اضمحلال الأرستقراطية
إن الأسطورة السائدة بين الأرستقراطيين بأنهم يعبِّرون عن قيم أبدية وَرِثوها عن أجدادهم أذهلت دومًا وضلَّلت المؤرِّخين والمحلِّلين الآخرين الذين يعتمدون عليهم ويثقون بهم؛ فقد مالوا إلى افتراض أنه عندما تغيَّرت الأوقات أو الظروف، واجه الأرستقراطيون الضيِّقو الأفق أزماتٍ هدَّدت وجودهم. وقد مرَّت عدة سنوات حتى تم إدراك حقيقة أنه لم يثبت أن أيًّا من هذه الأزمات المزعومة كان مهلكًا على الإطلاق قبل القرن العشرين. لكن حاليًّا تجتمع الآراء على التأكيد على مدى مرونة الأرستقراطيين وقدرتهم على التكيف عند مواجهتهم لتغيُّر اقتصادي أو مؤسَّسي أو ثقافي. لقد خضعت طرق تعاملهم مع هذا كله للدراسة على نطاق واسع؛ ومن ثم فإن السؤال الأخير لا يتمحور حول السبب وراء تمكُّن جماعة ساقت تلك المزاعم غير العقلانية عن أحقيتها في النفوذ والسلطة من استمرار التمسك بتلك المزاعم عبر تقلُّبات لا حصر لها، وإنما يتمحور السؤال حول سبب خضوعها في النهاية لمجموعة من القوى جعلت الأرستقراطية مجرد ذكرى غير واضحة المعالم.
قدَّمت الماركسية سردًا مهمًّا لهذه العملية. فبناءً على افتراض أن أساس فهم التاريخ هو الصراع الطبقي، وأن الطبقات تتحدَّد من واقع علاقاتها بوسائل الإنتاج، يرى الماركسيون الأرستقراطيين على أنهم يمثِّلون طبقة إقطاعية؛ فقد هيمنوا على الاقتصاد الزراعي وبِنية المجتمع عن طريق انتزاع الفائض من الفلاحين الذين لا حول لهم ولا قوة. لكن مع نمو المدن والتجارة والتصنيع، ظهرت طبقة متوسطة — أو برجوازية — تعتمد في ثروتها على رأس المال واستغلال العمالة الأجيرة. وفي النهاية، تخطَّت القوة الاقتصادية للطبقة البرجوازية قوة الطبقة الإقطاعية، وحدثت المأساة التاريخية الكبرى في أوائل العصر الحديث مع التحول من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، وفي هذه الأثناء استولى البرجوازيون على السلطة السياسية التي تتوافق مع قوتهم الاقتصادية. وانتهى هذا بثورات — سواء الإنجليزية في القرن السابع عشر أو الفرنسية في القرن الثامن عشر — أُطيح فيها بالأرستقراطية بعنف.
رغم ما قد يكون عليه هذا التحليل من اتساق وجاذبية، ورغم دعمه بأبحاث ونقاشات خاضها باحثون منتمون للجناح اليساري خلال جزء كبير من القرن العشرين، فإنه فشل في إقناع معظم المؤرخين؛ فقد وجدوا أن تصوير الحرب الأهلية الإنجليزية على أنها ثورة برجوازية أمر بعيد الاحتمال، واستخدام الوصف نفسه مع الثورة الفرنسية هو إفراط في التبسيط. وقد أدهشهم مدى اشتراك الأرستقراطيين في أنواع معينة من النُّظم الرأسمالية، وعدم استخدام البرجوازيين لرأس مالهم في الإطاحة بالأرستقراطية، وإنما بالانضمام إليها. وأخيرًا، أشار هؤلاء المؤرخون إلى أن الأرستقراطية نجت حتى من محاولة الثورة الفرنسية تدميرها، ومرَّ قرن آخر قبل أن تبدأ السلطة الأرستقراطية في الاضمحلال حتى نهايتها. وكانت نهاية الأرستقراطية أكثر بطْئًا وأكثر فوضى وأقل قابليةً للتنبؤ مقارنةً بأي نظرية تاريخية كبرى. وبالتأكيد كان نوعًا من الاضمحلال أكثر من كونه إطاحةً.
(١) الجدل
لقد بثَّت هذه الثورة الرعب في ذاكرة الطبقات العليا لقرون. وفي ألمانيا كانت «حرب الفلاحين»، التي اجتاحت العديد من الإمارات في الفترة من عام ١٥٢٤م حتى عام ١٥٢٦م، لها التأثير ذاته، وكانت مبرِّراتها أكثر. كان عدد كبير من مظالم الثوار الأكثر إلحاحًا سببها انتزاع الأسياد للأموال عنوةً منهم، وحدث تدمير كبير لممتلكات النبلاء. لكن حتى هذا كان أخفَّ وطأةً مقارنةً بالمرحلة الأخيرة من ثورة بوجاتشيف الكبرى في روسيا عام ١٧٧٤. فبإلهام من النموذج الجريء لمقاومة القوزاق للسلطة المركزية، هجم العبيد على طول جزء كبير من نهر الفولجا على النبلاء، الذين كانت سلطاتهم وابتزازهم في زيادة مستمرة على مدى العقود الماضية. وبناءً على حث بوجاتشيف للثوار الفلاحين على ذبح سادتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، شنق هؤلاء الفلاحون النبلاءَ بالآلاف ونهبوا ممتلكاتهم، وهرب الكثير منهم ذعرًا. قال أحد الثوار لأحد النبلاء الشباب: «لقد انتهى زمانك.» لم يحدث هذا فعليًّا إلا بعد مرور قرن ونصف؛ حيث استعادت الجيوشُ النظاميةُ النظامَ على الفور مرة أخرى. وكانت الأعمال الانتقامية التي تلت هذا أكثر وحشيةً؛ كان هذا أيضًا نمطًا معتادًا؛ حيث كان يثأر السادة عند عودتهم للسُّلطة بسبب ما تعرَّضوا له من رعب. وقد تكرَّر هذا عندما ذبح الفلاحون في ترانسيلفانيا ٣ آلاف نبيل بعد مرور عشر سنوات. ولم ينكسر هذا النمط إلا في فرنسا في نهاية هذا العقد. فلم يُقتل إلا عدد قليل من النبلاء — رغم شعور الكثير منهم بالرعب — في الثورات الريفية التي اجتاحت الأقاليم الفرنسية في ربيع وصيف عام ١٧٨٩م. إلا أن الأدوات والرموز الدالة على سُلطة النبلاء، في شكل صكوك الملكية وأبراج الحمام وحتى دوَّارات الرياح على شكل شعار النبالة، كانت تُستهدف بانتظام، وهذه المرة لم يكن هناك جيش، وفي واقع الأمر لم تكن هناك حكومة لتوجيه أي جيش من أجل إخماد الثورات. في حقيقة الأمر، اختارت الجمعية الوطنية تهدئة الثوار عن طريق إقرار إلغاء ما أطلقوا عليه اسم النظام الإقطاعي؛ وهو الكيان الكامل لحقوق اللوردات ومستحقاتهم الموروثة من العصور الوسطى. ومِن ثَم بدأت سلسلة من الأحداث، انتهت — في أقل من سنة — بإصدار الجمعية إلغاءً لمكانة النبلاء نفسها. إلا أن الثوار الفلاحين الفرنسيين الذين انتفضوا في عام ١٧٨٩م لم يطالبوا بهذا. بل لم يطالِب به حتى المشاركون في الثورات السابقة عليها في أماكن أخرى. فحتى الثوار الذين ذبحوا النبلاء لم يفكِّروا ولو تفكيرًا خاطفًا في احتمال وجود عالَم دون أسياد. فما أسخطهم لم تكن السيادة في حد ذاتها، بل إساءة استخدامها؛ كالنبلاء الذين لم يتصرَّفوا كما يُفترض منهم بفرضهم إيجارات باهظة واغتصابهم الأموال عنوة، ومطالبتهم بأشياء جديدة وغير معتادة، وإسنادهم سلطتهم لوسطاء يحقِّقون أرباحًا طائلة، وإهمالهم واجبهم في العناية بمستأجريهم أو تابعيهم أو عبيدهم.
