«قبل سقراط»
تبدأ الفلسفة حين يَطرح المرء سؤالًا عامًّا، وعلى النحو ذاتِه يبدأ العلم. ولقد كان أولُ شعب أبدى هذا النوع من حب الاستطلاع هو اليونانيون؛ فالفلسفة والعلم — كما نعرفهما — اختراعان يونانيَّان. والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية، التي أنتجَت هذا النشاط العقلي العارم، إنما هو واحد من أروع أحداث التاريخ، وهو حدثٌ لم يَظهر له نظير قبله ولا بعده؛ ففي فترة قصيرة لا تَزيد عن قرنَين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والأدب والفلسفة بسيلٍ لا ينقطع من الروائع التي أصبحَت منذ ذلك الحين مِقياسًا عامًّا للحضارة الغربية.
إن الحضارة اليونانية حضارةٌ متأخرة بالقياس إلى حضارات العالم الأخرى؛ إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرَين بعدة ألوف من السنين. ولقد نما هذان المجتمعان الزراعيَّان على ضفاف أنهار كبرى، وكان يحكمهما ملوك مؤلَّهون، وأرستقراطية عسكرية، وطبقة قوية من الكهنة كانت تُشرِف على المذاهب الدينية المعقَّدة التي كانت تعترف بآلهة متعدِّدين. أما السواد الأعظم من السكان، فكانوا يزرعون الأرض بالسُّخْرة.
ولقد توصلَت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريقُ فيما بعد، ولكن لم تتمكَّن أيٌّ منهما من الوصول إلى علم أو فلسفة. على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعًا إلى افتقار العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة، أم إلى أوضاع اجتماعية؛ لأن العامِلَين معًا كان لهما دورُهما بلا شك، وإنما الذي يُهِمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تُساعد على ممارسة المغامرة العقلية.
ففي مصر كان الدين معنيًّا إلى حدٍ بعيد بالحياة بعد الموت؛ فالأهرامات كانت صُروحًا جنائزية، ولقد كان الإلمام ببعض المعارف الفلَكية لازمًا من أجل الوصول إلى تنبُّؤٍ دقيق بفيضان النيل، كما أن طبقة الكهنة في ممارستها للحكم الإداري استحدثَت شكلًا من أشكال الكتابة بالصور، ولكن لم تتبقَّ بعد ذلك مواردُ تكفي للتطور في الاتجاهات الأخرى.
أما في بلاد ما بين النهرَين، فقد حلت الإمبراطوريات السامية الكبرى محل السومريين الأسبق منها، الذين اقتبس أولئك عنهم الكتابة المسمارية. وفي الناحية الدينية كان الاهتمام الرئيسي مُنصبًّا على السعادة في هذا العالم، وكان تسجيل حركات النجوم وما صاحبه من ممارساتٍ للسحر والتنجيم موجَّهًا من أجل هذه الغاية.
والواقع أن اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسلُ من الجبال القاحلة تقسم الأرض، مما يجعل الانتقال البري من وادٍ إلى وادٍ أمرًا عسيرًا.
ومن ثَم فقد نمَت في السهول الخصبة مجتمعاتٌ محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع كان البعض منهم يشد عصا الترحال عبر البحر لإنشاء مستوطنات. وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ أواسط القرن الثامن حتى أواسط القرن السادس ق.م، ومع نشوء المستوطنات ازدهرت التجارة، وعاد اليونانيون إلى الاتصال بالشرق.
والحق أن هذا يرمز، على نحوٍ ما، لتوتر الروح اليونانية؛ فهذه الروح يتنازعها عنصران؛ أحدهما: عقلي منظم، والآخر: غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة. وعند هوميروس يبدو هذا العنصر خاضعًا للسيطرة إلى حدٍّ بعيد، أما في العصور اللاحقة، وخاصةً مع تجدد الاتصالات بالشرق، فإنه يعود فيحتل مكان الصدارة، وهو يرتبط بعبادة ديونيزوس أو باخوس، الذي كان في الأصل واحدًا من آلهة تراقية، على أن هذا الضرب من الوحشية التي ترقى إلى مرتبة التقديس قد خضع لمؤثرات هذبته، وخففت من غُلَوائه بفضل شخصية أسطورية هي شخصية أورفيوس، الذي يُقال إن جماعة من عباد باخوس السكارى قد مزقوه إربًا. وتتجه التعاليم الأورفية إلى الزهد، وتؤكد النشوة العقلية، آملةً بذلك أن تصل إلى حالة من «الوجد» أو الاتحاد بالإله، وبذلك تكتسب معرفة صوفية يستحيل التوصُّل إليها على أي نحوٍ آخر. ولقد كان للعقيدة الأورفية — في صورتها الأرقى هذه — تأثير عميق في الفلسفة اليونانية، ويظهر هذا التأثير أولًا عند فيثاغورس، الذي يُوفِّق بينها وبين نزعته الصوفية الخاصة. ومن هذا المصدر الأول وجَدَت عناصرُ منها طريقَها إلى أفلاطون، والجانب الأكبر من الفلسفة اليونانية، بقدر ما كانت هذه الفلسفة بعيدة عن الطابع العلمي البحت.
لقد قلنا من قبل إن طرح أسئلة عامة هو بداية الفلسفة والعلم. فما شكل هذه الأسئلة إذن؟ يمكن القول — بأوسعِ معنًى ممكن — إنها بحثٌ عن النظام فيما يبدو للعين غير المدرَّبة سلسلةٌ من الأحداث العشوائية المتخبطة. ومن المفيد أن نتنبه إلى الأصل الذي استمدت منه فكرة النظام لأول مرة؛ ففي رأي أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، لا يعيش بمفرده، بل في مجتمع. ويقتضي ذلك، حتى على أكثر المستويات بدائية، نوعًا من التنظيم، ومن هذا المصدر استُمِدَّت فكرة النظام؛ فالنظام هو أولًا وقبل كل شيء نظام اجتماعي، وبطبيعة الحال فقد اكتُشِفَت في الطبيعة، منذ أقدم العصور، تغيرات منتظمة؛ كتعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول، ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تُفهَم لأول مرة إلا في ضوء تفسير بشري ما؛ فالأجرام السماوية آلهة، وقُوى الطبيعة أرواح، صنَعها الإنسان على صورته.
ومن خلال الأنشطة المشتركة التي تمارسها الجماعات سويًّا، تنمو وسيلة الاتصال التي نُطلِق عليها اسم اللغة، والتي تنحصر مهمتها الأساسية في أن تُتيح للناس العملَ من أجل هدف مشترك؛ فالفكرة الأساسية فيها هي فكرة الاتفاق، وهذه الفكرة ذاتها يمكن أن يُنظَر إليها بالمثل على أنها نقطة بداية المنطق. وهي تنشأ من أن الناس عند تبادل الاتصال بينهم يَصِلون آخرَ الأمر إلى اتفاق، حتى لو اكتفَوا بأن يتفقوا على الاختلاف، ولكن أجدادنا كانوا عندما يصلون إلى مثل هذا الطريق المسدود، يُسوُّون المسألة بممارسة القوة، فعندما تُجهِز على مُحدِّثك، يستحيل أن يُناقِضك. غير أنهم كانوا أحيانًا يلجَئون إلى بديلٍ آخر، هو متابعة المسألة بالمناقشة، إن كانت تقبل المتابعة على الإطلاق، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.
وللقارئ أن يَحكم بنفسه على مدى تقدمنا في هذه الناحية منذ عصور ما قبل التاريخ.
إن فلسفة اليونانيين تكشف طوال مراحلها عن تأثير عدد من الثنائيات. وقد ظلت هذه الثنائيات، في صورةٍ أو أخرى، تُشكِّل حتى اليوم موضوعات يكتب عنها الفلاسفة أو يتناقشون حولها. وأساس هذه الثنائيات جميعًا التمييز بين الصواب والخطأ، أو الحقيقة والبطلان. ويرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، في الفكر اليوناني، ثنائيتا الخير والشر، والانسجام والتنافر أو النزاع، ثم تأتي بعد ذلك ثنائية المظهر والحقيقة، التي ما تزال حية إلى حدٍّ بعيدٍ في يومنا هذا. وإلى جانب هذه نجد مسألَتَي العقل والمادة، والحرية والضرورة. وهناك فضلًا عن ذلك مسائلُ كونية تتعلق بكون الأشياء واحدة أم كثيرة، بسيطة أم معقدة، وأخيرًا ثنائية الفوضى والنظام، والحد واللامحدود.
والحق إن الطريقة التي عالج بها الفلاسفة الأوائل هذه المشكلات هي طريقة ذات دلالة بالغة؛ فقد تنحاز إحدى المدارس إلى أحَد طرَفَي الثنائية، ثم تظهر بعدها مدرسة أخرى تُثير اعتراضاتٍ وتتخذ وجهة النظر المضادة. وفي النهاية تأتي مدرسة ثالثة، وتقوم بنوعٍ من الحل الوسط الذي يتجاوز الرأيَين الأصليَّين. والواقع أن هيجل قد توصل أولَ الأمر إلى فكرته عن الجدل (الديالكتيك) عن طريق ملاحظة «معركة الأرجوحة» هذه بين المذاهب المتنافسة لدى الفلاسفة السابقين لسقراط.
وهناك صلات متبادلة — على أنحاءٍ ما — بين كثيرٍ من هذه الثنائيات، على أننا سوف نتجاهل هدف الدقة التامة فنعزل كلًّا منها عن الأخريات حتى نكشف عن مختلف أنواع المشكلات التي كانت تعالجها الفلسفة؛ فثنائية الصواب والخطأ قد نُوقِشَت في المنطق. أما مسائل الخير والشر، والانسجام والتنافر، فتنتمي إلى الأخلاق. وأما مشكلات المظهر والحقيقة، والعقل والمادة، فيمكن النظرُ إليها على أنها هي المشكلات التقليدية لنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا.
وأخيرًا فإن الثنائياتِ المتبقيةَ تنتمي — بدرجاتٍ متفاوتة — إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا). وبطبيعة الحال فليس في هذه التقسيمات فواصلُ قاطعة، بل إن الحدود الفاصلة بينها قد تُعْبَر، وربما كان عبور الحدود هذا من السمات المميزة للفلسفة اليونانية.
كذلك نُسِب إلى طاليس قوله إن للمغناطيس نفسًا؛ لأنه يُحرِّك الحديد، أما عبارته الأخرى القائلة إن الأشياء كلها مليئة بالآلهة، فليست مؤكدة بالقدر نفسه، ومن الجائز أنها نُسِبت إليه على أساس عبارته السابقة، ولكن يبدو أنها تجعل العبارة الأولى غيرَ ذات موضوع؛ لأن القول بأن للمغناطيس نفسًا لا يكون له معنًى إلا إذا لم تكن للأشياء الأخرى نفوس.
ولقد ارتبط اسم طاليس بقصصٍ كثيرة، ربما كان بعضها صحيحًا؛ فقد قيل إنه عندما وُوجِه بتحدٍّ في إحدى المناسبات، أبدى عبقريته العلمية بالتحكم في سوق زيت الزيتون؛ ذلك لأن معرفته بالأرصاد الجوية قد دلَّته مقدمًا على أن المحصول سيكون وفيرًا، فاستأجر كل المعاصر التي أمكنه أن يضع يده عليها، وعندما حان الوقت أجَّرها بالسعر الذي يريد، فربح بذلك مالًا وفيرًا، وأثبت للساخرين أن الفلاسفة يُمكِنهم لو شاءوا أن يَكسبوا المال بوفرة.
