سام دونكان: «السويس»

المدينة هي «السويس» …

والمؤلف هو «سام دونكان» …

فرنسي الجنسية. عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كتب ما يُسمى بالرواية الشعبية، وزار مصر إبان حفر قناة السويس، وله العديد من الروايات ومنها: «قطار نحو الغرب»، و«المجد الباقي»، وغيرها.

***

ليست لدينا معلومات مؤكَّدة عن ميلاد الكاتب ووفاته، وحياته الخاصة … لكن كل ما يُذكر للمؤلف هو روايته الشهيرة التي تحمل عنوان «السويس» عام ١٩٣٨م، وشاركته البطولة الممثِّلة «لوريتا بونج»، و«آنا بيللا». والفيلم من إخراج «آلان داون».

وهذا الفيلم هو السبب الأول الذي لفت الأنظار إلى المؤلف «سام دونكان» الذي كان قد رحل عن عالمنا في ذلك العام. وبسبب الفيلم وحده ظل «دونكان» في دائرة الضوء، أما الرواية نفسها فقد اختفت في التاريخ، ولم يَعُد أحد يذكرها إلا مقرونة بالفيلم.

تحمل الرواية اسم مدينة السويس، والمدينة التي تدور الأحداث فيها تختلف تمامًا عن المدينة التي نعرفها اليوم. أو في القرن الحادي والعشرين. تلك المدينة المزدحمة الآن بالبشر القادمين من الدلتا ومن أنحاء مختلفة من الوطن.

ليست المدينة، كما صوَّرها المؤلف، سوى حلم للمهندس الشاب الفرنسي «فرديناند ديليسيبس» الذي راح يردد، وهو في سفينة متجهة نحو الإسكندرية في زيارة لمصر لأول مرة: إنه حلم … لكنه ليس مستحيلًا.

لقد أخذ يفكر في إمكانية حفر قناة صغيرة تربط بين البحرين الأبيض والأحمر، ويمكن للسفن أن تعبر بسهولة إلى الهند؛ فلا تقطع تلك المسافة الطويلة التي تتم حول إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح.

وطوال الطريق من مارسيليا إلى الإسكندرية، ثم من الإسكندرية إلى القلعة كي يقابل الوالي العجوز «محمد علي باشا»، لم يَكُّف عن مراجعة التصميمات الهندسية التي جاء بها معه. ووصل «فرديناند» إلى القلعة، كان اللقاء.

ردد الشاب الفرنسي وهو يدقق في وجه الوالي: يا إلهي، لقد صار عجوزًا.

وقرأ على ملامحه صورة الصقر الكَهل، الذي ركب جنوده البلاد إلى الجزيرة العربية، والبلقان. إنه إمبراطور شرقي يذكِّره ﺑ «نابليون بونابرت».

ولم يكن اللقاء كما توقَّع، فالوالي مريض، ولم يستطع أن يستوعب المشروع الذي جاء به «ديليسبس» كاملًا. ومع ذلك فإن الشاب لم يفقد الأمل. وسأل أين «إبراهيم باشا»؟

وجاء الرد: إنه خارج البلاد … سوف يعود قريبًا.

وفي الليلة الأولى التقى بالأمير الشاب «سعيد» الذي درس في فرنسا، والتقاه ذات يوم هناك، قال له الأمير: أحوال الباشا الكبير الآن لا تسمح له أن يفكر في هذه المشاريع الضخمة.

وأحسَّ المهندس الشاب بالحزن، وقرر العودة إلى بلاده، وأثناء الرحلة فقدت مصر واليها «محمد علي» الذي استطاع أن ينقلها من عصور قديمة، كي تبدأ دخول التاريخ الحديث.

وردد المهندس الشاب يومها: الأحلام لا تموت.

وكان عليه الانتظار، وظل كلما تطَلَّع إلى أوراق المشروع يحس بأن الوقت لم يحن بعد. وانشغل «فرديناند» في أمور حياته الخاصة والعملية إلى أن عرف بالخبر، أن صديقه القديم الأمير «محمد سعيد باشا» قد صار حاكمًا لمصر، فردد في داخله: لقد تَحمَّس للفكرة وأخبرني أن الأحلام لا تموت.

وقرر المهندس الشاب أن يرحل مرة أخرى إلى مصر، لكنه أراد أن تكون إقامته، هذه المرة طويلة حتى يتمكَّن من أن يعرض على الخديو مشروعه متكاملًا. إنه ليس مشروعًا بسيطًا. وكم من محاولاتٍ فشلت من قبل، بادعاء أن البحر الأبيض مستواه أعلى من البحر الأحمر. لكن حسب الدراسات التي قام بها؛ فإنه عرف أن البحرين لهما نفس المستوى، وأن البحر الأبيض لن يُغرق البحر الأحمر، إذا تم فتح قناة فيما بينهما.

وسعى «ديليسبس» إلى المسئولين في بلاده أن يسافر إلى القاهرة، كي يعمل قنصلًا عامًا للبلاد هناك. وعرض مشروعه على القيادات، فكان الجواب بالقبول، برغم أن «ديليسبس» مهندس مدني.

وسافر الرجل إلى القاهرة، هذه المرة كقنصل عام لفرنسا. وهناك كان اللقاء حميمًا بين الصديقين، وقال الخديو في أول لقاء: لم أنسَ مشروعك، لقد فكرت فيه دومًا فقط كنت أنتظر الوقت المناسب.

سكت الخديو قليلًا، وراح يفكر في الموقف؛ فهو رجل لا يتمتع بنفس القوة التي اتَّسم بها أبوه الباشا «محمد علي» الذي لم يكن في حاجة للرجوع إلى السلطان العثماني. الآن تغيرت الأمور كثيرًا، وعلى الحاكم الشاب الرجوع للسلطان العثماني.

