امتداد ثقافة القراءة فقط
هناك قسم من الثقافة نكتفي ببساطة بكوننا مستهلكين له. فنحن نستمع إلى الموسيقى، أو نشاهد السينما، أو نقرأ كتابًا. وفي كل من تلك الحالات، لا يُتوقع منا أن نفعل أكثر من مجرد الاستهلاك. (بطبيعة الحال، مثلما نادت كانديس برايتز وغيرها كثيرون، لا يوجد شيء «بسيط» في الاستهلاك، ولكن دعونا الآن ننحي تلك التعقيدات جانبًا.) ربما ندندن مع الموسيقى، وقد نعيد أداء رقصة من أحد الأفلام، أو نقتبس فقرة وردت في كتاب ضمن خطاب نرسله لصديق. لكن في الأساس، تكون ممارسة هذا النوع من الثقافة من خلال سلوك استهلاكي. فهناك نقاط بداية، ومنتصف، ونهاية لذلك الاستهلاك. وبمجرد انتهائنا منه، نزيح هذا العمل جانبًا.
هذا هو جوهر ثقافة القراءة فقط. ورغم أن هذا الأمر لم يرتبط بظهور «الآلات الجهنمية» التي شكا منها سوزا (وفق تقاليدنا فإن جوتنبرج هو صاحب الفضل في أبرز انتشار لرموز ثقافة القراءة فقط)، فإن مصب تركيزي في الوقت الراهن سوف يكون على ثقافة القراءة فقط التي شكا منها سوزا؛ ألا وهي رموز ثقافة القراءة فقط التي تُعالَج وتؤدَّى بواسطة آلات، فتلتقط الموسيقى والكلمة المنطوقة، وأخيرًا الصور والأفلام، ثم تنشرها.
في أغلب فترات القرن العشرين، كانت تلك الرموز تعمل بالتكنولوجيا التناظرية؛ لهذا كانت جميعها تشترك في عيوب معينة؛ أولاها: أن أي نسخة (ينتجها مستهلكون) تكون أقل مستوى من الأصل. وثانيها: أن التقنيات التي تمكن مستهلكًا من نسخ رمز من رموز القراءة فقط كانت بالغة الندرة. لا ريب أنه كانت هناك استوديوهات تسجيل لا حصر لها في ناشفيل وموتاون. ولكن بالنسبة للمستهلك العادي، كانت رموز القراءة فقط مخصصة للتشغيل، لا للتلاعب بها. ورغم أنه من الممكن تقاسمها بصورة قانونية، فإن كل عملية إعارة كان معناها على الأقل فقدانها مؤقتًا من قبل المعير. فإذا استعرت شريط الأسطوانة الطويلة المدة الخاصة بي، فإن معنى ذلك أنني لن أحوزه. وإذا استعملت جهاز التسجيل الخاص بي كي تشغل سيمفونيات باخ، فإنني لن أتمكن من الاستماع لموتسارت.
هذه هي العيوب الكامنة — ويمكننا أن نقول «الفطرية» — في التكنولوجيا التناظرية. ومن وجهة نظر المستهلك، كانت تافهة؛ فلم يحدث يومًا أن اشترى مستهلك جهاز تسجيل لنفسه لأنه لم يتمكن من نسخ التسجيلات.
