ستراتيس سيركاس: رجل النيل

لعبت البيئة العربية دورًا بالغ الأهمية في صناعة وجدان وإبداع الكاتب الذي عاش فوق أرضها مهما كانت جنسية هذا الكاتب، ومهما تباينت اتجاهاته، فقد ظلَّت هذه البيئة يتردد صدَّاها في وجدانه يطارده ويغازل مخيلته؛ فيكتب دومًا عن تأثره بها وعن علاقته الحميمة بها.

***

وقد تباينت النوايا الطيبة والخبيثة التي سكنت في قلب الكاتب وهو يكتب عن علاقته بهذه البيئة خاصة إذا كان قد عاش فوق أديمها، ومن هؤلاء الكاتب اليوناني المعروف «سترايس سيركاس» (١٩١١–١٩٧٠م).

و«سيركاس» من مواليد مدينة القاهرة في أسرة يونانية عاشت فيما بعد بالإسكندرية، ومن أبرز أعماله «أناس غريبو الأطوار» عام ١٩٤٤م، و«أبريل بالغ الصعوبة» ١٩٤٧م، و«نوبة الحصاد» عام ١٩٥٤م، و«رجل النيل» التي استوحاها من إعجابه بالرئيس الراحل «جمال عبد الناصر».

في قصته «الحاوي» يتحدث الكاتب عن شخصية عرفتها الشوارع والحواري المصرية في سنوات القرن العشرين بقوة، إنه الحاوي الذي يمتلك المهارات الخاصة يلم حوله الأطفال والكبار في الميادين، ويقوم بألعاب السِّحر المدهشة، إنه أقرب إلى الصغار، يحس بوجوده بين الآخرين، حتى إذا انتهى من استعراضه، صار وحيدًا بلا أسرة مع قرده الصغير وكلبه.

يصف «سيركاس» بطله أنه لم ينجح منذ أعوام ادخار مليم واحد من أجل الأيام السوداء، وعليه أن يدبر القوت لأسرته الصغيرة التي تتكون من كلبين، وحمار دون أن يأخذ نفسه في الحسبان.

لقد راحت عليه. فالاستعراض الذي يقدمه لم يعد يُعجب الجمهور السريع الملل الذي راح يُعرِض عن هذه الألعاب المكررة، في البداية، كان الناس يضحكون، لكنهم ما لبثوا أن ألِفوا العرض، وكان يجب على رجُلنا أن يغيِّر الحي، وعندما استنفد كل الأحياء، كان عليه أن يغير المدينة حتى يكبر الصبية، وينسى الكبار، ويأتي أطفال جدد.

وتدور أحداث القصة في أثناء الحرب العالمية الثانية، ذات ظهيرة من شهر ديسمبر عام ١٩٤٤م، وجد الحاوي نفسه، مع فرقته في طريقه إلى القاهرة وعلى مسافة ثلاثين كيلومترًا يقيم في مدينة دمنهور لليلة، وتقوده قدماه إلى قطار حربي، توقَّف في الطريق من أجل أن يتناول الجنود بعض المشروبات ويقضون حوائجهم.

إنهم محاربون جاءوا إلى المدينة من أنحاء متفرقة من العالم، وسرعان ما يحدث تآلف بين الحاوي وبين الجنود هم في أمسِّ الحاجة إلى بعض الترفيه، ويغني الحاوي لهم أغنية جميلة باللغة العربية عن الحرية غنَّاها أبناء الشعب المصري لزعيمهم «سعد زغلول» عندما عاد من منفاه، وسرعان ما تُردَّد كلمات الأغنية، بالعربية بين عربات الجنود، بينما ينفجر الضحك عاليًا، ويكتشف الحاوي أن الحرية مثل النيران، سرعان ما تتآلف وتنتشر.

ويطلب الجنود من الحاوي أن يحكي لهم عن المصريين؛ فيُكلمهم أن المصري العظيم لم يتوقف عن الكفاح من أجل قضايا وطنه طوال التاريخ.

هذه الحكايات تُغيِّر من مشاعر البؤس التي استبدت بالجنود، وسرعان ما تتحوَّل إلى شعور عام وسط الجنود اليائسين، الذين يروح كل وطنهم بلغته؛ حيث يغني لهم الحاوي المصري باللغة العربية، عن الحرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