الاقتصادات الهجينة
تبني الاقتصادات التجارية قيمةً يقبع المال في جوهرها. أما الاقتصادات التشاركية فتبني القيمة متجاهلةً المال. وكلتاهما جوهري للحياة سواء على شبكة الإنترنت أو خارجها. وكلتاهما سوف يتعاظم ازدهاره مع تطور تكنولوجيا الإنترنت.
لكن يوجد بين هذين النوعين من الاقتصاد، ثمة اقتصاد ثالث تتزايد أهميته يومًا بعد يوم: هو ذلك الاقتصاد الذي يعتمد على كل من الاقتصادات التشاركية والتجارية معًا، والذي يضيف قيمة لكليهما. هذا النوع الثالث — الهجين — سوف يهيمن على بنيان التجارة على الشبكة العنكبوتية. كما أنه سوف يحدث تغييرًا جذريًّا في أسلوب أداء الاقتصادات التشاركية لوظيفتها.
والاقتصاد الهجين إما كيان تجاري يهدف إلى الاستفادة من القيمة الآتية من الاقتصاد التشاركي، أو هو اقتصاد تشاركي يبني كيانًا تجاريًّا كي يدعم بصورة أفضل أهدافه التشاركية. بأي السبيلين، يربط الاقتصاد الهجين بين نوعين من الاقتصاد أكثر بساطة أو نقاءً منه، وينتج شيئًا من خلال تلك الرابطة.
غير أن تلك الرابطة لا تستديم، على أي الأحوال، إلا إذا حوفظ على التمييز بين نوعي الاقتصاد. فلو أن أولئك المشاركين في اقتصاد تشاركي بدءوا في النظر لأنفسهم بوصفهم أدوات لاقتصاد تجاري، فسوف يكونون أقل استعدادًا للمشاركة. ولو أن أولئك المنتمين للاقتصاد التجاري بدءوا يرونه اقتصادًا تشاركيًّا، ربما يقلص هذا من تركيزهم على العائد الاقتصادي. فالمحافظة على الفصل المفاهيمي هو مدخل المحافظة على قيمة الاقتصاد الهجين. ولكن الإجابة على سؤال كيف يمكن المحافظة على هذا الفصل لا يمكن تقديمها بإيجاز.
لو أن الاقتصادات التشاركية تَعِد بالقيمة، فإن الاقتصادات التجارية هي المتأهبة والجاهزة لاستغلال تلك القيمة. لكن كما سيرى أولئك المنتمون للاقتصاد التجاري، لا يمكنك الاستفادة من القيمة الآتية من الاقتصاد التشاركي عن طريق عمليات شراء عدائية أو الاكتفاء بالاستحواذ على الأصول وحسب، فعليك أن تحافظ على سعادة أولئك المساهمين في الاقتصاد التشاركي، ولذات الأسباب التي جعلتهم سعداء من قبل. فهنا لا يمكنك شراء الحب بالأموال الطائلة، حتى لو كان باستطاعة الحب جلب أموال طائلة.
غير أن هناك اختلافات بين تلك الهجائن. وفي هذا الفصل، آمل أولًا إخفاء تلك الاختلافات من أجل تعلم المزيد عن كيفية وسبب نجاح بعض الهجائن في حين تخفق أخرى. ولما كانت ويكيبيديا تنتمي للاقتصادات التشاركية، فإنَّ لدينا هنا أيضًا نموذجًا. هذه هي الفكرة الرئيسية وكل ما عداها يصبح تنويعًا فرعيًّا منها. وسوف أبدأ بتلك الفكرة ثم أتحول للتنويعات النامية.
(١) الحالة النموذج: برامج الحاسب المجانية
في بدايات تسعينيات القرن الماضي، كان روبرت يونج يعمل في نشاط تأجير الحاسبات. وكوسيلة اتبعها لجلب زبائن لمشروعه، حرر نشرة صحفية أسماها «نيويورك يونيكس». كانت النشرة تغطي أي مواضيع يمكن أن تشكل أهمية لعملائه (المرتقبين)، وبالتالي كان حريصًا على أن يفهم بدقة ما يفضل زبائنه قراءته. «كان علي أن أطرح على جميع أفراد فئات المستخدمين ذلك السؤال: «ما الذي تريدون أن تقرءوه ولا تغطيه كبريات مطبوعات الكمبيوتر حاليًّا؟» كان الشيء الوحيد الذي أمكنهم التفكير فيه في ذلك الحين البرامج المجانية.»
وهكذا قرر يونج أن يكتسب شيئًا من المعرفة ببرامج الحاسب المجانية. فاستقل قطارًا إلى بوسطن والتقى بريتشارد ستُلمان كي «يسأله عن المصدر الذي تأتي منه تلك المادة.» وذهل يونج مما اكتشفه. «كان [ستُلمان] يستخدم خطوطًا [تشبه] تلك التي تصل «بين مهندسين حسب مهاراتهم ومهندسين حسب احتياجاتهم».»
يتذكر يونج أنه قال لنفسه: «أنا رأسمالي، وقد تهاوى سور برلين لتوه. إنني لست على يقين من أن هذا النموذج سوف يستمر.» وقرر يونج أن ينسى أمر هذه البرامج المجانية. «ومع علمه بعدم وجود دعم اقتصادي [لهذه] البرامج المجانية» آمن يونج بأن كل هذا ليس سوى «قطرة في بحر». وبرر ذلك بأن «هذا الأمر لن يسير إلا للأسوأ بمرور الوقت مثلما تطور النظام الشيوعي للأسوأ مع مرور الزمن.»
غير أن يونج سرعان ما رأى أنه مثلما كان الحال في العديد من الأمور الموازية التي رآها ماركس، لم يُفلح خطه التاريخي الموازي تمامًا. فمنظومة برامج الحاسب المجانية لم تتجه للأسوأ. «على مدار الأربعة والعشرين شهرًا التي ظللت أراقبها خلالها، ظلت هذه المنظومة في تحسن نحو الأفضل. لقد صارت البذرة أحسن حالًا. ومن تلك البذرة خرج عدد أكبر من الموجهات. وازداد عدد المنتفعين بها.»
حثت تلك المفاجأة يونج على التحدث إلى بعضٍ من أهم مستخدمي برامج الحاسب المجانية من أجل اكتشاف السبب وراء تحقيق نجاح كهذا. كان من بين أفراد العينة في بحثه هذا د. توماس ستيرلنج، الذي كان يعمل بمركز «جودارد سبيس فلايت» لأبحاث الفضاء، الذي يقع خارج حدود العاصمة واشنطن. وخلال حواره مع ستيرلنج، تعرف يونج لأول وهلة على مجموعة متنوعة وكبيرة من الأسباب التي أدت لنجاح برامج الحاسب المجانية. كان أحد الموظفين العاملين لدى ستيرلنج، واسمه «دون بيكر»، يكتب موجهات إيثرنت وكان يرخص باستخدامها مجانًا. كان بيكر يعتقد أن البرامج المجانية نوع من «إنكار الذات» وكان يعتقد أنه جزء من «الاقتصاد الإيثاري». لكن ستيرلنج كان له رأي مختلف. وحسبما روى يونج لي ما دار في الحوار «قال ستيرلنج: «حسنًا، بالفعل دون يهوى التفكير بهذه الطريقة. لكن الواقع أنه يكتب تلك الموجهات على حساب وقت مركز جودارد، ولست أنا من يحرر له شيك راتبه».» من وجهة نظر ستيرلنج، كانت الحكاية بسيطة: كان هذا جزءًا من اقتصاد المقايضة. «لقد كان يتنازل عن شيء ذي قيمة ضئيلة نسبيًّا، ويحصل في المقابل على قيمة أكبر بكثير.»
يونج شخص براجماتي. إنه يرتاب في الآراء التي تعتمد على وجود روح غامضة. وقد قال لي إن البرامج المجانية لم تجئ من «مجتمع». «على حد علمي، لا يوجد شيء اسمه مجتمع. إنهم ببساطة رهط من الناس ذوي اهتمام مشترك.» وهذا «الرهط من الناس» يمثل «الإنسانية بأكملها». غير أن هناك أمرًا واحدًا يجمع بينهم؛ «رغبة في مشاهدة برنامج حاسب مفتوح المصدر يحقق النجاح.» وهذه الرغبة أدت بأفراد هذا «الرهط» إلى تقبل فكرة كيان تجاري ينتفع بهذا الاقتصاد التشاركي.
وبعد أن صار يونج مقتنعًا بأن البرامج المجانية لم تكن مجرد موضة وستزول، والأهم من ذلك، أن نجاحها لا يعتمد على إحياء لينين من جديد؛ بدأ يبحث عن سبيل لبناء نشاط تجاري يعتمد على لينُكس. «كنت أبحث عن منتج ما لأنني كنت أعلم أنه في وجود نمو للاهتمام بلينُكس، سوف ينتهي بهذا النظام داخل كل حاسوب في الولايات المتحدة … لم أكن راغبًا في أن تكون كل هذه الحاسبات منافسة لي. كنت أفضل أن يكونوا من عملائي. لهذا كنت أبحث عن منتجات يمكنني الحصول عليها حصريًّا.»
عثر يونج على مستثمر شاب ليكون شريكًا معه اسمه مارك إيوينج. كان إيوينج عاكفًا منذ فترة من الوقت على ابتكار أداة برمجية تعمل على نظام لينُكس. غير أنه بعد شهور من الابتكار المحبط، استنتج أن ما كان العالم في حاجة إليه حقًّا وجود طبعة أفضل من لينُكس. وهكذا شرع في بناء تلك الطبعة الأفضل، التي أسماها بعد ذلك رِد هات لينُكس أو «لينُكس القبعة الحمراء». وسمع يونج عن برمجيات إيوينج فاتصل به. وعرض عليه شراء إنتاج تسعين يومًا من برامجه التجريبية، أي حوالي ثلاثمائة نسخة. سرد لي يونج ما حدث: «كان هناك صمت القبور عند الطرف الآخر من خط الهاتف، وأخيرًا فهمت من مارك أنه كان يفكر فقط في مسألة تصنيع ثلاثمائة نسخة. لقد كان توافقًا صنعته السماء.» وهكذا ولدت مؤسسة رِد هات، لتكون مثالًا نموذجيًّا على ما أسميه الاقتصاد الهجين.
