جون لوكاريه: الطبَّالة الصغيرة
«تشارلي» هو اسم ممثلة بريطانية، اختارها عميل الموساد «كيرتز» من أجل القيام بعملية تجسس لاصطياد المناضل الفلسطيني «خليل» الذي حيَّر رجال الموساد في أوروبا بعملياته الفدائية، التي أقلقت مضاجع الإسرائيليين في كل أنحاء العالم.
***
حدث ذلك في رواية «الطبَّالة الصغيرة» للكاتب البريطاني «جون لوكاريه» المنشورة عام ١٩٨٣م، والتي أثارت الكثير من الانتباه والجدل حين نُشرت في فترة حاسمة من الصراع العربي الإسرائيلي.
الكاتب الذي زار معسكر «عين الحلوة» بعد الغارات العدوانية على لبنان في عام ١٩٨١م، أراد أن يعرف الكثير عن مناطق الصراع بين العرب وإسرائيل؛ فلم يكتفِ بالقراءة من الملفات أو تقارير الاستخبارات البريطانية، بل قرر أن يأتي بنفسه إلى منطقة الصراع، وأن يقابل أطراف المواجهة سواء الزعماء الفلسطينيين، أو رجال الحكومة الإسرائيلية في تلك الآونة. ومن أبرز من قابل: «أبو عمار».
بل إن «لوكاريه» راح إلى مناطق المخيَّمات الفلسطينية في جنوب لبنان وغيرها من أجل الالتقاء بأبناء المخيَّمات من الشعب الفلسطيني، ومن خلال هذه المقابلات استوحى شخصيتَي المناضلَين الفلسطينيَين «خليل» و«سالم» — من مناضل فلسطيني يُدعى «صلاح» — اللذَين قاما بالعديد من العمليات الفدائية، ووضعتهما الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد» في مصافِّ الدرجة الأولى من المطلوب القبض عليهم أو التخلُّص منهم.
الرواية ليست عن الانتصارات الموسادية التي تحاول إسرائيل أن تهلل لها في الإعلام العالمي، بقدر ما هي عن المواجهة بين العقلية العربية والإسرائيلية في مواجهة الصراع. ولا بدَّ من السؤال حول المصداقية التي يكتب بها روائي بريطاني دأبَ في رواياته كلها أن يمجِّد المعسكر الغربي وأتباعه، مثل إسرائيل، في كافة رواياته.
حدث ذلك منذ روايته الأولى الشهيرة «الجاسوس الذي أتى من الصقيع» المنشورة عام ١٩٦١م، حول هروب جاسوس غربي عبر حائط برلين، وكان بذلك أول من قام بمثل هذا العمل عقب أن بنى المعسكر الشرقي في تلك الآونة جدارًا يفصل بين المدينة الألمانية «برلين». وبعد نجاح هذه الرواية نشر «لوكاريه» مجموعة روايات تمجِّد استخبارات بلاده، وهذا أمر طبيعي للغاية في روايات مثل «جاسوس نقي»، و«نداء الموت»، و«تلميذ شريف»، و«عشيرة سمايلي» و«المنزل السري»، «المنزل الروسي» وأخيرًا «مدير الليل»، وذلك قبل أن يتجه لكتابة الرواية البوليسية في الفترة الأخيرة.
وكان علينا أن نترقب رواية «الطبَّالة الصغيرة» بالكثير من الحذر والريبة.
وبالفعل فإن العملية التي دبَّرها عميل الموساد «كيرتز» لاصطياد المناضل الفلسطيني قد تمت بنجاح وأمكن اغتياله، وهو في غرفة الممثلة البريطانية «تشارلي» لكن الكاتب سجل هدفًا شكليًّا لصالح الموساد في مقابل الكشف عن الفظائع التي يرتكبونها أثناء عملياتهم، والأساليب الوحشية التي يقومون بها، في مقابل الكشف عن أحقية الفلسطينيين في القيام بعملياتهم الفدائية.
ﻓ «خليل» لم يمت هنا كرجل «ضد»، بل هو شهيد يدافع عن حقه في العودة إلى وطنه، وقد بدا ذلك أثناء زيارة «تشارلي» إلى المُخيَّم الفلسطيني في جنوب لبنان.