قال القنصل «فرديناند ديليسبس»:

الآن أمامي مُتَسَّع من الوقت. المهم أن صاحب الجلالة الخديو قد وافق.

ولم تتأخر موافقة السلطان، وعمَّ البلاد إحساس عام بالفرحة. وانتقلت أحداث الرواية إلى منطقة السويس؛ حيث أن بداية الدراسة والحفر تثبتان في المقام الأول أن العمران سوف يصل إلى المنطقة. وسوف تتحول منطقة السويس إلى مدينة يحضر إليها المصريون من مختلف الأنحاء، وتتحول تلك الصحراء إلى عمران.

وحسب الرواية التي كتبها «سام دونكان»؛ فإن العائلات المصرية قررت الذهاب للمشاركة في بناء مدينة السويس، وحفر القناة من حولها، والغريب أنه ليست هناك إشارة إلى أعمال السُّخرة ليست هناك إشارة إلى أعمال السُّخرة التي عرفها المصريون أثناء حفر قناة السويس طوال عشر سنوات.

الرواية مكتوبة على لسان كاتب فرنسي يحاول أن يؤكد أن «ديليسبس» بطل قومي فرنسي؛ ولذا يحاول أن يبعد كافة السلبيات عن ما تمَّ من ممارسات غير إنسانية في تلك الفترة. ويعزي المعاناة التي عاشها العُمَّال المصريون إلى قسوة الطبيعة في منطقة السويس أثناء الحفر.

وحسب رواية «السويس» ﻟ «سام دونكان»؛ فإن ريحًا عاصفة هبَّت بجنون على المكان. فكانت شديدة الغُبار، واستطاعت أن تقتلع الخيام من أوتادها، كي تلقي بها وبالأسر التي تسكن فيها مع ذرات الرمال التي تتحرك داخل دوامة. ولم ترحم الكبار، والصغار معًا. ومات في هذه الليلة شديدة القسوة مئات من العُمال، حسب وقائع الرواية، ولم يستطع أحد أن ينقذ عزيزًا لديه؛ لأنه كان في حاجة إلى من ينقذه هو، وعليه فقد دُفِن هؤلاء جميعًا في موقع الحفر.

وتحاول الرواية أن تؤكد على إنسانية «فرديناند ديليسبس». الذي لم يكن هناك في تلك الليلة، لكنه ردد حين وصلته الأنباء السيئة: ليتني كنت معهم، ودُفِنتُ إلى جوارهم.

إذَن، فمن مغالطات الرواية أنها أكسبت الفرنسيين سمات إنسانية، على غير المعروف عن الفرنسيين، حين يمارسون الاستعمار، أو حين تكون في أياديهم زِمام الأمور. وقد أكَّد التاريخ أن الفرنسيين كانوا يودُّون الانتهاء من المشروع بأي ثمن. خاصة أن البلاد قد عرفت بعض القلاقل السياسية في بداية حكم الخديو «إسماعيل». وأحسَّ «ديليسبس» بالخوف من تكرار ما حدث مع الباشا الراحل «محمد علي»؛ لذا كان عليه أن ينتهي من المشروع مهما بلغت التضحيات. طبعًا من المصريين.

حيث تؤكد الإحصاءات أن أكثر من اثنتَي عشر ألف عامل لقَوا مصرعهم أثناء سنوات الحفر العشر في ظل ظروف العمل القاسية. فالمياه كان يتم الحصول عليها بصعوبة، ولم تكن جودة الطعام تكفي رجالًا يعملون تحت الشمس الحارقة صيفًا، والرياح القاسية شتاءً لساعات طويلة وأغلبهم كان يعمل بدون أجر.

والبطل في هذه الرواية بالطبع هو «فرديناند ديليسبس»، أما المصريون فهم شخصيات هامشية، خاصةً كل من الخديو «سعيد»، وأخيه الخديو «إسماعيل»، فهما بمثابة عوامل مساعدة لتحقيق الحلم الفرنسي. ﻓ «فرديناند» هو رجل فرنسا في مصر.

وهو ينفِّذ سياسات بلاده باعتباره القنصل العام، وصاحب المشروع التاريخي الذي يجب أن يسهر عليه حتى يتم تنفيذه.

وفي أثناء السنوات العشر، عرفت المنطقة العمران، وبُنيَت الخِيام إلى جوار الأكواخ، وعندما اشتدت الظروف المناخية قسوةً، قرر الناس بناء البيوت من الطوب الذي يواجه الرياح. وشيئًا فشيئًا جاءت النساء لتسكن هناك إلى جوار أزواجهن. وأُقِيمت الأُسر، وجاء أوان الافتتاح، وأمر «إسماعيل» ببناء المدينة، بل ومدينة أخرى حملت اسمه، وتمَّ بناء المدينة الثالثة التي حملت اسم أخيه.

ومن المعروف أن «ديليسبس» قد بقي في المنطقة لسنوات قليلة فيما بعد، ثم رحل إلى أمريكا اللاتينية، كي يستثمر نجاحه. فقام بحفر قناة توصل بين المحيطين الأطلنطي والباسفيكي، عرفت باسم «قناة بنما».

والرواية التي كتبها «سام دونكان» دارت أحداثها فقط في مدينة السويس، ولم تذهب مع المهندس الفرنسي إلى بنما. ولعلَّ السينما الأمريكية قد وقفت فقط عند السويس، لكنها لم تنس للرجل أنه شقَّ قناة بنما.

الجدير بالذكر أن النقَّاد نظروا دومًا إلى رواية «السويس» ﻟ «سام دونكان» على أنها رواية استعمارية تخدم أغراض الاستعمار؛ لذا فإن أمثال هذه الأعمال لم تعِش طويلًا وسرعان ما اختفت من التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