تَجْديد الأدَب وتَجْديد الحَيَاة
الفكرة البارزة في جميع الأمثلة المتقدمة، من تفكير نفرٍ من أشهر أدباء اللغة العربية في العصر الحاضر هي: ترك البكاء التقليدي، والتحسر، والتلهف، والنواح، والندب التي أغرقت الشعر العربي القديم في عبابها، وتغرق الشعر السوري والمصري الحديث في ذلك العباب عينه، اللهم إلا بعض استثناءات نادرة، تطمو عليها الصفات المذكورة، ويحتاج محب الاطلاع لمجهود كبير في الغوص عليها. هذه الفكرة هي فكرة سلبية، يدفع إليها الملل من الجمود والضرب على وتيرة واحدة، ولكنها ليست بالفكرة الجديدة في أدب اللغة العربية، فقديمًا أظهرها الشاعر الفارسي المزيج، السوري البيئة والحضارة أبو نواس بأسلوبه المجوني البديع:
وقال أيضًا:
فأبو نواس تهكم على الوقوف على الطلول والبكاء والعويل؛ لأنه ابن بيئة تختلف عن بيئة شاعر الصحراء، ولأنه متحدِّر من شعب خبر من الحياة ألوانًا غير ألوان حياة الصحراء، وقد استيقظ أبو نواس لهذه الحقيقة ووجد في البكاء والندب وسؤال الطلول عجزًا مضحكًا. فقال قوله الذي سبق به جميع دعاة «التجديد» من أدباء اليوم. وأدباءُ العصر الحاضر، مع كل اجتهادهم، لم يتجاوزوا موقف أبي نواس من العويل والانتحاب على الطلول وعلى العهود إلا قليلًا.
كل اجتهاد أمين الريحاني بلغ إلى القول: إن الشاعر يجب أن يكون «مرآة الجماعات»، ومبلغ اجتهاد حسين هيكل، هو أن التجديد في الشعر «هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه، ويعبِّر عن ذلك تعبيرًا صادقًا، ممثلًا لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير» وكل اجتهاد خليل مطران بلغ إلى قوله: «أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا، في مختلف أنواع رقيه.» وهذا الرأي هو أرقى ما وصل إليه تفكير أدباء سورية ومصر حتى اليوم. فإذا كان هذا هو غاية الشعر والشاعر، فلا حاجة لكل ذاك الكلام الكثير على التجديد وترك التقليد، الذي هو من قبيل تحصيل الحاصل.
إن أدباء العصر الذي نعيش فيه يمثلون بأدبهم عَصْرَهم أصدقَ تمثيل، إنهم لا يحتاجون إلى تغيير أسلوبهم ليمثلوا عصرهم، كما يتوهم حسين هيكل في تخبط فكري، للخروج بالأدب والفنون الجميلة من الحالة التي هي فيها، أو كما يظن خليل مطران. أليس العصر في سورية، إلى أن بزغت أنوار النهضة القومية الاجتماعية، عصر جمود وذهول وتقليد واستكانة؟ أليس العصر في مصر عصر تقليد شرقيٍّ ومسخ غربيٍّ؟ بلى، إن العصر في سورية لَكذلك، وإن العصر في مصر لكذلك، إذن فالأدباء في سورية وفي مصر هم «مرآة جماعاتهم» تمامًا وممثلو عصرهم تمثيلًا صادقًا، والمطلوب من كل الكلام الذي ملأ به طالبو التجديد صفحاتٍ ومجلداتٍ هو حاصلٌ، ومع ذلك فالحاجة إلى التجديد أو التغيير باقية، وهي على ازدياد، والتوق إلى حالة جديدة يَقْوَى يومًا بعد يوم، فأين السر في هذا التناقض، وهذا التباين؟ هو في بعد الأدباء الذين عالجوا الموضوع عن صلبه، وعن قضاياه الكبرى، التي ليست هي قضايا أدبية بحتة.