تجيء أهمية رحلة تشارلي أنها ممثِّلة مبتدئِة، تبحث عن فرصة للنجاح، ويمكنها أن تتقمص أي شخصية. ويختارها الكاتب مُحطَّمة العواطف، لا تكاد تعرف شيئًا عن السياسة الدولية، وبالطبع القضية الفلسطينية؛ فهي ليست مع أو ضد، وهي لا تتحمس في البداية للقيام بهذه العملية، إلا بعد أن يهددها «كيرتز» بماضيها وفي مستقبلها أيضًا.
العملية التي عليها أن تقوم بها هي القبض على المناضل «خليل». والحكاية أن الموساد قد تمكَّنت من القبض على الشاب الفلسطيني المناضل «سالم» عقب إحدى العمليات الفدائية وليس الهدف بالنسبة لهم هو «سالم»، بل شقيقه «خليل» الذي لا يعرف أحد أين هو؛ ولذلك فلا بد أن تسافر «تشارلي» إلى المُخيَّم الفلسطيني باعتبارها صديقة ﻟ «سالم» وتسعى للتعرف إلى أسرته، من أجل استدراج «خليل» ودخول عالمه بعد معرفة مكانه.
ونحن لا بد أن نروي أسباب الرحلة التي قامت بها الممثلة البريطانية، لمعرفة مقدار التحوُّل النفسي والإنساني لشخصيتها عقب إقامتها في معسكر «عين الحلوة»، ولا يبدأ هذا من فراغ، بل إن الفتاة تعلن مساندتها لقضايا التحرر الفلسطيني، وتنضم إلى مؤسسات تُناصر القضية الفلسطينية في أوروبا، وذلك قبل أن تقوم إحدى هذه المؤسسات بإرسالها إلى لبنان كي تتعرف على القضية عن قرب وبشكل حقيقي.
وتسافر «تشارلي» إلى الجنوب اللبناني وتصل إلى المعسكر الفلسطيني، وتفاجَئ بالرؤية الأولى، فأصحاب هذه الوجوه الذين يسكنون الخيام ليسوا إرهابيين كما تُصوِّر وسائل الإعلام الغربي الفلسطينيين دومًا بأنهم دمويون، وترقُب سُبل المعيشة هناك، وتعرف أن هؤلاء البشر البؤساء كانت لهم بيوت يسكنونها هناك، خلف الحدود الإسرائيلية، لكن قوات الاحتلال طردتهم، وصاروا يعيشون هنا كأنهم في بداية التاريخ. يعتمدون على المعُّونات التي تأتيهم من العالم عبر الأمم المتحدة.
وتتغير النظرة تمامًا بعد أن تلتقي بالفتاة الفلسطينية «فاطمة»، إنها فتاة على قدر عالٍ من الثقافة، وليست فتاة محدودة التفكير، مثلما يمكن لأي إنسان أن يتصور، وهذه الفتاة هي شقيقة كل من المناضلَين «سالم» و«خليل»، إنها تتكلم عن أخوَيها بإعجاب ومحبة. فبينما الشباب الآخرون في كل العالم يتمتعون بشبابهم؛ فإن أخوَيها يَنذران حياتهما من أجل توصيل قضية شعب متشرد مطرود من وطنه، إلى كل أنحاء العالم.
وأهمية هذه الزيارة بالنسبة ﻟ «تشارلي» وللقارئ أنها بمثابة تحول من الجهل بالقضية إلى المعرفة بجوانبها الحقيقية؛ فالفتاة البريطانية تتجول في عين الحلوة وتتحدث إلى الأطفال، والشيوخ، وأيضًا إلى الأمهات اللائي فقدن أولادهن في العمل الوطني، وتكتشف أن المعسكر يخلو تقريبًا من الشباب، مثل «خليل»، وأن هؤلاء الشباب لا بدَّ أنهم في مهام من أجل الوطن. إذَن فليس «سالم» الذي رأت الإسرائيليين يُعذِّبونه، حين أخذوها إلى حيث حبسوه، ليس إرهابيًّا مثلما صوروا لها، بل هو مناضل، برغم ما ردده «كيرتز» وتابِعه «جوزيف» الذي حاول أن يفرض عليها مشاعره العاطفية كي تقوم بالعملية على خير وجه.