ولكن من وجهة نظر صناعة المحتوى، لم تكن تلك العيوب في التكنولوجيا التناظرية مجرد تفاهات، بل كانت خصائص. لقد كانت جوانب في التكنولوجيا جعلت صناعة المحتوى ممكنة؛ إذ إن تلك الطبيعة حدَّت من فرصة منافسة المستهلكين للمنتجين (عن طريق «التبادل»). كما أن عيوبها هي التي دفعت الطلب بالنسبة لكل جيل من أجيال التكنولوجيا. ومن هنا باعت شركات التسجيلات قطعًا من الثقافة — مغروسة داخل أسطوانات من مادة الفينيل — ثم بعد ذلك في أشرطة ذات ثمانية المسارات، ثم في أشرطة كاسيت، ثم في أقراص مدمجة. ومع كل صيغة جديدة من تلك الصيغ، كانت تحدث موجة جديدة من الطلب (وكثيرًا ما كان يطلب العمل الفني نفسه). ونفس الشيء حدث مع الأفلام. فكانت شركات السينما توزع الأفلام على دور العرض، ثم توزعها في صورة شرائط فيديو، ثم على أقراص دي في دي. واعتمد نموذج الأعمال لكلا النوعين من الموزعين لثقافة القراءة فقط على التحكم في توزيع نسخ الأعمال الثقافية. ودعمت طبيعة الرموز التناظرية لثقافة القراءة فقط هذا النموذج التجاري بأن جعلت من الصعوبة بمكان أداء الأمور بشكل مختلف كثيرًا عن ذلك.
(١) إعادة صياغة الطبيعة
وعندما أدركت صناعة المحتوى وجود ذلك التغير، أصيبت بالذعر. فلم تعد الرموز الرقمية لثقافة القراءة فقط متحالفة مع صناعة المحتوى من أجل حماية النموذج التجاري للصناعة. فعلى النقيض من التكنولوجيات والرموز التناظرية لثقافة القراءة فقط، تتآمر التقنيات الرقمية مع الأعداء، أو على الأقل أعداء هذا النموذج التجاري بعينه. وبحلول منتصف التسعينيات، أدركت الصناعة تمام الإدراك بأس ذلك العدو. وبحلول أواخر التسعينيات، أنتجت استراتيجية لمقاومته.
أغلب من يعملون بتلك الصناعة — على الأقل في عام ٢٠٠٢ أو نحو ذلك — آمنوا بأن القرصنة أمر لا يمكن تفاديه في ظل طبيعة التقنيات الرقمية. وبالتالي آمن معظمهم بأن الصناعة تواجه خيارًا بين أمرين: إما أن توجه التكنولوجيا الرقمية نحو الأطراف لتنقذ الصناعة، وإما أن تسمح لها بأن تصبح هي التيار السائد، وتجلس لتشاهد الصناعة وهي تنهار.
(٢) إعادة صياغة الطبيعة مرة أخرى
ثم علمهم ستيف جوبز شيئًا مختلفًا؛ ففي ذروة تلك الحرب ضد القرصنة، بين جوبز عمليًّا ما كان كثيرون يجادلون فيه نظريًّا: وهو أن «الطبيعة» للتكنولوجيا الرقمية هي أنها تتوافق مع الأسلوب الذي تشفَّر به. كانت تقنيات الإنترنت مشفرة في الأصل بطريقة تمكن من الحصول على نسخ مجانية كاملة، لكن هذه الطبيعة يمكن تغييرها بوضع شفرة مختلفة، مدمج بداخلها تصاريح مختلفة. وهكذا أمكن إعادة تشفير رموز رقمية لثقافة القراءة فقط بقدر كافٍ على الأقل من التحكم لاستعادة سوق توزيعها. وشرح جوبز أن هذه السوق باستطاعتها أن تتنافس بفاعلية مع التوزيع المجاني للإنترنت.
