دروس في الاقتصاد
عندما يتفاعل الاقتصادان التجاري والتشاركي معًا، ينتجان الاقتصاد الهجين. أما مسألة الحفاظ بنجاح على استدامة الهجين الناتج فهي أصعب. ونحن لم نشهد بعد ما يكفي للقول بأي استنتاج قاطع في هذا الصدد، لكننا شهدنا ما يكفي لوصف بعض الدروس والعبر المهمة.
(١) الاقتصادات المتوازية ممكنة
الاقتصادات المتوازية التطوعية ممكنة أيضًا وغالبًا ما تكون مربحة. عندما اكتشفت شركات التسجيلات الكبرى الفنانين في موقع سي سي ميكستر ثم وقعت معهم اتفاقات أو عقودًا لعمل ألبومات، ظل العمل الذي كان الفنان يرخص استخدامه مجانًا مجانيًّا كما هو. والحقيقة أنه في بعض الأحيان، كانت نفس الأغنية تُرخَص لكل من الأغراض التجارية وغير التجارية. وساعد ذلك النواحي التجارية. وسوف يحذو المزيد من الفنانين وشركات الأسطوانات في المستقبل هذا الحذو.
(٢) أدوات تساعد على توجيه المبدع نحو الاقتصاد الذي يبدع من أجله
يشجع هذا النوع من الإشارات الآخرين على المساهمة في الاقتصاد التشاركي؛ مما يمنحهم الثقة في أن هديتهم لن تستغل في أغراض غير متسقة مع طبيعة الهدية. وهي بذلك تشجع هذا النوع من اقتصاد التهادي؛ لا عن طريق التقليل من شأن الاقتصاد التجاري أو تشويه صورته، وإنما ببساطة عن طريق إدراك الحقيقة البديهية القائلة بأن البشر يتصرفون بدوافع متباينة، وأن الدافع للعطاء يستحق الاحترام بنفس القدر الذي يستحقه الدافع نحو الأخذ.
(٣) المتحولون في نمو
مثلما يشير الدرس الثاني، لا شيء يمنع عمليات التحول. لا يوجد خطأ، على سبيل المثال، في أن يأخذ فنان سبق له أن أبدع شيئًا وقدمه مجانًا في نطاق اقتصاد تشاركي، عمله الإبداعي هذا ويبيعه لمحطة إن بي سي أو لشركة وارنر براذرز. والحقيقة أن هذا الأمر يحدث طوال الوقت في دنيا الأعمال المرخص بها من قبل منظمة المشاع الإبداعي. ولما كان من الممكن وجود اقتصادات متوازية، فإن الكثير من المساهمين اكتشفوا أن اللعب في نوع واحد من الاقتصاد لا يحرمهم من اللعب في النوع الثاني.
وشاهد شخص ما من طاقم العمل في برنامج «ساترداي نايت لايف» عمل الفرقة وأعجب به. وفي خريف عام ٢٠٠٥، انضم أحد أعضاء الفرقة إلى طاقم عمل البرنامج كعضو طاقم، بينما انضم الآخران كمؤلفين. لا تزال أعمالهم متاحة بموجب رخصة المشاع الإبداعي، غير أن هذه الرخصة ساعدتهم أيضًا على التحول نحو الاقتصاد التجاري.
(٤) الحوافز القوية سوف توجه الكيانات التجارية نحو التهجين يومًا بعد يوم
برغم ما تطنطن به الكيانات الهجينة من بلاغة خطابية، فإنها تمارس عملها بالأساس من أجل المال. إن الكيانات التجارية التي تستفيد من الاقتصاد التشاركي تقوم بذلك لأنها تؤمن بأن منتجها أو الخدمة التي تقدمها سوف تصبح أعلى قيمة لو أن الناس استفادت منها. والاقتصادات التشاركية التي تجلب التجارة إلى الخليط تفعل ذلك لأنها تؤمن بأن عائداتها ستزداد. إن النموذج الهجين وسيلة لإنتاج القيمة. ولو لم يكن كذلك، لما اتبع أي كيان هذا النموذج الهجين.
من بين طرق إنتاج الكيان الهجين للقيمة الكشف عن المعلومات مجانًا. الكيان الهجين بطبيعته لا يمكنه التحكم تحكمًا حصريًّا في المعرفة أو الممارسة العملية للاقتصاد التشاركي الذي يعتمد عليه؛ ولهذا فإن تصميمه يترك الباب مواربًا للبحث أو للتطوير، والشركة ببساطة تتنازل عن ذلك الأصل المادي.
