيحات. وكان رجال البلاط الرفيعو الثقافة في كتاب كاستيليوني يتحسَّرون دومًا على أن اهتمام جميع النبلاء الفرنسيين ينصبُّ كله على القتال. وبعد مرور مائة عام، كان التحيز الفرنسي ضد التعليم ما زال قويًّا؛ فقد تأمَّل الكردينال ريشيليو قائلًا إن الحكومة «لم تكن معنية بالرجال الذين يُتقنون اللغة اللاتينية بقدرِ ما كانت معنية بأولئك الذين يملكون أراضي.» لكن بحلول ذلك الوقت، أصبحت اللغة اللاتينية إحدى ركائز التعليم حتى لملَّاك الأراضي؛ فقد كانت الدول ذات الطموحات التوسعية بحاجة إلى أفراد متعلِّمين من العامة لتولِّي إدارتها، وكانت المكافآت في المناصب العليا كبيرة بحيث يصعب على النبلاء مقاومتها. كما جعلت الانشقاقات الدينية التي حدثت نتيجة لحركة الإصلاح الديني جميع الطوائف تطمح إلى غرس مفهوم تقريبي لما يفترض الإيمان به في أذهان قادة المجتمع. ومع وضع هذا في الاعتبار جعلت جماعة الجزويت، التي أسَّسها جندي إسباني نبيلٌ وثريٌّ، من واجباتها الاضطلاعَ بمهمة تعليم معظم النخبة الكاثوليكية في أوروبا وقواعدها العسكرية في الخارج. وهكذا شهد القرن السادس عشر توسعًا مذهلًا في مؤسسات التعليم الرفيع المستوى في جميع أنحاء أوروبا، وفي نهايته كان يتوقَّع ألا يصبح النبلاء متعلمين فحسب، بل أيضًا بارعين في اللغة اللاتينية. ومع هذا لم يلتحق بالجامعة إلا عدد قليل منهم، والتحق عدد أقل بشهادات تشتمل على احتمال إجراء اختبار (رغم أنه إجراء روتيني) على يد أشخاص أقل منهم في المكانة الاجتماعية، لكن ظلَّت أعداد الدارسين في الكليات والأكاديميات في زيادة مستمرة؛ حيث كانت المهارات الأرستقراطية التقليدية مثل الفروسية أو المبارزة تُدرَّس بجانب الأدب.
لم يتمكَّن من الالتحاق بهذا النوع من التعليم العالي الكلفة سوى أغنى الأشخاص وأكثرهم طموحًا. وفي العصور الوسطى، تعلَّم أبناء أصحاب الرتب العليا أساليب الحياة الأرستقراطية عن طريق عملهم خدمًا في منازل الأمراء أو أصحاب النفوذ، واستمر هذا التقليد في أوساط معينة. كذلك انتشر تعيين المدرسين الخصوصيين على نطاق واسع لتقديم تعليم أرستقراطي مميز، وكانوا يصاحبون طلابهم فيما كان يُعرف ﺑ «الجولة الكبرى» التي أصبح يُنظر إليها في القرنين السابع عشر والثامن عشر على أنها ذروة تكوين أي نبيل شابٍّ ثريٍّ. وكانت هذه الجولة تستمر مدة تتراوح بين بضعة أشهر وعدة سنوات، وكانت مخصصة لتمكين الشباب المقدَّر لهم شَغْل مهن عامة من التعرف على عالم الثقافة الرفيعة والمجتمع الراقي عن تجربة شخصية. وفي هذه الجولة، كان يُفترض بهم زيارة القصور ومشاهدة التدريبات العسكرية وإتقان لغات أجنبية وفحص النصب التذكارية والحصول على تذكارات ثقافية. ويسعى الجميع إلى أن تكون محطتهم النهائية إيطاليا، بلد الفن والموسيقى والكلاسيكيات. وبالتأكيد يزورون فرنسا وأحيانًا هولندا. إلا أن الهدف كان يتمثَّل في أن يسعوا أينما ذهبوا — على حد قول إيرل تشيسترفيلد لابنه وهو ينصحه في عام ١٧٤٨م — إلى «محاكاة أوجه التميز الحقيقية لدى الصحبة الطيبة التي ربما يحصلون عليها وذلك ببصيرة وحكمة؛ تقليد ما يتسمون به من تهذيب، ومشيتهم، وأسلوب كلامهم، وأسلوبهم السلس والمهذَّب في الحديث.»