جاء نجاح رِد هات، من وجهة نظر يونج على الأقل، من شيء يبدو بديهيًّا للغاية، حتى إننا لو فكرنا الآن وبعد أن تحقق فعلًا لتحيرنا كيف أن مزيدًا من الناس لم يجربوا القيام بنفس الشيء: أن هذه الشركة التي تعمل في مجال البرمجيات المجانية جعلت بالفعل برمجياتها مفتوحة المصدر. حاولت توزيعات أخرى للينُكس خلط مكونات مفتوحة المصدر بمكونات مملوكة لها. كانت تلك على سبيل المثال هي استراتيجية «كالديرا». غير أن يونج فهم أن السبيل الوحيد الذي يمكن لرد هات أن تنافس به مايكروسوفت أو صن ميكروسيستمز أن تمنح عملاءها شيئًا يفوق ما تستطيع مايكروسوفت أو صن تقديمه لهم؛ وهو تحديدًا، إمكانية الدخول المجاني تمامًا على كود البرنامج.
مشكلتنا أننا لا نملك خيارًا. إذا استخدمنا نظام تشغيل «صن أو إس» أو ويندوز «إن تي» وحدث عطل ما، فإنه سيكون لزامًا علينا الانتظار لشهور إلى أن يصل أحد من صن أو مايكروسوفت لإصلاحه من أجلنا. أما إذا استعنا بلينُكس، فإننا نتمكن من إصلاحه بأنفسنا لو كان علاجه ملحًّا حقًّا. وهكذا يمكننا إصلاحه حسب جدولنا الزمني، لا حسب الجدول الزمني لمورد عشوائي.
كان المدخل هو بيع «المنافع» لا بيع «الخصائص». وكان النفع هنا نوعًا من الوصول لبرمجيات لم تكن هناك شركة أخرى مهيمنة على هذا المجال تستطيع تقديمها.
إذن رد هات شركة «هجين». لم يدخل يونج هذا المجال بهدف جعل العالم مكانًا أفضل عما هو عليه، وبرغم معرفتي بالرجل، فأنا أعلم أنه يكون في أسعد حال إذا جعل العالم مكانًا أفضل مما هو عليه. ولكن يونج بدأ هذا المشروع كي يجني المال. غير أن السبيل الوحيد الذي كان يمكن من خلاله لرد هات تحقيق النجاح، أن يستمر الآلاف في المساهمة — مجانًا — في تطوير نظام تشغيل جي إن يو/لينُكس. كان هو وشركته بصدد الاستفادة من القيمة التي سينتجها هذا النظام. غير أنه ما كان هناك من سبيل لنجاحهما إلا إذا واصل هؤلاء المساهمون طواعيةً تقديم إسهاماتهم من أكواد البرمجيات.
ربما يتخيل المرء بالفعل أنه عندما تأتي شركة تهدف للربح مثل رد هات وتحاول تحقيق قيمة كبيرة من وراء حركة البرمجيات المجانية، فإن البعض ربما يطرح «قضية العدالة». إذا نحينا مارك إيوينج جانبًا (الذي كان له اسمه الكبير كمبرمج)، فمن يكون روبرت يونج هذا لكي يربح أموالًا من وراء لينُكس؟ وما الذي يرغم مبرمجي البرمجيات المجانية على الاستمرار في العمل لحسابه (حتى لو كان هذا بشكل غير مباشر فحسب؛ إذ إن أي شخص آخر كان حرًّا في الحصول على العمل كذلك)؟ ماذا كان اعتقاد الماركسي الأصيل ستُلمان (من وجهة نظر يونج على الأقل) بشأن استغلال عمله؟ «وماذا عن المبرمج العامل؟» ربما يتخيل المرء أن يطرح السؤال على هذا النحو.
وهكذا ولدت رد هات (ومن بعدها لينُكس فورس [١٩٩٥]، وكود ويفرز [١٩٩٦]، وتايمسيس كورب [١٩٩٦]، ولينُكس كير [١٩٩٨]، وماندريفا [١٩٩٨]، ولينُكس وان [١٩٩٨]، ومؤسسة بلوبوينت لينُكس للبرمجيات [١٩٩٩]، ومؤسسة بروجيني لينُكس للنظم [١٩٩٩]، ومونتافيستا للبرمجيات [١٩٩٩]، ووينفورلين [٢٠٠٠]، ولينسباير [٢٠٠١]، وزاندروس [٢٠٠١]، على سبيل المثال لا الحصر). إنها بيئة كاملة من الكيانات التجارية صممت بهدف الاستفادة من الاقتصاد التشاركي في صنع القيمة. كان ذلك ميلادًا لأهم الكيانات الهجينة على الإنترنت.
ولعل أكثر الأمثلة الحديثة تشويقًا على ذلك النموذج شركة تدعى كانونيكال المحدودة، وهي كيان تجاري يدعم علامة تجارية أخرى تابعة لجي إن يو لينُكس اسمها أوبونتو لينُكس. تهدف أوبونتو التي أنشأها عام ٢٠٠٤ رجل الأعمال مارك شاتلوورث، إلى أن تصبح «أوسع نظم لينُكس انتشارًا من حيث الاستخدام.» كان اهتمامها منصبًّا في بادئ الأمر على توزيعات سطح المكتب الشديدة السهولة. (جربت بنفسي عددًا من عمليات تثبيت تطبيقات لينُكس. وكانت تلك تفوقها بكثير في سهولتها.) وتأمل الشركة أن تدفع سهولة وجودة توزيعها (ناهيك عن سعرها) عددًا أكبر من مستخدمي الحاسب نحو استخدام أوبونتو لينُكس.
وحتى يتحقق النجاح لذلك التعاون، حسبما يشرح شاتلوورث، هناك ثلاثة أشياء على الأقل يجب أن تتوافر في المجتمع؛ أولاها: أن عليك أن تمنح المجتمع ما يستحقه من «احترام». وثانيها: أن عليك أن تمنحه «المسئولية»؛ أي أن تعطي المجتمع بالفعل السلطة التي تزعم أنه يملكها. «فإذا لم تكن مستعدًّا لاحترام حقيقة أنك قدمت للناس الفرصة لكي تُستثمر جهودهم، ويعتلوا مقعد القيادة … فما من سبيل أمامك لكي تصنع فريقًا قوي البنيان.»
وثالثها، وربما يكون هو أهمها في نهاية المطاف: أن عليك أن «تمنح الناس الشعور بأنهم جزء من شيء له معنى.» هذا المجتمع القائم على البرمجيات المجانية من الممكن أن ينهار بسهولة. فالمساهمون في هذا المجتمع «يشعرون بأنهم جزء من شيء كبير ومهم وجميل … إنهم يشعرون أنه صار متاحًا لهم أن يركزوا على الأمور التي كانوا بالفعل يريدون التركيز عليها. وهذا أمر مُرْضٍ.»
هذه، حسب اعتقاد شاتلوورث، سمة مشتركة تجمع بين كافة المشاريع الناجحة القائمة على مجتمع ما. إذا «نظرت إلى ويكيبيديا» على سبيل المثال «لوجدت أناسًا يشعرون بصدق بأنهم جزء من شيء ما: إنهم يقدمون العون لبناء مستودع للمعرفة الإنسانية، وهذا أمر مذهل. إنه حافز مكتمل، تمامًا مثلما تحصل أنت على حافز مكتمل في البرمجيات المجانية.»
إن رؤية شاتلوورث مختلفة عن رؤية رد هات. تذكَّر أن يونج لم يؤمن بشيء اسمه «مجتمع». أما أوبونتو فإن المجتمع شيء جوهري بالنسبة لها. غير أنه في هذا النطاق من الدوافع، التي يرتبط بعضها بشيء ما بينما لا يرتبط البعض الآخر بشيء، يمكننا البدء في الحصول على شعور بخليط مشوق سينتجه الاقتصاد الهجين. فالتنوع هو منشأ قوته؛ وهو يزدهر بسبب الغموض الذي يخلقه ذلك التنوع.
(٢) ما بعد البرمجيات المجانية
البرمجيات المجانية هي المثال النموذجي على الاقتصاد الهجين، والذي تحقق فيه الكيانات التجارية قيمة ما (ليست رد هات سوى مثال) من وراء اقتصاد تشاركي. غير أنه في حالة ويكيبيديا والاقتصاد التشاركي، من الواضح أن البرمجيات المجانية ليست هي الهجين الوحيد. وفي هذا القسم سوف نلقي بعض الضوء على بعض الأمثلة الأخرى، وغيرها من النكهات التي يضمها هذا الخليط.
تعمدت الإطالة في هذه اللائحة لأن هدفي في نهاية المطاف هو إقناعك بالتنوع وبأهمية هذه الفئة من المشروعات. غير أنني قسمت تلك الأمثلة إلى فئات. فبعض الهجائن تبني فضاءات مجتمعية، والبعض يبني تعاونيات، والبعض الثالث يبني مجتمعات. وسنبحث كلًّا منها في دوره.
(٢-١) النوع الأول: الفضاءات المجتمعية
منذ البداية الأولى للإنترنت، استخدمت تقنياته في بناء فضاءات مجتمعية؛ أي أماكن افتراضية يتعامل فيها الناس فيما بينهم، فيتشاركون في المعلومات أو في الاهتمامات. إن هؤلاء المتعاملين معًا يفعلون ذلك لأسباب تتعلق بالاقتصاد التشاركي: فالشروط التي يتعاملون معًا بموجبها خالية من عناصر التجارة، برغم أن دوافع التعامل قد يجوز أو لا يجوز أن ترتبط بتجارة.
قليلون من استطاعوا تحويل تلك المساحات إلى مشروعات تجارية ناجحة. وهناك عديدون لا يزالون يحاولون. وتعد تلك الجهود والنجاحات أمثلة على أحد أنواع الاقتصاد الهجين.
دوجستر
دعونا نبدأ بداية متواضعة بمشروع هجين لا يسعى إلى تغيير العالم، لكنه غيَّر بصورة جذرية من مدى سهولة ارتباط الناس بعضهم ببعض بفضل علاقاتهم الحميمة (ولن نقول «هوسهم») بكلابهم الأليفة. إن موقع دوجستر، وحسبما يشرح بنفسه، بناه «هواة تربية الكلاب ومهووسو الكمبيوتر الذين كانوا راغبين في تطبيقٍ معنيٍّ بتبادل ذوات الأنياب مخصصٍ بالفعل للكلاب.» ومنذ انطلاقه في يناير ٢٠٠٤، صار أسرع المواقع التي يقصدها هواة الحيوانات الأليفة نموًّا على شبكة الإنترنت. ففي عام ٢٠٠٧ صار «يرسل أكثر من ١,٥ مليون صورة لما يربو على ٣٠٠ ألف حيوان أليف حُمِّلَت صورهم على الموقع من قِبل ٢٦٠ ألف عضو؛ ويرسل موقعا دوجستر وكاتستر أكثر من ١٧ مليون صفحة شهريًّا لأكثر من نصف مليون زائر.» ويقدم الموقع أبواب «منتديات، الإعلانات المبوبة، مذكرات، هدايا للتدليل، رسائل خاصة، أعطني بعض المخالب، ودوجستر بلس، وعنونة الصور الفوتوغرافية، ونزهات ذات موضوع، والسياحة صديقة الحيوانات الأليفة، وشبكة تحديد شخصية الحيوان الأليف.» والموقع مصمم بحيث يجعل هذا الفضاء المجتمعي المركز الرئيس للحيوانات الأليفة على شبكة الإنترنت.