خذ مثلًا كلام حسين هيكل على «العصر»، الذي يعيش فيه الشاعر. فكأني بحسين هيكل يفهم العصر من خلال مطالعاته في الأدب الفرنسي، وليس من درسه وَضْعِيَّةَ مصر. وكأني بأمين الريحاني يرى أن عكس نفسية الجماعة هو شيء اصطناعيٌّ أساسه الغش أو الرياء، كأن يمثل الشاعر السوري نفسية شعبه وحالته الروحية بالاقتباس أو الاكتساب من أدب شكسبير وأدب غوته اللذين يمثلان أدب شعبين آخرين، فيُظهر شعبه بغير مظهره الحقيقي، وهذا ما يفعله كثير من الأدباء في مصر وبعض الأدباء في سورية، فيمسخون نفسية شعبيهما مسخًا.
وكأني بخليل مطران الذي اطلع كثيرًا في الأدب الفرنسي يجهل أن العصر الحاضر في أوروبة شيء، وفي سورية ومصر شيء آخر. إنه يعمى عن الحالة التي عليها الشعب السوري، والحالة التي عليها الشعب المصري، فيحسب أنهما في حالة الشعوب الأوروبية عينها، ويبدو لقارئ عبارته أن الأدباء وحدهم في سورية ومصر بقوا متأخرين عن حالة العصر، وهو غير الحقيقة.
ماذا يُنتظر من الشاعر الذي ولد في بيئة يغشاها الجهل، ويغمرها الذل والخنوع، ولم يفتح عينيه إلا ليرى ظلمة الفوضى، والبلبلة، والتسكع في المادية، ورُبِّيَتْ نفسه على تَأَوُّهات العجز، وحسرات الفوات، ومُثُل الشهوات، وأمثلة الجمال المادي، وميول الغرائز البيولوجية، خصوصًا الشاعر الذي يجب أن يكون، في عرف كتَّاب «التجديد»، مرآة الجماعات أو مرآة عصره؟ أيُنتظر منه غير اتباع ما شب عليه ووعاه من أمثلة الأدب الذي وصل إليه؟ كلا، كلا.
إن الأدب، كله، من نثر ونظم، من حيث هو صناعة، يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة، وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يُحدث تجديدًا من تلقاء نفسه، فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات؛ ولذلك أقول: إن التجديد في الأدب هو مسبَّبٌ لا سبب — هو نتيجة حصول التجديد، أو التغير في الفكر، وفي الشعور — في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية، سياسية تغير حياة شعب بأسره، وأوضاع حياته، وتفتح آفاقًا جديدة للفكر وطرائقه، وللشعور ومناحيه.
يلاحظ مؤرخو الأدب ودارسو عناصره وعوامله أن التغيرات أو الانقلابات السياسية يعقبها تغير في الأدب وأساليبه، ويذهب جمهورهم إلى أن النهضات أو التغيرات السياسية هي سبب نهضة الأدب والفنون الجميلة، والذي أراه أن التغيرات السياسية ليست هي ذاتها المؤثر أو الفاعل الأساسي في تغيير مجرى الأدب؛ لأني أرى الأحداث السياسية نتيجة لابتداء تغير النظرة إلى الحياة، أو لحصول اعتقادات ومُثُل عليا روحية-مادية جديدة في شعب من الشعوب، فتدفعه النظرة الجديدة، أو التعاليم الجديدة إلى استنباط الوسائل التي تتحقق بها مطالبه. ومن هذه الوسائل: أساليب السياسة، وأشكالها، وخططها، وأهدافها. فالسياسة، في حد ذاتها، شبيهة بما حددت به الأدب، فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في السياسة لا توجد سياسة جديدة ولا نهضة سياسية، وكذلك في الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في الحياة لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية.
يذكرني بحث وسائل إنهاض الأدب السوري والأدب المصري ببحث وسائل ترقية فن التمثيل في سورية. فقد سألني أحد هواة هذا الفن، منذ عدة سنين، عن كيفية ترقية تمثيل الروايات في سورية، فقلت: إن الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب السوري نفسه. فإن تمثيل أدوار الحب والشهامة والبطولة بألوان راقية يحتاج إلى شعور الممثل بهذه الصفات شعورًا راقيًا. والذين لم يتعودوا من الحب غير اتجاهاته الفيزيائية لا يمكنهم أن يمثلوا حالاته النفسية السامية. وقد شاهدت مرة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنور، يحاول تمثيل دور التعارف مع فتاة، ينتظر أن يقع حبُّه في قلبها، ويقع حبها في قلبه، فجاء الدور بعيدًا جدًّا عن إعطاء النتيجة المرغوبة على مستوًى راقٍ من الشعور والتصرف. وواحدٌ آخرُ كان من نصيبه أن يمثل دور الوالد الذي نأتْ به الأقدار عن ابنته، وحُسب في عداد الأموات، ثم عاد سالمًا موفقًا ليضم ابنته إليه، فلما جاء حين المقابلة مع ابنته وظهرت الفتاة التي تمثل دور الابنة، حَبِطَتْ جميع المحاولات لجعل ذراعَي الوالد تمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيرًا على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تمثيله، ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تمثيل دوره.