مع هذا كانت هذه الجولة الكبرى تتعدَّى دومًا الإمكانيات المالية لمعظم النبلاء، وحتى بين أغنى النبلاء استمر هذا التقليد بالكاد عقب الاضطرابات التي أثارتها حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. وفي النهاية أصبحت الحكومات قلقة من تكلفة تعليم الشباب النبلاء حتى يصلوا إلى مكانتهم ويتقلَّدوا وظائفهم التقليدية. على مدار القرن الثامن عشر، أقيمت أكاديميات عسكرية من أجل تقديم منح دراسية وتدريب للنبلاء الفقراء. وفي واحدة من هذه المؤسسات تعلَّم نابليون بونابرت، الذي كان من عائلة كورسيكية قديمة لكن فقيرة، أُسُسَ وظيفة الجندي. وأظهرت المعارك العظيمة التي خاضها الأهميةَ المتزايدة للاحتراف العسكري، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كانت جميع القوى العظمى لديها مدارس مركزية للضباط، كان معظم طلابها العسكريين من النبلاء. لكن قبل الالتحاق بهذه المدارس، كان النبلاء يفضِّلون التعلُّم بمعزلٍ مع أبناء طبقتهم. وفي معظم الدول كان عدد قليل من مدارس النخبة، مثل إيتون أو وستمنستر في إنجلترا، أو كليات الضفة الجنوبية الكبرى في باريس، يَقبلون أعدادًا متفاوتة من النبلاء. وكانت مدرسة ألكسندر الروسية، التي تأسست عام ١٨١١م، لا تقبل إلا النبلاء. وقد أعطى المنهج الدراسي الأساسي المتمثِّل في دراسة الكلاسيكيات جميع من خضع له لغةً خاصةً وكمًّا من المراجع مدى الحياة، في حين كان يُعتقد أن أسلوب التأديب الوحشي (في القرن التاسع عشر) والترويج الجامح للرياضات والألعاب، أسلوب جيد للإعداد لحياة السُّلطة والأفعال المؤثِّرة. وربما استمرَّت الغالبية العظمى من النبلاء في عدم الثقة في «استقاء العلم من الكتب» بهذا القدر البالغ بوصفه أبعد ما يكون عن متطلبات الرجل النبيل، لكنهم جميعًا كانوا يشعرون بأنهم مجبرون — بعدما شكَّكت الثورة الفرنسية في الأساس المنطقي بأكمله للطبقة الأرستقراطية — على إعداد أنفسهم على نحوٍ أكثر منهجيةً لمواجهة العالم الجديد.
على الأقل هذا ما فعله الرجال، أما فيما يتعلَّق بالنساء الأرستقراطيات، فلم يحدث تطوُّر ملموس في متطلبات التعليم لديهن على الإطلاق؛ فكما الحال مع الرجال — أو ربما أكثر — كان يُعتقد أنه من المستحب أن يتلقَّيْن تعليمًا مستقلًّا؛ فقد كانت الفتيات الأعلى مكانةً، المقدَّر لهن منذ ولادتهن الحصول على زيجات استراتيجية لتدعيم السلالة، يحصلن على تعليم خاص، أو — في الدول الكاثوليكية — يوضَعْن في رعاية راهبات أرستقراطيات في أَدْيرة خاصة. كانت السيدات اللاتي يحقِّقْن أعلى الإنجازات الثقافية يَظهرْنَ دومًا في المجتمع الراقي، بداية من اللاتي قُدْن النقاش في قصة «رجل البلاط» لكاستيليوني، وحتى مضيفات الصالونات الأدبية اللائي فعلن الكثير من أجل الترويج لقيم التنوير في فرنسا في عصر لويس الخامس عشر. لكن حتى مستشار مهذَّب مثل تشسترفيلد كان يعتقد أن النساء لا يحتجن إلى معرفة اللغة اللاتينية، ومن وجهة نظر شخص ضيق الأفق مثل نابليون لم تكن هناك مهمة أخرى للنساء سوى إنجاب الأطفال؛ فكان لا بد للنساء أن يتَّسمْنَ بالتهذيب، وأن يكنَّ خاضعات، كما كان يجب عليهن أن يكنَّ بارعات في الحساب، من أجل إدارة حسابات المنزل، وأن يكنَّ قادرات على الرقص، ويُفضَّل أن يَبرَعْنَ في الغناء والعزف على إحدى الآلات الوترية (آلات النفخ كانت تتنافى مع التأنُّق). وعند ركوبهن الخيل، كنَّ يجلسن في سرج جانبي بحيث تضع كلٌّ منهن كلتا ساقيها على نفس جانب الحصان. لكن في النهاية، كنَّ يَعلمْنَ أن وظيفتهن الوحيدة الأساسية كأرستقراطيات، على حدِّ وصف إحدى الدوقات الإنجليزيات في القرن الحادي والعشرين، هي إنجاب الأطفال.
