باخيش بابايف: توت عنخ آمون
اعتدنا أن يأتي أدباء من الغرب إلى المدن العربية، وزيارتها بشكل عابر أو دائم، ثم الكتابة عنها، خاصة القيام بتأليف روايات أدبية.
والملاحَظ أن الروايات التي وصلتنا أغلبها قادم من أوروبا، أو الولايات المتحدة، ربما من أجل لغات تلك البلاد، لكن قليلة، بل نادرة، هي الأعمال التي وصلتنا عن اللغة الروسية على سبيل المثال.
***
والروائي «باخيش بابايف»، هو أحد أدباء روسيا المعاصرين، وقد قامت الشاعرة سهير المصادفة بترجمة روايته «توت عنخ آمون» عن اللغة الروسية، وهي حسبما كتبت المترجمة: «كانت أول ما كتب «باخيش بابايف» بعد اعتكافه على التاريخ المصري لأكثر من عشرين عامًا، وقد حقق صدورها حجم مبيعات لا تضاهيه مبيعات أشهر الكتب، لأشهر الكتَّاب في الاتحاد السوفييتي سابقًا. ونفدت الطبعة الأولى بعد صدورها بأيام قليلة، وبِذا حقق الشاب من كتابه الأول هذا نجاحًا ساحقًا، وشهرة عظيمة، كأن الملك الشاب «توت عنخ آمون» يرد له حبه أضعافًا مضاعفةً.»
إذَن، فنحن أمام كاتب شاب لمع في الثمانينيات في الاتحاد السوفييتي، ولم تصلنا أي معلومات عن رواياته التالية.
ويقول المؤلف «بابايف» أن كل شخوص هذه الرواية حقيقية، وقد يكون للأحداث التي فكَّر فيها المؤلف مكان في الماضي السحيق؛ فالكثير من الحقائق قد ضاع إلى الأبد مع التشويه المتعمَّد، وتخريب آثار هذه الفترة من قِبل الملك «حور محب» الذي تولى الحكم بعد ذلك، والذي لم يترك لنا ما يمكن أن نعرفه عن هذه الفترة إلا النذر القليل.
وتدور أحداث الرواية في عصر الأسرة الثامنة عشر، وتحديدًا، حول الملك الشاب «توت عنخ آمون» الذي تم تتويجه وهو في التاسعة من العمر تحت اسم تب–خبرو–رع، وهو الملك الذي كان مجهولًا تمامًا إلى أن اكتشف الأثري البريطاني «هيوارد كارتر» مقبرته عام ١٩٢٣م، وفاق ما وجد بها الخيال، فلقد كان حجم الذهب وحده مساويًا للذهب الموجود في أسواق موسكو في السبعينيات. لكن الشيء الوحيد الذي أثار دهشة العالم، هو باقة الزهور الحقيقية المتواضعة التي كانت تنام بسلام على صدر المومياء، كأجمل قلادة في العالم، دون أن تفقد طبيعتها عبر آلاف السنين، لتصبح رسالة رائعة، تعكس المشاعر الإنسانية، والحب والرحمة، وهي الأشياء التي تبقى مع الإنسان عبر الأزمنة.
وتدور أحداث الرواية في مدينة الأقصر، طيبة في ذلك العصر. ولا شك أن الكاتب لم يقم بزيارة المدينة في ذلك العصر، وإن كان قد زار الأقصر في القرن العشرين؛ لذا فإن المدينة بدت في الرواية من خلال ديكوراتها الداخلية، وقصورها، وبيوت الحُكَّام، لكن هذا لم يمنع المؤلف الروسي «باخيش بابايف» أن يصف لنا أكثر من مرة، وصفًا دقيقًا كيف كانت المدينة الفرعونية طيبة، عاصمة الفراعنة في الأسرة الثامنة عشرة. فبالرغم من أن الرواية مزدحمة بالشخصيات الذين يسكنون هذه الأماكن، إلا أن الكاتب كان يخرج بأبطاله ليصف المدينة من الخارج، والشخصيات الرئيسية في الرواية هي الملك «توت عنخ آمون»، الذي لا يزال يتذكر الملك الراحل «إخناتون»، ودائمًا ما يذكره بالسوء، ويندهش كيف هو الرجل الأكرش العجوز يقترن بفتاة جميلة حسناء مثل «نفرتيتي»، التي تعد شخصية حاضرة دومًا في الرواية. ويتساءل الكاتب على لسان «آي» أحد القادة، قائلًا:
«يا للمهزلة والتناقض! جميلة الجميلات تحب مسخًا مشوَّهًا، له جسد رخو كأنني في الأربعين، بخصر غليظ وبطن مرتفع، وهو مشغول عنها كل الشغل بدينه الجديد، بالسياسة وبإسقاط وخلع ديانة «آمون»، وإعلاء شأن إله جديد … يا له من منطق.»