الأديب، والشاعر، والممثل، هم أبناء بيئاتهم، ويتأثرون بها تأثُّرًا كبيرًا، ويتأثرون كثيرًا بالحالة الراهنة الاجتماعية – الاقتصادية – الروحية. والفنان المبدع، والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان، وتخطيط حياة جديدة، ورَسْم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها، ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حد الأدب والصور الجزئية التي تشتمل عليها صناعته، والشاعر الذي هو «مرآة الجماعات» أو «مرآة عصره» لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب؛ لأن هذا النهوض يعني ضمنًا: النهوضَ بالحياة وبالنظر إلى الحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالمرآة ليس بالمرء الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره، فهذا شأن المعلم، الفيلسوف، الفنان، القائد، الذي يقدر أن يخطط تاريخًا جديدًا لأمته، ويضع قواعد عصر جديد لشعبه. وله أن يكون أديبًا شاعرًا إذا شاء، وليس عليه أن يكون ذلك. وللشاعر أن يكون معلمًا، فيلسوفًا، فنانًا، قائدًا إذا قدر، وليس عليه أن يكون ذلك.
إن من الظلم للشاعر أن يُطلب منه تمثيل عصره أو جماعته تمثيل المؤرخ والعالم الاجتماعي. فكلام الريحاني وخليل مطران وحسين هيكل هو ظلم للشعراء، وتكليفٌ لهم أن يكونوا غير ما هم. قد يكون في شعر الشعراء ما يستدل به على حالة عصورهم، والأفكار، والاعتقادات الشائعة فيه، ولكنه ليس حتميًّا أن يدرس الشاعر عصره حين يحاول نظم قصيدة في فكرة، أو عاطفة، أو مَنْقَبَة، أو حادثة.
إن قصائد الشاعر التي ينظمها غيرَ مفكر بعصره أو بغيره من العصور هي التي يغلب أن تجيء أكثر انطباقًا على حالة عصره وأدبه؛ ولذلك قلت: إن شعراءنا يمثلون عصرنا تمثيلًا صادقًا. وأعني بعصرنا: العصر الذي تعيش فيه سورية، وليس العصر الذي تعيش فيه بريطانية، أو ألمانية، أو فرنسة، أو روسية، وفي رأيي أن عصر سورية الحاضر هو غير عصر هذه الأمم الحاضر، وإن كان الزمان واحدًا. فحالة سورية الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية – النفسية، تختلف عن حالة الأمم المذكورة، فكأنها تعيش في عصر غير عصر تلك الأمم. ولذلك لم يمكن أن يكون نتاج شعرائها مطابقًا لعصر أرقى الأمم الأوروبية التي خلفت وراءها ثورات عظيمة في الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، وفي العلم، والفلسفة، بينما سورية تتخبط في دياجير تاريخها الأخير الفاجع، وقد نسيتْ فلسفات أساطيرها وثوراتها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية الغابرة التي أضاء نورها أرجاء العالم المعروف آنئذ، وكانت إصلاحاتها مثالًا لأثينة ورومة.
سبق لي القول، في مكان آخر: إن الشاعر، في عرفي، هو الذي يُعْنَى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيز من فكر، أو شعور، أو مادة. وأزيد هنا أني أرى أن من أهم خصائص الشعر: إبراز الشعور والعاطفة والإحساس في كل فكر، أو في كل قضية تشمل عناصر النفس، وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صورًا مجازية أو خيالية عناصرها القوة والجمال والسمو مع عدم مفارقة الحقيقة والغرض الإنساني. وأكرر القول: إن الشعر ليس الفكر بعينه، من غير حرمان الشاعر حق إبداء الأفكار الكلية أو الجزئية كلما شاء وأمكنه ذلك.