ولقد كان الفيلسوف الملطي التالي هو أنكسيمندر، الذي يبدو أنه وُلِد حوالي عام ٦١٠ق.م. ولقد كان مثل طاليس مخترعًا ومتمرسًا في المسائل العلمية؛ فهو أول راسمٍ للخرائط، وهو زعيم مستوطنة من المستوطنات الملطية على ساحل البحر الأسود.
وقد انتقد أنكسيمندر نظرية طاليس الكونية، فما الداعي إلى اختيار الماء؟ إن المادة الأصلية التي صُنِعَت منها الأشياء لا يمكن أن تكون واحدة من الصور المحددة لهذه المادة؛ ومِن ثَم ينبغي أن تكون شيئًا مختلفًا عن هذه كلها، شيئًا أساسيًّا أسبقَ منها؛ ذلك لأن أشكال المادة المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع، فيتنازع الحارُّ ضد البارد، والرطبُ ضد الجاف؛ فهي تتعدى دوامًا كلٌّ على الأخرى، أو ترتكب «ظلمًا» بالمعنى اليوناني الذي تدل فيه هذه الكلمة على اختلال التوازن. ولو كان أيٌّ من هذه الأشكال هو المادةَ الأساسية لتغلَّب على الأشكال الأخرى منذ وقتٍ طويل. إن المادة الأصلية هي ما يُسمِّيه أرسطو بالعلة المادية، وقد أطلق عليها أنكسيمندر اسم «اللامحدود»، أي إنها تجمُّع لانهائي للمادة يمتد في كل الاتجاهات، ومن هذا الأصل ينشأ العالم، وإليه سيعود آخِرَ الأمر.
ولقد كانت الأرض في رأي أنكسيمندر أسطوانة تطفو بلا قيود، نوجد نحن على وجه أحد طرَفَيها، وهو يفترض فضلًا عن ذلك أن عالمنا محاط بعدد لا نهاية له من العوالم الأخرى. ولفظ «عالم» يدل هنا على ما نُسميه الآن باسم «المجرة». وتتحكم في الوظيفة الداخلية لكل عالم حركةٌ محورية تجذب الأرضَ نحو المركز، أما الأجرام السماوية فهي حلقات من نار يحجبها الهواء إلا في نقطةٍ واحدة، ويُمكننا تشبيهها بإطار العجلة الذي لا يَظهر منه إلا الصمام. وبطبيعة الحال فمن الواجب أن نتذكر أن الهواء كان في نظر اليونانيين في ذلك الحين قادرًا على حجب الأشياء وإخفائها.
غير أن أنكسيمندر لم يكتف بهذه الحجة، بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيَّد ذلك بملاحظاتٍ عن حفرياتٍ باقية، كما أيده بملاحظة الطريقة التي تُطعِم بها أسماكُ القرش صغارها. وبناءً على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك. أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يُبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألة لم يَقُم عليها دليل!
وفضلًا عن ذلك، فإن نظريته في التكاثف والتخلخل كانت هي التي ختمت بحق نظرة المدرسة الملطية إلى العالم.
لقد كان فلاسفة ملطية رجالًا ذوي مزاج يختلف عن أولئك المتخصصين الذين نُطلِق عليهم الفلاسفة في أيامنا هذه؛ فقد كانوا منهمكين في الشئون العمَلية للمدينة، وكانوا قادرين على مواجهة كافة الاحتمالات. ولقد رأى البعض أن نظريات أنكسيمندر قد عرَضَت في ثنايا دراسة عن الجغرافيا بالمعنى الواسع، وكانت العناوين الباقية لدينا من دراسات أصبحت الآن مفقودة تعني «تفسيرات للطبيعة المادية للأشياء». وهكذا كان نطاق اهتمامهم واسعًا، وإن لم تكن طريقة المعالجة على الأرجح شديدة العمق. ولا شك أن احتجاج الفيلسوف هرقليطس فيما بعد إنما كان منصبًّا على هذا النوع من «الإلمام من كل شيءٍ بطرَف».
غير أن الأسئلة التي تُطرَح، في الفلسفة، تَفوق في أهميتها الإجابات التي تُقدَّم، ومن هذه الزاوية كانت مدرسة ملطية جديرة بالشهرة التي أحرزَتها. كذلك لم يكن المستغرَب أن تكون أيونية، التي أنجبَت هوميروس، هي أيضًا مهدَ العلم والفلسفة؛ ذلك لأن الدين عند هوميروس كما رأينا كان ذا طابع أوليمبي، وظل محتفظًا بهذا الطابع. وفي مثل هذا المجتمع الذي لا تثقل عليه النزعة الصوفية كثيرًا، تتوافر للنظر العلمي فرصة أكبر، وعلى حين أن كثيرًا من مدارس الفلسفة اليونانية التالية كان لها من الصوفية نصيب، فينبغي أن نذكر دائمًا أنها كانت جميعًا مَدينة بالفضل للملطيين.
إن المدرسة الملطية لم تكن مقيدة بأية حركة دينية، بل إن من السمات الملفتة للنظر في الفلاسفة السابقين لسقراط أنهم كانوا جميعًا على خلاف مع التراث الديني السائد. وهذا يصدق حتى على مدارس كالفيثاغورية، التي لم تكن في ذاتها معارضة للدين. ولقد كانت الممارسات الدينية لليونانيين ككلٍّ مرتبطةً بالأعراف السائدة في «دول المدينة» المختلفة، ومن هنا فإن الفلاسفة عندما كانوا يسيرون في طرق خاصة بهم، لم يكن من المستغرب أن يدخلوا في نزاعٍ مع عقائد الدولة في مدنهم، وهو مصير يتعرض له جميع أصحاب العقول المستقلة في كل زمانٍ ومكان.
لقد كانت الديانة الأولمبية مسألة قومية لا تنطوي على عقائد دينية راسخة بالمعنى الدقيق، أما الأورفية فكانت لها نصوصها المقدسة، وكانت تربط بين معتنقيها برباطٍ من المعتقدات المشتركة، وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة طريقًا للحياة، وموقفًا منها بالمعنى الذي سيعتنقه سقراط فيما بعد.
لقد كانت الفلسفة عند مفكري ملطية — كما رأينا من قبل — مسألة عَملية إلى حدٍّ بعيد، وكان في استطاعة الفلاسفة أن يكونوا رجال عمل، بل كانوا بالفعل كذلك. أما في التراث الفيثاغوري فقد برزت وجهة النظر المضادة، فهنا أصبحت الفلسفة تأملًا منعزلًا للعالم، ويرتبط ذلك بالتأثير الأورفي الذي يتجسد في النظرة الفيثاغورية إلى الحياة؛ ففي هذه النظرة يتوزع الناس بين ثلاث شعاب في الحياة، وكما أن هناك ثلاثةَ أنواع من الناس يحضرون الألعاب الأولمبية، فكذلك توجد في المجتمع ثلاثة أنواع من الناس، أدناها هم أولئك الذين يبيعون ويشترون، ويليهما المشتركون في المسابقات، وأخيرًا المتفرجون الذين يحضرون لكي يشاهدوا، أي «الناظرون» بالمعنى الحرفي (المستمَد من النظر).
هؤلاء الآخرون هم الذين يُعادِلون الفلاسفة. وطريقة الحياة الفلسفية هي الوحيدة التي تحمل قدرًا من الأمل في التغلب على تقلبات الحياة، وتُتيح لنا الخلاص من دوامة الميلاد من جديد؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يؤمنون بأن الروح تمر بسلسلة متعاقبة من حالات التناسخ.
هذا الجانب من التراث كان يرتبط بعددٍ من المحرمات والنواهي البدائية، أما التقسيم الثلاثي لأنماط الحياة، فسوف نجده مرة أخرى في جمهورية أفلاطون، بل سنجد فيها بالفعل قدرًا كبيرًا من التعاليم الفيثاغورية، وآراء المدارس السابقة لسقراط؛ ذلك لأن من الممكن القولَ إن أفلاطون يقدم إلينا مركبًا جامعًا للصراعات المذهبية بين الفلاسفة الأوائل.
ومن جهةٍ أخرى، فإن المدرسة الفيثاغورية قد أدت إلى ظهور تراث علمي، ورياضي على وجه التخصيص؛ إذ كان علماء الرياضة هم الورثة الحقيقيون للفيثاغورية، وعلى الرغم من العنصر الصوفي الناشئ عن حركة الأحياء الأورفية، فإن هذا الجانب العلمي للمدرسة لم يَلحقه أي تشويه من جراء هذه الأفكار الدينية الأورفية، ولهذا يصبح العلم نفسه عندهما مصطبغًا بالصبغة الدينية، على الرغم من أن اتخاذ الأسلوب العلمي في الحياة هو ذاته أمر ذو مغزًى ديني.
ومن المحتمل جدًّا أن الكشوف في ميدان الموسيقى هي التي أدت إلى الفكرة القائلة إن الأشياء كلها أعداد، بحيث يتحتم علينا، من أجل فهم العالم المحيط بنا، أن نهتديَ إلى العدد في الأشياء. وما أن ندرك البناء العددي، حتى تتحقق لنا السيطرة على العالم، وتلك فكرة عظيمة الأهمية، وعلى حين أن دلالتها قد ضاعت مؤقتًا بعد العصر الهلينستي، فقد عاد الاعتراف بها مرةً أخرى بعد أن أدت حركة إحياء المعرفة إلى بعث اهتمام متجدد بالمصادر القديمة، وقد أصبحَت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. كذلك فإننا نجد لدى فيثاغورس لأول مرة اهتمامًا بالرياضيات لا ينبعث أساسًا من الاحتياجات العملية، صحيح أنه كانت لدى المصريين القدماء بعض المعارف الرياضية، ولكن هذه المعارف لم تتجاوز ما كانوا يحتاجون إليه لبناء أهراماتهم أو لقياس مساحة حقولهم. أما اليونانيون فهم الذين بدَءوا بدراسة هذه المسائل «حبًّا في البحث ذاته» على حد تعبير هيرودوت، وكان فيثاغورس واحدًا من أسبقهم في هذا الميدان.
ولنذكر أيضًا أن الإله الرئيسي عند الفيثاغوريين كان أبولو، على الرغم مما في معتقداتهم من عناصر أورفية، ولقد كان التيار الأبولوني هو الذي ميز اللاهوت العقلاني في أوروبا من صوفية الشرق.
ولكي يذكرنا بأن الإنجازات القيمة تُكلِّف عملًا وجهدًا جمًّا؛ يقول: «من يبحثون عن الذهب يحفرون من التراب الكثير، ولا يجدون إلا القليل.» أما أولئك الذين يجدون في ذلك صعوبة، فإنه يرفض موقفهم قائلًا: «إن الحمير تُفضِّل التِّبن على التِّبْر.» ولكن حتى على الرغم من موقفه هذا، فإنه يستبق فكرةً عبَّر عنها سقراط فيما بعد بكلمة مشهورة، هي الفكرة القائلة إننا لا ينبغي أن نُفرِط في التباهي بما نعلم «أن الإنسان أمام الله وليد رضيع، كالطفل في عين الرجل.»
