أثينا
كانت الشخصيات الثلاث الكبرى في الفلسفة اليونانية مرتبطة بمدينة أثينا، فقد كان سقراط وأفلاطون أثينيِّين بالمولد، ودرس أرسطو في أثينا ثم علَّم فيها، وهكذا فإن مِن المفيد أن نُلقِيَ نظرة على المدينة التي عاشوا فيها، قبل أن نُناقش أعمالهم.
ولكن بريكليز كان من ذلك المعدن الذي يصنع القادة؛ ففي عام ٤٤٣ق.م. أبعد منافسه ثوكوديدس، القائد العسكري، وبعد ذلك أصبح بريكليز يُعاد انتخابه عامًا بعد عام، بوصفه واحدًا من القادة، ونظرًا إلى شعبيته وقدرته الخطابية وبراعته السياسية، فقد فاق زملاءه، وأصبح يحكم وكأنه حاكم فرد. وقد كتب ثوكوديدس المؤرخ فيما بعد عن أثينا في عهد بريكليز. فقال إنها كانت ديمقراطية بالاسم، أما بالفعل فكانت تخضع لحكم المواطن الأول، ولم يبدأ الحزب الديمقراطي في المطالبة بمزيدٍ من السلطة إلا خلال الأعوام التي سبقت الحرب البلوبنيزية مباشرة. وفي ذلك الوقت كان المجتمع الأثيني قد بدأ يُعاني من الآثار السيئة للقانون الذي كان يقصر المواطَنة على الأثينيين المولودين لأبَوَين أثينيَّين، والذي يرجع إلى عام ٤٤١ق.م، كما بدأ يُعاني من سوء الأوضاع المالية نتيجة لبرامج التشييد الباذخة، وقد دامت الحرب التي نجمت عن رغبة إسبرطة في منافسة الإمبريالية الأثينية من عام ٤٣١ حتى عام ٤٠٤ق.م..
وانتهت بهزيمة كاملة لأثينا، أما بريكليز نفسُه فقد مات في الجزء الأول من هذه الحرب، عام ٤٢٩؛ نتيجةً للوباء الذي اجتاح المدينة في العام السابق، ولكن أثينا بوصفها مركزًا ثقافيًّا قد عاشت عمرًا يتجاوز بكثير عهد انهيارها السياسي. وما زالت هذه المدينة حتى يومنا هذا ترمز لكل ما هو عظيم وجميل في نتاج الإنسان.
أما بالنسبة إلى ما عدا ذلك من المعلومات عن سقراط، فعلينا أن نعتمد على كتاباتِ اثنَين من تلاميذه، هما زينوفون القائد العسكري وأفلاطون الفيلسوف، والأخير هو أهم الاثنَين بالطبع؛ ففي كثيرٍ من محاورات أفلاطون يَعرض علينا سقراطَ كما كان يعيش ويتكلم.
وهذا يقودنا إلى الاتجاه الفكري الرئيسي عند سقراط ذاته؛ فعلى الرغم من أنه كان يقول دائمًا إنه لا يعرف شيئًا، فإنه لم يكن يعتقد أن المعرفة بعيدة عن متناول يدَيه. والمهم في رأيه هو السعي من أجل اكتساب المعرفة؛ إذ كان يعتقد أن السبب الذي يجعل الإنسان يرتكب الخطيئة هو افتقاره إلى المعرفة، ولو عرَف لما ارتكبها. وإذن فالسبب الأول للشر هو الجهل، ولكي نصل إلى الخير لا بد لنا من اكتساب المعرفة، ومن ثم فالخير هو المعرفة، والواقع أن الارتباط بين الخير والمعرفة من العلامات المميزة للفكر اليوناني طوال عهوده، أما الأخلاق المسيحية فعلى النقيض من ذلك؛ إذ إن أكثر ما تحرص عليه هو نقاء القلب، وهذا أمر قد يكون الوصولُ إليه أيسرَ بين الجهلاء.
ولقد كانت أفضلُ صورة تكشف لنا عن سقراط وهو يُمارس نشاطه هي تلك التي نجدها في محاورة «الدفاع»، التي تعرض علينا محاكمة سقراط. وهذه المحاورة تتضمن خطابه الذي دافع به عن نفسه، أو على الأصح ما تذكَّره منه أفلاطون فيما بعد، لا بطريقة حرفية، بل بالأحرى ما كان من الممكن أن يقوله سقراط دفاعًا عن نفسه، ولم يكن مثلُ هذا النوع من الرواية أمرًا غيرَ مألوف، فقد مارسه ثوكوديدس المؤرِّخ بصراحةٍ ووضوح. وعلى ذلك فإن محاورة الدفاع تدخل في باب الكتابة التاريخية.
ومنذ البداية أطلق سقراط العِنان لتهكُّمه، فالذين وجَّهوا الاتهام إليه هم كما قال مذنبون باستخدام الفصاحة، وإلقاء خطب مليئة بالمُحسِّنات اللفظية، أما هو ذاته فقد بلغ سنَّ السبعين، ولم يَمثُل أمام أية محكمة من قبل، وهو يسأل القضاة أن يتحملوا طريقته غير القانونية في الكلام، ثم يتحدث سقراط بعد ذلك عن فئة أخرى من مُوجِّهي الاتهام، أقدم وأخطر من الفئة الموجودة فعلًا؛ لأنها أشدُّ مراوغة، تلك هي الناس الذين ظلوا يتحدثون في كل مكانٍ عن سقراط بوصفه «رجلًا حكيمًا، يتأمل بفكره السماءَ في الأعالي، وينقب عن شئون الدنيا في الأرض، ويجعل الحجة الأسوأ تبدو وكأنها هي الأفضل»، وعلى هؤلاء يرد سقراط بأنه ليس عالمًا، ولا يُعلِّم لقاءَ أجر كالسفسطائيين، ولا يعرف ما يعرفون.
فلماذا إذن يُسمِّيه الناس حكيمًا؟ ذلك لأن نبوءة معبد دلفي قد أعلنَت ذات مرة أنه لا أحد أحكم من سقراط. ولقد حاول هو ذاته أن يُثبِت خطأ النبوءة، فبحث عن أولئك الذين يُعَدون حكماء، وطرح عليهم أسئلته. وهكذا سأل سياسيِّين وشعراءَ وصُنَّاعًا، فلم يجد واحدًا منهم قادرًا على أن يصف بدقة ما يفعل، ولم يجد بينهم حكيمًا، وحين كشف للناس جهلهم، جلب لنفسه عداوة الكثيرين، وفي النهاية فهم ما كانت تعنيه النبوءة؛ فالله وحده هو الحكيم، أما حكمة الناس فمتهافتة، وأحكمُ الناس هو الذي يُدرِك، كما أدرك سقراط، أن حكمته لا تُساوي شيئًا. وهكذا قضى حياته يفضح الادِّعاء بالحكمة، فلم يَجنِ من وراء ذلك إلا الفقر، ولكن كان لزامًا عليه أن يمتثل لحكم النبوءة.
وحين أخذ سقراط يُحاور مليتوس، مُمثِّل الادعاء، أجبره على الاعتراف بأن كل شخص في الدولة يعمل على تحسين أوضاع الشباب ما عدا سقراط ذاته، ولكن الحياة مع أناس أخيار أفضلُ من العيش مع الأشرار، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون قد أفسد الاثنَين عامدًا، وإذا كان قد فعل ذلك بغير قصد، فمن واجب مليتوس أن يُقوِّم اعوجاجه، لا أن يَدينه، ومن جهةٍ أخرى فإن الاتهام يقول إن سقراط قد وضع آلهة جديدة خاصة به، على حين أن مليتوس ينسب إليه وصمة الإلحاد، وهذا تناقضٌ صارخ.
وبعد ذلك ينبئ سقراط المحكمة بأن الواجب يقضي عليه بأن يُلبِّيَ الأمر الإلهي بالبحث في دخيلة نفسه وفي الآخرين، حتى ولو كان في ذلك يُخاطر بعداوة الدولة. ويذكرنا موقف سقراط هذا بأن مشكلة الولاء المنقسم أو الموزَّع هي من المحاور الرئيسية للتراجيديا اليونانية. ويصف بعد ذلك نفسه بأنه داعية ونذير للدولة، ويتحدث عن صوت داخلي يُوجِّهه على الدوام. هذا الصوت يُوجِّه إليه النواهي، ولكنه لا يأمره بأن يفعل شيئًا، ولقد كان هذا الصوت هو الذي منعه من الاشتغال بالسياسة، التي لا تسمح لأحد بأن يحافظ على نزاهته وقتًا طويلًا، ولقد امتنع الادعاء عن الاستشهاد بأحد من تلاميذه السابقين الموجودين في قاعة المحكمة. وأخيرًا أكد سقراط أنه لن يتوسل إليهم مسترحمًا ويأتي بأطفاله باكين، بل إن مِن واجبه أن يُقنِع القضاة، لا أن يَلتمس عطفهم.
وعندما جاء الحكم بالإدانة، ألقى سقراط خطابًا ساخرًا لاذعًا، واقترح أن يَدفع غرامة مقدارها ثلاثون درهمًا، ولم يكن هناك مفرٌّ من رفض هذا الطلب، وبذلك تأكدَت عقوبة الإعدام. وفي خطابٍ أخير حذر سقراط أولئك الذين أدانوه بأنهم سينالون بدورهم أشد العقاب جزاءً على جرمهم، ثم توجَّه بالحديث إلى أصدقائه قائلًا: إن ما حدث لم يكن شرًّا. فليس لأحدٍ أن يخاف الموت؛ لأنه إما أن يكون نومًا بلا أحلام، وإما أن يكون حياة في عالمٍ آخر يستطيع فيه أن يتحدث بحرية مع أورفيوس وموزايوس وهزيود وهوميروس، وفي ذلك العالم لا يمكن أن يكون جزاء من يَطرح الأسئلة هو القتل.
ولقد قضى سقراط شهرًا في السجن قبل أن يشرب السم، فلم يكن من الممكن إعدامُ أحد قبل عودة سفينة الدولة، التي أخَّرَتها العواصف في رحلتها الدينية السنوية إلى «ديلوس»، وقد رفض سقراط أن يهرب، وتعرض علينا محاورة «فيدون» لحظاته الأخيرة التي قضاها مع أصدقائه ومريديه يتحاورون عن الخلود.
إن القارئ لو قلب صفحات هذا الكتاب فلن يجد فيه فيلسوفًا واحدًا يَشغَل حيزًا يُعادل ذلك الذي يشغله أفلاطون أو أرسطو، ومرَدُّ ذلك إلى موقعهما الفريد في تاريخ الفلسفة؛ فهما أولًا قد ظهرا بوصفهما وريثَين للمدارس السابقة لسقراط ومُنظِّرَين منهجيَّين لها، طوَّرا ما تلقَّيَاه منها، وألقيا الضوء على الكثير مما تُرِك بصورةٍ ضمنيةٍ لدى المفكرين السابقين. وفضلًا عن ذلك فقد كان لهما طَوال العصور تأثيرٌ هائل على مخيلة البشر، فحيثما ازدهر التفكير النظري في الغرب، كانت ظلال أفلاطون وأرسطو مُحلِّقة في خلفية هذا التفكير، وأخيرًا فإن إسهامهما في الفلسفة أهمُّ على الأرجح من إسهام أي فيلسوف آخر قبلهما أو بعدهما؛ إذ لا تكاد توجد مشكلة فلسفية لم يقولا عنها شيئًا له قيمته، وكل من يتصور في أيامنا هذه أنه يستطيع أن يأتي بشيءٍ أصيل دون أن يكون قد استوعب تلك الفلسفة الأثينية عليه أن يتحمل عواقب مغامرته.
كانت الدراسات في الأكاديمية تسير في خطٍّ كان موازيًا على وجه الإجمال للموضوعات التقليدية في المدارس الفيثاغورية. فكان أهم المقررات الدراسية فيها هو الحساب وهندسة المسطحات والمكعبات، والفلك، والصوت أو التوافق (الهارمونيا). وهكذا كان الاهتمام الأكبر ينصبُّ على الرياضيَّات، وهو أمر غير مستغرب في ضوء روابطها الفيثاغورية القوية. ويُقال إن مدخل المدرسة كان يحمل لافتة تمنع أي شيء لا يحب هذه الدراسات الرياضية من الدخول. وكانت فترة تلقي التعليم في هذه المواد عشر سنوات.
ولقد كان الهدف من هذه الدراسة هو تحويلَ أذهان الناس عن التغيرات المتقلبة لعالم التجرِبة اليومية، وتوجيهها نحو الإطار الثابت الذي يكمن وراء هذه التغيرات، أي من الصيرورة إلى الوجود، إذا استخدمنا تعبير أفلاطون.
ولكن أية دراسة كهذه لا تقوم بذاتها؛ فهي في النهاية تخضع لقواعد الجدل، ومن ثَم فإن دراسة هذه القواعد هي السمة المميزة للتعليم الحق.
والواقع أن هذه القواعد تظل هي موضوع التعليم الصحيح بمعنًى حقيقي إلى أبعد حد، حتى في يومنا هذا؛ فليس من مهمة الجامعة أن تحشو أدمغة الطلاب بأكبر عدد من الحقائق يمكن أن تتسع له، بل إن مهمتها الحقيقية هي أن تكون لديهم عاداتُ الاختبار النقدي والفَهم الصحيح للقواعد والمعايير التي تَحكم كلَّ موضوعات الدراسة.
وأغلب الظن أننا لن نستطيع أبدًا أن نعرف تفاصيل الطريقة التي كانت تُدار بها الأكاديمية، ولكننا نستطيع أن نستدل، من إشارات سريعة في كتاباتٍ أخرى، على أنها لا بد أن تكون مشابهة في نواحٍ كثيرة لمعاهد التعليم العالي الحديثة؛ فقد كانت مُزوَّدة بأدواتٍ علميةٍ ومكتبة، وكانت تُلقى فيها المحاضرات، وتُعقَد حلقات البحث.
وقد أدى تقديم التعليم في مدرسة كهذه إلى تدهورٍ سريعٍ للحركة السفسطائية، ولا شك أن أولئك الذين كانوا يحضرون دروسها كانوا يُسهِمون بأموالٍ للإنفاق عليها، ولكن مسألة المال لم تكن هي المسألةَ الهامة، فضلًا عن أن أفلاطون الذي كان ميسورَ الحال، كان يستطيع أن يتجاهل هذه الأمور، وإنما كان الشيء الهام حقًّا هو الهدفَ الأكاديمي، الذي كان تدريب عقول الناس على أن تُفكِّر بنفسها في ضوء العقل، ولم يكن لهذه الدراسة أيُّ هدف علمي مباشر، على عكس السفسطائيين الذين لم يكونوا يبحثون إلا عن البراعة في الأمور العملية.
ولقد كان أشهر تلامذة الأكاديمية هو واحد من أوائل هؤلاء التلاميذ، وأعني به أرسطو، الذي انتقل في شبابه إلى أثينا؛ لكي يلتحق بهذه المدرسة، وظل فيها قرابة العشرين عامًا، إلى أن مات أفلاطون، ويُنبئنا أرسطو بأن أستاذه كان يُحاضر دون مذكرات مُعَدة سلفًا، كما أننا نعرف من مصادر أخرى أنه في حلقات الدراسة أو المناقشة كانت المشكلات تُطرَح على الطلاب لكي يحلوها. وكانت المحاورات محاولات فلسفية بالمعنى الحرفي، لا تستهدف تلاميذ أفلاطون بقدر ما تستهدف الجمهور الواسع المتعلم. ولم يكتب أفلاطون كتابًا مدرسيًّا واحدًا، كما أنه كان يرفض دائمًا أن يَصوغ فلسفته على شكل مذهب متكامل، ويبدو أنه كان يشعر بأن العالم أعقدُ من أن يُشكَّل في قالَب أدبي معدٍّ سلفًا.
وبطبيعة الحال فليس من المؤكد أن تَلقِّيَ رجل الدولة دروسًا في العلم يكفي في ذاته لكي يجعله أعمق تفكيرًا في الشئون السياسية، ولكن أفلاطون كما هو واضح كان يؤمن بذلك، فقد كان من الضروري وجودُ حاكم في صقلية إذا ما أراد اليونانيون الغربيون أن يصمدوا في وجه القوة المتزايدة لقرطاجة. ولو أمكن تحويل ديونيزوس إلى حاكمٍ من هذا النوع عن طريق بعض التدريب في الرياضيات، لكانت الفائدة التي تُجنَى من ذلك هائلة، أما لو أخفق العلاج فلن يكون أحد قد خسر شيئًا، وفي البداية تم إحراز بعض النجاح، ولكن لم يَدُم ذلك طويلًا، إذ لم تكن لديونيزوس القدرةُ العقلية على تحمل علاج تعليمي طويل الأمد، فضلًا عن أنه كان في ذاته شخصيةً سيئة الطويَّة. وهكذا فإنه شعر بالغيرة من نفوذ زوج أخته في سراقوزة، وصداقته لأفلاطون، فنفاه قسرًا من البلاد، ولم يعد بقاء أفلاطون بعد ذلك يُفيد في شيء، ومن ثم فقد عاد إلى أثينا الأكاديمية، وحاول بقدر ما يستطيع أن يُصلِح الأمور عن بُعد، ولكن بلا جدوى، وفي عام ٣٦١ق.م. رحل مرةً أخرى إلى سراقوزة في محاولةٍ أخيرةٍ لإصلاح الأوضاع. وهناك قضى ما يقرب من عام يحاول وضع بعض التدابير العَملية من أجل توحيد يونانيِّي صقلية في وجه خطر قرطاجة، ولكن تبين في النهاية أن سوء نية الجناح المحافظ في الدولة عقبةٌ يستحيل التغلب عليها. وهكذا قرر أفلاطون أن يرحل إلى أثينا في عام ٣٦٥ق.م. بعد أن تعرضت حياته ذاتها للخطر، وفيما بعد استعاد ديون مكانته بالقوة، ولكنه أثبت — برغم تحذيرات أفلاطون — أنه حاكم بعيد عن الكياسة، وأدَّت تصرفاته إلى اغتياله، ومع هذا كله ظل أفلاطون يُحرِّض أتباع ديون على مواصلة السياسة القديمة، غير أن نصيحته ذهبَت أدراج الرياح، وكان المصير الأخير لصقلية هو غزوها من الخارج، كما تنبأ أفلاطون.
ولدى عودة أفلاطون في عام ٣٦٠ق.م. رجع إلى التعليم والكتابة في الأكاديمية، وظل نشطًا في التأليف حتى النهاية، والواقع أن أفلاطون كان، من بين جميع كُتَّاب العصر القديم، الوحيدَ الذي وصلَتْنا مؤلفاته شبه كاملة، على أنه لا ينبغي أن ننظر إلى المحاورات — كما ذكرنا من قبل — بوصفها دراساتٍ رسميةً متخصصة في موضوعاتٍ فلسفية؛ ذلك لأن أفلاطون كان على وعيٍ تامٍّ بالصعوبات التي تعترض بحثًا من هذا النوع، بحيث لم يحاول أبدًا أن يضع مذهبًا فلسفيًّا تختتم به كل المذاهب، كما فعل عدد كبير من الفلاسفة منذ ذلك الحين. وفضلًا عن ذلك فإنه ينفرد عن جميع الفلاسفة بأنه جمع بين صِفتَي المفكِّر العظيم والكاتب العظيم؛ فأعمال أفلاطون تشهد بأنه واحد من أبرز الشخصيات في الأدب العالمي، غير أن هذا الامتياز ظلَّ للأسف شيئًا استثنائيًّا في تاريخ الفلسفة، فكم من الكتابات الفلسفية ثقيلة، جافة، جوفاء، بل إننا نجد في حالاتٍ معينة ما يُشبِه التقليد الراسخ الذي يقضي بأن تكون الكتابات الفلسفية غامضة معقدة في أسلوبها حتى تكون عميقة. وهذا أمرٌ مؤسف؛ لأنه يُنفِّر الشخص المهتم غير المتخصص، وبطبيعة الحال فلا ينبغي أن يتصور القارئ أن المثقف الأثيني في عمر أفلاطون كان يستطيع قراءة محاوراته، وإدراك أهميتها الفلسفية لأول وهلة، ولو توقعنا ذلك لكُنا كمن ينتظر من شخص غير متخصص في الرياضيات أن يأخذ كتابًا في هندسة التفاضل ويستوعبه لتوِّه. وعلى أية حال، فإن في إمكانك أن تقرأ أفلاطون، وهذا شيء لا يمكن أن يُقال عن معظم الفلاسفة.
ولقد ترك أفلاطون إلى جانب المحاورات بعضَ الرسائل، ومعظمها لأصدقائه في سراقوزة، ولهذه الرسائل قيمتها بوصفها وثائقَ تاريخية، ولكن ليست لها فيما عدا ذلك أهميةٌ فلسفية خاصة.