كريجزليست: «أعجبني، السلام، الإنسان»
غير أنه برغم الانتشار الواسع للموقع، فإنه لم يتغير مطلقًا تغيرًا حقيقيًّا في أساليبه الرئيسية. فتصميمه — بادئ ذي بدء — بالغ البساطة، لدرجة أنه يبدو أقرب إلى شيء من الماضي. فلا توجد رسوم جرافيكس خلابة، ولا مقدمة باستخدام تطبيقات فلاش. وعندما تدخل على موقع كريجزليست، تظهر لك شاشة عليها نص باللون الأزرق، كل كلمة به عبارة عن رابط مع فئة ما تحوي الأشياء التي ربما كنت راغبًا فيها. وعلى شريط عنوان الموقع في متصفحك، تجد الأيقونة الدالة على الموقع عبارة عن علامة السلام.
ثالثًا: يقوي كريجزليست هذا الإحساس بالمجتمع عن طريق نقل شيء من المسئولية إلى المستخدمين. فسلطة الحكم على المحتوى من حيث استحقاقه للبقاء على موقع كريجزليست هي في المقام الأول في أيدي المجتمع. وحسبما شرح نيومارك ذلك لي: «إننا نقول: «حسنًا، إذا وجدت شيئًا خطأً، يمكنك تمييزه بعلامة، وإذا اتفق معك آخرون في ذلك، فإنه يُزال بصورة تلقائية.» ويتجاوب الناس بإيجابية حقيقية تجاه تلك الثقة الموضوعة فيهم.»
إن مسألة إن كان هذا «الموقع المجتمعي» يبدو حقًّا أشبه بمجتمع فعلي تكشفها جزئيًّا أنواع الأشياء التي يعتقد الناس أن من الملائم القيام بها، أو التحدث عنها، على موقع كريجزليست. البعض من تلك الأشياء لا يمكنني ترديده في كتاب مثل هذا. غير أن البعض يطلق في صراحة إشارات عن شيء مهم عما يحسه الناس تجاه مجتمع كريجزليست.
النقطة التي أود طرحها من وراء سرد هذه القصة ليست امتداح كريجزليست (وكأنه بحاجة لمزيد من المديح). وإنما إلقاء الضوء على ما صار واضحًا بالفعل: لقد انعكس موقف كريجزليست باعتبارها «اقتصادًا تشاركيًّا» في حقيقة أنه كان من الواضح للجميع أن هذا الموقع بات مكانًا يتوجه إليه المرء كي يقدم يد العون للناجين من كاترينا. كانت هناك دونما شك مواقع ذات حضور أكبر. كان عدد زوار ويكيبيديا كل يوم أكبر من عدد زوار كريجزليست. لكن المعنى الذي قدمته ويكيبيديا لم يكن النشاط الاجتماعي، وإنما كان المعرفة. ياهو وجوجل كلاهما كان له حضور أكبر بكثير من كريجزليست أو ويكيبيديا. لكن كان سيصبح من الصعب أن تخلق شعورًا بأن هذه كانت استجابة من المجتمع عن طريق ربط النشاط بأولئك العمالقة التجاريين. ولا داعي بالطبع لإضاعة الوقت في شرح السبب وراء عدم لجوء الناس للاستعانة بالمواقع الحكومية على شبكة الإنترنت في عمل هذا الخير، فحال الحكومة يدعو للرثاء لو أننا انتظرنا منها أن تكون ملهمًا للمجتمع. إننا نرى كيف ينظر المجتمع إلى كريجزليست عندما نشاهد كيف استعان المجتمع بكريجزليست. وعندما ظهرت الحاجة لنجدة طارئة، جاء الرد البديهي من هذا الموقع البسيط الذي يعرض رسائل المجتمع.
من المستحيل الجزم بطول الفترة التي سيستطيع خلالها كريجزليست الاحتفاظ بتلك السمعة الطيبة. ومعرفتي بنيومارك تجعلني أراهن أنه سيحافظ عليها إلى الأبد. غير أن المؤسسات تتغير، وأحيانًا تغير المؤسسات من طباع الناس، لكن ما يهمنا الآن، أن نستخرج فقط ما يجعل التشارك أمرًا بارزًا في هذا الكيان التجاري. كيان نيومارك هجين ولا يُحسد على ما حققه. وحدسه فيما يخص أفضل السبل للحفاظ على هذا المجتمع حدس صائب لا يخطئ.
فليكر
مع بداية الألفية الثالثة، قرر ستيوارت بترفيلد وكاترينا فيك أنهما يرغبان في بناء لعبة يلعبها عدة أشخاص معًا تسمى «اللعبة التي لا تنتهي أبدًا»، ثم أصابهما الفشل. وكانت فليكر نتاج فشلهما هذا (ليتنا جميعًا نتمكن من «الفشل» بهذه الروعة). فبعد أن أدركا أن البرنامج الذي ابتكراه يمكن أن يصنع موقعًا رائعًا لتبادل الصور، أطلقا الموقع في فبراير ٢٠٠٤.
لم يكن موقعهما أول موقع يمكِّن الناس من وضع صورهم على الإنترنت. ففي عام ١٩٩٩، بدأت ليزا جانسكي وقمران محسنين موقعهما «أوفوتو»، وهي خدمة تصوير فوتوغرافي على شبكة الإنترنت، واستحوذت شركة كوداك على موقع أوفوتو عام ٢٠٠١. أنفقت كوداك الملايين على بناء أوفوتو. غير أن موقع كوداك كان تجاريًّا بحتًا. كان نشاطه كله عبارة عن شراء صور فوتوغرافية، أو شراء ألبومات، أو شراء تي شيرتات طبعت عليها صورتك الفوتوغرافية. كان الموقع يشجع المجتمع بنفس المنطق تمامًا الذي يشجع به متجرُ كوداك الذي يقع في أحد المراكز التجارية المجتمعَ.
لم يكن هذا الإخفاق لدى أوفوتو نتيجة نقص الخبرة. كنت أعرف بعضًا من أفراد الفريق أثناء تلك البداية في بيركلي، كانوا يملكون مقومات النجاح، وكانوا يعملون في كد كي يجعلوا أوفوتو في المكانة اللائقة بها، ولكن مسيرة وصولها إلى الموقع اللائق بها قووِمت من قبل أصحاب النفوذ في كوداك. لم تتفهم كوداك فكرة المجتمع التشاركي، حتى وإن كانت إدارة التسويق بها بارعة في إنتاج إعلانات يسيل لها اللعاب تحتفي بالشركة أيما احتفاء.
من بين الطرق التي أطلقت فليكر من خلالها إشارة دالة على حرية التشارك كان الاستخدام الصريح لبطاقات العنونة، والتي مكنت الناس من القول «أنتم أحرار في التشارك في هذا العمل.» جاءت تلك البطاقات على صورة رُخَص مشاع إبداعي. (سوف نقرأ المزيد عن منظمة المشاع الإبداعي في الفصل العاشر.)
أوضحت هذه البطاقات بجلاء فقدان فليكر للسيطرة على الملكية الفكرية: فالمستخدمون هم أصحاب الملكية الفكرية. كانوا أحرارًا في الترخيص بالاستخدام كيفما شاءوا. وكانت فليكر حريصة على تشجيع الفكرة حتى إنها منحت رخصًا لتمكين الناس من التشارك.
ساعدت تلك البؤرة من التركيز على التشارك في بناء نوع معين من المجتمعات. وسرعان ما صار موقع فليكر جزءًا من هوية مستخدمي فليكر. وعلى حد تعبير بترفيلد: «نِت فليكس مثال على الموقع الذي أتوجه إليه كي أحصل على قيمة من وراء توصيات الغير … لكنها ليست جزءًا من هويتي بوصفي مستخدمًا لنِت فليكس. [ولكن] مستخدمي فليكر يعقدون بالفعل اجتماعات في طهران وكوالالمبور ومانشستر.» ويقوم أعضاء المجتمع بما هو أكثر من مجرد استعمال الفضاء المخصص لهم. بالمفهوم المجازي، هم يلتقطون النفايات من الأرض. ومن بين مفاتيح نجاحات فليكر حقيقة أن أعضاءها يحرسون الموقع دومًا من هجمات الصور الإباحية. فبإمكان الأعضاء وسم أي صورة فوتوغرافية بما يعني أنها غير لائقة. وسرعان ما تمحى الصور الفوتوغرافية الإباحية من الموقع. ونفس الكلام يقال عن التعليقات النقدية. وحسبما أخبرني بترفيلد: «لا يكتب الناس التعليقات النقدية لمجرد أنهم يهوون كتابة التعليقات»، وإنما يقومون بذلك لأنهم يشعرون أنهم جزء من مجتمع ما.
في شهر مارس من عام ٢٠٠٥ استحوذت ياهو على فليكر. وواصل مؤسسوها العمل لصالح الشركة. وأخبرني بترفيلد في معرض وصفه لمواصفات وظيفتهم: «بصورة ما هم أمناء أو أوصياء … أشبه بقيم على أرض يشتري أرضًا سبخة.» من الواضح أن «ياهو» لم تشتر فليكر كوسيلة لدعم الاقتصاد التشاركي، وإنما كان على فليكر أن تكون نموذجًا للاقتصاد الهجين الذي أرادت ياهو أن تكون جزءًا منه. إن ياهو ترمي إلى تحقيق الربح من وراء هذا المجتمع الذي اختص بالتعاون في مجال الصور الفوتوغرافية. إلا أنه حتى الآن، لا تزال الشركة متواضعةً في تطلعاتها. مصدر معظم العائد الذي تحققه فليكر هو عضويات فليكر، التي تمنح المستخدمين «قدرة تخزينية غير محدودة، وقدرة غير محدودة على تحميل الصور على الشبكة، واتساع نطاق غير محدود، ومجموعات لا حدود لها، والقدرة على عمل أرشيفات شخصية لصور أصلية عالية الوضوح، وتصفح وتبادل للصور خالٍ من ظهور الإعلانات.» وتأتي بعض العائدات من شراكات مع مواقع تقدم خدمات طباعة صور فليكر. لكن إلى الآن لا تزال الشركة تضيع على نفسها الملايين. ويدرك بترفيلد ذلك ويقول: «لدينا حاليًّا ما يزيد كثيرًا على مليار زائر لصفحتنا شهريًّا. وهو واحد من أضخم المواقع على شبكة الإنترنت. ولو أننا فقط اتجهنا للقدر الأقصى من الإعلانات المصورة … لحققنا أموالًا طائلة أكثر مما نحققه الآن.» لكن حسبما هو ظاهر للعيان فإن ياهو تدرك أيضًا أنه «كل ما هنالك أن هذا الأمر لن يدوم طويلًا.» ومن ثم، واحترامًا منها للأعراف التي تتفهم أن هذا المجتمع يعتنقها، فإن ياهو تواصل ترك المجتمع يحيا كاقتصاد تشاركي، مع بذل جهود حثيثة وإن كان تأثيرها يتزايد يومًا بعد يوم، لتحقيق شيء من ورائه.