ولو تأمل المرء آراء هرقليطس عن كثب لاستطاع فهمها على نحوٍ أوضح؛ فعلى الرغم من أن هرقليطس لم تكن لديه الميول العملية التي اتسم بها الأيونيون السابقون له، فإن جذور تفكيره النظري كانت ترجع إلى تعاليم الأيونيين وفيثاغورس معًا؛ فقد سبق أن قال أنكسيمندر إن الأضداد المتنافسة تعود إلى اللامحدود، كيما تُكفِّر عن تعدياتها كلٍّ على الآخر، ومن جهةٍ أخرى قال فيثاغورس بفكرة الانسجام. ومن هذَين العنصرَين وضع هرقليطس نظرية جديدة، هي أهم كشفٍ وإسهام له في الفلسفة، وهي النظرية القائلة إن قوام العالم الحقيقي هو التآلف المتوازن بين الأضداد؛ فمِن وراء صراع الأضداد، وفقًا لمقاديرَ محسوبة، يَكمُن انسجامٌ خفي أو تناغم، هو جوهر العالم.
على أن هذه الفكرة الكونية لا تظهر للعيان في كثيرٍ من الأحيان؛ لأن الطبيعة تُحب الاختفاء، بل يبدو أن رأيه هو أن التناغم ينبغي، بمعنًى ما، أن يكون شيئًا لا تُدرِكه العين على الفور؛ «فالتناغم الخفي أفضل من الواضح»، بل إن الناس كثيرًا ما يتغافلون عن وجود الانسجام، «إن الناس لا يعرفون كيف يتفق ما هو متباين مع ذاته، إنه تناغم لتوترات متضادة، كتناغم القوس والقيثارة.»
ومن المهم أن نضع العبارة السابقة في مقابل شذرة أخرى لهرقليطس تقول: «إننا ننزل في النهر نفسه، ولا ننزل فيه، إننا نكون ولا نكون»؛ إذ يبدو للوهلة الأولى أن من المستحيل التوفيقَ بين هذه العبارة الأخيرة وبين سابقتها، غير أن القول الأخير ينتمي إلى جانبٍ آخر من النظرية؛ فمِفتاحها يكمن في نصفها الثاني؛ إذ إن عبارة: «إننا نكون ولا نكون» إنما هي تعبير غامض عن القول إن أساس وحدة وجودها هو التغير الدائم، أو إذا استخدمنا اللغة التي اصطنعها أفلاطون فيما بعد، إن وجودنا صيرورة دائمة. وكذلك الحال في مثال النهر؛ فإذا نزلتُ اليوم في نهر التيمز، ثم نزلت مرةً أخرى غدًا، فإنني أنزل في النهر نفسه، ومع ذلك فإن النهر الذي أنزل فيه ليس نفس النهر. وأعتقد أن النقطة التي أرمي إليها هي من الوضوح بحيث لا يحتاج القارئ إلى أن يمارس التجرِبة بنفسه. وهناك عبارة أخرى تتضمن هذا المعنى نفسَه، وهي «الطريق الصاعد هو نفسه الطريق الهابط»، فهذا شيء لاحظناه من قبل في حالة اللهب، إذ إن الزيت يصعد، والسناج يهبط، وكلاهما جزء من عملية الاحتراق، ومن الجائز جدًّا أن العبارة ينبغي أن تُؤخَذ أولًا وقبل كل شيء بمعناها الحرفي، فالطريق المنحدر يتجه إلى أعلى وإلى أسفل، تبعًا للاتجاه الذي تسير فيه، وهنا تُذكِّرنا نظرية الأضداد عند هرقليطس بأن السمات التي تبدو متعارضة هي في واقع الأمر أجزاء أساسية من موقفٍ ما. ولقد كان من أقوى العبارات التي استخدمها هرقليطس للتعبير عن هذه الفكرة قوله: «الخير والشر واحد»، وهي عبارة لا تعني بالطبع أن الخير والشر هما نفس الشيء، بل تعني عكس ذلك؛ فكما أن المرء لا يستطيع تصور طريق صاعد بدون طريق هابط، فكذلك لا يستطيع المرء أن يفهم فكرة الخير من غير أن يفهم فكرة الشر في الوقت ذاته. والواقع أنك لو أزلت الطريق الصاعد، بإزالة المنحدر مثلًا، فإنك بذلك تقضي أيضًا على الطريق الهابط، وكذلك الحال في الخير والشر.
وإلى هذا الحد يمكن القول إن النظرية القائلة إن الأشياء كلها في صيرورة ليست جديدة حقًّا؛ فقد كانت لأنكسيمندر آراء مماثلة تمامًا، ولكن تفسير هرقليطس للسبب الذي من أجله تظل الأشياء كلها، رغم هذه الصيرورة على ما هي عليه، يمثل تقدمًا بالقياس إلى الفلاسفة الملطيين. ولقد استُمِدت الفكرة الرئيسية عن التناسب من فيثاغورس، فعن طريق المحافظة على النسب الصحيحة يعمل التغير الدائم على الاحتفاظ بالأشياء كما هي. وهذا يصدق على الإنسان مثلما يصدق على العالم؛ ففي الطبيعة تتحول الأشياء وفقًا لنسب، وكذلك الحال في النفس البشرية التي تحدث فيها تحولات بين الجافِّ والرطب. فالنفس الرطبة تتدهور وتتعرض لخطر الانحلال إن لم تمنع النارُ ذلك، وهي ملاحظة لا تخلو من الصواب حين يكون الأمر متعلقًا بإنسان لا يكف عن الشراب. ومن جهةٍ أخرى فإن «النفس الجافة هي الأحكَم والأفضل»، وإن كان من الواجب ألا نفرط في جانب الفضيلة بدوره؛ لأن النار الزائدة قد تقتل النفس كما تقتلها الرطوبة الجامحة. ومع ذلك يبدو أن الفناء بالنار قد اعتبر نهاية أعظم، ما دامت «الميتات الأعظم تنال حظوظًا أعظم»؛ وعلة ذلك هي — على الأرجح — أن النار هي الجوهر الأزلي. «هذا العالم الذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يصنعه واحد من الآلهة أو البشر، وإنما كان منذ الأزل، وهو الآن، وسيكون دائمًا نارًا لا تخبو أبدًا، تشتغل بقدر، وتنطفئ بقدر».
ولقد كان هرقليطس، شأنه شأن زينوفان، يحتقر العقيدة الشائعة في أيامه، وذلك في صورتَيْها الأوليمبية والأورفية؛ ففي رأيه أن الطقوس والقرابين ليست هي التي تجعل الناسَ فضلاء، وهكذا أدرك بوضوحٍ الطابَع السطحي والبدائي للممارسات الشعائرية. «عبثًا ما يفعلون حين يُطهِّرون أنفسهم بأن يرشوها بالدماء، مثلهم في ذلك كمثل من يغسل رجلَيه من الطين، بأن يَغمسهما في الوحل، وهو منظر لو رآه أحد لحكم على صاحبه بالجنون»، وهكذا فإن السير في هذا الاتجاه لا يجلب أي نوع من الفضيلة.
ولكن هناك طريقة يُمكن بها بلوغ الحكمة، هي إدراك المبدأ الكامن في الأشياء. هذه الصيغة هي انسجام الأضداد، وهي صيغة لا يدركها الناس برغم أنها تتكشَّف في كل مكان. «إن الصيغة التي أقول بها تغيب عن عقول الناس قبل أن يسمعوها وبعد أن يسمعوها؛ ذلك لأنه رغم أن الأشياء جميعًا تحدث وفقًا لهذه الصيغة، فإن الناس يبدون وكأنهم لا يعرفون عنها شيئًا، حتى عندما يُصادفون أقوالًا وأفعالًا كتلك التي أوضحتها عندما ميزت كل شيء وفقًا لنوعه وحددت ما يكونه»، فإذا لم نعرف هذه الصيغة فلن يفيدنا أي قدر من التعلم. «إن تعلم أشياء كثيرة لا يُعلِّم الفهم.» وتلك نظرة سنجدها فيما بعد عند هيجل، وكان مصدرها الأول هو هرقليطس.
ومن المؤكد أن فكرة هرقليطس عن نفسه كانت رفيعة، وهو أمر يجوز لنا أن نعذره عليه، وعلى أية حال، فباستثناء هذا الغرور الشخصي، فإنه يظهر أمامنا مفكرًا ضخمًا، جمع بين أهم تصورات السابقين له، وكان له تأثير حيوي على أفلاطون.
إن نظرية الصيرورة عند هرقليطس تَلفِت الانتباهَ إلى أن الأشياء جميعًا يَسْري عليها نوع من الحركة، ولكن التحول التالي في الفلسفة اليونانية ينتقل بنا إلى الطرَف المضاد، ويُنكِر الحركة على إطلاقها.
يبدأ نقد بارمنيدس من نقطة ضعف كانت تشترك فيها النظريات السابقة كلها؛ تلك هي التعارض بين الرأي القائل إن الأشياء جميعًا قوامها مادة أساسية ما، والقول في الوقت ذاته بوجود مكان فارغ، فنحن نصف المادة بقولنا «إنها موجودة»، والمكان الفارغ بقولنا «إنه غير موجود»، ولقد كان الخطأُ الذي وقع فيه الفلاسفة السابقون جميعًا هو أنهم تحدثوا عما هو غير موجود كما لو كان موجودًا، بل إن هرقليطس يبدو كما لو كان قد قال إنه يوجد ولا يوجد في آنٍ معًا، وفي مقابل هذا كله أكد بارمنيدس ببساطة «أنه موجود»؛ ذلك لأن ما لا يوجد لا يمكن حتى التفكير فيه، إذ لا يستطيع المرء أن يفكر في لا شيء، كما أن ما لا يمكن التفكير فيه لا يمكن أن يوجد؛ ومِن ثم فإن ما يمكن أن يوجد يمكن التفكير فيه، هكذا كان الاتجاه العام للحُجة التي استند إليها بارمنيدس.
هذه الحجة تؤدي فورًا إلى بعض النتائج؛ فعبارة «إنه موجود» تعني أن العالم مليء في كل مكان بالمادة، أما المكان الفارغ فهو ببساطة غير موجود، لا داخل العالم ولا خارجه، وفضلًا عن ذلك فلا بد أن يوجد من المادة في مكانٍ ما بقدر ما يوجد في مكانٍ آخر، وإلا لتوجب أن نقول عن مكانٍ ذي كثافةٍ أقل إنه ليس موجودًا بمعنًى ما، وهو محال. ولا بد أن يكون هذا الموجود حاضرًا بالتساوي في جميع الاتجاهات، ويستحيل أن يمتد إلى ما لا نهاية؛ إذ لو صح ذلك لكان معناه أنه غير مكتمل، ثم إن هذا الموجود غير مخلوق، وهو أزلي؛ لأن من المحال أن ينشأ من لا شيء، ويرتد إليه بعد فنائه، أو أن ينشأ من شيءٍ ما، ما دام لا يوجد إلى جانبه شيء. وهكذا نصل إلى صورة للعالم على أنه كرة مادية مُصمَتة، متناهية، متجانسة، بلا زمانٍ ولا حركة ولا تغيير. والحق إن تلك ضربة قاصمة لتصورنا العادي، غير أنها هي النتيجة المنطقية لمذهب مادي واحديٍّ متسق مع نفسه، فإن كان ذلك يجرح حواسنا، فالعيب عيب حواسنا، وينبغي علينا أن نستبعد التجرِبة الحسية بوصفها خدَّاعة، وهذا بعينه ما فعله بارمنيدس؛ فهو إذ مضى بالنظرية الواحدة حتى نهايتها المريرة، قد أرغم المفكرين التالين له على أن يبدءوا بداية جديدة، والحق إن الكرة «الكونية» التي تحدَّث عنها بارمنيدس إنما هي مثال لما كان يَعنيه هرقليطس حين قال إن الصراع لو انتهى لانتهى معه العالم.
