انبعاث ثقافة القراءة والكتابة
كان من أقرب الأصدقاء إلي أثناء دراستي الجامعية (وربما أكثرهم تعقيدًا) أحد طلاب الأدب الإنجليزي. كان أديبًا عبقريًّا. والحق أنه في كل فصل دراسي تكون فيه الكتابة معيارًا للتقييم، كان يبلي كأحسن ما يكون البلاء. أما في باقي الفصول الأخرى، فإنه لم يكن كذلك.
كانت كتابات بن ذات أسلوب مميز: لو كانت موسيقى، لأمكننا أن نسميها مقتطفات. ولو كانت رسمًا، لسميت بفن الكولاج (تجميع المناظر)، ولو كانت رقمية، لأمكننا أن نسميها مزيجًا. كانت كل فقرة يكتبها مبنية على الاقتباس من كتابات الغير. قد يكون الموضوع الذي يكتبه عن هيمنجواي أو بروست. غير أنه كان يبني حجته باقتطاع عبارات مقتبسة من الأدباء الذين كانت مناقشته تدور حولهم. فكانت كلماتهم هي التي تصنع حجته.
ولقد كوفئ على ذلك بحق في المجالات التي كان يكتب فيها، فالموهبة والعناية اللتان برهن عليهما أسلوبه كانتا مقياسًا لقدرته على الفهم. كان نجاحه يعود إلى أن إدراجه للاقتباسات، وسط السياق، كان يوضح المعنى المقصود بصورة لم تكن كلماته وحدها كافية لتحقيقها. وكان اختياره يوضح بجلاء امتلاكه لمعرفة تتجاوز الرسالة التي يعرضها النص. فالقارئ الأكثر مهارةً فقط هو الذي يمكنه أن يبني من نص قرأه نصًّا آخر يشرحه. وكانت كتابات بن تبين أنه كان قارئًا متأنيًا على نحو استثنائي. لقد صنعت منه قراءته المتأنية كاتبًا رائعًا.
كوفئ أسلوب بن ليس فقط في ندوات الأدب الإنجليزي؛ فقد كان أسلوبه جوهرًا للكتابة المتميزة في القانون. إن المذكرة القانونية العظيمة قد تبدو خالية من المعنى لو اعتمد عليها وحدها؛ فكل شيء مأخوذ من دعاوى سابقة، ويقدَّم الآن كما لو أنه ما من جديد بشأنه. هنا أيضًا تستخدم كلمات الآخرين في توضيح المعنى الذي لم يكن هؤلاء الآخرون يقصدونه مباشرةً. فالقضايا القديمة يعاد مزجها معًا. والمزج يقصد منه الوصول لشيء جديد. (من الملائم أن أذكر هنا أن بن يعمل الآن محاميًا.)
في كلتا الحالتين، بالطبع، الاقتباس مطلوب. غير أن الاقتباس في حد ذاته يعد أجرًا كافيًا. ولا يوجد أحد ممن يتكسبون عيشهم من الكتابة يؤمن بأنه مطلوب منه على الإطلاق الحصول على أي تصريح يتجاوز هذا الأجر البسيط. ولو أن بن راسَلَ دائرة إرث إرنست هيمنجواي طالبًا السماح له بالاقتباس من رواية «لمن تقرع الأجراس» في موضوعاته التي كان يكتبها أثناء دراسته بالكلية، لَتضايقَ المحامون المسئولون بالدائرة. ولتساءلوا في تعجب: من ذلك الأحمق الذي يظن أنه بحاجة لتصريح كي يقتبس عبارات لموضوع إنشاء؟!
إذن هاكم السؤال الذي أود منكم أن تركزوا عليه ونحن نستهل هذا الفصل من الكتاب: لماذا كان أمرًا «شاذًّا» أن نظن أننا بحاجة لتصريح كي نقتبس عبارات من نصوص ألفها آخرون؟ ولماذا من شأننا (أو من واجبنا) أن «نغضب» لو أن القانون اشترط علينا أن نطلب من آل جور تصريحًا إذا أردنا اقتباس عبارة من كتابه «اعتداء على المنطق» في موضوع نريد كتابته؟ ولماذا يشعر كاتب ما بالضيق (بدلًا من أن يشعر بالفخر) عندما يتصل به طالب في المرحلة الثانوية طالبًا منه الإذن للاقتباس من كتاباته؟
الإجابة، حسبما أرى، تتعلق بوضوح شديد ﺑ «طبيعة» الكتابة. فالكتابة بالمفهوم التقليدي لها من أنها عبارة عن كلمات تخط على ورق، تعد الصورة النهائية للإبداع الديمقراطي. وهنا أيضًا ليس المقصود من كلمة «ديمقراطي» أن يذهب الناخبون للتصويت، وإنما المقصود منها أن لكل فرد في المجتمع الحق في الحصول على وسائل للكتابة. إننا نعلم الجميع الكتابة، نظريًّا، إن لم يكن عمليًّا. ونحن نفهم أن الاقتباس جزء جوهري من تلك الكتابة. ولسوف يكون من المستحيل أن نقيم تلك الممارسة ونؤازرها لو اشترطنا الحصول على تصريح في كل مرة نقتبس فيها كلامًا للغير. فحرية الاقتباس، والبناء على ما اقتبس من كلمات الآخرين أمر مسلم به لدى كل من يكتبون. أو بعبارة أخرى، الحرية التي اعتبرها بن أمرًا مسلمًا به أمر طبيعي تمامًا في عالم يملك فيه الجميع الحق في الكتابة.
(١) كتابة تتجاوز الكلمات
من البديهي أن الكلمات ليست الصورة الوحيدة للتعبير التي من الممكن المزج بينها على النحو الذي صنعه بن. فإذا كان باستطاعتنا الاقتباس من نص ألفه هيمنجواي في روايته «لمن تقرع الأجراس» في موضوع نكتبه، فإن بإمكاننا اقتباس جزء من فيلم لسام وود عن رواية «لمن تقرع الأجراس» لهيمنجواي في فيلم نصنعه. أو إذا كان في إمكاننا اقتباس مقاطع من كلمات أغنية لبوب ديلان في عمل غنائي عن فيتنام، فإن باستطاعتنا أن نقتبس من أغنية لبوب ديلان غناها من تلك الكلمات في فيلم فيديو نصنعه عن تلك الحرب. فالتصرف واحد؛ المصدر فقط هو المختلف. وكذلك من الممكن أن تكون معايير الإنصاف واحدة: هل هو بالفعل مجرد اقتباس؟ وهل ينسب لصاحبه على نحو سليم؟ وهلم جرًّا.
وسواء كانت المعايير التي تحكم تلك الأشكال من التعبير مبررة أم لا، فإنها تعد أكثر صرامة بكثير من المعايير التي تحكم النص. فهي لا تقر بأي من الحريات التي يعتبرها أي كاتب أمرًا مسلمًا به وهو يكتب مقالًا للكلية، أو حتى مقالًا في جريدة نيويوركر.