يوتيوب
إذن لماذا يفعل الناس هذا؟ وما الذي يتوقعون جَنْيَهُ من وراء العمل بكل هذا الجد كي يجعلوا اثنين من تاركي الدراسة بستانفورد من الأثرياء؟ معظمهم، حسب رؤية دان بريكلين الفاحصة للأمور، يساهمون باعتبار أن هذه المساهمة نتاج ثانوي للحصول على ما يريدون؛ إنها وسيلة بسيطة وزهيدة الثمن وفعالة في آن واحد لنشر مقاطع الفيديو التي صنعوها. إن يوتيوب، وغيرها من مواقع التشارك في مشاهدة مقاطع الفيديو، تقدم خدمة كانت حتى ثلاث سنوات مضت تبدو عويصة التحقيق بقدر لا يتخيله إنسان: موقع على الشبكة يعرض تسجيلات الفيديو الخاصة بأي شخص مجانًا.
المحتوى ذاته فحسب. إننا نرى في أكثر صفحاتنا مشاهدةً أن بعضًا من هذا المحتوى يأتي من [مواقع احترافية] والبعض من إنتاج مستخدمين. إنهما مقترنان بعضهما بالآخر كعروسين يجلسان متجاورين فوق كل تلك القوائم «الأعلى تصفحًا». لكن بعضًا من تلك المادة أنشئ بمعدات مونتاج ثمنها خمسمائة دولار ووقت طويل أُمضي في تنفيذها، وعلى النقيض ربما أنفقت ملايين الدولارات من أجل إنتاج إعلان لا تتجاوز مدة عرضه خمس عشرة ثانية.
(٢-٢) النوع الثاني: فضاءات التعاون
تختلف مساحة التعاون عن المساحة المجتمعية مثل فليكر أو يوتيوب. فالمساهمون في مساحة التعاون يظنون أن عملهم مختلف. أو إن شئنا مزيدًا من الدقة، على الأقل بعض (نسبة لا بأس بها) من أولئك الذين يساهمون في مساحة التعاون يؤمنون أنهم موجودون هناك كي يشيدوا شيئًا ما معًا. إن المجتمع مرئي، وهو بؤرة العمل. والمقصود أن يصير ناتج المساهمة أعلى قيمة من المادة التي وجدوها عندما جاءوا.
ومن الممكن أن يتخذ هذا التعاون أشكالًا عدة. ولنبحث معًا في مجموعة من الأمثلة.
ديكلان
يمثل هذا مشكلة للصحفيين … لأن الناس تقرأ المقالات لكننا لا نملك بحق مجتمعًا كي نتحدث إليه. كل ما نحصل عليه هو إهانات من أناس يمقتوننا، وتعليقات لطيفة من أناس يحبوننا. غير أن عملية أن تكون قادرًا على التوصل إلى فكرة مقال، وأن تحظى برأي مجتمعي؛ ما هي عملية رفيعة القيمة. وهكذا يمكنك أن تقذف بنوع من الأفكار نصف الناضجة على لائحة العناوين البريدية، ثم تبلور تلك الأفكار إلى شيء تكتبه بعدها بأيام قلائل يمكنك أن تحصل على أجر عليه.
عندما استعانت «سي نت» بخدماته مؤخرًا، اتفق هو ورب عمله الجديد على أنه سيسعى نحو الحفاظ على مجتمعه وأنه سيغذيه بالطريقة التي ينتظرها منه أعضاؤه. لن يكون هناك أي تشارك في معلومات ذات خصوصية، غير أنه يمكن الاعتماد على المجتمع في مساعدة هذا الصحفي على إنتاج أعمال أفضل.
ولا يقتصر الأمر على العمل الطيب وحسب. إن أعضاء بوليتك يتجمعون على موائد العشاء في مدن كبرى. ويتصل ماكولا بهم أثناء سفره وترحاله. وبالتالي أفرز الموقع مجتمعًا، وليس مجرد مجتمع واحد. وحسبما أخبرني ماكولا ونحن ننهي حوارنا: «آه، علي أن أقول: لقد التقيت بزوجتي من خلال اللائحة.»
سلاشدوت
انطلق موقع سلاشدوت في سبتمبر عام ١٩٩٧ مستهدفًا تغطية الأنباء المتصلة بالتكنولوجيا. إلا أن وسيلته لتحقيق هذا كانت تقنية مكنت المستخدمين من التعليق على المقالات التي تكتب بالاستعانة بمراجع، وكذا التعليق على تلك التعليقات. وكان من نتيجة المجموعة الثانية ترشيح التعليقات التي يعتقد بأنها غير ذات فائدة. وكان معنى ذلك أن الموقع يمكن أن يحرر محتواه بنفسه، ومن ثم يقدم لأي قارئ قاعدة بيانات عامة رفيعة المستوى عن المسائل التي تهم مجتمع التكنولوجيا.
ينتج عن هذا التعاون عملية فرز لسلسلة يمكن ألا تنتهي من التعليقات، بحيث يتم اختصارها في بضع تعليقات قليلة قد يرغب قراء الموقع في الاطلاع عليها. إن هذا الموقع يضيف نوعًا من التحرير التعاوني الذي يشمل القراءة والكتابة لصفحة أنباء كان من التقليدي أنها «للقراءة فقط». وهذا التعاون ينتج موقعًا رفيع الجودة لثقافة القراءة والكتابة. إن التحرير قيمة، وهذه القيمة تنتَج مجانًا.
لاست دوت إف إم
ما من شك أن أكثر الصناعات التي ما فتئت تنوح شاكية من الإنترنت هي صناعة التسجيلات الموسيقية التقليدية. كما شرحت، تنافس الإنترنت (سواء كان ذلك بشكل قانوني أم لا) مع نموذج هذه الصناعة لجني الربح من وراء الموسيقى. ولقد قاومت بشراسة كي تحد من تلك المنافسة. لكن ليس كل من ينتمون لصناعة الموسيقى قاوموا الإنترنت، فالبعض سعى للاعتماد على تصميمها، لتمكين التعاون من القيام بين عشاق الموسيقى وجماهيرها. ومن الأمثلة الرائعة على تلك التقنية الموقع المسمى لاست دوت إف إم (استحوذت سي بي إس عليه مؤخرًا).
كان هدف لاست دوت إف إم العثور على وسيلة لوضع خريطة للأعمال الموسيقية المفضلة داخل محرك يمكنه التوصية بالاستماع لقطع موسيقية معينة بصورة أكثر ذكاءً. لقد حاول كثيرون ذلك، غير أن لاست دوت إف إم يقوم بذلك عن طريق خليط فريد يجمع بين المجتمع والتكنولوجيا. إن التكنولوجيا تراقب ما تستمع إليه، ثم ترسل اسم الأغنية التي تستمع إليها إلى محرك يعرف عندئذ المزيد عنك (وعن أناس يشبهونك). بعدها يمكن هذا المحرك الأفراد من الارتباط بآخرين. لكن لا يتم هذا مع تجهيل الهوية، وإنما تساعد التكنولوجيا الأفراد على ربط صفحاتهم الخاصة بهم كمستخدمين بصفحات آخرين، سواء كانوا أصدقاء أم من يشابهونهم في «ذوقهم الموسيقي».
كان مجتمع لاست دوت إف إم في الأصل، ولعله لا يزال، يدور في فلك التنظيف المستمر للبيانات. وهكذا فإنك إذا كانت لديك عناوين أغنيات بها أخطاء إملائية، أو كان لديك فنان يكتب اسمه بطريقة مختلفة باللغة اليابانية، فإن هناك مجتمعًا بأسره يتوجه أفراده لإصلاح ذلك اللبس وتصحيح أخطاء البيانات.
إلا أن الإسهامات صارت الآن أكثر اتساعًا بكثير من أن تكون مجرد شكل ما من أشكال التحرير المجتمعي. «هناك أيضًا مجتمع يدور في فلك كل فرقة من الفرق الموسيقية يتحاور أفراده في شأنها … هناك مجموعات نقاش وأناس يسهمون بمعلومات. ومن خلال الاستماع للكثير من الأعمال الموسيقية، ينشئ المستخدمون سِيرًا لتلك الأعمال ومبدعيها.»
وهكذا، بمجرد الاستماع للموسيقى وحسب، «يخلق الأعضاء قيمة للمجتمع»، ويصير الاستماع نوعًا من الإعلان. فكل أغنية تستمع إليها تُصنَع لها بطاقة تفيد بأنك استمعت إليها. إنها تعلن عن الأغنية. وهي تدل الآخرين على اهتماماتك. غير أن هذه الدعاية مجرد حوار. ومرة أخرى يقول إيتو: «ما نفعله الآن ويمكن أن يطلق عليه من زاوية ما اسم إعلان هو في حقيقته جزء من الحوار.» إن المتطوعون يتحاورون. والناتج عبارة عن قيمة تضاف للشركة.
مايكروسوفت
في منطقة تزداد تباعدًا داخل الفضاء الإلكتروني تسمى يوزنت، هناك مجموعة من المتطوعين الملتزمين المملوئين حماسًا، الذين يعملون على مساعدة أناس لم يلتقوا بهم قط على حل مشكلات الحاسب. ربما تكون تلك المشكلات بسيطة، وربما يكون بعضها بالغ التعقيد، غير أن هؤلاء المتطوعين يقضون ساعات عديدة في مساعدة تلك الأرواح الإلكترونية الضالة على الوصول لسبيل النجاة من الفخاخ الرقمية. في مكان محدد أقصد الإشارة إليه، هناك ما يزيد على ٢ مليون مساهم سنويًّا، منهم أكثر من أربعين ألفًا يقدم كل منهم ما يزيد على ستة وثلاثين إسهامًا في العام الواحد، وحوالي ثمانمائة يقدمون الإسهامات طيلة الوقت تقريبًا.
