الأثر والموروث
طالَب الأرستقراطيون دومًا باحترام الآخرين لهم بصفتهم نخبة تتمتع بالسلطة، وأيضًا بوصفهم شراذمَ متبقية لديها ذكرى باهتة عما تمتَّعت به من سلطة سابقة. لقد توقَّعوا أن يعترف الآخرون بسموِّ مكانتهم صراحةً. في العصور القديمة في الغرب — وحتى في العصور الأحدث في الدول المطبَّق فيها نظام الرقيق في أوروبا الشرقية — لم يكن النبلاء يتردَّدون في معاملة الآخرين بالعنف إذا لم يُظهروا احترامًا لهم. وفي وقت ليس ببعيد في عام ١٧٢٥م، أمر نبيلُ بلدةِ روهان بضرب فولتير في أحد شوارع باريس بسبب تعليق وقح. وعقب مرور خمسين عامًا، علَّق رجل إنجليزي يرتحل في أيرلندا قائلًا إن مالك الأرض الأيرلندي لا يرضى إلا «بخضوع مطلَق، والاستهانة أو أي شيء يقترب من درجة الوقاحة قد يعاقِب عليه إما بعصاه أو سوطه وهو مطمئن للغاية؛ فقد يتعرَّض الفقير إلى كسر عظامه إذا حاول رفع يده للدفاع عن نفسه.» في هذا الوقت كان مثل هذا السلوك يصدم مشاعر الإنجليز، لكن ظلَّ الأرستقراطيون الإنجليز يتوقَّعون احترامًا يعبِّر عن مكانتهم ممن هم أسفل منهم في المكانة الاجتماعية. وبعد عقد من الزمان قلب الثوارُ الفرنسيون هذا الاحترامَ رأسًا على عقب، وجعلوا «الأرستقراطية» مصطلحًا للإساءة السياسية كما جعلوا من النبلاء أشخاصًا منبوذين لفترة قصيرة. وفي كل مكان آخر خارج فرنسا كان النبلاء يُروَّعون ويُرهَبون. لم تستمر هذه النوبة طويلًا، لكن ذكراها ظلَّت تلاحقهم طوال القرن التالي. ولم يحدث قَطُّ فيما بعد أن أصبح الاحترام لهم أمرًا مسلَّمًا به تمامًا؛ فقد وُجِد دومًا أناس على استعداد لإدانة الأرستقراطية دون خوف، وإذا أُتيحت لهم الفرصة يجدِّدون الهجمات التي ظهرت لأول مرة في فرنسا وقت الثورة. ومع هذا، ظل الاحترام اللاإرادي باقيًا. فيصعب أن يكون الوضع بخلاف ذلك في قارة سيطر فيها النبلاء وأساليب حياتهم وقِيَمهم على الحكومة والمجتمع لفترة طويلة للغاية.
(١) التابعون
كان الأرستقراطيون في ذروة مجدهم — بوصفهم مستهلكين أغنياء بارزين — مصدرًا أساسيًّا دائمًا للحصول على وظائف. فلم يكن هناك بيت واحد للنبلاء — رغم تواضعه — يمكن إدارته دون خدم، وكان حجم الحاشية جزءًا مهمًّا من مظاهر الأرستقراطية. وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كان أصحاب النفوذ يسافرون ومعهم مرافقون للموكب وخدمٌ يصل عددهم إلى مئات الأفراد، ويرتدون جميعهم زيًّا رسميًّا. وإذا كان مثل هذا النوع من التفاخر قد أصبح في القرون التالية أمرًا فجًّا على ما يبدو، بل ويراه الملوك المتشكِّكون أمرًا يهدِّدهم، فإن الأرستقراطيين لم يكن يتسنَّى لهم الاستمتاع الكامل بممارسة ميولهم وهواياتهم دون خدم شخصيِّين ووصيفات وكبار خدم وطهاة وعمَّال حدائق ومسئولين عن التشجير وحرَّاس للطرائد وسائسين ومسئولين عن الصيد وسائقين للعربات وحمَّالين وعمَّال مَهَرَة. وربما عيَّنت المنازلُ الأضخم أمناءَ مكتبات (مثل توماس هوبز في منزل تشاتسوورث) أو عازفين (مثل جوزيف هايدن، مع أوركسترا لعزف أعماله، في بلدة أيزنشتات وقصر إسترهازي في القرن الثامن عشر). ولم يكن هناك إلا عدد قليل من الملابس المزخرفة التي يفضِّلها الأرستقراطيون بإمكانهم ارتداؤها دون مساعدة من الملبِّسين، وبالنسبة إلى بعض السادة المدلَّلين كان من الممكن الاستعانة بكل الخدمات، حتى وإن كانت تتطلَّب جهدًا بسيطًا للغاية؛ فقد كان والد ألكسندر هيرزن، مؤسِّس الاشتراكية الروسية، يطالِب حتى بأن تكون الصحف اليومية التي يقرؤها دافئةً من أجل حماية أصابعه الرقيقة. وفي أماكن تركُّز النبلاء، مثلما الحال في البلاط الملكي، كانت الفئة الكبرى من السكان هي فئة الخدم؛ فقد عاش أكثر من ٤٤ ألف شخص في فيرساي، وهي بلدة لم يكن بها مكان للعمل سوى البلاط، حتى عشية الثورة الفرنسية.