لماذا؟
الإجابة الكاملة على هذا السؤال أمر يتجاوز نطاق قدراتي، ومن ثم قدراتنا، ها هنا. غير أن بمقدورنا وضع نقطة بداية. هناك اختلافات واضحة بين تلك الأشكال من التعبير. وأبرز تلك الاختلافات التي تهمنا تاريخيًّا في تلك الأنواع من «الكتابة» هو الفارق الديمقراطي. فبينما نجد أن كتابة النصوص أمر يتعلم الجميع القيام به، فإن صنع الأفلام والتسجيلات ظل أمرًا — طيلة أغلب فترات القرن العشرين — لا يقوم به سوى محترفين. وكان معنى ذلك أنه كان من الأيسر أن نتخيل نظامًا يشترط الحصول على تصريح بالاقتباس من فيلم أو قطعة موسيقية. فنظام كهذا كان ممكنًا على الأقل، حتى وإن لم يتمتع بالكفاءة.
ما الأعراف (ومن ثم القوانين) التي سوف تحكم هذا النوع من الإبداع؟ هل ينبغي أن تسري الأعراف التي يعتبرها جميعنا أمرًا مسلمًا به من الكتابة على الفيديو أيضًا؟ وعلى الموسيقى؟ أم هل من الواجب تطبيق الأعراف المطبقة على الفيلم على النص أيضًا؟ أو لنطرح التساؤلات بشكل مختلف: هل يجب مد أعراف «طلب التصريح» من الفيلم إلى الموسيقى والنصوص؟ أم هل يجب مد أعراف «اقتبس بحرية، مع نسبة الشيء إلى صاحبه» من النص إلى الموسيقى والأفلام؟
عند هذه النقطة سوف يقاوم البعض الأسلوب الذي صغت به الاختيارات. سوف يصرون على الفصل ليس بين النص من ناحية وبين الأفلام/الموسيقى/الصور من ناحية أخرى. وإنما سيطالبون بالفصل بين العروض التجارية أو العلنية للنص/الفيلم/الموسيقى/الصور من ناحية، وبين الاستخدام الخاص أو غير التجاري للنص/الفيلم/الموسيقى/الصور من ناحية أخرى. لا أحد يتوقع أن يطلب صديقي بن الإذن من دائرة ورثة هيمنجواي للتصريح له باقتباس بعض من كتاباته في موضوع إنشاء يكتبه وهو طالب في الكلية؛ لأنه لن ينشر أحد (حتى الآن على الأقل) مواضيع إنشاء بن في الكلية. وعلى نفس النهج، لن يتوقع أحد من ديزني، على سبيل المثال، أن تكون لديه أية مشكلة مع أب يأخذ مقطعًا من فيلم سوبرمان ليدرجه في فيلم منزلي من تصويره، أو مع أطفال في حضانة يرسمون ميكي ماوس على الحائط.
ومهما كانت عقلانية التمييز، فإن الحرية في الاقتباس ليست معممة في المجال غير التجاري. وإنما عادةً ما يصر أولئك الذين يرتدون حللًا يبلغ ثمنها آلاف الدولارات على أن «التصريح لا مناص منه قانونًا.»
ولا أنا أعتقد بأن الحرية في الاقتباس يجب أن تعمم فقط على الصعيد غير التجاري. ففي رأيي أنها يجب أن تمتد إلى نطاق أوسع من ذلك. ولكن قبل أن آمل في إلصاق هذه الحجة الشكلية في الأذهان، علينا أن نفكر بحرص أكبر في سبب اعتبار هذا الحق في الاقتباس — أو حسبما سأسميه، المزج — تعبيرًا مصيريًّا عن الحرية الإبداعية لا يمكن لأي مجتمع حر أن يحظرها في نطاق موسع من السياقات.
المزج تصرف ضروري في إبداع القراءة والكتابة. إنه التعبير عن حرية أخذ «أغنيات من أيامنا هذه وأخرى قديمة» وصنع عمل إبداعي. في زمن سوزا، كان الإبداع هو الأداء. لقد عبر الانتقاء والترتيب عن القدرة الإبداعية للمطربين. وفي زماننا هذا، يصل الإبداع إلى ما هو أبعد بكثير من الأداء وحده. ولكن في كلا الزمانين، النقطة الحرجة التي نود إدراكها أن إبداع القراءة والكتابة لا يتنافس مع سوق العمل الإبداعي التي يتم المزج منها ولا يوهنها. فهاتان السوقان تكمل إحداهما الأخرى، وليستا متنافستين.
هذه الحقيقة وحدها لا توضح بالطبع أن كلتا السوقين غير جديرة بالتنظيم (بمعنى أن تكون محكومة بضوابط حق التأليف والنشر). ولكن كما سنرى في القسم التالي من الكتاب، هناك مبررات مهمة تدفعنا للحد من تنظيم حقوق التأليف والنشر في الظروف التي يكون إبداع القراءة والكتابة قابلًا للازدهار على الأرجح فيها. لا تعكس تلك المبررات ما تحققه إحدى الصناعات من ربح — على أهميته — وحسب، وإنما تنعكس على المساحة المتاحة لجيل كامل كي يتكلم.
سأبدأ بشكل من أشكال ثقافة القراءة والكتابة يعد هو الأقرب إلى تقاليدنا في المزج بين النصوص. ومن هذه البداية، سوف أبني على ذلك للتوصل لأشكال أكثر وضوحًا للمزج بدأت تظهر الآن. وفي النهاية، فإن هدفي أن أجذب كل تلك الأشكال معًا كي أشير إلى نوع من الخطاب سوف يبدو طبيعيًّا ومألوفًا. ونوع من الحرية سوف يبدو لنا أمرًا لا مناص منه.
(٢) مزج النص
تعيش ثقافة القراءة والكتابة على شبكة الإنترنت الآن حالة من الازدهار، تجاوزت بكثير خيال أكثر الجامحين خيالًا عند مولد الشبكة العنكبوتية؛ من حيث مجالها واتساع نطاقها، والأهم من ذلك، مدى تعقيدها. فمن خلال تقنيات لم يكن أحد يعلم عنها شيئًا عندما بدأت هذه المنظومة، شيدت هذه الثقافة النصية نظامًا من المحتوى واقتصادًا يعتمد على الصيت. فهناك منظومة الآن تجعل نطاقًا استثنائيًّا من المحتوى غير المرشح مبدئيًّا شيئًا مفهومًا، وهذا يساعد القارئ على التمييز بين الغث والسمين مما يقرؤه.
ويمكننا أن نصف هذه المنظومة من خلال طبقات ثلاث؛ الأولى هي الكتابة ذاتها، ولقد تطورت هذه من خلال حياتين مختلفتين: الأولى حياة غامضة بالنسبة لكثيرين؛ أما الثانية فهي «المدونات» الموجودة في كل مكان.