أعتقد أن جميع الرجال يتشاركون في طبيعة واحدة ومتماثلة، وأن فضيلة الرجولة هي سمة النُّبل الوحيدة … فقد حقَّق أجدادكم شهرة لأنفسهم وللدولة. وبالاعتماد على هذه الشهرة من أجل خلع مجد غير مستحق على أنفسهم … يُكنُّ النبلاء — المختلفون في شخصياتهم كثيرًا عن هؤلاء الأجداد — الاحتقارَ لنا نحن الذين نحاكي فضائلهم، ونتوقَّع الحصول على جميع المناصب التشريفية، لا لأنهم يستحقونها، بل لأنهم كما لو كانوا يتمتعون بامتياز خاص للحصول عليها. يرتكب هؤلاء الرجال المتغطرسون خطأً فادحًا؛ فقد ترك لهم أجدادُهم كلَّ ما يستطيعون من ثروات، وأَقْنِعة تعكس وجوههم، وذكراهم المجيدة. أما الفضيلة، فلم يورثوها لهم، ولا يستطيعون ذلك؛ إذ إنها الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أحد أبدًا إعطاءه لأحد أو الحصول عليه من أحد.
مع هذا، لم يظهر نقد حديث متماسِك قبل الثورة الأمريكية، لكن في هذا الوقت أَلْغَت الولايات المتحدة الحديثةُ التكوينِ رسميًّا أيَّ ألقاب للنبلاء بوصفها تتعارض مع المؤسسات الجمهورية، وعندما أنشأ الضباط في الجيش القاري جمعية سينسيناتي الوراثية، من أجل تخليد إنجازهم عبر الأجيال التالية، تعرَّضت لاستنكار شديد بوصفها بداية لطبقة أرستقراطية أمريكية. وطالما أعلن بنجامين فرانكلن، السفير الأمريكي في فرنسا، أن ادعاءات التميز الموروث هي «محض دعابة». وقد أجرى حسابات ليظهر أنه عقب بضعة أجيال فقط لا يبقى في عروق أي إنسان إلا قدرٌ ضئيلٌ من دم أجداده. وعندما وصلته أخبار عن الجدل الدائر حول جمعية سينسيناتي، قرَّر نقل الرسالة المناهضة للأرستقراطية إلى أوروبا. فأقنع كونت ميرابو — النبيل الثوري الذي يعيش على الكتابة — بعمل كُتيب ظاهريًّا عن جمعية سينسيناتي، لكنه في حقيقة الأمر يشن هجومًا على النبلاء بوجه عام. وفي عام ١٧٨٤م ظهر كتابه «تأملات في مجتمع سينسيناتوس». وفي استنكاره لطبقة النبلاء بوصفها لا تزيد على مجرد فكرة ملفَّقة، أدان كونت ميرابو سِجِلَّها التاريخي الدموي والمستبد، والكبرياء والغرور اللذين نبعت منهما جميع الأفعال التي يُزعم أنها نبيلة، والحماقة في تصديق أن التميز يمكن أن يُورث، والمثال السيئ من الكسل والعبث الذي قدَّموه للمجتمع بأسره. لقد كانت مكانة النبلاء إهانة متعمدة للمساواة الفطرية، فقد انحدر أعضاؤها من قُطَّاع للطرق، والآن هم مجرد «عبيد ذوي ألقاب للحكام الطغاة». وفي هذا الوقت — قبل خمس سنوات من اندلاع الثورة الفرنسية — قام أحد الذين قُدِّر لهم أن يكونوا ضمن قادتها الأوائل بالتنديد برتبته بأسلوب سيتبنَّاه زملاؤه من الثوار من بعده بوقت قصير بوصفه جزءًا محوريًّا في أيديولوجيتهم الكاملة؛ فقد أظهرت أمريكا إمكانية وجود مجتمع ناجح دون نبلاء. وكان الفرنسيون على وشك اكتشاف هل سيتحقَّق الأمر نفسه في أوروبا أم لا.
(٢) الثورة
لم يكن الهجوم معدًّا مسبقًا، ولم يتوقَّعه النبلاء، فمن المعروف أن النبلاء هم من فعلوا معظم الأشياء التي عجَّلت بالأزمة عن طريق مقاومتهم — في نزاع تقليدي يتعلَّق بالدستورية الأرستقراطية — لخطط ملكية تهدف إلى تجنُّب الإفلاس. كانت الإصلاحات الشرعية الوحيدة — على حدِّ زعمهم — تتطلَّب موافقة الهيئة الملكية التمثيلية الوحيدة: مجلس طبقات الأمة. لم يجتمع هذا المجلس منذ عام ١٦١٤م، لكن النماذج التي رُصدت في هذا الوقت بدت أنها تَعِد النبلاء بالدور السيادي الجماعي الموجود في حكومة الضفة الأخرى من القنال الإنجليزي؛ فقد كانوا ممثلين في مجلس واحد فقط من المجالس الثلاثة، لكنهم كانوا واثقين من السيطرة على رجال الدين عن طريق تحكُّمهم في منصب الأسقف، ويمكن أن يتخطَّى عددُ أصوات أي طبقتين أصواتَ الطبقة الثالثة. إلا أن إمكانية تطبيق «نُظم عام ١٦١٤م» أثارت الغضب بين أعضاء الطبقة الثالثة المتعلِّمة، التي رأت أن هذه النظم تدين ٩٥٪ من الأمة بالخضوع التشريعي الدائم لمن يُطلَق عليهم اسم «الرُّتب المتميزة». وأشار أشهر كُتيب عن الحملة الانتخابية في عام ١٧٨٩م، الذي يحمل عنوان «ما الطبقة الثالثة؟» لأمانول سييس، إلى أنه لا يمكن لأي طبقة متميزة أن تكون جزءًا من الأمة، وأن من يزعمون أنهم أحفاد الفرنكيين يجب أن يعودوا إلى الغابات الألمانية التي جاءوا منها. واستجابةً للصخب الذي حدث، ضاعف الملك عدد نواب الطبقة الثالثة، لكن لم يكن لهذا أيُّ معنًى دون حق التصويت لكل فرد. تعاطف عددٌ قليل من النبلاء مع الطبقة الثالثة، لكن معظم الذين انتُخبوا للتمثيل النيابي في طبقة النبلاء قاوموا أي محاولة لتوحيد الطبقات في جمعية وطنية واحدة حتى أَسَّست الطبقة الثالثة من جانبها فقط هذه الجمعية عقب أزمة دامت ستة أسابيع. حتى في هذا الوقت، تَطلَّب الوضع صدور أمر ملكي مباشر لجعل الغالبية العظمى من النبلاء يتقبَّلون انتهاء الطبقات المنفصلة. انتهت ثمانية أشهر من الجدل ومقاومة النبلاء لمطالب الطبقة الثالثة بإطلاق العنان لهجوم مرير من الشك والعداوة الاجتماعية. فأصبحت كلمات «أرستقراطي» و«أرستقراطية» مصطلحات عامة تشير إلى عدوٍّ من أي نوع للثورة. وفي البيان الرسمي الأصلي باسم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» (٢٦ أغسطس ١٧٨٩م) أعلن الثوار المساواة أمام القانون، والمساواة أمام مسئولي الضرائب، والمساواة في الحصول على الفرص. فجاء فيه: «يُولد الناس أحرارًا ومتساوين في الحقوق. ولا يجوز أن تُسند الامتيازات الاجتماعية إلا وفقًا لاعتبارات الصالح العام.» وهكذا انتهى عالم امتيازات الهيمنة الأرستقراطية.