لم يتوقَّف نطاق سيطرة مئات من عائلات البلاط التي يخدمونها عند هذا الحد، فشعر معظمها بضرورة الحصول على منشأة في العاصمة القريبة. وفي هذه المنشآت دعمت مطالبهم كمًّا كبيرًا من صناعات سُبل الرفاهية التي تمدُّهم باحتياجاتهم العصرية، بدايةً من المواد الغذائية اليومية وحتى الأثاث والملابس والتحف الزخرفية والحُلي؛ فقد وفَّرت خمسُ أسر ممثِّلة لعائلات رجال البلاط خضعت مؤخرًا للدراسة، عملًا لنحو ١٨٠٠ صانع وحِرَفي في أنحاء باريس في أواخر القرن الثامن عشر. وامتدَّت آثار صيحات البلاط حتى إلى أبعد من هذا. فعند إعلان الحِداد على متوفًى من أحد أعضاء الأسرة الحاكمة أو أحد الملوك الأجانب، كان البلاط يتَّشح بالسواد، وكانت صناعة الحرير الأساسية في ليون تتعرَّض لكساد مؤقَّت. ومِن ثَم، بطبيعة الحال، كان اندلاع ثورة مناهضة للأرستقراطيين يعني كارثة اقتصادية للصنَّاع والحِرَفيين في أكبر مدينتين في فرنسا؛ وهما باريس ومارسيليا. وكان أحد دوافع نابليون العديدة لإقامة بلاط متألِّق من الأعيان ذوي الألقاب هو إعادة ازدهار صناعات الترف والكماليات. ومن ناحية أخرى، يأتي مصدر التقليد الفرنسي الراقي في تناول الطعام الفاخر من مطاعم أَسَّسها طهاة عاطلون عن العمل عملوا لدى عائلات كبرى انحطَّت مكانتها بسبب اضطهاد الثورة.
على نطاق أصغر، في عواصم الأقاليم، أو في أماكن إقامة الأمراء الألمان الأقل مكانةً، كان نظام الحياة يتبع احتياجات وأذواق النبلاء المحليين؛ فقد كان النبلاء دومًا من أهم المتقاضين، وطالما حُدِّدت الإيقاعات الاقتصادية للمراكز القضائية عن طريق وصول مجموعة من الأعيان سنويًّا من أجل متابعة قضايا ترجع إلى أجيال سابقة. ربما لا يجلبون معهم حاشيات مثل تلك التي توجد لدى ذوي النفوذ الحضريين أو ما يتَّسمون به من نهم للترف، لكن لم يشكَّ أحد قط فيما يصاحبهم من ثراء ورفاهية. وفي العصور السابقة على الثورة الصناعية أيضًا كان النبلاءُ هم الرعاة الأساسيين لتعمير أو تشييد واسع النطاق أو تحسين لا نهائي لمنازلهم الريفية أو الحدائق أو المتنزهات المحيطة بها، فضلًا عن منح مرافق مثل أماكن لإقامة أسواق أو بيوت للفقراء. كذلك شُيِّدت العديد من أكثر المباني الكنسية روعةً بفضل رعاية الأرستقراطيين، إما مباشرةً أو عن طريق تحقيق طموحات الأساقفة أو رؤساء الأديرة أو الكهَّان النبلاء.
في الواقع، لم تحظَ بالرفاهية الموجودة في البلاط والعواصم والكنائس الغالبيةُ العظمى من النبلاء؛ مما زاد من كرههم وشكِّهم في النخبة الحاكمة الغنية في المراكز الحضرية. ومعظمهم استطاع تدبُّر أمره بمجموعة قليلة من الخدم أو بخادم واحد متعدِّد المهام، ولم تكن لديهم بدائل إلا أن يتركوا منازلهم الريفية التي تُشبه القلاع تنهار من حولهم. وقد كانت حياتهم — كما وصفها معلِّقٌ في أوائل القرن الثامن عشر (مركيز فرنسي يعيش في بلاط برلين) — «حياةَ صيد وضرب للفلاحين، وإنجاب أطفال من بنات المزارعين، واللجوء إلى القضاء ضد كهنة القرية بسبب بضعة حقوق شرفية، واحتساء الخمر مع المشرفين على ضيعاتهم في أيام الآحاد.» ومع هذا ظلُّوا يتوقَّعون احترام جيرانهم لهم، وإذا حدث وحصلوا على مال غير متوقَّع، كانت غريزتهم تدفعهم إلى إنفاقه على أنواع الأشياء العديمة القيمة نفسها التي ينفق عليها نظراؤهم الأكثر ثراءً أموالَهم.
(٢) آثار اقتصادية
في هذه البلدات، التي تدعمها في الأساس الإقامة المستمرة أو العرضية لأحد النبلاء، والتي يعيش فيها الناس الأقل رتبةً في الأساس عن طريق إنفاق العوائد، يتسم هؤلاء الناس بوجه عام بالكسل والمجون والفقر … إن كسل الجزء الأكبر من الناس الذين يعيشون على إنفاق العوائد من المحتمَل أنه يفسد صناعة من يُفترض بهم الحياة على توظيف رأس المال، ويجعل استثمار رأس المال في هذا المكان أقل نفعًا من الأماكن الأخرى.