ومن الجدير بالملاحظة أن نقد بارمنيدس لا يمس نظرية هرقليطس لو نظر إليها نظرة صحيحة؛ ذلك لأن الرأي القائل إن الأشياء قوامها النار، ليس في واقع الأمر أساسيًّا لنظرية هرقليطس، بل إن دوره كان مجازيًا من حيث إن اللهب إنما هو وسيلة واضحة ملموسة لتمثيل الفكرة الهامة القائلة إنه لا شيء يظل ساكنًا، وإن الأشياء كلها في تغيرٍ دائم، ولقد شرحنا من قبل كيف ينبغي تصور عبارةٍ مثل: إنه يكون ولا يكون في إطار مذهب هرقليطس، وواقع الأمر أن نظرية هرقليطس كانت بالفعل تنطوي على نقدٍ ضمني للميتافيزيقا اللغوية عند بارمنيدس.
إن نظرية بارمنيدس، في صورتها اللغوية، ترتد ببساطة إلى القضية التالية: إنك حين تفكر أو تتكلم، فأنت تفكر أو تتكلم عن شيءٍ ما، ويترتب على ذلك ضرورةً وجودُ أشياء خارجية مستقلة تفكر فيها وتتكلم عنها. وهذا أمر يمكنك أن تقوم به في مناسباتٍ مختلفةٍ عديدة، ومن ثم فإن موضوعات الفكر أو الكلام ينبغي أن توجد دائمًا، ولما كان من المحال ألا توجد هذه الموضوعات في أي وقت، فلا بد أن التغير مستحيل، ولكن ما أغفله بارمنيدس هو أنه، وفقًا لرأيه، لا يستطيع أن يُنكِر أي شيءٍ ما دام هذا الإنكار معناه أنه يتكلم عما هو غير موجود. ولكن لو كان الأمر كذلك، لما استطاع في الوقت ذاته أن يؤكد أو يثبت شيئًا، وبذلك يصبح كل حديث، وكل مقال، وكل فكر مستحيلًا، ولا يبقى إلا «أنه موجود»، تلك الصيغة الفارغة التي تُعبِّر عن مجرد الهوية.
ومع ذلك فإن هذه النظرية تُعبر عن مسألةٍ هامة؛ هي أننا إذا استطعنا أن نستخدم كلمةً ما بطريقةٍ معقولة فلا بد أن يكون لها معنًى، ولا بد أن يكون ما تَعنيه موجودًا بمعنًى أو بآخر، أما المفارقة فإنها تختفي لو عدنا بذاكرتنا إلى هرقليطس، والواقع إننا حين نتأمل المسألة بمزيدٍ من الوضوح، لن نجد أحدًا يقول بالفعل «إنه لا يكون» (بالمعنى المطلق)، وإنما يقول فقط «إنه لا يكون من نوعٍ ما»، فإذا قلت «العشب ليس أحمر»، فلست أعني أن العشب لا يكون، بل أعني فقط أنه لا يكون على نحوِ ما تكون أشياء أخرى، والواقع إنني لا أستطيع أن أقول ذلك لو لم تكن لدي أمثلة أقدمها لأشياء أخرى حمراء، كالحافلات (الباصات) مثلًا، وهكذا فإن ما يود هرقليطس أن يقوله هو أن ما هو أحمرُ اليوم، قد يصبح أخضرَ غدًا؛ إذ إنك قد تصبغ الحافلة الحمراء بطِلاءٍ أخضر.
وهذه النقطة تؤدي إلى إثارة السؤال العام عن الشروط التي تكون الألفاظ بموجبها ذاتَ معنًى، وهو سؤال أضخم من أن يُجاب عنه ها هنا، ومع ذلك فإن إنكار بارمنيدس للتغير هو أصل كل النظريات المادية التالية. فضمير الغائب الذي نُسِب إليه الوجود في عبارة «إنه موجود»، هو ما أصبح يُطلَق عليه فيما بعد اسم «الجوهر»، أي المادة التي لا تتغير ولا تفنى، والتي يقول الماديون عنها إنها هي التي تتألف منها الأشياء جميعًا.
لقد كان بارمنيدس وهرقليطس هما القطبَين المتنافرَين من بين مُفكِّري العصور السابقة لسقراط، ومن الجدير بالذكر أن الفلاسفة الذريِّين — فضلًا عن أفلاطون — قد أوجدوا مركبًا يجمع بين وجهتَي النظر المتعارضتَين هاتَين؛ فمن بارمنيدس أخذوا الجزئيات الأولية الثابتة التي قالوا بها، ومن هرقليطس أخذوا فكرة الحركة التي لا تنقطع. وهذا في الواقع واحد من أوضح وأقدم الأمثلة التي أوحت بالجدل الهيجلي من بداية الأمر، فمن المؤكد أن التقدم العقلي تصدق عليه الفكرة القائلة إنه ينشأ عن مركب من هذا النوع، يأتي بعد بحث دءوب في موقفَين متطرفَين متعارضَين.
ويُقال إنه كان يَعد نفسه إلهًا، وعندما مات ساد الاعتقاد بأنه رُفِع إلى السماء، بينما يقول آخرون إنه قفز داخل بركان أتنا، وإن كان هذا يبدو أمرًا لا يُصدَّق؛ إذ يستحيل أن يقوم سياسي جدير بهذا الاسم بالقفز في بركان.
ولقد أراد أنبادقليس أن يُوفِّق بين المذهب الإيلي وبين شهادة الحواس المعتادة، فقال بكل المواد التي جرَّب الفلاسفة من قبله أن يجعلوها أساسية، وأضاف إليها مادة رابعة. وقد أطلق على هذه المواد اسم «جذور» الأشياء، ثم أسماها أرسطو فيما بعد بالعناصر، وتلك هي نظرية العناصر الأربعة المشهورة، وأعني بها الماء والهواء والنار والتراب، وهي النظرية التي سيطرت على علم الكيمياء طوال ما يقرب من ألفَي عام، وما زالت آثار منها باقيةً في اللغة العادية حتى يومنا هذا، كما هو الحال حين نتكلم عن ثورة العناصر، وهذه النظرية هي في حقيقتها مزيج من مجموعتَين من الأضداد؛ الرطب والجاف، والحار والبارد.
ولنلاحظ أنه لا يكفي، من أجل التصدي لانتقاد بارمنيدس، زيادةُ أنواع المواد التي نَعُدها أساسية، وإنما ينبغي بالإضافة إلى ذلك أن يكون هناك شيءٌ يجعل الموادَّ الأساسية تمتزج على أنحاءٍ شتَّى.
وهذا ما يُحقِّقه المبدآن الفعالان اللَّذان قال بهما أنبادقليس، وهما المحبة والنزاع؛ فالوظيفة الوحيدة لهذَين المبدأَين هي الجمع والتفريق، على الرغم من أنه اضطُرَّ إلى أن يتحدث عنهما كما لو كانا بدورهما ماديَّين؛ لأن فكرة الفاعلية بطريقٍ غير مادي لم تكن قد ظهرت بعد؛ ولذا قال إن هذَين المبدأَين ماديَّان أو جوهريان، وأضافهما إلى العناصر الأربعة الأخرى ليكون المجموع ستة. وهكذا فعندما تتفرق العناصر الأربعة، يحتل «النزاع» الفراغَ القائم بينها، على حين أنها حين تتحد تربط بينها المحبة برِباطٍ وثيق، ونود في هذا الصدد أن نشير إلى أن هناك بعض المبررات للرأي القائل إن المبدأ الفعال ينبغي أن يكون ماديًّا؛ ذلك لأن العلم الحديث وإن كان قد طور الفكرة القديمة وهذبها، ما زال يرى أن المبدأ الفعال يجب أن يكون له مصدرٌ مادي في مكانٍ ما، حتى لو كان هذا المكان مغايرًا لذلك الذي يُمارِس فيه فاعليته.
على أن أنبادقليس برغم استحداثه لهذه التجديدات، قد احتفظ بجانبٍ لا يُستَهان به من النظرية الإيلية، وهكذا نظر إلى المواد الأساسية على أنها أزلية لا متغيرة، ولا تقبل في ذاتها مزيدًا من التفسير. وما زالت هذه الفكرة الأخيرة بدورها تُشكِّل مبدأً هامًّا في التفسير العلمي، وإن يكن ذلك مبدأً لا يُصرَّح به في أحيانٍ كثيرة.
فلتتأمَّل مثلًا مألوفًا: إن المرء لو فسَّر الظواهر الكيميائية على أساس الذرات، لكان من الواجب أن تظل هذه الذرات ذاتها بلا تفسير. أما إذا أراد تفسيرها، فلا بد أن ينظر إليها على أنها تتألف من جزئيات أصغر لا تُفسَّر بدورها.
وهكذا فإن ما يوجد موجود، كما كان الأمر من قبل، ولا يمكن أن ينشأ شيء عما لا يوجد، أو يتحول شيء موجود إلى شيءٍ غير موجود، وهذا كله ينتمي إلى المادية الإيلية بوضوح وصراحة. على أننا نود أن نشير هنا إلى مسألةٍ عامة لم تتمكَّن فيها تلك الصيغة المعدَّلة التي وضَعها أنبادقليس للمذهب المادي من أن تتخلص من النقد الذي وجَّهه بارمنيدس؛ تلك المسألة هي أن مجرد الاعتراف بالتغير يُحتِّم على المرء الاعترافَ بوجود الفراغ بدوره؛ ذلك لأن إمكان التغير معناه أن من الممكن بنفس القدر أن تتناقص كمية المادة في أي مكانٍ معين إلى أن لا يتبقى منها شيء. ومن هنا فإن زيادة عدد العناصر لا يكفي وحده. وهكذا فإن لبارمنيدس كلَّ الحق في إنكار إمكان التغير ما دام قد أنكر إمكان وجود مكان خالٍ. ولا يمكن القول إن أنبادقليس يساعدنا في التغلب على هذه الصعوبة، وسوف نرى فيما بعد كيف حل أنصار مذهب الذرة هذه المشكلة.