ليس الشعر، في عرفي، مجرد شعور، كما عبر عنه شفيق معلوف في كتابه إلى عمه، وبشارة الخوري في رده على الريحاني. إني أرى الشعر، أو، على الأقل، الشعر المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر، وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه؛ لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالًا وثيقًا في المركب العجيب الذي نسميه النفس، وأعتقد أنه يصح في الشعر، إلى حد ما، ما قلته في الموسيقى، وأجريتُهُ على لسان بطل قصة ألفتُها سنة ١٩٣١ بعنوان: «فاجعة الحب»، وطبعتُها في بيروت مع قصة «عيد سيدة صيدنايا» سنة ١٩٣٢، وهو يختلف عن نوع المشابهة بين الشعر والموسيقى الذي أورده شفيق معلوف في كتابه إلى عمه. إليك القول المذكور، وهو بشكل حوار ومداولة ووصف روائي:
«كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب، فأخذنا نتحدث في كل علم وفن، حتى تَطَرَّقْنا أخيرًا إلى الموسيقى. وكان بيننا مَنْ شب ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا، التي يسمونها خطأ: «الألحان العربية»، وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها. وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية، ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فن وافتنان. فقدم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية؛ لرقي تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية، ولفقر هذه من هذه الوجهة، ووقوفها عند حد التعبير عن الحالات الأولية. وتعصب أولئك، ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج، والتمسك بمبدأ المحافظة، للألحان الشرقية. وهذا شيء طبيعي؛ فالذين يفهمون لحنًا موسيقيًّا واحدًا فقط يفضلونه على كل لحن ونغم غيره.»
وكان من وراء ذلك، أن الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين، وطال أمره، حتى خشيت أن يئول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا نحن السوريين إلى هذا اليوم، فإننا قليلًا ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبيُّن وجه الصواب ووجه الخطأ. إلا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة؛ لأن الفريقين المتجادلين قررا أن يستفتيا سليمًا في الأمر؛ بصفة كونه خبيرًا في نوعي الموسيقى، الشرقي والغربي، ومحبًّا للإنصاف والحقيقة، فسأل سليم أحد المتشبثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلًا: «أتدري، يا صاحبي، لماذا وُجِدَتِ الموسيقى؟»
فأجاب بهيج بلهجة الموقن: «أجل، وُجدت الموسيقى؛ لتكون لغة العواطف.»
قال سليم: «لو كنت خبيرًا بالموسيقى لما جزمت بهذا التحديد الذي يجرد الموسيقى من ثلثي مزاياها على الأقل.»
فهتف الأربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!»
فيتضح لك مما تقدم أن وجه الفرق في ما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى؛ فلا يوجد نزاع قطُّ من هذا القبيل، بل في المعاني التي يُقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين، وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض، وإن الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية، ونظائرها الغربية ليس إلا مجرد تنوُّع يتبع حالات نفسية خاصة. ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية، في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أن الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب، وإن تعددت الأمزجة.
إن عواطف الحب، والبغض، والرقة، والقسوة، والسرور، والحزن، وبواعث الطرب، والتأمل، واللهو، والتفكير، والطموح، والقناعة، وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات، وتصورات نفسية تقصر الكلمات عن وصفها … كل هذه واحدة في جميع الأمم، في الشرق والغرب، ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبُّه النفوس، وارتقائها، وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي، أو كانت محجوزًا عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم ابتدائية أيضًا. وهي في هذه الحال، لا تعبر عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان، كالشهوات الجنسية، التي تمثل معظم عواطف هؤلاء القوم، وبعكس ذلك القوم الذين تحررت نفسيتهم وارتقت فإن موسيقاهم تعبر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية، وتخيُّلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية؛ إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصرًا على «وصال الحبيب»، بل، أصبح مطلبًا أعلى يرفع الحبُّ نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولِّدًا في نفوسهم من العواطف السامية، والأفكار، والتخيلات الكبيرة ما لا يستطيع فهمه مَنْ هَمُّهُ وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام.