الأمر المذهل في هذه القصة ليس أن هناك أناسًا يقدمون العون لأناس آخرين. ولا أن أناسًا يساعدون غيرهم دون أن يلتقوا أبدًا. وإنما كل هذا الجهد المقدم للمصلحة العامة مكرس من أجل غاية خاصة جدًّا: وهي جعل عملاء مايكروسوفت أسعد حالًا. فهؤلاء المتطوعون يعيشون داخل «المجموعات الإخبارية» الداعمة لمايكروسوفت. إنهم لا يتلقون أموالًا من مايكروسوفت، والغالبية العظمى منهم لا تعرفهم حتى مايكروسوفت. لكنهم جميعًا يعملون (والبعض يؤدي عملًا شاقًّا فعلًا) لجعل مايكروسوفت أكثر ثراءً بحلهم لمشكلات عملائها.
ومايكروسوفت تعلم ذلك. ففي واحد من مبنييْنِ مخصصيْنِ للأبحاث، يقود رئيس مجموعة تقنيات المجتمع التابعة لمايكروسوفت مارك سميث، فريقًا يدرس بعناية السلوك داخل تلك المجموعات. وقد ابتكرت الشركة تقنيات معقدة لقياس «صحة» تلك المجتمعات وغيرها من المجتمعات الافتراضية، فتطرح سؤالًا على سبيل المثال: هل هناك رصيد كافٍ للإسهامات؟ وهل المساهمات بناءة أم هدامة؟ إنها تتأمل على الدوام فيما إذا كانت الرقابة ضرورية من أجل جعل تلك المجتمعات تعمل بشكل أفضل أم لا. ويدرس الباحثون التفاعل بين الناس. إنهم يراقبون نمط التواصل، ويحاولون أن يتعرفوا على أشكال العمل التفاعلي.
والمشكلة ليست بالهينة. فهناك العشرات والعشرات من المتغيرات التي ينبغي أن توضع في الحسبان. غير أن المتغير الذي يظل غائبًا على الدوام هو المال، ليس لأن مايكروسوفت مدقعة الفقر بحيث لا يمكنها سداد ثمن معاونتهم لها، ولا بسبب أن المجتمع لا يخلق قيمة مهمة لمايكروسوفت، وإنما المال غائب لأن سميث لا يؤمن بأن «المعاملة النقدية لدعم المجتمع» مفيدة. «فهناك العديد من المزايا الاجتماعية التي تحفز بغزارة تقديم الإسهامات للمجتمعات» حسبما شرح سميث. والمال ليس واحدًا من تلك المزايا، فالحقيقة أنه للأسباب التي ناقشناها، ربما كان المال ضارًّا.
ها هي مايكروسوفت بجلال قدرها تنشئ اقتصادًا هجينًا. ويكرس المتطوعون الذين كانوا يحيون ذات يوم داخل اقتصاد تشاركي محض — يوزنت — قدرًا غير عادي من أوقاتهم لمعاونة مستخدمي مايكروسوفت على استخدام منتجات مايكروسوفت بشكل أفضل. ولا تقف مايكروسوفت متفرجة على هذا التشارك، إنها تغذيه وتنميه، فالشركة تنفق موارد حقيقية كي تفهم كيف تجعل الأمر يعمل لصالحها على نحو أفضل. غير أن المنتَج عبارة عن مجتمع قائم على شبكة يتعاون من أجل تيسير استخدام منتجات مايكروسوفت.
إجابات ياهو
ليست يوزنت المنبر الوحيد للمعلومات التشاركية، فالشركات تبني يومًا بعد يوم «مواقع للإجابات» لتشجيع الناس على طرح الأسئلة على نطاق واسع، بحيث تشجع على قيام مجتمع أكثر ثراءً وتنوعًا. في ديسمبر ٢٠٠٥ حذت ياهو حذو يوزنت وأطلقت خدمة أطلقت عليها اسم إجابات ياهو.
ونعود لنتساءل: ما الذي يدفع أي شخص للرغبة في مساعدة ياهو على هذا النحو؟ لقد عرفنا الإجابة من قبل. إنك لا تفعل ذلك لمساعدة ياهو. فالبعض يهوى استعراض مقدار ما يتمتع به من ذكاء أمام الآخرين، والبعض يود تقديم المساعدة. إن عبارة «لأنهم يودون ذلك» تعد تفسيرًا كافيًا لما يدفع الناس لتقديم خبراتهم للآخرين.
لكن كما هو الحال مع مايكروسوفت، لا يشكل المال جزءًا من المعادلة. فالحوافز الآتية من البنيان الشبيه باللعبة كافية؛ وإضافة المال سوف تجعلها تبدو أقرب إلى العمل. بالنسبة للمستخدمين، لم يقصد من وراء الأمر أن يكون عملًا. ومن جديد يقول يانج: «لست على يقين من أننا قد نقدم على قول: «أتعلم؟ لو أنك أجبت على أسئلة كثيرة، سوف تحصل على أجر.» أعتقد أنَّ ثمة توازنًا دقيقًا بين دفع المال للناس وبين شعور الناس بأن حافزهم غير تجاري.»
ويكيا
تعد ويكيبيديا، حسبما شرحت في الفصل السابق، مثالًا على الاقتصاد التشاركي. لقد أغلقت ويكيبيديا الباب تمامًا في وجه الإعلانات ولم تلجأ إليها كوسيلة لكسب المال. ولم يكن هذا ناتجًا عن قلة حيلة، فكما ذكرت من قبل، حسب حركة المرور التي تحصدها ويكيبيديا، فإن بإمكانها أن تحقق ما يزيد على ١٠٠ مليون دولار سنويًّا لو أنها أضافت الخدمة الإعلانية إلى موقعها. فهذه هي الفرصة السانحة للمواقع العشرة الأوائل على شبكة الإنترنت.
الموقع بالفعل كنز من كنوز الثقافة الإنسانية. إن جمهور المسلسلات التلفزيونية يقدمون حقائق تفصيلية عن هذه المسلسلات. ويأمل «مشروع قاعدة بيانات مارفل» أن يصبح «أعظم الموسوعات التي تتناول كل شيء متعلق بعالم مارفل/دي سي وأكثرها مصداقية وأسرعها تحديثًا.» ويمكن لجماهير كرة القدم (المعروفة وليست الأمريكية) أن يعتمدوا على «ويكيا كرة القدم» في جميع المواضيع المتعلقة بكرة القدم. ويمكن لهواة الأكلات أن يساهموا بمناقشة حول الطعام ووصفات الطهي. كل هذا العمل — أو الأفضل أن نقول، هذا الغرام بتلك المواضيع — يقدَّم مجانًا. فلا أحد يجني المال على موقع ويكيا.
فيما عدا، طبعًا، مؤسسة ويكيا التجارية. فعلى العكس من ويكيبيديا، تعرض ويكيا إعلانات بالفعل. هي إعلانات غير لحوحة، وفي بعض الأحيان مضحكة، لكن قيمتها في تزايد مستمر بالنسبة للموقع. إن ويكيا تقدم لمستخدميها منصة مجانية لبناء مجتمع فوقها. المستخدمون هم من يقومون بالبناء. وهذا البناء عملية معقدة من التعاون. وتحصل ويكيا على إيراد الإعلانات.
إن هذه الحقيقة تجعل كثيرًا من الناس يتعجبون كيف يمكن لهذا الموقع أن يعمل على هذا النحو. ألا يدرك بناة تلك المقالات أن ويكيا يمكنها أن تثرى من وراء عملهم الإبداعي؟ والإجابة نعم، إنهم يدركون ذلك، غير أن هذا لا يمنعهم من المساهمة. تمامًا مثلما تفعل صالة البولينج، حسب تفسير ويلز للأمر، تقدم ويكيا سياقًا يحصل من خلاله الناس على ما يريدون. ومثلما الحال في صالة البولينج، يسعد الناس عندما يصنعون شيئًا يستمتعون به. لا أحد يغبط مالك صالة البولينج على ما يجنيه من أرباح. ويؤمن ويلز بأنه لن يحسد أحد ويكيا على ما تحققه من ربح.
«اسمع، إننا نقبل أن تضع إعلانات؛ لأننا نعلم أننا بحاجة إلى بنية تحتية، لكن هذا ليس معناه إعطاءك صكًّا على بياض كي تبالغ في وضع تلك المادة الإعلانية بإفراط في جميع أرجاء الموقع.» وهكذا فإن هذا التوتر ومسألة أن أفراد المجتمعات يملكون سلطة المغادرة بالفعل — وفي استطاعتهم أن يأخذوا كل ما يخصهم من محتوى ومغادرة الموقع إذا لم تجعلهم سعداء — يعد أمرًا مهمًّا للغاية.
هناك إذن عقد اجتماعي بين الجانب التجاري والتشاركي. وبموجب هذا العقد، تُبنى القيمة في ويكيا.
هوليوود الهجينة
لعل أكثر الأمثلة البازغة (وإن كان بزوغًا بطيئًا) تشويقًا على الهجائن التعاونية تلك التي تأتينا من أقل المصادر ميلًا للاتجاه نحو ذلك: هوليوود. فهوليوود يومًا بعد يوم تضم الجمهور في عملية بناء، ونشر وإعادة صياغة منتجها. ويشكل هذا الأسلوب نوعًا من التهجين.
والقصة لا تتسم بالجمال طوال الوقت. فلم يكن سير العمل سلسًا دومًا. ولعل أفضل مثال على ذلك النضال — الذي حقق في النهاية تفهمًا حقيقيًّا — يبدأ بفتاة تعلمت تعلُّمًا منزليًّا تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا اسمها هيذر لوفر.
في يناير ٢٠٠٠ أنشأت لوفر جريدة على الإنترنت بعنوان «ذا ديلي بروفيت». ولم تكن تلك جريدة دينية، وإنما كانت محاولة جاهدة لشرح وإكمال قصة رويت لجيلها بقلم الأديبة الفذة جيه كيه رولينج. ظلت هيذر تجمع كل يوم طيلة شهور طويلة مقالات كتبها أطفال من جميع أنحاء العالم عن ملحمة هاري بوتر. وكانت تقوم بتنقيحها ومن ثم تنشرها على الإنترنت.
و«ملاحقة» في سياقنا هذا معناها إطلاق سيل من الخطابات الغاضبة، كتبت بأيدي محامين مبتدئين، يودون لو أن يمسكوا في أيديهم بمسدسات بدلًا من الحواسب المحمولة من طراز آي بي إم ثينك باد.