كان للقدوة أيضًا تأثير؛ فعندما يطرح أغنى أعضاء المجتمع وأكثرهم سلطةً ولفتًا للأنظار فكرةَ احتقار التجارة والصناعة على اعتبار أنهما تقلِّلان من شأنهم، فمن غير المحتمل أن يُقْدم أيُّ شخص يحلم بالترقي اجتماعيًّا على العمل بهما بأي قدر من الحماس، أو يستمر في العمل بهما لحظة واحدة أكثر مما تقتضي الحاجة. وقد دعم معظم النبلاء ثروتهم وسلطتهم عن طريق الاستنزاف المستمر لموارد عموم الشعب الطموحين، وذلك برفع أكثر العائلات نشاطًا ومواردَ ماليةً من الطبقات التجارية المتوسطة أو الطبقة البرجوازية إلى مراتب النبلاء، وقلما كان يحدث ذلك بترحيب ظاهر؛ فقد كان من الحكمة أن يستثمر الأغنياء بعضًا من مواردهم المالية في أكثر أنواع الاستثمار أمانًا في اقتصادِ ما قبل الثورة الصناعية: الأرض. لكن لم يكن الأمر دومًا بمثل هذه البساطة؛ فكان شراء الأرض يعني الإعلان عن الطموح الاجتماعي، والانضمام لملَّاك الأراضي المسيطرين على جميع نواحي الحياة. وفي فرنسا، بالإضافة إلى هذا، حتى عام ١٧٨٩م كانت كميات كبيرة من الأموال تُستثمر أيضًا في شراء المناصب التي تَمنح مكانةَ النبلاء. فعلى الأقل كان يمكن جعل الأرض منتجةً اقتصاديًّا، حتى إن لم يكن هذا بمثل تأثير التجارة والصناعة، لكن المناصب لم تكن مثمرة على الإطلاق. كذلك كان كثير منها يُشترى بمالٍ مقتَرض كان من الممكن استثماره بخلاف هذا بقدر أكبر من المخاطرة. صحيح أن هذه الهيمنة الأرستقراطية لم تقف حجر عثرة في طريق الازدهار التجاري والصناعي الذي جعل بريطانيا العظمى أول نظام اقتصادي حديث. وفي الحقيقة بذل البرلمان المهيمن عليه الأرستقراطيون جهدًا كبيرًا من أجل إقرارِ وتكوينِ بنية تحتية تجارية سهَّلت مثل هذا التقدم. لكن ربما يكون الذي حافظ على وجود رأس مال في أيدي العامة وأعمالهم التجارية أكثر من أي مكان آخر هو صعوبة الحصول على الأراضي في سوق شَلَّت حركتَها الإيجاراتُ المرتفعة ونظامٌ منح الإرث للابن الأكبر والوقف. مع هذا، عندما أُتيح لهم ذلك — بعد أن أصبحت بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر أكثر الدول إنتاجًا للسلع ذات الأسعار المناسبة — أظهر رجال الصناعة البريطانيون الناجحون حرصَهم أكثر من أي وقت مضى على شراء ضَيْعات، وبناء قصور أو توسيعها، وممارسة نمط الحياة المرفَّه، وإرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية ليتعلَّموا كيف يصبحون رجالًا نبلاء ويتخلَّصون من أصولهم التجارية. هيمن ازدراء التجارة والعلم والتكنولوجيا على التعليم في المدارس الحكومية حتى وقت متأخِّر من القرن العشرين، وكان ذلك بمنزلة عنصرٍ مهمٍّ — على حد زعم بعض المؤرخين — في تدهور الاقتصاد البريطاني.
نظرًا لوجود كَمٍّ كبير من الأراضي في أيدي الأرستقراطيين، كان من الصعب ألا تتأثَّر ممارسة الزراعة وتطويرها بتفضيلاتهم وأولوياتهم؛ فكان الهدف الثابت لمعظم ملَّاك الأراضي زيادة الإيجارات إلى أقصى حدٍّ في مقابل تقليل الإنفاق إلى أقل حدٍّ، ونادرًا ما كانوا على استعداد للتخلي عن عائد قريب نظير إعادة الاستثمار من أجل الحصول على مكاسب طويلة المدى. وحتى عندما ارتكزت في إنجلترا في القرن الثامن عشر الزيادات المذهلة في الإنتاجية الزراعية على تسييج الأراضي العامة، وعقود الإيجار طويلة الأمد، وتأمين الحيازة، وارتفاع معدَّل إعادة الاستثمار؛ لم يحظَ هذا النموذج بتقدير من معظم ملَّاك الأراضي في القارة الأوروبية، خاصةً الأيرلنديين؛ فقد كانوا يفضِّلون منح عقود إيجار قصيرة المدى لأعلى مزايد، وكانوا لا يكترثون بنهب الوسطاء الاستغلاليين الذين كانوا يؤجِّرون الأرض من الباطن ويُهلكون التربة ثم يتركون الأرض ويذهبون. وفي أوروبا الشرقية، كانت مزايا القوى العاملة من العبيد الأسرى الذين يعملون دون أجر أمرًا مسلمًا به، رغم عدم كفاءتهم الواضحة التي ظهرت في كلٍّ من زراعتهم لحقول أسيادهم وإهمالهم النسبي لممتلكاتهم الشخصية. ولم تلقَ مواعظ الحكومات بشأن المزايا الاقتصادية لتحرير العبيد آذانًا صاغية، وعندما بدأ الحكام في الحدِّ من الطلبات التي يمكن أن يتقدَّم بها السادة، واجهوا مقاومة شديدة وتملُّصًا. وفي المناطق الساحلية في أوروبا، واجهت هجماتُ المؤيدين للقضاء على العبودية الاستعمارية ردَّ الفعلِ العنيف نفسه. استثمر النبلاء على نطاق واسع في العبودية البريطانية والفرنسية، في حين استخدم تجار الرقيق الأكثر ثراءً والمزارعون الكاريبيون دومًا أرباحهم في شراء أجزاء من الأراضي في الضَيْعات الأوروبية والانضمام لنمط الحياة الأرستقراطية في أوروبا.
لم تكن الكفاءة أحد اهتمامات الأرستقراطيين قطُّ؛ فعندما حاول الثوار الفرنسيون إلغاء طبقة النبلاء في عام ١٧٩٠م، فعلوا هذا باسم فتح المهن لأصحاب المواهب، أو ما أصبح يُعرف بعد قرن ونصف باسم الحُكم على أساس الجدارة والاستحقاق. كان الأرستقراطيون يسارعون دومًا في ادِّعاء أن الجدارة متأصِّلة في طبيعتهم الفطرية. إلا أنهم لم يقصدوا بالجدارة نوعًا من السمات الموضوعية، بل نجاحهم في التصرُّف على النحو المفترَض من الأرستقراطيين. وكانت الجدارة بين العامة تعني الأمر نفسه. إلا أن الترقي تحت حكم الأرستقراطيين لم يعتمد على القدرة، بل على التأثير والمعارف والوصاية و«الحماية»، أو ما أُطلق عليه في بريطانيا العظمى «المصالح»؛ فقد كان الأرستقراطيون يتبعون أسلوب المحاباة، وهو تفضيل دعم المنتمين لطبقتهم والتعامل معهم تجاريًّا، والوضع المثالي بالطبع أن يكونوا من بين أقاربهم. ورغم أن إعطاء الأولوية للحفاظ على وحدة إرث العائلة قد تسبَّب في إفلاس الأبناء الأصغر سنًّا، فإن الشعور بالتضامن الأُسري عادةً ما كان يدفع رؤساء العائلات إلى تدبير وظيفة للأعضاء الصغار في الأسرة. وكان التِماس المحسوبية أحد الأنشطة الأرستقراطية المهمة على جميع المستويات، وكان أحدُ المعايير الدالة على مكانة النبيل قدرتَه على العثور على وظائف لأقاربه وتابعيه في الحكومة أو الكنيسة أو الجيش. قال المدافعون عن بيع المناصب إن الرشوة كانت وسيلةً أكثر عدالةً وفعاليةً لتوفير الموظفين الحكوميين من نظام الموالاة. لكن طوال فترة حكم الأرستقراطيين، لم يشعر القائمون على السلطة قَطُّ برغبة في العثور على أساليب موضوعية لتحديد القدرة والكفاءة؛ ففي النهاية دفعتهم جميعُ غرائزهم إلى الاعتقاد بأن هذه الصفات تكون على الأرجح وراثيةً.