ولكن أيًّا كان الحافز، أو الخليط من الحوافز، فإن نجاح آي تيونز ساند الفكرة القائلة بأن حيزًا واسعًا من المحتوى من الممكن أن يباع رقميًّا على ذات النموذج الذي ساد صناعة المحتوى في القرن العشرين: عن طريق قياس عدد النسخ المبيعة. وسرعان ما توسعت آي تيونز في عروضها لتشمل الكتب، ثم كليبات الفيديو الموسيقية ثم البرامج التلفزيونية، وأخيرًا الأفلام السينمائية. واتبع آخرون نفس المسار، مقدمين نماذج مختلفة لثقافة البيع، لكن الجميع لا يزال مع ذلك «يبيع» الثقافة. أقنع موقع إي ميوزيك شركات مستقلة ببيع التنزيلات دون استخدام أي تكنولوجيا لإدارة الحقوق الرقمية. وباع موقع رابسودي تنزيلات محمية بتكنولوجيا إدارة الحقوق الرقمية في نموذج يعتمد على عملية الاشتراك في الموقع. وكان مفتاح نجاح كل مثال ناجح من تلك هو العثور على توازن بين عملية الحصول على المصنف والسيطرة التي ترضي كلًّا من المستهلكين والمبدعين. وسرعان ما أقنع هذا الخليط من النماذج المسئولين المتشككين في تلك الصناعة بأن ثقافة القراءة فقط لها مستقبل في القرن الحادي والعشرين. وسرعان ما حدثت انتعاشة في الاستثمارات مع دخول القرن، تهدف للبحث عن سبل لتحسين نشر واستغلال سوق القراءة فقط في العصر الرقمي.
ليس من الصعب تخيل الاحتمالات المرتقبة؛ فالشركات تشرع الآن لتوها في الظهور. وإن كان القرن العشرين قد جعل الثقافة متاحة بصفة عامة، فإن القرن الحادي والعشرين سوف يجعلها متاحة على مستوى العالم. فمع انخفاض تكلفة المخزون السلعي الراكد، يزداد حجم خليط ذلك المخزون؛ وهو الدرس الذي نستقيه من «مبدأ الذيل الطويل»، الذي سنتعرض لها بمزيد من التفصيل في الفصل السادس. ومع زيادة حجم الخليط، ينمو التنوع الثقافي الذي يمكنه أن يزدهر في عصر التقنية الرقمية. خذ عندك مثلًا جميع الكتب الموجودة في مكتبة الكونجرس. والآن تخيل نفس حجم التنوع في الموسيقى، والفيديو، والصور. ثم تخيل بعد ذلك أن كل هذا من المتاح الوصولُ إليه، في لحظة، لكل الناس، وفي أي مكان. لا ريب أن هناك الكثير من العقبات التي ينبغي التغلب عليها للوصول إلى عالم كهذا. غير أن العقبات ليست تقنية، فكما سنرى في الفصل التاسع، هي مجرد عقبات تنظيمية. وإذا كان من الممكن التخفيف من تلك الأعباء التشريعية، فإن في استطاعة صناعة جديدة لثقافة القراءة فقط أن تنمو وتزدهر. وبعد مائة عام من الآن، لو سمح لها بالازدهار، فسوف ننظر إلى علاقتها بالقرن العشرين تمامًا مثلما ننظر إلى العلاقة بين الطائرة البوينج ٧٧٧ وبين الاختراع الذي قدمه الأخوان رايت أو ألبرتو سانتوس دومونت! وهذا يعد مستقبلًا رائعًا لثقافة القراءة فقط في العصر الرقمي.
(٣) إعادة تشفيرنا
ومع نمو تلك المجالات، لن يقتصر التغيير على عالم الأعمال وحسب، وإنما سيطرأ التغيير علينا نحن أيضًا. فسوف تغير من أسلوب تفكيرنا في أسلوب الحصول على الثقافة. وسوف تغير أمورًا كنا نعتبرها من قبيل المسلم به.
على سبيل المثال: خلال القرن العشرين، كنا نصل إلى أفلام التلفزيون والسينما بطريقة مختلفة عن أسلوب وصولنا للكتب. ففي حالة التلفزيون والسينما، كان على المشاهد أن يوفق بين جدوله الزمني وبين الجدول الزمني الذي وضعه الموزع. وبقدر ما كان هذا يتطلب قدرًا من التكنولوجيا؛ بدا ذلك طبيعيًّا. كانت «القنوات» أدوات «لتوجيه» الناس نحو مشاهدة خليط معين من المحتوى دون خليط آخر. وكان معد الجدول الزمني الذكي يحاول جاهدًا المحافظة على جمهوره بتنويعه للخليط، بحيث يمنع «المشاهد» من التجوال والتحول نحو قناة أخرى.