ومن المهم عند دراستنا لأفلاطون أن نتذكر دائمًا الدور الرئيسي الذي تلعبه عنده الرياضيات، وتلك سمة تُميز أفلاطون عن سقراط، الذي تباعد اهتمامه منذ وقتٍ مبكر عن العلوم والرياضة، ولقد عملت العصور اللاحقة، التي لم يكن لديها العمق الكافي لفهم نظريات أفلاطون، على تحويل دراساته الجادة إلى نوع من الصوفية العددية، وهو انحراف لا يمكن أن نقول لسوء الحظ إنه اختفى، وبطبيعة الحال فإن الرياضة تظل ميدانًا يهتم به عالم المنطق اهتمامًا خاصًّا، وعلينا الآن أن ننتقل إلى بحث بعض المشكلات التي عالجتها المحاورات. أما القيمة الأدبية لهذه الأعمال فليس من السهل التعبيرُ عنها، كما أنها على أية حال ليست موضوع اهتمامنا الرئيسي.
ولكن هذه المحاورات تظل تحتفظ — حتى وهي مترجمة — بقدرٍ من الحيوية يكفي لإثبات أن الفلسفة لا يتعين أن تكون مستعصية على القراءة حتى تكون ذات أهمية.
إن اسم أفلاطون يبعث في الذهن على الفور نظرية المثل، وقد عرض سقراط هذه النظرية في عدة محاورات. ولقد ثار خلافٌ طويل حول مسألة ما إذا كان سقراط بدلًا من أفلاطون هو مؤسس النظرية. على أننا نجد في محاورة «بارمنيدس» وهي محاورة متأخرة، ولكنها تصف منظرًا كان فيه سقراط شابًّا، ولم يكن أفلاطون قد وُلِد بعد، نجد سقراط يحاول الدفاع عن نظرية المثل أمام زينون وبارمنيدس، وفي مواضع أخرى نجد سقراط يُحدِّث أشخاصًا يُفترَض أنهم على علم بالنظرية، ولذلك يمكن القول إن الأصول الأولى للنظرية كانت فيثاغورية. فلنتأمل إذن العرض الذي قدمه لها أفلاطون في «الجمهورية».
ولنبدأ بالسؤال: ما الفيلسوف؟ إن الكلمة حرفيًّا تعني مُحبَّ الحكمة، ولكن ليس كل شخص حريصٍ على المعرفة فيلسوفًا، فلا بد إذن من مزيدٍ من التحديد للتعريف بحيث يصبح الفيلسوف: هو ذلك الذي يُحب رؤية الحقيقة. إن جامع الأعمال الفنية يُحِب الأشياء الجميلة، ولكن هذا لا يجعل منه فيلسوفًا، فالفيلسوف يُحِب الجمال في ذاته، وعلى حين أن مُحِب الأشياء الجميلة حالم، فإن مُحب الجمال ذاته يقظ، وعلى حين أن مُحب الفن لا يملك إلا ظنًّا، فإن محب الجمال ذاتِه لديه معرفة، على أن المعرفة ينبغي أن يكون لها موضوع، وينبغي أن تكون معرفةً بشيءٍ موجود، وإلا لما كانت شيئًا كما كان بارمنيدس خَليقًا بأن يقول؛ فالمعرفة ثابتة ويقينية، وهي حقيقة متحررة من الخطأ، أما الظن فمُعرَّض للخطأ، ولكن نظرًا إلى أن الظن ليس معرفة بما هو موجود، وليس في الوقت ذاته عدمًا، فلا بد أنه يتعلق بما هو موجود وبما هو غير موجود، كما كان هرقليطس خليقًا بأن يقول.
ولهذه النظرية جانبٌ منطقي وجانب ميتافيزيقي؛ ففي الجانب المنطقي نجدها تُميِّز بين الموضوعات الجزئية التي تنتمي إلى نوعٍ ما، والألفاظ العامة التي نُطلِقها عليها. وهكذا فإن اللفظ العام «فرس» لا يُشير إلى هذا الفرس أو ذاك، وإنما إلى أي فرس، أي إن معناه مستقل عن أي فرسٍ بعينه، وعما يحدث لأي فرسٍ كهذا، كما أن هذا المعنى لا وجود له في المكان والزمان، وإنما هو أزلي، أما في الجانب الميتافيزيقي، فإن النظرية تَعني أن هناك في مكانٍ ما فرسًا «مثاليًّا» — أي الفرس بما هو كذلك — فريدًا لا يتغير، وهذا هو ما يشير إليه اللفظ «فرس»، أما الأفراس الجزئية فتكون ما تكونه بقدر ما تندرج تحت الفرس «المثالي» أو تُشارك فيه، أي إن المثال كامل وحقيقي، على حين أن الشيء الجزئي ناقص وظاهري فحسب.
ولكي يُساعدنا سقراط على فَهم نظرية المثل؛ يعرض علينا تشبيه الكهف المشهور؛ فأولئك الذين لا يعرفون الفلسفة أشبهُ بسُجناء في كهف، مقيَّدين بسلاسلَ لا يستطيعون معها أن يتلفتوا حولهما. وخلفهما توجد نار، وأمامهما الكهف الخاوي مسدودًا بجدار، وهم يرون على هذا الجدار ظلالهما الخاصة، وظلال الأشياء الموجودة بينهم وبين النار، وكأنها معروضة على شاشة، ونظرًا إلى أنهم لا يرون شيئًا غير الظلال، فإنهم يظنون أنها هي الأشياء الحقيقية. وفي النهاية يتمكن أحد السجناء من التحرر من أغلاله، ويتلمَّس طريقه نحو مدخل الكهف. وهناك يرى لأول مرة نورَ الشمس ساطعًا فوق الأشياء المجسمة في العالم الحقيقي. ثم يعود صاحبنا إلى الكهف ليُنبئ رفاقه بما شاهد، ويُحاول أن يُقنِعهم بأن ما يرَونه ليس إلا انعكاسًا باهتًا للحقيقة، وعالمًا من الظلال فحسب، ولكنه بعد أن رأى نور الشمس، أصبح إبصاره مبهورًا بضوئها الساطع، ويجد من الصعب عليه الآن أن يُميِّز الظلال. ويُحاول أن يكشف لهم الطريق إلى النور، ولكنه يبدو لهم الآن أكثرَ حمقًا مما كان، ومن ثَم لا تكون مهمته في إقناعهم هينة. وهكذا فإننا لو كنا بعيدين عن الفلسفة، لكان حالنا أشبهَ بحال هؤلاء السجناء، فنحن لا نرى إلا ظلالًا، ومظاهرَ للأشياء، أما حين نصبح فلاسفة، فإننا نرى الأشياء الخارجية في نور العقل والحق، وهذه هي الحقيقة. هذا النور الذي يهَب لنا الحقيقة والقدرة على المعرفة، يُعبِّر عن مثال «الخير».
إن النظرية — كما عرَفناها هنا — مستوحاة أساسًا من أفكار فيثاغورية، كما ذكرنا من قبل، ومما يشهد على أنها لم تكن تُعبِّر عن رأي أفلاطون الخاص في مرحلته المتأخرة والناضجة على الأقل، إن نظرية المثل قد هُدِمت أولًا في المحاورات المتأخرة، ثم اختفت كلية. فمهمة تفنيدها كانت من المحاور الرئيسية لمحاورة «بارمنيدس»، ولم يكن التقاء بارمنيدس وزينون مع سقراط أمرًا مستحيلًا على الإطلاق، بل إنه من الممكن أن يُعَد حقيقة تاريخية، وإن كان من المستبعَد بالطبع أن يكون الحوار قد سجَّل ما قيل في هذا اللقاء، ومع ذلك فإن المتحدثين جميعًا يتحدثون بطريقةٍ تتمشى مع شخصياتهم، ويُعبِّرون عن آراء تتفق مع ما نعرفه عنهم من مصادر مستقلة. ولنذكر أن بارمنيدس كان قد تأثَّر أيامَ شبابه بالفيثاغوريين، ثم فصَم روابطه بتعاليمهم فيما بعد. ومن ثَم فإن نظرية المثل لم تكن جديدة بالنسبة إليه، وكان من السهل أن يَجد انتقاداتٍ جاهزةً تُوجَّه إلى الصيغ التي عبر بها سقراط الشاب عن هذه النظرية.
يشير بارمنيدس أولًا إلى أنه لا يوجد سببٌ معقول يدعو سقراط إلى أن يجعل للموضوعات الرياضية ولمفاهيم كالخير والجمال مثُلًا، بينما يُنكِر وجود مُثلٍ للعناصر المادية والأشياء الوضيعة، ويُؤدِّي به ذلك إلى مسألة أخطر بكثير. فالصعوبة الرئيسية في نظرية الصور السقراطية هي العلاقة بين الصور والأشياء الجزئية؛ ذلك لأن الصورة واحدة والأشياء الجزئية كثيرة، ولقد حاول سقراط أن يُقدِّم وصفًا للرابطة بينهما مستخدمًا فكرة «المشاركة» غير أن مِن المحير حقًّا أن نرى كيف تستطيع الجزئيات أن تُشارك في الصورة، فمن الواضح أن الصورة الكاملة لا يمكن أن تكون موجودة في كل شيءٍ جزئي؛ لأنها لن تعود عندئذٍ صورةً واحدة، أما البديل فهو يَحتويَ كل شيءٍ جزئي على جزء من الصورة، ولكن معنى ذلك أن الصورة لا تعود تُفسِّر شيئًا.
غير أن هناك نقدًا أشدَّ من ذلك، فلكي يُفسِّر سقراط الارتباط بين الصورة والجزئيات التي تندرج تحتها، كان عليه أن يُدخِل فكرة المشاركة، وهذه الفكرة الأخيرة نظرًا إلى أنها تتمثَّل في حالاتٍ متعددة، هي بدورها صورة، ولكن يتعين علينا عندئذٍ أن نتساءل: كيف ترتبط هذه الصورة بالصورة الأصلية من جهة، وبالشيء الجزئي من جهةٍ أخرى؟ إذ يبدو أننا نحتاج لذلك إلى صورتَين أُخريَين، وهذا يؤدي بنا إلى تسلسل لا يتوقف أبدًا؛ ففي كل مرةٍ نُحاول فيها أن نَسُد الثغرة عن طريق إدخال صورة، تنفتح أمامنا ثغرتان أُخريان، وهكذا فإن سد هذه الثغرة هي مهمة هرقلية، لا مهرب فيها لهرقل. وتلك هي حجة «الرجل الثالث» المشهورة، التي سُمِّيت بهذا الاسم على أساس الحالة الخاصة التي تكون فيها الصورة التي نبحثها هي صورةَ الإنسان. ويحاول سقراط أن يتجنب هذه الصعوبة بأن يقترح بأن تكون الصور نماذج، وأن تكون الجزئياتُ مشابهةً لها. ولكن هذا الاقتراح تسري عليه حُجةُ «الرجل الثالث». وهكذا يعجز سقراط عن تقديم وصف للطريقة التي ترتبط بها الصور مع أمثلتها الجزئية، ولكن هذا أمر يمكن أيضًا إثباتُه بطريقةٍ مباشرة؛ ذلك لأننا سلَّمنا من قبلُ بأن الصور ليست محسوسة وإنما معقولة، فهي لا تترابط إلا فيما بينها، وفي عالمها الخاص، وكذلك الحال في الأشياء الجزئية، وهكذا تبدو الصورُ غيرَ قابلة لأن تُعرَف. ولكن إذا لم تكن الصور قابلةً لأن تُعرَف، فإنها تغدو بالطبع شيئًا زائدًا، ومن ثَم عاجزةً أيضًا عن تفسير أي شيء، ونستطيع أن نُعبِّر عن المسألة بصورةٍ أخرى فنقول: لو كانت الصورة بذاتها غيرَ متصلة بعالمنا، لما كان لها جدوى، أما لو كانت متصلة به، فإنها لا تعود منتمية إلى عالمٍ خاص بها، وبذلك تصبح النظرية الميتافيزيقية للصور غير مقبولة.
وسوف نرى فيما بعد كيف يُعالج أفلاطون ذاته مشكلة الكليات. أما الآن فحسبُنا أن نُشير إلى أن هذه النظرية السقراطية لا تَصمد أمام النقد، ولذلك لا تتابع محاورةُ «بارمنيدس» الموضوعَ أبعد من ذلك، وتنتقل إلى مشكلةٍ مختلفة هي بيان أن كل شيء ليس على ما يُرام، حتى في عالم الصور السقراطية؛ ذلك لأن الجدل المفصَّل على طريقة زينون، يكشف عدم صحة زعم سقراط الأصلي بأن الصور كلها ينفصل بعضها عن بعض، ويُمهِّد ذلك الطريقَ للحل الذي يأتي به أفلاطون.
غير أن هناك صعوبة أخرى ترجع إلى الأصل الفيثاغوري لنظرية المثل؛ فقد رأينا من قبل كيف أن هذا الجانب من النظرية ينبع من وصفٍ لطبيعة موضوعات البرهان الرياضي، إذ إن العالم الرياضي عندما يريد إثبات نظرية عن المثلثات لا يهتم بأي شكل فعلي قد يرسمه المرء على الورق؛ لأن أي شكل كهذا ينطوي على نواقصَ تخرج عن نطاق البحث الرياضي. فمهما حاول المرء أن يكون دقيقًا في رسم خط مستقيم، فلن يكون ذلك الخط دقيقًا إلى حد الكمال، والنتيجة التي نخلص إليها من ذلك هي أن الخط المستقيم الكامل ينتمي إلى عالمٍ مختلف، ومن ثَم ينشأ لدينا الرأي القائل إن المثُل تنتمي إلى نوعٍ من الوجود يختلف عن وجود الموضوعات المحسوسة.
هذا الرأي يبدو صائبًا للوهلة الأولى؛ إذ إن من المعقول مثلًا أن نقول إن موضوعَين محسوسَين يقتربان من التساوي، ولكنهما ليسا متساويَين كليةً؛ فمن الصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن نُقرِّر إن كانا مُتساويَين تساويًا تامًّا، ولكن لنتأمَّل من جهةٍ أخرى شيئَين غير متساويَين. هنا يسهل أن نرى على الفور أنهما غير متساويَين، بحيث يبدو أن صورة اللامساواة تكشف عن نفسها بوضوحٍ كامل في العالم المحسوس، ولكن بدلًا من أن نَصوغ هذه الفكرةَ باستخدام مصطلح الصور، لنتأمل كيف نُعبِّر عادة عن هذه المسائل. فمن الطبيعي جدًّا أن نقول عن شيئَين أنهما يكادان يتساويان، ولكنهما لا يتساويان تمامًا، ولكن لا معنى لأن نقول عن شيئَين إنهما يكادان يكونان غيرَ متساويَين، ولكنهما ليسا غير متساويَين تمامًا، وإذن فهذا نقد يُصيب نظرية الصور في الصميم.
وهنا قد يتساءل المرء: إذا كانت نظرية الصور قد عانت على أيدي الإيليين من هذه الانتقادات القاضية، فلماذا ظل سقراط يتمسك بها دون تغيير؟ ذلك لأنه لا بد أن يكون قد أدرك بوضوح قوة هذا الهجوم، ولكن يبدو من الأسلم أن نعكس اتجاه هذا السؤال؛ لأن هذه الصعوبات بعينها هي التي جعلت سقراط يتراجع في اهتماماته العقلية إلى ميدانَي الأخلاق والجمال؛ فصفة الخير في الإنسان لا تظهر على أية حال بنفس المعنى الذي يظهر به لون شعره مثلًا، ولكن حتى في هذا الميدان أصبح سقراط مع مرور الوقت غيرَ راضٍ عن نظرية المشاركة، وإن لم يكن قد تقدم أبدًا بأية نظرية أخرى. غير أن هناك تلميحًا إلى أن الحل ينبغي ألا يُلتمَس في الأشياء، بل فيما يُمكِننا قوله عنها، أي في حُججِنا، وفي هذا الاتجاه يُواصل أفلاطونُ بذل جهوده من أجل حلِّ مشكلة الكليات.
يرى أفلاطون أن المواطنين في الدولة المثلى ينقسمون إلى ثلاث طبقات: الحراس، والجنود، وعامة الشعب. أما الحراس فهم صفوة محدودة العدد هي وحدها التي تملك زمام السلطة السياسية.
ويجب إبعاد الشعراء من الدولة؛ إذ إن هوميروس وهيزيود يُصوِّران الآلهة، وهي تسلك وكأنها أفراد من البشر المشاغبين المتهوِّرين، مما يُقلِّل من احترام النشء لها. فلا بد أن يُصور الله لنا، لا على أنه خالق العالم كلِّه، بل على أنه خالق ما ليس شرًّا في العالم فحسب.
كذلك فإن لدى هؤلاء الشعراء فقراتٍ تثير الخوف من الموت، أو الإعجاب بالسلوك الطائش، أو الاعتقاد بأن الشرير قد يَنعم على حين أن الخير قد يَشقى، كل ذلك ينبغي منعُه، كذلك تفرض رقابة على الموسيقى، بمعناها الضيق الحالي، ولا يسمح إلا بتلك المقامات والإيقاعات التي تحض على الشجاعة والاعتدال. ولا بد أن تكون حياة الشباب بسيطة تكتفي بما هو ضروري، فلا يحتاجون إلى أطباء، ومن الواجب أن نحميهم في حداثتهم من المؤثرات السيئة، ولكن يتعيَّن عليهم، بعد أن يبلغوا سنًّا معينة، أن يُواجِهوا المخاوف والإغراءات، ولا يَصلح منهم لأن يكونوا حُرَّاسًا إلا أولئك الذين يُقاومون ذلك كلَّه.
أما حياة الحراس الاجتماعية والاقتصادية فهي مشاعة صارمة؛ فبيوتهم بسيطة، وهم لا يملكون إلا ما يحتاجون إليه من أجل معيشتهم الخاصة. وهم يأكلون سويًّا في جماعات، ولا يَقتاتون إلا مأكولاتٍ بسيطة، وتسود المساواة الكاملة بين الجنسَين. فجميع النساء هن زوجاتٌ لجميع الرجال. ولكن الحاكم يُحافظ على أعدادهم بأن يَجمع في أعيادٍ معينة بين مجموعة مناسبة من الرجال والنساء، يُفترَض أنها اختِيرَت بالقرعة، ولكنها في الواقع قد اختيرَت من أجل تحسين النسل. ويُؤخَذ الأطفال من أمهاتهم عند ولادتهم، ويُربَّون سويًّا على نحوٍ لا يعرف معه أي شخص من هم أبواه الحقيقيان، أو مَن هم أبناؤه. أما أولئك الذين يُولَدون من زيجات لم يُقِرَّها الحاكم فيُعَدون أبناءً غيرَ شرعيِّين، كما يتم التخلص من المشوهين والمنتمين إلى سُلالاتٍ هابطة. وهكذا تضعف المشاعر الخاصة وتَقْوى الروح العامة. ويُختار أفضلُ الجميع لكي يتعلموا الفلسفة، ومن يتفوقون فيها يكونون في النهاية هم الصالحون للحكم.
ومن حق الحكومة أن تَكذب إذا اقتضى ذلك الصالحُ العام، وهي تعمل بوجهٍ خاصٍّ على غرس «الأكذوبة الملكية» التي تُصوِّر هذا العالم الجديد الغريب على أنه عالم من صنع الآلهة، ولن يَمضيَ على ذلك سوى جيلَين حتى يُصدِّق الجميعُ ذلك دون اعتراض، أو على الأقل يُصدِّقه القطيع.
وأخيرًا نصل إلى تعريف العدالة، الذي كان هو ذريعة الدخول في المناقشة بأسرها؛ إذ إن أفلاطون أدخَل فكرته عن المدينة المثالية؛ لأنه شعر بأنه قد يكون من الأسهل مناقشةُ العدالة على نطاق ضخم أولًا، فالعدالة تسود حين يهتمُّ كل شخص بشئونه الخاصة، أي إن على كل إنسان أن يقوم بالعمل الذي يصلح له، دون أن يحشر نفسه في شئون الآخرين، وعلى هذا النحو تتم إدارة شئون المدينة كلِّها بسلاسة وكفاءة. وفي هذا المعنى اليوناني ترتبط العدالة بفكرة الانسجام، ويعمل الكلُّ بهدوء من خلال أداء كل جزء لعمله الصحيح.
إن الصورة التي تتمثَّل لنا هنا هي صورة مخيفة لدولة كالآلة الضخمة التي يكاد يختفي فيها البشر كأفراد اختفاءً تامًّا، والواقع أن المدينة الفاضلة التي رسمَت «الجمهورية» معالمها هي الحلقة الأولى في سلسلة طويلة من الصور الخيالية المماثلة التي امتدَّت حتى «العالم الجديد الشجاع» عند ألدوس هكسلي. ولا شك أيضًا أنها ألهمت قادة مستبدِّين كانوا في وضعٍ يُتيح لهم إدخال تغييرات إجماعية كبرى دون عمل أي حساب للآلام المترتِّبة عليها، ولا بد أن يَحدث ذلك كلما سادت الآراء التي تقول إن الناس إنما جُعِلوا لكي يتلاءموا مع أنظمة مُعَدة سلفًا. والواقع أن الفكرة القائلة إن الدولة يمكن أن تكون خادمة لمواطنيها، بدلًا من أن يكونوا هم عبيدًا لها، ما زالت حتى اليوم تُعَد بدعة في بعض الأوساط، أما أين يكمن التوازن السليم، فتلك مسألة معقَّدة ليست على أية حال مطروحة علينا في هذا المقام. ولكنا نستطيع أن نقول باختصار إن الدولة المثلى في «الجمهورية» قد أدت بالكثيرين ممن يُعارضون مبادئها إلى إلصاق شتى الأوصاف المرعبة بأفلاطون؛ لذلك كان من واجبنا الآن أن نبحث بدقة في مدى أهمية النظرية السياسية التي تدعو إليها هذه المحاورة.