شرحت الفتاة لي قائلة: «لو أن شخصًا ما تعرض لتهديد من وارنر، فإن بإمكانه المجيء إلينا. لقد وصل خوف وارنر براذرز مني ومن شريكي، ألاستير ألكسندر، حد أننا كنا عندما نرسل إليهم رسالة بالبريد الإلكتروني، كان التهديد يتوقف في أغلب الأحيان.» و«أهم» جزء في القصة، «بصرف النظر عن أي تأثير قانوني له»، كان ذلك الجزء الذي أعقب هذه المعركة، فالأطفال من جميع أنحاء العالم كانوا يقاومون. كانوا «الآن يحاربون معاركهم الخاصة؛ إذ صارت لديهم ثقة في أن يقوموا بما يستطيعون القيام به.»
كان هذا هو الجزء الذي سمعت عنه من القصة. وكان هذا هو الجزء المثير الذي كنت أرغب في أن تحكي لي لوفر المزيد عنه. ولكن لدهشتي، وسروري (في نهاية الأمر)، لم تكن لوفر مهتمة كثيرًا بالإساءة لوارنر. كان اهتمامها الفعلي بجعلي أفهم جزءًا مختلفًا من القصة لم يرد ذكره في الأنباء كثيرًا.
فهذه لم تكن مجرد قصة شركة إنتاج وسائط كبرى شريرة. بل كانت أيضًا قصة شركة تتعلم شيئًا عن العصر الرقمي. وبقدر ما كانت لوفر فخورة عن حق بالحركة التي تزعمتها، كانت فخورة أيضًا بالأسلوب الذي اتبعته لإفهام وارنر طبيعة القرن الحادي والعشرين. فقالت لي: «لقد قدمنا لهم دروسًا كثيرة فيما يتعلق بالموضع الذي سيتخذ فيه الجمهور موقفًا وعن حجم الهراء الذي سوف نكون مستعدين لتحمله قبل أن نبدأ في رد الهجوم.» وأهم شيء أنها دفعت وارنر لكي تفهم أن جمهور المحبين ليسوا عبئًا عليها. وشرحت لي ذلك قائلة: «صارت وارنر براذرز [مع الوقت] تدرك ذلك … تدرك أن «هؤلاء الناس يمولون امتيازنا من مصروف جيبهم. وعلينا أن نخشى من تشهيرهم بنا».» لقد كان جمهور المعجبين «جزءًا من ميزانية تسويقك أنت لست مضطرًّا لسدادها.»
أكد مارك براندون، الذي صار الآن نائبًا لرئيس شركة وارنر — وكان هو الشخص الذي استدعي للتعامل مع المشكلة — على قصة لوفر. لقد شاهد التاريخ من وجهة نظر تتفق كثيرًا مع وجهة نظرها. وقد أخبرني براندون أن الشركة في البداية «آثرت السلامة. لماذا لا نقوم بما كنا نقوم به دومًا مع علاماتنا التجارية، ونتبع أسلوب حماية أكثر إنسانية قدر الإمكان؟» وكانت لوفر هي الإجابة على ذلك السؤال: لقد بينت لهم السبب. وكان براندون سريعًا في الإقرار بأن «هناك بعض الأخطاء التي ارتكبت.»
وبمنتهى السرعة دفع براندون وارنر نحو اتباع «أسلوب عملي أكثر من هذا». فقال: «هناك تحليل قانوني يتم، غير أنه لم يكن أساس النقاش عندما ظهر هذا الأمر. كان هذا النقاش أقرب إلى بحث كيف يمكننا السماح للجماهير بالاستمتاع بممتلكات وارنر براذرز على الإنترنت، ومع ذلك [نواصل] حماية مصالحنا باعتبارنا شركة ومبدع مصنفات.»
وهكذا «خاض الاستوديو عملية اكتساب معرفة مشوقة» عن «كيفية التعامل بطريقة إنتاجية مع جماهير المعجبين.» وشرح براندون المسألة بقوله: «دفعت ردود الأفعال الآتية من مجتمع المعجبين [وارنر] إلى إعادة فحص منهجنا. ولم تَسِر العملية على صورةِ «حسنًا، دعونا نجلس وننظر إلى القانون ونتبين ما نحن بحاجة لعمله»، وإنما كانت بالفعل أقرب إلى «كيف نتعامل مع هذا الأمر بشكل عملي؟»»
وكان تعبير «بشكل عملي» معناه اتخاذ قرار بنوع الاستخدامات التي كانت وارنر في حاجة إلى السيطرة عليها، وأيها لا تحتاج لذلك. ولم يكن هذا المسار عملية فصل صارمة بين ما هو تجاري وما هو غير تجاري. فمن الواضح أن الإباحية وانتهاك الأطفال خارج هذا الأمر، سواء كان الأمر تجاريًّا أم لا. غير أنه كان هناك المزيد. «كان اهتمامنا الرئيسي بأخذ ممتلكات الشركة واستغلالها في أنشطة تجارية مباشرة، مثل خلق منتجات استهلاكية تقوم على [ممتلكاتنا في هاري بوتر] … لكنَّ هناك أنماطًا أخرى من الاستخدامات التجارية التي … قررنا أنه في استطاعتنا التعايش معها … وكان من بين تلك اللافتات الإعلانية والبرامج المنسوبة إليها.»
حسنًا، من الواضح أن ثمة حدًّا يتمثل فيما إذا كنتم تحاولون، أم لا، جني المال من وراء حق الامتياز الذي يملكه شخص آخر. هذا هو أهم شيء؛ لأنني ما زلت أكنُّ الاحترام لحق وارنر براذرز في أن تقول: «مهلًا، لا يمكنكم جني المال من وراء شيء صنعناه نحن ونملك الحق فيه.» إذن، هذا واحد من أكبر الأشياء التي دائمًا ما نقولها لأطفالنا؛ وهي أنه لا يمكنك أن تنشئ موقعًا لهاري بوتر ثم تشرع في إرباك الجمهور وتحاول حثهم على دفع المال؛ فجني المال من ورائه مرفوض رفضًا باتًّا.
غير أن جزءًا من رسالة لوفر لوارنر كان مؤداه أن الجماهير كانت تقف حيث يوجد المال. ومن قبيل المفارقة أن عاقبة هذه القرصنة (أو ما اعتبرها المحامون كذلك) كانت مزيدًا من المال جناه «الضحية». إذن بينما كان «جني المال من وراء [وارنر] مرفوضًا رفضًا باتًّا» بالنسبة للجمهور، فإنه لم يكن كذلك لوارنر. وفي الواقع قدمت هذه الحجة لوارنر لتبرير لمَ عليهم أن يتحلوا بالاستنارة.
أعتقد أننا سنحصل، كناتج ثانوي، بالتأكيد على ميزة تعود على كل من الجمهور والشركة معًا، وأظن أن هذا هو ما يهم وارنر براذرز. فالمصلحة التجارية ليست كل شيء. ليس مبدؤنا هو «حسنًا، دعونا نستغل جمهور المعجبين بحيث يمكننا أن نضمن تحقيق أموال وفيرة»، ليس هذا هو الهدف رقم واحد للشركة.
لم أعلق على حديثه، غير أن التردد كان سافرًا. ما هو ذلك الشيء الآخر الذي يفترض أن وارنر تسعى لعمله غير «جني المال الوفير»؟ بالتأكيد، ينبغي عليها أن تفعل ذلك بأسلوب لا يستفز مؤلفيها ولا جمهورها. ولكن معنى هذا أن نقول إنه ينبغي عليها أن «تجني المال الوفير» على المدى البعيد. إن عدم استعدادها حتى للإقرار بما لا بد، ولو عند مستوًى ما، أن يكون صحيحًا؛ يكشف إما عن حس تسويقي حريص أو عن قلق تجاه المستقبل. لقد ساعد براندون على بناء هجين وسائطي، لكنه لم يتوصل بعد تمامًا لما يمكن أن يعنيه ذلك بالنسبة للشركة.
لقد تعلمت الشركة أن الإقلال من التشدد تجاه ممتلكاتها الفكرية عمل على تقوية ولاء الجمهور للعلامة التجارية، ومن ثم، العودة إلى فنانيها. ومرة أخرى، لو كان هذا صحيحًا، فإنه بالطبع على وارنر أن تكون أقل تشددًا تجاه ملكيتها الفكرية. وعلينا جميعًا أن نكون سعداء لهذا؛ لأن: (أ) فناني وارنر يحققون المزيد من النجاح، و(ب) حقوق الملكية الفكرية سوف تكون أقل تشددًا. أو لنقلها بصورة أقرب للدقة؛ لأن حقوق الملكية الفكرية ليست مقيدة بأساليب تحد من حرية الأطفال الذين لن يحققوا أي نفع من وراء فناني وارنر. فالمزيد من الحرية أمر طيب، لا سيما عندما يكون تقليص الحرية غير مفيد لأي طرف.
غير أن الناس سوف يقاومون الفكرة، بقولهم إن هناك شيئًا ما غير لائق في «استغلال» وارنر للأطفال. لكنني لا أرى الأمر على هذا النحو. إن «استغلال» وارنر يعني منح الأطفال مزيدًا من الحرية تفوق ما كانوا يتمتعون به من قبل بدونه، في ظل الحقوق التي يمنحها القانون لوارنر. وربما تكون لديك اعتراضات على مساحة الحقوق التي يمنحها القانون لوارنر. وهذه حجة عادلة يمكن أن تثار أمام الكونجرس، غير أنها ليست حجة عادلة ضد وارنر. فوارنر تتنازل عن حقوق منحت لها. وبسبب آرائي في الشركات المساهمة (الرجعية ربما)، آمل أن تقوم بذلك؛ لأنه يساعدها على جني المال. وبسبب آرائي في مسألة الشفافية (الرجعية ربما)، آمل أن نتمكن من كيل المديح لها لقيامها بما تفعله للسبب الحقيقي الذي يدفعها له.
(٢-٣) النوع الثالث: المجتمعات
لقد وصفت الفضاءات المجتمعية والفضاءات التعاونية، قاصدًا بكلمة «فضاءات» التخفيف قليلًا من وقع الكلمات الأخرى الكبيرة. فمن الممكن أن يطلق المرء على دوجستر كلمة مجتمع؛ فهو بمفهوم ما يعد كذلك فعلًا. لكن نطاق الحياة التي يعيشها المرء في دوجستر أضيق كثيرًا (حسبما آمل) من نطاق الحياة في المجتمع التقليدي.
إلا أنه توجد فضاءات على الإنترنت تتطلع لأن تكون أكثر من مجرد فضاءات مجتمعية. والبعض من تلك الفضاءات تستحق بالفعل لقب «مجتمع» بدون أية قيود على الكلمة. بالنسبة للمنتمين لأجيال سابقة، لعل أول تلك الفضاءات (وربما كان أفضلها) مجتمع يسمى «البئر». ولكن بالنسبة للجيل الذي يعرف النت الآن، فإن أكثر الأمثلة تشويقًا على المجتمعات الهجينة تلك الفضاءات الافتراضية مثل «الحياة الثانية».