لقد عرَف أنبادقليس أن الضوء يستغرق وقتًا في الانتقال، وأن ضوء القمر غيرُ مباشر، وإن لم يكن في وسعنا أن نُحدِّد المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات. وكان مذهبه في الكون مبنيًّا على سلسلة من الدورات يبدأ بها مسار العالم، بحيث يكون «النزاع» في الخارج والمحبة في الداخل، وتكون العناصر الأربعة متماسكة. وبعد ذلك يعمل «النزاع» على طرد المحبة حتى تتفرق العناصر المتعددة تفرقًا تامًّا، وتصبح المحبة خارج العالم، وبعد ذلك يحدث العكس حتى نصل مرةً أخرى إلى نقطة البدء. وترتبط نظرية الحياة عنده بهذه الدورة؛ ففي المرحلة الأخيرة للدورة، عندما تتغلغل المحبة في الكون الكروي، تتكون أجزاء الحيوانات المختلفة متفرقة، وبعد ذلك حين يعود النزاع مرة أخرى إلى الخارج، تحدث تجمعات عشوائية خاضعة لمبدأ بقاء الأصلح، وحين يبدأ النزاع في الدخول مرة أخرى، تحدث عملية تمايز. ويمثل عالمنا مرحلة متقدمة من هذه العملية، يحكمها بدورها مبدأ تطوري هو مبدأ بقاء الأصلح.
أما آراؤه الدينية فكانت تسير وفقًا للتراث الأورفي، وكانت منقطعةَ الصلة بفلسفته، ومن ثَم فليس لنا أن نُقيم لها وزنًا، ولكن قد يكون مما له أهميته أن نُشير إلى أنه يبدو في كتاباته الدينية معتنقًا آراء لا يمكن التوفيق بينها وبين نظريته في العالم، والواقع أن هذا النوع من التضارب شائع إلى أبعد حد، وخاصةً بين أولئك الذين لا يُخضِعون معتقداتهم لاختبار نقدي. صحيحٌ أن من المستحيل اعتناقَ مثل هذه الآراء المتعارضة معًا في لحظةٍ واحدة، ولكن الناس لا يجدون غضاضة في أن يؤمنوا الآن بشيءٍ ما، ويؤمنوا غدًا بعكسه، دون أن تنتابهم أدنى ريبة في أن يكون ثَمة تعارض بين الموقفَين.
لقد وصلنا في قصتنا الآن إلى قلب القرن الخامس ق.م، والواقع أن قدرًا غيرَ قليل مما ينبغي أن يُناقَش تحت عنوان «الفلسفة السابقة لسقراط»، هو في الحقيقة معاصر لسقراط، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يكون من الممكن تجنُّبُ قدر معين من التداخل؛ ذلك لأن المرء يُضطَر من أجل تقديم عرضٍ مترابط إلى الخروج من آنٍ لآخر عن إطار الترتيب الزمني البحت. وتلك صعوبة تَعترض كلَّ بحث تاريخي؛ لأن التاريخ نادرًا ما يكترث براحة المؤرخ الذي يُتابع الأحداث وفقًا لترتيب حدوثها.
فلنُلقِ الآن بنظرةٍ عامةٍ موجزة إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية لليونان في القرن الخامس، على الرغم من أننا سنحصر اهتمامنا بعد قليل في أثينا وحدها.
ولا شك أن حلول أثينا بالتدريج محلَّ كورينثة خلال القرن الخامس قد ساعد على إشعال نار الحرب البلوبونيزية، وكانت كارثة حملة سراقوزة هي التي أدَّت في النهاية إلى أفول نجم أثينا.
ولا شك أن النزعة الفردية القوية لدى اليونانيين تتجلى في موقفهم من القانون؛ فهُم في هذه الناحية معتمدون على أنفسهم كل الاعتماد، ومغايرون تمامًا لمعاصريهم في آسيا. ففي البلاد الآسيوية كانت سلطة الحاكم تستند إلى قوانين تُعَد مُنزَّلة من السماء، على حين أن اليونانيين كانوا يعترفون بأن القوانين من صنع الإنسان لأجل الإنسان. فإذا لم يَعُد أي قانون متفقًا مع عصره، أمكن تغييره بموافقة الشعب، ولكن ما دام القانون يرتكز على دعم الشعب، فإن طاعته واجبة. ولقد كان المثل الكلاسيكي لاحترام القانون هذا هو رفضَ سقراط أن يهرب من حكم الإعدام الذي قضت به عليه المحكمة الأثينية.
وفي الوقت ذاتِه كان ذلك يعني أن لدى المدن المختلفة «قوانين مختلفة»، بحيث لم تكن هناك سلطة تستطيع تسوية المنازعات بينها بطريقةٍ سلميَّة.
وهكذا كانت اليونان منقسمة على نفسها، بفعل المنافسات الداخلية والنزعة الفردية التجزيئية، إلى حدٍّ ما يسمح لها في أي وقتٍ بتحقيق الاستقرار بوصفها أمة موحدة، فوقعت تحت سيطرة الإسكندر الأكبر، ثم روما فيما بعد، وبرغم ذلك كانت هناك مؤسسات ومُثل عُليا مشتركة أتاحت استمرارها بوصفها وحدة ثقافية. ولقد تحدثنا من قبل عن الملحمة القومية (بوصفها عاملًا في التوحيد الثقافي)، ولكن كانت هناك روابطُ أخرى غيرها؛ فقد كان اليونانيون جميعًا يُقدِّسون معبد دلفي في التلال الواقعة شمال خليج كورينثة، وكانوا يحترمون نبوءة دلفي بقدرٍ ما.
وهناك مؤسسة عظيمة أخرى كانت تجمع شمل اليونانيين جميعًا، وهي الألعاب التي تُقام على جبل أوليمبيا، في غرب البلوبنير، وكانت هذه الألعاب تُجرَى مرة كل أربع سنوات، وكان لها الأولوية على أي عمل آخر، حتى الحرب ذاتها، فلم يكن هناك شرف أعظم من إحراز نصر أوليمبي. وهكذا كان الفائز يُتوَّج بإكليلٍ من الغار، وتُصنَع له مدينته في معبدها الخاص في أوليمبيا تمثالًا لتخليد ذكرى هذا الحدث، وكانت المرة الأولى التي أُجرِيَت فيها هذه المسابقات هي عام ٧٧٦ق.م، ومنذ ذلك الحين أصبح اليونانيون يَحسبون الزمن بالألعاب الأوليمبية.
والواقع أن الألعاب الأوليمبية كانت علامة حية على القيمة التي كان اليونانيون يعزونها إلى الجسد. وهذه القيمة مثل آخر واضح على ما يتميزون به من حرص على الانسجام؛ فللناس أبدانٌ مثلما أن لهم عقولًا، وكلاهما في حاجةٍ إلى مِران وتدريب. وهذه الحقيقة تجعلنا نتذكر جيدًا أن مُفكري اليونان لما يكونوا ينتمون إلى ذلك النوع من مثقَّفي البرج العاجيِّ الذي وَرِثه عالمنا الحديث من تراث المدرسيين في العصور الوسطى.
وأخيرًا ينبغي علينا أن نُضيف كلمة عن نظام الرِّق؛ فكثيرًا ما كان يُقال إن اليونانيين لما يُفلحوا في العلوم التجريبية؛ لأن إجراء التجارِب كان يَعني تدنيس المرء ليدَيه، وهو عمل كان مقصورًا على العبيد. غير أنه لا يوجد حكمٌ أكثر تضليلًا من هذا الاستنتاج السريع؛ فالشواهد تدل بوضوح على العكس، كما يتضح من سجلات إنجازاتهم العِلمية ومن آثار النحت والعمارة المتبقية في عصرهم.
هذا إذن هو الإطار الذي بلَغَت فيه الحضارة اليونانية أوجَ عظَمتها، لقد كانت تلك الحضارة القائمة على مبدأ كامن فيها هو مبدأ الانسجام، معرضة للتمزق بفعل الصراعات الداخلية، وربما كان هذا في النهاية هو الذي زاد من عظمتها؛ ذلك لأنها برغم أنها لم تتمكن أبدًا من إقامة دولة تضم اليونانيين جميعًا، قد قهرَت كلَّ من غزَوْا أرض اليونان وما زالت إلى اليوم تُشكِّل الإطارَ الذي تدور فيه حضارة الغرب.
وعلى الرغم من أنه كان لأناكساجوراس أصدقاء من ذوي النفوذ في أثينا، فقد أثار غضب الأثنيين المحافظين ضيِّقي الأفق؛ ذلك لأن الفكر المستقل غير الشعبي هو عمل محفوف بالمخاطر، حتى في أفضل العصور، وعندما يتصادم مع المتحيزات التي يؤمن بها أولئك الذين يتخيلون أنهم خير العارفين، فمن الممكن أن يصبح خطرًا حقيقيًّا على كل من يخرج عن الخط المألوف، ومما زاد الطينَ بِلةً أن أناكساجوراس كان في شبابه متعاطفًا مع الفرس، والواقع أن هذا نمط يبدو أنه لم يطرأ عليه تغير كبير طوال الأعوام الألفين والخمسمائة الأخيرة، وعلى أية حال فقد حُوكِم أناكساجوراس بتُهمتَي الضلال والانحياز للفرس، ولسنا موقنين بنوع العقوبة التي كان من الممكن أن تُوقَّع عليه، أو بالطريقة التي أفلت بها من هذه العقوبة، ولكن من الجائز أن صديقه بريكليز قد انتزعه من السجن وهرب به بعيدًا.
ولقد كانت نظرية أناكساجوراس، شأنها شأن نظرية أنبادقليس من قبل، محاولةً جديدة للتصدي للنقد الذي وجهه بارمنيدس، ولكن بينما نظر أنبا دقليس إلى كل طرف من أطراف زوجَيِ الأضداد الحار والبارد، والجاف والرطب، على أنه مادة أساسية؛ نجد أناكساجوراس يعتقد على العكس من ذلك أن كلًّا من هذه مُتضمَّن بنسبة متفاوتة في كل قطعة ضئيلة من المادة، مهما صغر حجمها، ولكي يُثبِت قضيته هذه قال بفكرة قابلية المادة للانقسام إلى ما لا نهاية؛ ذلك لأن مجرد تَجزُّؤِ الأشياء إلى قطع أصغر لا يُؤدي في رأيه إلى ظهور شيء مختلف؛ إذ إن بارمنيدس قد أثبت أن ما هو كائن لا يمكن بأي حال ألا يكون، أو أن يصبح ما لا يكون، والواقع أن الافتراض القائل إن المادة قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية هو افتراض طريف، وكانت هذه أولَ مرة يظهر فيها، أما كون هذا الافتراض خطأً فهو أمر لا يُهِمنا في هذا السياق، والأمر الذي يبرزه هذا الافتراض هو فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية، التي تنطبق بالفعل على المكان، وهكذا يبدو أن لدينا ها هنا نقطةَ بدءٍ أمكَن انطلاقًا منها تطويرُ فكرة المكان الفارغ عند الذريين فيما بعد. وأيًّا كان الأمر فإننا لو سلمنا بهذا الافتراض لظل نقد أناكساجوراس لأنبادقليس صحيحًا إلى هذا الحد.
هذا «النوس» أو العقل الذي يذكره ها هنا هو المبدأ الفعال الذي يَحُل محلَّ المحبة والنزاع عند أنبادقليس، ولكنه يظل ينظر إليه على أنه مادة، وإن تكن مادة شديدة الرقة والشفافية، ويختلف «النوس» عن المواد الأخرى في كونه نقيًّا غير مختلط، وهو الذي يبعث الحركة في الأشياء. وفضلًا عن ذلك فإن وجود «النوس» هو ما يميز الحي من غير الحي.