كانت الأولى شيئًا اسمه «يوزنت». في عام ١٩٧٩، اخترع اثنان من علماء الكمبيوتر بجامعة ديوك — وهما توم تراسكوت وجيم إليس — منظومة إرسال رسائل موزعة جعلت من الممكن إمرار الرسائل بأسعار زهيدة بين الآلاف من أجهزة الكمبيوتر في جميع أنحاء العالم. كانت هذه هي يوزنت. في بعض الأحيان كانت تلك الرسائل عبارة عن إخطارات، وفي البعض الآخر كانت مجرد رسائل معلوماتية. لكن سرعان ما صارت موضعًا لثقافة قراءة وكتابة تفاعلية آخذة في التعاظم. ومع إدراك الناس أن باستطاعتهم ببساطة، وبالضغط على زر واحد، وضع تعليق أو الرد على الآلاف من أجهزة الكمبيوتر المنتشرة في أنحاء العالم، لم يعد في إمكانهم مقاومة إغراء التحدث. ونمت يوزنت سريعًا، كما نما كذلك الشغف بها سريعًا.
كانت تلك هي الطبقة الأولى من ثقافة القراءة والكتابة للنصوص على شبكة الإنترنت. لكن هذه الطبقة وحدها لم تكن لها سوى قيمة محدودة للغاية. فكيف يمكنك العثور على أي شيء يثير اهتمامك في هذا الخضم الشاسع الذي يختلط فيه الحابل بالنابل من المحتوى؟ إذا كنت تعلم شخصًا تثق فيه، فربما قرأت مدونته. ولكن ما الداعي لكي تضيع وقتك في قراءة خواطر شخص ما تنتقيه عشوائيًّا حول أي شيء على الإطلاق؟
إذن، على سبيل المثال، لو قرأت مقالًا عن باراك أوباما، فإن باستطاعتك أن تعنونه بوصف موجز: «أوباما» أو «أوباما-البيئة». وبينما يقوم الملايين من القراء بنفس الشيء، تبدأ منظومة العنونة في فرض النظام على المادة المعنونة، رغم أنه لم يقم شخص بعينه بخط جدول لبطاقات العناوين، ولم يفرض أي شخص أية قواعد خاصة بالبطاقات. يمكنك أيضًا عنونة مقال أوباما باسم «زهور البيتونيا»، وسوف يصاب البعض من محبي البيتونيا بالإحباط وهم يتتبعون اللافتة نحو ذلك الموقع الذي لا يوجد للبيتونيا أي ذكر به. ولكن مع مزيد من ضغط المستخدمين على الأسهم في اتجاهات أخرى، سوف تزداد تباعًا أعداد من يتتبعون واضعي العناوين الصادقين.
تلك الطبقات الثلاث، إذن، تعمل معًا. فلن يكون هناك أي شيء بدون محتوى. لكن هذا المحتوى سيكون فائضًا عن الحاجة لو اقتصر على ذاته وحسب. إذن، بالإضافة للمحتوى، هناك محتوى يتحدث عن المحتوى — وهي البطاقات المعنونة، والتوصيات — بالإضافة إلى أدوات مختصة بقياس تأثير المحتوى. ويصبح مجموع ذلك منظومة بيئية تحقق صيتًا. وأولئك الذين يحاولون التفاعل مع الثقافة صاروا مدركين الآن أن أهمية هذا الفضاء تعادل خطورة إيصال رسالة أو فهمها.
ويساور أناسًا آخرين القلق من مسألة الجودة؛ إذ كيف يمكن للمدونين أن يسيروا قدمًا بقدم مع جريدة في حجم نيويورك تايمز؟ وما حجم الجهد الذي يتعين على المدونين بذله كي يجعلوا رواياتهم صحيحة؟
تأكدتُ من هذه النقطة في انتخابات عام ٢٠٠٤ وأنا جالس في منزلي. لقد خلقت تلك الانتخابات، بطبيعة الحال، وعيًا عامًّا بالمدونات، منذ صنعت ثقافة التدوين هاورد دين حاكم فيرمونت، الذي كان متصدرًا لسباق الرئاسة في بادئ الأمر. ولكن بينما كنت أشاهد نتائج تلك الانتخابات على التلفزيون الوطني، بدأت أشعر بالأسى لأولئك «المراسلين» الذين اضطروا لعرض تقارير عن هذه الانتخابات المحورية على شاشة التليفزيون. ففي واحد من الأمثلة على ذلك، طُلِب من أحد أبرز المراسلين، أثناء الإعلان عن الفقرة، تقديم «تحليل عميق» للناخبين في ولاية بعينها. وعندما بدأت الفقرة، تحول المكتب الوطني إلى ذلك المراسل، فبدأ بطرح سؤال على ثلاثة من «الناخبين العاديين» المنتمين للولاية. كان أمامه بعد ذلك حوالي ثلاثين ثانية كي يضيف رؤيته الخاصة سريعة الخاطر تعقيبًا على حماقاتهم الغثة التي تكلموا فيها عن سبب تصويتهم على النحو الذي فعلوه. وكانت تلك هي الطامة الكبرى. دقيقة واحدة، ومادة تساوي صفرًا، تبث على ملايين المشاهدين في جميع أنحاء البلاد.
حدث ذلك في نفس الوقت الذي كنت أقرأ فيه تحليلًا عميقًا عن نفس الولاية، مكتوبًا في إحدى المدونات. نُشر التحليل خلال الساعات الثلاث السابقة. كان يعج بالمادة وبالرؤية التحليلية الثاقبة. كان توقيته مناسبًا، وذكيًّا، وشاملًا، أفضل كثيرًا من أنباء «الزاوية الإنسانية» التي عليها نشرة الأخبار القومية الآن، ويعكس بصورة أكبر بكثير موهبة صحفي قدير. لقد ظن مراسل التلفزيون دون شك أنه صحفي. ولكن مع توافق التلفزيون مع مساحة اهتمام لجمهور مشتت الانتباه على نحو متزايد، من ذا الذي يستطيع القيام بدور الصحفي؟
إنترنت القراءة والكتابة منظومة بيئية متوازنة.
سيظل كثيرون على تشككهم. لو أن جودة مدونة عادية رديئة للغاية، فما الخير الذي يمكن أن يؤديه هذا النوع من الإبداع؟ لكننا هنا في حاجة للتركيز على جانب ثانٍ من إبداع القراءة والكتابة؛ إنه ليس الجودة العالية في الخطاب التي ينتجها، وإنما هو التأثير الذي يمارسه على الشخص المنتج للخطاب.
أنا شخصيًّا شعرت بأحد جوانب هذا التأثير. أنا أستاذ قانون، وطيلة السنوات العشر الأولى في حياتي المهنية القانونية كنت أكتب وأنا متقبل تمامًا لفكرة أن أحدًا لا يقرأ ما أكتبه. وتلك المعرفة منحتني حرية عظيمة. والأهم من ذلك، فإن أيًّا ما كان يدور في خلد القراء الثلاثة الذين قرءوا كتاباتي ظل حبيس عقولهم. إن أساتذة القانون يكتبون للجرائد الدورية القانونية. والجرائد الدورية القانونية لا تلحق تعليقات على المقالات التي تنشرها.