هذه هي العواطف، والتصورات، والأفكار التي تعبر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن، الذي بلغ في الفن الموسيقي حد الألوهية؛ لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف، وآمال، وأميال جميع إخوانه البشر، حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقِيِّ النابغة، كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. انظر إلى ما تعبر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد. خذ مثلًا، سنفونيته السابعة، التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بِتَيَّارٍ من الأنغام، تحول إلى تيار من العواطف البشرية، الطالبة الحرية، الثائرة على الظلم، والاستبداد لا يزال جاريًا وسيظل جاريًا أبد الدهر!
انظر إلى معزوفاته الأخرى، (كسنفونيته الخامسة، المعبِّرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء، بين الموت والحياة، وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه)، ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين، فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضًا. لا، يا صاحبي، لم توجد الموسقى لتكون لغة العواطف الأولية، التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار.
(بينما كان سليم يتكلم، كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء. فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثًا من هذا النوع، وبعد صمت ظهر في أثنائه أن الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم، ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه، قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟»)
إن التقاليد القديمة المستعارة قيدتْ نفوسنا بألحان محدودة ابتدائية، قد أصبحت حائلًا بيننا وبين الارتقاء النفسي، إن في فطرتنا ونفوسنا شيئًا أسمى مما تعبر عنه هذه الألحان الجامدة، شيئًا أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية. إن في أنفسنا فكرًا عاطفيًّا، وفهمًا عاطفيًّا، يتناولان التأملات العميقة في الحياة، والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعيٍّ، قوميٍّ، روحيٍّ، إنساني، ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أَلْيَقَ بوجودنا، يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى، غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية محدودة معينة، كحالة الحزن، أو حالة التدلُّه في الغرام، فإن نغمًا وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف، كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم، أو حالة الجذل والابتهاج، أو حالة التأمل. بل إن لحنًا وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل، اكتسبتْ فيه النفس من الاختبارات ما رقَّى شعورها، وأكسب الحالة النفسية المقصودة معاني جديدة، تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها.
فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية، تقربنا من أكناف السعادة، وجب علينا أن نحررها من رِبْقَة الألحان التقليدية، التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها، فنسلط عليها فكرنا العاطفي، وفهمنا العاطفي، ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا، وكل تصوراتنا وأفكارنا، وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها.
لما أتم سليم عبارته، التفتُّ إلى الرفقاء، فوجدتُ بهيجًا وأصحابه قد وقفوا على أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل. ثم إن أحدهم نظر إليَّ وخاطبني قائلًا: «ما رأيك يا سيد، في ما يقوله السيد سليم؟»
قلت: إني أوافق على جميع ما قال، وأتخذ من حكمه في الموسيقى حكمًا في الأدب. انظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلدين؛ لأن حدي العيس ليس من شئون شعبهم، ولا من مظاهر تمدُّنهم، وإلى كتَّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادُهُم جبلية وسهلية خضراء. إن التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني لأعتقد أنه لا بد من القيام بجهود جبارة، قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير الروحية والعقلية السوريتان، الغنيتان بمواهبهما الطبيعية، مَعِينَين ينهل منهما الأدباء، وأهل الفنون، والعلماء، والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري.
وبعد صمت قصير، انصرفنا، وقد رسخ حديث سليم في ذهني، ولم تزده الأيام إلا رسوخًا.
إن الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم، وأرادت أن تتناول عصرًا وأمة، والذي أعلمه أن سليمًا كان قد ابتدأ يَنْظم سنفونية في انتهاء عهد الخمول، وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب علي أن أروي أن سليمًا كان يعتقد أن نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن؛ لأنه كان موقنًا من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسيٍّ، بل إلى ما هو أعظم شأنًا وأكثر فائدة من الغرض السياسي.
إنه كان يرى الفورة السياسية أمرًا تافهًا، إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبِّتها في قلب كل فرد، سواء كان رجلًا أم امرأة، شابًّا أم شابة، أدب حيٌّ وفن موسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى، حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد، قائم على المحبة، المحبةُ التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاونًا خالصًا، وتعاطفًا جميلًا يملأ الحياة آمالًا ونشاطًا. حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئًا قابل الإنتاج، وأما الوطنية القائمة على تقاليدَ رجعيةٍ رَثَّة فهي شيء عقيم، ولو أدت إلى الحرية السياسية.