قد يتحير البعض من فكرة أن التنازل عن شيء ما قد يشكل استراتيجية لجلب المزيد من المال. والحقيقة أن انحيازنا الفكري بشأن مفاهيم معينة مثل الملكية يقودنا في الغالب، وبصورة غريزية، نحو الاعتقاد بأن أفضل استراتيجية لإنتاج الثروة أن تسعى لبلوغ أقصى قدر ممكن من التحكم في الأصول التي نمتلكها، بما فيها (وهو الأهم في حالتنا هذه) أصول الملكية الفكرية.
رغم ازدياد أعداد الهجائن مع انتشار الإنترنت، فإنني لا أصف قاعدة خاصة للاقتصاد لا تعيش إلا في العالم الافتراضي وحسب. فالحقيقة أنه بالتوازي مع نشر الهجين للحق في الابتكار، فإن هذا الحراك يتتبع من جديد المبدأ بالغ القدم الذي شرحته من قبل وهو: تحويل الابتكار بعيدًا عن لب المؤسسة كلما سمحت تكاليف المعاملات بذلك.
إن الاقتصاد الهجين يعلمنا أن هذه الاستراتيجية سوف تزداد انتشارًا كلما تكاثرت تقنيات خفض تكاليف المعاملات. وبالعكس، سوف يضيق الخناق عليها بسبب تلك التغيرات التي تزيد من تكاليف معاملات الاقتصاد الهجين.
(٥) إحساس الناس بالعدالة سوف يكون من أسباب قوة علاقة التهجين بين الاقتصادَين التشاركي والتجاري
ليس لتلك الاقتصادات الهجينة تاريخ طويل بعد. وما من شك أن الحماس المبدئي سوف يفسح الطريق في القريب العاجل لوجهة نظر محسوبة أكثر، وربما كانت متشككة. فأولئك المساهمون في الاقتصاد التشاركي في نطاق هجين ما، سوف يزداد تعجبهم يومًا بعد يوم من ذلك العالم الذي يستغل فيه العمل المجاني من قبل شخص آخر. هل يجب أن يحصلوا بدورهم على مقابل؟ وما طول المدة التي ستعيشها تلك الكيانات الهجينة؟
لكننا رأينا أن الاكتفاء بتعويض الناس ليس هو الحل بالضرورة. إن أخلاقيات الاقتصاد التشاركي تختلف عن تلك التي يتصف بها الاقتصاد التجاري. فلو كان عمَلُ أولئك المتطوعين بوضوح مجرد جزء من اقتصاد تجاري، لكانت الإجابة حينئذ بسيطة: بالطبع، يجب تعويضهم ماديًّا؛ وما لم يحصلوا على أجر، فإنهم لن يعملوا. ولو كان عمل المتطوعين هو مجرد جزء من الاقتصاد التشاركي، فإن الإجابة ستكون بسيطة كذلك: إنه لن يكون (لزامًا) عليك أن تدفع للمتطوعين أكثر مما تدفعه مقابل ممارسة الحب مع زوجتك.
إن كلمة السر هنا هي «على نحو ملائم». من الواضح أنه لا بد هناك من تعويض مناسب. ولكن نوع التعويض هو الأمر المحير. ومرة أخرى، نقول إن «الاقتصاد التشاركي» لعاشقَين هو ذلك الاقتصاد الذي ينبغي أن يكون فيه كلٌّ منهما حريصًا على حصول الطرف الآخر على تعويض «كافٍ وملائم عن إسهامه». غير أن كتابة شيك بمبلغ كبير كطريقة للتعبير عن «الشكر عن الوقت الذي قضيتماه سويًّا» على الأرجح لن يكون بالفعل الصائب.