(٣) الحرب
لقد لجأ إلى الحرب، كملاذ أخير، بهدف الدفاع عن شرف عائلته … لقد كانت مرارة هاتين الشخصيتين المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الحرب التي اندلعت حينذاك … ولا يمكن وضع حد لها إلا بموت أحدهما … أما بالنسبة إلى الدين … الذي يتظاهر به كلاهما، فإنه ذريعة جيدة لجعل حزبيهما يتبعانهما، لكن مصلحته لا تهم أيًّا منهما.
إن الجنود المرتزقة الذين انحدروا من أُسر نبيلة أصابها الانهيار وتنقَّلوا بين الصراعات الكبرى التي نشبت على مدار القرن التالي، لم يكونوا يكترثون بالمثل بالأسباب التي كانوا يتقاتلون من أجلها ظاهريًّا؛ فالمهم بالنسبة إليهم أن تتاح لهم فرصة التصرف على النحو المفترض من النبلاء، ولم تكن تَعنيهم على الإطلاق عمليات النهب التي تحدث في الحروب للرعايا. ونظرًا للقدر الكبير من التعليم ووقت الفراغ المخصَّص لتعلُّم الفروسية والصيد والمبارزة، كان من الطبيعي أن يحلم النبلاء الشباب بأي فرصة تسمح لهم بتمييز أنفسهم في ساحات المعارك الحقيقية. وكان من بين الأهداف المتعارَف عليها وراء ما يُعرف باسم الجولة الملكية في ألمانيا — وهي تقليد يشبه الجولة الكبرى التي ذُكرت آنفًا — وكان يُستكمل من خلالها كثيرٌ من النبلاء الشباب تعليمَهم في القرن السابع عشر، مشاهدةُ عمل عسكري والمشاركة فيه، إن أمكن.
صحيح أن هذا هو القرن نفسه الذي حقَّق فيه الملوك أخيرًا احتكارًا للعنف المباح؛ فقد أصبحت في هذا الوقت الجيوش الخاصة أمرًا من الماضي، إلا أن إنشاء الجيوش الملكية الدائمة التي تضم مجموعات كبيرة من الضباط قدَّم للنبلاء منفذًا جديدًا وآخذًا في الاتساع لإظهار طاقاتهم العسكرية، وأصبحوا يتفهَّمون بسهولة رجوع كثير من النزاعات التي يخوضها الملوك إلى أسباب تتعلَّق بالسلالة الحاكمة. بالنسبة إلى الضباط، كانت حالة الحرب تعني العمل بدوام كامل بدلًا من الحصول على نصف أجر؛ فقد كانت تعني النشاط والإثارة بدلًا من ملل الحياة في الحاميات العسكرية. كذلك كانت تجلب معها الفرصة الوحيدة للترقي السريع، والفرصة لتجميع ثروات غير متوقَّعة. وبالنسبة إلى أصحاب النفوذ الذين عادةً ما كانوا يحتكرون القيادة العليا، كانت الحرب فرصة لتخليد أنفسهم وإضافة مجد لسجلات عائلاتهم التاريخية.
هكذا شكَّلت طبقة النبلاء مصدرَ ضغط قاسيًا ومستمرًّا يدفع الدول نحو حل خلافاتها على أرض المعركة. ودائمًا كان من النادر نسبيًّا وجود دعاة سلام من النبلاء، وأصبح الملوك أو الوزراء الذين يسعون إلى حل الخلافات سلميًّا موضع ازدراء. فعندما قاوم الثوار الفرنسيون أوروبا بأكملها، طالب النبلاء في جميع الأماكن الأخرى بتلقين مُحدَثي النعمة هؤلاء درسًا. ورغم أن سجل الجيوش التي قادها نبلاء ضد جنرالات فرنسيين اختيروا على أساس الجدارة كان مؤسفًا على مدار الجيل التالي، فإن انتصاراتهم المتعاقِبة على نابليون بين عامَي ١٨١٢ و١٨١٥م بدت تبرئةً متأخِّرة للقيادة الأرستقراطية. وعلى مدار القرن التالي، اخترق غير النبلاء فيلق الضباط في الدول الأوروبية الرئيسية بأعداد متزايدة، لكن القيادات العليا ظلَّت بحزم في أيدي الأرستقراطيين، تمامًا كما بقي وضع السياسة في معظم الحكومات. ثمة حجَّة مقنعة تفيد بأن أحد الحوافز الرئيسية التي دفعت بالسلطات إلى الحرب في عام ١٩١٤م هو الاعتقاد بأن هذه الحرب كانت أفضل طريقة للحفاظ على هيمنة هذه النخب المهدَّدة في مواجهة زحف قوى الليبرالية والديمقراطية والحداثة بوجه عام. بالطبع من العبث أن نلوم الأرستقراطيين وحدهم على العدوانية المتأصلة في الدول والمجتمعات، لكن طوال معظم تاريخ الأرستقراطيين هيَّأتهم كلٌّ من مصالحهم وأيديولوجياتهم لاستخدام سلطتهم في دعم العنف المنظَّم.