وضعت شمولية هذا التحدي النبلاء الفرنسيين في حالة من الاضطراب. ورحَّب عدد قليل منهم بنهاية الطبقات المنفصلة وحاولوا التعاون في إعادة صياغة المؤسسات الوطنية. في حين فضَّل كثيرون اجتياز هذه المحنة في سلبية، آملين انحسارها في النهاية. وقد اختارت أقليةٌ الهجرةَ إلى الخارج؛ إذ أداروا ظهورهم لدولة لم تَعُد دولتَهم، موجِّهين تهديدات عدوانية من خارج حدود البلاد؛ ومِن ثَم لم يكن النبلاء ككلٍّ في وضع يمكنهم من مقاومة النهاية المنطقية لمثل هذا القَدْر من المشاعر والأفعال المناهضة للأرستقراطية. وفي ٢٠ يونيو ١٧٩٠م أصدرت الجمعية الوطنية إلغاءً لمكانة النبلاء نفسها، ومعها استخدام الألقاب والأزياء الرسمية وشعارات النبالة أو إظهارها.
تولَّى نبلاء ليبراليون زمام الأمور في هذه الحالة، عاملين بذلك على زيادة تعميق الصَّدْع مع رفاقهم النبلاء الآخرين. إلا أن معاناةَ من أصبحوا حاليًّا من «العصر البائد» لم تنتهِ بعدُ؛ ففي عام ١٧٩١م، حاول الملكُ نفسه الهجرة دون جدوى. وما حدث معه شجَّع كثيرين ممن قاوموا — حتى وقتها — ما أَطلق عليه الذين ذهبوا إلى الخارج «طريق الشرف». وقد كانت الأفعال الغريبة للمهاجرين، الذين أطلقوا على أنفسهم وحدهم النبلاء، هي التي دفعت الثوار إلى الدخول في حرب ضد القوى الألمانية في عام ١٧٩٢م. وقد أصبح هؤلاء المهاجرون، الذين كان يحميهم العدو حينذاك، خائنين، فصودرت أراضيهم، وفي النهاية طُبِّق هذا أيضًا على أراضي أقاربهم الذين ظلُّوا داخل البلاد. وعندما ساءت الأوضاع في الحرب، أصبح جميع النبلاء السابقين مثيرين للشك، وفي عهد الإرهاب من عام ١٧٩٣ إلى ١٧٩٤م أُعدم ١٢٠٠ شخص. كان هذا العدد أقل من ١٪ من عددهم، وحصدت المقصلة حياة عدد أكبر من هذا بكثير من المواطنين العاديين. إلا أن الإذلال العام وإعدام الكثير من أعضاء الطبقة الحاكمة السابقة كشف على نحوٍ مثيرٍ ضعفَ الأرستقراطيين. فلم يحدث من قبل قط في التاريخ أن تعرَّضت سُلطة النبلاء ومجدهم لكل هذا التحدي والتشويه ثم الإطاحة الكاملة؛ فلم يتخيَّل أحدٌ قط إمكانية حدوث هذا. والآن بعد حدوث ما كان يبدو مستحيلًا، أصبح دومًا من الممكن اجتذاب طموح المتطرفين والمصلحين والثوار الآخرين، ومطاردة الأرستقراطيين المتبقين في كل مكان، فتحطمت إلى الأبد أسطورة عدم وجود بديل عن الحكم الوراثي للنخبة المالكة للأراضي.
(٣) رتبة تلغي رُتَبًا أخرى
ومع هذا فقد فشل إلغاء النَّبالة؛ فعقب انتهاء عهد الإرهاب، بدأ المهاجرون النبلاء في العودة تدريجيًّا بحذر، والعثور على طرق لاستعادة ممتلكاتهم التي فقدوها. وعندما استولى نابليون — وهو أحد النبلاء الذين كوَّنتهم الثورة بدلًا من أن تدمِّرهم — على السلطة، دعا سريعًا أي فرد لا يؤيِّد أسرة بوربون المعزولة إلى العودة إلى البلاد والعمل معه. وعندما نصَّب نفسه إمبراطورًا، أراد أن يحيط نفسه برجال البلاط، وأسَّس نخبة جديدة تحمل ألقابًا، وادَّعى أن هذه لم تكن طبقة من النبلاء، وأنها تهدف إلى أن تحلَّ محل القَدْر المتبقي من الطبقة القديمة، لكنه كان حريصًا على إدخال نبلاء العهد البائد فيها، وعند سقوطه اعتبرت أسرة بوربون التي استعادت الحكم هذا التكوين البالغ من العمر ست سنوات التكوين الأصلي.
استهزأ النبلاء المنتمون لسلالات عهدِ ما قبل الثورة بهذا الأمر؛ ففي اعتقادهم أنهم هم وحدهم النبلاء الحقيقيون. وسرًّا لم يعترفوا قط بحق الجمعية الوطنية أو حتى سلطتها في إلغاء مكانةٍ ورثوها في دمائهم عن أجدادهم، وحتى الرب لا يستطيع سلبهم إياها. فما استطاع الثوار فعله هو إلغاء الاعتراف العام بمكانة النبالة والسبل الرئيسية في الانضمام إليها؛ ومِن ثَم حوَّلوا بذلك أكثر طبقةِ نبلاء مفتوحة في أوروبا إلى طبقة مغلقة. هذا وقد أُعيد فتح الانضمام إليها خلال فترة استرداد الحكم التي دامت ١٥ عامًا، لكن أنماط الانضمام في فترةِ ما قبل الثورة لم تُسْتَعَدْ قَطُّ. وعقب عام ١٨٣٠م قلَّت كثيرًا عمليات مَنح مكانة النبالة، وعقب الانتصار النهائي للنظام الجمهوري في عام ١٨٧٠م، توقَّفت تمامًا.