أما فضاء المدونات فإنه مختلف. فأنت تعرف أن الناس يقرءون كتاباتك؛ وإذا أنت سمحت لهم، فإنه يمكنك أن تشاهد تعليقاتهم. وعاقبة الأمرين شيء لا يمكنك أن تفهمه إلا إذا عشته. مثل تناول السبانخ أو ممارسة التمرينات الرياضية، أرغم نفسي على تقبل تلك المعاناة لأنني أعلم أنها ستعود علي بالخير. إنني أكتب المدونات منذ عام ٢٠٠٢. وكل مدخل أكتبه له رابط خاص بالتعليقات. وأنا لا أفرز التعليقات أو أخفيها (إلا ما يندرج تحت باب التعليقات الدعائية المزعجة). ولا أطالب الناس بالإفصاح عن أسمائهم الحقيقية. فالمنتدى مفتوح لأي شخص كي يقول ما يشاء. والناس يفعلون ذلك. وبعض التعليقات شديد الذكاء. وهناك كثيرون يضيفون حقائق مهمة أغفلتها أو يوضحون ما أسأت فهمه. وصار بعض المعلقين زوارًا منتظمين لمدونتي. وأحد تلك الشخصيات — ويستخدم اسم «ثلاثة فئران عمياء» — ظل زائرًا منتظمًا لفترة طويلة، وهو نادرًا ما يتفق معي في أي شيء مما أقوله.
لكن كثيرًا من التعليقات تكون مكتوبة بلغة لا تدانيها لغة في الوقاحة والانتهاك. فهناك شخصيات — يقال لها «الأقزام» — تعيش من أجل المعارك التي يستطيعون إشعالها في تلك الأجواء. إنهم يسلكون سلوكًا مشينًا، وحججهم (في معظمها) سخيفة، وهم بشكل عام يجعلون فضاء التعليقات مكانًا مقبضًا بحق.
هناك معلقون آخرون يعثرون على سبل للالتفاف حول هؤلاء الأقزام. فهناك عبارات معتادة تستحث على الظهور كلما التقى واحد بقزم من هؤلاء مثل «لا أطعم الأقزام». لكن لا توجد وسائل كثيرة حيال ذلك، على الأقل طالما أن صاحب المنتدى (أنا) لا يحجب أناسًا معينين أو يرغم الجميع على استخدام أسمائهم الحقيقية.
أجد أنه من الصعوبة بمكان أن أقرأ تلك التعليقات. ليس بسبب رداءتها أو خطئها، ولكن بصفة رئيسية لأني شديد الحساسية. فهناك علاقة ارتباط مباشرة بين ما أقرؤه وبين شعوري بألم في أمعائي. وحتى النقد غير المنصف أو الخاطئ يمزقني إربًا بصورة جد سخيفة. فلو قرأت تعليقًا سيئًا قبل أن آوي إلى فراشي مثلًا، فإن الأرق ينتابني. وإذا وقعت عيني على واحد من تلك التعليقات وأنا أكتب، فإن هذا كفيل بتشتيت ذهني لساعات. أحلم أحيانًا بخلق شخصية «أنا» بديلة تجيب بالنيابة عني، لكنني لا أملك الشجاعة حتى لممارسة ذلك الخداع. لهذا عوضًا عن ذلك، يفصح ضعفي عن نفسه من خلال عدم قراءتي لتعليقات الآخرين من الأساس (وهو أمر غير منصف للغاية لكتاب التعليقات).
فلماذا أكتب مدونة من الأساس إذن؟ حسنًا، في كثير من الأحيان، لا يكون لدي فكرة عن سبب قيامي بذلك. لكنني عندما أفعل، يكون الأمر متعلقًا بأخلاقيات أومن بأن علينا جميعًا أن نعيش بها. كان أول من علمني إياها القاضي الذي كنت أعمل كاتبًا معاونًا له؛ القاضي ريتشارد بوزنر. ما من شك أن بوزنر أبرز قاضي فيدرالي وقانوني أكاديمي في زمننا المعاصر، ولعله الأبرز خلال المائة عام الأخيرة. كان أيضًا قاضيًا مثاليًّا كي يعمل المرء كاتبًا معاونًا له. فعلى عكس الغالبية العظمى من قضاة محاكم الاستئناف، يكتب بوزنر آراءه بنفسه، ومهمة الكاتب تتلخص في كتابة الحجج. كان يعطينا مسودة لرأيه، وعلينا نحن أن نكتب مذكرة طويلة بلغة نقدية. وكان يستعين بتلك المذكرة في إعادة صياغة رأيه.
قدمت لبوزنر تعليقات حول ما هو أكثر بكثير من آرائه. وعلى وجه التحديد، بمجرد أن بدأت التدريس بالجامعة أرسل لي نسخة غير منقحة لكتاب، ظهر في الأسواق في نهاية المطاف بعنوان «الجنس والمنطق». كان قدر كبير مما ورد في الكتاب ينم عن عبقرية. غير أن جزءًا منه كنت أظنه سخيفًا. وفي سلسلة من الفاكسات (كنت أدرس في بودابست، وكان هذا قبل زمن طويل من توافر خدمات البريد الإلكتروني للجمهور)، أرسلت إليه تعليقات غاضبة بصورة متزايدة، تدور حول هذا القسم من الكتاب.
صباح اليوم التالي لذلك اليوم الذي أرسلت فيه هذا الفاكس، أعدت قراءته، فصدمت من نبرته المسيئة. فكتبت خطابًا تابعًا بلغة متذللة، أعتذر فيه، وأقول إنه بطبيعة الحال فإنني أكن احترامًا لا نهاية له لبوزنر، وثرثرة من هذا القبيل. كان كل ما قلته صحيحًا. وكذلك أيضًا كان اعتقادي صادقًا في أن ما قلته كان فيه نوع من التجني. غير أن بوزنر رد علي ليس بقبول اعتذاري، وإنما بتعنيفي، لا على الفاكس المسيء الذي أرسلته، وإنما على اعتذاري! كتب يقول: «إنني محاط بمن يتملقونني، وآخر شيء كنت أتصوره منك أن تنقح تعليقاتك متخذًا من مشاعري مرجعية لك.»
ذهلت من ذلك التوبيخ. لكنني منذ تلك اللحظة، قسَّمت العالم إلى قسمين: أولئك الذين يتبعون أسلوب بوزنر (أو حتى يوصون به)، وأولئك الذين لا يتبعونه. وأيًّا كان قدر الجاذبية التي يتمتع بها الموقف المضاد لبوزنر، فلقد أردت أن أومن بأن في استطاعتي اتباع هذا المبدأ الأخلاقي: لا تسمح بفرصة للمتملقين والمتزلفين ولا تشجعهم. كافئ المنتقدين. ليس سبب هذا أنني في يوم من الأيام قد أصير قاضيًا، أو شخصية عامة مثل بوزنر. ولكن لأنني باتباع هذه الأسوة، من الممكن أن أتفادى أسوأ آثار الحياة المحاطة بالحماية التي سأعيشها (باعتباري أستاذًا جامعيًّا).