(٥) البلاط ورجاله
لعدة قرون ظلَّت الصورة التقليدية للأرستقراطي — المثالي — هي صورة رجال البلاط الملكي. فمع وابل الاستنكار الذي اكتنف هجوم الثورة الفرنسية على النبلاء، كانت معظم العادات والادعاءات المنسوبة للنبلاء بوجه عام مرتبطة بالبلاط؛ مثل الازدراء المتعجرف، وعدم الاكتراث بالأقل منهم مكانةً، والخنوع للأعلى منهم في المكانة، والنفاق، والجشع، والتبذير، والديون، والمحسوبية، والفساد الأخلاقي بكافة أشكاله. تستند هذه التهم على تراث أدبي طويل، صَقَلَ معظمَه بعناية نبلاءُ ناقمون ليست لديهم القدرة على تحمُّل تكاليف حياة البلاط، وكانوا يطالعون تلك الحياة بمرارة من بعيد. والمفارقة أن جميعهم في النهاية وسموا بالصفات السيئة نفسها. مع هذا حدَّد البلاط بالفعل معيارًا مثاليًّا حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر. حذَّر تشسترفيلد ولده قائلًا: «اللغة والمظهر الخارجي والملابس وسلوكيات البلاط هي المعيار الحقيقي الوحيد … فالإنسان الموهوب، الذي تربَّى في البلاط، وكان يصاحب أفضل الناس، سيميز نفسه ويختلف عن عامة الشعب، بكل كلمة وتصرُّف وحركة، بل وحتى بكل نظرة.»
كانت عوامل الجذب في البلاط هي السلطة والمكانة والأجر، وجميعُها وثيقة الصلة بعضها ببعض. فكان البلاط «منزل» الملوك، الذين كانوا، بالإضافة إلى السلطة التي كانوا يستخدمونها ويوزِّعونها، يتفاخرون بكونهم أول نبلاء في ممالكهم — أرفع النبلاء مكانةً بلا جدال — وهم من يحدِّدون معايير المظاهر والسلوك الأرستقراطي الذي يُحاكى — وفقًا للموارد المالية — على مدى التسلسل الهرمي للنبلاء. لقد كانت ثقة الملوك هي مفتاح سلطتهم، وكانوا يمنحونها فقط لمن يعرفونهم. وفي المقابل شعر كبار النبلاء بأنهم أهل لهذه الثقة، لكن حتى يكتسبوها كان لا بد لهم من الوصول إلى الحاكم، وأن يُشاهَدوا بصحبته، ويشاركوه مُتَعَه وهواياته، وجذب انتباهه. ولم يكن البلاط قطُّ حكرًا على النبلاء؛ فقد كان نواة لشبكات واسعة من الوظائف والخدمات التي يديرها إلى حدٍّ كبير عامةُ الشعب. إلا أن النبلاء وحدهم هم من كانوا يشعرون بأنه من حقِّهم الوجود في هذا المكان، وكان يجذبهم بشدة لدرجة أن بعضًا منهم كان بحاجة إلى أن يتم إبعادهم عنه. إن نظام «ألقاب البلاط الشرفية» الذي أنشأه لويس الخامس عشر في فرنسا (١٧١٥–١٧٧٤م)، والذي استثنى منه أي عائلة ليست نبيلة لم تحصل على مكانة النبالة منذ القرن الخامس عشر من المثول بين يدي الملك أو الذهاب إلى الصيد معه، لم يكن يهدف لاسترضاء كبرياء العائلات بقدر كونه أداة لوجستية تهدف إلى تقليل الأعداد.