أنظر الآن، بعد مرور إحدى عشرة سنة، في هذا الاستعراض لحالة فن الموسيقى وحالة الأدب في بيئتنا، ونوع النفسية المسيطرة على مجموعنا، الموروثة من أزمنة السقوط تحت مطارق الفتوحات البربرية، وأمواج النفسية الشرقية، فأرى أني قد صوَّرْت حالة التخبط في المواضيع الفنية والأدبية السائدة في أوساط مُتَنَوِّرينا، وأوضحت طريقة الخروج من تلك الحالة، وإني أوافق الآن على ما صورت في القصة، وأرى أنه ينطبق على ما أتناوله في البحث الحاضر من التخبط الأدبي والصراع الفكري في الأدب، وعلى ما أصف به الآن الأدب عامة والشعر خاصة. وأرى فيه، عدا ما تقدم، صلب الموضوع.
قلت: إن المشابهة بين ما قلته في الموسيقى وما قلته وأقوله في الشعر، تختلف عن المشابهة التي أوردها شفيق معلوف في كتابه إلى عمه، حيث يقول: «إن لي رأيًا آخر في الشعر. فهو، في عرفي، ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته — في أحايين كثيرة — منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية» فهذه المشابهة بين الشعر والموسيقى لا ترفع الشعر ولا الموسيقى، ولا تعطيهما المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها، وانفلتت من الحدود الضيقة في الفكر والشعور. إنها من ملازمات النظرة القديمة إلى الحياة والفن، ومن نتائج تأثير البيئة ونوع الثقافة، اللذين حددا للشاعر المذكور الشعر والموسيقى تحديدًا مُضْنِكًا.
أوردت في ما سبق من هذا الدرس رأيي في ضعف تعبير شفيق معلوف عن الشعر. وكان إيرادي رأيي هناك مقتضبًا، لم أحلل فيه غير قوله: «يصور للناس نفوس الناس.» ولذلك أرى وجوب إكمال التحليل لاستخراج الفائدة الكبرى، وأتناول «تصوير النفوس» فأقول: إن هذا التصوير لا يمكن أن يحدث بواسطة «الشعور النابض». وإذا حدث تصوير للنفوس بواسطة الشعور المذكور جاء تصويرًا مشوهًا أو ناقصًا. والأرجح أن يكون حينئذ تصويرًا لشعور الشاعر، على نسبة وعيه، بنفوس الناس، وما يراه في نفوس الناس، وقد يكون وعي الشاعر كاملًا، وقد يكون ناقصًا، وفي كل حال فالوجهة الوصفية بواسطة الشعور وحده هي ذاتية بحتة «سبيكتيف»، وضيقة جدًّا؛ لأنها تكون منحصرة في نفس الشاعر، وغير متناولة نفوس الناس كما هي نفوس الناس، ولا أشواقها إلى ما تحب أن تكون. أما وصف هذه النفوس كما هي، فيحتاج إلى مقدار غير يسير من علم النفس، وعلم الاجتماع، والفكر الذي يجب أن يلازم الشعور، أو يتقدم عليه، أو يقوده في هذا المسلك الوعر.
فتخصيص الشاعر بالعناية بنفوس الناس، ووصفها بواسطة «الشعور النابض» الذي يوحي الاندفاع مع السجية، أكثر مما يوحي التمعن في الدقائق النفسية، والقضايا التي تتعرض لها النفس ليس تخصيصًا موفقًا، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعرًا. فقد يصف الشاعر عناصر الطبيعة، أو بعضها، أو مظهرًا من المظاهر الطبيعة، أو وقائع حربية، أو غيرها ويكون شاعرًا، أما الشاعر الذي «يصور نفوس الناس» ويُعْنَى بالشئون النفسية فهو ليس أي شاعر، أو كل شاعر، بل شاعرًا ذا صفة خاصة ومنزلة منفردة، وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية.