إلا أنه خلال نفس الفترة الزمنية، كان أسلوب الحصول على الكتب مختلفًا؛ ففي حالة الكتب، كان التوقع «الطبيعي» (في القرن العشرين على الأقل) أن يكون سبيل الحصول على المحتوى متاحًا وفق جدولنا الزمني. فعندما كنا نتجول داخل مكتبة، كنا نتوقع الحصول على ما نبتغيه حينذاك. فإذا لم يكن ما نريده متوفرًا داخل تلك المكتبة، كنا نتوقع الحصول عليه سريعًا نسبيًّا من خلال عمليات الاستعارة المتبادلة بين المكتبات. ولو أن أمينة مكتبة ما قالت لك أثناء دخولك إليها: «آسفة، سوف نقدم خلال فترة بعد الظهيرة أعمالًا غير أدبية. وإذا أردت مطالعة الأعمال الأدبية، فعد إلينا بعد الخامسة مساءً» فلا بد أنك ستستشيط غضبًا. إن فكرة أن تملي عليك المكتبة ما ستقرأ ومتى ستقرؤه تثير الحنق. أو لنعرض الأمر بصورة مختلفة، سوف يعد أمرًا مثيرًا للغضب من قبل أي مكتبة عامة أو مكتبة لبيع الكتب أو ناشر؛ أن يمارس نفس السيطرة على الحصول على الكتب التي تمارسها محطات التلفزيون وموزعو الأفلام على مصنفات الأفلام والفيديو.
في القرن الحادي والعشرين، سوف تتحول الأعمال التلفزيونية والسينمائية إلى الصيغة الرقمية مثلما حدث للكتب. أو مرة أخرى، سوف تصبح توقعاتنا بشأن الأسلوب الذي سنتمكن من خلاله من الحصول على مصنف فيديو هي ذات التوقعات التي لدينا الآن بشأن الحصول على الكتب. وسوف تبدو فكرة أنك مضطر لتوفيق جدولك الزمني مع الجدول الزمني للموزع فكرة أكثر سخفًا. وسوف تبدو فكرة اضطرارك للانتظار لوقت «المشاهدة الرئيسي» كي تشاهد أفضل البرامج التلفزيونية مجرد فكرة تنم عن «الفاشية». سوف يكون معنى الحرية أن تكون لديك الحرية في اختيار ما تريد أن تشاهده في التوقيت الذي تختاره، تمامًا مثلما أن حرية القراءة معناها حريتك في قراءة ما تريده عندما ترغب في ذلك. وفي كلتا الحالتين، لا يشترط أن يكون ذلك «مجانًا». ولكن في كلتا الحالتين، سيتم الأمر وفق جدولك أنت، وليس الجدول الزمني لشخص آخر.
ويمكننا أن نرى ذلك بأوضح ما يكون لدى أطفالنا، الذين يرون أنه «من الغباء حقًّا» ألا تكون حلقات مسلسلهم التلفزيوني المفضل لديهم غير متاحة كلما أرادوا مشاهدتها. وحتى المشاهدون الأكبر سنًّا بدءوا يفهمون ذلك المنطق؛ حيث صارت أجهزة التسجيل الرقمية مثل ريبلاي تي في وتيفو شائعة التواجد يومًا بعد يوم. ويومًا بعد يوم — حتى بالنسبة للعجائز من أمثالي — يبدو من المدهش أن نتذكر ذلك العهد الذي كان علينا فيه أن نضبط جدولنا على التوقيت الذي سيعرض فيه برنامج تلفزيوني معين. شيء سخيف أن تفوتك حلقة، لكن كان هذا هو الحال. ولم تكن هناك فرصة — على الأقل خلال هذا الموسم — لكي تشاهد إعادةً لها.