(٤) الحرية
بالتأكيد لم يكن خطاب الحرية منفصلًا عن النبالة؛ فقد كانت الامتيازات ذاتها التي تميِّز النبلاء عن غيرهم تمثِّل تحرُّرهم من الأعباء العامة. هذه ليست الحرية الحديثة، التي تعني غياب الامتيازات ومشاركة الجميع بالتساوي في الحقوق. إلا أنه من الصعب أن ندرك كيف كان من الممكن للنمط الثاني أن يتشكَّل دون وجود النمط الأرستقراطي الأقدم واللغة المستخدَمة في التعبير عنه. فعندما بدأ المعنى الأحدث في الظهور، في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، جاء في شكل مطالبات بتوسيع نطاقِ ما تمتعت به الأقلية حتى ذلك الوقت من امتيازات ليشمل الغالبية العظمى. وبدأ البريطانيون، الذين أَعدموا ملكًا وطردوا آخر بسبب تهديد حرياتهم، يدركون بعد قرن من الزمن أن المستفيد الأساسي كان الأقلية الأرستقراطية الحاكمة. وحَرَصَ الأمريكان، عند إعلانهم عدم ولائهم للتاج البريطاني باسم الحرية، في بناء جمهوريتهم الجديدة على منع تأسيس أي شكل من أشكال طبقة النبلاء، وفي خلال عقد من الزمن جعل الثوار الفرنسيون الحرية والأرستقراطية تبدوان مثل قطبين متناقضين.
بدأت الثورة الفرنسية في صورة صراع من أجل التخلص من السيطرة الأرستقراطية على إحدى الهيئات الوطنية النيابية المعروفة باسم «مجلس طبقات الأمة»، إلا أن المؤسسات البرلمانية والنيابية كانت في حد ذاتها إلى حدٍّ كبير من صُنع الطبقات الأرستقراطية في العصور الوسطى؛ فقد نشأ البرلمان الإنجليزي في خضم الصراع المتواصل للبارونات الذين أهانوا الملك جون حتى يكبح جماح مزاعم ابنه. وقد أدرك النبلاء في جميع أنحاء القارة الأوروبية أن الهيئات النيابية — لا سيما إذا كانت تمثِّل أناسًا من طبقتهم — ربما تكون أكثر فعاليةً في تقييد الملوك من فعاليتها في الثورات المتقطعة، وأدرك الحكَّام من جانبهم أن ضمان الموافقة على مطالب هؤلاء أفضل من مواجهة الثورات. وفي الفترة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر ظهرت «المجالس النيابية» أو البرلمانات في معظم النظم السياسية في غرب ووسط أوروبا. وتفاوتت كثيرًا في تكوينها، لكن معظمها تكوَّن من قاعة منفصلة أو «مجلس» للنبلاء، بجانب أعضاء الكنيسة وأهالي المدن — أو ما يُعرف باسم «طبقة العوام» — وأحيانًا الفلاحين، كما كان الحال في السويد. وكانت سيطرة النبلاء على هذه المؤسسات شبه حتمية. وفي البرلمان البولندي، لم يكن ثمة أي فرد لا ينتمي إلى طبقة النبلاء في أيٍّ من المجلسين؛ فقد كانت مجالس رجال الدين تشتمل عادةً على العديد من الأساقفة ورؤساء الأديرة النبلاء. وحتى في إنجلترا، حيث حقَّق مجلس العموم شهرة مبكرة — باعتباره يمثل البلديات وليس عموم الناس — كانت كل بلدية يمثِّلها «فارسان»، وكانت العضوية والتصويت يتحدَّدان إلى حدٍّ كبير — حتى منتصف القرن التاسع عشر — بتأثير النبلاء في مجلس اللوردات.
إن البرلمانات والمجالس، التي أُنشئت في الأساس من أجل تقوية الحكومة بالموافقة الظاهرية على نظام ضريبي جديد، سرعان ما حاولت إعاقة هذه الموافقة أو الحد منها أو جعلها مشروطة؛ فقد أصبحت معاقل «للسلطة الدستورية الأرستقراطية»، فتَعْرِض المظالم وتقاوِم السلطة الملكية باسم قوانين وامتيازات لم يَستفِدْ منها في الغالب إلا الطبقاتُ الحاكمة. بدأ الملوك الذين تعرَّضوا لهجوم شديد في القرن السادس عشر بالانقلاب عليها. قلَّت مرَّات انعقادها أكثر فأكثر. وطالما كانت تنجو المجالس المحلية من هذا، لكن في أوائل القرن الثامن عشر كانت الهيئات النيابية الوحيدة التي تشمل المملكة بأكملها، والتي تجتمع بانتظام وتتمتَّع بسلطة حقيقية — وإن تغيَّرت بوضوح بمرور الوقت — موجودة في بريطانيا العظمى وبولندا والسويد ومنطقة فورتمبيرج. أدار النبلاء جميع هذه الهيئات — لخدمة مصالحهم إلى حدٍّ كبير — رغم أنهم غلَّفوا سلطتهم بسوابق وإجراءات ستقدِّم — خاصةً في حالة بريطانيا — أمثلةً ونماذج لكثير من الهيئات التشريعية القادمة في جميع أنحاء العالم. حتى في فرنسا، التي لم يجتمع فيها قَطُّ أي مجلس لطبقات الأمة في الفترة بين عامَي ١٦١٤ و١٧٨٩م، ظلَّت تُجرى عمليات مراقبة دستورية معتادة على السلطة الملكية على يد المجالس النيابية، وهي محاكم استئناف لها الحق في الاعتراض على القوانين الجديدة. واقتصر منصب القضاة في هذه المحاكم على النبلاء، ولم يكونوا يمثِّلون إلا قوة المال التي اشترت لهم هذه المناصب بالرُّشَا. إلا أنه في فرنسا — كما في جميع الأماكن الأخرى — قطعت السلطة الملكية ارتباط النبلاء بالتمثيل النيابي عن طريق ضمان امتيازاتهم الأخرى. وبحلول عام ١٧٨٩م كان النبلاء حريصين على التمثيل النيابي مرة أخرى عندما أعاد الملك بعد إضعافه إحياء مجلس طبقات الأمة. لكن عندما بدا في الوقت نفسه أنهم عازمون على الاحتفاظ بامتيازاتهم الأخرى، أصبحوا عرضةً للهجمات التي أدَّت في خلال شهور إلى تدمير طبقة النبلاء ومعها نظام مجالس الطبقات الأقدم عمرًا. قوبلت جميعُ محاولات منح الجمعية الوطنية — التي زعمت السيادة في الوقت الحالي — سماتٍ تعيد إلى الأذهان مجالس طبقات الأمة السابقة — أو البرلمانات في الأماكن الأخرى — بالتصويت عليها بالرفض. هذا وقد صُمِّمت الدساتير المكتوبة، مثل المستخدَمة في إنجلترا أو في أمريكا، كترياق مضاد للأرستقراطية. وعندما أعلن مجلس اللوردات، في بريطانيا العظمى، في أوائل القرن العشرين رسميًّا أنه أصبح «الرقيب على الدستور» في الوقت الذي يدافع فيه عن مصالح ملَّاك الأراضي، سَخِر ديفيد لويد جورج من هذا قائلًا إنه لم يكن أكثر من مجرد خادم لرئيس الوزراء الحاكم. وبعد تسع سنوات، وبعدما أصبح ديفيد لويد جورج نفسُه رئيسًا للوزراء، سرَّه أن ساهم في حرمان اللوردات من القدر القليل المتبقي من السلطة السياسية الفعلية.