ينبغي أن نذكر في البدء أن تطور أفلاطون التاليَ في المسائل السياسية قد طرأ عليه تحوُّل مختلف كلَّ الاختلاف، وهذا ما سنراه بعد قليل؛ فالدولة المثلى في «الجمهورية» سقراطية أكثر منها أفلاطونية، ويبدو أنها تستلهم المثل العليا الفيثاغورية مباشرة.
وهذه النقطة تنقلنا إلى صميم الموضوع؛ فالدولة المثلى هي في حقيقتها رأي عالم في الطريقة الصحيحة لحكم الدولة، وبوصفها نموذجًا وضعه عالم، فإنها قد تُغْري أحد المشتغِلين بالهندسة الإجماعية بإطلاق العِنان لتغييرات هائلة، معتقدًا ببلاهة بأنه يرتكز في ذلك على أساس علمي. ولو تُرِكَت مقاليد الأمور للتكنولوجيين لكانت تلك هي الطريقةَ التي يسلكون بها. وفي الوقت ذاته فإن إدراكنا لهذه الحقيقة يُزيل عن مفهوم الدولة المثالية قدرًا كبيرًا من الجوانب السلبية التي تتصف بها؛ ذلك لأنها في النهاية ليست إلا نموذجًا يهدف إلى مناقشة مسائلَ معيَّنة وإيضاحها. ولا شك أن سقراط قد طرحها وفي ذهنه هذا الهدف، ويتَّضح ذلك من خلال تأمُّلنا لبعض الجوانب الأكثر تطرفًا في جنة الأرض الموعودة هذه.
وفضلًا عن ذلك فلا بد أن نضع في حسابنا أنها تنطوي على قدرٍ معيَّن من التهكُّم؛ إذ لا يوجد مثلًا مَن يرغب في إبعاد الشعراء حقيقة، كما أن أحدًا لا يفكر حقيقة في إدخال شيوعية جنسية كاملة. وبالطبع فإن بعض سمات الدولة المثلى مُستمَد من رؤيةِ ما كانت عليه إسبرطة بالفعل، ومع ذلك فإن النموذج يظل نموذجًا.
فهو لا يقترح بوصفه خطة عملية لإقامة مدينة فعلية. وعندما انغمس أفلاطون فيما بعد في الحياة السياسية لسراقوزة، لم يكن يحاول إقامة دولة مُثلى على هذا النمط؛ فقد كان هدفه كما رأينا أكثر تواضعًا وأقرب إلى الطابع العمَلي، وأعني به تحويل أمير مدلَّل إلى رجل صالح لإدارة شئون مدينة هامة كانت موضوعًا لاهتمام كبير. أما إخفاق أفلاطون في ذلك فمسألة أخرى، وهو إن دل على شيءٍ فإنما يدل على أن التعليم ليس علاجًا شاملًا كما يُظَن عادة.
ولقد عاد أفلاطون مرتَين في محاوراته المتأخرة إلى مناقشة المسائل السياسية؛ ففي محاورة «السياسي» (أو رجل الدولة) يُقدِّم عرضًا لمختلِف التنظيمات السياسية التي يمكن أن توجد في المدينة، ويتوقف نوع هذه التنظيمات على عدد الحكام وطريقة حكمهم، فمن الممكن أن تكون هناك مِلكية، أو أوليجاركية، أو ديمقراطية، وكلٌّ من هذه قد تعمل إما وفقًا لمبادئَ قانونية، أو بدون هذه المبادئ، مما يجعل المجموع ستة أنواع من النظم، فإن لم يكن هناك حكمٌ للقانون، كان وجود السلطة في أيدي الكثرة هو أهونَ الشر؛ وذلك نظرًا إلى غياب وحدة الهدف، أما إذا كان هناك حكمٌ للقانون، فإن الديمقراطية تُصبِح أسوأَ الدساتير؛ لأن الهدف المشترك يُصبح الآن ضروريًّا لكي يتحقق أيُّ شيء، وفي هذه الحالة يفضل وجود ملك.
ويبقى بعد ذلك إمكان قيام دستور مختلط، يجمع بعضًا من عناصر الأنواع الستة البسيطة. وقد استقر رأي أفلاطون في محاورته الأخيرة «القوانين» على أن أفضل ما يُمكِننا عمله في عالمنا هذا الذي يبدو أن فكرة الملك الفيلسوف مستحيلةَ التحقُّق فيه، هو أن نجمع في ظل القانون بين حكم الواحد وحكم الكثرة، وتُقدِّم محاورة «القوانين» إرشادات مفصلة إلى أبعد حد، تُبيِّن كيف يمكن إدارةُ هذا النوع من النظم، وكيف ينبغي انتخاب أصحاب الوظائف المختلفة. كذلك تُقدِّم في ميدان التعليم تفصيلاتٍ كثيرةً عن الوقت الذي يُقدَّم فيه ما نُسمِّيه الآن بالتعليم الثانوي، ومضمون هذا التعليم، وقد أصبحت المدارس الثانوية في العصور الهلينستية مرحلة راسخة من مراحل تعليم الشباب، بعد أن أُرسِيَت دعائمُ هذا النوع من المدارس في «القوانين».
وعلى حين أن المثل العليا لمحاورة «الجمهورية» لم تكن كما قلنا من قبل توصيات ينبغي ترجمتها إلى واقع، فإن تفكير أفلاطون المتأخر يختلف عنها في هذه الناحية اختلافًا بينًا؛ إذ تُصبح اقتراحاته السياسية والتعليمية عمَلية وواقعية إلى أقصى حد. وقد تم تنفيذ الكثير من هذه الاقتراحات في العصور اللاحقة، وسرعان ما نسي الناس أصلها الأول، على أن الأمر يختلف في حالة «الجمهورية»، فقد أُسيءَ فهمها بوجهٍ عام بوصفها نظامًا وإن كانت أفكارها الأكثر إثارة قد وجدت من آنٍ لآخر مؤيِّدين شديدي التحمس، لسوء حظ حيوانات التجارِب البشرية التي حلت على رءوسها النتائج. وهذه الحقيقة هي التي جعلت أفلاطون يُوصَف أحيانًا بأنه هو الذي مهد الطريق لأولئك الذين أساءوا فهمه أولًا، ثم سارعوا إلى القيام بتصرفاتٍ خرقاء بناء على هذا الفهم السيِّئ.
ومع هذا كله ينبغي أن نعترف بأن أفلاطون ذاته قد كشف عن نوع من ضيق الأفق في تفكيره السياسي. وهو في ذلك إنما يُشارك في الشعور اليوناني العام، الذي يحفظ المسافة بينه وبين الأجنبي، ولكن ليس من السهل أن نُحدِّد إن كان ذلك ناجمًا عن إحساس واعٍ بالتفوق، أو عن مجرد طريقة طبيعية في التفكير نشأت عن التفوق المؤكد للثقافة اليونانية. وعلى أية حال فإن أفلاطون في «القوانين» ظل يعتقد أنه عند تأسيس مدينة جديدة — وهي الذريعة المصطنَعة لكتابة المحاورة — ينبغي اختيار موقع بعيد عن البحر؛ تجنبًا للتأثير المفسِد للتبادل التِّجاري والاتصال بالأجانب، وبالطبع فإن ذلك يخلق صعوبات، ما دام من الضروري ممارسةُ قدر معين من النشاط التجاري، كما أن من الضروري بالنسبة إلى أولئك الذين لا يملكون مواردَ مستقلةً أن يَكسبوا رزقهم على نحوٍ ما. ومما له دلالته أن أفلاطون حينما تَحدث عن المعلمين في مدارسه الثانوية المقترحة، قال إنهم ينبغي أن يتلقَّوا أجرًا، ومن ثَم يجب أن يكونوا من الأجانب.
ولقد كان موقف العزلة في الشئون السياسية هذا هو الذي أدى في النهاية إلى عجز العالم اليوناني عن تحقيق تنظيم قادر على البقاء، على نطاقٍ أوسع، فقد كان نوع الحياة السياسية الذي تصوَّروه ساكنًا راكدًا، على حين كان العالم المحيط بهما يتغير بسرعة. ولقد كانت هذه هي نقطةَ الضعف الكبرى في التفكير السياسي اليوناني. وفي النهاية تمكنَت الإمبراطورية الرومانية من تأسيس دولة عالمية. وإذا كان الرومان قد افتقَروا إلى الأصالة اليونانية، فإنهم كانوا أيضًا متحررين من الفردية المفرِطة لدولة المدينة.
وإذن فعلى حين أن من الممكن التمييزَ في موضوع النظرية السياسية بين نظرية سقراطية وبين التطورات الأفلاطونية التالية، فإن هناك سماتٍ معينةً للنظرية الإجماعية بوجهٍ عام تظل مشتركة بين الرجلَين. من هذه السمات رأيهما في طبيعة التعليم، بل إن موقفهما إنما هو تعبير صريح عن الطريقة التي نظَر بها التراث اليوناني إلى البحث والمعرفة، فنحن نذكر أن العلم والفلسفة كانا يُمارَسان في مدارسَ أو جمعيات يتحقق فيها تعاونٌ وثيق بين المعلِّمين وتلاميذهم. والحقيقة الهامة التي يبدو أنها قد أُدرِكَت ضمنيًّا على الأقل منذ البداية الأولى، هي أن التعليم ليس عمليةَ سرد معلومات. صحيح أنه لا بد من وجود قدر من السرد، ولكنه ليس هو الوظيفةَ الوحيدة للمعلم، ولا أهمَّ وظائفه، ولقد أصبحت هذه الحقيقة أوضحَ في أيامنا هذه مما كانت في ذلك العصر؛ لأن السجلات المكتوبة كانت أندر، وكان العثور عليها أصعبَ مما هو اليوم.
ففي وضعنا الراهن، يكون من المعقول أن يعمل أي شخص قادر على القراءة على جمع المعلومات من مكتبة، وأصبحت حاجة المعلم إلى تقديم معلومات مجردة أقلَّ مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى. والواقع أنه مما يشهد بالفضل العظيم لفلاسفة اليونان أنهم أدركوا الطريقة التي يمكن بها ممارسة التعليم الأصيل؛ فدور المعلم هو التوجيه وتمكين التلميذ من إدراك الأمور بنفسه.
غير أن تعلم التفكير بطريقةٍ مستقلة ليس قدرةً تُكتسَب دَفعةً واحدة، وإنما ينبغي اكتسابها بجهد شخصي وبمساعدة مرشد قادر على توجيه هذا الجهد، وهذه هي طريقة البحث تحت إشراف أستاذ، كما نعرفها اليوم في جامعاتنا، ويمكن القول إن أية مؤسسة أكاديمية تكون قد تحققت وظيفتها الصحيحة بقدر ما تُنمِّي عاداتِ التفكير المستقل وروحَ البحث المتحررِ من التحيُّز والهوى المؤقت، أما إذا أخفقَت جامعة في تحقيق هذه المهمة، فإنها تهبط إلى مستوى التلقين، وفي الوقت ذاته تكون لهذا الإخفاق نتائجُ أخطر؛ إذ إنه حيثما يتهاوى التفكير المستقل، سواءٌ بسبب الافتقار إلى الشجاعة أو انعدام النظام، تنمو تلك النباتات الشيطانية، نباتات الدعاية والسُّلطوية، دون أن يقف في وجهها شيء. وهكذا فإن قمع الفكر النقدي أخطر بكثير مما يتصور معظم الناس، فبدلًا من أن يخلق وحدة هدف حية في المجتمع، نراه يفرض نوعًا من التجانس الراكد القبيح على المجتمع ككل. ومن المؤسف أن هذا أمر لا تُدرِكه الأقلية من الذين يتربعون على كراسي السلطة والمسئولية.
ولقد ارتبطَت هذه النظرية التعليمية عند سقراط بفكرةٍ أخرى ترجع إلى عهد الفيثاغوريين الأوائل، ففي محاور «مينون» تُسمَّى عملية التعليم تذكرًا لأشياء سبق تعلمها في حياةٍ سابقة، ثم نُسِيت منذ ذلك الحين، وعملية التذكر هذه هي التي تحتاج إلى ذلك الجهد المشترك الذي أشرنا إليه من قبل. أما مفهوم التذكر ذاته، فيرتكز على الرأي القائل إن النفس تمر بسلسلة من حالات التجسد واللاتجسُّد المتبادلة، وهو رأي يرتبط ارتباطًا واضحًا بنظرية تناسخ الأرواح كما كان يعتنقها الفيثاغوريون؛ فالنفس اللامتجسدة أشبهُ بالنائمة، وهذا هو السبب الذي يجعل من الضروري عندما تُصبِح في حالةِ يقظة وتجسُّد، إيقاظ ما تعلمَته في حياةٍ سابقة، ويحاول سقراط إثبات ذلك عن طريق توجيه الأسئلة إلى صبيٍّ من عبيد مينون، لم يكن لديه أي قدر من التعليم فيما عدا معرفة اللغة اليونانية العادية، ومع ذلك فإن سقراط ينجح عن طريق مجرد توجيه أسئلة بسيطة إليه في أن يستخلص من الفتى كيفية تكوين مربع تساوي مساحته ضعف مساحة مربع معلوم. وينبغي أن نعترف بأن السرد الذي قدَّمه أفلاطون ليس مقنعًا تمامًا بوصفه دليلًا على نظرية التذكر؛ لأن سقراط هو الذي يرسم الأشكال على الرمل ويُصحِّح للصبي أخطاءه كلما ضل، ولكننا نجد ها هنا وصفًا دقيقًا إلى حدٍّ بعيد للموقف التعليمي، فالتفاعل بين المعلم والتلميذ على النحو المبيَّن في هذا المثال هو الذي يؤدي إلى تعليم أصيل، وبهذا المعنى يمكن وصف التعليم بأنه عملية ديالكتيكية (جدلية) بالمعنى اليوناني الأصلي لهذه الكلمة.
ومن المهم أن نُلاحظ أن النظرية التعليمية التي عرضنا معالمها ها هنا، قد تركت أثرها على لغة الكلام العادية، بغض النظر عن التعليم أو الفلسفة؛ ذلك لأننا نتحدث عادةً عن إيقاظ أو إثارة إلهام شخص بموضوعٍ ما. وهذا مثال لظاهرة عامة في نمو المصطلحات الكلامية؛ ذلك لأن اللغة العادية هي مستقر أجزاء متناثرة من التأملات الفلسفية الموروثة من الماضي. وهذا أمر يُستحسَن أن يتذكره من آنٍ لآخر أولئك الذين يُؤلِّهون الكلام العادي، وكأنه يعلو على كافة قواعد البحث والاستقصاء.
هذه الطريقة في معالجة مسائل المنطق تبدو في نظر القارئ الحديث شاذة إلى حدٍّ ما؛ ذلك لأن المرء قد اعتاد اليوم كتب المنطق المدرسية الجافة، على طريقة أرسطو. أما كتابة محاورات فلسفية، وهي الكتابة التي اخترعها أفلاطون، فإنها، بعد أن قلَّدها الكثيرون، أصبحت اليوم شيئًا عتيقًا لا يأخذ به أحد، وربما كان هذا شيئًا مؤسفًا؛ إذ لا يمكن القول إن أسلوب الكتابة الفلسفية في أيامنا يبلغ المستوى المطلوب، فالمحاورة تفرض على المؤلف قدرًا من التنظيم الأدبي يفوق ما يفرضه أي شكل آخر للكتابة. وفي هذه الناحية لا نجد لمحاورات الأفلاطونية الأولى نظيرًا؛ فهذه المحاورات قد كُتِبت بعد وقتٍ قصير من موت سقراط، في وقت لم تكن فيه أفكار أفلاطون ذاته قد تبلورَت بعد، على حين أن قدراته بوصفه فنانًا دراميًّا كانت في الذروة، ونتيجة ذلك أن هذه المحاورات تُقرَأ بوصفها أدبًا بطريقة أيسر من المحاورات المتأخرة، أما مضمونها الفلسفي فقيمته أقل.
ومن هنا فإن سقراط يُثني عليه بسخرة بوصفه خبيرًا ويتظاهر بأنه يلتمس النصح الأخلاقي لدى أوطيفرون الذي لا بد أن يكون حجة في هذه المسائل.
أما من الناحية الأخلاقية، فإن المحاورة تُلقي بعض الضوء على عقيدة الدولة في أثينا، وعلى مدى اختلاف آراء سقراط الأخلاقية عنها. ذلك هو الاختلاف بين الأخلاق المرتكزة على السلطة، وتلك التي ترجع إلى الأصول، ويصل سقراط إلى جوهر المسألة عندما يسأل عن إيضاحٍ لتعريف أوطيفرون للمقدس بأنه ما توافق عليه الآلهة بالإجماع. فسقراط يريد أن يعرف إن كان الشيء مقدسًا؛ لأن الآلهة توافق عليه، أم أن الآلهة توافق عليه؛ لأنه مقدَّس، وهذا السؤال هو في حقيقته نقدٌ غير مباشر لموقف أوطيفرون من المشكلة.
فكل ما يهم أوطيفرون هو أن تكون الآلهة قد أصدرَت أمرًا بضرورة عمل شيء، وقد كان المعنى الفعلي لذلك، في إطار المجتمع الأثيني الذي كانت تُوجَد فيه عقيدة رسمية للدولة، هو أن أوامر هيئة الكهنوت ينبغي إطاعتها على ما هي عليه. ومن الغريب حقًّا أن سقراط كان يوافق على ذلك في ممارساته السياسية، ولكنه وجد نفسه في الوقت ذاته مضطرًّا إلى طرح السؤال الأخلاقي عن نشاط الدولة ذاتها، وهي نقلة لا يُمكِن حدوثها، ولا ينبغي حدوثها في نظر كل مَن هو على شاكلة أوطيفرون في عالمنا هذا. ويُؤدِّي هذا على الفور إلى المشكلة القديمة العهد، مشكلة الولاء المنقسِم أو الموزَّع، التي كانت كما قلنا من قبل من المحاور الأساسية للدراما اليونانية.
ومما يدل على أن هذه المشكلةَ ليست على الإطلاق مسألةً عتيقة انتهى عهدُها؛ أن مشكلة القانون والعدالة ما زالت قائمة بيننا على الدوام، فما هي العلاقة بين الاثنَين؟ وما الذي ينبغي علينا أن نفعله حين يُطلَب إلينا أن نُطيع قانونًا نجده ظالمًا؟ إن هذا السؤال يكتسب حيوية هائلة عندما تُهدِّد الطاعة العمياء لساستنا المسيطرين بإلقاء العالم في أتون دمار شامل لا يُبقي ولا يذر.
إن الاختلاف بين أوطيفرون وسقراط ينحصر آخِرَ الأمر في أن الأول ينظر إلى القانون على أنه شيء ثابت، على حين أن رأي سقراط ينطوي على القول بأن القانون قابلٌ للتغيير، وهنا يبدو سقراط أقربَ إلى أن يكون تجريبيًّا في نظريته الاجتماعية، وإن لم يكن قد صرح بذلك بعباراتٍ واضحة. ومن هنا يجد لزامًا عليه أن يتساءل عما إذا كانت بعضُ الممارسات قيمةً أم شريرة، أيًّا كان مَن أمرَنا بها، ولا بد أنه قد عرَف أن هذا السؤال سيُعرِّضه لانتقام الدولة واضطهادها، بل إنه ليبدو أن هذا هو المصير المألوف لأولئك المفكرين المتمردين الذين يُزعزعون جذور المعتقدات الراسخة، فحتى لو كان الدافع إلى سلوكهم نزيهًا، وهو تقويم الأخطاء التي ارتُكِبت في حق الآخرين، فإن العداء الذي يُوجَّه إليهم يظل على ما هو عليه.
ولقد كان موقف سقراط غير المتسق إزاء المسائل المتعلقة بالسلطة هو الذي أدى به إلى نبذ الحل السهل الذي يتمثَّل في الهروب، وأدى به رفضُه للحلول الوسطى إلى تضييق فرصة الاختيار أمام الادِّعاء، فأصبح بذلك شهيدًا لحرية الفكر. وفي محاورة «فيدون» وهي من روائع الأدب الغربي، نجد وصفًا لساعاته الأخيرة، فالمناقشة تدور في المحاورة حول محاولة ثبات خلود النفس، وهو موضع لا نحتاج هنا إلى الدخول في تفاصيل الحجج المقدَّمة فيه، لا سيما وأنها ليست حججًا قوية، وإن كانت تُثير أسئلة هامة عن مشكلة العلاقة بين العقل والجسم. وقرب نهاية المحاورة تصل المناقشة إلى نقطة لا يعود فيها أي شخص على استعداد لإثارة المزيد من الاعتراضات، ولا يمكن أن يكون قد غاب عن أذهان الفيثاغوريين المشاركين في المحاورة أن مِن الممكن إثارةَ صعوبات جديدة. ولكن يبدو أن الطابع المشئوم للحادث، مصحوبًا بالشعور بالشفقة، جعل أصدقاء سقراط يمتنعون عن إثارة شكوكٍ قاطعة في وجه استنتاجاته، أما الجزء الذي قد يكون هو الأهمَّ فلسفيًّا في المحاورة فهو وصفُ طريقة الفرض والاستنباط، التي هي دعامة كلِّ برهان علمي.