إنَّ توقُّع الحصول على ما تطلُبُه حالَ طلبِه يتحقق ببطء، كما أنه يتحقق بصورة تتفاوت من جيل إلى آخر. لكن عند نقطة معينة، سوف يبدو الوصول الأمثل (بمعنى القدرة على الحصول على ما تريده كلما أردته) أمرًا بديهيًّا. وعندما يبدو بديهيًّا، فإن أي شيء يقاوم ذلك التوقع سوف يبدو سخيفًا. وكونه سخيفًا، يعني بدوره، أنه يجعل الكثيرين منا مستعدين لكسر القواعد التي تعرقل الحصول عليه. وحتى الأخيار سيتحولون إلى قراصنة في عالم تبدو فيه القواعد سخيفة.
شاهدت هذا الأمر يحدث بنفسي في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام ٢٠٠٧. فلأسباب عجيبة وقعت بالمصادفة (بما معناه أنني لا أتمسح في نجوم السينما)، كان لدي صديقان مرشحان لجائزة الأوسكار عام ٢٠٠٧؛ لذلك كنت متشوقًا بشدة كي أشاهد حفل توزيع الجوائز. لكن في هذا العام، كنت أمضي إجازتي الأكاديمية في ألمانيا، ولم يكن شوقي هذا بالقدر الكافي كي يدفعني للاستيقاظ في الثالثة صباحًا كي أشاهد ساعات من دعاية هوليوود لنفسها؛ ولهذا قمت ببرمجة جهاز الفيديو لتسجيل البرنامج، ثم آويت إلى فراشي متوقعًا أن أشاهد النتائج حال استيقاظي.
لستُ عبقريًّا في النواحي التقنية، لكنني في الوقت نفسه لست أحمقَ. ومع ذلك، وكما هو الحال دومًا على ما يبدو، فإن جهاز الفيديو لم يقم بالتسجيل. وهكذا، رغم تمكني من قراءة خبر حصول صديقيَّ على جائزتي الأوسكار بالفعل، أصبت بخيبة أمل شديدة؛ لأنني لم أتمكن من مشاهدتهما وهما يفوزان.
كان رد فعلي الأول أن تحولت إلى موقع جوائز الأوسكار على شبكة الإنترنت. كان على الموقع إعلانات جذابة تتغير مع كل نقرة تنقرها، مع أطنان من المحتويات. فقلت لنفسي لا بد أنهم يملكون مقطع فيديو متاحًا للعرض يصور احتفال تسليم الجوائز. نحن في عام ٢٠٠٧، هذا ما قلته لنفسي. واحتفال جوائز الأوسكار يعد من الأصول المستهلكة؛ بمعنى أنه رغم حرص كثيرين على مشاهدة البرنامج في فبراير ٢٠٠٧، فإنه لن يهتم به أحد تقريبًا في شهر مارس.
غير أن الموقع لم يقدم الاحتفال الحقيقي مجانًا (أو لنقل «حرًّا»؛ حيث إن جميع المحتويات على الموقع كانت تعرض محاطة بإعلانات) ولا حتى بمقابل؛ لهذا تحولت إلى آي تيونز، مستعدًّا لدفع أي تكلفة يذكرونها مقابل تنزيل حفل توزيع الجوائز. ولكن مرة أخرى، لم أجد مبتغاي؛ إذ لم يكن لدى آي تيونز الحفل. فوسعت بعد ذلك نطاق بحثي لعدد من الأماكن البديهية الأخرى التي يمكن أن يكون البرنامج موجودًا عليها للبيع. ولكن من جديد لم يسعفني الحظ.
وهكذا فعلت شيئًا لا أقوم به عادةً؛ توجهت إلى موقع يوتيوب كي أشاهد من يمكن أن يكون لديه مقاطع تظهر صديقيَّ وهما يتسلمان جائزتيهما على الأقل. وفي خلال خمس دقائق، كنت قد عثرت على المقطعين الخاصين بصديقيَّ، فشاهدتهما وقد تملكتني فرحة غامرة.