مع هذا لم تكن تبقى كثير من العائلات المؤهَّلة داخل البلاط حتى بعد حصولها على اعتراف شعائري؛ فقد كان المؤهَّل الحقيقي للبقاء داخل البلاط هو القدرة على تحمُّل نفقاته؛ فالتغير الدائم في الموضة، وأساليب الترفيه المترفة، والمقامرة الراقية، فضلًا عن الحاجة إلى اتباع الملك في جولاته الملكية؛ كانت جميعها من الأمور الباهظة التكلفة. وشعرت أُسَر رجال البلاط كذلك بالحاجة إلى الاحتفاظ بمنازل في المدن الرئيسية، وهي أماكن أنيقة وباهظة التكلفة. فحتى أكبر الدخول تدمِّرها مثل هذه المتطلبات، وأحد الأمور التي استحوذت على اهتمام رجال البلاط المستمر حصولُهم على هبات لا يحصل عليها غيرهم؛ من معاشات ومناصب ووظائف تُدِرُّ دخلًا جيدًا دون جهد، تأتي من عائدات الملك. ومن هذا المنطلق، كلما قلَّت قدرتهم على تحمُّل نفقات البقاء في البلاط، زادت حاجتهم إلى الوجود فيه.
في ظل الحكم الملكي المطلق، الذي ساد في معظم الدول حتى القرن التاسع عشر، كان البلاط منتدًى للسياسة العليا، وموقعًا لجميع عناصر القوة، ومكانًا للحماية والترقي والمحسوبية. فحتى في بريطانيا العظمى، التي كانت دولة برلمانية منذ أواخر القرن السابع عشر، كان شرف الجلوس مع الملك عظيمًا، وكانت المكافآت الشرفية والمادية الناتجة عن ذلك هائلة، على الأقل حتى وفاة زوج الملكة فيكتوريا؛ فلم يكن يطمح كثير من الوزراء حتى تولِّيها الحكم في الاحتفاظ بأغلبية برلمانية لوقت طويل دون الدعم الصريح من الملك. وعندما نصَّب نابليون نفسه إمبراطورًا، شعر بالحاجة إلى دعم مكانته عن طريق إحياء شيء كالبلاط الذي كانت قد دمَّرته الثورة الفرنسية. وجعل سقوطُه الدولَ التي جاءت من بعده تعزُف عن تقليده، وشهد القرن التاسع عشر تقلُّصًا في حجم البلاط ودوره السياسي. ويلي هذا دور البلاط كمركز للموضة؛ ففي النهاية أصبح البلاط في الواقع يعبِّر بالتأكيد عن كلِّ ما هو قديم الطراز. إلا أن هذه الآثار التي فقدت رونقها وكانت في وقتٍ ما مسارحَ متألقةً للسُّلطة، ما زالت مَقرًّا لسُلطة وراثية عُليا، وفيها ظهرت بوضوح أُسُس الدور الاحتكاري للأرستقراطيين المنتمين للعائلات الأرستقراطية القديمة أكثر من أي وقت مضى. وحتى وقت متأخر من القرن العشرين في بريطانيا العظمى كانت ذروة موسم الأحداث الاجتماعية الحضرية تأتي عندما ترسِّخ السيداتُ الشاباتُ من العائلات العريقة مؤهِّلاتِهن عن طريق تقديم أنفسهنَّ رسميًّا للملك على أنهنَّ «مبتدئات» في حياة المجتمع الراقي، وذلك كما كان يُطلَق عليهنَّ في لغة بلدة فيرساي القديمة.