-
إنك تتقدم لجوجل بطلب استعلام بحثي ثم تنقر على واحدة من الروابط التي ترسلها جوجل إليك. لقد قدمت لجوجل شيئًا ذا قيمة؛ معلومة تقول أنك حكمت على الرابط بأنه يمثل الإجابة الملائمة على البحث الذي اخترته. لقد شيدت جوجل شركتها على مثل تلك الهدايا القيمة. فهل جوجل بذلك تستغلك كي تتربح من ورائك؟ أم أنت الذي تستفيد من وراء جوجل؟
-
إنك تضع مقطع فيديو على يوتيوب ثم تضمنه داخل مدونتك. لقد قدمت ليوتيوب شيئًا ذا قيمة؛ سلسلة أخرى من العملاء يزيدون من قوة حصتها السوقية، جاذبين بذلك مزيدًا من المشاهدين من خلال قناة تساعد يوتيوب على فهم ماهيتهم، ومن ثم تعرض عليهم الإعلانات الملائمة لهم فتجني المزيد من الأرباح. فهل يوتيوب بذلك تستغلك كي تتربح من ورائك؟ أم أنت الذي تستفيد من وراء يوتيوب؟
لا بد أن النقطة قد صارت واضحة: فكل من المستخدم والشركة يستفيدان من التعامل. وعندما يستفيد كلاهما، فكيف يمكننا أن نعرف من الذي يتربح على حساب الآخر؟
هناك اندماج اجتماعي … [و] الناس بمفهوم أو بآخر سوف ينظرون إلى آخرين بعينهم بوصفهم أناسًا أخيارًا؛ ولهذا سوف يواصلون العمل في صالحهم أكثر مما كانوا ليفعلوا من أجل شخص ما يعتبرونه معاديًا لهم. ولعل من الأمثلة الطيبة على ذلك حقًّا … سفاري، وهي خدمتنا لتقديم الكتب على شبكة الإنترنت. إن لدينا تكنولوجيا إدارة حقوق رقمية بالغة الخفة [لتلك الكتب، مما يجعلها] عصية على الرصد. لكنها ليست بالغة الصعوبة … فنحن نتلقى الآلاف من الرسائل الإلكترونية التي ترد إلينا من أناس يذكرون لنا ذلك. إنها عبارات على شاكلة: «مرحبًا، لقد عثرت على كتبكم على موقع في روسيا»، «لقد عثرت على كتبكم على موقع في رومانيا». أراهن أن اتحاد صناع التسجيلات الأمريكي لم يحصل على تلك الرسائل الإلكترونية.
هناك ممارسة بانية للثقة لا تقع في الأحوال التقليدية؛ لأن الشركات بالفطرة شركات خاصة، ولأنه من الناحية التاريخية كانت المنافسة تقع في المرتبة الأولى في الأهمية للشركات؛ لهذا فإن الخصوصية [أو السرية]، بغرض منحك فرصة للتفوق على منافسيك، ظلت دومًا نوعًا من حجر الأساس المحوري للسلوك التجاري. ووسط عالم من المحتمل فيه أن يقرر الانفتاح وتأثيرات الشبكة من المنتصر، فإن عليك الآن أن تحطم ذلك الاعتقاد. أنت تريد بناء شركة لا تأتي قيمتها في المقام الأول من الخصوصية، وإنما من المكاشفة.
لقد أردنا أن نبني جيلًا جديدًا من محركات البحث، وهو نوع ناضلت كل من أليكسا وأرشيف الإنترنت من أجل القيام به عام ١٩٩٦. وتبين لنا أننا كنا على خطأ، وأن العالم لم يكن بحاجة لنوع مختلف اختلافًا جذريًّا من محركات البحث؛ لأن محركات البحث كانت تسير بصورة لا بأس بها. غير أنه كان على أليكسا أن تجمع أطراف الشبكة العنكبوتية العالمية وأن تجعل البحث مبنيًّا عليها. وهكذا كانت بمنزلة شركة تهدف للربح تستفيد من عمل الآخرين — الذي هو محتوى الشبكة العنكبوتية — كي تنتج خدمة.
غير أننا باستغلال المادة لحد يتجاوز كونها مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بإنتاج تلك الخدمة، لم نشعر في أليكسا أن هذا شيء سليم. وهكذا تبرعت أليكسا بنسخة مما جمعته لجهة لا تهدف للربح وحذفت النسخة التي لديها. وهكذا بعد ستة أشهر، استخدمت أليكسا المادة كي تؤدي الخدمة التي كان الناس، بشكل أو بآخر، يتعاونون [مع] أليكسا أو يسمحون لها ببنائها. لقد تبرعت بنسخة، وحذفت نسخهم. … لقد نظرنا لهذا بوصفه جانبًا شديد الأهمية من التوازن بين مصلحة الملكية في شركة تجارية، وبين الصالح العام الذي يمكن تقديمه بصورة أفضل داخل جهة لا تهدف للربح.
كل شركة تبني نموذجًا هجينًا سوف تواجه بالضبط نفس هذا التحدي: كيف تضع إطارًا لعملك، وللربح الذي تتوقعه، بأسلوب لا يفزع مجتمعك فيبعده عنك. عبارة «التربح المتبادل» لن نفتأ نرددها مرارًا وتكرارًا، على الأقل إذا كان من الممكن جعل القيمة العائدة على الجانبين أكثر وضوحًا.
هناك بالطبع أمثلة شهيرة على اتخاذ هذا التربح المتبادل منحًى سيئًا، كان من بينها قاعدة البيانات التي أنشأها متطوعون؛ قاعدة بيانات الأقراص المدمجة.