هناك كثيرون فعلوا مثلما فعلت (إلا أن مبرراتهم كانت مختلفة). وقد أنزل كثيرون تلك المقاطع ودمجوها في مدوناتهم، مضيفين تعليقات، أو انتقادات، أو مديحًا للأعمال التي نالت الجوائز. وقد فعلت أنا ذلك أيضًا، مضيفًا روابط مع مقاطع يوتيوب فوق مدونتي في مدخل اليوم التالي متباهيًا بصديقيَّ الفائزين بالأوسكار. لكنني بعد ذلك قرأت عن الإجراءات القانونية التي حُركت ضد أصحاب المدونات ومستخدمي يوتيوب الذين وزعوا أجزاء من حفل الجوائز. ورغم أنني باعتباري محاميًا كنت أفهم على نحو دقيق الادعاء الذي خرج به مالكو المحتوى، فإنني باعتباري مواطنًا يعيش في القرن الحادي والعشرين، كنت لا أزال مندهشًا. وبرغم أن هذه الغريزة لا يمكن تبريرها من الناحية القانونية (على الأقل في يومنا هذا)، فإنها تعد جوهر الشخص العملي الذي يعيش في العصر الرقمي: إذا لم تكن تريد أن يستولي أحد على أشيائك، اجعل شراءها متاحًا له بسهولة. ويجسد يوتيوب صورة الطلب غير المُلبى. وحقيقةً، عندما حاولت العثور على مقاطع لأخبار عاجلة مهمة على يوتيوب، كانت المرات التي فشلت فيها في ذلك عندما كان مقدم المحتوى قد جعل نفس هذا المحتوى متاحًا على موقعه الخاص. فالوصول إلى المحتوى هو شعار جيل اليوتيوب. ليس بالضرورة الوصول إليه مجانًا. ولكن الوصول إليه وحسب.
ومن هنا فإن التقنيات الرقمية سوف تغير اتجاه التوقعات المحيطة بعملية الوصول للمحتوى. وسوف تعمل تلك التغييرات على تغيير أسواق أخرى كذلك. مثال على ذلك جهاز آي بود، الذي عمل بصورة مثالية على تكامل جميع أشكال ثقافة القراءة فقط في جهاز واحد. ولسوف يؤدي هذا التكامل بنا باطراد إلى أن نجد هذا الجهاز لا يكتفي بكونه مشغل موسيقى، أو مشغل فيديو، وإنما نقطة دخول عالمية، تيسر سبيل الوصول الميسور لأي شيء نريده في أي وقت نشاء. ولسوف تتنافس العديد من الأجهزة معًا كي تصير مثل هذا الجهاز. ومن المؤكد أن تلك المنافسة سوف تنتج أداة ذات كفاءة غير عادية تيسر وتقيس وتحمي وصولنا إلى نطاق متسع من الثقافة.
وهذا التغيير، بدوره، سوف يحدث تغييرًا في أسواق أخرى كذلك. لنأخذ مثلًا غرفة في فندق: في الفنادق الرفيعة المستوى، هناك الآن تنافس شرس على توفير أجهزة التليفزيون فائقة الجودة. في الواقع لا أرى لهذا سببًا. ما الاحتمال الذي أمامي كي أجد خلال الدقائق الثلاثين التي تسبق خلودي إلى النوم شيئًا يبدأ عرضه للتو على المائة والخمسين قناة التي يقدمها الفندق، ويكون هذا الشيء أرغب فعلًا في مشاهدته؟ من وجهة نظري أنا، على الأقل، هذا التليفزيون ذو الشاشة المسطحة الذي يبلغ سعره ألفي دولار يشغل حيزًا دون جدوى داخل غرفة الفندق.