حتى ظهور الإنترنت، لم يكن هناك وسيلة طيبة للقيام بذلك، على الأقل لو كنت من الشخصيات غير البارزة مثلما هو حالي. فليس الأمر أشبه بأن أتوجه إلى مقهى «ستاربكس» في المنطقة التي أقطن بها ثم أعقد ندوة جماهيرية. هناك أناس يفعلون هذا في الحي الذي أعيش فيه، ومعظمهم لم يستحموا منذ أسابيع. يمكن للمشاهير أن يفعلوا هذا من حيث المبدأ. غير أن أخلاقيات الظهور العام في أيامنا هذه، على الأقل على مستوى الأمريكيين، تقف ضد هذا النوع من المباشرة. فمن الوقاحة أن توجه النقد. وفي الواقع، لو كنت ناقدًا عنيفًا، فمن المحتمل أن يخرجك من الندوة رجال يعلقون شارات على صدورهم.
غير أن جيل أحب هذا التبادل للرأي. فلم يشعر بالحرج من قسوة النقد. لقد شجع أسلوبه على ذلك. كان قائدًا ديمقراطيًّا يعيش في ديمقراطية حقيقية (ونقيضها هي البيروقراطية الهرمية). لقد كان بمنزلة بوزنر البرازيلي.
بالنسبة لأولئك الذين لا هم بوزنر ولا هم جيل، يمثل الإنترنت سياقًا يشجع على الأخلاقيات الديمقراطية التي يعدان مثالًا لها. إنه الموضع الذي تتحول فيه جميع الكتابات إلى القراءة والكتابة. فحين تكتب في هذه الوسيلة ستكون على يقين من أن أي شيء يكتبه المرء معرض للمناقشة. كنت أحب فكرة المقال المنشور في مطبوعة قانونية، والذي أعرض فيه الحجج كما لو كانت قد ثبتت، مع وجود مساحة ضئيلة — أو عدم وجود أي مساحة — للاعتراض. وأشعر الآن بالذنب لمشاركتي في مثل هذا الشكل من المقالات.
كل هذا الانفتاح نتاج نوع من الديمقراطية صارت حقيقة واقعة من خلال الكتابة. ولو استمرت تلك الاتجاهات، فإننا بذلك نوشك على رؤية هذه الديمقراطية تتجسد على أرض الواقع في جميع أشكال الكتابة. فلسوف يناضل الناشرون من أجل «جوجلة» الكتب. غير أن المؤلفين يرون أن أبرز كتابة هي تلك التي من نوع القراءة والكتابة، وسوف يبدءون في الإصرار على أن يتقبل ناشروهم هذا. وخلال عشرة أعوام، سوف يصبح كل ما هو مكتوب ويمكن قراءته متاحًا على الإنترنت، بما يعني أن الناس لن يكونوا قادرين على تنزيل نسخ لقراءتها على قارئ مزود ﺑ «تكنولوجيا إدارة الحقوق الرقمية»، وإنما ستكون تلك الكتابات متاحة بطريقة الوصول الحر، بحيث يتمكن الآخرون من التعليق على ما يقرءون، ومنحه درجات تقييم، ونقده. هذه الكتابة/القراءة هي جوهر ثقافة القراءة والكتابة.
النص ليس سوى جزء صغير من ثقافة القراءة والكتابة التي هي روح الإنترنت. الآن تفكر في شقيقته الكبرى، والتي هي في نهاية المطاف أكثر وضوحًا بكثير.
(٣) مزج وسائل الإعلام
طيلة معظم فترات العصور الوسطى في أوروبا، كانت النخبة تتكلم وتكتب باللغة اللاتينية. أما الجماهير فلم تكن كذلك. كانوا يتحدثون بلغات محلية أو عامية؛ وهي ما نسميها الآن الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية. إذن ما كان يمثل أهمية للنخبة كان غير متاحٍ للجماهير أن تصل إليه. كانت «أهم» النصوص لا يفهمها سوى قلة.
تبدو تلك وسائل القراءة والكتابة الإعلامية شديدة الشبه تمامًا بكتابة بن للنصوص. فهي تصنع مزيجًا، أو تقتبس من هنا وهناك نطاقًا عريضًا من «النصوص» كي تنتج شيئًا جديدًا. غير أن تلك الاقتباسات تتم عند طبقات مختلفة. وعلى عكس النصوص التي تتابع في خط واحد — مثل الحال هنا؛ حيث تشرح الجملة شيئًا «ثم تضاف إليها عبارة مقتبسة» — فإن الوسائط الممزوجة قد تقتبس أصواتًا فوق صور، أو فيديو فوق نص، أو نصًّا فوق أصوات. فالاقتباسات إذن تخلط معًا. وينتج الخليط عملًا إبداعيًّا جديدًا؛ هو «المزيج».
قد تكون تلك الأعمال الممتزجة بسيطة أو ربما تكون بالغة التعقيد إلى حد الجنون. فكر، عند أقصى طرفي المعادلة، في فيلم منزلي تُدرَج في منتصفه لقطة من فيلم «سوبرمان». وعند الطرف الآخر، هناك صور أخرى من الفن تتولد بالمزج المتسم بالبراعة الفنية الفائقة بين الصور والفيديو مع صوتيات مكتشفة ومعاد صياغتها من جديد. فكر مرة أخرى في «جيرل توك»، التي تمزج بين ٢٠٠ إلى ٢٥٠ عينة مأخوذة من أعمال ١٦٧ فنانًا في قرص مدمج واحد. إن هذا ليس مجرد نسخ بسيط؛ فلقد استخدمت الأصوات وكأنها ألوان زيت فوق باليتة ألوان. غير أن جميع الألوان كشطت من على رسومات أخرى.
فكيف سيكون رأينا إذن في هذا الأمر؟ وما معناه بالضبط؟
بزغ فن كولاج مع اختراع التصوير الفوتوغرافي. بعد مدة قصيرة من ابتكاره … بدأت تشاهد تلك الأنواع من البطاقات البريدية الفكاهية التي كانت عبارة عن صور مختلطة. فهناك مثلًا عربة يجرها حصان وثمرة خيار في الخلفية بحجم منزل، أشياء من هذا القبيل، مجرد أشياء مكونة من أخلاط تصويرية لعمل دعابات خفيفة. وقد أبهر ذلك الرسامين على الفور في ذلك العصر.
عندما تتلفت من حولك بزاوية ٣٦٠ درجة، كم عدد الإعلانات والشعارات الدعائية المتنوعة التي ستشاهدها في محيطك؟ و[أنت] في سيارتك، وعلى ساعة معصمك، وعلى اللوحات الإعلانية. إذا سرت داخل متجر بقالة أو مطعم أو في أي مكان تتسوق منه، هناك دائمًا موسيقى تصدح في الأجواء. دائمًا … هناك وسائط. هناك إعلانات. هناك مجلات في جميع الأنحاء … [إنه] العالم الذي نعيش فيه. إنها الأرض التي تحيط بنا من كل جانب.
