إيزابيل أبرهارد

المدينة هي تونس … الكاتبة هي «إيزابيل أبرهارد» … والرحلة بالغة الغرابة، ليس فقط فيما يتعلق بالمدن التي قررت أن تتجوَّل فيها، رغمًا عنها أو طواعية، ولكن أيضًا رحلة الحياة التي عبَرتها الكاتبة إيزابيل أبرهارد خلال عمرها القصير. وبدت كأنها عاشت مجموعة من الحيوَات البالغة الطول.

***

تنتمي الكاتبة إلى ثقافات عديدة؛ فهي مولودة في سويسرا عام ١٨٧٧م في عائلة من أصل روسي. وكي نتوقف عند ارتباطها الحياتي بعدة مدن، أغلبها عربي؛ فيجب الرجوع إلى ما كتبته عن نفسها قبل أن تموت عام ١٩٠٤م، وهي في السابعة والعشرين من العمر: «لم يوجد الشخص الذي عاش مثلما عشت. فقد كنتُ أحيا يومًا بيوم، وقد دفعني هذا إلى الطريق الذي اخترته لنفسي. فإلى هذا الحد كانت مسألة وجودي بالغة الأهمية.»

وقد ارتبطَت حياة الكاتبة بالمصادفة والمغامرة. لكن كتابتها تبرهن لنا عكس ذلك. فلم تكن «إيزابيل» تترك لنفسها فرصة اتخاذ القرارات؛ ولكنها كانت تتجه، بشكل غريزي، نحو الحدث. وقد ساعدها في ذلك طبيعتها وسماتها العامة التي كانت نتيجتها الترحال في العديد من المدن العربية الكبيرة والصغيرة؛ منها تونس والجزائر، وغيرهما من المدن.

كانت البداية غامضة بالنسبة ﻟ «إيزابيل أبرهارد»؛ فلم يعرف أحد مَن يكون أبوها الحقيقي. قيل إنه طبيب تركي؛ لكن الدلائل تشير إلى أنه الروسي «ألكسندر تريموفسكي» الذي كان وصيًّا عليها، ومعلمًا لها. وقد قيل إنه تبناها وأعطاها اسمه، وحباها برعاية خاصة لم يحظَ بها أولاده الشرعيون.

وقد علَّمها كيف تواجه صعوبات الحياة. ولولا ما تعلمته منه ما أمكنها اختراق الصحراء العربية، والإقامة في مدنها الصغيرة، وأن تحيا حياة سهلة في الجزائر وتونس. وهي تنفض عن نفسها كافة ألوان البهرجة والزخرفة.

لقد اختارت أن تتصرف كرجل، وأن ترتدي ملابس الرجال الخشنة. ليس فقط في منزلها، ولكن عندما تتواجد بين الناس. فقد تعلَّمت أنها يمكن أن تتصرف بحرية أكثر كلما ارتدت ملابس الصبية والرجال.

في طفولتها، قام الأب بشراء حصان لابنته، وراح يعلِّمها كيف تستخدمه. وقد استفادت تمامًا من الفروسية التي تعلمتها وهي تخترق الصحراء ومدنها. كما أن الأب هو الذي علَّمها قراءة وكتابة اللغة العربية الفصحى. والغريب أن الأب لم يكن يسمح لابنته الاتصال بالسويسريين، الذين تعيش أسرته فيما بينهم … كما كان يُكِن ازدراءً ملحوظًا للبرجوازية الأوروبية.

وعندما شبت «إيزابيل» عن الطوق، صحبتها أمها إلى مدينة الجزائر … وهناك أعلنت الأم وابنتها اعتناقهما الإسلام. وفيما بعد أصيبت الأم بمرض دفع الأب للحضور إلى شمال أفريقيا، وهناك وجد ابنته مصابة بحالة من الجنون والصرع نتيجة لعدم قدرتها على الوقوف إلى جوار أمها في محنتها الصحية، أو تخفيف الألم عنها.

وفيما بعد، سافرت «إيزابيل» إلى تونس لقضاء فترة نقاهة على نفقة السلطات الفرنسية. وهناك راحت تعيش كما يحلو لها، فقد كان الآخرون يتعاملون معها كصبي. لذا خالطت الرجال، ونامت وسط جنود الاحتلال الفرنسي دون أن ينتبهوا إلى حقيقتها.

وعقب وفاة أبيها في سويسرا، اكتشفت أن عليها أن تترك كل مظاهر الفخامة التي أُتيحت لها، وعادت مرة أخرى إلى شمال أفريقيا، واختارت هذه المرة الإقامة في تونس ومدنها. دون أن تكون لديها أدنى فكرة عما يمكنها أن تفعله، أو عما ينتظرها. وراحت تدوِّن انطباعاتها عن مدينة تونس وسكانها. وكيف عاش بعض أبناء المدينة في منازل منحوتة في الجبال اتقاء شر الحر في الصيف.

عانت «إيزابيل أبرهارد» في هذه الفترة من ظروف مالية صعبة؛ فعادت إلى فرنسا وقررت أن تكون كاتبة، وفي باريس ابتسمت لها الظروف الحياتية بشكل ملحوظ، خاصةً حين التقت بالماركيزة «مور» التي مات زوجها في ظروف غامضة أثناء حملة عسكرية في جنوب تونس. وقد كانت الماركيزة تود أن تعرف الظروف التي مات فيها زوجها. ورأت أن «إيزابيل» هي الشخص المناسب الذي يقوم بالرحلة في الصحراء، ووقَّعتا معًا اتفاقًا مفاده أن تقوم الفتاة بالعودة إلى تونس. وبالفعل فقد بذلت «إيزابيل» كافة مساعيها لمعرفة أسباب مصرع «الماركيز»، واكتشفت أنه مات منتحرًا.