(٦) التنوع
رغم دور النبلاء في وضع المعايير، لم يقترب قط من البلاط إلا قلة قليلة منهم؛ فالمؤكد أن كثيرًا منهم كرهوا رجال البلاط لكونهم جشعين وطفيليات محظوظة دون إنصاف. وفي المقابل كره رجال البلاط وسخروا من التصرفات الريفية أو البرجوازية من جانب النبلاء. وإن مثل هذا العداء، الذي أُطلق عليه في إنجلترا في القرن السابع عشر اسم «البلاط في مقابل الريف»، لهو أحد الفجوات التي لا تُعد ولا تُحصى بين الأرستقراطيين في كل بلد، وعلى جميع المستويات. فقد عمل عنصر انعدام المساواة الأساسي في أي فكرة تتعلَّق بطبقة النبلاء على تمييز النبلاء بعضهم عن بعض تمامًا كما كانوا يتميزون عن الغالبية العظمى من الشعب.
إن طبقة النبلاء نسيج رقيق من اختلافات دقيقة يُعتز بها كثيرًا، ويشكِّل كلٌّ منها أساسًا لنوع من التميز أو الدونية؛ ومن الواضح أن العداوات بين البلاط والريف كانت مظهرًا مهمًّا من مظاهر التفاوت في الثراء. إلا أن النبلاء الجدد، الذين كانوا دومًا أغنياء، تعرَّضوا أيضًا لازدراء رجال البلاط وملَّاك الأراضي الصغار بالمثل؛ نظرًا لافتقارهم أجدادًا من النبلاء. فكانت شجرة العائلة تقدِّم طُرقًا لا حصر لها للنبلاء لمقارنة أنفسهم بعضهم ببعض. وقد تكون العداوات أيضًا مهنية؛ فنادرًا ما كان يتوافر وقت لدى العسكريين من أجل القضاة أو العاملين في وظائف إدارية كتابية مملة، الذين لا تتطلَّب وظائفهم أي قدر من الشجاعة ولا يحقِّقون أي نوع من المجد، ومع هذا يتحكَّمون في مصير الجيوش أو المتقاضين. والمعتاد أن تحتقر العائلاتُ الحاملةُ للألقاب العائلاتِ التي لا تحمل ألقابًا، وكان الوعد بالترقِّي داخل التسلسل الهرمي للألقاب أحد أكثر حوافز الملوك الفعَّالة. ظهر دور كل هذه الاعتبارات عندما فكَّرت العائلات في عقد تحالفات عن طريق الزواج؛ فلم يكن أحد يرغب في الزواج من أُسَر أقل منه مكانةً، مع هذا كان ثمة استعداد دومًا للتغاضي عن أي تفاوتات ملحوظة بين الزوجَيْن المحتملَيْن إذا كان أحد الطرفين يتمتع بمميزات طاغية في المكانة أو الثروة في أغلب الأحيان. فحتى أكثر الأسر عراقةً ورُقيًّا — وثراءً أيضًا — كانت تتغاضى عن كبريائها نظير إمكانية ضم وريثة إليها أقل مكانةً لكن أكثر ثراءً.
لم يحدث قطُّ أن كان هناك تشابه تام بين نبلاء دولتين مختلفتين. كانت بولندا والمجر وإسبانيا تعجُّ بالنبلاء من ذوي الرتب المنخفضة، الذين لم يكن معظمهم بالضرورة من الأغنياء، وفي مقاطعات معينة في شمال إسبانيا، كان كل ذَكَر يعتبر نبيلًا «هيدالجو»؛ بمعنى ابن لأب شهير. وعلى العكس من هذا، في الجزر البريطانية، لم يحظَ قانونًا بلقب النبلاء إلا ذوو الأصل العريق؛ لذا ظهرت بالضرورة تفاوتات كبيرة في نسبة السكَّان الذين تمثِّلهم مجموعات متباينة بهذا الوضوح، لكن النسبة لم تتخطَّ كثيرًا ١-٢٪ إلا في الدول التي تتَّسع فيها طبقة النبلاء على نحوٍ كبير، مثل بولندا أو أجزاء من إسبانيا، وتضاءلت فيما بعد عندما زاد العدد الإجمالي للسكان. بالإضافة إلى هذا، رغم انتشار الفكرة المثالية بالعيش من دَخْل الأراضي، كان يظهر دومًا نبلاء لا يملكون أراضيَ جرَّاء تطبيق قوانين الميراث، التي عادةً ما كانت إما تقسِّم المواريث أو تحابي الابن الأكبر على نحوٍ غير متكافئ. فعثر بعض هؤلاء النبلاء الذي لا يملكون أراضيَ على فرصة للعمل في وظيفة الجنود المحترمة، لكن الكثير منهم أُجبر على العمل في وظائف تُزدرى عادةً في الأوساط الأرستقراطية؛ منها التجارة، سواء البيع بالجملة أو بالتجزئة. وحتى النبلاء الذين استطاعوا الحفاظ على ما يمتلكونه من أراضٍ كما ينبغي، فقد انتزعوا الفائض الذي ينتجه المستأجرون بطرق كثيرة متنوعة؛ في أوروبا الغربية، على نحوٍ متزايد عن طريق الإيجارات النقدية، التي تُضاف بمقادير متفاوتة من الرسوم الإقطاعية المتبقية والخدمات التي يقدِّمها التابعون، وفي شرق نهر إلبه، من العمل الإجباري للعبيد الملازمين للأرض، أو المملوكين للأفراد (في روسيا).