(٥) الدين
طالما كان الأرستقراطيون أحد سبل الدعم الرئيسية للكنائس المعترَف بها؛ فقد أدركوا أنه على الرغم من أن الجميع متساوُون أمام الرب، فإن القديس بولس أَمَرَ المسيحيين بطاعة الأعلى منهم مكانةً؛ فقد أقرَّت المنظومة الدينية وشرعت التسلسل الهرمي والتبعية، ووعدت بمكافآت في الحياة الآخرة على المظالم والآلام التي يتحمَّلها الإنسان بصبر في الحياة. أو كما وصف نابليون بصراحته المعهودة قائلًا إن دور الدين هو الحفاظ على النظام الاجتماعي. ظهر الطابع الديني في كافة جوانب حياة النبلاء والفرسان في العصور الوسطى؛ فقد وهب المحاربون مجهوداتهم للرب، وكان شنُّ الحملات الصليبية، من أجل استرداد الأرض المقدَّسة من أيدي العرب، أو فيما بعد من أجل طردهم من حدود العالم المسيحي، أسمى قضيةٍ يمكن أن يكرِّس الفرسان الحقيقيون أنفسهم لها. وكانت الغالبية العظمى الذين لا يخرجون في هذه الحملات يُظهرون تقواهم عن طريق إعطاء مِنح للأديرة أو أماكن الترتيل على أرواح الأموات داخل الكنائس، وإعطاء أو توريث قطعة من الأرض تظل إلى الأبد وقفًا للكنيسة، وعن طريق الالتزام الدقيق والتفاخر بالطقوس الدينية. وأكثر من ذلك، أنهم مَلَئُوا الكنائس بنُصب عائلاتهم التذكارية، وشغلوا أعلى المناصب الكنسية دخلًا بأفراد عائلاتهم أو أتباعهم. كانت الثروة الهائلة التي جمعتها الكنيسة في العصور الوسطى في أوائل القرن السادس عشر في الأغلب نتيجة لارتباطها الوثيق على جميع الأصعدة بالسلطة الأرستقراطية.
هذا ولم يُضعف فصلُ الكنيسة في عصر الإصلاح الديني هذه العلاقة؛ فقد كان النبلاء أقصى المستفيدين الرئيسيين من السلب الواسع النطاق للثروات الكنسية وتدمير الأديرة اللذين حدثا في الممالك التي تحوَّلت إلى البروتستانتية؛ فقد بدا الأمر كما لو أنهم يستردُّون الثروة المملوكة لكنيسة لم يعودوا يعترفون بها. وبمجرد انتهائهم من فعل هذا، أصبحت لديهم مصلحة مادية قوية في ترسيخ النظام الديني الجديد. وفي النهاية، لم يتصدَّ إلا عدد قليل من النبلاء للعقيدة التي ظهرت في الممالك التي عاشوا فيها أيًّا كان شكلها، والغالبية العظمى التي أذعنت لم تتَّسِم بأي قدر من التسامح، حتى مع إخوانهم من النبلاء المنشقِّين، وسيطروا حتى على المزيد من نظم الرعاية الكنسية، وعندما عزَّز ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية عائد ضريبة العُشر التي دعمت رجال الدين في الأبرشية لمستويات رفعتهم من الفقر المدقع، أدخلوا إخوانهم وأتباعهم في حياة الثراء. وقد أحبُّوا الأساقفة؛ فهم يمثِّلون مِثلهم مصدرًا للسلطة التي لا جدال فيها؛ ففي بريطانيا العظمى جلس الأساقفة جوار النبلاء في مجلس اللوردات. وعندما أُجبروا في النهاية على إظهار التسامح للطوائف خارج مؤسستهم، ظلوا بعيدين كل البعد عن هذه العقائد الديمقراطية. ولا عجب إذن أنه أصبح يُقال إن كنيسة إنجلترا ما هي إلا حزب المحافظين وقت الصلاة.