كما شرحت من قبل، كانت قاعدة بيانات الأقراص المدمجة قاعدة بيانات على شبكة الإنترنت احتوت معلومات مسار عن الأقراص المدمجة. لم تكن تلك المعلومات مدرجة على القرص المدمج ذاته، وإنما كان المستخدمون هم الذين يضيفونها. وقد قال تي كان، مبتكر قاعدة بيانات الأقراص المدمجة، لنفسه: «[إذا] كتبتُ جميع هذه المعلومات عن قرص مدمج معين، فما الذي سيدفع جو الذي يقطن بجواري لكتابة نفس المعلومات»، حسبما شرح لي ديفيد مارجلين، المستشار العام للشركة الذي استحوذت في نهاية المطاف على قاعدة بيانات الأقراص المدمجة، وهي شركة جريسنوت. وهكذا بدأ كان ومعاونه ستيف شيرف «في تبين شكل الأسلوب الذي سيتبعانه في جمع مختلف التجميعات التي كتبها الآخرون. ومن ثم صار ذلك المستودع قاعدة بيانات الأقراص المدمجة.»
كانت كل هذه الطباعة تتم بصورة تطوعية. لقد أراد الناس من آلاتهم أن تتعرف على المسارات؛ وكانوا سعداء وهم يشاركون آخرين تلك المعلومات التي كتبوها على آلاتهم. وبنى كان وشيرف أدوات تستطيع تجميع نتائج هذا العمل التطوعي «بأخلص النوايا في العالم. فلم يكونوا بصدد السعي لجني أي أموال من ورائها. كان ما يريدونه بالفعل مجرد تكوين شبكة اجتماعية والحصول على كل التأثيرات التي تصنعها الشبكة.» لقد شيدوا مشاعًا للآخرين كي يضيفوا إليه؛ وقد أظهر المتطوعون «مزايا المشاع» من خلال الإسهامات التي قدموها.
وهكذا بدأ مؤسسا قاعدة بيانات الأقراص المدمجة البحث عن أسلوب للتأكد من أن إبداعهما يمكنه البقاء.
لم تكن جريسنوت مستعدة للنقد. أخبرني مارجلين أنه كان هناك الكثير من «السخط في الأجواء صادرًا عن أناس لم يفهموا مسألة التحول من عبارة: «ما هما إلا رجلان يعملان من مرآب المنزل» إلى: «إنها خدمة عالمية الطراز لا بد أنها قادرة على تشغيل برمجيات أبل».» كان من شأن المزيد من الشفافية أن يفيد هنا، مثلما كان سيفعل إيجاد أسلوب أوضح للمتعاونين كي يستفيدوا. ومرة أخرى يقول مارجلين: «قد لا يكون التعويض ماديًّا، غير أنه قد يكون في صورة امتنان أو تحية على شيء له قيمة بحيث يكون هناك تبادل للقيمة بين القنوات المختلفة.»
لقد كان التحول في القواعد، على خلفية من التوقعات المتباينة، هو الذي أنتج تفاعلًا قويًّا إلى حد ما ضد جريسنوت، برغم أنه حتى يومنا هذا لا تزال جريسنوت تملك «برنامجًا لو أنك كنت مبرمجًا وأردت أن تطور تطبيقًا غير إعلاني ولا تريد أن تحصل على أي عائد منه، فإنك حر في الحصول على برمجيات جريسنوت واستخدامها.»
كلٌّ من [قاعدة بيانات الأقراص المدمجة وقاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت] تحولت إلى شكل المنظمات التجارية. وكان هناك شعور بالخيانة من جانب أولئك الذين أسهموا بجهودهم مجانًا؛ لأن شخصًا آخر بدا وكأنه يستفيد من ورائهم ولا يعيده لعموم الناس مرة أخرى.
الآن في ظل وجود قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت، تشعر أمازون بالحبور؛ لأنها تسدد فواتيرها بناء على منتجاتها القيمة من الدعاية القائمة على الاشتراكات … ولكن هل انتهى الأمر بقاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت إلى ما كانت يمكن أن تكون عليه؟ لا أظن ذلك.
إن الصراع هنا أعمق من الإنترنت. ولن تحل مشكلته في الاقتصاد الهجين إلا عندما يمنح كل اقتصاد منهما — أي التجاري والتشاركي — التصديق بصلاحية الآخر. لو أن أولئك الذين ينتمون لاقتصاد تشاركي يمقتون التجارة — إذا كانوا يشمئزون من فكرة حصول أي شخص على ربح، في أي مكان — فإن إمكانية ظهور كيانات هجينة ليست قوية. وبالمثل، لو أن أولئك الذين ينتمون للاقتصاد التجاري يتجاهلون أخلاقيات التشارك — إذا كانوا يعاملون أعضاء الاقتصاد التشاركي على أنهم زبائن، أو أطفال — فإن هذا لا يبشر بقيام اقتصاد هجين سليم.
