نيكوس كازانتازاكيس
المدينة هي الطور …
والكاتب هو اليوناني الموهوب «نيكوس كازانتازاكيس».
تمت زيارته لمدينة الطور عام ١٩٢٦م، وكان اسمها حسبما دوَّن المؤلف في كتابه «رحلة إلى مصر» «رينو» حسبما نشر يوميات رحيله إلى مصر تحت عنوان «ترحال».
***
و«كازانتازاكيس» هو مؤلف روايات خالدة منها «زوربا اليوناني»، و«الإغواء الأخير للسيد المسيح»، و«المسيح يُصلَب من جديد»، و«الإخوة الأعداء».
وفي الفصل الخاص بصحراء سيناء كما شاهدها في تلك الحقبة، يعج بالكثير من الرؤى والمشاعر حول شبه الجزيرة، التي شهدت من أحداث التاريخ ما جعلها أرضًا مقدسة لأصحاب العقائد الثلاثة.
وميناء «رينو» كما وصفه «كازانتازاكيس» هو أقرب في وصفه إلى ميناء الطور، فهو كما يقول: «ميناء صغير ساحر في جزيرة سيناء تتبعثر بيوته القليلة على أطراف الساحل، وعلى سطح ذلك البحر الأخضر، تطفو الزوارق الصغيرة الحمراء والصفراء والسوداء، هدوء ممتع. كانت الجبال تكتسي باللون الأزرق الفاتح، والبحر تفوح رائحته العطرية التي تشبه رائحة البطيخ الأحمر، وقد استدار نحو رفيق رحلته الفنان «كالموهوس» وهو يضحك، وقال: لقد ارتكبنا خطأ، ألا ترى؟ لقد جئنا إلى جزيرة إغريقية، لقد جئنا إلى «سيغفو».»
ويصف «كازانتازاكيس» المدينة الصحراوية بمنظورها البسيط البدائي، كأن المدنية لم تقترب قط منها.
«لكن على البعد، تستطيع أن تشاهد أشجار النخيل، وترى جَملَين يظهران أمامك على الطريق بين تلك الأشجار، وكان الجملان يديران رأسيهما نحو البحر للحظة، ويهزان جسديهما وخلال خطوتين أو ثلاث خطوات متمايلة يختفيان بين البيوت.»
«مشينا، وقلبانا يتراقصان ونحن نطأ الرمل الناعم. هل يمكن أن تكون هذه الروعة البسيطة الهادئة مجرد حيلة من حِيَل أفكارنا؟ كان الرمل ممتلئًا بالأصداف البحرية الضخمة، الأصداف البحرية التي اشتهر بها البحر الأحمر. أما البيوت فكانت قد بُنيَت من جذوع الأشجار التي تُستخرج من البحر، ومن المرجان الكلسي «الجيري» والإسفنج، ومن نجوم البحر، والأصداف الفخمة، أما الناس فقد كانوا متألقين بعيونهم اللوزية، وبشرتهم الداكنة، وجلابيبهم البيضاء المتهدِّلة، وكانت فتاة صغيرة بلون الشيكولاتة تلعب على ذلك الشاطئ الرملي الأبيض، وهي ترتدي ثوبًا مُزيَّنًا بأغصان نبات البوجنفليه «الأمريكي».»
وبرغم أن مدينة الطور تقع في أطراف سيناء الجنوبية عند منطقة التفريعة؛ فإن «نيكوس كازانتازاكيس» في كتابه «ترحال» قد لاحظ أنه في عام ١٩٢٦م كان هناك العديد من البيوت الأوروبية المصنوعة ذات الشرفات والحدائق المتناظرة المتشابهة، إضافةً إلى بعض علب الفواكه المتناثرة في الشوارع. وكانت هناك امرأتان تمارسان القراءة تحت مظلتَين خضراوَين كبيرتَين، وكانت بشرتاهما البيضاء القاتلة تجعلك تتلهف شوقًا إليهما.
وشاطئًا بعد آخر، وصلنا في النهاية إلى مُلحقية سيناء، ومن هنا يتوجَّب عليك أن تركب الجِمال للانطلاق نحو جبل «الطور» الجبل الذي وطئه الله، هناك ساحة كبيرة مُحاطة بواقع الرهبان، وبيوت الضِّيافة، ومدرستان إغريقيتان للبنات والأولاد. ومخازن، ومعصرة للزيوت، ومطابخ، وفي منتصف الساحة تنتصب الكنيسة. ويُتوِّج كل هذا المشهد أعظم معجزات هذه البرية كنيسة «الأرشمندريت» ذلك المكان الدافئ، والعجيب لقلبِ كل إنسان.
الكاتب «نيكوس كازانتازاكيس»، ينطق اسم جبل الطور باسمه العربي، لكنه يلقِّب المدينة باسمها القديم، وهو يتوقف عند المكان باعتبارها بؤرة تاريخية قديمة، التي جاءتها أجناس عديدة عبر الزمان، وذُكرَت في الكتاب المقدس، ثم يردد: «كأن البحر الأحمر يتألق ويلتمع من خلال النافذة. وفي الجهة المقابلة، كانت جبال الطور الغارقة في الضوء تتراءى لنا من خلال الضباب.»