الحياة الثانية
انظر للحياة الثانية باعتبارها عالمًا تسافر إليه شخصية تبتكرها أنت. وبمجرد وجودها في هذا العالم تفعل تلك الشخصية أي شيء تقريبًا. الشخصية (أو سامحني، من الأفضل أن نسميها «أنت») يمكنها أن ترتبط بآخرين. اشتر بعض الملابس الفاخرة على الموضة، ابتكر نوعًا جديدًا من الدراجات النارية، اشترِ قطعة أرض لبناء منزل، ازرع زهورًا؛ بصفة أساسية، أي شيء يمكنك أن تفعله في حياة الواقع، يمكنك عمله في الحياة الثانية، طالما أنك تجعل كلمة «افتراضي» ملتصقة بكثير مما تفعله. يمكنك أن تجري حوارًا طويلًا مع شخص ما التقيته في مسبح ساونا افتراضي، ويمكنك استكشاف العوالم الافتراضية الاستثنائية التي بناها آخرون، ويمكنك بناء عالمٍ افتراضي استثنائي يستكشفه آخرون.
بطبيعة الحال، لا يوجد شيء في العوالم الافتراضية يجعل الناس أكثر تحليًا بالفضيلة؛ إذن علاوة على كل تلك الأشياء التي يمكن أن نتباهى بها فنحكيها لآبائنا (أو حكاها لنا أطفالنا وهم سعداء)، هناك الكثير مما يحدث في الحياة الثانية لا يمكننا مطلقًا أن نحكيه لأي أحد، أو ربما نرغب في أن أطفالنا لا يفعلوه أبدًا. «الجنس» هو المصطلح المنظِّم لتلك المجموعة من الأشياء، وبالحياة الثانية الكثير من الجنس الافتراضي، بعضه قد لا تكون لديك مشكلة معه؛ إذا نظرت للأمر من زاوية أن المشاركين هنا من الكبار الافتراضيين المتراضين. لكن قد يكون لديك اعتراض إذا نظرت إليهم بوصفهم مجموعة من الزناة الافتراضيين. ومن هذا النشاط الجنسي ما قد تتساءل إن كنت ستصادف أية مشكلة معه أم لا: هل ستكون أسعد حالًا إذا كان ابنك يخوض هذه التجربة في الفضاء الواقعي؟ وهل كنت ستكون أسعد حالًا لو أن زوجتك التقت شخصًا ما في أحد المسابح العامة؟ بالتأكيد، الجانب الافتراضي يخلق ويلبي الاحتياجات معًا. وربما بدون الحياة الثانية، ما كانت زوجتك لتفكر في الأمر على الإطلاق.
- أولًا: يسهم أعضاء الحياة الثانية بالخير والمعونة. فهناك نسبة مئوية لا بأس بها من
أعضاء الموقع يتسكعون محاولين مساعدة الوافدين الجدد وهم يتعلمون التعامل مع
الموقع. وعلى حسب شرح زعيم (أي مدير) موقع الحياة الثانية، فيليب روزدال، لي:
الحياة الثانية بيئة مروعة لأنه، من الواضح، أنها شديدة الثراء بالإمكانيات. وهكذا، فإنك كمستخدم حديث العهد بها، لا بد أن تفزع منها، وأن يصيبك الارتباك أو خيبة الأمل في محاولاتك لعمل أي شيء تحاول عمله. وأعتقد أن ما خرج منها كان مشوقًا للغاية.55ويكمل قائلًا:
بمجرد أن تتبين الكيفية التي تعمل بواسطتها الحياة الثانية، فإن ما يحدث غالبًا أنك تمتلك نوعًا من العملات التي يمكنك منحها مجانًا، وهي نصيحتك وشرحك لأسلوب عمل الأشياء. وأظن أن هذا السلوك مهيمن للغاية. إنه لمن دواعي السرور أن تخبر شخصًا مستجدًّا عما يمكنه أن يفعله، وهم يجنون الكثير جدًّا من وراء هذا أيضًا، ويكونون في غاية الامتنان وبعدها يكون لديك ذلك اﻟ …، لا أعلم … أعتقد أن هناك استمتاعًا طبيعيًّا نشعر به كبشر عندما نكون قادرين على مساعدة شخص آخر، بحيث تصير الفكرة العامة المتمثلة في مساعدة بعضنا بعضًا في البيئة المحيطة أمرًا بالغ القوة. وأنت ترى، في أيامنا هذه، حالات عديدة من تلك تحدث بأسلوب … ليس، حسب اعتقادي، عقلانيًّا من الناحية الاقتصادية على المقياس النفعي.
إذن هل يعني ذلك أن الحياة الثانية شُيِّدت لكي تخلق هذا النوع من المجتمعات؟ قال روزدال بشيء من التسليم: «لا، لا أعتقد أننا حاولنا صراحةً جعل الأمور عويصة في الحياة الثانية. أعتقد أننا سعينا بالمصادفة للقيام بذلك بصورة متقنة.»
- ثانيًا: إن أعضاء الحياة الثانية يسهمون بهبة الجمال. فمثل قاطني حي راقٍ، يقضي أعضاء موقع الحياة الثانية ساعات لا حصر لها يجملون في ممتلكاتهم. ليس فقط لجعلها قابلة للبيع، وإنما أيضًا لجعل الحي أكثر جاذبية. إنهم يبنون تصميمات جديدة؛ وهم يضيفون ملصقات أو صورًا ملونة؛ وينحتون الحدائق، أو المتنزهات حيث يلتقي الناس سويًّا.
- ثالثًا: إن أعضاء الحياة الثانية يساهمون بكتابة برمجيات. ووفق ما صرحت به الشركة، يكتب حوالي ١٥٪ «سيناريوهات» في الحياة الثانية؛ أي ذلك البرنامج الذي يبني الأشياء أو الأماكن التي يشاهدها آخرون. وهناك نسبة لا بأس بها من كتَّاب البرامج هؤلاء — على الأقل ٣٠٪ منهم — يجعلون برنامجهم مجانيًّا كي يستفيد به آخرون.
- رابعًا: إن أعضاء الحياة الثانية أنشئوا مؤسسات لتجعل الحياة الثانية تعمل بصورة أفضل. فأحد الأعضاء، وهو زارف فانتونجيرلو، قرر أن الحياة الثانية في حاجة إلى أسلوب للتصديق على التصريحات أو الوعود (مثلما هو الحال في التعاقدات). وباستعمال تكنولوجيا التشفير، شيد زارف شهرًا عقاريًّا («ملحوظة» في أرض تسمى «ثايريس»). فعندما يوقع شخص ما على الوثيقة، تضيف «الملحوظة» توقيعًا مشفرًا يؤكد على أن توقيع الطرف صحيح، وأن النص المذكور بالمستند لم يتبدل منذ تاريخ التوقيع. والبرنامج مفتوح المصدر، ويستخدم طرقًا مفتوحة المصدر في التشفير (وهو ما يوفر سبيلًا للناس كي يثقوا بأن البرنامج ينفذ بالفعل ما يعد بتنفيذه). ومن ثم فإن البرنامج يضفي قليلًا من الثقة على المنظومة، أو على حد تعبير زارف، «خطوة صغيرة» نحو حوكمة أفضل.56
- وأخيرًا: يناضل أعضاء الحياة الثانية من خلال سلوكيات الحكم الذاتي. ومدينة نويألتنبرج (ومعناها الحرفي بالألمانية: القلعة – القديمة – الجديدة) مثال على ذلك. تصف نويألتنبرج نفسها بأنها «مجتمع ذاتي الحكم فريد من نوعه، هدفه هو: (١) تمكين الملكية الجماعية للأراضي العامة والخاصة العالية الجودة، و(٢) إنشاء مجتمع ذي فكر وإن كان منفتحًا على الآخرين ذا بنًى فريدة في نوعها، و(٣) تنفيذ أشكال ديمقراطية من الحكم الذاتي داخل الحياة الثانية.»57
«ومن خلال خليط من المعمار والثقافة والقانون والسياسة؛ تبني المدينة هذا المجتمع. وعلى النقيض من معظم مساحات الحياة الثانية، يشبه تصميم نويألتنبرج مدينة بافارية تنتمي إلى العصور الوسطى؛ فهي متسعة الأرجاء، عضوية، غير مستطيلة الشكل. صممت المدينة كي تكون «رابطة تهدف للتجريب الاجتماعي التقدمي … تضم الفن الحديث … التنظيمات السياسية … والتربية.» وكانت المدينة أول «جمهورية ديمقراطية» تبنى داخل الحياة الثانية. إنَّ بها أراضيَ تعاونيةً غير هادفة للربح؛ وقد قدمت أول «سندات استثمارية واضحة المعالم»؛ وكانت صاحبة الدستور الأول والوحيد بالحياة الثانية. وعلاوة على ذلك، تقدم الحكومة صكوكًا ومواثيق ملكية واضحة التحديد وملزمة، ومنظومة قانونية عالمية افتراضية.
إذن في كثير من الأحيان عندما يبدأ الأطفال الصغار في لعب وورلد أوف وور كرافت، يكونون في البداية في غاية الجشع. إنهم ينظرون إليها باعتبارها لعبة ولا ينظرون إلى هؤلاء الآخرين الذين بداخل اللعبة على أنهم أشخاص حقيقيون. وسوف يرتكبون أمرًا ينم عن الغباء وسط إحدى الغارات، أو يتركون اللعبة ويغادرونها دون أن ينطقوا بكلمة، أو يفعلون شيئًا ينم عن وقاحة، وهكذا … يدركون أنهم سرعان ما سيفقدون مجتمعهم. وبمجرد أن تفقد مجتمعك، تصير عاجزًا بعد ذلك عن التقدم بطريقة صحيحة، بل وحتى أن تضع قدمك في سراديب معينة وأشياء من هذا القبيل دون أن تتبع النوع الصحيح من التفاعل … أي بدون جماعة.
اللعبة إذن «تدفعكم نحو مساعدة بعضكم بعضًا … إن من الصعوبة بمكان أن تلعبها وحدك، وحين تكون ودودًا مع الناس وتكتسب صداقتهم فستثاب على ذلك.» إن التصميم يزيد من تماسك المجتمع كوسيلة لتطوير ممارسة اللعبة.