إن خليل مطران شاعرٌ شاعر، من غير أن يدخل المسائل النفسية، ولعله أضعف ما يكون حين يدخل هذه المسائل. فقصيدة «نيرون» قطعة شعرية خالدة، سما فيها خليل مطران على مستوى عصره (في سورية ومصر) وعلى ما تقدمه من عصور أدب اللغة العربية. ولعل أضعف ما في هذه القصيدة ما تعلق منها بالمسائل النفسية، وشفيق معلوف شاعرٌ شاعر في «الأحلام»، ولم يصور فيها نفوس الناس، وفي «عبقر» وفيها قليل من القضايا النفسية وصُوَرها وأوصافها، أو هي معدمة من هذا القبيل، ولا نجد في «عبقر» «الشعور النابض»، الذي نجده في «الأحلام» إلا في مقاطع خاصة، تدل ميولها البيولجية على عدم النضج النفسي.
ما حدد لشفيق معلوف تعريف الشعر، حدد له إدراك سمو الموسيقى أو عمقها. فتمثيله فائدة الشعر بأنها «لا تتعدى» فائدة سماع قطعة موسيقية جميلة «مطربة كانت أم مشجية»، جَعَلَهُ لا يرى للموسيقى غير ناحيتَي الطرب والشجا. وهذه هي الموسيقى المحدودة، الضيقة، الأولية. هذه هي الموسيقى في نظرةٍ إلى الحياة سَاذَجَةٍ، جامدة، غير جديرة بالارتقاء النفسي ومجد المثال الأعلى الخالد.
الطرب والشجو وحدهما هما من ملازمات الحياة الفقيرة في الثقافة النفسية، وفي الفن، والمناحي الروحية، وقد رأى القارئ مما قدمت نقلًا عن قصة «فاجعة حب»، أن فائدة الموسيقى لا تقتصر على الطرب والشجا، إلا حيث جمدت الموسيقى عند حد هذين الشعورين الأوليين بجمود حياة البيئة روحيًّا وماديًّا. فالموسيقى الراقية تحمل النفس على تأملات فكرية، وثورات روحية، فضلًا عن مختلف العواطف الفردية، التي هي من شئون الحياة البيولجية، أو الجنسية، ولكن هذه الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راقٍ، أو نتاج مخيلة مبدعة قَدَرَتْ بذاتها أن تتصور عالمًا من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألحان، تحتاج بدورها إلى عصر يفهمها. وهذه المخيلة المبدعة يجب أن تكون متأثرة بإحساس بقضايا الحياة عالٍ جدًّا، لا يكون، في الغالب، أو لا يجب أن يكون، إبداعًا خاصًّا بالموسيقي المبدع.
لأشرح هذه النظرية: إن واغنر موسيقيٌّ مبدع ولا شك. وهو في الموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإحساس الحياة المستمَد من الأساطير الجرمانية، وبالقضايا النفسية والفلسفية المنطوية عليها حياةُ أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن، ليس واغنر مبدعًا للنظرة الألمانية إلى الحياة، ولا واضعًا للأساطير الجرمانية، ولكنه مبدع للموحيات، والأمواج الموسيقية المعبرة عن النظرة المذكورة، ولألوان الشعور الفلسفي، الذي أَحَسَّهُ حين قرأ تلك الأساطير، وفهم منها ومن نهضة شعبه المزايا القومية، أو الجنسية الجوهرية، التي جعلته يرى ويُبرز تلك المُثُل العليا الفلسفية، التي نراها تمثيلًا ونسمعها ألحانًا وأناشيدَ في «ولكيريا» و«سيقفريد» و«ذهب الرين» و«تانهويزر» و«لوهنقرن» و«أساتذة الغناء» و«ترستان وإيزلده» وغيرها.
فكان واغنر شاعرًا روائيًّا؛ لأنه نَظَمَ قصائد رواياته الموسيقية، وكان موسيقيًّا روائيًّا فلسفيًّا؛ لأنه ألَّفَ ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة، بأسبابها الشعورية والفكرية المعبرة عن نظرة إلى الحياة عالية جدًّا، ويصعب على الدارس المفكر تصور وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألمانية، وتأثره بنظرة إلى الحياة عاليةٍ، وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية، التي أعطت ألمانيا اتجاهها الصعودي.