في الوقت نفسه، في الدول التي ظلَّت كاثوليكية، ظلَّت السيطرة الأرستقراطية على الكنيسة بنفس صرامتها المعهودة؛ فقد كانت الإمارات الكنسية في ألمانيا، مثل كولونيا أو ماينتس أو ترير أو زالتسبورج، يديرها أساقفة ينتخبهم كهَّان كانت متطلبات أنسابهم من أجل الالتحاق بالكنيسة الأكثر تزمتًا في أوروبا. وفي كل مكان آخر كان الطلاب العسكريون النبلاء يستعمرون أفضل الكنائس الصغيرة والأديرة، في حين كان رؤساء ورئيسات الأديرة مرشحين للحصول على رعاية البلاط. كل هذا كان يعني أن النبلاء الكاثوليك كان يروق لهم ازدراء الجهد المضني الذي يبذله كهنة الأبرشية. هذا وقد أُنفِقت مبالغ طائلة من المال على مباني الأديرة؛ مما يعكس الذوق الأرستقراطي لسكانها. كذلك ظلَّ تعليم الأرستقراطيين إلى حدٍّ كبير في أيدي رجال الدين؛ ففي الفترة بين أربعينيات القرن السادس عشر وسبعينيات القرن الثامن عشر، احتكر الجزويت على نحوٍ شبه تامٍّ تعليمَ النخبة في العالم الكاثوليكي. وعند استرجاع أحداث الماضي، أصبح حل هذه الجماعة في عام ١٧٧٣م يبدو كما لو كان الخطوة الأولى نحو شنِّ الهجوم على جميع القيم المعترَف بها التي اتسمت بها المرحلة الأكثر تطرفًا في الثورة الفرنسية. وبالطبع، بالنسبة إلى ثوار عام ١٧٨٩م كانت «الطبقات الغنية» من رجال الدين والنبلاء أهدافًا مماثلة لتوجيه الهجوم؛ فقد أُطيح بهم في وقت واحد، وخرجوا من الاضطراب الثوري وهم أكثر قناعةً من أي وقت مضى بمصالحهم المشتركة. وقد فضَّل الأرستقراطيون الكاثوليكُ في القرن التاسع عشر الحصولَ على تعليم خاص على يد رجال الدين بدلًا مما كانوا يعتبرونه مدارس حكومية ملحدة.
نظر الأرستقراطيون الكاثوليك — أكثر حتى من نظرائهم البروتستانت — إلى التسامح مع العقائد المنافِسة على أنه تهديد لسيطرتهم. فعمل اتحاد تابع للشلاختا على تسريع التقسيم الأول لبولندا على يد قوًى أجنبية في عام ١٧٧٢م، في محاولة لمنع منح الأراضي للمسيحيين الأرثوذكس على طول الحدود الروسية. وكان ردُّ فعل عائلة هابسبورج على تحدي طبقة النبلاء البوهيمية البروتستانتية لها، الذي بدأ حرب الأعوام الثلاثين في القرن الماضي، هو الاستعاضةَ عنهم بطبقة حاكمة كاثوليكية جديدة. والنظير البروتستانتي الوحيد لهذا هو مصادرة الإنجليز الممنهجة لممتلكات الأعيان الكاثوليك في أيرلندا طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر لصالح «السطوة البروتستانتية»، التي تشكَّلت على غرار المؤسسة الإنجيلية على الشاطئ الآخر في إنجلترا. ومع هذا لم تظهر محاولات جادة لتحويل الكاثوليك الذين أصبحوا دون قائد وقتذاك إلى المذهب الإنجيلي، وعندما سُحب الدعم القادم من لندن تدريجيًّا على مدار القرن التاسع عشر، وجدت السطوة نفسها منعزلة حتميًّا بين سكان يكنُّون لها العداء.
(٦) نمط الحياة والذوق
لقد عملت أساليب الحياة والعادات الأرستقراطية على «إضفاء طابعها» على باقي المجتمع، وحتى القرن التاسع عشر ظلَّت هي التي تحدِّد القواعد والمعايير الثقافية السائدة في العالم الأوروبي. وكما ظهر في ملاحم العصور القديمة، كان أبطال الروايات الرومانسية في العصور الوسطى دومًا ينتمون لعائلات مرموقة، مليئة بالأسلاف الشجعان. وعلى الرغم من الازدراء والسخرية اللذين انصبَّا على شخصية الفارس الباحث عن أعمال بطولية، المصوَّر في رواية «دون كيشوت» لثيربانتس في أوائل القرن السابع عشر؛ ظل النبلاء يقرءون بشغف حكايات الفرسان في القرن الثامن عشر، وبحماس إيجابي متجدِّد في القرن التاسع عشر. وفي المسرح، وكذلك في الأوبرا التي تمثِّل نوع الترفيه السامي المصمَّم لإدخال البهجة على رجال البلاط، كانت جميع الشخصيات الرئيسية تقريبًا من النبلاء. ولم يكن ممكنًا جعْلهم جميعًا أبطالًا، لكن لم يبدأ النبلاء في الظهور إلا بالقرب من نهاية القرن الثامن عشر في أدوار الأشرار الذين تحبِط مخططاتِهم شجاعةُ ودهاءُ عامة الشعب. وحتى هذا الوقت أيضًا كان الرعاة الرئيسيون للموسيقى الجادة من النبلاء، سواء من رجال البلاط أو الممارسين الهواة أو رجال الدين أصحاب المكانة العالية. لقد ذُهل هايدن — أشهر أجير موسيقي — عندما وجد في زيارته الأولى للندن في عام ١٧٩٠م أن جمهور موسيقاه فيها قد فاقوا بكثير طبقة النبلاء والأعيان. أما في فيينا، فلم تنجح محاولات موتسارت في البقاء في السوق المفتوحة دون رعاية الأرستقراطيين إلا لفترات متقطعة.