في الوقت نفسه أصاب المشهد المروِّع للثورة ضد الأرستقراطيين في فرنسا جميع النبلاء الآخرين في أوروبا بالخوف، فشعروا جميعهم فجأةً بالتهديد، وكذلك كان حال الملوك. فخُطَط الإمبراطور جوزيف الثاني التي كان الهدف منها تقويض سلطة اللوردات في أراضيه، التي تنتقل بالوراثة عن طريق تحرير العبيد، والتي أُعدَّت في فترة الستينيات من القرن الثامن عشر وطُبِّقت طوال فترة الثمانينيات من القرن نفسه؛ تم التخلِّي عنها سريعًا حتى قبل وفاته في عام ١٧٩٠م. هذا وقد أعلنت كاثرين الثانية إمبراطورة روسيا أن وظيفتها تتمثَّل في أن تكون أرستقراطية. وفي بروسيا، عزَّز نظام قانوني جديد في عام ١٧٩٤م امتيازات النبلاء وسلطتهم على عبيدهم، في حين اغتال النبلاء في السويد ملكًا بدا عازمًا على دعم الطموحات الديمقراطية. وفي إنجلترا أدان إدموند بيرك، الذي عاش معظم حياته معتمدًا على رعاية النبلاء، الثورة الفرنسية إجمالًا وهجومها على «التاج الزخرفي للمجتمع الرفيع المستوى» بوصفه عملًا ناتجًا عن «نزعة سيئة وخبيثة وحسودة، دون أدنى شعور بالواقع ولا بأي صورة أو تصوير للفضيلة.» وإذا كان كتاب بيرك «تأمُّلات حول الثورة في فرنسا» قد عارضه كتاب توماس باين «حقوق الإنسان» الذي فاقه في مبيعاته بهجائه للنبالة، واصفًا إياها بأنها نوع من العجز، فإنه قد تُرجم إلى معظم اللغات الأوروبية وأصبح مرجعًا عالميًّا في التحفظ الاجتماعي والمؤسَّسي.
نظرًا لارتفاع معنوياتهم بسبب انتصاراتهم المبدئية على جيوش بروسيا والنمسا التي يقودها النبلاء، أعلن الثوار الفرنسيون في عام ١٧٩٢م أهداف حربهم على أنها: «شن حرب على القلاع وتحقيق سلام للأكواخ!» وألزموا أنفسهم بقلب النظام الاجتماعي للدول التي اجتاحوها. ومع هذا فقد عانت الأكواخ أكثر من القلاع. ولم يسلم أي مستوًى في المجتمع من الأذى عندما جاء الغزاة الفرنسيون، ونتيجة للحروب الفرنسية اختفت دول معينة يحكمها النبلاء، مثل المدن الجمهورية في إيطاليا أو الأسقفيات الأميرية في ألمانيا، إلى الأبد. وكذا حال الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، التي كان معظم عملها على مدار القرن الأخير لها يتعلَّق بحقوق وامتيازات الأشكال المتنوعة للنبالة تحت مظلتها. وقد وجد كثير من الأمراء السابقين المحدودي السلطة المستقلين أن المناطق التابعة لهم قد «أُلحقت» بأجزاء من ممالك أكبر حجمًا، ولم يبقَ لهم إلا مجرد ألقاب ورُتب جوفاء. كما ضعفت الروح المعنوية لدى النبلاء العسكريين في بروسيا مؤقتًا بسبب هزيمتهم على يد نابليون في عام ١٨٠٦م، لكن عندما تلا هذا الغزوَ احتلالٌ أو صور أخرى من صور السيطرة، وجد الفرنسيون أنه لا بديل حقيقي عن العمل عبر النخب الموجودة وشبكات سُلطتهم. أضعفت المعارضة الواسعة النطاق للنبلاء في بروسيا المحاولات الأولية للمصلحين البروسيين لتحرير العبيد وفتْح المهن أمام الموهوبين بهدف مقاومة الفرنسيين بالطاقات نفسها التي فجَّرتها الثورة؛ وعليه، عندما تعرَّض نابليون في النهاية إلى الهزيمة على يد تحالف دولي، كانت الجيوش الجماهيرية المشاركة لا تزال إلى حدٍّ كبير تحت قيادة النبلاء، واعتُبر سقوطه على نطاق واسع انتصارًا لقوات حركة المحافظين الاجتماعية. وقد عزم الأرستقراطيون في جميع الدول على استخدام انتصارهم في التأكد من أن التحدي الذي تغلَّبوا عليه لتوِّهم لن يتكرَّر أبدًا.
(٤) نجاح متأخِّر
إلا أن عالَم ما قبل الثورة لم يكن من الممكن إعادة بنائه، فكان ذلك بداية النهاية. لقد ظهر ضعف حكم الأرستقراطيين، وأي محاولة للتقليل من هذا الضعف كانت تغيِّر لا محالة من طبيعته. أصبح حاليًّا يوجد مذهب فكري محكَم معادٍ للنبلاء، وكان هذا المذهب منطقيًّا. وأصبح من الممكن منطقيًّا تفنيد جميع المزاعم العتيقة الطراز المتعلِّقة بالنبلاء. كذلك أصبح هناك جمهور للحجج المناهضة للنبلاء يتمتع بالثقة والانفتاح، وكان نطاقه في توسُّع. وكانت الأفكار عن المساواة الفطرية والمدنية تفيد على وجه الخصوص الطبقة المتوسطة المتعلِّمة التي تنمو بسرعة غير مسبوقة مع ما تتمتع به من توسع اقتصادي ونموٍّ لسلطتها السياسية والاجتماعية. فعامة الشعب الذين أصبحوا أغنياء بسبب التجارة أو الصناعة، أو تحسَّنت مكانتهم بشغل المناصب، ظلُّوا عرضة لإغراء شراء الأراضي واتِّباع أنماط حياة النبلاء، لكن مثال الطبقة الثالثة في فرنسا في عام ١٧٨٩م ألهم أعدادًا متزايدة منهم؛ تلك الطبقة التي استولت على السلطة من أجل إنشاء أقوى دولةٍ في أوروبا متحدِّية بذلك أنانية النبلاء وازدرائهم؛ وعليه، لم يرفضوا فقط المزاعم الأرستقراطية بالتميز الاجتماعي الموروث، وإنما عارضوا أيضًا احتكار النبلاء القديم للسلطة السياسية، وطالبوا بمؤسسات تمثيلية، أو — في حال وجدت هذه المؤسسات — بتمثيل أوسع لأصحاب الأملاك والثروة والموهبة، لكنهم لا يتمتعون بمؤهلات وراثية. ولم تكن هذه حتى هذا الوقت دعوة لديمقراطية كاملة، رغم إطلاق هذا الاسم عليها طوال الوقت. إلا أنها بالتأكيد كانت رفضًا لأي شكل من أشكال الأرستقراطية.