و«آي» قائد الجيش شخص كريه، يخاف من الحاكم، ومن ظِله، أما الملكة «نفرتيتي»، التي تظل على قيد الحياة، فهي امرأة رقيقة، تستغرق تمامًا في أفكارها حتى أنها لا تتابع شيئًا ما كان يدور حولها. تبدو عيناها، كما يصفها الكاتب، متسعتَي الحدقتَين، جميلتَين، عميقتَين، كنبعَي ماء غائريَن في جبل من جبال فينيقيا، لم يكن بهما أي تعبير محدد، أما بعد موت «إخناتون» فقد أخذت «نفرتيتي» على نفسها عهدًا بألا تتزوج. ولكن الكهنة لم يوافقوا بأي شكل من الأشكال على قرارها.
والمؤلف لا يصف كيف تكون البيوت، والقصور الملكية من الداخل، بالتفاصيل، وكأنها نفس البيوت التي يعيش فيها الحُكَّام في كل عصر، لكن «بابايف» يصف بتفاصيل دقيقة للغاية، كيف يكون شكل مدينة طيبة، وسوف نورِد هذا الوصف هنا بنفس العبارات التي جاءت بها، في الفصل الخامس، حيث يتحدث عن العبدة «إسترم» التي تنتظر أن تتزوج من حبيبها الشاب بعد أن يتم عتقها من العبودية. ويجيء الوصف كالتالي: «ببطء، ودون هدف، طافت العبدة «إسترم» متحاملة على نفسها جميع أرجاء المدينة، تلكَّأت طويلًا أمام قصور الموسرين بطيبة المشيَّدة وسط حدائق بها بِرك مليئة بأزهار اللوتس والأسماك. محلِّقة الطيور على جوانبها ويحيط بهذه الحدائق أشجار الجميز الوارفة الظِلال. وأخذت تتأمل بعض المنازل المحلَّاة بالخشب والغاب، وأعمدة النخيل ذات الألوان الزاهية، وكأنها صُنعت لتكون جزءًا من الحديقة. وأصحابها يأتون على محفَّاتهم التي يحملها الأرفاء.»
«وبدت من بعيد رءوس المسلات كما لو كانت تحرس طيبة بظلالها، وها هي تمر أمام معبد آمون أهم معابد مصر كلها. وكان الطريق المؤدي إليه من بحيرة آلهة القمر يخترق المدينة، وتقوم على جانبيه رءوس الكِباش، وتماثيل أبي الهول، وكانت تحيط بالمعبد أسوار من الآجر السميك خلفها الكثير من البنايات والأبراج الزاخرة بنسائم أزهار اللوتس الفوَّاحة المختلطة بحفيف أوراق البردي التي تنتشر في الجو، وحول أعمدة المعبد المُزيَّن بالصور الملونة كأنه مدينة أخرى داخل طيبة، يقف على أبوابها الضخمة النحاسية جميع من ماتوا من الملوك، مارة أمام المرفأ المزدحم بالقوارب المصنوعة من الخشب والغاب.»
«فتحت «إسترم» رئتيها بقوة مستقبلة الرياح الآتية من المرفأ، حاملة عبق أشجار السن، وأعواد المِسك التي لم يستطع محوها من أنفها إلا رائحة السمك التي تنبعث من الأكواخ المبنية باللبِن، أو المصنوعة من أعواد الغاب.»
«أخذت النسوة يُهرعن من النار التي تشوي الأسماك إلى أزيارهن الموضوعة فوق حوامل خشبية كأنهن يؤدين حركات رقصة مجنونة، وخلفهن أطفالهن مهَلهَلو الثياب، حفاة، مُقوَّسو السيقان، على وجوههم يحتشد طين النيل.»
«ألقت «إسترم» نظرها إلى النهر متأملة القرى التي تتناثر حوله، هنا وهناك، ودارت عيناها قليلًا مع دوران الثيران التي تجرُّ المحاريث والتي ستظل للأبد تدور وتدور دورانًا متصلًا على موارد الماء لتدفع به إلى القنوات والمسارب.»
ولا شك أن وصف الكاتب للمدينة ينعكس من قراءاته، وأيضًا من زيارته، وقد عكس هذه الرؤية من خلال عينَي امرأة، باعتبار أن أعين النساء أكثر تدقيقًا ورصدًا؛ حيث يُكمل قائلًا: «عادت «إسترم» بعد أن تلكَّأت طويلًا أمام ورشة للنجارين الذين يصنعون من الأخشاب تماثيل الأرفاء والخدم لتكون في خدمة أصحابها بالدار الثانية، وليستغنوا بها عن خدمة أنفسهم بأنفسهم، فلم تستطع «إسترم» منع نفسها من الابتسام، قادتها قدماها في النهاية إلى وسط المدينة؛ حيث الميدان الرئيسي الذي كان ممتلئًا بالناس على آخره، وعلى الجسر القديم وقف المنادي الملكي وبجانبه جلس الكاتب.»