لكن مع تطور أجهزة الوصول العالمية التي شرحتها من قبل إلى المثالية، فإن نفس المنافسة التي تدفع الفنادق نحو إنفاق آلاف الدولارات من أجل تمكيني من مشاهدة قناة التسوق، هي التي ستوجهها نحو تقديم وسيلة بسيطة لربط جهاز دخولي بآلة عرضهم. من المؤكد أنه في المستقبل ستكون هناك منصات بسيطة تضخم أو تعرض المحتوى الذي تصل إليه من خلال جهاز يشبه آي بود. إن الفنادق (وكذلك المطاعم والطائرات والحانات) سوف تركز اهتمامها بعد ذلك على توفير بنية تحتية عظيمة لروادها. والمستخدم هو الذي سيجلب المحتوى.
إذن المستخدمون سوف يطالبون بالوصول في أي وقت، إلى أي شيء. (مثلًا، مكتبة الكونجرس). ولسوف تظهر تقنيات لتوفير ذلك الوصول أو قياسه أو حمايته (مثلًا، آي بود ٢٠٢٠). ولكن أي طُرُز الوصول إلى المحتوى الثلاث سوف تسود؟ هل ستوفر تلك الأجهزة الوصول ببساطة، سواء بمجرد الاستحواذ على المحتوى، أو بتمكين المستخدم من التحول نحو قناة معينة؟ أم ستكون مثل صندوق الموسيقى، بحيث تقيس عملية الوصول وتخصم قيمة معينة عن كل تنزيل أو تشغيل؟ أم إنها ستكون أشبه بجندي في وحدة عسكرية، فهل ستراقب المحتوى الذي يتم الدخول عليه، وتحظر الدخول أمام من لا يملك الاعتمادات الملائمة؟
كان نموذج البث التجاري في القرن العشرين عبارة عن محتوى «مجاني» مدعوم بالإعلانات. لقد قيدت حدود تقنية القرن العشرين السبل التي تدعم بها الإعلانات المحتوى المجاني. فكانت البرامج تقطع. وتجري عملية مواءمة تقريبية بين ديموغرافية جمهور مشاهدي البرنامج وبين الإعلانات التي تبث. وفي عالم لا توجد به سوى قنوات قليلة نسبيًّا، كان لدى تلك الإعلانات قدرة كافية على الاختراق ترغمهم على الدفع (كل من الشبكات والمعلن).
والحدود في تلك التقنية واضحة للعيان: فعلى المعلن أن يبث لنطاق واسع من البشر، والقدرة على توجيه الإعلانات نحو هدف محدد ضعيفة نسبيًّا. فليس في إمكان المعلن في حقيقة الأمر أن يعلم من شاهد الإعلان وما الذي فعله عندما شاهده. كما أن المعلن مدرك دومًا أن رسالته الإعلانية ينظر إليها باعتبارها فقرة أقحمت على البرنامج. عندما كانت الإعلانات تجيء كل ثلاثين دقيقة أو نحوها، كانت تمثل بالنسبة لكثيرين استراحة محل ترحيب. ولكن عندما يشكل زمن الإعلانات نسبة ٢٥٪ من إجمالي زمن البث، فإنها تصبح مصدر ضيق دائم. (الحقيقة أنه بهذا المعدل، يمكنك أن تبدأ في فهم سبب وجود سوق لشراء التليفزيون الخالي من الإعلانات: فلو أن ثمانية عشر دقيقة من كل ساعة عبارة عن إعلانات، وحتى لو قدرت قيمة وقتك وفق أقل أجر ممكن، فسيكون من المجدي حينئذ أن تدفع ١٫٩٩ دولارًا كي تتجنب مشاهدة الإعلانات.)
