جوستاف فلوبير: رحلة إلى مصر

ليس لدى الفرنسيين مَن هو أقرب إلى قلوبهم من — المبدعين — قدر الروائي المعروف «جوستاف فلوبير».

***

وليس هناك كاتب أحب المنطقة العربية قدر ما فعل «فلوبير»، ليس فقط لأنه قام بزيارتها في العقد السادس من القرن التاسع عشر، بل لأنه كتب مؤلَّفًا مشهورًا عن هذه الرحلة باسم «رحلة إلى مصر» تم تعزيزها بالعديد من الصور واللوحات التي عبَّر عنها واحد من أهم مصوري عصره، «ماكسيم دوكا» الذي رافق «فلوبير» في رحلته كما أن الكاتب تأثر بأجواء الشرق، عندما كتب رواية «سلامبو» التي دارت أحداثها في شمال أفريقيا، خاصة تونس.

و«فلوبير» الذي عاش بين عامي ١٨٢١ و١٨٨٠م ألفَّ العديد من الروايات المهمة على رأسها «مدام بوفاري» عام ١٨٥١م، أي عقب عودته من مصر؛ حيث أقام في القاهرة مع المصور «مكسيم دوكا» في الفترة من ١٩ سبتمبر ١٨٤٩م، وحتى عام ١٨٥٠م، ومن أهم رواياته الأخرى «التربية العاطفية» عام ١٨٦٤م.

لم يكن الرحيل إلى مصر سهلًا في تلك السنوات، وخاصةً في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

فقد انتشر القراصنة في البحر المتوسط، كما أن حوادث السطو كانت تجعل المغامرين في السفر إلى مصر يترددون عشرات المرات.

وبرغم ذلك؛ فإن «فلوبير» ورفيقه جاءا بناءً على نصيحة من الأديب «نوفال». وبدأت الرحلة في أكتوبر، ووصل إلى القاهرة في نوفمبر، واستمرت حتى يوليو عام ١٨٥٠م.

كان الاثنان في سن متقاربة، الثامنة والعشرين تقريبًا، وما إن وطئت الأقدام أرض مصر، حتى وجد «فلوبير» مَن يُطلق عليه اسم «أبو شنب» باللغة العربية تبعًا لشاربه الغريب الشكل.

جاءت أهمية الرحلة الفريدة، في أن أحد الصديقَين كان يكتب مشاهداته أما الآخر فكان يرسم ما يراه، وجمال هذه التجربة وأهميتها يأتيان من أن الزائرَين موهوبان بقوةٍ وباعتبار أن «رحلة إلى مصر» هي أولى كتابات «فلوبير» الأدبية فقد فوجئ القارئ بمفردات الشاب اللغوية، المرصَّعة بالسخرية حينًا، والدهشة حينًا آخر، والفكاهة والبهجة لدرجة يقال إن الشاب قد استخدم مصطلحات «فلوبيرية» لا تخص أحدًا من الكتَّاب الذين رحلوا إلى مصر.

إنها جُمل تمزج بين الشعور الغربي، والسحر الشرقي، بين المتعة الروحية والحسية، فقد ركب الصديقان النيل، وانطلقا نحو الصعيد، ورقصا فوق صفحة المياه، وزارا المعابد الفرعونية، لم يكن «ديكا» يدَّخر لحظة واحدة دون أن يستمتع وهو يرسم.

هذه الرحلة في وسط القرن التاسع عشر، لم تتوقف عند الفراعين، وآثارهم بل إن الصديقين صعدا إلى بلاد النوبة، والتقيا الناس في وادي حلفا، وهناك استوحى «فلوبير» روايته «مدام بوفاري» التي شرع في تأليفها مباشرةً عقب عودته إلى باريس، وقد اعترف الكاتب أن خرير مياه النيل في وادي حلفا كان يطِنُّ في أذنيه بقوةٍ، وهو يكتب الرواية التي صارت واحدة من أهم الأعمال الإبداعية العالمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