كذلك فإن السُّلطة التي استخدمها النبلاء في مجتمعاتهم لم تكن بأي حال من الأحوال واحدة؛ ففي المدن الجمهورية، مثل البندقية أو جنوة، تمتع جميعُ النبلاء بسلطة جماعية؛ فقد كان الشلاختا في بولندا قبل تقسيمها يرون أنهم يمثِّلون دولة مكتملة، وانتخبوا ممثلين ليحكموهم على جميع الأصعدة، وصولًا إلى الملك نفسه. وبالمثل كان البرلمان البريطاني تسيطر عليه إلى حدٍّ كبير مصالحُ الطبقة الأرستقراطية حتى أواخر القرن التاسع عشر، ولم يُقضَ نهائيًّا على عرقلتهم للسلطة في مجلس اللوردات إلا في عام ١٩١١م. وأينما وجدت مؤسسات برلمانية في أي مكان آخر قبل القرن التاسع عشر، سواء على مستوى الدولة أو الأقاليم، كان النبلاء عادةً ما يحصلون على أماكن مخصَّصة لهم، لكن سلطاتهم المحدَّدة لم تكن متماثلة قط. وقد أشفق النبلاء الذين تمتعوا بالحكم الذاتي الذي وصفوه بالحرية على نظرائهم الخانعين المجبرين من الحياة تحت سلطة الحكام المطلقين؛ فقد كان هؤلاء الحكام يصنِّفون أي مظهر من مظاهر استقلال النبلاء على أنه ثورة، أو تأييد للنظام الجمهوري. وقد عاش هؤلاء الحكام في خوف من رعاياهم المفرطي القوة. ومع هذا لم يحلم أيٌّ منهم قطُّ بمحاولة إدارة الدولة دون تعاون النبلاء في جميع المستويات، وإذا حدث واختاروا وزراءَ رُتَبُهم منخفضة، فإنهم يُغدقون عليهم الألقاب والمكافآت حتى يمكِّنوهم من مواجهة الرعايا دون خجل. وحتى مع وجود النبلاء تحت سلطة حكَّام مطلقين، اختلف حكمهم الذاتي اليومي إلى حد كبير، بناءً على حجم المملكة، والقوانين المختلفة للممالك التي أصبحت كيانًا واحدًا عن طريق اعتلاء سلالة للعرش مصادفة أو غزو غير متوقَّع، وقوة تقاليد الخدمة والولاء.
يبدو أن الخطوط العريضة لماهية الأرستقراطية، قديمًا أو في العصر الحالي، ولسلوكيات الأرستقراطيين؛ تصبح غير واضحة المعالم عند فحصها بناءً على مجرد مجموعة متنوعة من الأمثلة والاستثناءات. والنبلاء أنفسهم لم يكونوا ينخدعون؛ فقد كانوا يتعرَّفون على أبناء جنسهم عندما يرونهم، أيًّا كانت الاختلافات. وكذا الحال بالنسبة إلى باقي أفراد المجتمع، الذين تأثَّروا — نظرًا لتقبُّل سيطرتهم في جميع نواحي الحياة — تأثُّرًا عميقًا بقِيَمهم ونماذجهم. وإلى حدٍّ ما لا يزال هذا الوضع قائمًا.