إن أكبر معيار كفيل بتشجيع قيام اقتصاد هجين هو العرف الذي يتبعه كثيرون داخل مجتمع جي إن يو/لينُكس: أن أي استخدام، بما فيه الاستخدام التجاري، هو استخدام عادل. والمشكلة في ذلك العرف في مجال الثقافة (على عكس الحال في البرمجيات) أن المنتجات الثقافية لا تكون تعاونية بمثل هذا القدر من الوضوح. ومن ثم فإن الشعور باستغلال الفرد يكون أقرب كثيرًا جدًّا إلى أن يكون واقعيًّا. عندما تأخذ جوجل عمالة مجانية من مجتمع جي إن يو/لينُكس وتستغلها لتحقيق أنجح نشاط تجاري على شبكة الإنترنت على مستوى العالم، فلن يكون من المنطقي أن تجد فردًا في ذلك المجتمع يقول «جوجل استغلتني!» ولكن إذا أخذت سوني أغنية ما مرخصة بطريقة مجانية مشابهة وباعت منها مليون قرص مدمج دون أن تعطي المبدع مليمًا (مرة أخرى، هذا ممكن تمامًا بموجب ترخيص التغاضي عن حق التأليف والنشر)، فمن شبه المؤكد أن شخصًا ما ستكون لديه ذريعة قوية للادعاء بأنه تعرض للاستغلال.
غير أن الأمر يعتمد على السمات المادية لمشاريع البرمجة المعقدة. فالسمات نفسها لا توجد، مثلًا، في أغنية أو رواية. وأيًّا كان الحافز الذي يدفعك نحو البقاء في عالم المشاع بسلع تعاونية معقدة، فإن نفس هذا الحافز لا ينسحب تلقائيًّا على جميع الأعمال الإبداعية. ففي حالة تلك الأعمال، لا يوجد شيء أكثر من العرف ليدعم الاستمرار في ترك المورد حرًّا. أما مسألة إن كان هذا العرف سيظل على قيد الحياة أم لا — أو كيف سيكون ذلك — فإنها غير واضحة، لي أنا على الأقل.
لا أعلم إن كان هناك عقد اجتماعي أوحد في أوساط الأعمال الثقافية أم لا. أعتقد أنه يختلف في حالة منسقي الموسيقى المسجلة والموسيقى الإلكترونية عنه في حالة الموسيقى الشعبية أو حتى الأنواع المختلفة من الموسيقى الراقصة. [مثال على ذلك] استولى مجتمع آر آند بي دون إذن على الكثير من المسارات والكثير من عينات الأغاني، ومع ذلك ربما يخوض حربًا شرسة ضد اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكي في مسألة تنزيل أعمالهم من على الإنترنت وما شابه.
إن الكثير من البرمجيات، بطبيعتها، عبارة عن جهد جماعي به الكثير من الإعادات التي تتم بمرور الوقت. وكثير من الوسائط الثقافية — الأغنيات أو المسرحيات أو الأفلام — عبارة عن فرق أصغر حجمًا بكثير، هذا لو كانت هناك فرق من الأساس؛ حيث غالبًا ما تكون الرؤية خاصة بفرد أو اثنين. وهم يصلون إلى جسم مكتمل أو شبه مكتمل للعمل ثم يوضع فيما يشبه كبسولة زمنية … [ربما] تكون هذه هي نفس الطبيعة التطورية للبرمجيات؛ أي إن المساهمين يغدون ويروحون مع مرور الوقت، وإنك، بالتأكيد، لديك نسخ معينة ذات شهرة وما إلى ذلك، لكنها ليست كالأفلام التي تكون عملًا مكتملًا يشق طريقه نحو دار العرض ويدفع الناس المال من أجل مشاهدته.
إننا بحاجة لفهم تلك الاختلافات حتى نتخيل الخطوط التي سترسمها المجتمعات.
(٦) ليس من المحتمل أن يصير «التشارك المجاني» مصطلحًا مقبولًا
برغم عدم يقيني من الكيفية التي ستتطور بها تلك الأعراف بصفة عامة، فإنه توجد استنتاجات معينة يمكننا التوصل إليها في ثقة، وإليكم إحداها: لن يستمر التشارك المجاني الرقمي طويلًا في هذا العالم. فمن بين جميع الشروط التي سيطالب بها المبدعون المنتمون للاقتصاد التشاركي، سوف يكون الحق في تملك إبداعاتهم محوريًّا بالنسبة لهم.