وإذا ذهب أحدٌ من أدباء العصر السوري الهالك إلى «أوفرة»، وسمع ألحان واغنر، أَفَيُسَرُّ بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن، إلا أنه يعافها؛ لأنه لا يفهمها، ولا يفهم موحياتها، ولا يدرك قضاياها. وبعد، فليس في قصائد واغنر الموسيقية من الطرب والشجا إلا قليلًا، وأكثر وأهم ما فيها تأملات فكرية، واتجاهات فلسفية، لا يقدر على تتبُّعها مَنْ غرضُه الطرب أو الشجو، ومن لا يجد الموسيقى إلا تعبيرًا عن شعور الطرب وشعور الشجا في مجال ضنك من الحياة تغلب فيه النزعةُ البيولجية النزعةََ النفسية.
ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على إحداث جذل، أو انبساط، أو شجًا فيزيائي الشعور، أو بيولوجي النفسية، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية، التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركبة، بكل ما فيها من أفكار، وشعور، ومطامح، وميول، ومُثُل، وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح، وبين الأسمى والأسفل، وبين الأنبل والأرذل.
لا يكون موقف أديب الجمود والخمول السوري تجاه موسيقى بيتهوفن، أو بخ، أو موسرقسكي، أو ويبر، أو بروكنر، أو تشايكوسكي، أو بردين، أو رمسكي-كرزاكف، أو ستراونسكي، أو شوفين، أو برليوز، أو دبوسي، أو سباليوس، أو دورياك، أو شوبرت، أو غيرهم، غير موقف المستغرب أو المستهجن.
فمنذ سنين سمعت كاتبًا صحفيًّا سوريًّا في سان باولو، البرازيل، ينظر إلى نفسه نظره إلى أديب كبير، يقول إنه دخل مرسح «المونيسيفال» في المدينة المذكورة؛ ليسمع إحدى سنفونيات بتهوفن الطائرة الصيت، فلم يطل به المقام حتى عاف السماع، وخرج من المكان وهو في حيرة من بلاهة الناس الذين يطيقون الجلوس بدون ملل نحو ساعة أو يزيد؛ لسماع موسيقى، لا طرب فيها «لطيب العناق على الهوى»، ولا شجا فيها «لطول ليل الصب» ولشدة سأم «الأديب الكبير» المذكور مما سمع من هزيز، ودويٍّ، وزمزمة، وحفيف، وكشيش، وقرع، وليفرج كربه طلب من صاحب المكتبة السورية التي كان يروي فيها قصته، أن يُسمعه بعض أناشيد المغنية المصرية أم كلثوم المطربة، المشجية! ولم يكتف بذلك، بل صار ينادي صديقًا له مارًّا بالمكان ويقول له: «تعال لنموت بهذا الغناء» وهو لا يدري أنه يقول الحقيقة كلها بعبارته هذه التي استعملها لمعنًى آخر!
مع أن الشعر أضيقُ مجالًا من الموسيقى للتعبير عما تشمله النفس الإنسانية، من فكر، وتصورات، وشعور، ومنازع، فإن ما حدد به شفيق معلوف الموسيقى وفائدتها جعل الشعر نفسه بالمشابهة أضيقَ مجالًا وأقرب قعرًا مما هو، أو مما يمكن أن يكون بعد أن تنجلي لنفس الشاعر نظرةٌ أعلى في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، ومطالبُ أسمى للجمال النفسي، وإحساس أدقُّ بأغراض الوجود، وجوهره المستقر في النفس ضمن الوجود وليس بعد الوجود ولا قبله. فإني أعتقد، بطبيعتي السورية، أن كيان النفس هو في الوجود ولأجل الوجود، مهما كانت طبيعة هذا الوجود في ذاته، ومهما كانت علته، وليس لأجل «الفناء» في «وحدة الوجود».
لا أعتقد أن بلوغ هذه المرتبة يتم للشاعر السوري أو غيره بقراءة سفر أشيعا من التوراة اليهودية، ولا بتقوية الاتصال «بالأدب القديم»، الذي هو تعبيرٌ غامض في ذاته، ولا بإحسان الآداب الأجنبية القديمة التي أوجدت الأدب الأجنبي الحديث، ولا بتوشية الكتب وإتقان الطباعة، بل بالاتصال بمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه، ونفس أمته، ومجتمعه، وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة إلى الحياة، والكون، والفن الملازمة لهذا المجرى، الذي يزداد قوة مع الأيام.