ويستكمل رحلته مرددًا أن الرجال الثلاثة الذين يقودون الجِمال هم «صفحة» و«منصور» و«عودة».
«كانت مهمة هؤلاء الرجال أَخذِنا إلى قمة جبال سيناء، وقد وصلوا بجلابيبهم الملونة، وكانوا يرتدون قبعات منسوجة من وبر الجِمال على رءوسهم، وكان كل واحد منهم متقلِّدًا بحزام الكتف. كانوا بدوًا ممشوقي القوام. نحيلي الأرجُل، بعيون مستديرة، كعيون الصقر … وقد قاموا بتحيتنا بوضع أيديهم على قلوبهم، وشفاههم وجِباههم.»
ومن المعروف أن «كازانتازاكيس» يميل إلى أن يصف المكان، من خلال ما يتَّسم به من مكانة في التاريخ، أما الأشخاص، فيتحدث عنهم من خلال وجهة نظره كروائي، وكأنه يكتب نصًّا إبداعيًّا يُعبِّر فيه عن رؤيته للبشر.
«وكان كل واحد منهم يقود جَمله، وكان كل جَمل يحمل على سنامه الطعام، والخَيمة والمعاطف العسكرية، والبطانيات — أي عدَّة الرحلة — فقد كان يتحتم علينا أن نبقى في الصحراء ثلاثة أيام بلياليها.»
«تعلَّمنا بضع كلمات. وهي أهم الكلمات التي لا غِنى عنها خلال إقامتنا مع هؤلاء البدو، التي دامت ثلاثة أيام، وهذه الكلمات هي: النار، الماء، الخبز، الله، والملح.»
«وقد أنيخت الجِمال بهوادجها ذات الأشرطة الأرجوانية والسوداء، وهي تئن بسخطٍ، وكانت عيونها الجميلة تلتمع بأنَفة لا رِقة فيها.»
لم يتوقف الروائي «كازانتازاكيس» طويلًا عند مدينة الطور؛ فهي مدينة قليلة البشر، بُنيَت وسط الصحراء، لكنه كان مبهورًا بالصحراء التي تمتد من حولها، والتي قام بالسفر في أدغالها مع مجموعة من مرافقِيه، خاصة رجال الدين، ومنهم الشَّماس القبرصي «بوليكاريوس» الذي كان يقوم بإحضار التمر في إحدى القُفف، وقام بتوزيعه على البدو والجِمال.
يقول الروائي اليوناني، كأنه يكتب نصَّه الإبداعي، أكثر منه وصف للمكان على طريقة أدب الرحلات: «انطلقنا في رحلتنا؛ حيث غرقنا كليًّا في هذه الصحراء التي لا نهاية لها، وفجأة، وبعد خطوة واحدة من الدير، أصبحت الصحراء تبدو رمادية مترامية وقاحلة.
كان إيقاع خُطى الجِمال المتماوج والصبور يمتد إلى أجسادنا، وكأن الدم ينظم إيقاع حركته مع هذا الإحساس، وحين يفيض الدم ويتدفق تسري الروح في جسد الإنسان، وكان على الوقت أن يحرر ذاته من المهاجع الرياضية، نسبةً إلى علوم الرياضيات، التي حشر نفسه فيها، بناءً على الذهنية العقلانية الغريبة. هنا مع تأرجح «سفينة الصحراء» يجد الوقت إيقاعه الأزلي؛ حيث يصبح إحساسًا متدفقًا غير مرئي، إنه دوار صوتي خفيف يحوِّل الفكر إلى حلم يقظة وموسيقى.»
وكما أشرنا فإننا أمام نص إبداعي، ولعلَّ هذا هو السبب الذي دفع بالجريدة اليونانية «أليجنيروس لوجوس» أن تدفع تكاليف سفر «كازانتازاكيس» كي يزور المنطقة للكتابة عنها.
لقد امتدت الرحلة من الصحراء إلى الجبال، التي يقول الكاتب أنها تخلو من الماء والحميمية: «الجبال التي تحتقر الإنسان وتغتصبه، فجأة سمعنا صوت طير حجل برِّي وهو يضرب بجناحَيه مطلِقًا صوتًا نُحاسيًّا على نتوءات الكهوف الصخرية، وبين فينة وأخرى، كان أحد الغربان يُحلِّق فوق رءوسنا بحركة دائرية وكأنه يريد أن يتشمَّمنا قبل أن يفكر بما يتوجَّب عليه فعله.»
وكما سبق الإشارة؛ فإن الكاتب يعود دومًا للحديث عن الناس، خاصةً سكان المدينة، وما حولها من واحات صغيرة: «إذا مررت بواحة نخيل لرجل غريب، وأكلت من ثمرها، وتركت بذور التمر على شكل كومة حول الشجرة؛ فإن صاحب واحة النخيل سيُسرُّ كثيرًا، لأنه أحسن لعابر سبيل جائع؛ لكن إذا وجدت بذور التمر متناثرة بعيدًا عن الشجرة؛ فإن صاحب الواحة سوف يغضب كثيرًا، ويبدأ بمطاردة اللص، ويثأر لنفسه من جِماله وماشيته.»