لم يستخفَّ النبلاء قط بالتحدي، لكنهم — كما حدث في فرنسا عام ١٧٨٩م — لم يتمكنوا من الاتفاق على طريقة لمواجهته. فاتجهت الغالبية العظمى منهم بحكم الغريزة إلى الاحتفاظ بمناصبهم دون أي تنازلات، والبحث عن طرق لحماية أنفسهم مما رأوا أنه نقطة الضعف التي تسبَّبت في المحن التي تعرَّضوا لها. لكنْ رأى آخرون أن هذا الموقف كان انتحاريًّا؛ فمع تعرُّضهم لعالَم سريع التغير، كان لا بد لهم أن «يُجروا إصلاحات كي يتسنَّى لهم الاحتفاظ بما لديهم»، أو كما جاء على لسان شخصية الأمير الصقلي الخيالية في رواية «الفهد» للامبيدوزا في عام ١٨٦٠م: «إذا أردتَ الأمور أن تظل كما هي، فلا بد للأشياء أن تتغير.» وقد دمَّر قانونُ الإصلاح البرلماني العظيم لعام ١٨٣٢م، الذي عارضه مجلس اللوردات البريطاني حتى النهاية، التأثيرَ السياسيَّ لكثير من النبلاء، ومنح حق التمثيل لأول مرة للمدن الصناعية المتنامية، لكن رئيس الوزراء إيرل جراي دافع عنه بوصفه لا يضر «بالمصالح الفعلية للأرستقراطيين». طُرحت حجج مماثلة دفاعًا عن تحرير العبيد، وانتشرت في جميع أنحاء أوروبا الشرقية وألمانيا في الفترة بين عامَي ١٨٠٧ و١٨٦٤م. في حين شنَّ المعارضون للتغيير هجومًا ضاريًا على فكرة تحوُّل مَن كانوا تابعين في السابق إلى ملَّاك أحرار مثلهم — حيث صار باستطاعتهم حاليًّا تملُّك أراضٍ كانت مخصصة من قبلُ للنبلاء — وتوقَّعوا حدوث دمار اقتصادي في ظل غياب الانتفاع من خدمات العمالة المجانية؛ أشار دعاة الإصلاح إلى أن انتهاء نظام الأسياد سيجعل من الأسهل على كبار ملَّاك الأراضي تحقيق أرباح من سوقِ السلع الزراعية المتوسعةِ في قرن يتزايد فيه تعداد السكان بشدة. أشاروا أيضًا إلى أن انتهاء نظام التبعية الظالم سيقلِّل من احتمال تحدي الطبقات الأقل مكانةً في الريف للنظام القائم. كذلك أكدت ثورات العبيد في المجر عام ١٨٣١م أو في منطقة جاليسيا عام ١٨٤٦م، هذا الدرس، وأدَّى عجز السلطات المركزية خلال ثورات عام ١٨٤٨م إلى تجدُّد الفوضى في الريف. ومن أجل تهدئة هذه الفوضى، أصدر إمبراطور النمسا مرسومًا بتحرير العبيد في جميع الأراضي الواقعة تحت حكمه، وطُبِّق هذا سريعًا في معظم البلديات الألمانية الأصغر حجمًا. ورغم تعقيدات وخيبات أمل جميع الأطراف التي فُرض عليها تطبيق هذا التحرير، فإن اضطراب الفلاحين هدأ إلى حدٍّ كبير.
رغم تجديد الجمهورية الفرنسية الثانية السريعة الزوال لقرار إلغاء مكانة النبلاء الذي صدر في عام ١٧٩٠م لوقت قصير، فإن ثورات عام ١٨٤٨م كانت موجَّهة في الأساس ضد الملوك لا ضد الأرستقراطيين. وعندما انتهت الاضطرابات أعاد الملوك والنبلاء تشكيل تحالفهم القديم؛ حيث وحَّدوا قواهم بحنق شديد مع غير النبلاء أصحاب الأملاك الذين خافوا بالمثل من الخطاب الاشتراكي الذي ظهر. احتوت الدساتير الليبرالية المتعددة التي طُبِّقت على مدار العقود التالية عادةً على نصٍّ — استنادًا لاستقرار النموذج البريطاني موضع الإعجاب — خاصٍّ بمجلس نواب يُنتخب من أصحاب الأملاك، ومجلس أعيان مُرشَّح أو وراثي من الأرستقراطيين. في هذه الأوقات، استمر النبلاء في لعب دور بارز — أحيانًا يكون مهيمنًا وإن لم يعد احتكاريًّا — في الحياة العامة في جميع الدول الأوروبية. فلم يَعُد باستطاعتهم حاليًّا تجنُّب التعامل مع الطبقات الوسطى التي زادت ثقتها بنفسها أكثر من أي وقت مضى، إلا عن طريق التخلي عن كل شيء، تمامًا كما فعل أنصار الحُكم الملكي الشرعي الفرنسي الذين فضَّلوا «الهجرة الداخلية» عقب انهيار سلالة بوربون رفيعة المقام في عام ١٨٣٠م. إلا أن رباط الملكية زاد من التقريب بينهم، وأشار الازدهار الزراعي في منتصف القرن التاسع عشر إلى أن ملَّاك الأراضي — أيًّا كان حجمها — كان أداؤهم جيدًا. وطالما تمكَّن اللوردات السابقون من الاستحواذ على أي قطعة أرض يحصل عليها العبيد عند تحرُّرهم. وفي إسبانيا، لم يؤدِّ إلغاء نظام توريث الابن الأكبر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى التجزئة المتوقَّعة والمقصودة للمساحات الشاسعة من الأراضي الخاصة السيئة السمعة في شبه الجزيرة الأيبيرية، تمامًا كما لم يتسبَّب إلغاء قوانين الذرة البريطانية عام ١٨٤٦م في إحداث الدمار المتوقَّع «لمصالح ملَّاك الأراضي». كذلك أصبح النبلاء حاليًّا يستثمرون — كما لم يحدث من قبل — في صناعات جديدة أو آخذة في التوسع، مثل السكك الحديدية أو الفحم. وباستثناء روسيا، فَقَدَ الأرستقراطيون في منتصف القرن التاسع عشر معظمَ العلامات الدالة المتبقية على النظام الإقطاعي؛ من حيث تنظيمهم داخل كيان قانوني، وسلطتهم على تابعيهم — من العبيد أو غيرهم — وجميع أنواع الإعفاءات والامتيازات. والآن أصبحت العلامة الدالة على تميزهم هي مجرد دفعهم ضرائب أكثر. إلا أن سيادتهم الاجتماعية كانت لا تزال معترَفًا بها على نطاق واسع وتحظى بالتوقير، وظلَّت ألقابهم أو مكانتهم تحظى بالاعتراف القانوني، كما ظلَّت مشاركتهم في السلطة الواسعة النطاق. فعقب أخطر أزمة تعرَّضت لها الأرستقراطية عبر تاريخها، بدا أنها نجت مرة أخرى، مجروحة لكن ما زالت قادرة على الحركة.