أما بالنسبة إلى أصل هذا العالم، فإنه يعرض رأيًا يُشبِه في نواحٍ معينة الأفكارَ التي أصبحت تُطرَح حول هذا الموضوع في وقتٍ أحدثَ بكثير؛ فالنوس يُطلِق حركة دوامة في مكانٍ ما، وحين تكتسب هذه الحركة مزيدًا من القوة، تنفصل الأشياء المختلفة تبعًا لمقدار كتلتها، بحيث إن القِطَع الثقيلة من الصخور، التي يقذفها دوران الأرض، تبتعد أكثر من غيرها. ونظرًا لأنها تتحرك بسرعة كبيرة، فإنها تبدأ في التوهج، وهذا يُفسِّر طبيعة النجوم، ولقد كان أنكساجوراس، شأنه شأن الأيونيين، يؤمن بوجود عوالم كثيرة.
وفيما يتعلق بالإدراك الحسي، فقد استحدث ببراعةٍ المبدأَ البيولوجي القائل إن الإحساس يتوقف على الأضداد، فالإبصار مثلًا هو سقوط النور على ضده، وهو الظلام، والإحساسات الشديدة الكثافة تُسبِّب ألمًا وضيقًا، وتلك آراء ما زالت شائعة في علم وظائف الأعضاء.
وهكذا فإن أناكساجوراس قد أتى في نواحٍ معينة بنظريةٍ أدقَّ من نظرية سابقه، وهناك على الأقل تلميحات إلى أنه حاول بعناءٍ أن يهتديَ إلى مفهوم للمكان الخالي، ولكن على الرغم من أنه يبدو أحيانًا كما لو كان يريد أن يجعل من «النوس» قوة فاعلة غير مادية، فإنه لا ينجح في ذلك كل النجاح. وعلى ذلك فإن النقد الأساسي الذي وجهه بارمنيدس لم يجد لديه، كما لم يجد لدى أنبادقليس، إجابةً عنه. ومع ذلك فإن اقتراحه القائل بقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية يُمثِّل تقدمًا جديدًا في تفسير طريقة تكوين العالم. وتبقى بعد ذلك خطوة الاعتراف بأن قابلية التقسيم تنتمي إلى المكان، وبذلك يُهيَّأ المسرح لظهور المذهب الذري.
وإنه لمن الخطأ أن يتصور المرء أن أناكساجوراس كان ملحدًا، ومع ذلك فإن تصوره للإله كان فلسفيًّا، ولا يتمشى مع ديانة الدولة في أثينا، وقد كانت آراؤه التي لا تُساير الدين الشائع هي التي جلَبَت عليه تهمة الضلال؛ ذلك لأن الإله كان عنده معادلًا «للنوس»، أي المبدأ الفعال الذي هو أصل كل حركة، ومثل هذا الرأي كان خليقًا بأن يُنظَر إليه شزرًا من جانب السلطة الحاكمة؛ إذ إنه يُثير بالطبع شكوكًا حول جدوى الممارسات الشعائرية السائدة، ومن ثَم فإنه يمَس سلطة الدولة …
وهكذا يُمكن وضع نظرية للعدد على أسس كهذه. ومع ذلك فإن فكرة الوحدة تُخفي خَلطًا أساسيًّا بين العدد المنفصل والكم المتصل، ويتضح هذا بمجرد تطبيق النظرية الفيثاغورية على الهندسة، وسوف نرى الصعوبات المترتبة على ذلك حين نناقش النقد الذي وجهه زينون.
أما الفكرة الرئيسية الأخرى، التي خلفتها الرياضيات الفيثاغورية، فهي نظرية المثل، والتي تبناها سقراط وزادها تطويرًا. وقد انتقد الإيليون هذه النظرية بدورها، هذا إذا اعتمدنا على شهادة أفلاطون، وقد أشرنا من قبل تلميحًا إلى الأصل الرياضي لهذه النظرية. فلنتأمل مثلًا نظرية فيثاغورس الهندسية، إن من غير المجدي رسْمَ شكل دقيق غايةَ الدقة لمثلث قائم الزاوية والمربعات المقامة على أضلاعه، ثم الانتقال إلى قياس مساحات هذه المربعات؛ ذلك لأن الرسم لن يكون دقيقًا بصورةٍ كاملة مهما توخَّينا الدقة فيه، بل إن من المستحيل أن يكون كذلك؛ فليست مثلُ هذه الأشكال هي التي تُقدم برهانًا على النظرية، بل إننا نحتاج من أجل مثل هذا البرهان إلى شكلٍ كامل، من ذلك النوع الذي يمكن تخيله، ولكن لا يمكن رسمُه. وأي رسم فِعلي ينبغي أن يكون نسخةً للصورة الذهنية تتفاوت في مدى مطابقتها لها. وهذا بالضبط هو لب نظرية المثل التي كانت جزءًا معروفًا من مذهب الفيثاغوريين المتأخرين.
ولقد رأينا كيف استحدث فيثاغورس مبدأً للانسجام من الكشف المتعلق بالأوتار المنغَّمة. ومن هذا الكشف ظهرت النظريات الطبية التي تنظر إلى الصحة على أنها نوع من التوازن بين الأضداد، وقد مضى الفيثاغوريون المتأخرون بهذه الفكرة مرحلة أبعد، وطبقوا مبدأ الانسجام على النفس. فالنفس تبعًا لهذا الرأي هي تناغم البدن، بحيث تصبح النفس مرتبطة بالحالة السليمة للجسم. وعندما ينهار تنظيم الجسد، يتحلل الجسد، وتتحلل النفس بدورها، ومن الممكن تصورُ النفس على أنها الوتر المشدود لآلة موسيقية، بينما الجسم هو الإطار الذي يُشَد عليه هذا الوتر، فإذا ما تحطَّم الإطار ارتخى الوتر وفقدَ تناغمه، ولا شك أن هذا الرأي مختلف كل الاختلاف عن الأفكار الفيثاغورية الأقدم عهدًا حول هذا الموضوع؛ إذ يبدو أن فيثاغورس كان يؤمن بتناسخ الأرواح، على حين أن الأرواح أو النفوس تبعًا لهذا الرأي الأحدث عهدًا، تموت كما تموت الأجساد.
أما بالنسبة إلى نمو النظريات المتعلقة بتكوين الأشياء، فإن الفيثاغورية كانت تَعترف بصفة تجاهلها كثير من المفكرين السابقين أو أساءوا فهمها، تلك هي فكرة الفراغ، التي يستحيل بدونها تقديم تفسير معقول للحركة. وهنا أيضًا نجد النظرية الأرسطية تعود فيما بعد إلى الرأي المتخلف القائل إن الطبيعة تُبغِض الفراغ، أما إذا شئنا أن نهتديَ إلى اتجاه التطور الصحيح للنظرية الفيزيائية، فعلينا أن نرجع إلى أصحاب المذهب الذري.
وخلال ذلك حاولت المدرسة الفيثاغورية أن تستوعب جوانب التقدم التي حقَّقها أنبادقليس، وبطبيعة الحال فإن نظرتهم الرياضية لم تسمح لهم بأن يَقبلوا العناصر الأربعة التي قال بها، بوصفها العناصرَ النهائية. وبدلًا من ذلك وضَعوا حلًّا وسطًا أرسى نظرية رياضية في تكوين المادة، وهكذا أصبحوا ينظرون إلى العناصر على أنها تتألف من جزئيات لها شكل الأجسام الجامدة المنتظمة، وقد طور أفلاطون هذه النظرية أبعد من ذلك في محاورة «طيماوس». أما كلمة «العنصر» ذاتها فيبدو أن هؤلاء الفيثاغوريين المتأخرين هم الذين نحتوها.
وهكذا فإن أيًّا من المحاولات المادية الرامية إلى الرد على نقد بارمنيدس لا يمكن، حتى هذه المرحلة، أن تُعَد مرضية من جميع الجوانب؛ فمهما كانت نقاط الضعف في النظرية الأولية ذاتها، يظل من الصحيح أن مجرد إكثارٍ من المواد الأساسية لا يُمكن أن يُقدِّم إلينا حلًّا، وقد أمكن التدليل بقوة على هذه النقطة عن طريق سلسلة من الحجج تَقدَّم بها أتباع بارمنيدس، وعلى رأسهم زينون، الذي كان ينتمي إلى بلدٍ بارمنيدس ذاتها، وكان تلميذًا له. وقد وُلد زينون حوالي عام ٤٩٠ق.م. والشيء الهام الوحيد الذي نعرفه عنه، إلى جانب كونه قد اهتم بالشئون السياسية، هو أنه هو وبارمنيدس قد قابلا سقراط في أثينا. وهذه واقعة يَرويها أفلاطون، وليس ثمة سبب يدعو إلى تكذيبه.
إن النظرية الإيلية — كما أوضحنا من قبل — تؤدي إلى نتائجَ مذهلة، ولهذا السبب بُذِلَت عدة محاولات لإصلاح عيوب المذهب المادي. ولقد كان ما حاول زينون القيام به هو أن يُبيِّن أنه إذا كان المذهب الإيلي يصدم الحسَّ العادي للإنسان، فإن النظريات المنافسة له، التي تزعم تذليل هذه العقبة، تُؤدي إلى صعوبات أغرب. وهكذا فإنه، بدلًا من أن يُقدم دفاعًا مباشرًا عن بارمنيدس، تصدى للمعارضة على أرضها، وهو يبدأ باتخاذ موقف الخصم، ثم يُبيِّن بالحُجة الاستدلالية أن هذا الموقف ينطوي على نتائج ممتنعة، ومن ثَم فمن المحال الدفاعُ عن الموقف الأصلي، وبذلك يسقط هذا الموقف.
لقد كانت حجج تزينون في أساسها هجومًا على التصور الفيثاغوري للوحدة، وترتبط بذلك حجج ضد الفراغ وضد إمكان الحركة.
فلنتأمل أولًا حُجة تُثبِت عدم صحة فكرة الوحدة، إن تزينون يقول إن كل ما يوجد لا بد أن يكون له حجم، وإلا لما وُجِد أصلًا، فإذا سلَّمنا بذلك، كان من الضروري أن نُسلِّم به بالنسبة إلى كل جزء، بحيث يكون من الضروري أن يكون لهذا الجزء بدوره حجم. وهو يمضي قائلًا إن إصدار هذا الحكم مرة يُساوي إصداره بصورةٍ دائمة. وتلك طريقة مبسَّطة في إدخال فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية؛ إذ لا يمكن أن يُقال عن أي جزء إنه هو الأصغر، فإذا كانت الأشياء كثيرة، كان من الضروري أن تكون صغيرة وكبيرة في آنٍ معًا. بل إن من الضروري أن تكون صغيرة إلى حد ألا يكون لها حجم؛ لأن قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية تُثبِت أن عدد الأجزاء لا متناهٍ. مما يقتضي وحدات بلا حجم، ومن ثم فإن أي مجموع لهذه الوحدات بلا حجم أيضًا، ولكن الوحدة ينبغي أن يكون لها حجم ما في الوقت ذاته، ومن ثم فإن الأشياء كبيرة إلى حدٍّ لا متناهٍ.