يشرح سقراط هذا الموضوع عندما يُخيِّم على الجماعة شعورٌ بعدم الارتياح، نظرًا إلى أن المناقشة قد واجهَت صعوباتٍ كأداء، وهنا يُحذِّر رفاقه من فقدان الثقة في النقاش ورفضه كُلية، وبعد قليل يَنتقل إلى تقديم عرض محدَّد لطريقته.
فإذا لم تتفق النتائج مع الفرض، وجب التخلِّي عن هذا الأخير، وأصبح علينا أن نُجرِّب فرضًا آخر، والشيء الهام الذي ينبغي ملاحظته هو أن الفروض ذاتها تظَل بغير إثبات. وليس معنى ذلك أن المرء يختار نِقاط بدايته اعتباطًا، وإنما يَعني أنَّ على المرء أن يبدأ عند تقديم برهانٍ ما، بشيءٍ يقبله جميعُ المشتركين، إن لم يكن عن اقتناع، فعلى الأقل من أجل مواصلة الجدل. أما البرهنة على الفروض فهي شيء مختلف كل الاختلاف؛ فهنا ينبغي أن نبدأ من نقطةِ بداية أعلى نستطيع أن نُثبِت أن الفرض موضوع البحث يمكن أن يكون نتيجةً لها. وهذه بالضبط هي مهمة الديالكتيك كما تصوَّرها سقراط. فعلينا أن نَهدم الفروض الخاصة لمختلِف العلوم، بمعنى استبعادها من حيث هي خاصة، ففي النهاية يكون هدفُ الجدل هو الوصولَ إلى نقطة البداية الواحدة العليا، وهي صورة الخير، وربما بدا لنا ذلك أملًا يستحيل تحقيقه، ومع ذلك يظل من الصحيح أن العلم النظري يتحول دائمًا في اتجاه المزيد من التعميم وتوحيد الميادين التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقة. والأمر الذي كان يحرص عليه الفلاسفة الرياضيون على وجه التخصيص هو توحيد الحساب والهندسة، وهي المشكلة التي استطاع ديكارت أن يُقدِّم لها آخر الأمر حلًّا عبقريًّا بعد حوالي ألفَيْ عام من الفترة التي نتحدث عنها.
ذلك لأن مثال الخير والواحد عند الإيليين يشتركان في أنهما يتضمَّنان توجيهًا إلى الطريق الذي يُسيء فيه العلم النظري.
ولقد كان أفضلَ تعبير عن فكرة الفرض والاستنباط هو ذلك الذي تضمَّنته محاورة «فيدون»، ولكن من الغريب أن سقراط لم يتنبَّه أبدًا على ما يبدو إلى عدم الاتساق العجيب بين هذه الفكرة وبين نظريته في المعرفة والظن؛ ذلك لأن نظرية الاستنباط من فروضٍ تقتضي كما هو واضحٌ أن تكون المظاهرُ التي يتعين المحافظة عليها واضحةً بصورةٍ لا تُخطِئها العين، وإلا لما أمكَن المقارنةُ بينها وبين نتائج الفرض. غير أن المظاهر من جهةٍ أخرى تُدرَك بالحواس، والحواس يُقال عنها إنها تُنتِج ظنونًا، أي إنها مُعرَّضة للخطأ، وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا نظرية الفرض والاستنباط مأخذ الجِدِّ وجب علينا أن نتخلى عن نظرية المعرفة والظن، وهذا يُؤدِّي بطريقٍ غير مباشر إلى هدم نظرية المثُل بقدر ما ترتكز على التمييز بين المعرفة والظن، وهذا ما فعله المذهب التجريبي.
وهناك مسألة لم نَعرض لها على الإطلاق، هي كيفية التوصل إلى الفرض في المحل الأول. وتلك مسألة لا نستطيع أن نُقدِّم عنها إجابةً عامة. فليس ثمة «وصفة رسمية» تضمن النجاح في البحث العلمي، وربما كان من الدلائل على عمق بصيرة سقراط أنه لم يُحاوِل حتى أن يُثير السؤال، فليس ثَمة شيءٌ اسمه منطق الاختراع.
لقد ناقشنا من قبل النقدَ الذي وجَّهه بارمنيدس، في المحاورة التي تحمل اسمه إلى نظرية سقراط في المثل. أما في «تيتاتوس»، التي يبدو أنها كُتِبَت في نفس وقت كتابة «بارمنيدس»، فإننا نبتعد بصورةٍ قاطعة عن نظريات سقراط، وتبدأ آراء أفلاطون الخاصة في التشكُّل. ولنذكر هنا أن المعرفة في رأي سقراط هي معرفة بالصور أو المثل، على حين أن الحواسَّ لا تُنتِج إلا ظنًّا، هذا الرأي يكشف على نحوٍ صحيح عن الفرق بين المعرفة الرياضية والتجرِبة الحسية، ولكنه لا ينجح أبدًا بوصفه نظرية عامة في المعرفة، بل إن محاورة «بارمنيدس» تُثبِت أنه عاجز عن النجاح، ولذلك تبذل في «تيتاتوس» محاولة جديدة للتخلص منه المشكلة.
يظل سقراط في هذه المحاورة هو الشخصيةَ الرئيسية، ولما كانت المحاورة تتضمَّن نقدًا لنظرية المعرفة التي تقول بها «الجمهورية»، فيبدو أن من المعقول أن يكون سقراطُ ذاتُه هو الذي يُناقشها، ومع ذلك فإن وِجْهة نظر سقراط لم تَعُد هي السائدة؛ ففي المحاورات المتأخرة التي وصل فيها سقراط إلى آراء ناضجة خاصة به أصبح يستخدم طريقة إدخال شخص غريب ليَعرِض نظرياته، بينما تتوارى شخصية سقراط.
كان تيتاتوس، الذي تحمل المحاورةُ اسمه، رياضيًّا مشهورًا تفوق في الحساب والهندسة معًا، واخترع طريقة عامة لحساب الجذور الرباعية الصمَّاء، وأكمل نظرية الأجسام الصُّلبة المنتظمة، وفي المحاورة نراه صبيًّا لامعًا قبل وقت قصير من محاكمة سقراط، والمحاورة كلُّها مُهداة إلى ذكرى تيتاتوس الذي مات متأثرًا بجراحه ومرضه بعد معركة كورنثة عام ٣٦٩م.
لنتأمَّل إذن هذه الحقيقة على حين أنَّ لكل حاسةٍ من الحواس موضوعاتِها الخاصة، فإن أيَّ شيء يتضمَّن ارتباطًا بين إدراكات الحواسِّ المختلفة يحتاج إلى عمل حاسةٍ ما شاملة، وهذه هي النفس أو العقل، وهما لفظان غير متميِّزين عند أفلاطون، فالنفس تُدرِك صفاتٍ عامةً، كالهوية والاختلاف والوجود والعدد، فضلًا عن الصفات العامة التي تتضمَّنها الأخلاق والفن. ومن ثَم لم يكن من الممكن تعريفُ المعرفة بأنها إدراك حسي فحسب، وعلى ذلك فلنحاول أن نرى إن كنا نستطيع الاهتداء إلى تعريف من جانب النفس. إن مهمة النفس هي إجراء محاورات مع ذاتها، وحين نصل إلى حل لمسألةٍ ما نقول إن النفس أصدرَت حكمًا، فهل نستطيع أن نُعرِّف المعرفة بأنها الحكم الصائب؟ لو اختبرنا هذا التعريف لوجدنا أن من المستحيل بموجبه أن نُقدِّم تعليلًا معقولًا للحكم الباطل أو الخطأ، غير أن الجميع يُسلِّمون بأن ثَمة أخطاءً تُرتكَب، ومع ذلك فإن التمييز بين الصواب والخطأ لا يُعرَض في هذه المرحلة، وإنما يكتفي أفلاطون بتمهيد الأرض، ومن الجائز أن رأيه الخاص في هذه المشكلة لم يكن قد اكتمل في ذلك الحين.
غير أن الحكم الباطل يستحيل لو كان الحكم نشاطًا تقوم به النفس وحدها، ونستطيع أن نتخيل الذهن على أنه لوح نُقِشَت عليه علامات الذاكرة. عندئذٍ يكون قِوامُ الخطأ هو ربْطَ الإحساس الحاضر بالعلامة الخطأ، ولكن هذا التفسير لا يُفلِح في حالة الأخطاء الحسابية، حيث لا توجد أشياء نُدرِكها عن طريق الإحساس. فإذا تصورنا العقل على شكل قفص للطيور من نوعٍ ما، والطيور الموجودة داخله هي أجزاء من المعرفة، فعندئذٍ قد يحدث من آنٍ لآخر أن نصطاد الطائر غير المقصود، فيكون هذا هو الخطأ، غير أن ارتكاب الخطأ في هذه الحالة لن يعود مماثلًا للإدلاء بحقيقة غير منطبقة على الموضوع المطلوب؛ لذلك ينبغي أن نفترض أن بعض الطيور هي أجزاء من الخطأ، ولكننا إذا أمسكنا واحدًا من هذه فإننا نعرف أن هذا خطأ بمجرد أن نُمسِك به، بحيث يستحيل أن نكون على خطأ، وفضلًا عن ذلك فإن في وُسعِنا أن نُشير إلى النقطة التي تُغفِلها هذه الحجة، وهي أن المرء إذا سرَّب إليها جوانبَ من الخطأ، فعندئذٍ تُصبِح القصة بأكملها، من حيث هي تفسيرٌ للخطأ، حَلْقةً مُفرغة.
كذلك فإن المرء قد يُصدِر حكمًا صحيحًا بالصدفة، أو لأسبابٍ أخرى، كالرغبة في اعتناق رأي يتصادف أنه صحيح بالفعل، وهذا ما يحاول أن يتجنَّبه التعريف الأخير؛ فالمعرفة حكمٌ صائب يدعمه البرهان، أي إنه بغير البرهان لا يكون ثَمة معرفة. ولنُشبِّه هذا بحروفٍ يُمكِن تسميتها، ولكن ليس لها معنًى، وبتجمُّعات لهذه الحروف في مقاطعَ يُمكِن تحليلها بدورها، ومن ثَم فهي موضوع للمعرفة، ولكن إذا كان المقطع هو مجموع حروفه، فإنه يكون غيرَ قابلٍ للمعرفة مثلها، وإذا كان أكثرَ من مجموع حروفه، فإن هذه السِّمة المضافة هي التي تجعله قابلًا لأن يُعرَّف، ومن ثَم تُصبِح العبارة فارغة، ومن جهةٍ أخرى فما المقصود هنا بالبرهان؟ من الواضح أنه وصفٌ للطريقة التي يَختلف بها الشيء عن جميع الأشياء الأخرى، وهذا الوصف إما أن يكون حكمًا آخر، أو معرفة بالاختلاف؛ فالأول يُؤدِّي إلى تسلسلٍ إلى ما لا نهاية، والثاني إلى دَوْرٍ في التعريف. ولا يُقدِّم أفلاطونُ بعد ذلك حلًّا لهذه المشكلة، ولكنه طهَّر الجو من بعض المفاهيم الباطلة؛ فليس في وُسْع الإدراك الحسي وحده، أو الفهمِ العقلي وحده، أن يُفسِّر المعرفة.
ومن الواضح أن مشكلة المعرفة ومشكلة الخطأ هنا وجهان لمسألةٍ واحدة، ولما كانت المناقشة الحاضرة لم تُفلِح في الوصول إلى حلٍّ لأيٍّ منهما، فلا بد من البدء من جديد، وهذا ما سنفعله الآن.
والمشكلة الحقيقية التي تُعالَج في محاورة «السفسطائي» هي لغز اللاوجود، الذي نبه إليه بارمنيدس. ولقد كان هذا اللغز عند بارمنيدس متعلقًا أساسًا بالعالم الطبيعي، أما عند أتباعه فقد امتد إلى المنطق بدوره، وبهذه الصورة الأخيرة تبحثه هذه المحاورة.
وقبل أن نعرض لهذه المشكلة التي تحتل الموقع الرئيسي في المحاورة، نوَد أن نُضيف بضع ملاحظات عن طريقة القسمة، لا سيما وأنها هي طريقة التصنيف التي كانت مُستخدَمة في الأكاديمية، كما أن كتاب أرسطو عن تصنيف الحيوانات ينتمي إلى فترة وجوده في الأكاديمية. تُقدِّم الطريقة إلينا تعريفًا مفصلًا للألفاظ يبدأ بالجنس، ثم يُقسِّمه قِسمَين في كل مرحلة، عن طريق تقديم صفات «فاصلة» مُتبادَلة. وتقدم محاورة السفسطائي مثلًا أوليًّا لشرح الطريقة، على أساس أن اللفظ المرادَ تعريفُه هو «صيد الأسماك بالخُطَّاف» فأولًا يلاحظ أن صيد الأسماك فن، ومن ثَم فإن الجنس الأول هو «الفنون»، وهذه الأخيرة تنقسم إلى فنون للإنتاج وفنون للاقتناء، ومن الواضح أن صيد السمك ينتمي إلى الفئة الثانية، ثم يقسم الاقتناء إلى حالات تتم برضاء موضوعها، وحالات تُقتنَص فيها هذه الموضوعات، وهنا أيضًا نجد صيد الأسماك ينتمي إلى الفئة الأخيرة. ويُقسَّم الاقتناص إلى ظاهرٍ ومَخْفي، وينتمي صيد الأسماك إلى النوع الأخير، وقد تكون الأشياء المقتنَصة جماداتٍ أو أحياء، والصيد يتعلق بالأحياء، وقد تعيش هذه الأحياء، أو الحيوانات على اليابس أو في سائل، وهنا أيضًا نرى اللفظَ المراد تعريفُه مُنتمِيًا إلى الفئة الثانية، وقد تكون الحيوانات التي تسكن السوائلَ طيورًا أو أسماكًا، وقد تُمسِك الأسماك بالشبكة أو بالطعن، وقد نقتنصها ليلًا أو نهارًا. وصيد الأسماك بالخطاف يتم نهارًا، وقد تُضرَب من أعلى أو من أسفل، وهذا النوع من الصيد يحدث فيه الضرب من أسفل، وبعد أن نَستعيد خطواتنا ونجمع كلَّ الصفات «الفاصلة»، نُعرِّف صيد الأسماك بالخُطَّاف بأنه فنُّ اقتناءٍ عن طريق قنص مخفي، لحيوانات تعيش في الماء، مع صيدها نهارًا، وطعنها من أسفل. على أننا ينبغي أن نأخذ المثَل بجِدِّية أكثرَ مما ينبغي، بل لقد اختِيرَ لأنَّ من الممكن النظرَ إلى السفسطائي بدوره على أنه صياد من هذا النوع، يصطاد نفوس البشر. وتَلي ذلك تعريفاتٌ متعددة للسفسطائي، ولكننا لا نحتاج إلى متابعة هذا الموضوع.
وبدلًا من ذلك سننتقل في مناقشتنا إلى المشكلة الإيلية؛ فالصعوبة المتعلقة باللاوجود تنشأ لأن الفلاسفة لم يَفهموا المقصود بالوجود فهمًا صحيحًا، وهذا ما يُبيِّنه الغريب بمقدرة فائقة، ولو عدنا إلى «تيتاتوس» لَتذكَّرْنا أن المعرفة أيًّا كانت شروطها الأخرى، تقتضي على الأقل تفاعلًا، ومن ثَم حركة، ولكنها تقتضي أيضًا سكونًا، وإلا لما كان هناك شيء نتكلم عنه، فلا بد أن تكون الأشياء ساكنة بمعنًى ما حتى تكون موضوعًا للبحث. وهذا يُعطينا بادرةً لمواجهة المشكلة؛ ذلك لأن الحركة والسكون موجودان معًا بغير شك، ولكن لما كانا ضِدَّين، فلا يمكن أن يجتمعا، والواقع أن هناك ثلاثةَ إمكانات لتجمُّعهما؛ فإما أن تظل الأشياء جميعًا منفصلة انفصالًا تامًّا، وفي هذه الحالة لا يُمكِن أن تشارك الحركة والسكون في الوجود، وإما أن يكون من الممكن اندماج الأشياء جميعًا، وفي هذه الحالة يمكن أن تجتمع الحركة والسكون، وهو ما لا يُمكِنهما تحقيقه، كما هو واضح. والبديل الباقي هو أن يكون من الممكن اتحادُ بعض الأشياء ولا يكونَ من الممكن اتحادُ البعض الآخر، ويَكمُن حل الصعوبات التي نُواجِهها في إدراك أن «الوجود واللاوجود» هما في ذاتهما تعبيران لا معنى لهما، بل يُصبِح لهما معنًى فقط حين يَدخلان في حكم. وهنا تُصبِح «الصور» أو الأنواع كالحركة والسكون والوجود، هي الصفاتِ العامةَ التي سبق أن تحدَّث عنها «تيتاتوس»، ومن الواضح أنها تختلف كل الاختلاف عن الصور كما قال بها سقراط؛ فنظرية الصور الأفلاطونية هذه هي نقطة البدء التي أدى تطورها إلى ظهور نظرية المقولات.
ووظيفة الجدل (الديالكتيك) هي البحث في أي هذه الصور، أو «الأنواع العليا» يتجمَّع، وأيها لا يتجمع، فالحركة والسكون كما رأينا من قبل لا يتجمعان معًا، ولكنَّ كلًّا منهما يتجمع مع الوجود، أي إن كلًّا منهما يُوجَد. كذلك فإن الحركة تكون مماثلة لذاتها، ولكنها مختلفة عن السكون. فالمماثَلة أو الهُوية، والاختلاف أو الآخرة، يَسْريان على كل شيء، شأنهما شأن الوجود؛ ذلك لأن كل شيء مماثل لذاته، أو في هوية مع ذاته، ومختلف عن جميع الأشياء الأخرى.
وعلى هذا الأساس نستطيع الآن تقديم تعليل بسيط للخطأ؛ فالحكم الصحيح هو أن نحكم على شيءٍ ما بأنه على ما هو عليه. أما لو حكمنا على شيءٍ بأنه على غير ما هو عليه، لكان ذلك حكمًا باطلًا، ولارتكبنا خطأً، وربما اندهش القارئ حين يرى أن حصيلة هذه المناقشة ليست أخطرَ ولا أعقدَ من ذلك، ولكن هذا يَصدُق على أية مشكلة بمجرد أن نعرف حلها.
ولنلاحظ في الختام أن مشكلة «تيتاتوس» قد تم التخلص منها خلال ذلك، بل إن هذه المشكلة ليست سؤالًا صحيحًا. فلا بد لنا من الالتزام بالأحكام، وهذه كما نرى الآن قد تكون صحيحة أو باطلة، ولكن كيف نعرف إن كان أحد الأحكام على هذا النحو أو ذاك؟ الرد هو أنه يكون صحيحًا إذا كانت الأشياء ذاتُها كذلك، ولا يكون إذا لم تكن، فليس ثمة معيار شكلي يضمن لنا عدمَ ارتكاب الخطأ.
ويُتيح لنا التفسيرُ الذي قدمناه لمشكلة اللاوجود، أن نتخلص من الآن فصاعدًا من مشكلة التغير؛ ذلك لأنه يُوضِّح نظرية هرقليطس وينزع عنها طابَعَ التناقض الظاهري. ومع ذلك فإن لدى أفلاطون نظريةً أخرى في التغير ترتبط مباشرةً بكل من المذهب الذري والفيزياء الرياضية كما نعرفهما اليوم، وهو يعرض هذه النظرية في محاورة «طيماوس»، وهي محاورة أخرى تنتمي إلى المرحلة الأخيرة والناضجة من فكر أفلاطون، ونظرًا إلى أن تقديم وصف للنظريات التي تَعرِضها المحاورة عن نشأة الكون سوف يمضي بنا بعيدًا، فإننا نكتفي بأن نُشير إلى أن المحاورة تتضمَّن قدرًا كبيرًا من الآراء الفيثاغورية المتطورة، مع بعض تلميحات عن التفسير الصحيح لحركة الكواكب، بل إنه ليمكن القول إن الفرض القائل بأن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية ربما كان من اكتشافات الأكاديمية. وتعالج المحاورة عددًا كبيرًا من المسائل العلمية الأخرى، ولكن ينبغي علينا أن نتركها جانبًا، وننتقل إلى ما يمكن تسميته بالنظرية الذرية الهندسية أو الرياضية عند أفلاطون. فتبعًا لهذا الرأي يتعين علينا أن نقوم بتمييز ثلاثي بين الصورة والمادة الأساسية، والحقيقة الجسمية للعالم المحسوس، والمقصود بالمادة الأساسية هنا هو المكان الخالي فحسب. أما الواقع المحسوس فهو حصيلة الجمع بين الصور والمكان الذي تنطبع عليه هذه الصور على نحوٍ ما. وعلى ذلك يكون لدينا وصفٌ للعالم المادي؛ الفيزيائي منه والبيولوجي، على أساس العناصر الأربعة. ولكن هذه بدورها تُعَد الآن أجسامًا هندسية تتألف من نوعَين من المثلثات الأولية؛ ذلك الذي يتألف من نصف مثلث متساوي الأضلاع، والمثلث القائم الزاوية متساوي الساقَين، الذي يُشكِّل نصف مربع، ومن هذَين المثلثَين نستطيع أن نُكوِّن أربعة من الأنواع الخمسة المنتظمة للأجسام الجامدة؛ فالشكل الرباعي الأوجُهِ هو الجزيء الأساسي للنار، والمكعَّب هو جزيء التراب، والمثمَّن جزيء الهواء، والشكل ذو العشرين وجهًا جزيء الماء، وعن طريق تفتيت هذه الأجسام إلى مثيلاتها المكونة، وإعادة ترتيبها نستطيع أن نُحدِثَ تحولًا من أحد هذه العناصر إلى الآخر. كذلك فإن الجزئيات النارية التي لها أطراف حادة تتغلغل في الأجسام الأخرى، أما الماء فيتألف من جزيئاتٍ أنعمَ بكثير، ومن هنا كانت مرونة السوائل.