(٥) عذاب الأرستقراطية
تمامًا كما كانت محاكاة أوروبا للجدل الذي أُثير في مدينة سينسيناتي في أمريكا بمنزلة دليل على بدء للهجوم المدمِّر الأول على الأرستقراطية، كانت الصراعات عبر الأطلسي بمنزلة دليل على انطفاء جذوة الأرستقراطية؛ ففي الوقت الذي حصل فيه العبيد في روسيا — آخر أكبر تعداد من العبيد في أوروبا — على حريتهم في عام ١٨٦١م، كانت الولايات المتحدة حبيسة حرب أهلية حول نهاية العبودية. مكَّنت العبوديةُ المزارعين في جنوب الولايات المتحدة قديمًا من الحياة بأساليب تشبه أنماط حياة الأرستقراطيين في أوروبا، وأشارت هزيمة الاتحاد الكونفيدرالي إلى نهاية هذا العالم، وكذلك أطلقت العنان للقوة الزراعية والاقتصادية للولايات التي اتحدت مرة أخرى. وبحلول عام ١٨٦٩م — بعد أربع سنوات من انتصار الاتحاد — كان المحيط الأطلسي والمحيط الهادي تربطهما خطوط سكك حديدية. وقد أطلقت طاقةُ البخار والصلب القدرةَ الإنتاجية الزراعية الهائلة للمروج، وفيما بعدُ القدرةَ الإنتاجيةَ للمناطق الأخرى خارج القارة الأوروبية، سواء عن طريق السكك الحديدية أو السفن البخارية الأكبر حجمًا من أي وقت مضى، التي أصبحت مزودة في نهاية الأمر بثلاجات. أغرقت هذه الاختراعات التكنولوجية أوروبا بأطعمة زهيدة الثمن، وأَدخلت الزراعة في جيل كامل من الكساد. وقد حدث انتعاش لوقت قصير لها في العقد الأول من القرن العشرين، لكنها لم تَستعِدِ ازدهارها الدائم إلا عقب الحرب العالمية الثانية.
يسلِّط الضغط الذي مارسته جماعات الضغط الزراعية من أجل فرض تعريفات الحماية الجمركية الضوء على مدى القوة التي ما زالت تتمتع بها النخبة من ملَّاك الأراضي. وخضعت معظم الحكومات لهذه الجماعات، رغم أن الأسواق الوطنية التي تمتعت في النهاية بالحماية نادرًا ما كانت تقدِّم تعويضًا لأسواق التصدير الخاسرة. وكانت بريطانيا العظمى الاستثناء الأكبر؛ حيث أصبحت التجارة الحرة في هذا الوقت أمرًا معتادًا، واعتاد الناخبون على الأطعمة الزهيدة الثمن. وهنا سُمح لعائدات ملَّاك الأراضي بأن تهبط. وقد واجهت محاولاتِ ملَّاك الأراضي الأيرلنديين لتعويض هذا برفع الإيجارات «حربٌ زراعية» شنَّها الفلاحون، ولم تتمكَّن الحكومة من تهدئتها إلا عبر سَنِّ تغييرات فتحت الطريق أمام المصادرة الفعلية لسطوة ملَّاك الأراضي البروتستانت. وفي إنجلترا — في الوقت نفسه — تم التخلي عن بناء المنازل الريفية إلى حدٍّ كبير، وبدأ الملَّاك في بيع الأراضي والأصول الأخرى مثل المكتبات أو التحف الفنية، واضعين أي قَدْر من الأرباح يحقِّقونه من سوق راكدة في نوع الأصول السائلة التي تجنَّبها معظم أجدادهم. ولم تَكَدِ الأمور تبدأ في التحسن في تسعينيات القرن التاسع عشر، حتى أُدخلت ضريبة التركات من أجل فرض الضرائب على الأصول الرأسمالية والدخل أيضًا. وفي خلال عشر سنوات، بدأ لويد جورج، الذي كَرِهَ ملَّاك الأراضي الأرستقراطيين واحتقرهم — بصفته وزيرًا للمالية — في فرض مزيد من الضرائب عليهم؛ مما دفع مجلس اللوردات في النهاية إلى المقاومة الشرسة لميزانيته في عام ١٩٠٩م.
ظل شعار «النبلاء ضد الشعب» يتردَّد في الأجواء منذ حاول اللوردات إعاقة توسيع حق الانتخاب البرلماني في ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ فقد رأوا بوضوحٍ كافٍ أن الديمقراطية ستقضي تمامًا على كل ما يمثلونه. فقبل ثلاثة عقود، أعلن ماركيز ساليسبري، الذي قُدِّر له أن يكون آخر رئيس للوزراء يحكم من فئة اللوردات، قائلًا: «إن الطبقات التي تمثِّل التحضر … لديها الحق في المطالبة بضمانات لحمايتها من أن تطغى عليهم حشود لا تملك المعرفة التي توجِّهها ولا حصة في الرخاء العام تتحكَّم فيها.» لكن الزمن سيعلِّمها أنها لا تستحق مثل هذا الحق. وعلى حد وصف المؤرخ ألكسي دي توكفيل (١٨٠٥–١٨٥٩م) — الذي كان أرستقراطيًّا حتى أطراف أصابعه، لكنه كان أكثر من يتمتعون برؤية واضحة في عصره — فإن العالم أصبح مدفوعًا «بقوة غير معروفة — ربما يمكن تنظيمها أو تهدئتها، لكن لا يمكن التغلب عليها — نحو تدمير الأرستقراطيين.»
قوَّض العالم الصناعي بقسوةٍ النخبةَ الزراعية؛ فنظرًا لأن التغيرات في تكنولوجيا النقل دمَّرت الأشكال التقليدية للثروة، أصبح مَن حققوا الثراء عن طريق التمويل والتجارة والصناعة في هذا الوقت — لأول مرة في التاريخ — أكثر ثراءً حتى من أكبر ملَّاك الأراضي. وربما استمرت العائلات النبيلة، التي حَبَتْها الصدفة بمخزون من الفحم أو المعادن، أو ضيعات في طريق المدن الآخذة في التوسع، في تجميع ثروات هائلة، لكن بالنسبة إلى باقي العائلات، تزايَد تفوُّق رجال الأعمال عليها. وإذا حدث وحصلت الفئة الثانية على منازل ريفية، فإنها لم تكن تنفق عليها من أرباح الزراعة. في الوقت نفسه، في معظم أنحاء أوروبا الْتحقَت الطبقة المتوسطة المتعلِّمة — بأعداد غير مسبوقة — بطبقة النخبة عن طريق حصولها على مكانة النبلاء، وحتى دون هذا، تسرَّبت إلى الرتب العليا للبيروقراطيين والقوات المسلحة على نحوٍ لم يحدث من قبل. وإذا كانت مناصب القيادة العليا لا تزال على نحوٍ مذهلٍ وإلى حدٍّ كبيرٍ في أيدي أصحابها التقليديين، فإن الرتب التي كانت من قبلُ حكرًا على النبلاء أصبحت الغالبية العظمى التي تشغلها من غير النبلاء، حتى وإن كان السبب هو زيادة أعداد تلك المناصب بمعدلات لا تستطيع أعداد النبلاء مضاهاتها.