وفنان المزج يفعل نفس الشيء بقِطع الثقافة التي يجدها في صوان فناجينه الرقمي.
أفضل حالات المزج التي شهدتها من قبل هي تلك التي يحقق فيها المزج رسالة أقوى بكثير مما يستطيع أي أصل القيام به وحده، ومن المؤكد أنها أقوى مما تستطيع الكلمات وحدها أن تصنعه.
سيدي، إجابة على سؤالك، فأنا أعلم بالضبط كيف يعمل هذا العالم. إنني أشاهد على شاشات التلفزيون مدى صعوبته. إننا نحرز تقدمًا؛ إنه عمل شاق. إن أناسًا كثيرين عظماء حقًّا يبذلون جهدًا شاقًّا، إن باستطاعتهم بذل الجهد الشاق. هذا هو ما يميزهم عن الأعداء. وهو عمل شاق، ولكنه عمل ضروري وهو جوهري، لكنني من جديد أود أن أقول للشعب الأمريكي إنه عمل شاق. إنه عمل شاق. إنه عمل شاق. ما من شك يخالج عقلي أنه عمل ضروري. إنني متفهم كم هو شاق، هذه وظيفتي. لا شك في ذلك، إنه أمر جد عسير. إنه عمل شاق أود حقًّا أن أؤديه، لكنني كنت آمل ألا أضطر إليه أبدًا، لا يوجد خطأ في هذا. لكنني من جديد أعود وأكرر لإخوتي المواطنين، إننا نحرز تقدمًا. إننا نحرز تقدمًا هناك. أرفض تلك الفكرة. إنها سخيفة. إنه عمل شاق. إنه عمل شاق. تلك خطة لتحقيق النصر وهي أفضل السبل. ما قلته هو أنه عمل شاق وقد أوضحته إيضاحًا بالغًا.
عادةً ما ينفجر الجمهور في موجة عارمة من الضحك عند عبارة «كنت آمل ألا أضطر إليه أبدًا، لا يوجد خطأ في هذا» وبهذا لا يسمع الناس بقية المقطع. لكن في نهايته، يجعلنا المرشح الذي فرضه سادلر نفهم رسالة بوش بصورة أفضل.
و«اقرأ شفتيَّ» سلسلة صنعها سودربرج لصالح شركة سويدية تدعى «أتمو»، وفيه تم عمل تزامن لحركة شفاه المشاهير مع كلمات أغاني أو عبارات لأشخاص آخرين. إنها جميعًا مضحكة بشكل غير عادي (برغم أنك لا يمكنك الآن رؤيتها جميعًا؛ لأن أحدها، والذي تم فيه المزج بين صورة هتلر وأغنية «مولود كي أعيش»، أدى إلى رفع دعوى قضائية ضده).
وأفضل تلك المقاطع (في رأيي أنا على الأقل) أغنية عاطفية تضم توني بلير وجورج بوش. أما المقطع الصوتي المصاحب للفيديو فهو أغنية ليونيل ريتشي (يشاركه في الأغنية باربارا سترايسند) «حب لا نهاية له». ولعلنا نتذكر كلمات الأغنية «حبيبي، لا يوجد سواك في حياتي». أما الصور فهي لبوش وبلير. ومن خلال عملية مونتاج متقنة، يوفق سودربرج بين حركة شفاه بوش وهو يغني الجزء الخاص بالمطرب، بينما يؤدي بلير الجزء الخاص بالمطربة. ولا يمكن لرسالة أن تكون أقوى من تلك: بريطانيا الخنثى وقعت في أسر هوى جامح تجاه سيدها بوش.
النقطة الواضحة هنا أن مزيجًا مثل هذا ليس من الممكن ألا يخلف جدلًا وراءه، على الأقل في ثقافتنا، أكثر فعالية بكثير مما تصنع الكلمات. (وأقصد بكلمة «فعالية» هنا أنها توصل رسالتها بنجاح لقطاع عريض من المشاهدين.) بالنسبة لأي شخص عاش في حقبتنا الزمنية، فإن مزجًا بين الصور والأصوات يوضح المقصود بصورة أقوى كثيرًا جدًّا من أي مقال مكون من ثمانمائة كلمة تنشره النيويورك تايمز. لا أحد يمكنه أن ينكر قوة هذا المقطع، حتى مؤيدو بوش وبلير، مرة أخرى بسبب اعتماده على حقيقةٍ جميعنا يقر بصحتها، بمن فيهم مؤيدو بوش وبلير. إنه لا يدافع عن الحقيقة وإنما يعرضها للناس. وبمجرد عرضها، فإنه لا مهرب ساعتها لأي أحد من تأثيرها. وهذا الفيديو بمنزلة فيروس؛ فبمجرد أن يدخل عقلك، لا يمكنك أن تفكر مرة أخرى في بوش وبلير مثلما كنت تفعل من قبل.
ولكن لماذا، مثلما سئلت أنا مرارًا وتكرارًا، لا يمكن للمولف ببساطة صنع محتوًى خاص به هو؟ ولماذا كان من المهم اختيار إيقاع طبول من تسجيل ما لفرقة البيتلز؟ أو صورة لوارهول؟ لماذا لا تسجل ببساطة إيقاع طبلة خاصًّا بك؟ أو ترسم صورة من إبداعك أنت؟
كان في استطاعتنا أخذ تلك الشرائط التي حصلنا عليها لكيسي قاسم واستئجار شخص ما يحاكي كيسي قاسم، وجعله يؤدي إعادة خلق درامي. فلماذا اضطررنا لاستعمال الشيء الأصلي … الحقيقي فعلًا؟ حسنًا؛ هذا لأن الشيء الحقيقي بداخله قوة. إن له هالة ومهابة. إن به سحرًا. وهذا ما يلهم العمل.
خرج فيلم «مزيج المسيح» إلى النور من قلب خاطر تافه مرَّ بمخيلتي ذات يوم عندما كنت أتنقل بين أرجاء موقع أمازون، فقلت لنفسي: «كم يا ترى عدد الأفلام التي أنتجت عن حياة المسيح؟» وانتهى بي الأمر إلى ثلاثين أو أربعين فيلمًا منها، وبدأت التفكير في أنه [كيف] كان كل واحد من تلك الأفلام يحوي مشاهد متتابعة متشابهة للمسيح وهو يُضرب بالسياط ويجلد ويعذب. هناك دائمًا مشهد له وهو يحمل الصليب وهو يتعثر ثم يسقط على الأرض. وهكذا ولدت الفكرة في عقلي … واعتقدتُ أن هذا من الممكن أن يصنع مونتاجًا مشوقًا للمادة الفيلمية.