في هذه النواحي يظهر أفلاطون على أنه يستبق التراث الأساسي للعلم الحديث؛ فالرأي القائل إن كل شيء يُمكِن ردُّه إلى الهندسة، أصبح يقول به ديكارت صراحة، كما يقول به أينشتين، ولكن بصورةٍ مختلفة، وبطبيعة الحال فإن اقتصار أفلاطون على أربعة عناصر هو تقييد لنظريته بمعنًى ما، ولكن سبب هذا الاختيار هو أن ذلك كان الرأيَ السائد في عصره، والشيء الذي حاول أفلاطون القيام به هو أن يُقدِّم تعليلًا أو تفسيرًا لهذا الرأي كيما يَحفظ الظاهر، وكان الفرض الذي استخدمه في ذلك رياضيًّا. وكما رأينا من قبل فإن الفكرة القائلة بأن العالم قابل للفهم في نهاية الأمر على أساس العدد، كانت جزءًا من النظرية الفيثاغورية التي أخذ بها أفلاطون، وهكذا يكون لدينا نموذج رياضي للتفسير الفيزيائي، وهذا بعينه هو، من حيث المنهجُ، هدفُ الفيزياء الرياضية الحاضرة.
أما الربط بين هذه النظرية وبين نظرية الأجسام الجامدة المنتظمة، فربما كان أثرًا من آثار الصوفية الفيثاغورية. فليس هناك وفقًا لهذا التخطيط مكانٌ للشكل الاثنَيْ عشري؛ إذ إن هذا وحده من بين الأشكال الخمسة للأجسام له أوجُه لا تتألف من المثلَّثَين الأوليَّين، وإنما من أشكالٍ ثمانية منتظمة، وينبغي أن نَذكر أن الشكل الثماني كان من الرموز الصوفية للفيثاغوريين، ويحتاج تكوينُه إلى العدد الأصم الذي تَحدَّثنا عنه عندما عرَضْنا للفيثاغوريين المتأخِّرين، وفضلًا عن ذلك فإن الشكل الاثنَيْ عشري يبدو أقربَ إلى الاستدارة من أي من الأشكال الأربعة الأخرى، لذلك يجعله أفلاطونُ مُعبِّرًا عن العالم. غير أن هذا الخيال التأمليَّ لا يؤثر في صحة النموذج الرياضي أو عدم صحته.
إن المقام لا يتَّسع هنا لمعالجة النظرية الرياضية عند أفلاطون معالجة كاملة. وعلى أية حال فإن من الضروري تجميعَ هذه النظرية من لمحات بسيطة في المحاورات، ومن بعض عبارات أرسطو. غير أن من المهم مع ذلك أن نُلاحظ أمرَين؛ الأول: هو أن أفلاطون، أو الأكاديمية على أية حال، قد أعاد النظر في نظرية العدد الفيثاغورية كيما يتخلص من انتقادات الإيليين لها. وهنا يستبق أفلاطونُ أيضًا رأيًا حديثًا كلَّ الحداثة، فهو يرى أن بداية السلسلة الرقمية هي الصفر بدلًا من الواحد، مما يُتيح له وضع نظرية عامة للأعداد الصمَّاء، التي لا ينبغي أن تُعَد بعد ذلك صمَّاء إذا كنا نلتزم الدقة العلمية الصارمة. وبالمثل أصبح في الهندسة يُنظَر إلى الخط المستقيم على أنه يَنشأ من حركة نقطة، وهو رأي يلعب دورًا أساسيًّا في نظرية المعادلات المتغيرة عند نيوتن، التي كانت من الصور الأولى لِما أصبح يُعرَف بعد ذلك باسمِ حساب التفاضل. وإنَّا لنرى بوضوح كيف يُسهِم هذان التطوران في توحيد الحساب والهندسة في إطار روح الديالكتيك.
أما النقطة الهامة الثانية فهي عبارة لأرسطو ذكَر فيها أن أفلاطون قال إن الأعداد لا يمكن أن تُجمَع. هذه العبارة الموجزة تنطوي في الواقع على بذرة رأي حديث إلى أبعدِ حد في العدد؛ ذلك لأن أفلاطون اقتفى أثر الفيثاغوريين في النظر إلى الأعداد على أنها صور.
فالعدد ثلاثة مثلًا هو فئةُ كلِّ الأشياء الثلاثية، والثلاثي هو فئة الأشياء من نوعٍ محدَّد. وهذا ينطبق على أي عدد أصلي آخر، فالعدد اثنان هو فئة الأشياء الزوجية، والزوج فئة لأشياء. وفي استطاعتك أن تجمع ثلاثيًّا وزوجًا من نوعٍ واحد، ولكنك لا تستطيع أن تجمع العدد ثلاثة والعدد اثنَين.
وهذا يُؤدِّي بنا إلى نهاية العرض الموجز الذي قدَّمناه لأهم نظريات أفلاطون. والواقع أن قليلًا من الفلاسفة هم الذين بلَغوا ما بلَغه من اتساع مدى الفكر وعمقه، إن كان أحدٌ قد ناظرَه على الإطلاق، ولكن أحدًا من الفلاسفة لم يتجاوَزْه، ولا شك أن أيَّ شخص يود الاشتغال بالبحث الفلسفي يكون قد ارتكب خطأً جسيمًا لو تجاهله.
أما أرسطو وهو ثالثُ ثلاثة من المفكرين العظام عاشوا في أثينا، وقدَّموا تعاليمهم فيها، فقد كان على الأرجح أولَ الفلاسفة المحترفين، وعلى يد أرسطو نجد الفترة الكلاسيكية في الفلسفة قد اجتازت خطَّ الذروة، أما من الناحية السياسية، فقد أخذَت أثينا تصبح أقلَّ أهمية، بعد أن وضع الإسكندر المقدوني، الذي كان في صباه تلميذًا لأرسطو أسَّس إمبراطورية بدأ العالم الهلينستي يزدهر في ظلها، ولكنا سنُفصِّل الكلام في هذا الموضوع فيما بعد.
وكما قلنا من قبل، فإن كتاب أرسطو عن تصنيف الحيوان ينتمي إلى فترة دراسته في الأكاديمية، وخلال إقامته في إقليم بحر إيجة، لا بد أن يكون قد أجرى أبحاثه في علم الأحياء المائية، وهو ميدان أسهم فيه بنصيبٍ لم يتمَّ تجاوزه إلا في القرن التاسع عشر. وفي عام ٣٤٣ق.م. استُدعِي إلى بلاط فيليب الثاني في مقدونيا؛ ليكون مُعلِّمَ الإسكندر بن فيليب. وظل أرسطو يقوم بعمله هذا طوال ثلاث سنوات، غير أننا لا نعرف تفاصيل هذه الفترة من مصادرَ موثوقٍ بها. وربما كان هذا أمرًا مؤسفًا، إذ إن المرء لا بد أن يُلِحَّ عليه التساؤل عن مدى السيطرة التي استطاع الفيلسوف الحكيم أن يُمارِسَها على الأمير المدلَّل. ومع ذلك يبدو من المعقول القول إنه لم يكن هناك الكثيرُ مما يشترك فيه الاثنان؛ فقد كانت آراء أرسطو السياسية مبنيَّة على دولة المدينة اليونانية التي كانت على وشك الزوال. أما الإمبراطوريات المركزية كتلك التي شادها الملك الأعظم «الإسكندر» فكانت خليقة بأن تبدوَ له، كما تبدو لجميع اليونانيِّين، بدعةً دخيلة. فقد كان لدى اليونانيين في هذه المسألة، كما في غيرها من المسائل الثقافية، اعتزازٌ محمود بتفوُّقهم، غير أن العصر كان يسير نحو التغير، وكانت دولة المدينة في أفول، والإمبراطورية الهلينستية في صعود. أما إعجاب الإسكندر بأثينا بسبب ثقافتها فأمر لا يُنكِره أحد، غير أن هذا شيء كان يشاركه فيه الجميع، ولم يكن أرسطو هو سببَه.
إن معظم ما نعرفه من مؤلفات أرسطو ينتمي إلى الفترة الأثينية الثانية، وليس كل هذه المؤلفات كتبًا بالمعنى الصحيح، فمن المرجَّح أن بعض هذه المؤلفات مبنيٌّ على مذكَّرات دُوِّنت أثناء قيامه بالتدريس. وهكذا يبدو أن أرسطو كان أولَ مُؤلِّف لكتب مدرسية، بل إن بعض هذه المؤلفات تبدو تدويناتٍ قام بها الطلاب أنفسُهم، وترتَّب على ذلك أن جاء أسلوب أرسطو مُمِلًّا يفتقر إلى الشاعرية، رغم أن مِن المعروف أنه كتب محاورات على طريقة أفلاطون، لم يبقَ منها شيء، وإن كانت بقية مؤلفات أرسطو تشهد بأنه لم يكن شخصية أدبية على مستوى أفلاطون، فبينما كتب أفلاطون روائعُ درامية، أنتج أرسطو كتبًا مدرسية جافة. وبينما كان قلم أفلاطون يتدفق بمحاورات حية نابضة، كان أرسطو يُنتِج أبحاثًا منهجية.
ولكي نفهم أرسطو ينبغي أن نذكر أنه أول ناقد لأفلاطون، ومع ذلك لا يمكن القول إن نقد أرسطو كان يرتكز في كل الأحوال على معرفة صحيحة. وعادة يكون من المأمون أن نثق بأرسطو عندما يسرد آراء أفلاطون، أما عندما ينتقل إلى تفسير معناها فإنه لا يعود موثوقًا منه، وبالطبع يمكننا أن نفترض أن أرسطو قد عرَف الرياضيات السائدة في عصره، وهو أمر يبدو أن عضويته في الأكاديمية تُؤكِّده، ولكن من المؤكد أيضًا أنه لم يكن ميَّالًا إلى الفلسفة الرياضية لأفلاطون، بل إنه لم يفهمها أبدًا في الواقع. وينطبق هذا الحكم نفسُه على تعليقات أرسطو على الفلاسفة السابقين لسقراط، فحين يُقدِّم سردًا مباشرًا لآرائهم نستطيع أن نعتمد على ما يكتب، أما التفسيرات فلا بد أن تُؤخَذ كلُّها بحذر.
ولقد كان تأثير أرسطو من الناحية التاريخية معوقًا، ويرجع ذلك أساسًا إلى الجمود الأعمى والذليل لدى الكثير من أتباعه، ولكن هذا شيء لا يمكننا بالطبع أن نُلقي فيه اللوم على أرسطو نفسه. ومع ذلك يظل من الصحيح أن الإحياء العلمي في عصر النهضة كان يُمثِّل انشقاقًا على أرسطو وعودة إلى أفلاطون. والواقع أن أرسطو ظل في نظرته العامة ابنًا للعصر الكلاسيكي، على الرغم من أن أثينا كانت قد بدأت في التدهور قبل أن يُولَد، ولم يفهم أرسطو أبدًا مغزى التغيرات السياسية التي حدَثَت خلال حياته، والتي كان فيها العصر الكلاسيكي قد بلغ نهايته منذ أمدٍ طويل.
ويمكننا أن ننظر إلى أعمال أرسطو في هذا الميدان على أنها محاولة للاستعاضة عن نظرية المثل السقراطية بنظرية جديدة خاصة به. والنقد الأساسي الذي يُوجِّهه أرسطو هو حجة «الرجل الثالث» مُطبَّقة على فكرة المشاركة. وليس في ذلك إلا ترديدٌ للنقد الذي سبق أن عرضه أفلاطون في محاورة «بارمنيدس». أما البديل الذي اقترحه أرسطو فهو نظرية المادة والصورة، فلنتأمل مثلًا المادة الخام التي تُستخدَم في صناعة عمود في مبنًى، تلك هي «المادة»، أما الصورة فهي أشبه بالتصميم الذي يضعه المعماري للعمود.
والفكرتان معًا هما، بمعنًى معين، تجريدان، من حيث إن الشيء الفعلي يجمع بين الاثنَين معًا. ويقول أرسطو إن الصورة عندما تُطبَع على المادة، هي التي تجعل هذه الأخيرة على ما هي عليه، فالصورة تُضفي على المادة خصائصها، وتُحولها بالفعل إلى شيء أو جوهر. ومن المهم ألا نَخلِط بين المادة والجوهر إذا شئنا أن نفهم أرسطو فَهمًا صحيحًا؛ فكلمة الجوهر تعني في أصلها اليوناني الشيء الموجود في الأساس، وهو شيء ثابت حامل للصفات، والواقع أن ميلنا الطبيعي إلى التفكير من خلال شكل من أشكال النظرية الذرية هو الذي يجعلنا نتَّجه إلى التوحيد بين الجوهر والمادة.
ذلك لأن الذرات، بالمعنى المطلوب هنا هي كيانات جوهرية وظيفتها حمل الصفات وتفسير التغيُّر، وهذا ما أشرنا إليه من قبل عند حديثنا عن الذريِّين.
ولكن من الخطأ أن نستدل من ذلك على أن من الضروري أن تكون هناك كليات موجودة على نحوٍ مستقل، تكون الصفات أسماءً لها. وهكذا كان رأي أرسطو في الكليات أقربَ إلى الطابع العضوي، وهو أمر متوقع من عالم بيولوجي مثله؛ فالكليات تتدخل على نحوٍ ما في إنتاج الأشياء، ولكنها لا توجد في عالم غامض خاص بها. وعلى الرغم من أن أرسطو لم يكن يقصد من نظريته في المادة والصورة أن تَحُل محلَّ الكليات، فلا شك أن لها صلةً وثيقة بهذه المشكلة، وهي كما رأينا لا تنجح تمامًا في التحرُّر من نظرية المثل. كما أن من المهم أن نتذكر أيضًا أن نظرية أرسطو تسمح لنا تمامًا بأن نتحدث عن جواهر لا مادية، ومن أمثلة ذلك النفس، التي هي جوهر؛ لأنها هي التي تُضفي على الجسم صورته، ولكنها ليست مادية.
وترتبط بمشكلة الكليات مشكلةُ تفسير التغير، وهي مشكلة قديمة العهد؛ فالبعض يجد هذا التفسير عسيرًا إلى حدٍّ لا يرى معه مَفرًّا من إنكاره، كما فعل بارمنيدس، وغير هؤلاء يقولون بنوعٍ من المذهب الإيلي المعدل، ويلجَئون إلى تفسيرات ذرية، على حين أن غير هؤلاء وأولئك يلجَئون إلى شكل من أشكال نظرية الكليات، وقد تحدثنا عن هذا كله من قبل. أما عند أرسطو فنجد نظرية القوة والفعل (أو الإمكان والتحقق)، وهي أقرب إلى نظرية الكليات منها إلى النظرية الذرية.
وهنا يأتي تحليل أرسطو ليقدم الإجابة الصحيحة، فحين نقول إن الشيء يتصف بالصفة س بالقوة، نعني أنه سيصبح كذلك بالفعل إذا توافرت شروط معينة؛ فالقول إن الزيت قابل للاشتعال معناه الاعتراف بأنه، إذا توافرت مجموعة من الشروط يمكن تحديدها، سيشتعل الزيت، أي إنه إذا كانت الحرارة هي المطلوبة، وأشعلت عود ثقاب وقربته من سطح الزيت، فإنك ستُوقِد فيه النار.
وبالطبع فإن الشروط المطلوبة لا بد أن تكون من النوع القابل للحدوث أو للتحقيق. وبهذا المعنى يكون المتحقق أو الموجود بالفعل سابقًا منطقيًّا للممكن، أو لما يوجد بالقوة. وهكذا يمكن الآن تقديم تفسير للتغيير على أساس القول بجوهر يحمل بالقوة مجموعة من الصفات التي تتحقق فيه واحدة تلو الأخرى. وأيًّا كانت عيوب مثل هذا التفسير من الناحية العملية، فإنه على الأقل ليس سطحيًّا أو منعدم القيمة من حيث المبدأ، إذا تذكرنا التحليل الأرسطي للإمكان أو الوجود بالقوة. ولا شك أن هذا الفهم يُذكِّرنا بسقراط وأفلاطون أكثر مما يذكرنا بالذريين، على أن رأي أرسطو قد تأثر جزئيًّا باهتماماته العلمية بعلم الأحياء، حيث يكون لفكرة الإمكان فائدة خاصة، على أن العرض الذي قدمناه ها هنا ناقص في ناحية واحدة هامة؛ فهو لا يذكر كيف أو لماذا تحدث التغيرات، وهذه مسألة كانت لدى أرسطو عنها إجابة مفصلة جدًّا، سوف نبحثها عندما تصل إلى نظريته في السببية. أما نظرياته في نشأة الكون ورأيه في أن الله هو العلة الأولى أو المحرك الذي لا يتحرك، فسوف نتركها بدورها إلى وقتٍ لا حق، ولكن ينبغي أن نتذكر أن أرسطو كان ينظر إلى مذهبه في الإلهيات على أنه جزء مما نُسمِّيه اليوم بالميتافيزيقا.
ولنعد الآن إلى أعمال أرسطو في المنطق، فقد ذكرنا من قبل أن في السمات المميزة للعلم والفلسفة اليونانيَّين وجودَ فكرة البرهان فيهما. فعلى حين أن فلَكيِّي الشرق كانوا يكتفون بتسجيل أرصادهم، فإن مُفكِّري اليونان حاولوا تعليها. وتنطوي عملية إثبات قضية ما على إقامة حجج أو براهين منطقية، وبطبيعة الحال فقد كان ذاك يحدث قبل أرسطو بوقتٍ طويل، ولكن لم يُحاول أحد فيما نعلم أن يُقدِّم وصفًا عامًّا مفصَّلًا للشكل الذي تتخذه البراهين. وفي هذا الصدد تُقدِّم إلينا أعمال أرسطو عرضًا شاملًا بدا له، كما بدا للفيلسوف الألماني «كانت» كاملًا. ولكن ليس من المهم أن نُشير إلى أنه كان في هذه الناحية مخطئًا إلى حدٍّ مؤسف؛ إذ إن الخطورة الكبرى هي أنه أدرك إمكان تقديم عرض عام للمنطق الصوري.
وربما كان من المفيد أن نُؤكِّد من البدء أنه لا يوجد شيء اسمه المنطق غير الصوري؛ فالمقصود هنا هو الصورة العامة للبراهين، وهي دراسة تنتمي إلى ميدان المنطق.
ويرتكز المنطق الأرسطي على عدد من المسلَّمات المرتبطة بمذهبه الميتافيزيقي؛ أُولاها أنه يُسلِّم بلا مناقشة بأن جميع القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول. والواقع أن كثيرًا من قضايا الحديث المعتاد تتخذ هذا الشكل، كما أن هذا كان مصدرًا من مصادر ميتافيزيقا الجوهر والعرَض. وبالطبع فإن صورة الموضوع والمحمول قد أُشيرَ إليها في محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، والأرجح أن أرسطو قد استمدها منها أولًا. وفي هذا السياق تنشأ مشكلة الكليات؛ إذ تقسم القضايا تبعًا لكونها تتحدث عن كليات أو عن أفراد، ففي الحالة الأولى يمكن أن تشتمل على مجال الكليِّ كلِّه، كما في قولنا: «كل الناس فانون»، التي تُسمَّى قضية كلية، أو قد تُغطِّي القضية جزءًا من الكلي فقط، كقولنا: «بعض الناس حكماء»، وتُسمَّى هذه قضية جزئية. أما حالة القضية الشخصية فتُمثِّلها قضية مثل «سقراط إنسان»، وعندما نصل إلى الجمع بين القضايا في برهان ينبغي أن تُعامَل القضية الشخصية معاملةَ القضية الكلية. وتكون القضايا موجبة أو سالبة إذا كان شيءٌ ما يثبت أو ينفني عن الموضوع.