ثم نشبت الحرب العالمية الأولى. قيل إن هذا الصراع بدأ كمحاولة حازمة من الأرستقراطيين في أوروبا لإعادة تأكيد سيطرتهم المتداعية؛ فقد كانت «ردَّ فعلٍ أرستقراطيًّا نَبَعَ مِن رد الفعل المبالغ فيه للنخبة القديمة إزاء الأخطار المبالَغ في تقديرها لأوضاعهم ذات الامتيازات المفرطة»، و«قصدت الطبقات الحاكمة والمسيطرة القديمة … حلَّ الأزمةِ في أوروبا لما فيه صالحها، وإن اقتضى هذا التحريض على الحرب.» وجد معظم المؤرخين هذه الفرضية مثيرة للاهتمام أكثر من كونها مقنعةً. لكن حتى إن كان إنقاذ الأرستقراطية من قوى العالم الجديد هو الهدف الذي يُفترض بالحرب تحقيقه، فإن سوء التقدير كان هائلًا؛ فكل ما حدث أن تعزَّزت جميع التوجهات التي ظلَّت تقوِّض النفوذ والسلطة الأرستقراطية لمدة نصف قرن تقريبًا. وقد ثبت أن حرب الخنادق هي مَحرقة للضباط الشباب؛ إذ إنها قضت على جيل من ورثة الأسماء الشهيرة في جميع الدول المشاركة. عجَّلت الحرب بالثورة الروسية، وهي حركة واعية مناهضة للأرستقراطية نتج عنها مصادرة لضيعات النبلاء وإعادة توزيعها وتعذيب ملَّاكها، وأدَّى هذا إلى انتشار المهاجرين في كافة أنحاء أوروبا الغربية وأبعد منها. ونتيجة للحرب اختفت النُّظم الملكية في جميع أنحاء ألمانيا ووسط أوروبا، وألغت الجمهورياتُ غير المستقرة التي تلتها ألقابَ النبلاء والأوقاف التي حافظت على بقاء ضيعات الأرستقراطيين وحدة واحدة؛ فالدول القومية الجديدة التي نشأت من تفكُّك إمبراطورية هابسبورج كانت تنظر إلى الأُسر الكبرى الحاكمة ذات النفوذ التي هيمنت عليها لفترة طويلة باعتبارها آثارًا لحكم أجنبي؛ ومن ثم أزاحتها عن سُدة الحكم. ولم تَخرج الأرستقراطية إلى النور من جديد وهي تتمتع بالقوة إلا في بولندا والمجر؛ حيث تحوَّلت الدول ذات السيادة المُعَاد تكوينها مرة أخرى إلى النخبة المحلية التي حافظت على تقليد «حريتها الذهبية» السابقة. لكن حتى في هذه الدول ثبت أن هذا الإحياء سريع الزوال؛ فقد ثبت أن شجاعة الشلاختا التي استعادت نشاطها غير مُجْدية أمام غزو الألمان والروس في الحرب العالمية الثانية؛ ونتيجة لهذا خضعت كلٌّ من بولندا والمجر لنُظم الحُكم الشيوعية، التي عزمت على محو أي آثار باقية للحكم الأرستقراطي، كما حدث في روسيا.
كان تفكُّك المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا صادمًا بالقَدْر نفسه تقريبًا؛ ففي أيرلندا، حيث كانت سطوة ملَّاك الأراضي البروتستانت تتدهور سريعًا قبل الحرب، صاحَبت تأسيسَ الدولة الحرة هجماتٌ واسعةُ النطاق على المنازل الريفية، وتبعتها المصادرة النهائية لأملاك معظم ملَّاك الأراضي؛ وهو تدمير يكاد يكون كاملًا كالذي حدث في روسيا. وعلى الشاطئ الآخر في إنجلترا، نظرًا لأن ضرائب التركات ارتفعت في أثناء الحرب وبعدها إلى مستويات عقابية، ترك ملَّاك الأراضي عددًا من الأفدنة بين عامَي ١٩١٨ و١٩٢٢م يفوق عدد الأفدنة التي نُقلت ملكيتها في فترة مماثلة منذ ثلاثينيات القرن السادس عشر. وقد زادت النظرة إلى المنازل الكبرى على أنها مقتنيات نفيسة مكلِّفة لا طائل منها، وبِيعَ كثير منها أو دُمِّر أو وُهب منذ أواخر ثلاثينيات القرن العشرين إلى الجمعية الوطنية للحفاظ على التراث نظير استمرار استئجار الأسرة لها. وعلى الرغم من أن الأسر الأكثر ثراءً — التي كان معظمها من أسر الدوقات — ظلت باقية رغم تقلص حجم الضيعات بين الأثرياء في الدولة، فإن طبقة الأعيان القدامى تضاءل حجمها، وأصبحت طبقةُ الأرستقراطيين بأكملها محبَطةً إلى حد كبير. انتقل عدد قليل من الذين باعوا ممتلكاتهم إلى المستعمرات الأفريقية؛ حيث كان لا يزال باستطاعتهم الحياة بأسعار زهيدة نسبيًّا، وصَيد الحيوانات البرية بِحُرِّية، واقتناء حاشيات وفيرة من الخدم المطيعين. لكن حتى عمليات الانسحاب المغرية هذه من العالم الحديث لم تَدُمْ أكثر من بضعة عقود؛ إذ انهارت أيضًا الإمبراطورية التي أمدَّت الأبناء الأصغر سنًّا بكثير من الفرص لأكثر من قرنين من الزمن.
أحد ردود الفعل التلقائية الأخرى للأرستقراطيين المحاصرين بين الحروب تقبُّلهم للفاشية؛ ففي النهائية ثَبَت أن الشيوعية والأشكال الأخرى من الاشتراكية — نادرًا ما كانوا يفرِّقون بين الاثنتين — أكثر أعدائهم شراسةً، في حين كانت الأشكال المتنوعة للفاشية تعِد بقوة بعودة النظام. في الواقع أُنقذت الأرستقراطية في إسبانيا من التهديدات الديمقراطية بفضل انتصار فرانكو في الحرب الأهلية؛ لذا بدت عودة النظام الملكي في حد ذاته منطقية تمامًا بعد وفاته. وفي البلاد الناطقة بالألمانية أيضًا رحَّب كثير من ضباط الجيش النبلاء باستعادة هتلر لتقدير الذات العسكرية. إلا أن سياساته المدمرة في وقت الحرب دفعت في النهاية مجموعة صغيرة من الضباط الذين شعروا بالخزي إلى محاولة اغتياله. وقد كانت هذه — حتى الآن — آخر مؤامرة أرستقراطية في تاريخ أوروبا. لكن في الوقت الذي فشلت فيه، بدت هزيمة هتلر على أي حال حتمية إلى حدٍّ كبير. شنَّت جبهة أخرى هجومًا حاسمًا ضد الاحتلال الألماني لأوروبا من بريطانيا العظمى؛ حيث قاد ونستون تشرشل — الذي كان حفيدًا لدوق — ومجموعة معظمها من الجنرالات الأرستقراطيين الأيرلنديين (حصلوا جميعًا على مكافأة في صورة ألقاب ومقاعد في مجلس اللوردات) كفاحًا يتسم بالعزم ولا يخلو أحيانًا من اليأس من أجل بقاء الوطن. إلا أن النصر في هذه الحرب قد صار فعليًّا من نصيب قوًى تستنكر الأرستقراطية وكافة أساليبها: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وكانت مكافأة تشرشل على إنقاذه لبلده تصويتَ رفاقه الديمقراطيين على إقالته من منصبه. وبعد تسع سنوات، قبل تركه لمنصبه للمرة الأخيرة، عَرضت عليه الملكة إليزابيث الثانية دوقية. كانت لفتة لا معنى لها — رغم ما بها من إطراء — حيث إنها كانت قد تأكَّدت مسبقًا من أنه سيرفض. والمفارقة أنَّ أتلي — أحد أفراد العامة والذي حلَّ محله كرئيس للوزراء في عام ١٩٤٥م — قد انتهى الحال بحصوله على لقب إيرل.