حول تلك الاقتصادات التشاركية، تبني شركات من أمثال الحياة الثانية أعمالها. وهكذا يسعون نحو استخلاص أرباح من وراء مشاركة الآخرين. ومن جديد، في رأيي المتواضع الذي يبدو للبعض وكأنه ينتمي لعصر الإنسان الأول، يجب كيل المديح لذلك السعي وراء الربح. وبطبيعة الحال، يجب على الجميع أن يفهم بالضبط ما الذي يحدث؛ فالشفافية أمر جوهري. ولكن في ضوء هذا الفهم، فإن نجاح الشركة معناه فرصة أعظم لتلاحم أعضاء المجتمع. ربما كانت هناك بعض الخلافات حول الشروط: هل يجب أن تكون أرخص سعرًا؟ هل على الشركة أن تصنع المزيد منها؟ غير أن بنيان الاتفاق ليس غامضًا. وسوف تجني ليندن لاب، إذا نجحت، المال عن طريق منح أعضائها ما يريدونه بالضبط: أكثر من مجرد خدمة؛ خبرة تقدم على الأقل بعض المكافآت التي يقدمها أي اقتصاد تشاركي.
حتى الآن، اقتصر وصف هذا الهجين عند طبقة المحتوى من الحياة الثانية. في عام ٢٠٠٧ خطت ليندن لاب خطوة أخرى على المسار الهجين، وذلك عن طريق جعل العميل الذي عن طريقه يتفاعل المرء مع الحياة الثانية «مفتوح المصدر». فقد وضع كود برنامج الحاسب الخاص بالعميل تحت مظلة رخصة البرمجيات العمومية التي تصدرها مؤسسة البرمجيات المجانية، بما يعني أن المصدر كان متاحًا لأي شخص كي يجرب فيه، وذلك بشرط أن التعديلات التي تتم على المصدر عندما توزع فإنها توزع بحرية هي أيضًا.
وقد بدا أنه إذا كانت رسالتك كشركة أن تنمو بأسرع ما يمكنك، وهو أقرب ما يكون لرسالتنا — ليس فقط من منظور «جني المال» لكن فعليًّا، حسبما أعتقد، من المنظور الذي تحدثت عنه في مدونتنا كثيرًا — فإننا نؤمن عمومًا بأن هذه قوة من أجل الخير. إنه مع استخدام الناس للحياة الثانية يكون هذا محسِّنًا إحصائيًّا في جودة حياة المرء. وإذا كان هذا صحيحًا، فإن علينا أن نتيح لها النمو بالسرعة التي يريدها الناس، وعلينا أن ننتقد أنفسنا إذا جاءت لحظة نبلغ فيها بعائداتنا أقصى حد على حساب النمو، أو نحافظ على قدر من السيطرة إذا تخلينا عنها سوف نجعل هذا الشيء ينمو أسرع. وهكذا اتخذنا القرار بتحرير المصدر.
وهكذا، مضينا قدمًا ووضعنا القطع في أماكنها، غير أن إيماننا الجوهري — ولم نكن في ذلك الوقت نملك سوى ما يقرب من ثلاثين مطورًا رئيسيًّا — كان أن هناك المئات، إن لم يكن الآلاف، من الأشخاص المستعدين للمساهمة بأوقاتهم في التطوير، وأنه من ثم سيكون مخالفًا لمبادئنا ألا نسمح لهم بالقيام بذلك. هذا هو ما كنا نسعى لعمله. والنتائج الأولى، ولعلك تعرفها، إيجابية للغاية. إننا نحصل على رقع من الأكواد كل يوم كي نضمها إلى البرنامج … لا أظن أنه كان لدينا وقت كافٍ قبل موعد إطلاق كود المصدر لكي نحدد عدد المطورين الإضافيين الذين انضموا فعلًا، غير أنهم كانوا بالفعل عددًا لا بأس به.
إذن في نهاية الأمر، كان لا بد للحياة الثانية أن تتنازل عن حقوق التأليف والنشر لصالح الإبداع الذي هو صفة أصيلة في اللعبة، وكان لزامًا عليها أن تفتح الباب أمام العميل والحاسبات الخادمة نحو التشارك المجاني في مشروع برمجيات مرخص باستعمالها لعموم الجمهور. بإيجاز، كان لا بد من أخذ كل أصولها وتحريرها للمجتمع. ومن تلك الهبات، فإنها تتوقع أن تحفز إبداعًا سوف يجعل المنصة ذات قيمة غير عادية.
•••
مر حوالي سبعة عشر عامًا منذ صارت الشبكة العنكبوتية العالمية أكثر من مجرد حلم لتيم بيرنرز لي. وبينما هي تنساب داخل عروقنا، غيرت الأسلوب الذي نتعامل به بعضنا مع بعض. ازدادت أعداد من يقومون بأشياء من أجل غيرهم، حتى وإن كانوا يقومون بها للتسلية. وازدادت أعداد الشركات التي تبحث عن سبل لعمل الأشياء من أجلنا؛ لأن أداء الأشياء على هذا النحو أكثر ربحية لها. وزاد عدد من يجربون طرقًا لبناء القيمة عن طريق التعاون مع مجتمع ما، إن الاقتصادات التجارية تستفيد من الاقتصادات التشاركية في إنتاج الهجائن.
إن الاعتراف بالأمر ليس كافيًا وحده؛ إذ تبقى مشكلة عويصة؛ ألا وهي بناء المجتمع الذي سيدعم الكيان الهجين. إذن كيف يُبنى المجتمع؟
والإجابة هي: بشكل صريح ومباشر. قال جيري يانج: «عليك أن تضع التصميم وفي ذهنك المجتمع، وهذا أمر يصعب تنفيذه … عندما نفكر فيه بعد أن تم … يجب أن يكون المجتمع جزءًا من المنتج.»
غير أن المجتمعات لا تنفخ فيها الروح بهذه البساطة. بل ظهرت المجتمعات إلى الوجود من خلال مراحل عدة. ظهر العنصران الأوليان، حسبما أخبرني يانج، عندما «خلق المستخدمون المحتوى، ووزع المستخدمون ذلك المحتوى.» غير أن هذا وحده لم يكن كافيًا لاستدامة المجتمع. فحسب قول يانج: «إن الأمر المصيري فعلًا كي تستديم المجتمعات، أن تكون المجتمعات ذاتها أشبه بالمحررين؛ سواء على مستوى الجودة أو حتى يستمر المجتمع محافظًا على هويته.» هذان الأمران معًا معناهما أن المجتمع كان يمثل ما هو أكثر من محطة للحافلات (أي مكان ملائم للناس كي يتوقفوا فيه أثناء رحلتهم للقيام بأشياء يودون القيام بها). وإنما كان مكانًا يشعر فيه الناس بنوع من التملك. وكان معنى ذلك الفخر بالتملك أنهم اتخذوا خطوات نحو تحسين ما وجدوه.
لكن التحدي الحقيقي يأتي الآن مع بدء تقديم تلك المجتمعات المتواصلة على الإنترنت في تقديم المزيد. فعلى حد تعبير يانج: «يبدأ الناس فعليًّا في وضع العنصر الاقتصادي في الحسبان … [إنهم] يبدءون في جني المال من وراء هذا المجتمع، سواء كان من خلال طبع تقاويم العام أو عمل ألبومات أو أيًّا كان.»
كما تعلم، سوف يمنحك المجتمع نطاق عمل معين لتيسير تكوين نشاط تجاري، غير أن عليهم في نهاية الأمر أن يشعروا أنهم هم من يشكلون جزءًا من الاقتصاد وليس أنت. إذن عليك أن تبحث عن سبيل لإيجاد توازن بين القيمة التي تضيفها أنت كمنصة للمجتمع وبين قدرة المجتمع على الاستفادة من الاقتصاد.
يقول يانج: «الهدف هو أن نجعل الناس يشعرون وكأنهم يحققون منافع اجتماعية حقيقية، وأن هناك منافعَ اقتصادية تعود عليهم من وراء الاستثمار في تلك المنصة.» وفي تشبيه سوف نعود إليه في نهاية الكتاب، واصل يانج حديثه قائلًا: «الأمر لا يختلف كثيرًا عن حكومة تدفع لها تكاليف خدمات أساسية معينة. فإذا أنت أفرطت في فرض رسوم باهظة عليهم، فسيشعر الناس بأنهم مرهقون ضريبيًّا، وإذا لم تفرض رسومًا بقدر كافٍ فإنك لن توفر لهم ما يكفي من خدمات. إذن المسألة دومًا عبارة عن تصرف متوازن.»
إنهما لا يعتمدان على أناس يشكلون صراحةً جزءًا من مجتمع أو يعلمون هوية من بالمجتمع … الشبكة العنكبوتية تشبه ذلك. إنه ذلك البنيان المعماري العبقري الذي ينضم فيه كل شخص لموقعه الخاص، كلٌّ لأسباب خاصة به، ويرتبطون بالآخرين لأسباب تخص كلًّا منهم، ومع ذلك، هناك خلق لقيمة مشتركة.
لم يكن بسبب اعتقاد [الناس] أنه موقع خفيف الدم، وإنما كان بسبب توصل يوتيوب للسبيل الأفضل لجعله موقعًا تنتشر عدواه سريعًا كالفيروسات. إن هذه السمة تتمثل في جعله يخدم المصالح الخاصة للناس، بحيث يساهمون فيه دون أن يخطر ببالهم أنهم يساهمون. لقد قالت جوجل: «حمل مقطع الفيديو الذي لديك هنا ونحن سنستضيفه»، وقالت يوتيوب عن طريق مشغل الفيديو الخاص بها «فلاش»: «ضع هذا المقطع على موقعك وسنستضيفه في أي الأحوال.» وهكذا تجد نفسك تشارك الغير في الفيديو دون أن تتحمل أية تكاليف وبدون عناء.
وواصل حديثه قائلًا: «الناس لا يخطر ببالهم أنهم يتبرعون ليوتيوب. إن كل ما يفكرون فيه هو: «يا له من شيء رائع! إنني أحصل على خدمة مجانية من يوتيوب».»
إن النقطة التي أثارها أوريلي نقطة طيبة. إنها تعتمد اعتمادًا مباشرًا على فكرة بريكلين. إنك تخلق القيمة بمنح الناس ما يريدون؛ إنك تصنع الخير عن طريق تصميم ما تقدمه؛ بحيث إن من يحصلون على ما يريدون يمنحون هم أيضًا شيئًا بالمقابل للمجتمع. فلا أحد يبني الهجائن استنادًا على تضحية المجتمع وحدها. إن قيمتها تأتي من منح أفراد المجتمع ما يريدون بطريقة تمنح المجتمع في الوقت نفسه شيئًا يحتاج إليه. الجزء القديم من القصة أنه داخل سوق تنافسية، يأتي النجاح من تلبية احتياجات العملاء. أما الجديد في الأمر فهو أن ندرك وجود نطاق أوسع من الرغبات، البعض مدفوع بالحافز الذاتي، والبعض مدفوع بالحافز الغيري، والتقنية المستخدمة في هذا الأسلوب يمكنها أن تساعد على خدمتهم.