ومُخيَّم «عين الحلوة» الفلسطيني الذي تزوره «تشارلي»، ليس سوى واحد من مخيمات فلسطينية عديدة متناثرة في لبنان والأردن، تشرَّد سكانه منذ سنوات طويلة، هي معسكرات بعيدة عن العمران البشري، حتى يظل كل منها محتفظًا بهويته الفلسطينية، فلا تضيع الشخصية ولا القضية، وهي معسكرات مُقامة في مناطق جبلية بعيدًا عن أي خدمات عمرانية، وقد صارت بمثابة الوطن المؤقت بالنسبة للفلسطيني الذي يذهب إلى الشتات، ثم يعود مرة أخرى كأنها الوطن البديل.
ولا شك أن الزيارة التي قامت بها «تشارلي» إلى المخيَّم، فريدة من نوعها في الأدب العالمي، وإذا كان أدباء العالم يأتون إلى المدن العربية من أجل التعرُّف على المدن والسياحة في دروبها؛ فإن زيارة «تشارلي» لم تكن بدافع السياحة، بل هي في منظور «كيرتز» شكل من أشكال التجسس، وهي في منظور «خليل» اندماج للمرأة البريطانية داخل الوجه الحقيقي للقضية، أما بالنسبة ﻟ «تشارلي» نفسها فهي تحوُّل وهي التي لم تكن تعرف شيئًا بالمرة عن الصراع في هذا الركن من العالم.
وأهم ما في الرواية، ونحن نتحدث عن صورة المسلمين في الأدب العالمي، أن المؤلف «جون لوكاريه» قد وصف المعسكرات كما رآها بعينيه من أجل أن يتعرف القارئ العالمي على حقيقة الحياة في المعسكرات الفلسطينية، المليئة بالبؤس والفقر والمتاعب الاجتماعية، ونحن نتوقف عند هذه النقطة لأن «لوكاريه» كاتب مقروء بشكل واسع الانتشار، كما أن العديد من رواياته تحوَّلت إلى أفلام ناجحة، ومنها رواية «الطبَّالة الصغيرة» التي أخرجها «جورج روي هيل» في فيلم عُرض كثيرًا في القنوات الفضائية.
وتغادر «تشارلي» المُخيَّم، وقد عقدت صداقة متينة مع «فاطمة»، وقد أحسَّت أن لها مشاعر مع أناس كان من المفروض أن تتجسس عليهم، لكن هل يمكنها أن تستفيد من هذا التحوُّل؟
بالطبع لا … فحين تعود إلى أوروبا، تدور الأحداث في اليونان باعتبار أنها الأقرب إلى الشرق الأوسط؛ فإن المرأة تجد نفسها أمام «كيرتز» الذي يهددها في مستقبلها كممثلة تحاول أن تكون ناجحة، وبالتالي فهي مغلوبة على أمرها، تنساق إلى العملية التي يدبِّرها «كيرتز» و«جوزيف» كمن ينساق إلى المقصلة دون أن يكون لديه الاختيار فيما هو مسيَّر إليه.
إذَن، فرغم أن الفتاة سوف تسوق رجال الموساد إلى مكان «خليل» الذي يتم اغتياله؛ فإن الكاتب قد حوَّل الدفة إلى الناحية الأخرى، حين صارت بطلته ضحية الابتزاز والمؤامرات، وهي تعرف جيدًا أن «خليل» ضحية حقيقية، وأن الأشرار هم رجال الاستخبارات الإسرائيلية، وتبدو في نهاية الأحداث منهزمة تمامًا، وقد تحوَّلت إلى حطام امرأة.
حاول الكاتب البريطاني «جون لوكاريه» إرضاء وسائل الإعلام الغربية، باعتبار أن الرواية موجَّهة في المقام الأول إلى قارئها، ولكنه من جانب آخر راح يُرضي ضميره ككاتب؛ فجعل القارئ يتعاطف مع «تشارلي»، وبدا رجال الموساد أشبه بالأشباح الخالية من الحياة، وهم في الرواية أدوات قتل فعَّالة، لم ينجحوا في التخلص من خصومهم، ولكنهم أيضًا يقتلون كل المشاعر الحيَّة لدى المرأة البريئة. فاستغلوا براءتها، لابتزازها ودفعها إلى ممارسة كل ما هو ضد مبادئها وضد الناموس البشري.
من المهم الإشارة إلى أن رواية «الطبَّالة الصغيرة» قد صدرت في روايات الهلال في ترجمة كاملة قام بها الراحل «عبد الحميد فهمي الجمَّال».