سيطرت أذواق الأرستقراطيين بالمثل على الفنون المرئية. وإذا كانت الرسومات الدينية تُصنَّف عادةً بأنها الأعلى في الأهمية، فإن أفضل الأعمال كانت دومًا تأتي بتفويض من الكنائس الصغيرة أو الأديرة الغنية والمرموقة المليئة بالنبلاء، في حين أن الرعاة المدنيين (على الأقل قبل تواضع الكبرياء البشري نتيجة لحركة الإصلاح الديني) كانوا يطالبون دومًا بالظهور في المشاهد المرسومة. وجاءت في المكانة التالية «الرسومات التاريخية»، التي كانت مخصَّصة في الأغلب لأحداث تشتمل على أبطال نبلاء من العصور القديمة أو الأساطير يتوحَّد معهم الأرستقراطيون بغريزتهم. ثم ظهرت الصور الشخصية، وهي عنصر أساسي في الديكور الداخلي لدى النبلاء، وبدأت بالأقنعة القديمة للأسلاف الرومانيين القدماء من النبلاء حتى وصلت إلى «الصور الشخصية بهدف التفاخر» لأسلاف متراصِّين، وكانت هذه الصور تزيِّن القاعات وصالات عرض الأعمال الفنية بداية من القصور وحتى المنازل الريفية المتواضعة. ولا يمكن لصفة في أهمية سلالة النَّسَب أن تمرَّ دون تسجيلها بصريًّا، ووجد الفنانون أن فن رسم الأشخاص هو أفضل أشكال الرسم أجرًا وأكثرها أمانًا دون منازع. وعندما يكلِّف أحدٌ من غير النبلاء رسامًا برسم صورة شخصية له، فإن هذه تكون إشارة أكيدة على طموحه الاجتماعي. ومن الإشارات الأخرى أيضًا تزيين البيئة المحيطة بآثار وزخارف كلاسيكية؛ إذ يعكس هذا تقديرًا للُّغات والتاريخ الموجودَين في مؤسسات تعليم الصفوة. وقد عاد السائحون في الجولات الملكية من إيطاليا محمَّلين بأعداد هائلة من التماثيل النصفية وتماثيل لجذع الإنسان، وقطع أثرية منقوشة، بالإضافة إلى صور مرسومة على قماش القنب؛ مثل البطاقات البريدية العملاقة التي تصوِّر روما ونابولي والبندقية وغيرها من وجهات الحج الثقافي.
كان الأرستقراطيون أيضًا هم الحكَّام على الصيحات السريعة الزوال، في الزخرفة والأثاث والملابس وسُبل الترفيه، بل وحتى في أسلوب الكلام في بعض الأحيان. فحتى القرن الثامن عشر كان مَن أطلق عليهم تشسترفيلد «أصحاب أحدث صيحات الموضة» بلا شكٍّ رجالَ البلاط. فما كان يحدث في البلاط اليوم، كان العالم — أو على الأقل العالم المتاح لديه فائض للإنفاق — يفعله غدًا. وربما يكون أكثر مثال لافت للنظر هو ارتداء الشَّعر المستعار؛ فقد ظهر لأول مرة في بلاط لويس الرابع عشر، ثم انتشر فيما بعد سريعًا لباقي أنحاء أوروبا، ودام — مع تطور أنماط الأناقة رويدًا رويدًا — حتى تقلَّص حجم البلاط نفسه وأهميته في عصر الثورة الفرنسية. إلا أن إيقاع الابتكار في الموضة في هذا الوقت كان في تسارع؛ فقد بدأ النشاط التجاري المتزايد الذي اتسم به القرن الثامن عشر يوجِّه واضعي الصيحات الأرستقراطيين تمامًا كما كانوا هم أنفسهم يوجِّهون غيرهم، وقد بدأت صيحات البلاط تبدو رثَّة وغير جذَّابة مقارنةً بالأشياء الجديدة التي لا حصر لها، التي تُباع حاليًّا خارج نطاق هذا العالم الضيق. وقد ظلَّت جيوب اللوردات والسيدات المفترض أنها عامرة بالمال بمنزلة السوق المستهدَفة لموفِّري السلع الكمالية، لكن المورِّدين كانوا يشكِّلون أذواق المستهلكين على نحوٍ متزايدٍ. وفي السنوات الأولى من القرن التالي، تقلَّصت عروض الأزياء، على الأقل تلك الخاصة بالرجال، لتقتصر على الأزياء العسكرية الرسمية، ولم يعد إلا أسلوب تفصيل القماش ونوعيته هما ما يميزان من يرتدون السترات الطويلة ذات الذيل المشقوق من النبلاء عن أي شخص آخر رتبته متواضعة؛ فقد انتهت تقريبًا أيام الهيمنة الأرستقراطية الثقافية.
مع هذا ظلَّت الذكرى باقية؛ ففي النهاية كان إرثهم في كل مكان؛ في الموسيقى والفن والنُّصب التذكارية، وأهم من كل هذا، في المباني. فالمنازل العظيمة للنبلاء الأعلى مكانةً — في المدن أو القرى — تقف شاهدة على الثروة والسلطة والمكانة التي حظي بها من بُنيت لهم وورثتهم. استمرَّ بناء المنازل في الريف إلى وقت متأخِّر من القرن التاسع عشر، وقد جعلتهم جميع مزايا التكنولوجيا الحديثة دومًا أكبر حجمًا وأكثر بذخًا. إلا أن النماذج الكلاسيكية كانت تُهجَر لصالح التصميمات القوطية؛ مما يعيد ذكرى الأوقات التي كانت فيها الأرستقراطية قوة يصعب أن يتحداها أحد قبل عام ١٧٨٩م. وبعد مرور قرن أصبح الأرستقراطيون يتجنَّبون بناء البنايات السكنية الفخمة بسبب انهيار ثرواتهم المعتمدة على الأراضي. ومع هذا، بعد مرور نصف قرن، عقب اضطراب الحرب العالمية الأولى المشابِه، كانوا يتخلَّوْن عن هذه البنايات، أو يدمِّرونها أو يبيعونها إلى مؤسسات أصبحت في هذا الوقت هي المؤسسات الوحيدة التي تستطيع التكيُّف مع حجم هذه البنايات. وعقب الحرب العالمية الثانية فقط تحوَّل مصير المنازل الريفية، التي كانت ما تزال في أيدي أصحابها أو انتقلت ملكيَّتها إلى منظَّمات حماية عامة أو شبه عامة، مثل الجمعية الوطنية للمحافظة على التراث أو إدارات حكومية مخصَّصة للتراث، إلى متاحف تشهد على أسلوب حياة النخبة المندثر.