وقد ترتَّب على سلطة أرسطو التي سيطرت على العصور اللاحقة أنْ ظل القياس يُعَد النوعَ الوحيد من البرهان الذي يعترف به المناطقة قرابة ألفَي عام. غير أن أرسطو ذاته كان قد تنبه إلى بعض الانتقادات التي وُجِّهَت إليه في النهاية. ففي حالة برهان مثل: كل الناس فانون، وسقراط إنسان، إذن سقراط فانٍ، قيل إن معرفة المقدمة الأولى تعني ضِمنًا معرفة النتيجة، بحيث ينطوي البرهان على مُصادرةٍ على المطلوب. غير أن هذا الاعتراض مبنيٌّ على سوء فَهمٍ للطريقة التي نتوصل بها إلى قضية مثل: كل أ هي ب، فليس من الضروري بل ليس من المألوف أن ننظر إلى كل أ على حدة، ونرى إن كانت ب. بل إننا على العكس نكتفي في كثيرٍ من الأحيان بتأمُّل مثل واحد لكي نُدرِك الارتباط المطلوب. ويظهر ذلك بوضوح في حالة الهندسة؛ فمجموع زوايا كل مثلث يساوي قائمتَين، ولكن لا يوجد عالم هندسة جدير بهذا الاسم على استعداد لتفحص كل المثلثات حتى يُرضِي ضميره قبل أن يُغامر بإطلاق حكم عام كهذا.
هذا باختصار، هو لب نظرية القياس، وقد عالج أرسطو أيضًا أنواعًا من القياس تتألف من قضايا الجهة، أي القضايا التي تشتمل على ألفاظ مثل «ربما» و«يجب» بدلًا من «يكون» وسوف تبرز أهمية منطق الجهة هذا مرةً أخرى في ميدان المنطق الرمزي المعاصر.
غير أن للمنطق مركزًا فريدًا على نحوٍ ما؛ فهو لا يُماثل بالضبط ما نُطلِق عليه عادةً اسم العلوم، ولقد ميَّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من العلوم تبعًا للهدف الرئيسي الذي يُحقِّقه كل نوع منها؛ فالعلوم النظرية تُزوِّدنا بالمعرفة بالمعنى الذي تكون فيه المعرفة مضادَّة للظن، وأوضحُ مثال لها هو الرياضة، وإن كان أرسطو يُدرِج ضمنها الفيزياء والميتافيزيقا. وهو يفهم الفيزياء بمعنًى لا يُعادِل بالضبط المعنى الذي نفهمه اليوم؛ فهي أقربُ إلى أن تكون دراسة عامة للمكان والزمان والسببية، وهي دراسة يندرج جزءٌ منها تحت باب الميتافيزيقا، أو حتى المنطق ذاته مفهومًا بمعنًى أوسع.
وعلى الرغم من أن المنطق له علاقة بالألفاظ، فإنه عند أرسطو لا يختص بالألفاظ وحدها؛ ذلك لأن معظم الألفاظ علامات اعتباطية تدل على أشياء غير لفظية. فالمنطق إذن مختلف عن النحو، وإن كان من الممكن أن يُؤثِّر المنطقُ في علم النحو كذلك فإن المنطق مختلف عن الميتافيزيقا؛ لأنه لا يتعلق بالوجود بقدر ما يتعلق بطريقة معرفتنا له، وهنا يكون لرفض أرسطو لنظرية المثل أهميةٌ خاصة؛ إذ إن مَن يعتنق هذه النظرية قد ينظر إلى المنطق بالمعنى الضيق الذي نبحثه على أنه هو ذاته الميتافيزيقا، أما أرسطو فيراهما مُتميزَين. وقد استعان في محاولته حل مشكلة الكليات بما يُمكِننا أن نُسمِّيَه بالتصورات، التي تتميز عن المثل بأنها لا توجد في عالمٍ خاص بها.
وأخيرًا، فإن المنطق مختلف عن علم النفس. وتكشف لنا الرياضيات عن هذا الفارق بوضوح؛ فالترتيب الاستنباطي لكتاب إقليدس في الهندسة شيء، والمسارات الذهنية المتعرجة التي ينطوي عليها التفكير الرياضي المؤدِّي إلى كشف هذه المعرفة شيء آخرُ مختلف كلَّ الاختلاف. أي إن البناء المنطقي للعلم وسيكولوجية البحث العلمي شيئان متميزان ومنفصلان وكذلك الحال في علم الجمال؛ حيث لا تكون لمزايا أي عمل فني علاقةٌ بالأحوال النفسية التي تحكَّمَت في إنتاجه.
ولا بد لأي بحث في المنطق أن يقوم، على سبيل التقديم، بدراسة بناء اللغة وما يمكن أن يُقال فيها. وفي مؤلفات أرسطو المنطقية (الأورجانون) تتم هذه الدراسة في كتاب بعنوان «المقولات»، وهنا أيضًا نجد البداية عند أفلاطون، كما رأينا عند مناقشة محاورة «السفسطائي»، غير أن مناقشة أرسطو للموضوع أقربُ كثيرًا إلى الواقع، وأكثر اهتمامًا بحقائق اللغة، فهو يُميِّز بين عشَرة أصناف مختلفة يمكن الاهتداء إليها في الحديث؛ هذه الأصناف هي: الجوهر، والكيف، والكم، والإضافة (العلاقة)، والمكان، والزمان، والوضع، والملك، والفعل، والانفعال.
الأول هو الجوهر، أي ما تتحدث عنه أية عبارة. أما المقولات الأخرى فتشمل مختلف أنواع العبارات التي يمكن أن تُقال عن الجوهر، وهكذا فإننا إذا تحدثنا عن سقراط فقد نقول إن لديه صفةً (أو كيفية) معينة، مثل كونه فيلسوفًا. كما أن له حجمًا معينًا، وهذا يعني تطبيق مقولة الكم، وله علاقات معينة بالأشياء الأخرى، كما أنه يحل في مكان وله موقع في الزمان، ويتفاعل مع ما يحيط به بأن يقوم بأفعال وتحل عليه أفعال أخرى، وسوف نرى فيما بعد أن هناك صيغًا أخرى أحدثَ عهدًا لنظرية المقولات، وإن كانت هذه في معظم الحالات قد اصطبغت بصبغة ميتافيزيقية تختلف عن الدراسة اللغوية التي قام بها أرسطو، ويصدق هذا بوجهٍ خاص على كانت وهيجل.
وبطبيعة الحال فإن المقولات تجريدات، وهي تُجيب عن أهم الأسئلة التي يمكن أن تُطرَح عن أي شيء. وقد نظر أرسطو إلى المقولات على أنها ما تعنيه الألفاظ بذاتها، ومعاني الألفاظ موضوعات للمعرفة بمعنًى يختلف عن دلالة الأحكام، ففي الحالة الأولى يكون لدينا إدراك مباشر، كما يقول أرسطو وعلم اللغويات الحديث يُعبِّر عن ذلك أحيانًا بقوله إن «لدينا تصورًا» لشيءٍ ما، أما نوع المعرفة التي نكتسبها في حالة الحكم الصائب فأمرها يختلف كل الاختلاف.
فهنا تتجمَّع التصورات لكي تدل على حالةٍ معينة.
إن منطق أرسطو هو أول محاولة لعرض الصورة العامة للُّغة والبرهان بطريقةٍ منهجية. وقد كان أفلاطون هو المصدرَ الذي استوحى منه جانبًا كبيرًا من هذا المنطق، غير أن هذا لا ينقص من قدره في شيء؛ فعند أفلاطون تُثار المسائل المنطقية هنا وهناك في مختلِف أجزاء المحاورات، وقد تُطرَح مسألة معينة، ثم يُصرَف النظر عنها حسَبما تُمليه الظروف في اللحظة نفسها. أما أرسطو فقد أنجز بالنسبة إلى المنطق ما سيُنجزه إقليدس بالنسبة إلى الهندسة بعده بوقتٍ قصير. وقد ظل لواء السيادة منعقدًا لمنطق أرسطو حتى القرن التاسع عشر. وأصبح المنطق، شأنه شأن الكثير مما أنتجه أرسطو، يُعلَّم بطريقةٍ متحجرةٍ على أيدي أناس انبهروا بسُلطة أرسطو إلى حدٍّ لم يَعودوا معه يَجرءون على مناقشة أية فكرة من أفكاره. غير أن من السمات المميزة لمعظم فلاسفة العصر الحديث في فترة إحياء العلوم أنهم كانوا ساخطين أشدَّ السخط على أتباع أرسطو من المدرسيِّين، فأدى ذلك إلى ردِّ فعل ضدَّ أي شيء يرتبط باسم أرسطو، وهو أمر يُؤسَف له؛ إذ إننا نستطيع أن نتعلم من أرسطو أشياءَ كثيرة قيمة.
غير أن منطق أرسطو كان مشوبًا بنقصٍ خطيرٍ في ناحيةٍ هامة؛ هي أنه لم يَهتمَّ بالبراهين التي تنطوي على علاقة، والتي لها أهمية خاصة في الرياضيات. فلنتأمل مثلًا بسيطًا كقولنا: «أ» أكبر من «ب»، و«ب» أكبر من «ج»، إذن «أ» أكبر من «ج». هنا يكون الشيء الأساسي هو الطابع المتعدي (القابل للانتقال) للعلامة «أكبر من» ولا شك أن المرء يستطيع أن يحشر هذا البرهان، بشيءٍ من البراعة، في قالب القياس، ولكن هذا يبدو مستحيلًا في الحالات الأكثير تعقيدًا، وحتى في هذه الحالة يختفي الطابع العلائقي للبرهان.
ولننتقل الآن إلى بعض المشكلات العامة التي تندرج تحت باب الفلسفة الطبيعية، وهو الموضوع الذي يُناقش أساسًا في كتاب يحمل هذا الاسم، ولنذكر أن الكلمة اليونانية «الفيزياء» تعني الطبيعة.
وحين ألَّف أرسطو كتابه هذا كان هناك مِن قبله عددٌ كبير من الفلاسفة السابقين الذين كتبوا مؤلَّفات بعنوان: «في الطبيعة»، وعلى هذا النحو كتَب كلُّ فيلسوف، منذ أيام طاليس، كان يعتقد أنه قد اكتشف أخيرًا الأسرار الحقيقية لعمل الطبيعة. أما المعنى الحاليُّ لكلمة الفيزياء فيدل على شيءٍ أكثر تحديدًا، وإن كانت هذه المسائل العامة تظل تتدخل فيها. وقد ظلت الفيزياء حتى عهدٍ ليس بالبعيد تُسمَّى بالفلسفة الطبيعية، وهو تعبير ما زال يُستخدَم في جامعات اسكتلندة، ولكن من الواجب ألا نَخلط بين هذا التعبير وبين فلسفة الطبيعة عند المثاليِّين الألمان، التي هي نوع من الانحراف الميتافيزيقي في الفيزياء، ولكن هذه على أية حال مسألة سنَعرِض تفاصيلها فيما بعد.
ومن أهم الموضوعات في هذا الصدد نظرية أرسطو في السببية، التي ترتبط بنظريته في المادة والصورة؛ فالسببية لها جانب مادي وجانب صوري، والجانب الثاني ينقسم ثلاثة أقسام؛ أولها: هو الجانب الصوري بالمعنى الدقيق، الذي يمكن أن نُسمِّيَه بالتشكيل أو التصميم. والثاني هو الفاعل الذي يُحدِث التغيير بالفعل، مثلما يُؤدِّي الضغط على الزناد إلى إطلاق البندقية. أما الثالث: فهو الهدف أو الغاية التي يسعى التغيير إلى تحقيقها. هذه الجوانب الثلاثة تُسمَّى بالأسباب، أو العلل الصورية والفاعلة، والغائية، على التوالي.
ولنضرب لذلك مثلًا يُوضِّح المعنى المقصود؛ فلنتصوَّر حجرًا معلقًا على حافَةِ درجة من درجات سُلَّم، يُدفَع به فوق الحافة، ويوشك على السقوط، في هذه الحالة يكون السبب المادي هو مادة الحجر ذاته، ويكون السبب الصوري هو الشكل العام للسُّلم وموقع الحجر فيه، أما السبب الفاعل فهو ما يقوم بدفع الحجر. وأخيرًا فإن السبب الغائي هو رغبة الحجر في البحث عن أدنى مستوًى ممكن، أي قوة الجاذبية.
ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقول الكثير عن السببَين المادي والصوري. فنحن لم نعد نتحدث عنهما بوصفهما أسبابًا أو عللًا، وإنما هما شرطان ضروريان في موقف سببي، بمعنى أنه لا بد من وجودهما لكي يحدث أيُّ شيء على الإطلاق. أما العلة الفاعلة والعلة الغائية فهما تستحقان شيئًا من التعليق؛ فالعلة الفاعلة هي ما يُطلَق عليه في المصطلح الحديث اسم العلة أو السبب فحَسْب، فالحجر يسقط من سلم؛ لأن شيئًا ما أو شخصًا ما قد دفَعه، وهذا هو النوع الوحيد من السببية المعترَف به في العلم الفيزيائي؛ فالاتجاه العام في العلم يُحاول إيجاد تفسيرات على أساس العلل الفاعلة. أما فكرة العلة الغائية فلا يُعترَف بها اليوم في الفيزياء، وإن كان المصطلح الفيزيائي يحوي آثارًا من فكرة الغائية، فهناك تعبيرات مثل الجذب والتنافر، والبحث عن المركز، وما شابهها، هي بقايا للمفاهيم الغائية، وهي تُذكِّرنا بأن نظرية أرسطو في السببية ظلت لا تُناقَش حتى ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين عامًا من عصرنا الحالي. والمشكلة التي تنطوي عليها العلة الغائية تُشبِه إلى حدٍّ بعيد ذلك الخطرَ الذي نتعرض له حين نستخدم فكرة الإمكان أو الوجود بالقوة، كما أوضحنا من قبل. فأقول إن الحجر قد سقط؛ لأن لديه ميلًا إلى السقوط يعني في الواقع عدم تقديم أي تفسير على الإطلاق، ولكننا نُلاحظ في هذه الحالة أيضًا أن هناك مناسباتٍ معينةً يُحقِّق فيها استخدام المصطلح الغائي أهدافًا معقولة؛ ففي ميدان الأخلاق مثلًا لن يكون من الخطأ أن نُشير إلى هدفِ ما على أنه سبب لسلوك أو فعل من نوع معين. وهذا يصدق على ميدان الفاعلية الإنسانية بوجهٍ عام. فتوقُّع أحداث مستقبلية في الوقت الحاضر يمكن أن يكون دافعًا لأفعالنا، كما يصدق هذا على الحيوانات أيضًا، بل إن هناك حالاتٍ قد يشعر المرء فيها بالميل إلى استخدام هذه الطريقة في الكلام في حالة النباتات بدورها. فمن الواضح إذن أن الغائية ليست تعبيرًا باطلًا حين يكون موضوعنا متعلقًا بمشكلاتٍ بيولوجية أو اجتماعية.
ولقد كانت اهتمامات أرسطو بالبيولوجيا هي التي أوحت إليه بفكرة العلل الغائية. وفي هذا الصدد يتضح أن الغائية والإمكان أو الوجود بالقوة يسيران جنبًا إلى جنب. فعالم البيولوجيا يتساءل كيف تؤدي البذرة إلى ظهور نبات أو حيوان مكتمل النمو. ولو استخدم لغة أرسطو لقال إن البذرة تحتوي بالقوة على الشجرة، وإن ما يجعلها شجرة هو ميلٌ لديها إلى أن تُحقِّق ذاتها، هذه الطريقة في الكلام هي بالطبع نموذج للاستخدام السيئ لهاتَين الفكرتَين، ويمكن القول بوجهٍ عام إنه كلما تطور العلم، حلت محلَّ التفسيرات الغائية تعليلات تستخدم الأسباب الفاعلة. وحتى علم النفس ذاته يسير في هذا الاتجاه، فالتحليل النفسي أيًّا كانت مزاياه أو عيوبه، يحاول تفسير السلوك عن طريق ما حدث من قبل، بدلًا من تفسيره عن طريق ما يمكن أن يحدث فيما بعد.
إن القول بأن لدى الحجر ميلًا إلى السقوط يعني أنه سيسقط إذا توافرت شروط معينة، ولكن هذا لم يكن ما تصوره أرسطو.
فالغائية عنده ترتبط بالهدف، وهو يستدل على ذلك من وجود النظام الذي يدل في رأيه على وجود تدبير مقصود، ومن الواضح أن دراسة العلم الفيزيائي لا يمكن أن تزدهر في ظل مثل هذه المبادئ؛ ذلك لأننا إذا أشبعنا حبَّ الاستطلاع لدى الباحث بتفسيرات وهمية، فعندئذٍ لن تظهر التفسيرات الحقيقية للظواهر الطبيعية. ولقد أساء أرسطو للعلم إساءةً بالغة في ميدان الفلَك بالذات؛ فقد أدت به نظرية الغائية التي كانت تنسب لكل شيء مكانه الخاص إلى التمييز بين عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر، بحيث كان يرى أن العالَمَين تحكمهما مبادئُ مختلفة. مثلُ هذا التأمُّل المسرِف في الخيال يبدو لنا جنونًا محضًا إذا ما قارَنَّاه بعلم الفلك المتقدم في الأكاديمية. غير أن الضرر الحقيقي قد أتى من جانب أولئك الذين لم يَرضَوا أن يتعاملوا مع أرسطو بطريقةٍ نقدية، وقبلوا كل ما قال به بدلًا من أن يرفضوا ما كان غيرَ مقبول لديه، مما أدى إلى النَّيل من سُمعته بوجه عام.
وهناك موضوع عام آخر تُناقِشه الفلسفة الطبيعية، هو المكان والزمان والحركة. وقد تحدثنا عن المفهوم الأخير في صدد الكلام عن التغير، ولكن يجدر بنا أن نُلاحِظ طريقة أرسطو في معالجة الموضوع؛ فعلى حين أن الإيليين قد وجدوا صعوبات يستحيل التغلب عليها عندما حاولوا إيجاد تفسير للحركة، نرى أرسطو يُعالِج المسألة من طرفها الآخر؛ فالحركة تحدث بالفعل، ولا بد أن تكون هذه هي نقطة بدايتنا. وبناءً على تسليمنا بذلك تصبح المشكلة هي كيفية تعليلها. ونستطيع أن نقول في هذا الصدد مستخدمين تعبيرًا حديثًا إن أرسطو اتخذ الموقف التجريبي في مقابل الموقف العقلي عند الإيليين. ولهذه النقطة أهميتها، وخاصةً لأن هناك اعتقادًا خاطئًا يشيع القول به، وهو أن ثمة شيئًا غير سليم، ولا يمكن الاعتماد عليه في الموقف التجريبي. ففي حالة الحركة مثلًا يدافع أرسطو عن الرأي القائل بأن هناك اتصالًا، وهذا موقف معقول إلى أبعد حد يُتيح له أن يمضي بعد ذلك إلى التساؤل عما ينطوي عليه هذا الاتصال، مع الاعتراف باستحالة التوصل إلى المتصل عن طريق المنفصل. وهذه النقطة الأخيرة كثيرًا ما يُغفِلها الرياضيون الذين كانوا يأمُلون منه أيام فيثاغورس في تشييد عالم رياضي من لا شيء. فعلى حين أن من الممكن بناءَ نظرية تحليلية في الاتصال على أساس منطقي بحت، فإن تطبيقها على الهندسة يتوقف على التسليم مقدمًا بالاتصال.
لقد كان نوع الحركة الذي بحثناه من قبل هو التغير الكيفي، ولكنَّ هناك نوعَين آخَرَين للحركة، هما التغيير الكمي والتغير في المكان. وهذه هي الفئات الثلاثة الوحيدة التي يمكن أن تندرج تحتها الحركة، فليس من الممكن وفقًا لنظرية أرسطو إرجاعُ كل تغير إلى حركة الجزئيات، كما فعل الذريون؛ إذ إن من المستحيل إرجاعَ مقولة أو فئة إلى الأخرى، وهنا أيضًا نجد رأي أرسطو يميل إلى ناحية المذهب التجريبي، أما الذريون الذين كانوا — كما رأينا — ورثة التراث الإيلي، فكانوا يُفكِّرون على أساس مبدأ الرد، الذي يتميز به الفلاسفة العقليون.