«التشارك المجاني»؟
في أبريل ٢٠٠٧، أجرت إحدى المعاونات البحثيات المتميزات دراسة مسحية لكل موقع استطاعت العثور عليه يدعو المبدعين إلى «مزج» أو «خلط» المحتوى الذي يقدمه الموقع. غطت دراستها خمسة وعشرين موقعًا. لكنها بينما كانت تتصفح شروط تلك المسابقات المزجية العديدة، صار الفارق الجوهري فيما بينها واضحًا. ففي ٥٦٪ من المواقع، امتلك الفنان أو المؤلف حقوق المزيج الذي صنعه، ليس المحتوى الأصلي الذي مزج بينه، وإنما المزيج نفسه. وكانت نسبة ١٦٪ من تلك المواقع تشترط ترخيص استخدام ذلك المزيج بموجب شكل ما من أشكال الترخيص العام (لا بأس، كل أولئك الذين اشترطوا ترخيصًا طلبوا أن يكون ترخيص مشاع إبداعي). ولكن في ٢٨٪ من تلك المواقع، لم تكن لدى الفنان أو المازج أية حقوق في عمله على الإطلاق. فالفنانة مثلًا هي المبدعة لكنها لا تمتلك إبداعها هذا. كانت حسب المصطلح المحايد تمامًا وغير الاستفزازي الذي انتقيته هنا، مشاركة مجانية.
هذا الاتجاه المبتعد عن امتلاك الفنانين لإبداعاتهم ليس بالأمر المستحدث. فلطالما كان يشكل جزءًا من الإبداع التجاري. في أمريكا على سبيل المثال، ينزع مبدأ «العمل لصالح جهة التعيين» من المبدع أية حقوق في العمل الإبداعي الذي ينجزه لحساب شركة مساهمة، ليصبح حق التأليف والنشر بذلك مملوكًا لتلك الشركة وليس له.
وهذا اتجاه مفزع، يشوه جذريًّا منظومة حقوق التأليف والنشر بتصديره حق التأليف والنشر لكيانات تعيش فعليًّا إلى الأبد. (لهذا السبب، يمنح حق التأليف والنشر الممنوح للبشر طيلة العمر مضافًا إليه سبعون عامًا، ولكن للمؤسسات التجارية، هو مدة ثابتة قدرها خمسة وتسعون عامًا. وللأسف، على عكس السبعين عامًا التي تمنح للبشر بعد الممات، فإنه بعد مرور خمسة وتسعين عامًا لا يزال هناك «فنان» يتوسل باكيًا للكونجرس طالبًا المزيد.)
لكن سواء كان من الممكن أم لا لمبدأ العمل لصالح جهة التعيين أن يزدهر في الاقتصاد التجاري، فإن إحساسي — ودون شك، انحيازي — أن مبدعي الاقتصاد التشاركي سوف تتعالى أصواتهم يومًا بعد يوم مطالبين على الأقل بأن تظل حقوقهم مملوكة لهم.
لقد شهدنا من قبل إحباطًا مماثلًا تختمر أحداثه في سياق «خيال الجماهير»، لا سيما في شأن امتياز فيلم «حرب النجوم». مثلما حدث في قصة هاري بوتر، وعت لوكاس فيلم الدرس مبكرًا، وأدركت أن هناك ملايين يريدون بناء إبداعات على فيلم حرب النجوم، وقليل هم من اعتقدوا أن قواعد حقوق التأليف والنشر تُقَيِّدهم. ومثلما فعلت وارنر، أدركت لوكاس فيلم أن هذه الجماهير يمكنها تقديم قيمة حقيقية للامتياز. وهكذا أسفل لافتة تشجع تلك الثقافة الجماهيرية، عرضت لوكاس فيلم مساحة حرة على فضاء الشبكة العنكبوتية لأي شخص يرغب في إنشاء صفحة للجمهور.
ممتلكات حرب النجوم، بما فيها، على سبيل المثال لا الحصر، المنتجات والخدمات والخطوط، والأيقونات، وأزرار الربط، وورق الحائط، ولوحات سطح المكتب، والبطاقات البريدية التي ترسل عن طريق الإنترنت، وبطاقات المعايدة، والسلع التجارية غير المرخص بها (سواء كانت تُباع أو تقايض أو يتم التنازل عنها) محظورة صراحةً. إذا قمت برغم وجود شروط الخدمة هذه بإنشاء أي أعمال مشتقة مأخوذة عن ممتلكات حرب النجوم أو مشتقة منها، فإن هذا العمل المشتق سوف يُعد ويظل من ممتلكات لوكاس فيلم المحدودة. على الدوام.
وترجمة ذلك: «اعملوا بجد هنا، يا جمهور عشاق فيلم حرب النجوم، كي تجعلوا امتيازنا يزدهر، ولكن لا تتوقعوا أن أي شيء ستصنعونه سيكون مملوكًا لكم فعليًّا. إنكم يا جماهير حرب النجوم، مشاركونا المجانيون. فكونوا سعداء بالاهتمام الذي نوليكم إياه. ولكن لا تغتروا كثيرًا.»