وترجع أهمية هذه الحجة إلى أنها تُثبِت أن نظرية العدد الفيثاغورية تُخفِق في ميدان الهندسة؛ ذلك لأن فيثاغورس يرى أننا لو تأملنا خطًّا، فينبغي أن نكون قادرين على أن نذكر عدد الوحدات الموجودة فيه، ولكن من الواضح أننا إذا سلمنا بفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فإن نظرية الوحدات تنهار فورًا، ومع ذلك فمن المهم أن ندرك أن هذا لا يُثبِت خطأَ فيثاغورس، بل إن ما يثبته هو استحالة القول بنظرية الوحدة وبفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية في آنٍ واحد، أو بعبارةٍ أخرى أنهما لا تجتمعان، بل يجب التخلي عن إحداهما. فإذا كانت الرياضة تقتضي قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فلا بد من التخلي عن الوحدة الفيثاغورية. وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، وتتعلق ببرهان الخلف ذاته؛ فالقضية الواحدة ذات المعنى لا يمكن أن تكون لها نتائج مباشرة متناقضة فيما بينها، بل إن المتناقضات لا تتولد إلا حين تُضاف إليها قضايا أخرى، كما يحدث في حالة وجود حُجَّتَين، عندما تكون القضية المضافة في إحدى الحجتَين متناقضة مع القضية المضافة في الأخرى، وهكذا فإن لدينا في الحالة التي نبحثها الآن حُجتان؛ أُولاهما: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات بلا حجم، ومن ثَم فليس للأشياء حجم، والثانية: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات لها حجم، ومن ثَم فللأشياء حجم لا مُتناهٍ. أما المقدمتان الإضافيتان المتناقضتان فهما أن الوحدات بلا حجم، وأنها ذات حجمٍ ما؛ ففي كلتا الحالتَين تكون النتيجة واضحةَ الامتناع. ويترتب على ذلك أن في مقدمتَيْ كل حجة شيئًا ما خطأً. وهذا الشيء الخطأ هو التصور الفيثاغوري للوحدة.
هذا النوع من الحجج التسلسلية التي يستحيل الخروج منها هو في الواقع شكل من أشكال برهان الخلف. وما تثبته هذه الحجج هو أن أساس الحجة يتناقض مع قضية أخرى معينة نُسلِّم بأنها صحيحة.
على أن أشهر حجج زينون هي مفارقات الحركة الأربع، وعلى رأسها حكاية أخيل والسلحفاة. وهنا أيضًا نجده يدافع عن بارمنيدس بطريقةٍ غير مباشرة، ويُلقي عبء الرد على الفيثاغوريين الذين يتعين عليهم أن يُقدِّموا شيئًا أفضل ما دامت نظريتهم تعجز عن إيجاد تفسير للحركة بدورها. وتقول الحجة إنه لو تسابق أخيل والسلحفاة في سباق تتابع فمن المستحيل أن يلحق أخيل بمنافسته. فلو فرضنا أن السلحفاة بدأت تسير مسافةً ما في المضمار، فإنه في الوقت الذي يجري فيه أخيل حتى يصل الشيء النقطة التي بدأت منها السلحفاة، تكون هذه قد تحركت مسافة ما الشيء الأمام. وحين يجري أخيل الشيء هذا الموقع الجديد تكون السلحفاة قد انتقلت الشيء نقطة أبعد قليلًا. وهكذا ففي كل مرة يصل فيها أخيل الشيء موقع السلحفاة السابق، تكون هذه المسكينة قد تحركت بعيدًا. صحيحٌ أن أخيل يقترب منها أكثر فأكثر، ولكنه لن يلحقها أبدًا.
وعلينا أن نتذكر أن هذه الحجة موجهة ضد الفيثاغوريين، ومن ثَم فإنه يتبنى موقفهما وينظر إلى الخط على أنه مؤلَّف من وحدات أو نقط؛ لذلك فإن النتيجة إنما تريد أن تقول إنه مهما كان بُطء حركة السلحفاة، فلا بد أن تقطع مسافة لا متناهية قبل أن تُجرِيَ السباق. فتلك إذن صورة أخرى للحُجة القائلة إن الأشياء لا نهائية في حجمها، وبرغم أنه ليس من الصعب أن نُبيِّن وجه الخطأ في تلك النتيجة، فلا بد أن يكون واضحًا تمامًا أن الحُجة لا تشوبها أية شائبة من حيث هي ردٌّ على النظريات الفيثاغورية المتعلقة بالوحدة. والطريقة الوحيدة لتِبْيان الخطأ في تلك النتيجة، إنما تكون عن طريق وضع نظرية في السلاسل اللامتناهية بعد التخلي عن هذه النظرة إلى الوحدة. فإذا كانت لدينا مثلًا سلسلة تتألف من حدود تتناقص بنسبةٍ ثابتة، كما هي الحال في أطوال المراحل المتعاقبة للسباق، فإننا نستطيع أن نحسب في أي موضعٍ سيلحق أخيل بالسلحفاة، ويُعرَف مجموع هذه السلسلة بأنه عدد لن يَزيد عنه أبدًا مجموعُ أي عدد من الحدود، مهما كان مقداره، ولكن مجموع عدد كبير بما فيه الكفاية من الحدود يقترب منه إلى أي مدًى نشاء. أما مسألة أن هذا العدد ينبغي أن يكون واحدًا، وواحدًا فقط بالنسبة إلى أية سلسلة معينة، فيجب أن نُقرِّرها هنا دون برهان. ويُوصَف نوع السلاسل المتضمَّن في السباق بأنه سلسلة هندسية، وهو موضوع يستطيع أي شخص لديه إلمام بأوَّليات الرياضة في أيامنا هذه أن يُعالجه، ولكن ينبغي أن نذكر أن العمل النقدي الذي قام به زينون هو بعينه الذي جعل من الممكن وضع نظرية سليمة في الحكم المتصل، ترتكز عليها تلك المجموعات التي تبدو لنا اليوم أشبهَ بلعب الأطفال.
وهناك حجة أخرى تنطوي على مفارقة، وتُسمَّى أحيانًا بحجة «حلبة السباق»، تكشف عن الجانب الآخر للهجوم الديالكتيكي. وتقول الحجة إن المرء لا يستطيع أبدًا أن يَعبُر حَلْبة السباق من أحد طرَفَيها إلى الآخر؛ لأن هذا يعني أن عليه عبورَ عدد لا نهائي من النقاط في زمنٍ متناهٍ. أو بعبارةٍ أدقَّ فقبل الوصول إلى نقطة لا بد أن يعبر نصف المسافة الموصلة إليها، ثم نصف النصف، وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذن فليس في وُسع المرء أن يبدأ الحركة على الإطلاق. وهذه الحجة مقرونة بحجة أخيل والسلحفاة التي تُبيِّن أن المرء ما إن يبدأ حتى يستحيل أن يتوقف، تهدم الفرض القائل إن الخط المستقيم يتألف من وحدات كثيرة إلى حدٍّ لا متناهٍ.
ويُقدِّم زينون حُجتَين أُخريَين لكي يُثبِت أن الافتراض القائل بأنه لا يوجد إلا عددٌ متناهٍ من الوحدات في الخط الواحد لن يؤدي إلى أصلِ الوضع. فلنأخذ أولًا ثلاثة خطوط متوازية ومتساوية، تتألف من نفس العدد المتناهي من الوحدات، ولنفرض أن واحدًا منها ساكن، والآخران متحركان في اتجاهَين متضادَّين بسرعةٍ متساوية، بحيث يقع الثلاثة كلٌّ بحِذاء الآخر عندما يمر الخطان المتحركان أمام الخط الساكن. هنا نجد أن السرعة النسبية للخطَّين المتحركَين هي ضعف السرعة النسبية لكلٍّ منهما بالقياس إلى الخط الساكن. وتعتمد الحجة بعد ذلك على افتراض آخر بأن هناك وحداتٍ زمانيةً مثلما أن هناك وحداتٍ مكانية. وعلى ذلك فإن السرعة تُقاس بعدد النقاط التي تتحرك عبر نقطة محدَّدة خلال عدد محدد من اللحظات؛ ففي الوقت الذي يمر فيه أحد الخطَّين المستقيمَين بنصف طول الخط الساكن، يمر بالطول الكامل للخط المتحرك. ومن هنا فإن الزمن الأخير ضعف الأول، ولكن لكي يصل الخطان إلى موقعهما بمحاذاة كل منهما فإنهما يستغرقان زمنًا واحدًا، وهكذا يبدو أن الخطَّين المتحركَين يتحركان بضِعف السرعة التي يتحركان بها، وبالطبع فإن الحجة معقدة إلى حدٍّ ما؛ لأننا لا نفكر عادة على أساس لحظات بقدر ما نفكر على أساس مسافات، ولكنها تُمثل نقدًا سليمًا تمامًا لنظرية الوحدات.
وأخيرًا، فهناك حجة السهم؛ ففي أية لحظة يحتل السهم الطائر، وأخيرًا مساويًا لذاته، ومن ثَم فهو ساكن. وإذن فهو على الدوام ساكن، وهذا يثبت أن الحركة لا تستطيع حتى أن تبدأ، على حين أن الحجة السابقة أثبتَت أن الحركة أسرع دائمًا مما هي. وهكذا فإن زينون إذ هدم النظرية الفيثاغورية في الكَم المنفصل على هذا النحو، قد أرسى دعائم نظرية في الكم المتصل. وهذا بعينه هو ما نحتاج إليه من أجل الدفاع عن نظرية بارمنيدس في الفلك الكري المتصل.
ولقد ذهب مليسوس في دفاعه عن «الواحد» الذي قالت به المدرسة الإيلية، إلى حد استباق النظرية الذرية؛ فهو يرى أنه لو كانت الأشياء كثيرة، لوجب أن يكون كلٌّ منها مماثلًا «للواحد» عند بارمنيدس؛ ذلك لأنه لا شيء يظهر من العدم أو يفنى فناءً تامًّا. وهكذا فإن النظرية الوحيدة المقبولة، والتي تقول بوجود الكثرة، هي تلك التي نتوصل إليها بتفتيت الفلك الكري الذي قال به بارمنيدس إلى أفلاكٍ صغيرة، وهذا بعينه هو ما فعله الذريُّون.
لقد كان جدل زينون في أساسه هجومًا هدامًا على آراء الفيثاغوريين، وقد وضع هذا الجدلُ في الوقت ذاته أسسَ الجدل عند سقراط، ولا سيما بالنسبة لمنهج الفرض، الذي سنتحدث عنه فيما بعد. كذلك فإن المرء يجد ها هنا للمرة الأولى استخدامًا منهجيًّا لحُجة مكثَّفة في مسألةٍ محددة، وأغلب الظن أن الإيليين كانوا متبحِّرين في الرياضيَّات الفيثاغورية؛ لأن هذا هو الميدان الذي يتوقع المرء أن يجد فيه تطبيقات لهذه الطريقة المنهجية، غير أننا للأسف لا نعرف إلا القليل عن الطرق الفعلية التي كان الرياضيون اليونانيون يُجرون بها تحليلاتهم، ولكن يبدو من الواضح أن النموَّ السريع للرياضيات خلال النصف الثاني من القرن الخامس، كان مرتبطًا بقدرٍ ما بظهور قواعدَ راسخة للحوار وتبادل الحُجج.