ولم يكن من الممكن تنفيذ هذه الفكرة المونتاجية بتصوير فيلم جديد — سيكون رقمه الحادي والأربعين — يصور عملية الصلب.
(٤) أهمية المزج
شرحت لتوي ما أعنيه بالمزج، وذلك بأن وصفت نبذة من ممارسته. وسواء أكان المزج نصًّا أم غير ذلك، فإنه عبارة عن فن كولاج (أي تجميع من هنا وهناك لإخراج عمل فني جديد)؛ ومنبعه الجمع بين عناصر ثقافة القراءة فقط؛ وهو يحقق النجاح عن طريق الاستفادة من المعنى الذي تصنعه المرجعية في بناء شيء جديد.
ولكن ما الداعي لأن يهتم أي إنسان بما إذا كان المزج ستزدهر أحواله أو حتى يوجد من الأصل؟ ما الذي سيجنيه أي امرئ أكثر من مجرد ضحكة رخيصة؟ وما الذي سيربحه المجتمع، أكثر من إغضاب أناس مشاهير؟
في الوقت الحالي، هناك أمران طيبان يصنعهما المزج بالنسبة لنا، أو لأبنائنا — على الأقل — أحدهما يفيد المجتمع، والآخر يخدم غرضًا تربويًّا.
(٤-١) المجتمع
تتواجد عمليات المزج في إطار مجتمع من المازجين. وفي العصر الرقمي، من الممكن أن ينتشر هذا المجتمع في جميع أنحاء العالم. إن أعضاء هذا المجتمع يُنشئون الجديد أحيانًا بعضهم لبعض. وهم يعرضون بعضهم على بعض ما يمكنهم صنعه، مثلما يعرض الأطفال المتزلجون على لوح الانزلاق مهاراتِهم على أصدقائهم، ويُرونهم ما يمكنهم صنعه. وهذا العرض له قيمته النفيسة، حتى إذا كان ما ينتجونه في حد ذاته لا قيمة له.
من بين الأهداف التي يسعى إليها هؤلاء المبدعون اكتساب المعرفة. ومن الأسباب الأخرى استعراض قدراتهم. وأيضًا صنع أعمال ذات جمال مبهر. إن إتقان هذا العمل أمر من الصعوبة بمكان، وأي شخص يجيد عمله يملك كذلك موهبة الإجادة في الصناعات الإبداعية. وهذه الحقيقة لم تغب عن بال القائمين على الصناعات، ولا الجامعات التي تدرب الصغار على هذا المجال. فبعد أن شرحت أفلام الرسوم المتحركة المصحوبة بالموسيقى في إحدى محاضراتي، اقترب مني أحد الآباء ثم قال لي والدموع تترقرق في عينيه: «إنك لا تدري كم يشكل هذا الموضوع أهمية لي؛ فولدي لم يستطع الالتحاق بأية جامعة، ثم عندما عرض عليهم إنتاجه من أفلام الرسوم المتحركة المصحوبة بالموسيقى، صار الآن ملتحقًا بواحد من أفضل معاهد التصميم في أمريكا.»
تشرح إيتو الأمر بقولها: «كل شخص إذن لديه مجموعة خاصة به هو شخصيًّا من البوكيمون. وهذا أمر مختلف تمامًا عن [وسائل الإعلام الأمريكية، التي] تطلب من الأطفال التآلف مع شخصية واحدة.»
وليس البوكيمون سوى مثال واحد على ممارسة شائعة في اليابان.
سوف يحملون معهم أينما ذهبوا كراسة رسم ليس إلا … وبداخلها رسوم لشخصيات المانجا [الكرتونية]. هذا ما يفعله الأطفال [اليابانيون]. وبوصولهم للصف الرابع أو الخامس يشتهر أطفال بعينهم ببراعتهم في الرسم وبعدها يبدءون بالفعل في صنع قصصهم الأصلية بأنفسهم. وعند مرحلة ما يتطلب الأمر حثًّا لهم نحو مشهد «الدوجينشي» بأكمله، وهو ثقافته الفرعية الخاصة به. ويحدث هذا عادةً من خلال التعرف على طفل أكبر سنًّا اشترك في هذا الأمر.
أما الأطفال الأمريكيون فالأمر بالنسبة لهم مختلف؛ إذ ليس التركيز منصبًّا على فكرة «إليكم شيئًا ما، فاصنعوا شيئًا به»، وإنما بدلًا من ذلك ينصب التركيز على فكرة «إليكم شيئًا ما، فاشتروه». تفسر إيتو الأمر بقولها: «الولايات المتحدة تملك استثمارًا ثقافيًّا أقوى في فكرة براءة الأطفال، كما أنها تحمل وجهة نظر أكثر ميلًا لفرض الحماية فيما يختص بالمحتوى الإعلامي.» إن هذه النزعة نحو فرض «الحماية» تمتد كذلك إلى التعليم في المدارس. «فالترفيه» شيء و«التربية» شيء آخر. إذن أي مهارة يتعلمها المرء في هذه «الثقافة المزجية تُبنى في اتجاه مخالف للإنجاز الأكاديمي.» وهكذا، وبرغم أن «الثقافة المزجية» تزدهر مع وسائل الإعلام الموجهة نحو الكبار في الولايات المتحدة، «فلا يزال هناك قدر كبير من المقاومة ضد وسائل الإعلام الموجهة للأطفال وضد [اندماجها] الكامل الفعلي في ذلك الفضاء.»
غير أن هناك شغفًا آخذًا في النمو تجاه المزج لدى الأطفال الأمريكيين، وليست الأفلام الكرتونية الموسيقية سوى مثال مهم على ذلك. كانت إيتو تدرس هؤلاء المبدعين في هذا المجال، الذين يخالجهم «الشعور بمساراتهم» باعتبارهم مبدعين. إنها تحاول أن تفهم متى تأتي اللحظة التي «يعتبر المعجب [نفسه] فيها وسيطًا إعلاميًّا وليس مجرد مستهلك» وما هي التجربة (علمًا أنها من المؤكد لم تكن تعليمًا رسميًّا) التي أدت بهم إلى هذا الشكل من أشكال التعبير؟
إن النتائج التي توصلت إليها إيتو ليست مكتملة، غير أن هناك بعض الأنماط الواضحة. على سبيل المثال، «نسبة عالية جدًّا من الأطفال الذين ينخرطون في ثقافة المزج كانت لديهم تجربة سابقة مع صيغ الألعاب التفاعلية.» و«يسيطر على المشهد في مجال أفلام الرسوم المتحركة الموسيقية رجال بيض ينتمون إلى الطبقة المتوسطة»، وعلى النقيض من أشهر المولفين في تاريخ اليابان الحديث، كانت «فتيات الطبقة العاملة» هن من أنتج ثقافة الدوجينشي. فمعظمهن «لديهن عمل صباحي أو طالبات بدوام كامل ولكنهن … يعشن حياة الهاويات النشطات إلى حد لا يكاد يصدق … [فهن] يعتبرن أنفسهن منتِجات ومشاركات في الثقافة ولسن مجرد متلقيات لها.» وتتم هذه المشاركة مع آخرين. إنهن يشكلن مجتمعًا. وهذا المجتمع يعول نفسه بنفسه.