«لا يوجد شيء بريء» من جديد لأن الملكية بأكملها ذهبت إلى لوكاس فيلم. ربما يتفق الجمهور تمامًا على ألا يتربح من وراء عمله؛ وربما يتفقون بالفعل على أنه من العدل أن تكون أية فرصة تجارية تنشأ عن حرب النجوم في نهاية المطاف في متناول جورج لوكاس. (تذكر، كان هذا هو الحس المنطقي الطيب الذي عبرت عنه هيذر لوفر، قائدة حروب بوتر.) غير أن التنازل لا يعني أن الجماهير تؤمن بأن عملها أيضًا يجب أن يكون مملوكًا لجورج لوكاس. وهكذا عندما هجمت لوكاس فيلم نحو النقيض، ردت الجماهير الهجوم.
لكن يبدو أن لوكاس فيلم، لم ترتدع. ففي عام ٢٠٠٧، أطلقت الشركة موقعًا للمزج لتشجيع المبدعين على مزج مشاهد من سلسلة أفلام حرب النجوم بموسيقى من عندهم أو بصور تم تحميلها على خادم لوكاس فيلم. من الذي كان يملك تلك الخلطات؟ لا يجب أن تندهش: لوكاس فيلم. لكنْ هناك بالفعل جزءٌ يستفزني، مثلما كان الحال مع موقع ديفيد بوِي، إذا قمت بتحميل، وليكن، موسيقى كتبتها كي تُدمج ضمن المزيج الذي صنعته، فإنك لا تفقد فقط حقوقك في المزيج، وإنما تفقد كذلك الحقوق الحصرية في موسيقاك أنت. إن لوكاس فيلم تملك الحق الدائم والمجاني في محتواك، سواء لاستخدامه في أغراض تجارية أو غير تجارية. ومرة أخرى: هذا تشارك مجاني.
لست أعني بذلك أن هذا التشارك المجاني الافتراضي يجب أن يكون محظورًا، وإنما أطرح سؤالًا عن أي أنواع الكيانات الهجينة التي من المحتمل أن تزدهر. إن الكيان الهجين الذي يحترم حقوق المبدع — سواء المبدع الأصلي أو المازج — هو الأقرب إلى النجاة من ذلك الذي لا يحترمها. وهذا ليس بسبب أن الجميع سوف يُعنى بحقوق الملكية التي يقدمها موقع معين. فهم لن يفعلوا. غير أن الفوز في المنافسة تحدده دومًا فروقات ضئيلة. واليد الغليظة المبالغة في ادعاء الحق التي يتمتع بها محامي هوليوود النمطي ليست سوى نوعٍ من الحماقة الكفيلة على الأرجح بإفساد نجاح الكيان الهجين التي لولاها لحقق النجاح.
فكر مرة أخرى فيما يقوله موقع لوكاس فيلم للأطفال الذين يدعوهم للمزج باستخدام عمل لوكاس. لا يشك امرؤ في أن إسهام لوكاس في هذا الموقع مميز. فامتياز حرب النجوم واحد من أثمن الامتيازات على مر التاريخ، وهو مبدع ويدفعك دفعًا للإبداع، ليس فقط بالنسبة لجيلي، وإنما لأي شخص. ما من أحد قد يظن أن لوكاس ملزم أدبيًّا بالتنازل عن ملكية ذلك العمل (على الأقل خلال الفترة «الزمنية المحدودة» التي يسري خلالها حق التأليف والنشر). فهذا الإبداع من حق لوكاس تمامًا.
ولكن عندما يدعو لوكاس الآخرين للمزج اعتمادًا على ذلك الإبداع، فإنه يفعل ذلك لسبب ما، سبب مالي؛ إنه يرغب في الاستفادة من عمل آلاف الأطفال كي يجعل محتواه الأصلي أكثر ترغيبًا في مشاهدته. وهذا بدوره، يجعل الامتياز أعلى قيمة.
من الممكن لهذا الهدف ألا تشوبه شائبة، على الأقل من وجهة نظري أنا. فهذا بالتحديد هو الأسلوب الذي يتبعه كل كيان هجين، ولا يجب عليك أن تشعر بالتقزز عندما تعلم أن من بين أهداف أولئك الذين داخل نطاق الكيان الهجين، تحقيق الربح.
ولكن مع أن هدف الربح في حد ذاته لا يمثل مشكلة، فإن الأسلوب الذي يتحقق به هذا الربح هو الذي من الممكن أن يكون مشكلة. إن إبداء الاحترام، أو الاستهانة، الذي تعبر عنه الشروط التي يتم بموجبها صنع هذا المزيج تقول شيئًا للمازج عن القيمة التي يُثمَّن بها عمله. إذن مرة أخرى، عندما يدعي لوكاس لنفسه كافة حقوق الربح من وراء مزيج ما، أو عندما يدعي لنفسه حقًّا مستديمًا في تحقيق الربح من المزيج، فإنه بذلك يعرب عن وجهة نظر في إبداعه مقارنةً بإبداع الآخرين: فيما هو أهم، فيما يستحق الاحترام.