ولكن مثلما أزيلت القيود المحيطة بثقافة القراءة فقط التناظرية على يد التقنيات الرقمية، من الممكن أيضًا أن يُقضى على القيود الإعلانية التي وجدت في القرن العشرين على يد تقنية القرن الحادي والعشرين الرقمية. ومع انتشار الدروس المستفادة من هذا التغير، سوف تتزايد أعداد مقدمي المحتوى الذين سيدركون أن الدخول المجاني على المواقع يؤتي ثماره. فالدخول المجاني معناه جمع بيانات ثمينة للغاية عن المشاهد. ومن الممكن أن تترجم تلك البيانات إلى تقنيات إعلانية أكثر فعالية بكثير.
تبدو تلك النقطة بديهية إذا ما أخذت شركة أمازون كمثال. إن أمازون تعرفني عن قرب؛ لأنها تراقبني في حرص أكثر من أي شيء أو شخص في هذا العالم. فلا أحد يمكنه انتقاء قائمة أفضل للأشياء التي من المحتمل أن أرغب في شرائها منها؛ وهذا لأن أمازون تراقب ما أبتاعه. وهي تعلم من أنماط الزبائن الآخرين أي نوع من المحتمل أن أرغب في شرائه في المرة التالية. لقد رسمت صورة ثرية عن تفضيلاتي. وأكون في منتهى السعادة عندما أنصت إليها وهي تقترح علي شيئًا قد يهمني.
سريعًا ما ستتحقق هذه النقطة الثالثة على أرض الواقع، وليس لأن أساتذة متحذلقين يكتبون عنها. هذا هو الأمر الرائع في الأسواق: لا توجد حاجة مطلقًا لإلقاء محاضرة عن السوق التنافسية. فالأسواق مدفوعة تلقائيًّا نحو البحث عن قيمة من خلال التنافس مع الآخرين. ولا ريب أن كل عصر يتميز بمعارك تشن من قبل عمالقة الجيل السابق. غير أن العمالقة دائمًا ما يتهاوَوْن أمام الأسلوب الأفضل لجمع المال. «وكأن يدًا خفية» في هذه السوق ستغير جذريًّا من طبيعة الحصول على الثقافة خلال السنوات العشر التالية. ونتيجة لذلك، سوف يعجز أطفالنا عن فهم عالم يكون فيه يوم الخميس الساعة العاشرة مساءً أكثر أهمية من الناحية الثقافية من يوم الجمعة الساعة الخامسة صباحًا.
عندما استعرت تعبير آدم سميث «اليد الخفية»، لم أكن أقصد به القول بأن واضعي السياسات لا يوجد لديهم ما يقلقون بشأنه هنا. إن كتاب سميث «ثروة الأمم» يعلمنا شيئًا عن القدرة الهائلة على التكيف التي تمتلكها الأسواق. غير أن تلك الأسواق تتكيف، حسبما يعلمنا بقوة كتاب يوشاي بينكلر «ثروة الشبكات»، في ضوء تخصيص القدر الأساسي من الحقوق. فعلى واضعي السياسات أن يحرصوا على عدم تخصيص الحقوق بطريقة تشوه المنافسة أو توهنها. فوجود غطاء باهظ التكلفة من حقوق النطاق، على سبيل المثال، أو سوق غير كفء لحقوق التأليف والنشر، يمكنه أن يخنق المنافسة ويدفع الأسواق نحو تركيز لا لزوم له. ويجب على واضعي السياسات أن ينظموا تلك العوامل. فهي لن «تحل» بواسطة يد خفية.
لكن فيما يخص الأهداف التي أسعى إليها ها هنا، فإن أهم خطأ سياسي يقع هو ذلك الذي يخمد الغريزة التي نادى بها سوزا: سياسة يوجهها الرأي القائل بأن السبيل الوحيد نحو حماية ثقافة القراءة فقط أن تجعل من ثقافة القراءة والكتابة أمرًا خارجًا عن القانون. فهذا الخيار خيار خاطئ. وفي الفصل التالي أود أن أرسم صورة تقريبية لثقافة القراءة والكتابة من شأنها تحفيزنا كي نفهم بالتحديد سبب ضرورة الابتعاد عن ذلك الخيار الخاطئ.