إن النظرية إنما هي توفيق بين الواحد والكثير؛ فقد أدخل ليوقبوس فكرة الجزئيات المكونة التي لا تُحصى، والتي يَشترك كلٌّ منها مع فلك بارمنيدس في أنه جامد، صُلب، لا ينقسم. هذه هي «الذرات»، وهي تعني (في أصلها اليوناني) الأشياءَ التي لا يمكن تجزئتها، هذه الذرات تتحرك دومًا في فراغ. وكان يفترض أن تركيب الذرات جميعًا واحد، وإن اختلفت في الشكل. ولقد كان معنى عدم قابلية الانقسام في هذه الجزئيات هو أنها لا يمكن أن تتفتَّت ماديًّا، أما المكان الذي تَشغله فهو بالطبع قابلٌ للانقسام رياضيًّا بغير حدود. والسبب الذي يجعل الذراتِ لا تُرى بالطريقة العادية هو أنها صغيرة إلى حدٍّ هائل، وبذلك أصبح من الممكن الآن تقديمُ تفسير للصيرورة أو التغيُّر؛ فالطابع المتغير دومًا للعالم، ينشأ من إعادة ترتيب الذرات وتشكيلها.
ولو عبَّرنا عن موقف الذريين بلغة بارمنيدس، لقلنا إن رأيهم مفاده أن ما لا يكون يُماثل في حقيقته ما هو كائن، وبعبارةٍ أخرى فإن الفراغ موجود. أما ما هو هذا الفراغ فأمرٌ يصعب التعبير عنه. وفي هذه الناحية لا أعتقد أننا اليوم تقدمنا كثيرًا عن اليونانيين؛ فكل ما يُمكِننا أن نقوله عن ثقةٍ هو أن المكان الخاليَ هو ما يَصدُق عليه علم الهندسة بمعنًى ما. والواقع أن الصعوبات السابقة للمذهب المادي إنما نشأت من إصراره على أن كل شيء ينبغي أن يكون جسميًّا.
لقد تساءل الكثيرون: هل كانت النظرية الذرية عند اليونانيين مبنيةً على الملاحظة، أم أنها كانت مجردَ رمية من غيرِ رامٍ، ولم يكن لها أساس سوى التأمل الفلسفي؟ والجواب عن هذا السؤال ليس على الإطلاق بالبساطة التي قد يبدو عليها؛ فأولًا يتضح مما قيل أن النظرية الذرية هي الحل الوسط الوحيد المعقول بين موقف الإنسان العادي وبين النظرية الإيلية؛ إذ كانت هذه النظرية الأخيرة نقدًا منطقيًّا للمذهب المادي السابق. ومن جهةٍ أخرى فقد كان ليوقبوس ملطيًّا، وكان على إلمامٍ واسع بنظريات مُواطنيه الكبار الذين سبقوه في الظهور، وتشهد على ذلك آراؤه في الكونيات؛ إذ إنه عاد إلى الآراء السابقة التي قال بها أنكسيمندر، بدلًا من أن يسير في طريق الفيثاغوريين.
وسوف نلتقي بالنظرية الذرية مرارًا خلال رحلتنا في هذا الكتاب. أما الحدود التي لا تستطيع هذه النظرية أن تتعداها، فسوف نناقشها في المواضع المناسبة، وحسبنا الآن أن نُشير إلى أن المذهب الذري ليس حصيلةَ تأمُّل خيالي، وإنما هو إجابة جادة عن السؤال الذي أثاره الفلاسفة الملطيون، وهي إجابة استغرق إعدادُها مائة وخمسين عامًا.
وإلى جانب أهمية النظرية الذرية بالنسبة إلى العلم الطبيعي، فقد أدت أيضًا إلى نظرية جديدة عن النفس، فالنفس كأي شيء آخر تتألف من ذرات، ولكنها ذرات ألطف من غيرها، وتتوزع على كافة أنحاء الجسم. وتبعًا لهذا الرأي يكون الموت تحللًا، ولا يكون هناك وجود للخلود الشخصي، وهي نتيجة استخلصها أبيقور وأتباعه فيما بعد. أما السعادة وهي غاية الحياة، فقِوامها أن تكون النفس في حالةٍ متوازنة.
وفي الوقت الذي كانت فيه المدارس الفلسفية تنمو خلال القرن الخامس، ظهرَت جماعة من الناس كانت بمعنًى ما على هامش الفلسفة. هؤلاء هم الذين يُطلَق عليهم عادة اسم السفسطائيين، الذين يُشير إليهم سقراط بازدراء، بوصفهم أولئك الذين يجعلون الحُجة الأضعف تبدو وكأنها هي الأقوى. ومن المهم أن نعرف كيف ظهرت هذه الحركة، وماذا كانت وظيفتها في المجتمع اليوناني.
ولقد قام السفسطائيون بمهمة تقديم تعليم منظم في الوقت الذي لم تكن فيه اليونان تعرف عن هذا التعليم إلا أقلَّ القليل؛ إذ كانوا معلمين جوَّالين يُقدِّمون دروسًا تعليمية على أساس احترافي. وكان من الأمور التي عابها عليهم سقراط تقاضيهم أجورًا، على أن المرء قد يشعر حقًّا بأن سقراط لم يكن في هذه المسألة منصفًا؛ إذ إن مُحترفي الكلام أنفسهم يحتاجون إلى أن يأكلوا من آنٍ لآخر، ومع ذلك ينبغي أن نشير إلى أن التراث الأكاديمي ينظر إلى الأجور على أنها نوع من الحماية التي تُتيح للأستاذ أن ينسى المشكلات المادية.
ولقد كانت الموضوعات التي يهتم بها السفسطائيون في تعليمهم تختلف من فردٍ لآخر، وكان أكثر أنشطتهم احترامًا هو تقديم تعليم أدبي، ولكن كان هناك آخرون يُعلِّمون موضوعاتٍ ذاتَ قيمة عمَلية مباشرة، فمع انتشار الدساتير الديمقراطية في القرن الخامس، أصبح من الضروري للمرء أن يتعلم الخطابة، وقد اضطلع بهذه المهمة مُعلِّمون للفصاحة والبلاغة، وبالمثل كان هناك معلمون للسياسة يُلقِّنون تلاميذهم فنون إدارة شئون المجالس. وأخيرًا كان هناك معلمون للجدل أو النقاش كان في استطاعتهم أن يجعلوا الحجة السيئة تبدو وكأنها هي الأفضل. ولهذا الفن فوائدُ واضحة في المحاكم، حيث يتعين على المتهم أن يُدافع عن نفسه، وقد استطاع معلموه أن يُعلموا الناس كيف يُحورون الحجج ويُفحمون الخصوم.
ومن المهم أن نُميز بين هذا النوع من الجدل الخطابي وبين الجدل الفلسفي (الديالكتيك)، فالذين يُمارسون الأول يضعون الفوز نُصبَ أعينهم، على حين أن أصحاب الجدل الفلسفي يُحاولون الوصول إلى الحقيقة، وهذا في الواقع هو الفرق بين المجادلة والمناقشة.
وعلى ذلك، فبالرغم من أن بروتاجوراس يتخلى عن البحث عن الحقيقة، يبدو أنه يعترف بأن رأيًا معينًا يمكن أن يكون أفضل من رأيٍ آخر بالمعنى البرجماتي، وإن كان هذا الموقف يتعرض للنقد المنطقي العام الذي يُوجَّه إلى البرجماتية؛ ذلك لأننا لو سألنا أي الرأيين هو الأفضل بالفعل لوجدنا أنفسنا نعود مرة أخرى إلى فكرة الحقيقة المطلقة، وعلى أية حال فإن بروتاجوراس هو المؤسس الأول للبرجماتية.
وهناك قصة طريفة تكشف عن الطريقة التي أصبح الناس ينظرون بها إلى السفسطائيِّين؛ فقد كان بروتاجوراس مقتنعًا بأن طريقة تعليمه فعالة إلى أقصى حد، ومِن ثَم فقد طلب إلى أحد تلاميذه أن يدفع له أجره من حصيلة أول قضية يترافع فيها. غير أن الشاب بعد أن استكمل تدريبه لم يبدأ في ممارسة مهنته. فلجأ بروتاجوراس إلى القضاء ليسترد أجره، مستندًا أمام المحكمة إلى أن تلميذه يجب أن يدفع؛ إما عن طريق الاتفاق السابق لو كسب التلميذ، وإما عن طريق الحكم القضائي لو خسر. غير أن المتهم أعطاه في الرد حقه وزيادة؛ إذ أعلن أنه لا ينبغي أن يدفع شيئًا؛ إما عن طريق الحكم القضائي لو كسب، وإما عن طريق الاتفاق السابق لو خسر.
لقد كانت كلمة «السفسطائي» ذاتها تعني رجلًا حكيمًا، ونظرًا إلى أن سقراط بدوره كان معلمًا، فلم يكن من المستغرَب أن يُطلِق عليه أولئك الذين لم يعرفوه في عصره حق المعرفة اسم السفسطائي، ولقد بيَّنا من قبلُ مدى خطأ هذه التسمية، ومع ذلك فإن التمييز لم يُعترَف به على الوجه الصحيح إلا في عصر أفلاطون، ولا جدال في أن الفلاسفة والسفسطائيين يستثيرون بمعنًى مُعيَّن ردود أفعال متشابهة لدى الجماهير.
والواقع أن أصحاب العقليات غير الفلسفية كانوا منذ أقدم العهود يتخذون موقفًا عجيبًا وغير متسق من الفلسفة بوجهٍ عام، فهم من جهةٍ يميلون إلى التعامل مع الفلاسفة بتسامح مَشوب بالرقة والعطف بوصفهم حمقى لا ضرر منهم، وأناسًا ذوي أطوار غريبة، يسيرون وقد ارتفعت رءوسهم في السحاب، ويطرحون أسئلة سخيفة لا صلة لها بالهموم الحقيقية للناس، ولا يكترثون بالأمور التي ينبغي أن يهتم بها المواطنون العقلاء، غير أن التفكير الفلسفي يمكن أن يكون له من جهةٍ أخرى تأثيرٌ يُزعزِع بعمق كلَّ ما هو سائد من عُرفٍ وتقاليد، وفي هذه الحالة يُنظَر إلى الفيلسوف، بعين الشك، على أنه شخصٌ خارج عن العرف المألوف، يُعكِّر صفو التقاليد والأعراف، ولا يُبدي موافقة غير مشروطة على العادات والآراء التي تبدو صالحة في نظر كل من عداه.
ذلك لأن أولئك الذين لم يعتادوا النقد يشعرون بانعدام الأمان عندما يُناقش أحدٌ معتقداتهم التي يعتزون بها، ويكون رد فعلهم مصحوبًا بالكراهية والعداء. وهكذا اتُّهِم سقراط بنشر تعاليمَ هدامة، شأنه شأن السفسطائيين بوجهٍ عام، ومُعلِّمي الجدل الخطابي بوجهٍ خاص.