إن نقدي هذا موجه للمحامين الذين صاغوا نصوص تلك الاتفاقيات (إذ إنني على يقين من أن جورج لوكاس، وهو من أهم المساهمين في المجال التربوي، ليست له علاقة البتة بانتقاء تلك الشروط)، ولسوف تبدو مخاوفي عجيبة. لقد أمضوا حياتهم المهنية بأكملها يبرمون اتفاقيات أشبه بتلك. فالاتفاقيات التي تتم بين شركات الوسائط، أو بين شركات وسائط وفنانين، ليست خطابات غرامية. إنها لا تعرب عن احترام متبادل. فوظيفة المحامي (الذي يعمل في الاقتصاد التجاري على الأقل) أن يحصل على أقصى ما يمكنه الحصول عليه. إن عليه أن يحصل لموكله على أقصى ما يستطيع. فالعدالة الاجتماعية لا تقع ضمن نطاق عمله.
غير أن أولئك المحامين هم الأقرب إلى الإخفاق داخل هذه البيئة الجديدة. فلم تتطور لديهم أية غرائز أو مدارك عقلية من الضروري توافرها من أجل بناء الولاء والاحترام حيال أولئك المندرجين تحت لواء الاقتصاد التشاركي، والذين يعتمد عليهم موكلوهم. وشأن المحامين الذين كانوا يعملون لحساب أعداء النقابات العمالية في مطلع القرن العشرين، فهم يتباهون تحديدًا بالسلوك الذي سيتسبب في أكبر أذى يلحق بموكليهم.
لكن سوف يعلمهم الآخرون، ليس من خلال المحاضرات أو الامتحانات، وإنما من خلال النجاح الذي سيحققه آخرون في السوق، والذي لن يستطيعوا هم (أو بالأحرى موكلوهم) تحقيق مثله. فسوف تكافئ الأسواق التنافسية السلوك السليم. وهذا أمر بالغ السوء لموكليهم، لكنَّ المحامين لا يعلمون إلا القليل عن الأسواق التنافسية. (بل إن أساتذة القانون الذين يدرسون بالجامعات يعلمون أقل منهم.)
(٧) يمكن للنظام الهجين أن يساعدنا على الحيلولة دون تجريم الشباب
مع تطور الهجائن في مجال الثقافة، تعلمت أنجحها أن التشجيع على الإبداع القانوني هو مفتاح تشجيع قيام نشاط ناجح ومتعافي البدن. إن المعاناة التي واجهتها شركات من أمثال يوتيوب عند تعاملها مع كل من الدعاوى المشروعة وغير المشروعة من قبل حائزي حقوق التأليف والنشر؛ جعلت الآخرين يخططون مسبقًا لتلك التعقيدات. إن بليب دوت تي في، على سبيل المثال، تمكن المستخدمين دون مواربة من تمييز عملهم الإبداعي بعلامة دالة على الحريات التي ينوون لتلك الأعمال أن تتسم بها. وتشترط نسخةُ سوني من يوتيوب في اليابان، وهي آيفيو، على محمِّلي المقاطع على الشبكة؛ التحققَ من حرية التشارك في المحتوى الذي ينوون تحميله.
ومع تحول هذا النموذج ليصبح هو العرف السائد، فإنه سوف يغير العالم الذي يحدث في إطاره هذا الإبداع المزجي. سوف يتحول التركيز نحو الإبداع وحده؛ ولن تعود الشروط التي يحدث ذلك الإبداع في ظلها — و«القرصنة» المستخدمة في صنعه — أمرًا مشوقًا. إن باستطاعة الهجين تمهيد الطريق نحو إبداع مزجي مشروع، ومن الممكن للحافز الذي تقدمه السوق أن يوجه عملية إصلاح سوقي لجعل هذا الشكل من أشكال التعبير أمرًا مسموحًا به.
لا أعتقد أن هذا الحافز السوقي وحده سوف يكون كافيًا. سوف يكون من الضروري أيضًا إجراء تغييرات سياسية، لكن هناك أمرًا رائعًا بعينه في مسألة الديمقراطية في أمريكا؛ ألا وهو أنه عندما تبين السوق الحكمة من منح درجة ما من الحرية، فإن السياسيين ينصتون لها أحيانًا على الأقل. ومع تَبَوُّءِ سوق الهجائن أهمية أكبر، فإن الحريات التي ستعتمد عليها الهجائن سوف تصير أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم لواضعي السياسات.