(٦) الآثار الباقية والذكريات والأحكام
من ثم أكملت الحرب العالمية الثانية تدمير الأرستقراطية بوصفها كيانًا مترابطًا له مفهوم اجتماعي أو سياسي. وفي أعقاب الحرب، حدَّدت عمليات الاستحواذ الشيوعية مصير الأرستقراطية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، كما أن نظم الحكم الديمقراطية الاشتراكية، التي حصلت على السلطة على فترات منتظمة في الغرب، بدت بالكاد أكثر تعاطفًا. وقد فَقَدَ آخِرُ معقل مؤسساتي للسلطة الأرستقراطية — مجلس اللوردات البريطاني — معظمَ سلطته التشريعية المتبقية فيما يتعلَّق بعرقلة القوانين، وذلك على يد حكومة حزب العمال في عام ١٩٤٨م، وفَقَدَ معظمَ أعضائه بالوراثة بعد نصف قرن، ويبدو أنه في سبيله إلى فقدان آخِر المنتمين إليه في الوقت الذي يُطبع فيه هذا الكتاب.
ما زال ممكنًا العثور على كثير من الأرستقراطيين حاليًّا؛ فأمراء ليشتنشتاين وموناكو، الذين كانوا في وقتٍ ما تابعين لملوك كبار، يحكمون حاليًّا دُوَلًا صغيرة ذات سيادة. كما أن أغنى رجل في بريطانيا وأكبر مالك للأراضي كليهما دوقان. وفي كل مكان يحتفظ لقب أو حتى شعار نبالة بمكانة مميزة معينة، وما زالت الشركات تسعد بوجود «أحد اللوردات ضمن مجلس إدارتها». أيضًا ما زال الأرستقراطيون يفضِّلون الزواج بعضهم من بعض، رغم أنه لم يَعُدْ باستطاعتهم مقاومة الزواج من وريثة ثرية من خارج الطبقة أكثر من أي وقت مضى. كما أنهم ما زالوا يفضِّلون إرسال أطفالهم إلى مجموعة محدَّدة من المدارس الخاصة ذات المكانة المرموقة. ورغم أن معظمهم حاليًّا أصبحوا يكسبون عيشهم من شتى مجالات الحياة المعروفة، فإنهم ما زالوا يستمتعون في وقت فراغهم بممارسة أكثر الأنشطة تميزًا، التي تشمل الصيد وسباقات الخيول والرياضات التي تُمارس في الهواء الطلق، وحياة الريف بوجه عام. لكن مع توقف منح مكانة النبالة المتوارثة في كل مكان في الوقت الحالي، فإن مصير هذه الطبقات المنغلقة سيئول إلى تضاؤل حجمها ببطء حتى اختفائها بالكامل.
إلا أن الآثار المادية والمرئية لأجدادهم — سواء الشخصية أو الجماعية — يمكن العثور عليها في كل مكان في صورة نُصب تذكارية ونقوش وأضرحة وأسماء شوارع وحانات ومتنزهات، وفوق كل هذا المنازل الريفية أو «المنازل الفخمة»؛ فرغم اختفاء المئات منها في القرن العشرين، لا يزال عدد كافٍ منها باقيًا من أجل تذكير المواطنين في الدول الديمقراطية — التي استاء معظم ملَّاك هذه المنازل بمرارةٍ من تأسيسها — بمنْ كانوا يعطون الأوامر لأجدادهم. أصبح الكثير منها حاليًّا مفتوحًا أمام عامة الشعب مقابل تذاكر، واخترع مَنْ بقي من أصحابها وظيفة جديدة لأنفسهم وهي الوصاية على تراث ثقافي يُفترض أنه شُيد بعناية فائقة على أيدي أجيال من الأسلاف. في الواقع، كان كثير من هؤلاء الأسلاف لا يزيدون عن كونهم مجرد جامعين معتادين للمال، ولم يكترث عدد أكبر منهم — مؤخرًا على الأغلب — بنوعية ما ورثوه ونظروا إليه على أنه عبء حقيقي. ومع هذا فإن الثراء الفني والثقافي الذي تحتويه هذه المنازل وتمثِّله ما زال — رغم مرور أكثر من قرن من الدمار الاقتصادي والسياسي — مبهرًا ومهيبًا في بعض الأحيان. إنها تُسلط الضوء على الكيفية التي استطاع بها الأرستقراطيون على مدى قرونٍ استغلالَ عمل الآخرين وتحقيق ربح منه في سبيل رفاهيتهم ومصلحتهم. ومع هذا يبدو أن الصور والمصنوعات والمعروضات الزخرفية لم تكن هي صاحبة أكبر تأثير على الزوار في العصر الحديث؛ فقد كانوا أكثر اهتمامًا بالمطابخ وغيرها من محتويات الدَّور السفلي المخصص للخدم؛ فهم يستطيعون التعرف بسهولة أكبر على هذا المكان، مدركين أن مأوى الخدم كان المكان المخصص لأسلافهم، الذين وُلدوا ليخدموا كبرياءَ وغطرسةَ مَن يعيشون في الأعلى منهم.
على الرغم من سلوكيات التوقير الفطرية المتبقية والمتقطعة، قلما نجد أناسًا في العصر الحديث يؤمنون بأي نوع من التميز الفطري. وهم يكرهون أي شيء يوحي بأن ثمة أشخاصًا ما زالوا يدَّعون مثل هذا التميز. فلا وقت لديهم «لبقايا النظام الإقطاعي»، كما وصفت ابنة اللورد ريديسدال الصغرى والدها بعدم اكتراث في حضوره. في الواقع، نظرًا لكون هذا اللورد من بارونات الجيل الثاني، فإنه كان مثل معظم الأرستقراطيين لا ينطبق عليه هذا الوصف. مع هذا فإن الأرستقراطيين يحبون التعتيم على آثارهم السحيقة، التي قامت عادةً على العنف والجشع والاستغلال القاسي للأضعف منهم. كرَّس كاتب اليوميات جيمس ليز-ميلن — ابن أحد رجال الصناعة المتنكِّر في صورة أحد النبلاء ملَّاك الأراضي، لكنه تعلَّم (في جامعتَي إيتون وأكسفورد وانضم للحرس) ليصبح نبيلًا حقيقيًّا — حياته الطويلة لإنقاذ المنازل الريفية؛ فقد كان يقابل ملَّاك هذه المنازل يوميًّا تقريبًا، وكان على معرفة وثيقة ببعضٍ من أكبر الملَّاك؛ لذا فإن أحكامه جديرة بالاحترام. وقد كتب في عام ١٩٩٦م — قبل عام من وفاته — قائلًا: «لقد توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن الأرستقراطية كانت دومًا هراءً، وأنا أعترف أنني أيضًا قد خُدعت بها. مع هذا ما زلت أؤكد على أن المحترمين والمتعلِّمين منهم يحقِّقون مستوًى من السعادة والنجاح لا يمكن لأي طبقة أخرى في العالم أن تفوقه.»