ساعدتها تلك الرحلة التونسية على الاسترخاء النفسي والمادي: «ما أحلى أن يخلو المرء إلى نفسه في الصحراء. فليس هنا ثمن للاسترخاء.»

كما أن السيولة المالية ساعدتها بدورها أن تكتب المزيد من الكتب والكتابات التي ظلت تنشدها من قبل. وقررت العودة إلى الجزائر، وأجَّرت منزلًا في مدينة «العواد» الجزائرية، وتفرغت للكتابة والتأليف. خاصة عن المدن العربية والأماكن والناس.

وفي مدينة «العواد» بدأت «إيزابيل» تواجه المتاعب مع السلطات الفرنسية، التي تعاملت معها بحذر، وكأنها جاسوسة للمناضلين العرب. وراحوا يرقبونها بحذرٍ شديدٍ، لكن أحدًا لم يتوصل إلى شيء ملموس، بل إن حدثًا غريبًا جعلها بعيدة أكثر عن هؤلاء الفرنسيين، حينما حاول أحد الجزائريين أن يشج رأسها بسيفه، فأصابها في ذراعها. وعندما قبضت السلطات على الرجل وأبرأته «إيزابيل» أصبح صديقًا لها.

ولأن الرجل لم يكن مرغوبًا فيه بالمرة؛ فإن السلطات الفرنسية حاولت إبعادهما عن الجزائر. فقدَّم الرجل، واسمه «سليمان»، طلبًا للسماح بالزواج منها. وعندما رفضت السلطات الطلب لم تجد أمامها سوى العودة إلى فرنسا. وعلمت أن السلطات قامت بالقبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة.

وقررت أن تكتب عنه، وامتلأت الكتابة بوصف المدينة التي افتقدتها كثيرًا، وبدت مصابة بأشد حالات الحنين تجاه الجزائر و«العواد»: «إنها ليست رمالًا، بل هي حبات من الذهب الخالص. وليست بيوتًا، بل هي الدفء الإنساني الذي طالما حلمت به.»

وأثناء الكتابة، قدمت «إيزابيل» العديد من الاحتجاجات من أجل إطلاق سراح «سليمان»، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل. وكان عليها مواجهة مشكلة جديدة، وهي أن النقود التي أخذتها من الماركيزة قد نفدت. فرضيت بمرتب بسيط، واستكملت الكتابة والتأليف. وأخذت تكتب رسائل إلى «سليمان» وهو في السجن. واعتبر النقَّاد أن هذه الخطابات بمثابة تراث أدبي بالغ الرُّقي.

وبعد أن أطلقت السلطات سراح «سليمان» أبحر إلى «مارسيليا»، في عام ١٩٠٢م، وسرعان ما أعلنا زواجهما بعد لقاءٍ حار للغاية. وتم الزواج في جامع مارسيليا. وفيما بعد عاد العروسان إلى مدينة حبهما مرة أخرى. تلك المدينة التي كانت مصدر الوحي لكل كتابتها.

راحت «إيزابيل» تجري الاتصالات بالعديد من الناشرين. واستطاعت أن تنشر كتابها الأول «الأخبار». وقد آمن الناشر «باروكان» أنه أمام شخصية موهوبة. لذا راح يطلب منها كتابة المقالات بشكل متتابع. وقد ساعد ذلك العروسان أن يتخلصا من العثرات المالية التي كانا يواجهانها، وقد أثار هذا الموقف قوات الاحتلال الفرنسية، فراحت تترقب سلوكهما وتحاول الإيقاع بهما.

كان أول شيء هو إبعاد زوجها عنها، وتم إرساله إلى الجنوب. وأصابت الحمَّى الزوجة وهي تعاني من الوحدة. وعندما تماثلت للشفاء راحت تكتب عن أخبار وسلوك الجيش الفرنسي في الجزائر، ولم يكن هذا أمرًا يسرُّ الفرنسيين بالمرة.

وانتقلت الكاتبة «إيزابيل أبرهارد» إلى مدينة عربية جديدة. وهي «عين الصفراء» في المغرب، وهناك عاشت تجربة قاسية. فقد كانت تنام ليلًا في المقاهي. وكتبت حول هذه التجربة تقول: «هناك شيء ما يشدني إلى هذا العالم، تُرى هل أنا امرأة ثائرة؟ … يا لها من فرحة أن يقع المرء على شيء يثير البهجة. فيرفض العبودية والتشرذم، ويعبر الحياة وهو يشعر بحريته كأنه عصفور يحلق في الفضاء.»

لم تعِش الكاتبة في مدينة عربية واحدة، بل انتقلت بين العديد من المدن الصحراوية البسيطة، وبعد أن انتهجت الصوفية، توجهت عام ١٩٠٤م إلى مدينة «قندسا» المغربية من أجل مقابلة المتصوفين في المدينة. خاصة المترددين على زاوية «سيدي إبراهيم ولد محمد»؛ ففي هذا المكان ملتقى سنوي للمتصوفين الذين يأتون من كل فجٍّ بشمال أفريقيا. وفي تلك الفترة كانت المنطقة تشهد توترات متلاحقة مع الاستعمار الفرنسي. لذا تم القبض على الكاتبة. وأُودعت الحبس لمدة أسبوع من قِبل رجال سيدي إبراهيم الذين تصوروها جاسوسة تعمل لحساب الفرنسيين. ثم ما لبثوا أن أطلقوا سراحها، وكان السجن قاسيًا عليها في أثناء الليل ببرودته. فأصابتها حمى شديدة ما لبثت أن أسلمتها إلى بارئها، تاركة وراءها كتابات متميزة عن المدن العربية الصغيرة التي عاشها فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