(٤-٢) التربية
القيمة الثانية للمزج تمتد لما يتجاوز قيمة المجتمع. فالمزج عادة ما يكون في كثير من الأحيان، حسبما تصف ميمي إيتو، استراتيجية تهدف لاستثارة «تعليم يقوم على الاهتمام». وحسبما يوحي الاسم، فالتعليم القائم على الاهتمام موجه من قبل الاهتمامات المكتشفة. فعندما يهم الأطفال بأداء عمل يشعرون بشغف تجاهه، فإن الأطفال (وفي هذا الشأن، الكبار أيضًا) يتعلمون المزيد والمزيد بصورة أكثر فاعلية.
ولقد كتبتُ عن هذا الموضوع في كتاب سابق لي بعنوان «ثقافة حرة». وفي هذا الكتاب قدمت وصفًا لعمل إليزابيث ديلي وستيفاني باريش، وكلتاهما كانت تعمل مع الأطفال في مدارس مكتظة موجودة بمناطق محرومة. وبتقديم محو أمية إعلامية أساسية لهؤلاء الأطفال، رأينا كيف أن فصولًا من الطلاب، ممن كانوا قبلًا لا يتمكنون من الحفاظ على تركيزهم لفترة واحدة، يقضون الآن كل لحظة حرة من كل ساعة تفتح فيها المدرسة أبوابها في عمل مونتاج متقن لأفلام فيديو عن حياتهم، أو عن قصص كانوا راغبين في روايتها.
شهد آخرون القدر نفسه من النجاح ينمو جراء استخدام وسائط المزج في التعليم. ففي جامعة هيوستن — التي لا تستطيع نسبة كبيرة من طلابها التحدث بالإنجليزية كلغة أولى — أنتج مشروع رواية القصة الرقمية نطاقًا غير عادي من الفيديوهات التاريخية، صنعها طلاب يجرون أبحاثهم حول القصة بعناية، وينتقون من أرشيفات الصور والأصوات، ويمزجون ما يحقق أفضل أسلوب في نقل الحجة التي يريدون طرحها من خلال الفيديو.
كل مدرسة ثانوية في أمريكا يجب أن تقدم منهجًا دراسيًّا في محو الأمية الوسائطية. إننا مطمورون في هذا الشيء. إننا نتنفسه. إننا نتجرعه باستمرار. إنها أنباء ومعلومات على مدار اليوم والأسبوع وثقافة شعبية … إذا كنت تحاول تربية أطفالك على التحلي بتفكير نقدي حيال التاريخ والمجتمع والثقافة، فعليك أن تشجعهم على أن يكونوا مفكرين وناقدين للوسائط والمعلومات والإعلان.
فعمل شيء بالثقافة، بأسلوب المزج، واحد من أساليب اكتساب المعرفة.
(٥) القديم في الجديد
بالنسبة لكثيرين، سوف يبدو وصفي للمزج أشبه بشيء حديث للغاية، وهو كذلك بالفعل إذا نظرنا إليه من زاوية ما، غير أنه من زاوية أخرى مختلفة — لعلها أكثر أصولية — علينا أيضًا أن نفهم أنه لا يوجد شيء جديد تمامًا في المزج. بعبارة أخرى، الجزء المشوق في المزج ليس شيئًا جديدًا. كل ما هو جديد في الموضوع هو التقنية المستخدمة وسهولة التشارك في ناتج تلك التقنية. وتدعو هذه السهولة مجتمعًا أوسع للمشاركة؛ فهي تجعل المشاركة أكثر إلحاحًا. غير أن العمل الإبداعي الذي ينخرط فيه الناس ليس بالضرورة مختلفًا بصورة واضحة عن العمل الذي وصفه سوزا، عندما استدعى لذاكرة الكونجرس ما كان يحدث في الماضي بعبارة «شباب يتجمعون معًا لينشدوا أغنيات العصر الحالي أو أغنيات قديمة.»
إذن حسب ما قلت سابقًا، المزج باستخدام «الوسائط» هو نفس الأمر الذي مارسناه دومًا مع الكلمات. فهو الأسلوب الذي استخدمه بن في الكتابة. والذي يستخدمه المحامون في مرافعاتهم. إنه أسلوبنا في الحديث في جميع الأوقات. ونحن لا نلاحظ أنه على هذا النحو؛ لأن هذا مزج قائم على النص، سواء كان كتابة مدونة أو حوارًا نتحدث به، فهو شائع مثله مثل الغبار. ونحن نعتبر الحريات التي نمارسها فيه أمرًا مسلمًا به. وجميعنا يتوقع أن بإمكاننا اقتباس، أو إدماج، كلمات أناس آخرين فيما نكتبه أو نقوله. وهكذا فإننا نقتبس بالفعل، أو ندمج، أو نمزج بين أقوال مختلفة ذكرها آخرون.
نفس الشيء ينطبق على «الوسائط»؛ فالوسائط الممزوج بينها تنجح عندما تعرض على الآخرين شيئًا جديدًا؛ وهي تفشل عندما تكون مبتذلة أو مشتقة. ومثل مقال رائع أو دعابة مضحكة، يعتمد المزج على عمل الغير كي ينتج لنا عملًا جديدًا. إنها الكتابة العظيمة دون كلمات. إنه الإبداع المدعوم بالتقنية الحديثة.
لكن رغم أن هذا المزج ليس بالشيء المستحدث، فإنه ظل يتعرض للإسكات أغلب فترات تاريخنا. لم يكن الذي يسكته رقيبًا على المصنفات، ولا حتى رأسماليين أشرارًا، بل ولا حتى رأسماليين أخيارًا. بل ما كان يسكته أن الشق الاقتصادي للتحدث بهذا الأسلوب المختلف جعل منه أمرًا مستحيلًا، على الأقل بالنسبة لمعظمنا. فلو أنك أردت عام ١٩٦٨ تسجيل آخِر حلقة من البرنامج الإخباري لوالتر كرونكايت والمزج بينها وبين أغنية لفريق البيتلز، ثم التشارك في هذا المزيج مع عشرة آلاف شخص من خيرة أصدقائك، لم يكن القانون هو الذي سيمنعك من هذا. وإنما ما كان سيمنعك أن تكلفة الإنتاج وحدها كانت ستبلغ عشرات الآلاف من الدولارات.
لقد أزالت التقنيات الرقمية الآن هذا الرقيب الاقتصادي. فأساليب الخطاب والمدى الذي يصل إليه صارت عظيمة الآن. وزادت أعداد من باستطاعتهم استخدام مجموعة أكثر اتساعًا من الأدوات في التعبير عن الأفكار والمشاعر بصورة مختلفة. فأعداد من يستطيعون ذلك زادت وسوف تواصل الازدياد، على الأقل إلى أن يمنعهم القانون بصورة ناجعة.