أما نظرية أرسطو في الزمان والمكان فتشترك مع الآراء الحديثة في جوانب كثيرة؛ فأرسطو يستدل على وجود المحل أو الموقع من حقيقة أن الموضوعات المختلفة يمكنها أن تشغل نفس المكان في أزمنةٍ مختلفة. وعلى ذلك فمن الواجب التمييز بين المكان وبين ما يوجد في المكان، ولكي نُحدِّد موقع شيءٍ ما يمكننا أن نبدأ بتحديد منطقة يكون فيها، ثم نزيد هذه المنطقة تحديدًا بالتدريج، حتى نصل إلى محله الخاص. وهذه الطريقة في التفكير هي التي أدت بأرسطو إلى تعريف محل جسمٍ ما بأنه حدوده، ولكن هذا يبدو ظاهريًّا كما لو كان نتيجة هزيلة يتم الوصول إليها بعد مناقشة مشكلة تبدو عويصة حقًّا. غير أن تحليل هذا النوع من المشكلات يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى بلوغ نتيجة تدهشنا بساطتها وواقعيتها، وفضلًا عن ذلك فإن هذه الحلول مهما بدت مائعة، تنطوي دائمًا على نتائج هامة؛ ففي الحالة الراهنة نستنتج أن مِن المعقول بالنسبة إلى أي موضوع أن نسأل: أين هو، ولكن لا معنى للسؤال: أين العالم؟ ذلك لأن الأشياء كلها موجودة في المكان، أما الكون فلا، فالكون ليس مُتضمَّنًا في أي شيء، وهو في الواقع ليس شيئًا بالمعنى الذي تكون به الكراسي والطاولات أشياء. وهكذا نستطيع بكل ثقة أن نقول لأي شخص يود السفر إلى الأطراف النهائية للعالم إنه يبحث عن شيءٍ يستحيل الاهتداء إليه.
ولكن ينبغي القول إن أرسطو في تحليله للمحل أو الموضع لا يُقدِّم نظرية في المكان بالمعنى الذي يقصده الرياضيون أو الفيزيائيون، بل إن ما يقوم به أقربُ إلى التحليل اللغوي، ومع ذلك فإن هناك صلةً بين الأمرَين، فإذا استطعنا تحليل معنى المواضع أو المحلات، فإن هذا سيساعدنا بغير شك على تحسين فهمنا للقضايا المتعلقة بالمكان.
فقولنا إن الجسم يتحرك على نحو أسرع في الوسط الأقلِّ كثافة لا يلزم عنه أن يتحرك الجسم بسرعة لا نهائية في الفراغ. أما عن النقطة الأخرى فإن الملاحظة تُثبِت أن الجسم الخفيف يسقط في المكان المفرغ بنفس السرعة التي يسقط بها الجسم الثقيل. على أن أخطاء أرسطو بشأن الفراغ لم تُكتشَف إلا بعد عصره بحوالي ألفَيْ عام، ومع هذا كله فإن الإنصاف يقتضينا أن نقول إن العلماء لم يكونوا مرتاحين لفكرة الفراغ، حتى في العصر الحديث؛ ولذا ملَئوه بمادةٍ من نوعٍ خاص كالكثير، أو في الفترة الأخيرة بتوزيعات للطاقة.
أما مناقشة أرسطو للزمان فتشبه تحليله للمكان إلى أبعد حد؛ فالأحداث تقع في تعاقبات زمنية مثلما توجد الأشياء في سلسلةٍ من الأمكنة. وكما أن لكل شيءٍ مكانَه الخاص، فإن لكل حادثٍ أيضًا زمانَه الخاص. وفيما يتعلق بالاتصال يُميز أرسطو ثلاث طرق يمكن أن تُرتَّب بها الأشياء؛ فهي إما أن تكون متعاقبة، بحيث يأتي أحدُها بعد الآخر دون أي حد متوسط في السلسلة التي نبحثها، وإما أن تكون الأشياء متصلة، كما يحدث حين تتجاور الحدود المتعاقبة، وأخيرًا يكون الترتيب متصلًا إذا كانت الأطراف المتوالية تشترك في حدودٍ واحدة، وإذا كان شيئان متصلَين أحدهما بالآخر فإنهما يكونان متلاصقَين، ولكن العكس ليس صحيحًا، وبالمثل فإن الشيئَين المتلاصقَين متعاقبان أيضًا، ولكن ليس العكس.
وبعد تأكيد هذه الأمور الأولية، نرى أن الكم المتصل لا يمكن أن يتألَّف من عناصر غير قابلة للقسمة، ومن الواضح أن غير القابل للقسمة لا يمكن أن تكون له حدود، وإلا لأمكن تقسيمه بعد ذلك.
أما إذا لم يكن للأشياء غير القابلة للقسم حجم، فلا معنى لوصفها بأنها متعاقبة أو متجاورة أو متصلة، فمثلًا توجد بين أية نقطتَين في مستقيم نقطٌ أخرى، وبالمثل توجد بين أية لحظتَين في امتداد زمني لحظات أخرى. وهكذا فإن المكان والزمان متصلان وقابلان للقسمة إلى ما لا نهاية، وفي هذا الصدد ينتقل أرسطو إلى تفسير مفارقات زينون. والحل الذي يُقدِّمه صحيحٌ بالفعل، ولكن تغيب عنه النقطة الرئيسية في حجج زينون. فكما رأينا من قبل لم يُحاوِل زينون أن يُقدِّم نظرية إيجابية خاصة به، وإنما أخذ على عاتقه أن يُثبِت وجود شوائب في نظرية الوحدات التي قال بها الفيثاغوريون. ولو ترَكْنا جانبًا تحريفاتِه الإيليةَ لكان من الممكن جدًّا أن يتفق مع أرسطو.
أما تفاصيل النظريات العلمية عند أرسطو، فلا ينبغي أن تَشغَلنا ها هنا؛ فعلى الرغم من أنه قام ببعض الأعمال الجيدة، ولا سيما في البيولوجيا، فإن سِجلَّه يتعرض للتشويه بفعل آراء مسرفة ما كان ليقبلها أيُّ فيلسوف من السابقين لسقراط.
لقد رأينا من قبل أن من الممكن ومن المشروع البحثَ عن العلل الغائية في ميدان الأخلاق؛ لأن هذا هو الميدان الذي تستمد منه الغائية في المحل الأول؛ ذلك لأن الخير عند أرسطو هو ما تسعى إليه الأشياء جميعًا، ولما كان يرفض نظرية المثل فلن نجده عنده بالطبع مثالًا للخير. ويشير أرسطو إلى أن لكلمة «الخير» استخداماتٍ عديدةً متباينة لا يمكن الجمع بينها في فئةٍ واحدة، ومع ذلك فإن الخير في كافة مظاهره مُستمَد آخرَ الأمر من خيرية الله. وعلى ذلك فإن اختلافه وبُعده عن نظرية المثل ليس بالقدر الذي يبدو عليه للوهلة الأولى، والواقع أننا نُصادف هذا النوع من التأرجح في كافة جوانب فلسفة أرسطو؛ فهو من جهة ينفصل عن الأكاديمية، ومن جهةٍ أخرى يبدو راجعًا إليها. وفي بعض الحالات التي نتحدث عنها الآن يكون من الممكن التمييزُ بين الجانبَين وبحثُ الجانب الأول بحثًا مستقلًّا. والواقع أن التحليل الذي يُقدِّمه لاستخدامات لفظ «الخير» يُزوِّدنا ببعض التمييزات القيِّمة التي قد يُغفِلها المرء أحيانًا، وهذه مسألة هامة، ولكنها لا توصلنا إلى الكثير، وإن كان بعض المحللين اللغويين المحْدَثين قد يقولون إنه لا يتبقى شيء ينبغي عمله بعد هذه النقطة، ولكنهم ربما كانوا في ذلك مُتعجِّلين، إذ إنهم لا يعملون حسابًا لذلك الانتشارِ الشعبي الواسع الذي تحظى به بعض ضروب اللغو. وعلى أية حال فإن الحقيقة ليست مسألةَ قرار يُؤخَذ بالأغلبية.
أما عن الموقع الميتافيزيقي لفكرة الله، فإن هذه في نظر أرسطو مسألةٌ لا شخصية تمامًا؛ فالله هو المحرك غير المتحرك الذي يعطي للعالم الدفعة المحرِّكة الأولى. وبعد أن يقوم بهذا العمل، لا يعود لديه اهتمام إيجابي بالعالم، وهو قطعًا لا يُراقِب انفعال البشر. إن إلهه إلهٌ فلسفي لا لون له، وما هو إلا ملحق من ملاحق نظريته في السببية.
ولكي نُلِم بجوهر النظرية الأخلاقية عند أرسطو ينبغي أن نقول شيئًا عن نظرية النفس عنده؛ فهو يستعير من أفلاطون التقسيم الثلاثي للنفس، فيتحدث عن النفس العادية أو النامية، وعن النفس الحاسة، والنفس العاقلة، وأولى هذه النفوس تنتمي إلى جميع الكائنات الحية؛ لأن لديها كلِّها تمثيلًا غذائيًّا. أما الحساسية فتنتمي إلى الحيوانات والبشر، لا إلى النبات، على حين أن العقل وقفٌ على الجنس البشري. ولا تظهر الأخلاق إلا على المستوى العاقل؛ فالنباتات تتغذَّى وتنمو فحسب، والحيوانات تكتفي بأن تعيش كالحيوانات، والنفس التي تُضفي على الجسم وحدةً هي صورةٌ لمادتها، وهي لا تظل باقية بعد الموت بمعنًى شخصي، وإن كان العقل بما هو كذلك خالد.
وتنشأ المشكلة الأخلاقية عندما نسأل عن غاية الحياة البشرية، وهنا يرى أرسطو أن الغاية هي سعادة النفس العاقلة، وهذه بدورها تعني عنده حياة عقلية نشطة تزينها الفضيلة، ويُمارسها المرء بلا انقطاع، وهكذا فإن الفضيلة تبعًا لنظرية أرسطو هي وسيلة لغاية. أما هذه الغاية فإنها بالطبع لا تتحقق بنفس المقدار لكل شخص، غير أنها مع ذلك هي أسمى هدف يُمكن أن يَبلغه الإنسان؛ فحياة التأمل النظري هي الأفضل تمامًا كما كانت عند سقراط.
ومن المهم أن نُدرِك أن هذا لا يعني بالنسبة إلى اليوناني الذي كان يعيش في عمر أرسطو اعتزال الحياة والانصراف عن شئونها.
فالحياة الأخلاقية تتطلب أولًا نشاطًا وفاعلية، وإن كانت هذه ينبغي أن تكون نزيهة، وهكذا فإن حياة التأمل النظري ليست هي السببَ الذي أدى إلى التخلي عن المنهج التجريبي، على الرغم من أن أرسطو يُؤكِّد أهمية التأمل النظري لحقيقة أُدرِكَت من قبل، أكثر مما يؤكد أهمية الكشف الجديد. ويؤدي هذا إلى صعوبةٍ لم ينتبه إليها أرسطو؛ إذ إن المرء لكي يكون لديه شيء يختبره أو يُقدِّره، لا بد أن يقوم بجهدٍ عقلي أولي؛ فمَن الذي يحدد إن كان قد أنفق من هذا الجهد قدرًا كافيًا؟ الواقع أن البحث العلمي لا يمكن أن يُحدَّد على هذا النحو، وثانيًا فإن المواطن الصالح لا بد أن يُؤدِّي واجباته الإجماعية، ويقوم بخدماتٍ متعددةٍ في السلم والحرب. أما تصور الفلسفة في برج عاجي، فيرجع إلى الرواقيين، الذين كان انصرافهم عن عالم الحس هو الذي أدى إلى ذبول الحركة العلمية.
وفيما يتعلق بالفضائل الأخلاقية، أو فضائل الشخصية، يُقدِّم أرسطو نظرية الفضيلة بوصفها وسطًا؛ ففي كل حالةٍ يمكن أن يكون هناك إفراط أو تفريط، وكلاهما لا يُشكِّل أساسًا للسلوك القويم، وإنما تَكمُن الفضيلة في موقعٍ ما بين هذَين الطرَفَين. مثال ذلك أن الشجاعة الحقة ليست هي العدوانيةَ المتهورة، ولا الانسحابَ الهيَّاب.
وقد كانت نظرية الوسط مستوحاة من نظرية التناغم التي ترجع إلى فيثاغورس وهرقليطس. وينتقل أرسطو إلى تقديم صورة للإنسان الذي يملك كل الفضائل، أي الإنسان ذي النفس الكبيرة. وهذه الصورة تعطينا فكرة معقولة عن الأشياء التي كان يشيع الإعجاب بها في سلوك المواطنين في ذلك العصر. ونتيجةُ هذه الصورة باختصار تَفرض نفسَها علينا فرضًا، وإن كان غياب التواضع الكاذب منها أمرًا يدعو إلى الارتياح؛ فعلى المرء ألا يُبالِغ في تقدير قيمته، ولكن عليه أيضًا ألا يحط من قدر نفسه، ولكن الإنسان الكريم النفس لا بد أن يكون في النهاية نوعًا نادرًا بحق؛ لأن معظم الناس لا تتوافر لهم أبدًا فرصُ ممارسة كل هذه الفضائل. ويركز أرسطو جهده كما فعل سقراط وأفلاطون على الصفوة الأخلاقية.
على أن نظرية الوسط لا تنجح كل النجاح، فكيف نعرف الصدق مثلًا؟ إننا نعترف بأنه فضيلة، ولكنا لا نستطيع القول إنه يحتل موقعًا وسطًا بين الكذب السافر والكذب المحدود، وإن كان المرء قد يعتقد أن هذا الرأي ليس مكروهًا في بعض الأوساط. وعلى أية حال فإن مثل هذه التعريفات لا تنطبق على الفضائل العقلية.
أما عن الخير والشر الذي يمارسه البشر، فإن أرسطو يعتقد أن العقل البشري إرادي، إلا حيث يكون هناك قهر أو جهل، وعلى عكس ما كان يقول به سقراط، اعترف أرسطو بأن المرء قد يقترف الشر عامدًا، وقد قام إلى جانب هذا بتحليلٍ لمعنى الاختيار، وهي مشكلة لم يكن من الممكن بالطبع أن تنشأ في إطار النظرية القائلة إنه لا أحد يرتكب الخطأ مختارًا.
وقد دافع أرسطو في نظريته عن العدالة، عن مبدأ العدالة التوزيعية الذي نراه ساريًا في تعريف سقراط للعدالة في محاورة «الجمهورية». فالعدالة تتحقق عندما يتلقى كل فرد النصيب الذي يستحقه، ولكن الصعوبة الكامنة في هذا الرأي هي أنه لا يُقدِّم أساسًا لتحديد ما يستحقه كل شخص. فماذا ينبغي أن تكون المعايير في هذه الحالة؟ إن سقراط يؤكد معيارًا واحدًا على الأقل، وهو معيار يبدو موضوعيًّا بدرجةٍ معقولة، وأعني به معيار التعليم. وهذا رأي واسع الانتشار بيننا اليوم، على أنه لم يكن كذلك في العصور الوُسطى، على أن من الضروري كما هو واضح أن تُحَل مشكلة تحديد ما يستحقه المرء إذا ما شئنا تطبيق نظرية العدالة هذه. وأخيرًا لا بد أن نقول كلمة عن آراء أرسطو في الصداقة.
فلكي يعيش المرء حياةً خيِّرة ينبغي أن يكون له أصدقاء يُشاورهم ويرتكن إليهم في وقت الشدة. وفي رأي أرسطو أن الصداقة امتداد لحرص المرء على ذاته، يسير في اتجاه الآخرين؛ فمن مصلحتك الخاصة أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك. وهنا أيضًا نجد الأخلاق الأرسطية مشوبة بطابَع التعالي والتركيز حول الذات.
وحين ننتقل إلى بحث النظرية السياسية عند أرسطو، نجد أمرَين يستلفتان انتباهنا بقوة منذ البداية؛ أولهما: أن البرهان في مجال السياسية غائيٌّ بالضرورة، وقد كان أرسطو على وعيٍ تام بذلك.
وثانيهما: أن هناك شِبهَ تركيزٍ كامل على دولة المدينة وحدها، ولنلاحظ بالنسبة إلى هذا الأمر الثاني أن أرسطو لم ينتبه إلى أن أيام دولة المدينة اليونانية كانت قد بدأت تزول حتى خلال حياته هو ذاته؛ إذ كانت مقدونيا قد امتلكت زمام القيادة في اليونان، وانتقلت تحت زعامة الإسكندر إلى تشييد إمبراطورية كبرى. ومع ذلك لم يُبدِ أرسطو إلمامًا بالمشكلات السياسية لتنظيمٍ كهذا. صحيحٌ أن هناك بضعَ إشارات باهتة إلى الملك الأعظم (ملك الفرس)، وإلى مصر وبابل، غير أن هذه الاستطراداتِ الثانويةَ المتعلقة ببلادٍ خارجية لم يكن لها من وظيفة سوى زيادة إبراز التضاد بينها وبين اليونان.
وظلت دولة المدينة في نظر أرسطو هي التي تمثل الحياة السياسية في أعلى صورها، أما ما يحدث في الخارج فهو ضرب من البربرية مهما اختلفَت أشكاله.
ومنذ البداية يستخدم أرسطو المنظور الغائي الذي تحدثنا عنه في موضعٍ سابق؛ فالتجمعات تتكوَّن لكي تسعى نحو غاية معينة، ولما كانت الدولةُ هي أعظمَ هذه التجمعات وأشملها، فلا بد أن تكون الغاية التي تسعى إليها هي الأعظم. وهذه الغاية هي بالطبع الحياة الخيرة كما عرَضها مذهبه في الأخلاق، وهي تتحقق من خلال مجتمع له حجم معين، وأعني به دولة المدينة، التي تتكون عن طريق ضم جماعات أصغر ترتكز بدورها على الجماعة المنزلية أو الأسرة. ومن طبيعة الإنسان أن يحيا بوصفه حيوانًا سياسيًّا؛ لأنه يصبو إلى الحياة الخيرة. فلا يوجد إنسان من الفانين العاديين قادر على الاكتفاء بذاته إلى حدِّ أن يعيش وحيدًا.
وعندما تحدث أرسطو عن مشكلة الثروة ووسائل اكتسابها، قام بتمييز أصبح له تأثيرٌ كبير خلال العصور الوسطى؛ فالشيء تكون له قيمتان؛ إحداهما: قيمته الخاصة، أو قيمته عند الاستعمال كما يحدث عندما يلبس المرء زوجًا من الأحذية. أما الثانية: فهي قيمته في التبادل، وهي تؤدي إلى نوعٍ من القيمة غير الطبيعية، كما يحدث عند مبادلة زوج الأحذية، لا بسلعةٍ أخرى من أجل الاستعمال الخاصِّ المباشر، بل بمبلغٍ من المال. وللمال مزايا معيَّنة، من حيث إنه يُمثِّل شكلًا مركزًا من أشكال القيمة يمكن حمله بطريقةٍ أسهل، ولكن له عيوبه التي تتمثل في أنه يكتسب نوعًا من القيمة المستقلة الخاصة به، وأسوأ مثل لذلك عندما يُقرض المال بفائدة، على أن قدرًا كبيرًا من اعتراضات أرسطو يرجع على الأرجح إلى التحامل الاقتصادي والإجماعي؛ إذ كان يرى أنه لا يليق بالسيد المهذب أن يعكف على جمع المال على حساب رعاية الحياة الفاضلة، ولكنه نسي أن السعي وراء هذه الأهداف مستحيل بغير بعض الموارد المالية. أما عن الإقراض فإن اعتراضه عليه مبني على نظرة ضيقة إلى وظيفة رأس المال. فلا جدال في أن الرجل الحر إذا أصابه الفقر فقد يصبح عبدًا إذا ما استعان بأحد المرابين في وقتٍ تكون فيه ثروته الخاصة سائرة نحو الهبوط، وهذا أمر يحق لنا أن نعترض عليه بقوة، غير أن هناك استخداماتٍ أخرى بنَّاءةً لرأس المال من أجل تمويل المشروعات التجارية، ولكن من الجائز أن أرسطو لم يشعر بالرضا عن هذا النوع من الإقراض؛ لأن التجارة الواسعة النطاق، وخاصة مع الأجانب كانت تُعَد ضرورة مؤسفة.
فإذا انتقلنا الآن إلى مناقشة الدولة المثلى، وجدنا أن أوصافها عند أرسطو أكثرُ مرونة وأقلُّ إحكامًا من ذلك التخطيط الدقيق الذي نجده في «الجمهورية»، ويُؤكِّد أرسطو بوجهٍ خاص أهمية وحدة الأسرة، وهو يرى أن تكوين عاطفة حقيقة يُحتِّم تضييق النطاق الذي تُمارَس عليه هذه العاطفة؛ ولذا فإن الطفل لا بد له لكي يتلقى العناية السليمة من أن يعيش في ظل رعاية والِدَيه، أما المسئولية الجماعية الخالصة في هذا الميدان فتؤدي إلى الإهمال. ومن جهةٍ أخرى فإن المدينة المثلى كما رسمَتْها «الجمهورية» موحَّدة الاتجاه أكثر مما ينبغي. وهي تغفل حقيقة هامة، هي أن الدولة تجمع — في حدودٍ معينة — بين مصالح متباينة. ولنلاحظ في هذا الصدد أن المرء لو اعترف بتعدد المصالح لما وجد حاجة إلى «الأكاذيب الملكية»، وفيما يتعلق بملكية الأرض يوصي أرسطو بأن تكون ملكيةً خاصة، ولكن نواتج الأرض ينبغي أن تتمتع بها الجماعة كلها، ومعنى ذلك أنه يدعو إلى شكل مستنير من أشكال الملكية الخاصة، يستخدم فيها المالك ثروته من أجل صالح الجماعة، والشيء الذي يُولِّد هذا الشعور بالمسئولية (اتجاه المجتمع) هو التعليم.
ولقد أخذ أرسطو بوجهة نظرٍ ضيقة إلى حدٍّ ما في نظرته إلى المواطنة؛ فهو يريد أن يقصر لقب المواطن على أولئك الذين لهم حقُّ الاقتراع، ويكون لهم في الوقت ذاته دور مباشر وفعال في عملية حكم الدولة. وهذا يؤدي إلى استبعاد جماهير الزُّراع والصُّناع الغفيرة، الذين يحكم عليهم بأنهم لا يصلحون لممارسة المهام السياسية. أما إمكان الاشتراك لا الحكم عن طريق التمثيل النيابي فلم يكن يخطر ببال أحد في ذلك الحين.
وقد اقتفى أرسطو إلى حدٍّ بعيد أثر التخطيط الذي وضعه أفلاطون في محاورة «السفسطائي» بالنسبة إلى مسألة أنواع الدساتير المختلفة.
غير أنه يُبرز أهمية الثروة في مقابل العدد؛ فليس من المهم أن تحكم القلة أو الكثرة، وإنما المهم هو مدى السلطة الاقتصادية التي يملكها من يحكمون. أما عن عدالة حقوق المطالبين بالسلطة، فإن أرسطو يعترف بأن الجميع يُطالبون بالسلطة لأنفسهم، مُستنِدين إلى مبدأ واحد للعدالة في كل حالة؛ هو المبدأ القائل إن الناس المتساوين ينبغي أن يكون لهم نصيب متساوٍ، أما غير المتساوين فلا، ولكن الصعوبة تكمن في تقدير معنى المساواة واللامساواة؛ ذلك لأن من يتفوقون في ميدان معين كثيرًا ما يتصورون أنفسهم متفوقين في كل شيء. والوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي في النهاية الاعتراف بالمبدأ الأخلاقي، فالمساواة ينبغي أن يُحكَم عليها على أساس معيار الخير، والخير هو الذي ينبغي أن تكون له السلطة.
وبعد عرض طويل لأنواع الدساتير المختلفة، يصل أرسطو إلى نتيجةٍ هي أن أفضل دستور على وجه العموم هو ذلك الذي لا تكون فيه الثروة مُفرِطة، ولا تكون شحيحة؛ فالدولة التي تغلب فيها الطبقة الوسطى هي الأفضل والأكثر استقرارًا، ثم ينتقل إلى مناقشة أسباب الثورة ووسائل مكافحتها. فالسبب الأساسي هو العدوان على مبدأ العدالة؛ لأن تساويَ الناس أو عدمَ تساويهم في جوانبَ معينة، لا يعني أنهم كذلك في كافة الجوانب. وأخيرًا يُقدِّم عرضًا للدولة المثلى؛ فسُكَّان هذه الدولة ينبغي أن يكون لهم الحجم المناسب، والمهارات المناسبة، ويجب أن يكون في استطاعة العين البشرية أن تُحيط بحدودها من فوق قمة جبل، ولا بد أن يكون مواطنوها من الإغريق؛ لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يجمعون بين حيوية الشعوب الشمالية وذكاء الشعوب الشرقية.
إن كل فن في رأي أرسطو يعتمد على المحاكاة، وهو يُقدِّم تصنيفًا للفنون يبدأ بتمييز التصوير والنحت عن الباقين، تاركًا الموسيقى والرقص والشعر بمعناه الحديث بوصفها فئة واحدة.
وتتميز الأنواع المختلفة للشعر تبعًا لمختلف الطرق التي تحدث بها المحاكاة، غير أنه لا يشرح لنا أبدًا المقصود بالمحاكاة. وبطبيعة الحال فإن الفكرة مألوفة في ضوء نظرية المثل التي يمكن فيها أن يُقال عن الجزئيات إنها تُحاكي الكليات. ويبدو أن المحاكاة عند أرسطو تنطوي على استخدام وسائل مُصطنَعة من أجل إثارة مشاعر مشابهة للمشاعر الحقيقية، ويظهر لنا أن المناقشة بأسرها تدور وفي ذهن أرسطو فكرة الفن الدرامي، ما دام هذا هو الميدانَ الذي يُطبق فيه مبدأ المحاكاة طريقة طبيعية تمامًا. ويزداد ذلك وضوحًا حين ينتقل أرسطو إلى الحديث عن محاكاة الفعل البشري؛ فسلوك الناس يمكن أن يُصوَّر على أنحاءٍ ثلاثة؛ فقد نُصوِّرهم على ما هم عليه بالضبط، أو قد نستهدف محاكاة شيء أعلى من مقاييس السلوك العادية، أو شيء أدنى منها. وعلى هذا النحو يمكننا أن نميز بين المأساة (التراجيديا) والملهاة (الكوميديا). ففي المأساة يُصوَّر البشر بطريقةٍ أعظم مما هم عليه في الحياة، وإن لم تكن بعيدة عنا إلى الحد الذي يَحول بينا وبين إبداء اهتمام متعاطف بأحوالهم. أما الملهاة فتُصوِّر الناس بطريقةٍ أسوأ مما هم عليه؛ لأنها تؤكد الجانب المضحك في الحياة. فالعنصر الهزلي في شخصية الإنسان يُعَد نقصًا، وإن لم يكن نقصًا ضارًّا بوجهٍ خاص. ولنلاحظ هنا نوعًا من المزج بين القيم الفنية والقيم الأخلاقية، وهو ميل يرجع أصله إلى محاورة «الجمهورية» حيث يرتبط التقدير الفنيُّ بالمعايير الاجتماعية والأخلاقية ارتباطًا وثيقًا.
فالشرُّ البحت لا يُمكِن أن تكون له قيمة جمالية، وهي نظرة قاصرة لا تعترف بكل المقاييس الأدبية الحديثة.
ويميز أرسطو بعد ذلك بين الشعر الذي يروي قصة، والشعر الذي يعرض حدثًا، وهذا يؤدي إلى التمييز بين الملحمة والدراما.
وعلى حين أن الشعر الغنائي يستخدم وزنًا واحدًا طوال الوقت، فإن المأساة تستخدم أوزانًا مختلفة في الأجزاء المختلفة، ولكن الأهم من ذلك أن إطار المشاهد في المأساة محدود. ولا يُقدِّم إلينا أرسطو نظرية واضحة المعالم عن وحدة المكان والزمان والحدث، بل إن ما يُقدِّمه أقرب إلى أن يكون حدودًا عملية كامنة في نوعَي التأليف، فلا بد أن تُؤدَّى المسرحية في جلسةٍ واحدة، وفي مكانٍ محصور، على حين أن الملحمة يُمكن أن تكون طويلة إلى غير حد، وتستخدم الخيال مسرحًا لها. ويُعرِّف أرسطو المأساة بأنها محاكاة الفعل البشري، وينبغي أن تكون فاضلة، مكتملة، ذات أبعاد معقولة، وأن تُثير في المشاهد شُعورَين متعاطفَين بالرهبة والشفقة، بحيث تتطهَّر نفسه بمثل هذه المشاعر.
وفيما يتعلق بالاكتمال يؤكد أرسطو أن المأساة يجب أن تكون لها بداية ووسط ونهاية. وقد يبدو لأول وهلة أن هذه العبارة لا تُضيف إلى معلوماتنا الكثير، غير أن المقصود منها شيء معقول تمامًا؛ فلا بد أن تكون للمأساة نقطةُ بداية معقولة، وأن تتطور بطريقةٍ منسَّقة، وتكون لها نتيجة حاسمة، أي إنها لا بد أن تكون مكتملة بمعنى أنها مكتفية بذاتها. وللحجم أهميته؛ لأن الذهن يتراخى إذا كانت المسرحية أطول مما ينبغي، أما إذا كان قِصَرها مُفرِطًا، فإنها لا تثبت في الذهن.
وينتقل أرسطو إلى النظر في الجوانب المختلفة للعمل التراجيدي.
وأهم هذه الجوانب هو عُقْدة المسرحية، التي لولاها لما وُجِدت المسرحية أصلًا، وبقدر ما تُحقِّق الشخصيات ذاتها من خلال هذه العقدة، فإنها تُعَد تابعة لها، وتصبح الشخصية الموجودة بالقوة متحققة بالفعل في العقدة. أما الحدث فهناك نوعان من الأحداث لهما أهمية خاصة؛ أولهما: التحول المفاجئ في المصير، وثانيهما: اكتشاف طرف غير متوقع يُؤثِّر في عُقدة المسرحية. هذه الأحداث ينبغي أن تطرأ على شخص لا يتميز بفضائلَ أرفع مما ينبغي، ويكون انهياره ناتجًا لا عن رذيلة، وإنما عن سوء تقديره الذي ينزل به من مكانته العليا، ويجعله منبوذًا. ولهذا النوع من المواقف أمثلةٌ كثيرة في المسرح اليوناني.
ويشترط أرسطو بالنسبة إلى مسألة معالجة الشخصية أن تكون قبل كل شيء مطابقةً لنمطٍ معين، فلا بد أن تُظهِر الشخصيات في صورة مشابهة لما يحدث في الحياة الفعلية، كما هي الحال في عقدة المسرحية، وهذا هو المعنى الذي ينبغي أن تُفهَم به تلك العبارة التي أدلى بها أرسطو في موضعٍ آخر، والقائلة إن الشعر يتعامل مع مواقف كلية، على حين أن التاريخ يصف الجزئي؛ ففي المأساة نتعرف على السمات العامة للحياة البشرية اليت تُضفي على العمل طابعًا موحدًا، ومن المهم أن نُلاحِظ أن أرسطو لا يُقيم وزنًا كبيرًا لما قد نُطلِق عليه اسم جانب الإخراج المسرحي، على الرغم من أنه قد تحدَّث عنه، ومعنى ذلك أن اهتمامه يكاد ينحصر كله في القيمة الأدبية للعمل. ومن الجائز أنه نظر إلى التراجيديا على أنها تصلح للقراءة بقدر ما تصلح للتمثيل على المسرح.
وعلى أية حال، فإن كتاب «الشعر» لا يُقدِّم إلينا نظرية شاملة في الفن والجمال، وإنما يَعرِض بوضوح عددًا من المعايير التي كان لها تأثير ضخم على النقد الأدبي منذ ذلك الحين، وأهم ما فيه هو امتناعه عن الحديث عن مشاعر الكاتب ومقاصده، وتركيزه على الأعمال ذاتها، وهو أمر يُحمَد له.
لقد رأينا أن ظهور الفلسفة اليونانية قد اقترن بظهور العلم العقلي؛ ذلك لأن من طبيعة المشاكل الفلسفية أن تظهر عند الحدود القصوى للبحث العلمي. وهذا يَصدُق بوجهٍ خاص على الرياضيات؛ فمنذ وقت فيثاغورس لعب الحساب والهندسة دورًا أساسيًّا في الفلسفة اليونانية. وهناك أسباب متعددة تجعل للرياضيات أهمية خاصة في هذا الصدد؛ أولها: أن المشكلة الرياضية بسيطة واضحة المعالم، وهذا لا يعني أن حلها سهل دائمًا، بل إنها لا يتعيَّن أن تكون بسيطة بهذا المعنى. غير أن المشاكل العادية في الرياضيات بسيطة إذا ما قُورِنَت بمشاكل علم وظائف الأعضاء مثلًا، ثانيًا: فإن الرياضيات تتميز بأن لديها طريقةً مستقرة للسير في البرهان، وبالطبع فلا بد أن يكون شخص ما قد اهتدى إلى هذه الطريقة في البدء. والواقع أن عمومية البرهان والإثبات هي اختراع يوناني على وجه التحديد، وفي الرياضة تظهر وظيفة البرهان بوضوح يفوق ما نجده في معظم العلوم الأخرى، حتى على الرغم من كل ما دار من مناقشات وما حدث من سوء فَهمٍ حول حقيقة ما يحدث في البرهان الرياضي، وثالثًا: فإن نتائج أي برهان رياضي، بمجرد أن تُفهَم على النحو الصحيح، لا تقبل أي شك. وبطبيعة الحال فإن هذا يصدق أيضًا على أي برهان سليم تكون مقدماته مقبولة، ولكن الشيء المميز للرياضيات هو أن قَبولك للمُقدِّمات جزء لا يتجزأ من عملية البرهان ذاتها، على حين أننا في الميادين الأخرى نقارن دائمًا بين النتائج والوقائع؛ خوفًا من أن تكون إحدى المقدمات باطلة. فلا توجد في الرياضيات وقائعُ خارجها تحتاج إلى مقارنة، ونظرًا إلى سمة اليقين هذه، فقد اعترف الفلاسفة في جميع العصور بأن الرياضيات تُزوِّدنا بمعرفة من نوعٍ أرفعَ وأوثق مما يمكن اكتسابه في أي ميدانٍ آخر. وقال الكثيرون إن الرياضيات هي المعرفة، بينما أنكروا هذا الوصف على أي مصدر آخر للمعلومات، ونستطيع أن نقول مستخدمين لغة محاورة «الجمهورية»: إن الرياضيَّات تنتمي إلى عالم الصور، ومن ثَم فهي تُزوِّدنا بمعرفة، على حين أن الميادين الأخرى تختص بالجزئيات التي لا نملك عنها — على أحسن الفروض — إلا ظنًّا. والواقع أن نظرية المثل يرجع أصلها إلى الرياضيات الفيثاغورية، وقد توسع فيها سقراط بحيث جعلها نظرية عامة للكليات، على حين أنها انكمشت عند أفلاطون مرة أخرى إلى ميدان العلم الرياضي.
وقرب نهاية القرن الرابع انتقل مركز النشاط في الرياضيات إلى الإسكندرية، وكان الإسكندر الأكبر قد أسس هذه المدينة في عام ٣٢٢ق.م، وأصبحت بسرعة من أهم المراكز التِّجارية في البحر المتوسط، ونظرًا إلى أنها تقف على بوابة أقاليم الشرق، فإنها تُشكِّل نقطة اتصال بين الغرب وبين المؤثرات الثقافية الآتية من بابل وبلاد الفرس. وبعد فترةٍ قصيرة انتشرت فيها طائفة يهودية كبيرة، واكتسبت الطابع الهيني (اليوناني) بسرعة. وقد أسس الباحثون اليونانيون مدرسة ومكتبة اكتسبتا شهرة كبيرة في جميع أرجاء العالم القديم، ولم تكن تداني مكتبة الإسكندرية أية مجموعة أخرى من الكتب، ولكن من سوء الحظ أن هذا المصدر الفريد للعلم القديم والفلسفة القديمة قد التهمته النيران عندما استولت جحافل يوليوس قيصر على المدينة في عام ٤٧ق.م، وبذلك ضاعت إلى الأبد موادُّ عظيمة الأهمية عن كبار الكُتَّاب في العصر الكلاسيكي، ولا شك أن هناك أشياءَ أخرى أقلَّ أهمية بكثير قد احترقت، وربما كان هذا الخاطر يُقدِّم بعض العزاء عندما نسمع عن تدمير مكتبات.
فعندما عرض اسبينوزا كتابه «الأخلاق» طريقة هندسية، كان إقليدس هو النموذجَ الذي حاكاه، ومثل هذا يُقال عن «مبادئ» نيوتن.
وهذا بعينه هو الهدف الذي سعى إليه رياضيُّو الأكاديمية، أما مدى نجاحهم في بلوغه فهو أمر لن نعرفه أبدًا.
إن كتاب «الأركان» لإقليدس هو رياضة بحتة بالمعنى الحديث، ولقد تابع رياضيو الإسكندرية أبحاثهم؛ لأنهم كانوا مهتمين بتلك المشكلات، وكانوا في ذلك سائرين على درب تراث الأكاديمية، ولا تظهر هذه السمة في أية حالة بنفس القدر من الوضوح الذي تظهر به عند إقليدس؛ إذ لا نجد لديه أبسطَ تلميح إلى أن الهندسة يمكن أن تكون مفيدة عمليًّا، وفضلًا عن ذلك فإن إتقان علم كهذا يقتضي مِرانًا ودأبًا طويلًا. وهكذا فعندما طلب ملك مصر إلى إقليدس أن يُعلِّمه الهندسة في دروسٍ قليلةٍ سهلة، كان الرد المشهور الذي أجاب به هو أنه لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات.
غير أن من الخطأ الاعتقادَ بأن الرياضيات لم تكن لها فائدة عملية، ومن الخطأ كذلك الاعتقادُ بأن المشاكل الرياضية لا تنشأ في أحيانٍ كثيرة من مشاكل عمَلية، ولكن التنقيب عن أصل نظريةٍ معينة شيء، ومعالجتها في ذاتها شيء آخر. فهذان اهتمامان لا يميز بينهما الناس — في كثيرٍ من الأحيان — بما فيه الكافية. فلا معنى لإلقاء اللوم على إقليدس؛ لأنه لم يُبدِ اهتمامًا كافيًا بالظروف الاجتماعية للكشف الرياضي؛ إذ إن هذا شيء لم يكن له ببساطة اهتمامٌ به، فحين تُقدَّم إليه كمية معينة من المعرفة الرياضية أيًّا كانت الطريقة التي ظهرت بها هذه المعلومات، فإنه يمضي في طريق معالجتها، ويضعها في ترتيب استنباطي دقيق. وهذا نوع من الممارسة العلمية لا تتوقف صحته على وضع المجتمع، أو على أي شيءٍ آخر، بل إن هذه الملاحظات تنطبق على الفلسفة ذاتها. صحيحٌ بالطبع أن أوضاع العصر تُوجِّه أنظار الناس إلى مشكلاتٍ معينةٍ في الوقت الراهن بدلًا من أن تُوجِّههم إليها في وقتٍ سابقٍ أو لاحق، غير أن هذا لا يُؤثِّر بأي حالٍ في قيمة النظريات التي تُوضَع لمواجهة هذه المشكلات.
ولقد كان أشهر رياضي استخدم طريقة الحساب هذه هو أرشميدس، الذي لم يكن عظيمًا في ميدان الرياضيات فحسب، بل كان أيضًا مهندسًا فذًّا، وعالمًا بارزًا في الفيزياء. وقد عاش في سراقوزة، وذكر المؤرخ بلوتارك أن مهارته الفنية ساعدته أكثر من مرة في حماية المدينة من أن تجتاحها جيوش الأعداء. وفي النهاية غزا الرومان صقلية بأكملها، ومعها سراقوزة، وسقطت المدينة في عام ٢١٢، وقُتِل أرشميدس خلال عملية التدمير التي أعقبَت احتلالها.
وتقول الأسطورة إن جنديًّا رومانيًّا طعنه فأرداه قتيلًا، في الوقت الذي كان يعكف فيه على حل مشكلةٍ هندسيةٍ رسمها على الرمال في حديقته.
وقد استخدم أرشميدس طريقة الاستنفاد من أجل تربيع القطع الناقص والدائرة؛ فبالنسبة إلى القطع الناقص، يمكن الوصول إلى صيغةٍ عدديةٍ دقيقةٍ عن طريق رسمِ عددٍ مُتعاقب إلى ما لا نهاية من المثلثات الأصغر فالأصغر. أما في حالة الدائرة، فإن الإجابة تتوقف على العدد الذي يُمثِّل النسبة التقريبية ط، وهو نسبة المحيط إلى القُطر، ولما كان هذا عددًا أصم، فإن طريقة الاستنفاد يمكن استخدامها للوصول إلى مقادير تقريبية لهذه النسبة، وهكذا نضع أشكالًا منتظمة داخلية وخارجية متعددة الأضلاع يزداد عدد أضلاعها بالتدريج، بحيث تقترب أكثر فأكثر من المحيط. وتظل الأشكال الداخلية المتعددة الأضلاع التي نضعها أقل في محيطها دائمًا من الدائرة، بينما تظل الأشكال الخارجية دائمًا أكثر، غير أن الفرق يتضاءل بالتدريج مع ازدياد الأضلاع في العدد.
على أن الكثير من هذه المعلومات قد نُسِي بسرعة؛ وذلك أساسًا لأنها كانت تتعارض مع المعتقدات الدينية في ذلك الحين. ومن المفهوم بوضوح أن الفلاسفة أنفُسَهم قد أسهموا في ارتكاب هذا الخطأ؛ إذ إن علم الفلَك الجديد كان يُهدِّد بالقضاء على نظرية الأخلاقية التي قالت بها الحركة الرواقية. وقد تدفع هذه الحقيقة المراقب المحايد إلى أن يعلن أن الرواقية مذهب سيئ، ومن ثَم ينبغي التخلي عنه، غير أن هذه النصيحة مثالية، ومن المؤكد أن أولئك الذين تُدان آراؤهم على هذا النحو لن يتَخلَّوا عن موقعهم بلا قتال، والواقع أن من أندر النعم أن يكون المرء قادرًا على أن يعتنق رأيًا معينًا باقتناع وتجرُّد في الوقت ذاته. وهذا ما يُحاول الفلاسفة العلماء أكثرَ من غيرهم من البشر أن يُدرِّبوا أنفسهم عليه، وإن كانوا في النهاية لا ينجحون فيخ أكثرَ مما ينجح الإنسان العادي. على أن الرياضيات مِن أفضل الوسائل التي تُساعد على دعم هذا الاتجاه، ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة أنْ كان عددٌ كبير من الفلاسفة رياضيِّين في الآنِ نفسِه.